النفاق والمنافقين - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تحقيق الإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 72 )           »          اليأس والقنوط وآثاره في حياة المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          الزمهرير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          محبة النبي صلى الله عليه وسلم ولوازمها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          ألفاظ ينبغي الحذر منها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          التحذير من هجر القرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 88 )           »          فقه التعامل مع ازدحام السيارات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 68 )           »          مشهد تطاير الصحف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          وقفة مع توديع العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 83 )           »          الرضا مستراح العابدين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 389 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 27-08-2024, 12:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,798
الدولة : Egypt
افتراضي النفاق والمنافقين

النفاق والمنافقين (1)

د. أمير بن محمد المدري

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون! نصَب أدلة مخلوقاته، وأقام براهين آياته، وتحبب بنعمه وآلائه. ولكن أكثر الناس لا يعلمون. أحمده سبحانه على ما أولاه من عظيم إنعامه، وما اختصّنا به من معرفته وإكرامه، وهدانا لتوحيده وإسلام الوجه له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله الصادق المأمون. اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين هم بسنته مستمسكون وسلم تسليما كثيراً.

أما بعد عباد الله:
أُوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى الذي ما من غائبةٍ في السماء ولا في الأرض إلا ويعلمها ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فأصلحوا عباد الله بواطنكم كما تهتمون بصلاح ظواهر كم، فإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأجسام، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال.

إخوة الإيمان: إننا نعيش اليوم زماناً انقلبت فيه الموازين، وانعكست فيه المعاييرُ، زمن يسمى فيه العالم جاهلاً، والجاهل عالماً، والبليد الغشاش المزور شاطراً ذكياً، والمخلص المجدّ بليداً، والشريف وضيعاً، والوضيعُ شريفاً، والخائنُ أميناً، والأمينُ خائناً، والفاسد المفسد صالحاً مصلحاً، والصالح المصلح فاسداً مفسداً، والفاسق الفاجر الإباحي متحرراً، والمتحرر المتعفف الحيي مكبوتاً.. واللئيم كريماً، والكريمُ لئيماً، والجبان الراضي بالذِّلَّةِ والمَهانةِ، الساكت عن الجهر بكلمة الحق، المهادنُ للباطل رجلاً رصيناً متعقلاً، والناطق بكلمة الحق، الصامد في وجه الطغيان والاستبدادِ والفسادِ مُتسيِّباً متهوراً متسلِّطاً، والمثقف المبدع شيطاناً، والشيطان المضلل مثقفاً.

وكذلك يُسمى المجاهد إرهابياً، والإرهابي مجاهداً، والمستعمِر المغتصِب بريئاً ومضطهداً، والمستعمَرُ المشرد المقتَّلُ المدافع عن أرضه ووطنه وعرضه مخرباً ومجرماً.

والعاريةُ العارضةُ لعرضها وشرفها، المتبرجة بزينتها في الشوارع، المتمردة على دينها تقدمية، والساترة لجسمها، المحافظة على عرضها، الملتزمة أوامر ربِّها رجعية متخلفة.

والمتمسِّكُ بآداب الإسلام في كل أحواله متطرفاً متعصباً، والمتفلِّتُ المتحللُ من قيود الدين، المبتدع، المعرض عن القرآن والسنةِ، المفسِّر لهما بأهوائه مسلماً معتدلاً.

أيها الإخوة: مصطلحات كثيرة دخلها تشويشٌ وتشويهٌ، والتشويشُ أصبح له (رجالٌ)، وللتشويه وسائلُ كثيرةٌ ومتعددةٌ، مقروءةٌ ومسموعةٌ ومرئيةٌ، ووراءَ كل ذلك كتائبُ وعقولٌ وطاقاتٌ مدرَّبةٌ ومبرمجةٌ وموجَّهةٌ ومزودةٌ بإمكاناتٍ رهيبةٍ تطلق القذائفَ ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساءً.

إننا نعيش هذه الأيامَ زمنَ النفاق، نعيش النفاق بنوعيه: الأكبرُ وهو الاعتقادي، والأصغرُ وهو العملي.

لقد ذاق المسلمون صنوف الأذى من هؤلاء المنافقينَ المُنْدَسِّينَ في صفوفهم منذ ظهور الدولة الإسلامية بقيادة محمد - صلى الله عليه وسلم - وحتى يومِنا هذا.

والله تبارك وتعالى صنَّف عباده في أول سورة البقرة إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين، وأنزل في ذلك عشرين آية في أول هذه السورة.

منها ثلاثُ آياتٍ في وصف المؤمنين، وآيتان في وصف الكافرين، وثلاث عشرة آية في وصف المنافقين، بيَّن فيها أحوالهم، وكشف أسرارهم، وصور طبائعَهم ونفسياتِهم وطريقةَ تفكيرهم ومنطقَهم.

وقد تحدّث القرآن عن المنافقين في مواضعَ كثيرة. وفي سورٍ عديدةٍ، وأكثر ما تحدث عنهم في سورة التوبة، حتى سُميت الفاضحة، لأنها فضحتِ المنافقين وكشفت أحوالَهم وبَيَّنَتْ أسرارَهم ودواخلَهم وخُطَطَهم، ثم خُصِّصَتْ سورة بأكملها للمنافقين، كشفت أيضًا أسرارَهم وأساليبَهم، وبينت شيئًا من خُطَطِهِم، سمِّيَتْ سورة المنافقين.

كلُّ هذا لتحذير المجتمع المسلم من خطر هذا العدو الهدّام الذي يحاربهم من داخلهم، ويسعى إلى تدميرهم خِلسةً وخُفيةً، حتى لا تراه الأعينُ، ولكن يجب أن تكتشفه البصائر.

إن أهمَّ سِمَةٍ وأخطرَ صفةٍ لهذا العدو الهدَّام المدمر هي صفة الخفاء، فهو داخلَ المجتمع المسلم، يُظْهِرُ التعاطفَ معه، ويُخْفِي كفرَه وعداوتَه معه في باطنِه، فالمكرُ والخداعُ والكذبُ هي أساليبه وأدواته، لكن إذا سنحتِ الفرصة ووجد ثغرةً ينفذ منها لضربِ المسلمين فإنه يكون حينئذ أشدَّ قسوةً ووحشيةً ونكايةً للمؤمنين من أي عدو مجاهر، قال تعالى: ﴿ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 8].

إن النفاق مرضٌ خطير وخزيٌ كبير، إنه داءٌ مهلك، ما فشا في أمة من الأمم إلا كان نذير دمارها وخرابها وسبيل شقائها وعذابها، وما حل في نفس إلا كان دليلاً على مهانتها وضياع مكانتها وعزتها وفقدان شرفها وشهامتها، والنفاق عارٌ في الدنيا، ونار في الآخرة، قال المولى تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 145].

وقال الله تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67].

والنفاق على نوعين إما اعتقادي ومعناه الكفر، وهو أن يظهر العبد الإيمان بالله واليوم الآخر وهو لا يؤمن بهما، وإما سلوكي وهو من أعظم الذنوب وعلاماته مبينة في الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان» [متفق عليه].

وقد أجمع العلماء على أن المنافقين هم أشد خطراً على الإسلام من الكفار لأن الكافر واضح فتحذره، أما المنافق فهو مع المسلمين في صلاتهم وتجمعهم ومع الكافرين في كيدهم للإسلام وأهله، ويكون عارفاً بعورات المسلمين ومواضع ضعفهم.

عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

عباد الله:
النفاق مبني على الكذب والمسلم مأمور أن يكون صادقاً واضحاً صريحاً لا يخاف في الله لومة لائم، ففي إسلامنا نتعلم الرجولة، وقول الحق أمام الظلمة والطغاة قال - صلى الله عليه وسلم -: «سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله» [تحقيق الألباني (حسن) انظر حديث رقم (3675) في صحيح الجامع.]، وقال بأبي وأُمي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تودع منها» [أخرجه أحمد (2/163، 190) عن عبد الله بن عمرو.].

وفي إسلامنا نتعلم قول الحق في صحبتنا، للأثر: (إذا صحب الرجل أخاه ساعة من ليل أو نهار، إلا سُئل يوم القيامة أقام حق الله فيها أم ضيع؟) يقول عمر رحمه الله: (رحم الله امرأً أهدى إلى أخيه عيوبه)، فليس في إسلامنا مجاملة ولا تغاضي ولا سكوت عن الحق لمراعاة مشاعر الآخرين، إن كان في مراعاتها انتهاك لحرمات الله أو منهجه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» [صحيح مسلم: كتاب الإيمان (49) عن أبي سعيد رضي الله عنه.]..

والمسلم يتوخّى الصدق حتى في تعامله مع الأطفال ومزاحه: «رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة تُنادي على طفل لها: تعال أعطيك؟ فقال: وما تعطيه؟ قالت: تمرة، قال: والله لو لم تكن لكُتبت عليك كذبة» [رواه أحمد في المسند (3/447)، وأبو داود في الأدب].

والمنافقون لم يكن لهم وجود في مكة حيث الإسلام محارب والرسول مضطهد، ومن يبايعه كان يبايعه على الموت، وإنما ظهر المنافقون في أجواء العافية في المدينة، وكانوا يعتذرون عن الجهاد بأعذار واهية يبررون به كذبهم وجبنهم.

وأما سمات المنافقين:
أولاً: التثاقل في أداء الطاعات، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142]، وهم يتثاقلون عن صلاتين بيّنها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا» [متفق عليه]، يقول ابن عمر رضي الله عنهما: كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن. فكيف لا وهي السبيل إلى الفوز بالنظر إلى وجه الله الكريم في الآخرة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم سترون ربكم كرؤيتكم القمر لا تُضامونفي رؤيته (أي لا تشكون) فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» [متفق عليه].

ثانياً: نقض العهد:
الإنسان لا يستقيم على حال واحد كما قال تعالى: ﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ﴾ [الانشقاق: 19]، فرخاءٌ بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقر بعد غنى، وصحة بعد سقم، وسقم بعد صحة، وعلى العبد أن يكون صابرًا في الضراء شاكرًا في العافية، وهذا رجل يسمى ثعلبة الصحيح أنه ليس ممن شهد بدراً لم يصبر على فقره وقال: «يا رسول الله أُدعو الله أن يرزقني مالًا فقال له: «يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه»، فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأوتين كل ذي حق حقه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: « اللهم أرزق ثعلبة مالاً»، فأتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة، فنزل أحد أوديتها حتى ترك الصلاة إلا الجمعة ثم ترك الجمعة فلما آن أوان الزكاة، بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - من يجمعها فنظر في كتاب رسول الله فقال: والله إنها الجزية والله إنها لأخت الجزية، اذهبوا فلا أعطي شيئا»، عاد الرسل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعوه يقرأ قول الله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 75 - 77].

وحديث ثعلبة يرويه ابن جرير كما في مختصر ابن كثير، وفي أمتنا الكثير الكثير من أمثال ثعلبة ازداد عطاء الله لهم فازدادوا بُخلا وطغيانًا وكفرًا، بل وإنفاقًا لها فيما حرّم الله ورسوله.

عباد الله: هذا شيءٌ من صفات المنافقين التي ذكرها الله تعالى في كتابه المبين، ليبيّن للمؤمنين حتى يحذروا من النفاق وصفات المنافقين ويعرفوا أعداءهم حقيقة، إن المنافقين شرٌ على الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى والكافرين، وذلك لأن أولئك قد أعلنوا الكفر،، فالمؤمنون جميعاً يدركون عداوتهم ويتكتلون ضدهم، وأي فرد منا يتعاون معهم يُتهم بالخيانة، أما حين يكون منافقاً فإنه لا يدرك عداوته وخطره على الأمة إلا القليل من المسلمين وحينما يتولى المنافقون السلطة على المسلمين ويعملون أيديهم في المخلصين منهم قتلاً وتشريداً لا ينكر ذلك إلا القليل من المؤمنين، وسائر المسلمين إما جاهل بخطرهم على الإسلام والمسلمين، وإما عالم بذلك ولكنه يداهنهم لمصلحته الخاصة دفعاً لشرهم أو رجاء خيرهم، ومن هنا كان المنافقون أخطر على الأمة الإسلامية فيما إذا تولوا شيئاً من السلطة عليه مما إذا تولاها الكفار..

هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 27-08-2024, 12:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,798
الدولة : Egypt
افتراضي رد: النفاق والمنافقين

النفاق والمنافقين (2)

د. أمير بن محمد المدري


الحمدُ لله اللطيف الذي بلطفه تنكشف الشدائد، الرؤوف الذي برأفته تتواصل النعم والفوائد، وبحُسن الظن به تجري الظنون على أحسن العوائد، وبالتوكل عليه يندفع كيدُ كل كائد، وبالقيام بأوامره ونواهيه تحتوي القلوبُ على أجلِّ العلوم والفوائد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي له في كل شيء آيةٌ تدل على أنه واحد. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب الأصل الماجد، الذي انشق له القمر وحنّت إليه الجوامد. اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الطاهرين، وسلم تسليما كثيرًا.

أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حقّ التقوى وراقبوه في السر والعلن.

أيها المؤمنون: ما زلنا وإياكم مع النفاق والمنافقين أولئك الذين كادوا للمسلمين المكائد وتربصوا بهم الدوائر، وكم همّوا بما لم ينالوا ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 9].

لم يرتضوا الإسلام دينًا ولا الكفر الصريح مبدًا، فكانوا مذبذبين بين الكفار والمؤمنين، قال تعالى عنهم: ﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ﴾ [النساء: 143].

المنافقون يبغضون المؤمنين ويتولون الكافرين، اتصفوا بحُسن الظاهر، فإن رُؤوا أعجبوا وإن قالوا أحسنوا، قال عنهم عز وجل:﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ [المنافقون: 4].

المنافقون امتلأت قلوبهم على الإسلام والمسلمين غِلا وحقدًا، استبدلوا الضلالة بالهدى والبصيرة بالعمى، والكفر بالإيمان والحياة الدنيا بالآخرة، فبئس ما يصنعون. قال تعالى عنهم: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 16].

المنافقون قلوبهم قاسية وعقولهم قاصرة، هم شجعان لكن في السلم فإذا جد الجد لاذوا بغيرهم ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المنافقون: 4].

المنافقون يخدمون الكفار ويتجسسون على المؤمنين، ويخذلونهم عن النصرة، وإذا شاركوهم أحدثوا الخلل والاضطراب في صفوفهم، فيهم يأس من رحمة الله.

المنافقون يلجأون في طلب النصر إلى الأعداء، يستغلون الفرصة المناسبة للطعن في دعاة الإسلام المخلصين وتشويه سمعتهم عن طريق الكذب وتغيير الحقائق.

المنافقون يستغلون الفرص لإيثار الشبهات ونشر الشهوات يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، قال تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67].

المنافقون ينقدون الإسلام وشريعة الإسلام، ينشدون التفسخ الأخلاقي بزعمهم تحرير المرأة، يرغبون في أن تفسخ المرأة حياءها، وأن يحل المجتمع رباط الأخلاق باسم الترفيه والسياحة أو عبر مسلسلات تهدم الدين والخلق، والعجيب أنهم يحلفون أنهم يريدون الخير للأمة قال تعالى: ﴿ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 107].

النفاق.. كلمة قبيحة بلا شك.. ولقبحها هرب الناس منها واستبدلوها بكلمات جذابة كالمجاملة، والتعامل الدبلوماسي، والمرونة، والسياسة. وغير ذلك من الكلمات التي نسمعها كل يوم. وهي في الحقيقة ليست سوى أغلفة برَّاقة للنفاق تستر عورته، وتبرر للناس التعامل به.

إن النفاق داءٌ عضال، وانحراف خُلُقي خطير في حياة الأفراد، والمجتمعات، والأمم، فخطره عظيم، وشرور أهله كثيرة.

عباد الله:
إذا نظرنا إلى النفاق نظرة فاحصة لوجدته طبخة شيطانية مركبة من جُبنٍ شديد، وطمع بالمنافع الدنيوية العاجلة، وجحود للحق، وكذب، ولك أن تتخيل ما ينتج عن خليط كهذا!. وإذا نظرنا إلى النفاق في اللغة لوجدناه من جنس الخداع والمكر، وإظهار الخير وإبطان الشر.

سمع حذيفة رضي الله عنه رجلًا يقول: اللهمَّ أهلك المنافقين، فقال له: يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالكين!

المنافقون هُم أسوأ الناس سيرةً، وأقبحهم سريرةً، ومنهم طائفة مردة على النفاق وتمرّست عليه، حتى خفي أمرُها على أعلم الناسِ وأتقاهم؛ رسول الهدى- صلى الله عليه وسلم - فقال الله له: ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ [التوبة: 101].

المنافقون طائفة لا تعمل إلى في الظلام، ولا تجيدُ إلاَّ زُخرفَ القول ومعسول الكلام، يهدمون الإسلام باسم الإسلام، ويمدون أيديهم للعدو وهم له في غايةِ الذُّل والاستسلام: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 13].

أمَّا إن سألتم عن حقيقتهم فهُم أصنافٌ شتىَّ: فمنهم كُتّاب وكاتبات يستغلون المصائب والنكبات للطعن في الدين، والتشكيكِ فيه ممثلًا في أهله. يلمزون الإسلام والمسلمين، يغمزون ويلمزون الدعاة إلى الله والجهاد والمقاومة، ومنهم من يُسمّون بالمفكرين والمثقفين، ومنهم من ينتسبُ إلى أهل العلم وهُم منهُ براء، ومنهم ساسة وحُكام ومسؤولون، ومنهم إعلاميون لهم قنوات ومجلات تضع السُم في العسل وتنشر الأفكار المسمومة والثقافة الغربية، ومنهم ومنهم.... ولو قرأنا سورة التوبة لوجدنا العجب العُجاب من صفاتهم وأخلاقهم، لا حتى قال أحد الصحابة: «كانت تنزل سورة التوبة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها ومنهم ومنهم حتى خشينا أن نكون منهم». وعن الحسن: «ما خاف النفاق ـ إلا مؤمن ولا أمِنه إلا منافق».


وعن المعلى بن زياد قال: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد: «بالله الذي لا إله إلا هو، ما مضى مؤمن قطّ ولا بقي إلا هو من النفاق مُشفِق، ولا مضى منافق قطّ ولا بقي إلا هو من النفاق آمن»[ أخرجه الفريابي في صفة المنافق (87)].

عباد الله:
المتأمل للتاريخ يُدرك أن أعظم المصائب التي حلّت بالمسلمين أفرادًا ومجتمعات ودولًا، إنما حلّت بهم عن طريق النفاق والمنافقين.

واليوم نُقلّب بعض أوراق التاريخ، ونتأمل في بعض صفحاتها لنأخذ العبرة والعظة، ولنُدرك خطورة هذه الشرذمة على الأمة.

أما في عهد النبوة فهل نسيتم ما فعل المنافقون في غزوة أُحد يوم قام عبد الله بن أبي رأس النفاق بسحب ثُلثَ الجيش وعاد بهم إلى المدينة، وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدهم عبد الله بن حرام رضي الله عنه ليردهم وقال لهم: تعالوا قاتلوا أو ادفعوا، فأبوا الرجوع، قال تعالى عنهم: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ ﴾ [آل عمران: 167].

هل نسيتم ما فعله المنافقون في غزوة المريسيع سنة ستٍ من الهجرة على المريسيع وهو ماء لبني المصطلق. بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الماء _ بعد الغزوة _ وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عون بن الخزرج على الماء فاقتتلا، أي _ تخاصما _ فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبيّ بن سلول، وعنده رهط من قومه، وفيهم زيد بن أرقم غلام حدث، فقال: «أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا. والله ما مثلنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك!! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل»، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: «هذا ما فعلتم بأنفسكم: أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم».

فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك عند فراغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عدوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: مُرْ به عباد بن بشر فليقتله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؟ ولكن أذّن بالرحيل». وذلك في ساعة لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتحل فيها. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول الذي كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت لابدّ فاعلًا فمُرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علِمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرَّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بل نترفق به ونُحسن صحبته ما بقي معنا».

هل نسيتم ما فعله المنافقون لمّا أراد النبيّ إجلاءَ بني النضير قال المنافقون لهم: ﴿ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الحشر: 11]، يأمرونهم بالبقاءِ ومحاربةِ الإسلام وأهله، ولكنّ اللهَ قذف الرعبَ في قلوبهم، فخرَج أولئك، وتخلّى عنهم المنافقون في أحرجِ الساعات والمضايق.

وفي غزوة تبوك قال قتادة: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوته إلى تبوك وبين يديه أُناس من المنافقين فقالوا: يرجو هذا الرجل أن تُفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات، فأَطْلَعَ الله نبيه على ذلك فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: «احبسوا هؤلاء الركب»، فأتاهم فقال: قلتم كذا وقلتم كذا، قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم ما تسمعون: ﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [التوبة: 64، 65].

والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء موبخًا ومنكرًا: ألم تجدوا ما تستهزئون به في مزاحكم ولعبكم - كما تزعمون- سوى فرائض الله وأحكامه وآياته ورسوله الذي جاء لهدايتكم وإخراجكم من الظلمات إلى النور؟! ثم بيّن - سبحانه- أن استهزاءهم هذا أدى بهم إلى الكفر فقال: ﴿ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [التوبة: 66].

وقد ذكر ابن كثير أن الضحاك قال: إن نفرًا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في غزوة تبوك في بعض الليالي في حال السير وكانوا بضعة عشر رجلا نزلت في هؤلاء المنافقين قول الله تعالى: ﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ ﴾ [التوبة: 74].

و بعد عهد النبوة، عهد الخلافة الراشدة. تُوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وتولى الخلافة أبو بكر رضي الله عنه، ومع أن مُدة خلافته كانت قصيرة لكنه شُغل رضي الله عنه واستغرق جهده في مُدة حكمه بفئام ممن كُتم نفاقهم وأُسكت صوتهم أيام تَنزُّل الوحي، حيث كانوا دائمي الخوف، وهذا سر انقماعهم، إنه الخوف من تنزل القرآن بأخبارهم وأسرارهم، قال تعالى: ﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 64].

فلما أمِنوا تجدُّد ذلك التنزيل بوفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - استعلنوا بالنوايا، وأظهروا الطوايا، وكشفوا عن نفاقٍ كان مستورًا وجهروا بالامتناع عن ركن الإسلام الثالث وهو الزكاة، منعوا الزكاة التي كانوا يؤدونها كُرهًا على عهد الرسالة، قال تعالى: ﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 98].

وبدأت هذه الفتنة صغيرة في إطار هؤلاء المحيطين بالمدينة، حتى توسعت كنار الهشيم بعد أن تحولت من نفاق مستتر إلى رِدَّة مُعلنة استوعبت أرجاء الجزيرة، حتى لم يبق على الإسلام في تلك الجزيرة التي وحَّدها محمد - صلى الله عليه وسلم - على صحيح الدين إلا أهل المسجدين، فقد بدأ الأمر بشُبهة أثاروها حيث قالوا عن الزكاة: "كنا نؤديها لمن كانت صلاته سكنٌ لنا" متذرعين بقول الله: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]. فقام الصديق وأعلنها مدوية: «والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة». وطارد أبو بكر رضي الله عنه المرتدين في أرجاء الجزيرة حتى ردها كلها إلى الإسلام.

وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه خنس النفاق وانقمع، وكيف لا يكون الأمر كذلك وهو الذي فرّق الله به بين الحق والباطل، وهو الذي كان إذا سلك فجًا سلك الشيطان فجًا غيره؟! ومع هذا فإنه قُتل رضي الله عنه بتواطؤ المجوسي أبي لؤلؤة مع رجلين آخرين كان أحدهما من أمراء الممالك الفارسية ويدعى الهُرمزان، وقد أعلن إسلامه بين يدي عمر رضي الله عنه نفاقًا والآخر يُدعَى جُفينة وقد مات على النصرانية، فتمكن النفاق أن يطعن خنجره في خليفة المسلمين وهو يصلي بالمسلمين، ليَلقَى الله شهيدًا.

وأما في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه فقد تحرك النفاق بصورة لم يسبق لها زمن صاحبيه، تمثّل في عبد الله بن سبأ وجماعته حيث أظهر ذلك الرجل اليهودي الملقب (بابن السوداء) الإسلام في زمن عثمان وانطلى نفاقه على كثيرين، واجتمع على نفاقه الكثيرون، فبدأ ينشط في الشام والعراق ومصر زاعمًا النصح للمسلمين، وهو لا يريد إلا تفريق صفوفهم وبث الخلاف بينهم، وتجمع حوله أشباهه من المنافقين، وبدأوا فتنتهم بالتنادي بلا حياء بعزل من كان يستحي منه رسول الله عثمان رضي الله عنه. وتأثر بذلك بعض الصادقين من المؤمنين الذين شوشت عليهم دعايات المنافقين وتهويلاتهم، وصدق الله إذ قال عن شأن المسلمين مع المنافقين: ﴿ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 47].

وبعدها نشبت الفتنة ودب الصراع، فكانت الثورة وكانت المصيبة التي انتهت بقتل عثمان رضي الله عنه بعد أن حاصروه في بيته مُدة أربعين يومًا، وقتله المجرمون وأَسالوا دمه مفرَّقًا على المصحف الذي جمع الأمة عليه، ولم يكن يدور بخلَد أحد من أهل الإسلام أن تتطور فتنة النفاق السبئي لتصل إلى ما وصلت إليه، حيث استغل المنافقون فرصة انصراف أكثر الصحابة إلى مكة للحج، ليسيطروا على المدينة ويتسلموا مقاليدها فاتحين بذلك باب الفتنة التي لم تُغلق بعد ذلك.

بويع علي رضي الله عنه بالخلافة، وباتت ظلال المصيبة مُخيمة على الأجواء، واختلطت مشاعر الحزن بمشاعر الغضب حتى استحالتا إلى رغبة في الانتقام ثم عزيمة على الثأر بمن قتل عثمان ا، وأخذ بعض المسلمين القميص الذي قُتل فيه عثمان مُلطخًا بدمه، ووضعوه على منبر المسجد بالشام حيث كان هناك معاوية ابن عم عثمان وواليه على الشام، فاعتبر معاوية نفسه ولي دم عثمان، وندب الناس للأخذ بثأره ممن قتلوه، وانضم لهذا الطلب جمع من الصحابة، وألحَّ صحابة آخرون على علي رضي الله عنه في المدينة أن يقيم الحدود على قتَلَة عثمان، فلم يمتنع رضي الله عنه عن ذلك، وتبرأ من قتل عثمان وقَتَلَته ولعنهم، ولكنه طلب التمهل حتى تستقر الأمور لأن القوم كانت لا تزال لهم شوكة في المدينة بعد أن توافدوا إليها من الأمصار، فأراد أن يداريهم حتى يتمكن منهم.

فتحرك المنافقون الذين يزعجهم استقرار مجتمعات المسلمين وتوحّد كلمتُهم، ونشبت بسببهم ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ الحرب بين علي ومعاوية رضي الله عن الجميع، وازداد سعيرها بقتال المسلمين بعضهم بعضًا في طائفتين دعواهما واحدة، وقُتل من المسلمين خلق كثير فُجع لأجلهم علي رضي الله عنه حتى تمنى لو كان مات قبل أن يرى ذلك، هذه المعركة التي قُتل فيها نحو عشرة آلاف من الطرفين منهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام المبشريْن بالجنة.

عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

عباد الله: إنه النفاق والذي بسببه حصلت بين المسلمين موقعتي صفين والجمل، فاضطر علي رضي الله عنه لقتالهم في آخر الأمر بعد أن بارزوه بالعداوة والشقاق، وأوقع بهم هزيمةً نكراء في موقعة النهروان التي قُتل فيها نحو أربعة آلاف خارجي.

وهل انتهت فتنة النفاق عند هذا؟ لا، لم يتركوه رضي الله عنه، بل كان مقتله هو أيضًا على أيديهم حيث قتله الأثيم عبد الرحمن بن ملجَم، وهكذا تمكن المنافقون من قتل الخليفة الثاني عمر، والخليفة الثالث عثمان، والخليفة الرابع علي رضي الله عن الجميع.

أيها المسلمون، لقد كان للنفاق دور بارز في إسقاط الخلافة العباسية في حادثة من أبشع حوادث التاريخ ذكرها بتفاصيلها وآلامها الحافظ ابن كثير – رحمه الله - في البداية والنهاية، ملخصها:
أن المستعصم بالله محمد بن الظاهر كان هو الخليفة السابع والثلاثين من خلفاء بني العباس، بويع بالخلافة سنة 639 ه بعد وفاة أخيه المستنصر بالله عبدالله بن الظاهر. وكان للمستعصم وزير يسمى محمد بن محمد بن أبي طالب المشهور بابن العلقمي، وكان منافقًا خبيثًا استطاع بإظهاره الصلاح والتقوى التقرب إلى السلطان حتى صار وزيرًا للخليفة، وهذا هو شأن المنافقين في كل وقت، فإنهم يحرصون على مثل هذه المناصب ليحققوا من خلالها ما يريدون. كتب هذا المنافق كتابًا إلى هولاكو ملك التتار يبدي له استعداده أن يُسلّمه بغداد وأن يزيل خلافة المسلمين إذا حضر بجيوشه إليها، وكان التتار قد هُزموا في عهد المستنصر بالله وقُتل منهم خلق كثير، وكان هذا العلقمي يريد ويهدف إلى محو أهل السنة وإقامة دولة فاطمية رافضية مكانها. فكتب هولاكو لابن العلقمي بأن عساكر المسلمين على بغداد كثيرة، فإن كنت صادقًا فيما قلت لنا وداخلًا تحت طاعتنا ففرِّق العسكر، فإذا عملت ذلك حضرنا.

فلما وصل كتاب هولاكو إلى الوزير ابن العلقمي دخل على المستعصم وزيّن له أن يُسرّح خمسة عشر ألف فارس من عسكره، لأنه لا داعي لهذا العدد الضخم الآن، ولأن التتار قد رجعوا إلى بلادهم، ولا حاجة لتحميل الدولة رواتب هؤلاء العساكر، ولثقة الخليفة بوزيره كما هي العادة، استجاب الخليفة لرأيه وأصدر قرارًا عسكريًا بتسريح خمسة عشر ألف عسكري، فخرج ابن العلقمي ومعه الأمر، واستعرض الجيش واختار تسريح أفضلهم، وأمرهم بمغادرة بغداد وكل ملحقاتها الإدارية، وفرقهم في البلاد. وبعد عدة أشهر زيّن هذا المنافق للخليفة مرة أخرى أن يسرّح أيضًا عشرين ألفًا، واستجاب الخليفة له وأصدر أمرًا بذلك، ففعل ابن العلقمي مثلما فعل في المرة الأولى، وانتقى أفضل الفرسان فسرّحهم، وكان هؤلاء الفرسان الذين انتقاهم بقوة مائتي ألف فارس. فأصبح عدد جيش بغداد لا يزيد على عشرة آلاف جندي بعد أن كانوا نحو مائة ألف جندي.

ولما أتم مكيدته كتب إلى هولاكو بما فعل، فركب هولاكو وقدم بجيشه إلى بغداد، وأحس أهل بغداد بمداهمة جيش التتار لهم فاجتمعوا وتحالفوا وخرجوا إلى ظاهر المدينة وقاتلوا ببسالة وصبر حتى حلت الهزيمة بجيش التتار مرة أخرى، وتبعهم المسلمون وأسروا منهم، وعادوا مؤيدين منصورين ومعهم الأسرى ورؤوس القتلى ونزلوا في خيامهم مطمئنين، فأرسل المنافق الرافضي ابن العلقمي جماعة من أصحابه ليلًا فحبسوا مياه دجلة، ففاض الماء على عساكر بغداد وهم نائمون في خيامهم وصارت معسكراتهم مغمورة ومحاطة بالوحل، وغرقت خيولهم وأمتعتهم وعتادهم بالوحل، والناجي منهم من أدرك فرسًا فركبه وخرج من معسكر الوحل.

وكان ابن العلقمي قد أرسل إلى هولاكو يُعلمه بمكيدته ويدعوه أن يرجع بجيوشه فقد هيأ له الأمر بما يحقق له ولجيوشه الظفر، فعاد هولاكو بجيوشه وعسكر حول بغداد، ولمّا أصبح الصباح دخل جيش التتار بغداد ووضعوا السيف في أهلها وجعلوا يقتلون الناس كبارًا وصغارًا، شيوخًا وأطفالًا، ودخلوا على الخليفة فاحتملوه هو وولده وأحضروهما إلى ملك التتار هولاكو، فأخرجهما هولاكو إلى ظاهر بغداد ووضعهما في خيمة صغيرة، ثم أمر عسكره بقتلهما ضربًا بالأرجل، فوضعوا الخليفة في كيس وقتلوه رفسًا، ثم دخل التتار دار الخلافة فسلبوا ما فيها وصاروا يقتلون كل من يشاهدون من أهل مدينة بغداد حتى بلغ القتلى ألفي ألف نفس ـ أي مليوني قتيل ـ واستمر التتار أربعين يومًا وهم يقتلون في الناس فما تركوا أحدًا. قال ابن كثير – رحمه الله - بأن القتل استمر أربعين يومًا في بغداد، فصارت بعد الأربعين خاوية على عروشها، ليس فيها أحد إلاّ الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلال، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح فاجتمع على الناس الوباء والفناء والطعن والطاعون فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولما نودي بالأمان في بغداد خرج عدد من الناس ممن قد اختبأ تحت الأرض ليَسلم من القتل وبعضهم حفر المقابر ودخل فيها، فلما نُودي بالأمان خرج من تحت الأرض ومن المقابر أُناس كأنهم الموتى إذا نُبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضًا، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، فلما خرج هؤلاء أصابهم الوباء المنتشر بسبب تلوث الهواء فماتوا على الفور.

يقول ابن كثير: وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى، بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.

وبمقتل المستعصم بالله انتهت الخلافة في بغداد وسقطت الدولة بفعل هذا المنافق. استدعى هولاكو ابن العلقمي ليكافئه، فحضر بين يديه، وهولاكو رجل ذكي يعلم خطورة هذا الصنف من البشر، والذي خان غيره قد يخونه، فقال له: لو أعطيناك كل ما نملك ما نرجو منك خيرًا، وأنت مخالف لملتنا، فإنك لم تحسن لأهل ملتك، فما نرى إلاّ أن نقتلك. ثم أمر بقتله فقُتل شر قتلة.

هكذا النفاق، يقوض أركان الدول إذا لم يُنتبه له، وهذه أحد حيل المنافقين في التخريب والإفساد وهو إدخال العدو إلى داخل الدولة المسلمة، والتمكين له بالعبث داخل المجتمع المسلم، حتى ينهار ذلك المجتمع أو تسقط تلك الدولة.

وإدخال العدو للبلد قد يكون حسيًا، كما فعل ابن العلقمي وذلك بإدخاله مباشرة بقضّه وقضيضه ليمارس هو الإفساد والقتل مباشرة، والقضاء على المسلمين بسرعة. أو يكون معنويًا فيكون القتل بطيئًا وذلك بإدخال فكره وثقافته وترويجها بين الناس ونشرها عن طريق الطابور الخامس، وهم المنافقون والشهوانيون والعلمانيون، فيقومون هؤلاء بتهيئة الجو وخلخلة الثوابت والأسس حتى يتحلل المجتمع تدريجيًا ويتمكن العدو مما يريد بطريقة غير مباشرة، لعب فيها النفاق دورًا بارزًا وكبيرًا.

فنسأل الله جل وتعالى أن يكفينا شر المنافقين والظالمين، وأن يحفظ بلاد المسلمين من شرورهم ونفاقهم وخداعهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.

هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 13-09-2024, 01:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,798
الدولة : Egypt
افتراضي رد: النفاق والمنافقين

النفاق والمنافقين (3)

د. أمير بن محمد المدري



الحمدُ لله الذي من اعتصم بحبل رجائه وفقه وهداه، ومن لجأ إليه حفظه ووقاه، ومن تواضع له رفعه وحماه. أحمده سبحانه على ما أعطى من الإنعام وأولاه، وأشكره على ما خوّله بفضله وأسداه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف الله بصفاته ولم يعامل أحدًا سواه. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله إلى خلقه بالتوحيد وأوصاه بتقواه، وعن طاعة الكفار والمنافقين حذّره ونهاه. اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين عضوا على سنته بالنواجذ وتمسكوا بهداه. وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق تقاته واعلموا أن من اتقى الله وقاه. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

عباد الله: مع اللقاء الثالث والأخير، مع النفاق والمنافقين.

اقتضت حكمة العليم الحكيم -سبحانه وتعالى - في ابتلاء عباده المؤمنين أن جعل على طريق الخير أُناسًا يصدّون الناس عنها، ويدعونهم إلى غيرها، كما جعل على طريق الشر دعاة إليها، يرغبون الناس فيها، فمن أطاعهم قذفوه في النار، ومن عصاهم كان من أهل الجنة.

والذين يصدون عن الخير، ويدعون إلى الشر، منهم طائفة بينةٌ واضحةٌ، تُعلن محادتَها لله - تعالى - ولشريعته، وتصرّح بدعوتها دون تلوّن ولا التواء، وهي الطائفة الأكثر من ضُلاّل البشر، وهي الأقوى شوكة، والأمضى عزيمة في معسكر الكفر والضلال.

قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 116]. وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]. ﴿ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 17].

ومنهم طائِفة هي أقلُّ منها عددًا، وأضعف قوة، ولكنها أشدّ فتكًا وخطرًا من الأولى، رغم قلَّتها وضعفها؛ لأنها خفية لا تبين، ومستترة لا تظهر.

إنها طائفة المنافقين، التي انتدبت نفسها لمهمة خسيسة حقيرة، تجمعُ الرذائل كلَّها من الكفر والجبنِ والكذبِ والغشِّ والخداعِ والفسادِ والإفساد. طائفة تعيش في صفوف المؤمنين، وتأكلُ من زادهم، وتنعم بحمايتهم، وتتبادل المصالح معهم؛ ولكن قلوب أصحابها مع الكافرين، وإخلاصهم لهم، وعملهم من أجلهم.

ولخطورة هذه الطائفة على المسلمين؛ فإن القرآن بادر على الفور إلى التحذير منها أشد من تحذيره من الكافرين.

المنافقون إن رأوا في المسلمين قوة استتروا بالإسلام، وانقلبوا إلى وعاظ، وإن رأوا في المسلمين ضعفًا انقلبوا عليهم، وانتقدوا شريعتهم، واستمعوا رحمكم الله - تعالى - إلى قول الله تعالى فيهم، فإنه منطبق عليهم في هذا العصر، يقول - سبحانه -: ﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النساء: 141].

إنهم مع القوي، ومع المصلحة الآنية، مع من يدفع أكثر وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينه بعرض الدنيا» [أخرجه مسلم في صحيحه]، ولقد نهاهم النبيون والعلماء، والدعاة والمصلحون عن الإفساد في الأرض، فيزعمون الصلاح والإصلاح ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 11]، وهل بعد النفاق فساد وإفساد؟!..

إنهم مفسدون في الأرض، يسعون لتخريب كل بذرة خير، وكل نبتةٍ طيبة، وبعد هذا كله، يزعمون أنهم مُصلحون، أبرار.

إنها والله معجزة، نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - تخبر عن صفة من صفات المنافقين، نراها اليوم ماثلة أمام أعيننا، وكأن القرآن يحدثنا عن منافقي هذا العصر، الذين يُنهون عن الفساد في الأرض فيزعمون الصلاح ويقولون: ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 11].

أليس المنافقون في هذا العصر يظاهرون الكافرين على المؤمنين، ويرفضون من أحكام الشريعة ما لا يوافق أهواءهم وأهواء الذين كفروا؟

أليسوا يريدون إفساد المرأة، وتفكيك الأسرة، واختلاط الرجال بالنساء؟

أليسوا باسم الحريات يطالبون بإباحة الزنا والخمور وسائر المحرمات؟

أليسوا ينادون بتغريب المجتمعات المسلمة، ويطالبونها بالتخلي عن دينها وثقافتها وأخلاقها، ويجعلون ذلك عنوان التقدم والرقي والحضارة؟!

ويزعمون أنهم مصلحون، وأنهم وطنيون مخلصون لأوطانهم، وأنهم ما أرادوا إلا سعادة أمتهم ورقيّها ورفاهيتها! تلك هي أقوالهم وكتاباتهم!!

إن المنافقين ظلوا طوال السنين - ولا يزالون - يُظهرون النصح للأمة في أثواب قومية، أو شعارات وطنية، فلما كان الجدّ والمواجهة وجدناهم أول من تخلى عن الأوطان، وباعها بثمن بخس للأعداء؛ وهم في هذا كله يخدعون الذين آمنوا، ويظهرون أنهم معهم وهم مع أعدائهم: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]. وشياطينهم هم أعداء الذين آمنوا من أي دين ومذهب. وهذا من مخادعتهم للمؤمنين، ومن خيانتهم العظمى للأمة ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 15]. والله تعالى يُملي لهم، فيحققون بعض ما يريدون من السوء والشر؛ حتى يستدرجهم بذلك، فيُرديهم ويهلكهم.

عباد الله: من رفض شيئًا من شريعة الله - تعالى - من أجل هواه، أو رأيٍ رآه فإنه يُخشى عليه من النفاق ولو كان من المصلِّين؛ لأن من سمات المنافقين رفضهم لشريعة الله سبحانه.

أيها المسلمون: فتح الله باب التوبة للناس أجمعين، ولن تُغلق باب التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها.

وفتح الله باب التوبة حتى للمنافقين ولكن يلزم هؤلاء المنافقين عند توبتهم الإصلاح مقابل ما قاموا به من الفساد والإفساد في الأرض، كما يلزمهم الاعتصام بالله تعالى وإخلاص الدين لله سبحانه. قال الله الخبير سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 145، 146].

عباد الله:
أصول هذا النفاق ترجع إلى أربع خصال وهي المذكورة في الحديث كما روى مسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدّث كذب واذا عاهد غدر واذا وعد أخلف واذا خاصم فجر».


أول هذه الخصال والصفات الكذب في الحديث: «إذا حدّث كذب» والكذب في الحديث يشمل الكذب عن الله ورسوله: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الأنعام: 21]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» [أخرجه البخاري: كتاب العلم باب إثم من كذب على النبى صلى الله عليه وسلم 1/ 36، مسلم كتاب الزهد باب التثبت في الحديث 18 / 129].

ومن الكذب على الله ورسوله أن يقول هذا حلال وهذا حرام من غير دليل عن الله ورسوله، ويشمل ذلك أيضًا الكذب فيما يُخبر به من الأخبار ويُحدّث به الناس، فمن كان هذا شأنه فقد هبط عن رتبة الصادقين إلى دَرَك الكاذبين وسيجُرّه كذبه هذا إلى الفجور، وسيجُرّه الفجور إلى النار. فلا تتساهلوا في شأن الكذب- أيها المسلمون - فإن قليله يجر إلى كثيره ومن أكثر من شيء عُرف به.

الزموا الصدق فإن من لزم الصدق نجا قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، وقال تعالى: ﴿ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [المائدة: 119].

الخصلة الثانية من خصال المنافق أنه: «إذا اؤتمن خان» أي إذا كانت عنده أمانة من الأموال أو الحقوق أو الأسرار أضاعها ولم يحفظها، فأكل الوديعة أو جحدها، أو أهدر الحقوق وأفشى الأسرار. وإذا ولى عملًا من أعمال المسلمين تلاعب فيه بالمحاباة وأخذ الرشوة وتعطيل مصالح المسلمين.

الخصلة الثالثة من خصال المنافق أنه: «إذا عاهد غدر» فهو ينكث العهود التي بينه وبين الله والعهود التي بينه وبين الخلق، فلا يفي بالعهد الذي أمر الله بالوفاء به في قوله تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 34]وقوله: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ﴾ [النحل: 91].

الخصلة الرابعة من خصال المنافق أنه «إذا خاصم فجر» فلا يتورّع عن أموال الخلق وحقوقهم فيخاصم بالباطل ليستولي على حق غيره ويُضللّ الحاكم بشهادة الزور والأَيمان الكاذبة والوثائق المصطنعة، فإذا كان ذا قدرة عند الخصومة فإنه ينتصر للباطل ويخيّل للسامع أنه حق، ويُخرج الحق في صورة الباطل وهذا من أقبح المحرمات وأخبث خصال النفاق.

عباد الله:
من تجمعت فيه هذه الصفات القبيحة: الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة والغدر في العهود والفجور في الخصومات لم يبق معه من الإيمان شيء وصار منافقًا خالصًا؛ فهي بمنزلة الأمراض الخطيرة التي متى تجمّعت في جسدٍ أفسدته وقضت عليه، ومن كانت فيه خصلة واحدة منها فقد اتصف بصفة من صفات المنافقين وصار فيه إيمان ونفاق، فإن استمرت فيه هذه الخصلة الذميمة فهي كفيلة أن تقضي على ما معه من الإيمان، فإنها بمنزلة الداء الخبيث الذي يحل بالجسم فإن لم يسعَ في علاجه وإزالته قضى على الجسد، وإن تاب إلى الله وترك هذه الخصلة الذميمة واتصف بضدها من صفات الإيمان برئ من النفاق وتكامل إيمانه وهذا شأن المسلم.

ومن صفات المنافقين أنهم سفهاء زائفون: يتعالون على الناس، ويعدُّون الإيمان والإخلاص لله- عز وجل - نوعًا من السَّفَاهةِ، لكنَّهُم في حقيقة الأمر.. هم السُّفهاء المنحرفون، قال الله عنهم﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 13].

عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

عباد الله:
ومن صفاتهم أنهم مخادعون متآمرون: فهم أصحاب مكرٍ سيئ، يتصفون بالخسَّة واللُّؤم والجُبن والخبث، يتلوَّنون حسب الظروف، فهم أمام المؤمنين متستِّرون بالإيمان، وأمام الكافرين وشياطين الإنس يخلعون ذلك الستار عن كاهلهم، فيظهرون على حقيقتهم الخسيسة، قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 16]. أليسوا هم الذين ارتضوا لأنفسهم هذا المصيرَ؟!.. ألم يكن الإيمانُ في متناولهم؟!..

ألم يكن الهدى يُلامس قلوبهم وأنفسهم؟!.. فليذوقوا إذن تبعات الظلام الذي ارتضوه لنفوسهم: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [البقرة: 17].

ومن صفاتهم غادرون لا عهد لهم: يعاهدون الله على فعل الخيرات، وعلى الالتزام بما يأمرهم به ربهم، لكنَّ قلوبهم خَواء، وعقولهم هُراء، وشياطينهم متمكّنون من رقابهم، فهم ناقضون لعهد الله- عز وجل -:﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 75 - 77].

ومن صفاتهم أنهم يتولّون الكافرين ويتنكّرون للمؤمنين: زاعمين أنَّ العِزة عند الكافرين، فيسعون لها عندهم، لكنهم لن يجدوها إلا عند الله العزيز الجبَّار: ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 139].

ومن صفاتهم أنهم يفرحون لما يُصيب المؤمنين مِنْ سُوءٍ ومحنةٍ: وكذلك يحزنون لكل خيرٍ أو فرحٍ يمكن أن يحصلَ لأهلِ الإيمانِ والمجاهدين في سبيل الله- عز وجل، قال تعالى: -:﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 120].

ومن صفاتهم أنهم مُرجِفون: فليس لهم من هَمٍّ عند المحن والشدائد إلا الإرجاف، والتخويف، وتثبيط العزائم، وإرهاق الهِمَم..

إنهم السوس الذي ينخر في صفوف المؤمنين، محاولين تحقيق ما لم يستطع العدوُّ تحقيقه في الأمة، فيشقُّون الصفوف، ويُثيرون الفتنة، ويحاولون زعزعة أي تماسكٍ للمؤمنين: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الأحزاب: 12].

ومن صفاتهم أنهم يتولّون يومَ الزحفِ: فعند وقوع المحنة والبلاء، وحين تحين ساعة الاستحقاق.. تراهم أول الفارِّين، وفي طليعة الخائرين الخائفين، يُولُّون الأدبار، ويتوارون عن ساحات النزال الحقيقية، بكل أصنافها وأشكالها وألوانها: ﴿ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الحشر: 11]. ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا ﴾ [التوبة: 47].

ومن صفاتهم أنهم يرفضون الحكم بما أنزل الله ويتحاكمون إلى الطاغوت:
لأن الحكم بما أنزل الله لا يُوافق أهواءهم، ولا يُحقق مآربهم، ولا يستجيب لنزواتهم.. فهم يؤمنون بما أنزل الله _عز وجل_ باللسان والمظهر فحسب، لكنهم لا ينصاعون لحكم الله، بل يصدُّون عنه ويُحاربونه، ويتَّخذون من قوانين البشر الوضعية دينًا لهم، يأتمرون بأمرها، ويلتزمون بها؛ لأنها وحدها تتوافق مع شرورهم ومصالحهم، قال تعالى عنهم: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾ [النساء: 60، 61].

ومن صفاتهم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف: إن أهل النفاق رجالًا ونساءً، يتشابهون في صفاتهم وأخلاقهم وأعمالهم، يأمر بعضهم بعضا بفعل المنكر، كالكذب والخيانة، وإخلاف الوعد، ونقض العهد، وينهون عن فعل الخير والمعروف: كالجهاد، وبذل المال في سبيل الله، ويضنون بالإنفاق في وجوه البر والطاعات والإحسان إلى عبادة الله. قال تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67].

ومن صفاتهم تشويه الحقائق وتحريفها وبث الإشاعات: وهي نقطة مهمة يركز عليها المنافقون، فهم يُظهرون الحقائق الناصعة بمظهر مشوّه، وهذا ما صنعه المنافقون في حادثة الإفك.

وحادثة أخرى قالوا: ما نرى قُرّاؤنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء؛ فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 65، 66]. أطْلَع الله نبيه على مقالاتهم فدعاهم، فقالوا: ﴿ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ﴾ [التوبة: 65] فقال تعالى: ﴿ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [التوبة: 65].

ومن صفاتهم إثارة روح الاختلاف والنزاعات بين المسلمين: إن المنافقين يسعون جاهدين إلى تقطيع الأواصر الإسلامية المتلاحمة وتفتيت القوى المتحدة، وتبديد الطاقات المؤمنة، وإثارة روح الخلافات الجانبية فيما بينها، وهذا ولا شك أسلوب لو قدر له النجاح فإنه سيؤدي إلى هزيمة نكراء تعصف بالمد الإسلامي وتفسح المجال للأعداء الداخليين والخارجيين لكي يستولوا على مقاليد الأمور.

ومن صفاتهم الخبيثة طعنهم في المؤمنين وتشكيكهم في نوايا الطائعين:
قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 79]. هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن عوف وقد تصدّق بأربعة آلاف درهم فقال المنافقون: " ما أعطى إلا رياء وسمعة"، وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر فجاء بهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أصبت صاعين من تمر صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي"، فقال المنافقون: "ألم يكن الله ورسوله غني عن صاع هذا"، وهذا شأن المنافق يسخر من العاملين المنفقين وهو لا يُقدم شيئا من مال أو كلمة طيبة.

ومن صفاتهم صد الناس عن الإنفاق في سبيل الله.. ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ﴾ [المنافقون: 7].

ومن صفاتهم التستر ببعض الأعمال المشروعة للإضرار بالمؤمنين: فلهم مساجد ولهم جمعيات ولهم معاهد لكن الهدف منها الإضرار بالمسلمين والتفريق لصف المسلمين قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا ﴾ [التوبة: 107].

ومن صفاتهم التجسس وخدمة العدو الخارجي: وهذه مهمة أساسية من مهام المنافقين حيث يُقدّمون للعدو الخارجي رضي الله عنه لذي يرتبطون به كل ما يتعلق بنشاطات المسلمين، وتحركاتهم، والشخصيات البارزة، والإمكانيات العسكرية، والخطوط التنظيمية.

عباد الله:
الجنة درجات والنار دركات والمنافقين في أسفلها يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إن المنافق يجعل في تابوت من حديد يصمد عليه ثم يجعل في الدرك الأسفل لأنه ضم إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله».


ويوم القيامة يُحرم المنافقين من النور، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13]. قال الضحاك رحمه الله: «ليس أحد إلا يُعطى نورًا يوم القيامة (أي على قدر أعمالهم)»، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورا فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان النور دليلًا من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم فأظلم الله على المنافقين وضُرب بينهم بسورٍ باطنه الجنة وظاهره النار حيث النفاق والحيرة والشك والعذاب».

هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 111.07 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 108.52 كيلو بايت... تم توفير 2.55 كيلو بايت...بمعدل (2.29%)]