تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 13 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 329 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12642 - عددالزوار : 221299 )           »          كيف أشعر بالسعادة؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          العسر القرائي «الدسلكسيا».. مفهومه ومظاهره وانتشاره (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          أثـار الفتـن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          أوقاف المغاربة في القدس.. ألم لا يُنسى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          دولة الصفويين.. تاريخ من العمالة والقتل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          أفلام الكرتون تسلية محفوفة بالمخاطر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »          المـد والجـزر في حياة المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 43 - عددالزوار : 2180 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #121  
قديم 19-11-2021, 04:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (119)

سُورَةُ التَّوْبَةِ(8)
صـ 146 إلى صـ 150


قوله تعالى : يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة إلى قوله : ما تحذرون .

صرح في هذه الآية الكريمة بأن المنافقين يحذرون أن ينزل الله سورة تفضحهم ، وتبين ما تنطوي عليه ضمائرهم من الخبث ، ثم بين أنه مخرج ما كانوا يحذرونه ، وذكر في موضع آخر أنه فاعل ذلك ، وهو قوله تعالى : أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم [ ص: 146 ] [ 47 \ 29 ] إلى قوله : ولتعرفنهم في لحن القول [ 47 \ 30 ] ، وبين في موضع آخر شدة خوفهم ، وهو قوله : يحسبون كل صيحة عليهم [ 63 \ 4 ] .
قوله تعالى : لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله .

صرح في هذه الآية الكريمة : أن المنافقين ما وجدوا شيئا ينقمونه ، أي : يعيبونه وينتقدونه ، إلا أن الله تفضل عليهم فأغناهم بما فتح على نبيه صلى الله عليه وسلم من الخير والبركة .

والمعنى أنه لا يوجد شيء يحتمل أن يعاب أو ينقم بوجه من الوجوه ، والآية كقوله : وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد [ 85 \ 8 ] ، وقوله : وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا [ 7 \ 126 ] ، وقوله : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله [ 22 \ 40 ] .

ونظير ذلك من كلام العرب : قول نابغة ذبيان : [ الطويل ]


ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وقول الآخر : [ المنسرح ]
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يضربون إن غضبوا
وقول الآخر : [ الوافر ]


فما يك في من عيب فإني جبان الكلب مهزول الفصيل


قوله تعالى : قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون .

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة شدة حر نار جهنم أعاذنا الله والمسلمين منها ، وبين ذلك في مواضع أخر كقوله : نارا وقودها الناس والحجارة [ 66 \ 6 ] ، وقوله : كلا إنها لظى نزاعة للشوى [ 7 \ 15 ، 16 ] ، وقوله : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها [ 4 \ 56 ] ، وقوله : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد [ 22 \ 19 - 21 ] ، وقوله : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه الآية [ 18 \ 29 ] ، وقوله : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم [ 47 \ 15 ] إلى غير ذلك من الآيات .

تنبيه

اختلف العلماء في وزن جهنم بالميزان الصرفي ، فذهب بعض علماء العربية إلى أن [ ص: 147 ] وزنه " فعنل " فالنون المضعفة زائدة ، وأصل المادة : الجيم والهاء والميم ، من : تجهم : إذا عبس وجهه ; لأنها تلقاهم بوجه متجهم عابس ، وتتجهم وجوههم وتعبس فيها لما يلاقون من ألم العذاب .

ومنه قول مسلم بن الوليد الأنصاري : [ الطويل ]


شكوت إليها حبها فتبسمت ولم أر شمسا قبلها تتبسم فقلت لها جودي فأبدت تجهما
لتقتلني يا حسنها إذ تجهم
وتقول العرب : جهمه : إذا استقبله بوجه كريه مجتمع ، ومنه قول عمرو بن الفضفاض الجهني : [ الطويل ]


ولا تجهمينا أم عمرو فإنما بنا داء ظبي لم تخنه عوامله
وقال بعض العلماء : جهنم فارسي معرب ، والأصل " كهنام " وهو بلسانهم " النار " ، فعربته العرب وأبدلوا الكاف جيما .
قوله تعالى : فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ، إلى قوله : الخالفين ، عاقب الله في هذه الآية الكريمة المتخلفين عن غزوة تبوك بأنهم لا يؤذن لهم في الخروج مع نبيه ، ولا القتال معه صلى الله عليه وسلم ; لأن شؤم المخالفة يؤدي إلى فوات الخير الكثير .

وقد جاء مثل هذا في آيات أخر كقوله : سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم [ 48 \ 15 ] إلى قوله : كذلكم قال الله من قبل ، وقوله : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية [ 6 \ 110 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، والخالف هو الذي يتخلف عن الرجال في الغزو فيبقى مع النساء والصبيان ، ومنه قول الشنفرى : [ الطويل ]

ولا خالف دارية متربب يروح ويغدو داهنا يتكحل
قوله تعالى : وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين .

ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه إذا أنزل سورة فيها الأمر بالإيمان ، والجهاد مع نبيه صلى الله عليه وسلم استأذن الأغنياء من المنافقين في التخلف عن الجهاد مع القدرة عليه ، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتركهم مع القاعدين المتخلفين عن الغزو .

وبين في موضع آخر أن هذا ليس من صفات المؤمنين ، وأنه من صفات الشاكين [ ص: 148 ] الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، وذلك في قوله : لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون [ 9 \ 44 ، 45 ] ، وبين أن السبيل عليهم بذلك ، وأنهم مطبوع على قلوبهم ، بقوله : إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم الآية [ 9 \ 93 ] ، وبين في مواضع أخر شدة جزعهم من الخروج إلى الجهاد ، كقوله : فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت الآية [ 47 \ 20 ] ، وقوله : فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] إلى غير ذلك من الآيات
قوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه .

صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان ، أنهم داخلون معهم في رضوان الله تعالى ، والوعد بالخلود في الجنات ، والفوز العظيم ، وبين في مواضع أخر ، أن الذين اتبعوا السابقين بإحسان يشاركونهم في الخير كقوله جل وعلا : وآخرين منهم لما يلحقوا بهم الآية [ 62 \ 3 ] ، وقوله : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الآية [ 59 \ 10 ] ، وقوله : والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم [ 8 \ 75 ] .

ولا يخفى أنه تعالى صرح في هذه الآية الكريمة ، أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، وهو دليل قرآني صريح في أن من يسبهم ويبغضهم ، أنه ضال مخالف لله جل وعلا ; حيث أبغض من رضي الله عنه ، ولا شك أن بغض من رضي الله عنه مضادة له جل وعلا ، وتمرد وطغيان .
قوله تعالى : ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم الآية .

صرح في هذه الآية الكريمة أن من الأعراب ، ومن أهل المدينة منافقين لا يعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر تعالى نظير ذلك عن نوح في قوله عنه : قال وما علمي بما كانوا يعملون الآية [ 26 \ 112 ] .

[ ص: 149 ] وذكر نظيره عن شعيب عليهم كلهم صلوات الله وسلامه في قوله : بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ اهـ .

وقد أطلع الله نبيه على بعض المنافقين كما تقدم في الآيات الماضية ، وقد أخبر صاحبه حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ، بشيء من ذلك ، كما هو معلوم .
قوله تعالى : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه .

لم يبين هنا هذه الموعدة التي وعدها إياه ، ولكنه بينها في سورة " مريم " بقوله : قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا .
قوله تعالى : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم .

هذه الآية الكريمة تدل على أن بعث هذا الرسول الذي هو من أنفسنا الذي هو متصف بهذه الصفات المشعرة بغاية الكمال ، وغاية شفقته علينا - هو أعظم منن الله تعالى ، وأجزل نعمه علينا ، وقد بين ذلك في مواضع أخر ، كقوله تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية [ 3 \ 164 ] ، وقوله : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار [ 14 \ 28 ] وقوله : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : عليه توكلت وهو رب العرش العظيم .

أمر تعالى في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم بالتوكل عليه جل وعلا .

ولا شك أنه ممتثل ذلك ، فهو سيد المتوكلين عليه صلوات الله وسلامه ، والتوكل على الله تعالى ، هو شأن إخوانه من المرسلين صلوات الله عليهم وسلامه .

كما بين تعالى ذلك في آيات أخر ، كقوله عن هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله ربي وربكم الآية [ 11 \ 54 - 56 ] وقوله تعالى عن نوح : واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون وقوله تعالى عن جملة الرسل : وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا [ ص: 150 ] سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا :

ومن أوضح الأدلة على عظم توكل نبينا صلى الله عليه وسلم على الله قوله يوم حنين ، وهو على بغلة في ذلك الموقف العظيم :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #122  
قديم 19-11-2021, 04:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (120)

سُورَةُ يُونُسَ (1)
صـ 151 إلى صـ 155


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ يُونُسَ


قوله تعالى : والذين كفروا لهم شراب من حميم الآية .

ذكر في هذه الآية الكريمة : أن الذين كفروا يعذبون يوم القيامة بشرب الحميم ، وبالعذاب الأليم ، والحميم : الماء الحار ، وذكر أوصاف هذا الحميم في آيات أخر ، كقوله : يطوفون بينها وبين حميم آن [ 55 \ 44 ] ، وقوله : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم [ 47 \ 15 ] ، وقوله : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود [ 22 \ 19 ، 20 ] ، وقوله : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه الآية [ 18 \ 29 ] ، وقوله : فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم [ 56 \ 54 ، 55 ] .

وذكر في موضع آخر أن الماء الذي يسقون صديد ، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من ذلك بفضله ورحمته ، وذلك في قوله تعالى : من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه الآية [ 14 \ 16 ] :

وذكر في موضع آخر أنهم يسقون مع الحميم الغساق ، كقوله : هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج [ 38 \ 57 ، 58 ] ، وقوله : لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا [ 78 \ 24 ، 25 ] ، والغساق : صديد أهل النار - أعاذنا الله والمسلمين منها - وأصله من غسقت العين : سال دمعها ، وقيل : هو لغة : البارد المنتن ، والحميم الآني : الماء البالغ غاية الحرارة ، والمهل : دردي الزيت ، أو المذاب من النحاس ، والرصاص ونحو ذلك ، والآيات المبينة لأنواع عذاب أهل النار كثيرة جدا .
قوله تعالى : وتحيتهم فيها سلام .

ذكر تعالى في هذه الآية : أن تحية أهل الجنة في الجنة سلام ، أي يسلم بعضهم على بعض بذلك ، ويسلمون على الملائكة ، وتسلم عليهم الملائكة بذلك ، وقد بين تعالى هذا في مواضع أخر ، كقوله : تحيتهم يوم يلقونه سلام الآية [ 33 \ 44 ] ، وقوله : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم الآية [ 13 \ 23 ، 24 ] ، وقوله : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما الآية [ ص: 152 ] [ 19 \ 6 ] ، وقوله : لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما الآية [ 65 \ 25 ، 26 ] وقوله : سلام قولا من رب رحيم [ 36 \ 58 ] إلى غير ذلك من الآيات .

ومعنى السلام : الدعاء بالسلامة من الآفات .

والتحية : مصدر حياك الله ، بمعنى أطال حياتك .
قوله تعالى : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه .

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الإنسان في وقت الكرب يبتهل إلى ربه بالدعاء في جميع أحواله ، فإذا فرج الله كربه أعرض عن ذكر ربه ، ونسي ما كان فيه كأنه لم يكن فيه قط .

وبين هذا في مواضع أخر كقوله : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل الآية [ 39 \ 8 ] ، وقوله : فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم الآية [ 39 \ 49 ] ، وقوله : وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض [ 41 \ 51 ] والآيات في مثل ذلك كثيرة .

إلا أن الله استثنى من هذه الصفات الذميمة عباده المؤمنين بقوله في سورة هود : ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير [ 10 ، 11 ] ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له ، وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " .
قوله تعالى : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي .

أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول : إنه ما يكون له أن يبدل شيئا من القرآن من تلقاء نفسه ، ويفهم من قوله : من تلقاء نفسي أن الله تعالى يبدل منه ما شاء بما شاء .

وصرح بهذا المفهوم في مواضع أخر كقوله : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل الآية [ 16 \ 101 ] ، وقوله : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها الآية [ 2 \ 106 ] ، وقوله : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى [ 87 \ 6 ، 7 ] .
[ ص: 153 ] قوله تعالى : فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون .

في هذه الآية الكريمة حجة واضحة على كفار مكة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث إليهم رسولا حتى لبث فيهم عمرا من الزمن ، وقدر ذلك أربعون سنة ، فعرفوا صدقه ، وأمانته ، وعدله ، وأنه بعيد كل البعد من أن يكون كاذبا على الله تعالى ، وكانوا في الجاهلية يسمونه الأمين ، وقد ألقمهم الله حجرا بهذه الحجة في موضع آخر ، وهو قوله : أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون [ 23 \ 69 ] ولذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ، ومن معه عن صفاته صلى الله عليه وسلم ، قال هرقل لأبي سفيان : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان : فقلت : لا ، وكان أبو سفيان في ذلك الوقت زعيم الكفار ، ورأس المشركين ومع ذلك اعترف بالحق ، والحق ما شهدت به الأعداء .

فقال له هرقل : فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ، ثم يذهب فيكذب على الله . اهـ .

ولذلك وبخهم الله تعالى بقوله هنا : أفلا تعقلون [ 10 \ 16 ] .
قوله تعالى : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء إلى قوله : لقوم يتفكرون .

ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة المثل للدنيا بالنبات الناعم المختلط بعضه ببعض ، وعما قليل ييبس ، ويكون حصيدا يابسا كأنه لم يكن قط ، وضرب لها أيضا المثل المذكور في " الكهف " في قوله : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء [ 18 \ 45 ] إلى قوله : وكان الله على كل شيء مقتدرا ، وأشار لهذا المثل بقوله في " الزمر " : ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب [ 21 ] ، وقوله في " الحديد " : كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما الآية [ 20 ] .

تنبيه

التشبيه في الآيات المذكورة عند البلاغيين من التشبيه المركب ; لأن وجه الشبه صورة منتزعة من أشياء ، وهو كون كل من المشبه والمشبه به يمكث ما شاء الله ، وهو في إقبال وكمال ، ثم عما قليل يضمحل ويزول ، والعلم عند الله تعالى :
قوله تعالى : ويوم نحشرهم جميعا الآية .

ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة يجمع الناس جميعا ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

[ ص: 154 ] وصرح في " الكهف " بأنه لا يترك منهم أحدا ، بقوله : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [ 47 ] .
قوله تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت الآية .

صرح في هذه الآية الكريمة ، بأن كل نفس يوم القيامة تبلو ، أي : تخبر وتعلم ما أسلفت ، أي قدمت من خير وشر ، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] ، وقوله : يوم تبلى السرائر [ 86 \ 9 ] ، وقوله : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 ، 14 ] ، وقوله : ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا الآية [ 18 \ 49 ] .

وأما على قراءة " تتلو " بتاءين ففي معنى الآية وجهان :

أحدهما : أنها تتلو بمعنى تقرأ في كتاب أعمالها جميع ما قدمت ، فيرجع إلى الأولى .

والثاني : أن كل أمة تتبع عملها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لتتبع كل أمة ما كانت تعبده فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس " الحديث .
قوله تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت إلى قوله : فقل أفلا تتقون .

صرح الله تعالى في هذه الآية الكريمة ، بأن الكفار يقرون بأنه جل وعلا ، هو ربهم الرزاق المدبر للأمور المتصرف في ملكه بما يشاء ، وهو صريح في اعترافهم بربوبيته ، ومع هذا أشركوا به جل وعلا .

والآيات الدالة على أن المشركين مقرون بربوبيته جل وعلا ولم ينفعهم ذلك لإشراكهم معه غيره في حقوقه جل وعلا - كثيرة ، كقوله : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] ، وقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم [ 43 \ 9 ] ، وقوله : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله [ 23 \ 84 ، 85 ] إلى قوله : فأنى تسحرون إلى غير ذلك من الآيات ، ولذا قال تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ 12 \ 106 ] .

والآيات المذكورة صريحة في أن الاعتراف بربوبيته جل وعلا لا يكفي في الدخول في دين الإسلام إلا بتحقيق معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا ، وقد أوضحناه في سورة [ ص: 155 ] " الفاتحة " في الكلام على قوله تعالى : إياك نعبد [ 1 \ 5 ] .

أما تجاهل فرعون - لعنه الله - لربوبيته جل وعلا ، في قوله : قال فرعون وما رب العالمين [ 26 \ 23 ] فإنه تجاهل عارف ; لأنه عبد مربوب ، كما دل عليه قوله تعالى : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر الآية [ 17 \ 102 ] ، وقوله : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ 27 \ 14 ] .
قوله تعالى : قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق إلى قوله : فأنى تؤفكون .

ألقم الله تعالى المشركين في هذه الآيات حجرا ، بأن الشركاء التي يعبدونها من دونه لا قدرة لها على فعل شيء ، وأنه هو وحده جل وعلا الذي يبدأ الخلق ثم يعيده بالإحياء مرة أخرى ، وأنه يهدي من يشاء .

وصرح بمثل هذا في آيات كثيرة ، كقوله : الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون [ 30 \ 40 ] ، وقوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا [ 25 \ 3 ] ، وقوله : ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض الآية [ 35 \ 3 ] ، وقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق الآية [ 16 \ 17 ] .

وقوله : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه [ 13 \ 16 ] وقوله : قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره الآية [ 39 \ 38 ] ، وقوله : أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه الآية [ 67 \ 21 ] ، وقوله : إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق الآية [ 29 \ 17 ] .

والآيات في مثل ذلك كثيرة ، ومعلوم أن تسوية ما لا يضر ، ولا ينفع ، ولا يقدر على شيء مع من بيده الخير كله المتصرف بكل ما شاء - لا تصدر إلا ممن لا عقل له ، كما قال تعالى عن أصحاب ذلك : وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [ 67 \ 10 ] .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #123  
قديم 26-11-2021, 03:43 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (121)

سُورَةُ يُونُسَ (2)
صـ 156 إلى صـ 160


قوله تعالى : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين .

صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن لا يكون مفترى من دون الله مكذوبا به عليه ، وأنه لا شك في أنه من رب العالمين جل وعلا ، [ ص: 156 ] وأشار إلى أن تصديقه للكتب السماوية المنزلة قبله ، وتفصيله للعقائد ، والحلال ، والحرام ، ونحو ذلك مما لا شك أنه من الله جل وعلا دليل على أنه غير مفترى ، وأنه لا ريب في كونه من رب العالمين ، وبين هذا في مواضع أخر ، كقوله : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 12 \ 111 ] ، وقوله : وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون [ 26 \ 210 ، 211 ] ، وقوله : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل [ 17 \ 105 ] ، والآيات في مثل ذلك كثيرة .

ثم إنه تعالى لما صرح هنا بأن هذا القرآن ما كان أن يفترى على الله ، أقام البرهان القاطع على أنه من الله ، فتحدى جميع الخلق بسورة واحدة مثله ، ولا شك أنه لو كان من جنس كلام الخلق لقدر الخلق على الإتيان بمثله ، فلما عجزوا عن ذلك كلهم حصل اليقين والعلم الضروري أنه من الله جل وعلا ، قال جل وعلا في هذه السورة : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [ 10 \ 38 ] ، وتحداهم أيضا في سورة " البقرة " بسورة واحدة من مثله ، بقوله : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله الآية [ 2 \ 23 ] ، وتحداهم في " هود " بعشر سور مثله ، بقوله : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات الآية [ 13 ] ، وتحداهم في " الطور " به كله بقوله : فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين [ 34 ] ، وصرح في سورة " بني إسرائيل " بعجز جميع الخلائق عن الإتيان بمثله بقوله : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ 17 \ 88 ] ، كما قدمنا ، وبين أنهم لا يأتون بمثله أيضا بقوله : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا الآية [ 2 \ 24 ] .
قوله تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله .

التحقيق أن تأويله هنا ، هو حقيقة ما يئول إليه الأمر يوم القيامة ، كما قدمنا في أول " آل عمران " ، ويدل لصحة هذا قوله في " الأعراف " : هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء [ 53 ] .

ونظير الآية قوله تعالى : بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب [ 38 \ 8 ] .
[ ص: 157 ] قوله تعالى : وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون .

أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة ، أن يظهر البراءة من أعمال الكفار القبيحة إنكارا لها ، وإظهارا لوجوب التباعد عنها ، وبين هذا المعنى في قوله : قل ياأيها الكافرون [ 109 \ 1 ] ، إلى قوله : ولي دين [ 109 \ 6 ] ، ونظير ذلك قول إبراهيم الخليل وأتباعه لقومه : إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله \ الآية [ 60 \ 4 ] 30 .

وبين تعالى في موضع آخر أن اعتزال الكفار ، والأوثان ، والبراءة منهم من فوائده تفضل الله تعالى بالذرية الطيبة الصالحة ، وهو قوله في " مريم " : فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب [ 49 ] ، إلى قوله : عليا [ 19 \ 50 ] .

وقال ابن زيد ، وغيره : إن آية : وإن كذبوك فقل لي عملي الآية [ 10 \ 41 ] ، منسوخة بآيات السيف .

والظاهر أن معناها محكم ; لأن البراءة إلى الله من عمل السوء لا شك في بقاء مشروعيتها .
قوله تعالى : ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار الآية .

بين تعالى في هذه الآية الكريمة ، أن الكفار إذا حشروا استقلوا مدة مكثهم في دار الدنيا ، حتى كأنها قدر ساعة عندهم ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله في آخر " الأحقاف " : كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار [ 35 ] ، وقوله في آخر " النازعات " : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها الآية [ 46 ] ، وقوله في آخر " الروم " : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة الآية [ 55 ] .

وقد بينا بإيضاح في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " وجه الجمع بين هذه الآيات المقتضية أن الدنيا عندهم كساعة وبين الآيات المقتضية أنها عندهم كأكثر من ذلك ، كقوله تعالى : يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا [ 20 \ 103 ] ، وقوله : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين [ 23 \ 113 ] ، فانظره في سورة قد أفلح المؤمنون [ 23 \ 1 ] في الكلام على قوله : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين .
قوله تعالى : يتعارفون بينهم .

صرح في هذه الآية الكريمة : أن أهل المحشر [ ص: 158 ] يعرف بعضهم بعضا ، فيعرف الآباء الأبناء ، كالعكس ، ولكنه بين في مواضع أخر أن هذه المعارفة لا أثر لها ، فلا يسأل بعضهم بعضا شيئا ، كقوله : ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم [ 70 \ 10 ، 11 ] وقوله : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ 23 \ 101 ] .

وقد بينا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " أيضا وجه الجمع بين قوله : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ، وبين قوله : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ 37 \ 27 ] ، في سورة قد أفلح المؤمنون أيضا .
قوله تعالى : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين .

صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بخسران المكذبين بلقائه ، وأنهم لم يكونوا مهتدين ، ولم يبين هنا المفعول به لقوله : " خسر " وذكر في مواضع كثيرة أسبابا من أسباب الخسران ، وبين في مواضع أخر المفعول المحذوف هنا ، فمن الآيات المماثلة لهذه الآية قوله تعالى في " الأنعام " : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها الآية [ 31 ] ، وقوله تعالى في " البقرة " : الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون [ 27 ] وقوله في " البقرة " أيضا : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون [ 27 ] ، وقوله في " الأعراف " : أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [ 121 ] ، وقوله في " الأعراف " أيضا : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون [ 178 ] ، وقوله في " الزمر " : له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون [ 63 ] .

والآيات في مثل هذا كثيرة ، وقد أقسم تعالى على أن هذا الخسران لا ينجو منه إنسان إلا بأربعة أمور :

الأول : الإيمان .

الثاني : العمل الصالح .

الثالث : التواصي بالحق .

الرابع : التواصي بالصبر .

وذلك في قوله : والعصر إن الإنسان [ 103 \ 1 ، 2 ] وبين في مواضع أخر [ ص: 159 ] أن المفعول المحذوف الواقع عليه الخسران هو أنفسهم ، كقوله في " الأعراف " : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون [ 9 ] ، وقوله في " المؤمنون " : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون [ 103 ] ، وقوله في " هود " : أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 45 ] .

وزاد في مواضع أخر خسران الأهل مع النفس ، كقوله في " الزمر " : قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين [ 15 ] ، وقوله في " الشورى " : وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم [ 45 ] .

وبين في موضع آخر أن خسران الخاسرين قد يشمل الدنيا والآخرة ، وهو قوله : ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [ 22 \ 11 ] .
قوله تعالى : وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم الآية .

بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه إما أن يريه في حياته بعض ما يعد الكفار من النكال والانتقام ، أو يتوفاه قبل ذلك ، فمرجعهم إليه جل وعلا لا يفوته شيء مما يريد أن يفعله بهم لكمال قدرته عليهم ، ونفوذ مشيئته جل وعلا فيهم ، وبين هذا المعنى أيضا في مواضع أخر ، كقوله في سورة " المؤمن " : فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون [ 77 ] ، وقوله في " الزخرف " : فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون [ 41 ، 42 ] إلى غير ذلك من الآيات .

تنبيه

لم يأت في القرآن العظيم فعل المضارع بعد " إن " الشرطية المدغمة في " ما " المزيدة لتوكيد الشرط ، إلا مقترنا بنون التوكيد الثقيلة ، كقوله هنا : وإما نرينك الآية [ 10 \ 46 ] ، فإما نذهبن الآية [ 43 \ 41 ] ، فإما تثقفنهم الآية [ 8 \ 57 ] ، وإما تخافن من قوم الآية [ 8 \ 58 ] .

ولذلك زعم بعض علماء العربية وجوب اقتران المضارع بالنون المذكورة في الحال [ ص: 160 ] المذكورة ، والحق أن عدم اقترانه بها جائز ، كقول الشاعر : [ المتقارب ]


فإما تريني ولي لمة فإن الحوادث أودى بها
وقول الآخر : [ الكامل ]


زعمت تماضر أنني إما أمت يسدد أبينوها الأصاغر خلتي


قوله تعالى : ولكل أمة رسول .

صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أن لكل أمة رسولا ، وبين هذا في مواضع أخر ، كقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا الآية [ 16 \ 36 ] ، وقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [ 35 \ 24 ] ، وقوله : ولكل قوم هاد [ 13 \ 7 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن عدد الأمم سبعون أمة في حديث معاوية بن حيدة القشيري ، رضي الله عنه " أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله " ، وقد بينا هذه الآيات في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ووجه الجمع بينها وبين قوله : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم الآية [ 6 ] ، في سورة " الرعد " في الكلام على قوله تعالى : ولكل قوم هاد .
قوله تعالى : فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون .

أوضح الله تعالى معنى هذه الآية الكريمة في سورة " الزمر " بقوله : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون .

قوله تعالى :

لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون .

صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن لكل أمة أجلا ، وأنه لا يسبق أحد أجله المحدد له ، ولا يتأخر عنه .

وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله : ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون [ 15 \ 5 - 23 \ 43 ] ، وقوله : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون [ 71 \ 4 ] ، وقوله : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها الآية [ 63 \ 11 ] إلى غير ذلك من الآيات .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #124  
قديم 26-11-2021, 03:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (122)

سُورَةُ يُونُسَ (3)
صـ 161 إلى صـ 164


قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون .

بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار يطلبون في الدنيا تعجيل العذاب كفرا وعنادا ، فإذا عاينوا العذاب آمنوا ، وذلك الإيمان عند معاينة العذاب وحضوره لا يقبل منهم ، وقد أنكر ذلك [ ص: 161 ] تعالى عليهم هنا بقوله : أثم إذا ما وقع آمنتم به [ 10 \ 51 ] ، ونفى أيضا قبول إيمانهم في ذلك الحين بقوله : آلآن وقد كنتم به تستعجلون .

وأوضح هذا المعنى في آيات أخر ، كقوله : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ 40 \ 84 ، 85 ] ، وقوله : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 90 ، 91 ] ، وقوله : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن الآية [ 4 \ 18 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

واستثنى الله تعالى قوم يونس دون غيرهم بقوله : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [ 10 \ 98 ] .
قوله تعالى : إن الله سيبطله الآية .

ذكر تعالى عن موسى في هذه الآية ، أنه قال : إن الله سيبطل سحر سحرة فرعون .

وصرح في مواضع أخر بأن ذلك الذي قال موسى إنه سيقع من إبطال الله لسحرهم ، أنه وقع بالفعل ، كقوله : فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين [ 7 \ 118 ، 119 ] ونحوها من الآيات :
قوله تعالى : ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق الآية .

ذكر تعالى في هذه الآية أنه بوأ بني إسرائيل مبوأ صدق .

وبين ذلك في آيات أخر كقوله : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها الآية [ 7 \ 137 ] ، وقوله : فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم [ 62 \ 57 ، 58 ] إلى قوله : كذلك وأورثناها بني إسرائيل [ 26 \ 59 ] وقوله : كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم [ 44 \ 25 ، 26 ] إلى قوله : كذلك وأورثناها قوما آخرين [ 44 \ 28 ] ، ومعنى بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق : أنزلناهم منزلا مرضيا حسنا .
قوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم .

صرح تعالى في هذه الآية الكريمة ، أن من حقت عليه كلمة [ ص: 162 ] العذاب ، وسبقت له في علم الله الشقاوة لا ينفعه وضوح أدلة الحق ، وذكر هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله تعالى : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] ، وقوله : وإن يروا آية يعرضوا [ 54 \ 2 ] ، وقوله : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين [ 6 \ 4 ] ، وقوله : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] ، وقوله : سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ 2 \ 6 ] .

والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين .

ظاهر هذه الآية الكريمة أن إيمان قوم يونس ما نفعهم إلا في الدنيا دون الآخرة ، لقوله : كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا .

ويفهم من مفهوم المخالفة في قوله : في الحياة الدنيا أن الآخرة ليست كذلك ، ولكنه تعالى أطلق عليهم اسم الإيمان من غير قيد في سورة " الصافات " ، والإيمان منقذ من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، كما أنه بين في " الصافات " أيضا كثرة عددهم ، وكل ذلك في قوله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين [ 147 ، 148 ] .
قوله تعالى : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا الآية .

صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لو شاء إيمان جميع أهل الأرض لآمنوا كلهم جميعا ، وهو دليل واضح على أن كفرهم واقع بمشيئته الكونية القدرية ، وبين ذلك أيضا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : ولو شاء الله ما أشركوا الآية [ 6 \ 107 ] ، وقوله : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها [ 32 \ 13 ] ، وقوله : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى [ 6 \ 107 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين .

بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن من لم يهده الله فلا هادي له ، ولا يمكن أحدا أن يقهر قلبه على الانشراح إلى الإيمان إلا إذا أراد الله به ذلك .

وأوضح ذلك المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا [ 5 \ 41 ] ، وقوله : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل الآية [ ص: 163 ] [ 16 \ 37 ] ، وقوله : إنك لا تهدي من أحببت الآية [ 28 \ 56 ] ، وقوله : من يضلل الله فلا هادي له [ 7 \ 186 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا كما تقدم في " النساء " .

والظاهر أنها غير منسوخة ، وأن معناها أنه لا يهدي القلوب ويوجهها إلى الخير إلا الله تعالى ، وأظهر دليل على ذلك أن الله أتبعه بقوله : وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله الآية [ 10 \ 100 ] .
قوله تعالى : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض الآية .

أمر الله جل وعلا جميع عباده أن ينظروا ماذا خلق في السماوات والأرض من المخلوقات الدالة على عظم خالقها ، وكماله ، وجلاله ، واستحقاقه لأن يعبد وحده جل وعلا .

وأشار لمثل ذلك بقوله : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق الآية [ 41 \ 53 ] ، ووبخ في سورة " الأعراف " من لم يمتثل هذا الأمر ، وهدده بأنه قد يعاجله الموت فينقضي أجله قبل أن ينظر فيما أمره الله جل وعلا أن ينظر فيه ; لينبه بذلك على وجوب المبادرة في امتثال أمر الله جل وعلا ، وذلك في قوله تعالى : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم الآية [ 185 ] .

تنبيه

آية " الأعراف " هذه التي ذكرنا تدل دلالة واضحة على أن الأمر يقتضي الفور ، وهو الذي عليه جمهور الأصوليين ، خلافا لجماعة من الشافعية وغيرهم .
قوله تعالى : وأن أقم وجهك للدين .

أوضح هذا المعنى في قوله : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها .
قوله تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك .

أوضح معناه أيضا بقوله : ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون .
قوله تعالى : واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين .

لم يبين هنا ما حكم الله به بين نبيه وبين أعدائه ، وقد بين في آيات كثيرة أنه حكم بنصره عليهم ، وإظهار دينه على كل [ ص: 164 ] دين ، كقوله : إذا جاء نصر الله والفتح [ 110 \ 1 ] إلى آخر السورة ، وقوله : إنا فتحنا لك فتحا مبينا [ 48 \ 1 ] إلى آخرها ، وقوله : أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه الآية [ 13 \ 41 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #125  
قديم 26-11-2021, 03:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (123)

سُورَةُ هُودٍ (1)
صـ 165 إلى صـ 170

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ هُودٍ

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ .

اعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالحروف المقطعة في أوائل السور اختلافا كثيرا ، واستقراء القرآن العظيم يرجح واحدا من تلك الأقوال ، وسنذكر الخلاف المذكور وما يرجحه القرآن منه بالاستقراء فنقول ، وبالله جل وعلا نستعين :

قال بعض العلماء : هي مما استأثر الله تعالى بعلمه ، كما بينا في " آل عمران " وممن روي عنه هذا القول : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود - رضي الله عنهم - وعامر الشعبي ، وسفيان الثوري ، والربيع بن خثيم ، واختاره أبو حاتم بن حبان .

وقيل : هي أسماء للسور التي افتتحت بها ، وممن قال بهذا القول : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ويروى ما يدل لهذا القول عن مجاهد ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، قال الزمخشري في تفسيره : وعليه إطباق الأكثر . ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ، ويعتضد هذا القول بما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم [ 32 \ 1 ] السجدة ، و هل أتى على الإنسان [ 76 \ 1 ] .

ويدل له أيضا قول قاتل محمد السجاد بن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما يوم الجمل ، وهو شريح بن أبي أوفى العبسي ، كما ذكره البخاري في صحيحه في أول سورة المؤمن :


يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وحكى ابن إسحاق أن هذا البيت للأشتر النخعي قائلا : إنه الذي قتل محمد بن طلحة المذكور ، وذكر أبو مخنف أنه لمدلج بن كعب السعدي ، ويقال كعب بن مدلج ، وذكر الزبير بن بكار أن الأكثر على أن الذي قتله عصام بن مقشعر ، قال المرزباني : وهو الثبت ، وأنشد له البيت المذكور ، وقبله :


وأشعث قوام بآيات ربه قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
[ ص: 166 ] هتكت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعا لليدين وللفم
على غير شيء غير أن ليس تابعا عليا ومن لا يتبع الحق يندم
يذكرني حاميم . . . البيت . اهـ من " فتح الباري " .

فقوله : " يذكرني حاميم " ، بإعراب " حاميم " إعراب ما لا ينصرف فيه الدلالة على ما ذكرنا من أنه اسم للسورة .

وقيل : هي من أسماء الله تعالى ، وممن قال بهذا : سالم بن عبد الله ، والشعبي ، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ، وروي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وعنه أيضا : أنها أقسام أقسم الله بها ، وهي من أسمائه ، وروي نحوه عن عكرمة .

وقيل : هي حروف ، كل واحد منها من اسم من أسمائه جل وعلا . فالألف من " الم " مثلا : مفتاح اسم الله ، واللام مفتاح اسمه لطيف ، والميم : مفتاح اسمه مجيد ، وهكذا . ويروى هذا عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبي العالية ، واستدل لهذا القول بأن العرب قد تطلق الحرف الواحد من الكلمة ، وتريد به جميع الكلمة كقول الراجز :


قلت لها قفي فقالت لي قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
فقوله : " قاف " أي وقفت ، وقول الآخر :


بالخير خيرات وإن شرا فا ولا أريد الشر إلا أن تا
يعني : وإن شرا فشر ، ولا أريد الشر إلا أن تشاء ، فاكتفى بالفاء والتاء عن بقية الكلمتين .

قال القرطبي : وفي الحديث " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة " الحديث ، قال سفيان : هو أن يقول في اقتل : اق ، إلى غير ما ذكرنا من الأقوال في فواتح السور ، وهي نحو ثلاثين قولا .

أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو : أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن ، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ، وحكى هذا القول الرازي في تفسيره عن المبرد ، وجمع من المحققين ، وحكاه القرطبي عن الفراء ، وقطرب ، ونصره الزمخشري في الكشاف .

[ ص: 167 ] قال ابن كثير : وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية ، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي ، وحكاه لي عن ابن تيمية .

ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول : أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائما عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه ، وأنه الحق الذي لا شك فيه .

وذكر ذلك بعدها دائما دليل استقرائي على أن الحروف المقطعة قصد بها إظهار إعجاز القرآن ، وأنه حق .

قال تعالى في " البقرة " : الم [ 2 \ 1 ] ، وأتبع ذلك بقوله : ذلك الكتاب لا ريب فيه ، وقال في " آل عمران " : الم [ 3 \ 1 ] ، وأتبع ذلك بقوله : الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق الآية [ 3 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " الأعراف " : المص [ 7 \ 1 ] ، ثم قال : كتاب أنزل إليك الآية [ 7 \ 2 ] ، وقال في سورة " يونس " : الر [ 10 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب الحكيم [ 10 \ 1 ] ، وقال في هذه السورة الكريمة التي نحن بصددها ، أعني سورة " هود " الر \ [ 11 \ 1 ] 30 ، ثم قال : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] ، وقال في " يوسف " : الر [ 12 \ 1 ] ثم قال : تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا [ 12 \ 1 ، 2 ] ، وقال في " الرعد " : المر [ 13 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق [ 13 \ 1 ] ، وقال في سورة " إبراهيم " : الر [ 14 \ 1 ] ، ثم قال : كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور الآية [ 14 \ 1 ] ، وقال في " الحجر " : الر [ 15 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ، وقال في سورة " طه " طه [ 20 \ 1 ] ، ثم قال : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى [ 20 \ 2 ] ، وقال في " الشعراء " : طسم [ 26 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب المبين لعلك باخع نفسك الآية [ 26 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " النمل " : طس [ 27 \ 2 ] ، ثم قال : تلك آيات القرآن وكتاب مبين [ 27 \ 1 ] ، وقال في " القصص " : طسم [ 28 \ 1 ] ، ثم قال تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون الآية [ 28 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " لقمان " الم [ 31 \ 3 ] ، ثم قال تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين [ 31 \ 2 ، 3 ] ، وقال في [ ص: 168 ] " السجدة " : الم [ 32 \ 1 ] ، ثم قال تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [ 32 \ 2 ] ، وقال في " يس " : يس [ 36 \ 1 ] ، ثم قال : والقرآن الحكيم الآية [ 36 \ 2 ] ، وقال في " ص " : ص [ 38 \ 1 ] ، ثم قال : والقرآن ذي الذكر الآية [ 38 \ 1 ] وقال في " سورة المؤمن " : حم [ 40 \ 1 ] ، ثم قال تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم الآية [ 40 \ 2 ] .

وقال في " فصلت " : حم [ 41 \ 2 ] ، ثم قال تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون الآية [ 42 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " الشورى : " حم عسق [ 42 \ 1 ، 2 ] ، ثم قال : كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الآية [ 42 \ 3 ] ، وقال في " الزخرف " : حم [ 43 \ 3 ] ، ثم قال : والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا الآية [ 43 \ 2 ، 3 ] وقال في " الدخان " : حم [ 44 \ 1 ] ، ثم قال : والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة الآية [ 44 \ 2 ، 3 ] وقال في " الجاثية " : حم [ 45 \ 1 ] ، ثم قال : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين [ 45 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " الأحقاف " حم [ 46 \ 1 ] ، ثم قال : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق الآية [ 46 \ 2 ، 3 ] ، وقال في سورة " ق " : ق [ 50 \ 1 ] ، ثم قال : والقرآن المجيد الآية [ 50 \ 1 ] .

وقد قدمنا كلام الأصوليين في الاحتجاج بالاستقراء بما أغنى عن إعادته هنا .

وإنما أخرنا الكلام على الحروف المقطعة مع أنه مرت سور مفتتحة بالحروف المقطعة كالبقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ; لأن الحروف المقطعة في القرآن المكي غالبا ، والبقرة وآل عمران مدنيتان ، والغالب له الحكم ، واخترنا لبيان ذلك سورة هود ; لأن دلالتها على المعنى المقصود في غاية الظهور والإيضاح ; لأن قوله تعالى كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] ، بعد قوله : الر [ 11 \ 1 ] واضح جدا فيما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُظْمَى الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ مِنْ أَجْلِهَا : هِيَ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ ، وَلَا يُشْرَكَ بِهِ فِي عِبَادَتِهِ شَيْءٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا : كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ الْآيَةَ [ 11 \ 1 ، 2 ] صَرِيحٌ فِي أَنَّ [ ص: 169 ] آيَاتِ هَذَا الْكِتَابِ فُصِّلَتْ مِنْ عِنْدِ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ لِأَجْلِ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ " أَنْ " هِيَ الْمُفَسِّرَةُ ، أَوْ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْهَا وَمِنْ صِلَتِهَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ ; لِأَنَّ ضَابِطَ " أَنْ " الْمُفَسِّرَةَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الْقَوْلِ ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ حُرُوفُ الْقَوْلِ .

وَوَجْهُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ : أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [ 11 \ 1 ] ، فِيهِ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِذَلِكَ الْإِحْكَامِ وَالتَّفْصِيلِ دُونَ حُرُوفِ الْقَوْلِ ، فَيَكُونُ تَفْسِيرُ ذَلِكَ هُوَ : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ .

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ " أَنْ " وَصِلَتِهَا مَفْعُولٌ لَهُ ، فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ ، فَمَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّ حَاصِل تَفْصِيلِ الْقُرْآنِ هُوَ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ ، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ : قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ 21 \ 108 ] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَةَ " إِنَّمَا " مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ ، فَكَأَنَّ جَمِيعَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مُنْحَصِرٌ فِي مَعْنَى " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا " دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ " أَنَّ حَصْرَ الْوَحْيِ فِي آيَةِ الْأَنْبِيَاءِ هَذِهِ فِي تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ حَصْرٌ لَهُ فِي أَصْلِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْفُرُوعِ ; لِأَنَّ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ دَاخِلَةٌ فِي ضِمْنِ مَعْنَى " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " لِأَنَّ مَعْنَاهَا خَلْعُ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ ، وَإِفْرَادِهِ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْقَوْلِيَّةِ ، وَالْفِعْلِيَّةِ ، وَالِاعْتِقَادِيَّةِ .

وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ ، وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ لِأَجْلِ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، كَقَوْلِهِ : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ 16 \ 36 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ 21 \ 25 ] ، وَقَوْلِهِ : وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ 43 \ 45 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي " سُورَةِ الْفَاتِحَةِ " وَسَنَسْتَقْصِي الْكَلَامَ عَلَيْهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي " سُورَةِ النَّاسِ " لِتَكُونَ خَاتِمَةَ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ حُسْنَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى .

هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الذُّنُوبِ سَبَبٌ لِأَنْ يُمَتِّعَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ; لِأَنَّهُ رَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ [ ص: 170 ] عَلَى شَرْطِهِ .

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَتَاعِ الْحَسَنِ : سَعَةُ الرِّزْقِ ، وَرَغَدُ الْعَيْشِ ، وَالْعَافِيَةُ فِي الدُّنْيَا ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَجَلِ الْمُسَمَّى : الْمَوْتُ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ [ 11 \ 52 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ " نُوحٍ " : فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [ 71 \ 10 - 12 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] ، وَقَوْلُهُ : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [ 7 \ 96 ] ، وَقَوْلُهُ : وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [ 5 \ 66 ] ، وَقَوْلُهُ : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [ 65 \ 2 ، 3 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #126  
قديم 26-11-2021, 03:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (124)

سُورَةُ هُودٍ (2)
صـ 171 إلى صـ 175

قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور .

يبين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يخفى عليه شيء ، وأن السر كالعلانية عنده ، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر وما يعلن وما يسر ، والآيات المبينة لهذا كثيرة جدا ، كقوله : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ 50 \ 16 ] ، وقوله جل وعلا : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه وقوله : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ 7 \ 7 ] ، وقوله : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء الآية [ 10 \ 61 ] ، ولا تقلب ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها آية بهذا المعنى .

تنبيه مهم

اعلم أن الله تبارك وتعالى ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظا أكبر ، ولا زاجرا أعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن ، من أنه تعالى عالم بكل ما يعمله خلقه ، رقيب عليهم ، ليس بغائب عما يفعلون ، وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر ، والزاجر الأعظم مثلا ليصير به كالمحسوس ، فقالوا : لو فرضنا أن ملكا قتالا للرجال ، [ ص: 171 ] سفاكا للدماء ، شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلما ، وسيافه قائم على رأسه ، والنطع مبسوط للقتل ، والسيف يقطر دما ، وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته ، فهل ترى أن أحدا من الحاضرين يهم بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه ، وهو ينظر إليه عالم بأنه مطلع عليه ؟ ! لا ، وكلا ! بل جميع الحاضرين يكونون خائفين ، وجلة قلوبهم ، خاشعة عيونهم ، ساكنة جوارحهم خوفا من بطش ذلك الملك .

ولا شك " ولله المثل الأعلى " أن رب السموات والأرض جل وعلا أشد علما ، وأعظم مراقبة ، وأشد بطشا ، وأعظم نكالا وعقوبة من ذلك الملك ، وحماه في أرضه محارمه ، فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربه جل وعلا ليس بغائب عنه ، وأنه مطلع على كل ما يقول وما يفعل وما ينوي لان قلبه ، وخشي الله تعالى ، وأحسن عمله لله جل وعلا .

ومن أسرار هذه الموعظة الكبرى أن الله تبارك وتعالى صرح بأن الحكمة التي خلق الخلق من أجلها هي أن يبتليهم أيهم أحسن عملا ، ولم يقل : أيهم أكثر عملا ، فالابتلاء في إحسان العمل ، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا الآية [ 11 \ 7 ] .

وقال في الملك : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور [ 67 \ 2 ] .

ولا شك أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خلق من أجلها هي أن يبتلى - أي يختبر بإحسان العمل - فإنه يهتم كل الاهتمام بالطريق الموصلة لنجاحه في هذا الاختبار ، ولهذه الحكمة الكبرى سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا ليعلمه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أخبرني عن الإحسان " أي وهو الذي خلق الخلق لأجل الاختبار فيه ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الطريق إلى ذلك هي هذا الواعظ ، والزاجر الأكبر الذي هو مراقبة الله تعالى ، والعلم بأنه لا يخفى عليه شيء مما يفعل خلقه ، فقال له : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .

واختلف العلماء في المراد بقوله في هذه الآية الكريمة ألا إنهم يثنون صدورهم [ 11 \ 5 ] ، وقوله : يستغشون ثيابهم [ 11 \ 5 ] ، وفي مرجع الضمير في قوله : منه [ 11 \ 5 ] .

[ ص: 172 ] فقال بعض العلماء : معنى يثنون صدورهم [ 11 \ 5 ] يزورون عن الحق ، وينحرفون عنه ; لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره ، ومن ازور عنه وانحرف ثنى عنه صدره ، وطوى عنه كشحه . بهذا فسره الزمخشري في الكشاف .

قال مقيده عفا الله عنه : وهذا المعنى معروف في كلام العرب ، فهم يعبرون باعوجاج الصدر عن العدول عن الشيء والميل عنه ، ويعبرون بإقامة الصدر عن القصد إلى الشيء وعدم الميل عنه .

فمن الأول قول ذي الرمة غيلان بن عقبة العدوي عدي الرباب :


خليلي عوجا بارك الله فيكما على دار مي من صدور الركائب تكن عوجة يجزيكما الله عنده
بها الأجر أو تقضى ذمامة صاحب
يعني : اثنيا صدور الركائب إلى دار مي .

ومن الثاني قول الشنفرى :


أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل
وقول الآخر :


أقول لأم زنباع أقيمي صدور العيش شطر بني تميم
وقيل : نزلت هذه الآية الكريمة في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة .

كان حلو المنطق ، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي له بقلبه على ما يسوء .

وقيل : نزلت في بعض المنافقين ، كان إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره ، وطوطأ رأسه وغطى وجهه لكيلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان ، حكي معناه عن عبد الله بن شداد .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في قوم كانوا يكرهون أن يجامعوا أو يتغوطوا وليس بينهم وبين السماء حجاب ، يستحيون من الله .

وقال بعض العلماء : معنى يستغشون ثيابهم [ 11 \ 5 ] ، يغطون رءوسهم لأجل كراهتهم استماع كلام الله ، كقوله تعالى عن نوح : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم الآية [ 71 \ 7 ] .

وقيل : كانوا إذا عملوا سوءا ثنوا صدورهم وغطوا رءوسهم ، يظنون أنهم إن فعلوا [ ص: 173 ] ذلك أخفوا به عملهم على الله جل وعلا ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : ليستخفوا منه الآية [ 11 \ 5 ] .

وقرأ ابن عباس هذه الآية الكريمة : ألا إنهم تثنوني صدورهم [ 11 \ 5 ] ، وتثنوني مضارع اثنونى ، ووزنه افعوعل من الثني كما تقول احلولى من الحلاوة و صدورهم في قراءة ابن عباس بالرفع فاعل : تثنوني ، والضمير في قوله منه عائد إلى الله تعالى في أظهر القولين ، وقيل : راجع إليه صلى الله عليه وسلم كما مر في الأقوال في الآية .
قوله تعالى : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، صرح في هذه الآية الكريمة أنه خلق السماوات والأرض لحكمة ابتلاء الخلق ، ولم يخلقهما عبثا ولا باطلا ، ونزه نفسه تعالى عن ذلك ، وصرح بأن من ظن ذلك فهو من الذين كفروا وهددهم بالنار ، قال تعالى : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] ، وقال تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 ، 116 ] ، وقال وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] ، وقال : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 2 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة الآية ، المراد بالأمة هنا : المدة من الزمن ، ونظيره قوله تعالى : وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة ، أي : تذكر بعد مدة .

تنبيه

استعمل لفظ " الأمة " في القرآن أربعة استعمالات :

الأول : هو ما ذكرنا هنا من استعمال الأمة في البرهة من الزمن .

الثاني : استعمالها في الجماعة من الناس ، وهو الاستعمال الغالب ، كقوله وجد عليه أمة من الناس يسقون الآية [ 28 \ 23 ] ، وقوله : ولكل أمة رسول الآية [ 10 \ 47 ] ، وقوله كان الناس أمة الآية [ 2 \ 213 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

الثالث : استعمال " الأمة " في الرجل المقتدى به ، كقوله : إن إبراهيم كان أمة [ ص: 174 ] الآية [ 16 \ 120 ] .

الرابع : استعمال " الأمة " في الشريعة والطريقة ، كقوله : إنا وجدنا آباءنا على أمة الآية [ 43 \ 22 ] ، وقوله : إن هذه أمتكم أمة واحدة الآية [ 23 \ 52 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون .

صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أن من عمل عملا يريد به الحياة الدنيا أعطاه جزاء عمله في الدنيا ، وليس له في الآخرة إلا النار .

ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الشورى : ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ 42 \ 20 ] ، ولكنه تعالى يبين في " سورة بني إسرائيل " تعليق ذلك على مشيئته جل وعلا بقوله : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد الآية [ 17 \ 18 ] ، وقد أوضحنا هذه المسألة غاية الإيضاح في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في الكلام على هذه الآية الكريمة ، ولذلك اختصرناها هنا .
قوله تعالى : ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أن هذا القرآن لا يكفر به أحد كائنا من كان إلا دخل النار . وهو صريح في عموم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة ، كقوله تعالىوأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] ، وقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] ، وقوله : وما أرسلناك إلا كافة للناس الآية [ 34 \ 28 ] وقوله : قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الآية [ 7 \ 158
قوله تعالى : فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك الآية ، نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن الشك في هذا القرآن العظيم ، وصرح أنه الحق من الله ، والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة جدا ، كقوله : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه الآية [ 2 \ 1 ، 2 ] ، وقوله : الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ، ونحو ذلك من الآيات ، والمرية : الشك .
قوله تعالى : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ، صرح تعالى [ ص: 175 ] في هذه الآية الكريمة بأن أكثر الناس لا يؤمنون ، وبين ذلك أيضا في مواضع كثيرة ، كقوله وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [ 12 \ 103 ] ، وقوله وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك [ 6 \ 116 ] ، وقوله : ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين [ 37 \ 71 ] ، وقوله : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 8 ، 67 ، 103 ، 121 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : يضاعف لهم العذاب الآية ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن الكفار الذين يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجا يضاعف لهم العذاب يوم القيامة ; لأنهم يعذبون على ضلالهم ، ويعذبون أيضا على إضلالهم غيرهم ، كما أوضحه تعالى بقوله : الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون [ 16 \ 88 ] .

وبين في موضع آخر أن العذاب يضاعف للأتباع والمتبوعين ، وهو قوله في الأعراف حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف الآية [ 7 \ 38 ] ، قوله تعالى : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ، في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه ، بعضها يشهد له القرآن :

الأول وهو اختيار ابن جرير الطبري في تفسيره ، ونقله عن ابن عباس وقتادة : أن معنى ما كانوا يستطيعون السمع الآية [ 11 \ 20 ] : أنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحق سماع منتفع ، ولا أن يبصروه إبصار مهتد ; لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين عن استعمال جوارحهم في طاعة الله تعالى ، وقد كانت لهم أسماع وأبصار .

ويدل لهذا قوله تعالى : وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله الآية [ 46 \ 26 ] .

الثاني وهو أظهرها عندي : أن عدم الاستطاعة المذكور في الآية إنما هو للختم الذي ختم الله على قلوبهم وأسماعهم ، والغشاوة التي جعل على أبصارهم .

ويشهد لهذا القول قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة [ 2 \ 7 ] ، وقوله : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، ونحو ذلك من الآيات .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #127  
قديم 26-11-2021, 03:46 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (125)

سُورَةُ هُودٍ (3)
صـ 176 إلى صـ 180


وذلك الختم والأكنة على القلوب جزاء من الله تعالى لهم على مبادرتهم إلى الكفر [ ص: 176 ] وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] ، وقوله فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] ، وقوله في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] ، وقوله : وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم الآية [ 9 \ 125 ] ، وقوله ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية [ 6 \ 110 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

الثالث : أن المعنى : ما كانوا يستطيعون السمع ، أي : لشدة كراهيتهم لكلام الرسل ، على عادة العرب في قولهم : لا أستطيع أن أسمع كذا : إذا كان شديد الكراهية والبغض له ، ويشهد لهذا القول قوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا [ 22 \ 72 ] ، وقوله تعالى وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن الآية [ 41 \ 26 ] ، وقوله وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم .

الرابع : أن " ما " مصدرية ظرفية ، أي يضاعف لهم العذاب مدة كونهم يستطيعون أن يسمعوا ويبصروا ، أي يضاعف لهم العذاب دائما .

الخامس : أن " ما " مصدرية في محل نصب بنزع الخافض ، أي يضاعف لهم العذاب بسبب كونهم يستطيعون السمع والإبصار في دار الدنيا ، وتركوا الحق مع أنهم يستطيعون إدراكه بأسماعهم وأبصارهم ، وقد قدمنا في سورة النساء قول الأخفش الأصغر بأن النصب بنزع الخافض مقيس مطلقا عند أمن اللبس .

السادس : أن قوله : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] من صفة الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله ، فيكون متصلا بقوله وما كان لهم من دون الله من أولياء [ 11 \ 20 ] وتكون جملة يضاعف لهم العذاب [ 11 \ 20 ] اعتراضية ، وتقرير المعنى على هذا القول : وما كان لهم من دون الله من أولياء ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ، أي الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله ، وما لا يسمع ولا يبصر لا يصح أن يكون وليا لأحد .

ويشهد لمعنى هذا القول قوله تعالى في " الأعراف " : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها الآية [ 7 \ 195 ] ، ونحوها من الآيات .

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن الآية الكريمة قد تكون فيها أقوال ، [ ص: 177 ] وكلها يشهد له قرآن فنذكر الجميع ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع الآية .

ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة المثل للكافر بالأعمى والأصم ، وضرب المثل للمؤمن بالسميع والبصير ، وبين أنهما لا يستويان ، ولا يستوي الأعمى والبصير ، ولا يستوي الأصم والسميع ، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة :

قوله : وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير [ 35 \ 19 - 23 ] .

وقوله : أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى الآية [ 13 \ 19 ] .

وقوله : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين [ 27 \ 80 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي .

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن الملأ من قوم نوح قالوا له : ما نراك اتبعك منا إلا الأسافل والأراذل ، وذكر في سورة الشعراء أن اتباع الأراذل له في زعمهم مانع لهم من اتباعه بقوله : قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون [ 26 \ 111 ] .

وبين في هذه السورة الكريمة أن نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أبى أن يطرد أولئك المؤمنين الذين اتبعوه بقوله : وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم الآية [ 11 \ 29 ، 30 ] ، وذكر تعالى عنه ذلك في الشعراء أيضا بقوله : إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين .
قوله تعالى : قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون .

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح : أنه قال لقومه : أرأيتم [ 11 \ 28 ] ، أي : أخبروني إن كنت على بينة من ربي [ 11 \ 28 ] ، أي : على يقين ونبوة صادقة لا شك فيها ، وأعطاني رحمة منه مما أوحى إلي من التوحيد والهدى ، فخفي ذلك كله عليكم ، ولم تعتقدوا أنه حق ، أيمكنني أن ألزمكم به ، وأجبر قلوبكم على الانقياد والإذعان لتلك البينة التي تفضل الله علي بها ، ورحمني بإيتائها ، والحال أنكم كارهون لذلك ؟ يعني ليس بيدي توفيقكم إلى الهدى وإن كان واضحا جليا لا [ ص: 178 ] لبس فيه ، إن لم يهدكم الله جل وعلا إليه .

وهذا المعنى صرح به جل وعلا عن نوح أيضا في هذه السورة الكريمة بقوله : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم الآية [ 11 \ 34 ] .
قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله الآية .

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : أنه أخبر قومه أنه لا يسألهم مالا في مقابلة ما جاءهم به من الوحي والهدى ، بل يبذل لهم ذلك الخير العظيم مجانا من غير أخذ أجرة في مقابله .

وبين في آيات كثيرة أن ذلك هو شأن الرسل عليهم صلوات الله وسلامه ، كقوله في " سبإ " عن نبينا صلى الله عليه وسلم : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله الآية [ 34 \ 47 ] .

وقوله فيه أيضا في آخر " سورة ص " : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ 38 \ 86 ] .

وقوله في " الطور " ، و " القلم " : أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون [ 52 \ 40 ] [ 68 \ 46 ] .

وقوله في " الفرقان " : قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا [ 25 \ 57 ] .

وقوله في " الأنعام " : قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين [ 6 \ 90 ] .

وقوله عن هود في " سورة هود " : ياقوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني الآية [ 11 \ 51 ] .

وقوله في " الشعراء " عن نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام : وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين [ 26 \ 109 ] .

وقوله تعالى عن رسل القرية المذكورة في " يس " : اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا الآية [ 36 \ 20 ، 21 ] .

وقد بينا وجه الجمع بين هذه الآيات المذكورة وبين قوله تعالى : [ ص: 179 ] قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في " سورة سبإ " في الكلام على قوله تعالى قل ما سألتكم من أجر فهو لكم [ 34 \ 47 ] .

ويؤخذ من هذه الآيات الكريمة : أن الواجب على أتباع الرسل من العلماء وغيرهم أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجانا من غير أخذ عوض على ذلك ، وأنه لا ينبغي أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى ، ولا على تعليم العقائد والحلال والحرام .

ويعتضد ذلك بأحاديث تدل على نحوه ، فمن ذلك ما رواه ابن ماجه ، والبيهقي ، والروياني في مسنده ، عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، قال : علمت رجلا القرآن ، فأهدى لي قوسا ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن أخذتها أخذت قوسا من نار " ، فرددتها .

قال البيهقي ، وابن عبد البر في هذا الحديث : هو منقطع ، أي بين عطية الكلاعي ، وأبي بن كعب ، وكذلك قال المزي .

وتعقبه ابن حجر بأن عطية ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .

وأعله ابن القطان بأن راويه عن عطية المذكور هو عبد الرحمن بن سلم وهو مجهول .

وقال فيه ابن حجر في التقريب : شامي مجهول .

وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وله طرق عن أبي . قال ابن القطان : لا يثبت منها شيء . قال الحافظ : وفيما قاله نظر .

وذكر المزي في الأطراف له طرقا ، منها : أن الذي أقرأه أبي هو الطفيل بن عمرو ، ويشهد له ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن الطفيل بن عمرو الدوسي قال : أقرأني أبي بن كعب القرآن ، فأهديت له قوسا ، فغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقلدها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تقلدها من جهنم " الحديث ، وقال الشوكاني أيضا : وفي الباب عن معاذ عند الحاكم ، والبزار بنحو حديث أبي ، وعن أبي الدرداء عند الدارمي بإسناد على شرط مسلم بنحوه أيضا .

ومن ذلك ما رواه أبو داود ، وابن ماجه ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، قال : علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن ، فأهدى إلي رجل منهم قوسا ، فقلت ليست بمال ، وأرمي عنها في سبيل الله عز وجل ، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه ، فأتيته ، فقلت : يا رسول الله ، أهدى إلي رجل قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب ، والقرآن ، وليست بمال ، وأرمي عليها في سبيل الله ؟ فقال : " إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها " ، وفي إسناده المغيرة بن زياد الموصلي ، قال الشوكاني : وثقه وكيع ، ويحيى بن معين ، وتكلم فيه جماعة .

[ ص: 180 ] وقال الإمام أحمد : ضعيف الحديث ، حدث بأحاديث مناكير ، وكل حديث رفعه فهو منكر ، وقال أبو زرعة الرازي : لا يحتج بحديثه . اهـ . وقال فيه ابن حجر في التقريب : المغيرة بن زياد البجلي أبو هشام - أو هاشم - الموصلي صدوق له أوهام ، وهذا الحديث رواه أبو داود من طريق أخرى ليس فيها المغيرة المذكور ، حدثنا عمرو بن عثمان ، وكثير بن عبيد ، قالا : ثنا بقية ، حدثني بشر بن عبد الله بن بشار ، قال عمرو : وحدثني عبادة بن نسي ، عن جنادة بن أبي أمية ، عن عبادة بن الصامت نحو هذا الخبر ، والأول أتم ، فقلت : ما ترى فيها يا رسول الله ؟ فقال : " جمرة بين كتفيك تقلدتها " ، أو " تعلقتها " اهـ منه بلفظه ، وفي سند هذه الرواية بقية بن الوليد وقد تكلم فيه جماعة ، ووثقه آخرون إذا روى عن الثقات ، وهو من رجال مسلم ، وأخرج له البخاري تعليقا .

وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق ، كثير التدليس عن الضعفاء ، والظاهر أن أعدل الأقوال فيه أنه إن صرح بالسماع عن الثقات فلا بأس به ، مع أن حديثه هذا معتضد بما تقدم وبما سيأتي إن شاء الله تعالى .

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اقرءوا القرآن واسألوا الله به ، فإن من بعدكم قوما يقرءون القرآن يسألون به الناس " ، قال الترمذي في هذا الحديث : ليس إسناده بذلك .

ومنها ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا وهب بن بقية ، أخبرنا خالد ، عن حميد الأعرج ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن ، وفينا الأعرابي ، والأعجمي : فقال : " اقرءوا فكل حسن ، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه " حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عمر ، وابن لهيعة ، عن بكر بن سوادة ، عن وفاء بن شريح الصدفي ، عن سهل بن سعد الساعدي قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقتري فقال : " الحمد لله ، كتاب الله واحد ، وفيكم الأحمر ، وفيكم الأبيض ، وفيكم الأسود ، اقرءوا قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم يتعجل أجره ولا يتأجله " اهـ .

ومنها ما رواه الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن شبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به " ، قال الشوكاني رحمه الله في " نيل الأوطار " في هذا الحديث : قال في مجمع الزوائد : رجال أحمد ثقات .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #128  
قديم 26-11-2021, 03:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (126)

سُورَةُ هُودٍ (4)
صـ 181 إلى صـ 185


ومنها ما أخرجه الأثرم في سننه عن أبي رضي الله عنه قال : كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة ، قد احتبس في بيته أقرئه القرآن ، فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة ، [ ص: 181 ] فحاك في نفسي شيء فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن كان ذلك الطعام طعامه وطعام أهله فكل منه ، وإن كان يتحفك به فلا تأكله " ا هـ بواسطة نقل ابن قدامة في " المغني " والشوكاني في " نيل الأوطار " .

فهذه الأدلة ونحوها تدل على أن تعليم القرآن والمسائل الدينية لا يجوز أخذ الأجرة عليه .

وممن قال بهذا : الإمام أحمد في إحدى الروايتين ، وأبو حنيفة ، والضحاك بن قيس ، وعطاء .

وكره الزهري ، وإسحاق تعليم القرآن بأجر .

وقال عبد الله بن شقيق : هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت .

وممن كره أجرة التعليم مع الشرط : الحسن ، وابن سيرين ، وطاوس ، والشعبي ، والنخعي ، قاله في " المغني " ، وقال : إن ظاهر كلام الإمام أحمد جواز أخذ المعلم ما أعطيه من غير شرط .

وذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، وهو مذهب مالك ، والشافعي .

وممن رخص في أجور المعلمين : أبو قلابة ، وأبو ثور ، وابن المنذر .

ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال : التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين ، ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة ، ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء فيلقى الله تعالى بأمانات الناس ، التعليم أحب إلي .

وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة لا للتحريم ، قاله ابن قدامة في " المغني " .

واحتج أهل هذا القول بأدلة ، منها ما رواه الشيخان ، وغيرهما من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة ، فقالت : يا رسول الله ، إني قد وهبت نفسي لك ، فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " هل عندك من شيء تصدقها إياه ؟ " ، فقال : ما عندي إلا إزاري ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :

" إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك " ، فالتمس شيئا . فقال : ما أجد شيئا ، فقال : " التمس ولو خاتما من حديد " ، فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " هل معك من القرآن شيء ؟ " قال نعم ، سورة كذا وكذا يسميها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد [ ص: 182 ] زوجتكها بما معك من القرآن " ، وفي رواية " قد ملكتكها بما معك من القرآن "
فقالوا : هذا الرجل أباح له النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل تعليمه بعض القرآن لهذه المرأة عوضا عن صداقها ، وهو صريح في أن العوض على تعليم القرآن جائز ، وما رد به بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من أنه صلى الله عليه وسلم زوجه إياها بغير صداق إكراما له لحفظه ذلك المقدار من القرآن ، ولم يجعل التعليم صداقا لها - مردود بما ثبت في بعض الروايات في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : " انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن " وفي رواية لأبي داود " علمها عشرين آية وهي امرأتك " .

واحتجوا أيضا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس : " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " ، قالوا : الحديث وإن كان واردا في الجعل على الرقيا بكتاب الله فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، واحتمال الفرق بين الجعل على الرقية وبين الأجرة على التعليم ظاهر .

قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن الإنسان إذا لم تدعه الحاجة الضرورية فالأولى له ألا يأخذ عوضا على تعليم القرآن ، والعقائد ، والحلال ، والحرام ، للأدلة الماضية ، وإن دعته الحاجة أخذ بقدر الضرورة من بيت مال المسلمين ; لأن الظاهر أن المأخوذ من بيت المال من قبيل الإعانة على القيام بالتعليم لا من قبيل الأجرة .

والأولى لمن أغناه الله أن يتعفف عن أخذ شيء في مقابل التعليم للقرآن ، والعقائد ، والحلال والحرام ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين الآية ، ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أمر نبيه نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : أن يحمل في سفينته من كل زوجين اثنين ، وبين في سورة قد أفلح المؤمنون أنه أمره أن يسلكهم - أي يدخلهم - فيها .

فدل ذلك على أن فيها بيوتا يدخل فيها الراكبون ، وذلك في قوله فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين [ 23 \ 27 ] ، ومعنى اسلك أدخل فيها من كل زوجين اثنين ، تقول العرب : سلكت الشيء في الشيء : أدخلته فيه ، وفيه لغة أخرى وهي : أسلكته فيه ، رباعيا بوزن : أفعل ، والثلاثية لغة القرآن ، كقوله : فاسلك فيها من كل زوجين اثنين الآية [ 23 \ 27 ] ، وقوله اسلك يدك في جيبك الآية [ 28 \ 32 ] ، وقوله : كذلك سلكناه في قلوب المجرمين الآية [ 26 \ 200 ] ، وقوله : [ ص: 183 ] كذلك نسلكه في قلوب المجرمين الآية [ 15 \ 12 ] ، وقوله : ما سلككم في سقر الآية [ 74 \ 42 ] ، ومنه قول الشاعر :


وكنت لزاز خصمك لم أعدد وقد سلكوك في يوم عصيب
ومن الرباعية قول عبد مناف بن ربع الهذلي :


حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي أن أصل السلك الذي هو الخيط فعل بمعنى مفعول كذبح بمعنى مذبوح ، وقتل بمعنى مقتول ; لأن الخيط يسلك أي يدخل في الخرز لينظمه ، كما قال العباس بن مرداس السلمي :


عين تأوبها من شجوها أرق فالماء يغمرها طورا وينحدر
كأنه نظم در عند ناظمة تقطع السلك منه فهو منتثر
والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وأهلك إلا من سبق عليه القول الآية ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أمر نوحا أن يحمل في السفينة أهله إلا من سبق عليه القول ، أي سبق عليه من الله القول بأنه شقى ، وأنه هالك مع الكافرين .

ولم يبين هنا من سبق عليه القول منهم ، ولكنه بين بعد هذا أن الذي سبق عليه القول من أهله هو ابنه وامرأته .

قال في ابنه الذي سبق عليه القول : ونادى نوح ابنه وكان في معزل يابني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين [ 11 \ 42 ] إلى قوله وحال بينهما الموج فكان من المغرقين [ 11 \ 43 ] ، وقال فيه أيضا : قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح الآية [ 11 \ 46 ] ، وقال في امرأته : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح إلى قوله مع الداخلين [ 66 \ 01 ] .
قوله تعالى : وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم .

ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن نبيه نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أمر أصحابه الذين قيل له احملهم فيها أن يركبوا فيها قائلا : بسم الله مجراها ومرساها [ 11 \ 41 ] ، أي : بسم الله يكون جريها على وجه الماء ، وبسم الله يكون منتهى سيرها وهو رسوها .

وبين في " سورة الفلاح " : أنه أمره إذا استوى على السفينة هو ومن معه أن يحمدوا [ ص: 184 ] الله الذي نجاهم من الكفرة الظالمين ، ويسألوه أن ينزلهم منزلا مباركا ، وذلك في قوله : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين [ 23 \ 28 ، 29 ] .

وبين في " سورة الزخرف " ما ينبغي أن يقال عند ركوب السفن وغيرها بقوله : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [ 43 \ 12 - 14 ] ، ومعنى قوله مقرنين ، أي : مطيقين ، ومنه قول عمرو بن معدي كرب :


لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا
وقول الآخر :


ركبتم صعبتي أشر وجبن ولستم للصعاب بمقرنينا
وقول ابن هرمة :


وأقرنت ما حملتني ولقلما يطاق احتمال الصد يا دعد والهجر
قوله تعالى : وهي تجري بهم في موج كالجبال الآية .

ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن السفينة تجري بنوح ومن معه في ماء عظيم ، أمواجه كالجبال .

وبين جريانها هذا في ذلك الماء الهائل في مواضع أخر ، كقوله : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية [ 69 \ 11 ، 12 ] ، وقوله : ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر [ 54 \ 11 - 15 ] .

وبين في موضع آخر : أن أمواج البحر الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه كالجبال أيضا بقوله : فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم [ 26 \ 36 ] ، والطود : الجبل العظيم .
قوله تعالى : ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا الآية .

لم يبين هنا أمره الذي نجى منه هودا والذين آمنوا معه عند مجيئه ، ولكنه بين في مواضع أخر : أنه الإهلاك المستأصل بالريح العقيم التي أهلكهم الله بها فقطع دابرهم ، كقوله : [ ص: 185 ] وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ 51 \ 41 ، 42 ] .

وقوله : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما الآية [ 69 \ 6 ، 7 ] .

وقوله : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر [ 54 \ 19 ، 20 ] .

وقوله : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي الآية [ 41 \ 16 ] .
قوله تعالى : فلما جاء أمرنا نجينا صالحا الآية .

وبين هذا الأمر الذي جاء بقوله : وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود [ 11 \ 67 ، 68 ] ، ونحوها من الآيات .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #129  
قديم 26-11-2021, 03:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (127)

سُورَةُ هُودٍ (5)
صـ 186 إلى صـ 190

قوله تعالى : ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما الآية .

لم يبين هنا ما المراد بهذه البشرى التي جاءت بها رسل الملائكة إبراهيم ولكنه أشار بعد هذا إلى أنها البشارة بإسحاق ويعقوب في قوله : وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [ 11 \ 71 ] ; لأن البشارة بالذرية الطيبة شاملة للأم والأب ، كما يدل لذلك قوله : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين [ 37 \ 112 ] .

وقوله : قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم [ 51 \ 28 ] ، وقوله : قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ، وقيل : البشرى هي إخبارهم له بأنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط ، وعليه فالآيات المبينة لها كقوله هنا في هذه السورة : قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط الآية [ 11 \ 70 ] .

وقوله : قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط الآية [ 15 \ 58 ، 59 ] .

وقوله : قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين [ 51 \ 32 ، 33 ] ، وقوله : ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين [ 29 \ 31 ] .

والظاهر : القول الأول ، وهذه الآية الأخيرة تدل عليه ; لأن فيها التصريح بأن إخبارهم بإهلاك قوم لوط بعد مجيئهم بالبشرى ; لأنه مرتب عليه بأداة الشرط التي هي " لما " كما [ ص: 186 ] ترى .
قوله تعالى : فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم لما سلم على رسل الملائكة وكان يظنهم ضيوفا من الآدميين أسرع إليهم بالإتيان بالقرى وهو لحم عجل حنيذ أي منضج بالنار ، وأنهم لما لم يأكلوا أوجس منهم خيفة فقالوا لا تخف وأخبروه بخبرهم .

وبين في " الذاريات " : أنه راغ إلى أهله ، أي مال إليهم فجاء بذلك العجل وبين أنه سمين ، وأنه قربه إليهم ، وعرض عليهم الأكل برفق فقال لهم : ألا تأكلون [ 51 \ 27 ] ، وأنه أوجس منهم خيفة وذلك في قوله : هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة الآية [ 51 \ 24 - 28 ] .

تنبيه

يؤخذ من قصة إبراهيم مع ضيفه هؤلاء أشياء من آداب الضيافة : منها تعجيل القرى ; لقوله : فما لبث أن جاء بعجل حنيذ [ 11 \ 69 ] .

ومنها كون القرى من أحسن ما عنده ; لأنهم ذكروا أن الذي عنده البقر وأطيبه لحما الفتي السمين المنصح .

ومنها تقريب الطعام إلى الضيف .

ومنها ملاطفته بالكلام بغاية الرفق ، كقوله ألا تأكلون [ 51 \ 27 ] .

ومعنى قوله نكرهم [ 11 \ 70 ] ، أي : أنكرهم لعدم أكلهم ، والعرب تطلق نكر ، وأنكر بمعنى واحد ، وقد جمعهما قول الأعشى :


وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وروي عن يونس : أن أبا عمرو بن العلاء حدثه : أنه صنع هذا البيت وأدخله في شعر الأعشى ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : قالت ياويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب .

بين الله جل وعلا في هذه السورة الكريمة ما قالته امرأة إبراهيم لما بشرت بالولد وهي [ ص: 187 ] عجوز ، ولم يبين هنا ما فعلت عند ذلك ، ولكنه بين ما فعلت في " الذاريات " بقوله : فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم [ 51 \ 29 ] ، وقوله : في صرة ، أي : ضجة وصيحة ، وقوله : فصكت وجهها ، أي : لطمته .
قوله تعالى : وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ، لم يبين هنا ما جادل به إبراهيم الملائكة في قوم لوط ، ولكنه أشار إليه في " العنكبوت " بقوله : قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته الآية [ 29 \ 31 ، 32 ] .

فحاصل جداله لهم أنه يقول : إن أهلكتم القرية وفيها أحد من المؤمنين أهلكتم ذلك المؤمن بغير ذنب ، فأجابوه عن هذا بقولهم نحن أعلم بمن فيها الآية [ 29 \ 32 ] .

ونظير ذلك قوله : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 \ 35 ، 36 ] .
قوله تعالى : يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود .

هذا العذاب الذي صرح هنا بأنه آت قوم لوط لا محالة وأنه لا مرد له بينه في مواضع متعددة ، كقوله في هذه السورة الكريمة : فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد [ 11 \ 82 ، 83 ] .

وقوله في " الحجر " : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين [ 15 \ 74 ، 75 ] .

وقوله : ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء الآية [ 25 \ 40 ] .

وقوله : ثم دمرنا الآخرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين [ 26 \ 172 ، 173 ] .

وقوله : لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين [ 51 \ 33 ، 34 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب .

ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن لوطا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، لما جاءته رسل ربه من الملائكة حصلت له بسبب مجيئهم مساءة عظيمة ضاق صدره بها ، وأشار في مواضع متعددة إلى أن سبب مساءته وكونه ضاق بهم ذرعا ، وقال هذا يوم عصيب : أنه ظن أنهم ضيوف من بني آدم ، كما ظنه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، وظن أن قومه ينتهكون حرمة ضيوفه فيفعلون بهم فاحشة اللواط ; لأنهم إن علموا بقدوم [ ص: 188 ] ضيف فرحوا واستبشروا به ليفعلوا به الفاحشة المذكورة ، فمن ذلك قوله هنا : وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال ياقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد [ 11 \ 78 ، 79 ] .

وقوله في " الحجر " : وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [ 15 \ 67 - 72 ] .

وقوله : يهرعون [ 11 \ 78 ] ، أي : يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك ، ومنه قول مهلهل :


فجاءوا يهرعون وهم أسارى تقودهم على رغم الأنوف
وقوله : ولا تخزون ، أي : لا تهينون ولا تذلون بانتهاك حرمة ضيفي ، والاسم منه : الخزي بكسر الخاء وإسكان الزاي . ومنه قول حسان في عتبة بن أبي وقاص :


فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق
وقال بعض العلماء : قوله : ولا تخزون [ 15 \ 69 ] من الخزاية ، وهي الخجل والاستحياء من الفضيحة ، أي لا تفعلوا بضيفي ما يكون سببا في خجلي واستحيائي ، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورا وحشيا تطارده الكلاب في جانب حبل من الرمل :


حتى إذا دومت في الأرض راجعه كبر ولو شاء نجى نفسه الهرب
خزاية أدركته بعد جولته من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب
يعني أن هذا الثور لو شاء نجا من الكلاب بالهرب ، ولكنه استحيا وأنف من الهرب فكر راجعا إليها ، ومنه قوله الآخر :


أجاعلة أم الثوير خزاية على فراري أن لقيت بني عبس
والفعل منه : خزي يخزى ، كرضي يرضى ، ومنه قول الشاعر :


من البيض لا تخزى إذا الريح ألقعت بها مرطها أو زايل الحلى جيدها
وقول الآخر :


وإني لا أخزى إذا قيل مملق سخي وأخزى أن يقال بخيل
[ ص: 189 ] وقوله : لعمرك معناه : أقسم بحياتك ، والله جل وعلا له أن يقسم بما شاء من خلقه ، ولم يقسم في القرآن بحياة أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك من التشريف له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى .

ولا يجوز لمخلوق أن يحلف بغير الله ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " .

وقوله : لعمرك ، مبتدأ خبره محذوف ، أي لعمرك قسمي ، وسمع عن العرب تقديم الراء على اللام في لعمرك ، فتقول فيها : رعملك ، ومنه قول الشاعر :


رعملك إن الطائر الواقع الذي تعرض لي من طائر لصدوق
وقوله : لفي سكرتهم [ 15 \ 72 ] ، أي : عماهم وجهلهم وضلالهم ، والعمه : عمى القلب ، فمعنى يعمهون [ 15 \ 72 ] : يترددون متحيرين لا يعرفون حقا من باطل ، ولا نافعا من ضار ، ولا حسنا من قبيح .

واختلف العلماء في المراد بقول لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : هؤلاء بناتي [ 11 \ 78 ] في الموضعين على أقوال :

أحدها : أنه أراد المدافعة عن ضيفه فقط ، ولم يرد إمضاء ما قال ، وبهذا قال عكرمة ، وأبو عبيدة .

الثاني : أن المراد بناته لصلبه ، وأن المعنى : دعوا فاحشة اللواط وأزوجكم بناتي ، وعلى هذا فتزويج الكافر المسلمة كان جائزا في شرعه ، كما كانت بنات نبينا صلى الله عليه وسلم تحت الكفار في أول الإسلام كما هو معروف ، وقد أرسلت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدها الذي زفتها به أمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها إلى زوجها أبي العاص بن الربيع ، أرسلته إليه في فداء زوجها أبي العاص المذكور لما أسره المسلمون كافرا يوم بدر ، والقصة مشهورة ، وقد عقدها الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله في غزوة بدر :

وابن الربيع صهر هادي الملة إذ في فداه زينب أرسلت بعقدها الذي به أهدتها له خديجة وزففتها سرحه بعقدها وعهدا إليه أن يردها له غدا إلخ . . . القول الثالث : أن المراد بالبنات : جميع نساء قومه ; لأن نبي القوم أب ديني لهم ، [ ص: 190 ] كما يدل له قوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم [ 33 \ 6 ] وفي قراءة أبي بن كعب : " وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " وروي نحوها عن ابن عباس ، وبهذا القول قال كثير من العلماء .

وهذا القول تقربه قرينة وتبعده أخرى ، أما القرينة التي تقربه فهي : أن بنات لوط لا تسع جميع رجال قومه كما هو ظاهر ، فإذا زوجهن لرجال بقدر عددهن بقي عامة رجال قومه لا أزواج لهم ، فيتعين أن المراد عموم نساء قومه ، ويدل للعموم قوله : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم [ 26 \ 165 ، 166 ] ، وقوله : أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء [ 27 \ 55 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

وأما القرينة التي تبعده : فهي أن النبي ليس أبا للكافرات ، بل أبوة الأنبياء الدينية للمؤمنين دون الكافرين ، كما يدل عليه قوله : النبي أولى بالمؤمنين الآية [ 33 \ 6 ] .

وقد صرح تعالى في " الذاريات " : بأن قوم لوط ليس فيهم مسلم إلا أهل بيت واحد وهم أهل بيت لوط ، وذلك في قوله : فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 \ 36 ] .
قوله تعالى : قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك .

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن نبيه لوطا وعظ قومه ونهاهم أن يفضحوه في ضيفه ، وعرض عليهم النساء وترك الرجال ، فلم يلتفتوا إلى قوله ، وتمادوا فيما هم فيه من إرادة الفاحشة ، فقال لوط : لو أن لي بكم قوة الآية [ 11 \ 80 ] ، فأخبرته الملائكة بأنهم رسل ربه ، وأن الكفار الخبثاء لا يصلون إليه بسوء .

وبين في القمر أنه تعالى طمس أعينهم ، وذلك في قوله : ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر [ 54 \ 37 ] .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #130  
قديم 26-11-2021, 03:48 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (128)

سُورَةُ هُودٍ (6)
صـ 191 إلى صـ 195


قوله تعالى : فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه أمر نبيه لوطا أن يسري بأهله بقطع من الليل ، ولم يبين هنا هل هو من آخر الليل ، أو وسطه أو أوله ، ولكنه بين في " القمر " أن ذلك من آخر الليل وقت السحر ، وذلك في قوله : إلا آل لوط نجيناهم بسحر [ 54 \ 34 ] ، ولم يبين هنا أنه أمره أن يكون من ورائهم وهم أمامه ، ولكنه بين ذلك في [ ص: 191 ] " الحجر " بقوله : فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون [ 15 \ 65 ] ، وقوله تعالى : ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم [ 11 \ 81 ] ، قرأه جمهور القراء إلا امرأتك ، بالنصب ، وعليه فالأمر واضح ; لأنه استثناء من الأهل ، أي أسر بأهلك إلا امرأتك فلا تسر بها ، واتركها في قومها فإنها هالكة معهم .

ويدل لهذا الوجه قوله فيها في مواضع : كانت من الغابرين [ 29 \ 32 ، 33 ] ، والغابر : الباقي ، أي من الباقين في الهلاك .

وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير : إلا امرأتك بالرفع على أنه بدل من أحد ، وعليه فالمعنى : أنه أمر لوطا أن ينهى جميع أهله عن الالتفات إلا امرأته فإنه أوحي إليه أنها هالكة لا محالة ، ولا فائدة في نهيها عن الالتفات لكونها من جملة الهالكين .

وعلى قراءة الجمهور فهو لم يسر بها ، وظاهر قراءة أبي عمرو ، وابن كثير : أنه أسرى بها والتفتت فهلكت .

قال بعض العلماء : لما سمعت هدة العذاب التفتت ، وقالت : واقوماه ، فأدركها حجر فقتلها .

قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر أن وجه الجمع بين القراءتين المذكورتين أن السر في أمر لوط بأن يسري بأهله هو النجاة من العذاب الواقع صبحا بقوم لوط ، وامرأة لوط مصيبها ذلك العذاب الذي أصاب قومها لا محالة ، فنتيجة إسراء لوط بأهله لم تدخل فيها امرأته على كلا القولين ، وما لا فائدة فيه كالعدم ، فيستوي معنى أنه تركها ولم يسر بها أصلا ، وأنه أسرى بها وهلكت مع الهالكين .

فمعنى القولين راجع إلى أنها هالكة ، وليس لها نفع في إسراء لوط بأهله ، فلا فرق بين كونها بقيت معهم ، أو خرجت وأصابها ما أصابهم .

فإذا كان الإسراء مع لوط لم ينجها من العذاب ، فهي ومن لم يسر معه سواء ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله : فأسر بأهلك [ 11 \ 81 ] ، قرأه نافع وابن كثير : " فاسر " بهمزة وصل ، من سرى يسري ، وقرأه جمهور القراء : فأسر بأهلك بقطع الهمزة ، من أسرى الرباعي على وزن أفعل ، وسرى وأسرى : لغتان وقراءتان صحيحتان سبعيتان ، ومن سرى الثلاثية ، قوله تعالى : والليل إذا يسري [ 89 \ 4 ] ، فإن فتح ياء يسر يدل على أنه مضارع سرى [ ص: 192 ] الثلاثية .

وجمع اللغتين قول نابغة ذبيان :


أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليها جامد البرد
فإنه قال : أسرت ، رباعية في أشهر روايتي البيت ، وقوله : سارية ، اسم فاعل " سرى " الثلاثية ، وجمعهما أيضا قول الآخر :


حتى النضيرة ربة الخدر أسرت إليك ولم تكن تسري
بفتح تاء " تسري " واللغتان كثيرتان جدا في كلام العرب ، ومصدر الرباعية الإسراء على القياس ، ومصدر الثلاثية السرى بالضم على وزن فعل بضم ففتح على غير قياس ، ومنه قول عبد الله بن رواحة :


عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى


قوله تعالى : إن موعدهم الصبح .

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن موعد إهلاك قوم لوط وقت الصبح من تلك الليلة ، وكذلك قال في " الحجر " في قوله : وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين [ 15 \ 66 ] ، وزاد في " الحجر " أن صبيحة العذاب وقعت عليهم وقت الإشراق ، وهو وقت طلوع الشمس بقوله : فأخذتهم الصيحة مشرقين .
قوله تعالى : وأمطرنا عليها حجارة من سجيل الآية .

اختلف العلماء في المراد بحجارة السجيل اختلافا كثيرا ، والظاهر أنها حجارة من طين في غاية الشدة والقوة ، والدليل على أن المراد بالسجيل : الطين ، قوله تعالى في " الذاريات " في القصة بعينها : لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين [ 51 \ 33 ، 34 ] ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن . والدليل على قوتها وشدتها : أن الله ما عذبهم بها في حالة غضبه عليهم إلا لأن النكال بها بالغ شديد ، وأيضا فإن بعض العلماء قالوا : السجيل والسجين : أختان ، كلاهما الشديد من الحجارة والضرب . ومنه قول ابن مقبل :


ورجلة يضربون البيض ضاحية ضربا تواصى به الأبطال سجينا
وعلى هذا ، فمعنى من سجيل ، : أي من طين شديد القوة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وما هي من الظالمين ببعيد .

في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه من التفسير للعلماء : اثنان منها كلاهما يشهد له القرآن ، وواحد يظهر أنه ضعيف .

أما الذي [ ص: 193 ] يظهر أنه ضعيف فهو أن المعنى : أن تلك الحجارة ليست بعيدة من قوم لوط ، أي لم تكن تخطئهم .

قاله القرطبي ، وغيره ; لأن هذا يكفي عنه قوله تعالى : وأمطرنا عليها حجارة [ 11 \ 82 ] ونحوها من الآيات . أما الوجهان اللذان يشهد لكل واحد منهما قرآن :

فالأول منهما : أن ديار قوم لوط ليست ببعيدة من الكفار المكذبين لنبينا ، فكان عليهم أن يعتبروا بما وقع لأهلها إذا مروا عليها في أسفارهم إلى الشام ، ويخافوا أن يوقع الله بهم بسبب تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما وقع من العذاب بأولئك ، بسبب تكذيبهم لوطا عليه الصلاة والسلام ، والآيات الدالة على هذا كثيرة جدا . كقوله : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 ، 138 ] ، وقوله : وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين [ 15 \ 76 ، 77 ] ، وقوله : وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم [ 51 \ 37 ] ، وقوله : ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ 29 \ 35 ] إلى غير ذلك من الآيات . وعلى هذا القول فالضمير في قوله : وما هي راجع إلى ديار قوم لوط المفهومة من المقام .

الوجه الثاني أن المعنى : وما تلك الحجارة التي أمطرت على قوم لوط ببعيد من الظالمين للفاعلين مثل فعلهم ، فهو تهديد لمشركي العرب كالذي قبله .

ومن الآيات الدالة على هذا الوجه قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] ، فإن قوله : وللكافرين أمثالها ظاهر جدا في ذلك ، والآيات بنحو ذلك كثيرة .
تنبيه

اختلف العلماء في عقوبة من ارتكب فاحشة قوم لوط ، وسنذكر إن شاء الله أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم وما يظهر رجحانه بالدليل من ذلك فنقول وبالله جل وعلا نستعين :

قال بعض العلماء : الحكم في ذلك : أن يقتل الفاعل والمفعول به مطلقا سواء كانا محصنين أو بكرين ، أو أحدهما محصنا والآخر بكرا .

وممن قال بهذا القول : مالك بن أنس ، وأصحابه ، وهو أحد قولي الشافعي ، وإحدى الروايتين عن أحمد . وحكى غير واحد إجماع الصحابة على هذا القول ، إلا أن القائلين به اختلفوا في كيفية قتل من فعل تلك الفاحشة .

[ ص: 194 ] قال بعضهم : يقتل بالسيف .

وقال بعضهم : يرجم بالحجارة .

وقال بعضهم : يحرق بالنار .

وقال بعضهم : يرفع على أعلى بناء في البلد فيرمى منه منكسا ويتبع بالحجارة .

وحجة من قال بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط مطلقا ما أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والحاكم ، والبيهقي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " .

قال ابن حجر : ورجاله موثقون ، إلا أن فيه اختلافا اهـ .

وما ذكره يحيى بن معين من أن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ينكر عليه حديث عكرمة هذا عن ابن عباس ، فيه أن عمرا المذكور ثقة ، أخرج له الشيخان ومالك كما قدمناه مستوفى .

ويعتضد هذا الحديث بما رواه سعيد بن جبير ، ومجاهد ، عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية : أنه يرجم . أخرجه أبو داود ، والنسائي ، والبيهقي .

وبما أخرجه الحاكم ، وابن ماجه ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا " قال الشوكاني : وإسناده ضعيف .

قال ابن الطلاع في أحكامه : لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط ، ولا أنه حكم فيه ، وثبت عنه أنه قال : " اقتلوا الفاعل والمفعول به " رواه عنه ابن عباس ، وأبو هريرة . اهـ .

قال الحافظ : وحديث أبي هريرة لا يصح ، وقد أخرجه البزار من طريق عاصم بن عمر العمري ، عن سهيل ، عن أبيه ، عنه ، وعاصم متروك . وقد رواه ابن ماجه من طريقه بلفظ : " فارجموا الأعلى والأسفل " اهـ .

وأخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه : أنه رجم لوطيا ، ثم قال : قال الشافعي : وبهذا نأخذ برجم اللوطي محصنا كان أو غير محصن .

وقال : هذا قول ابن عباس ، قال : وسعيد بن المسيب يقول : السنة أن يرجم اللوطي أحصن أو لم يحصن .

وقال البيهقي أيضا : وأخبرنا أبو نصر بن قتادة ، وأبو بكر محمد بن إبراهيم الفارسي ، [ ص: 195 ] قالا : ثنا أبو عمرو بن مطر ، ثنا إبراهيم بن علي ، ثنا يحيى بن يحيى ، أنبأ عبد العزيز بن أبي حازم ، أنبأ داود بن بكر ، عن محمد بن المنكدر ، عن صفوان بن سليم أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في خلافته يذكر له : أنه وجد رجلا في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة ، وأن أبا بكر رضي الله عنه جمع الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ذلك ، فكان من أشدهم يومئذ قولا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، قال : إن هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم ، نرى أن تحرقه بالنار ، فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار ، فكتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه يأمره أن يحرقه بالنار . هذا مرسل .

وروي من وجه آخر عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه في غير هذه القصة قال : يرجم ويحرق بالنار .

ويذكر عن ابن أبي ليلى ، عن رجل من همدان : أن عليا رضي الله عنه رجم رجلا محصنا في عمل قوم لوط ، هكذا ذكره الثوري عنه مقيدا بالإحصان . وهشيم رواه عن ابن أبي ليلى مطلقا . اهـ منه بلفظه .

فهذه حجج القائلين بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط .

وحجة من قال : إن ذلك القتل بالنار هو ما ذكرناه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا .

وحجة من قال : إن قتله بالسيف قوله صلى الله عليه وسلم : " فاقتلوا الفاعل والمفعول به " ، والقتل إذا أطلق انصرف إلى القتل بالسيف .

وحجة من قال : إن قتله بالرجم هو ما قدمنا من رواية سعيد بن جبير ، ومجاهد ، عن ابن عباس : أنه يرجم ، وما ذكره البيهقي ، وغيره عن علي أنه رجم لوطيا ، ويستأنس لذلك بأن الله رمى أهل تلك الفاحشة بحجارة السجيل .

وحجة من قال : يرفع على أعلى بناء ، أو جبل ويلقى منكسا ، ويتبع بالحجارة : أن ذلك هو الذي فعله الحكيم الخبير بقوم لوط ، كما قال : جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 272.98 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 267.09 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (2.16%)]