|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) المعاني التي تطلق عليها السنة صــ 2إلى صــ6 الحلقة (1) [القرآن والسنة وحي من الله يجب الأخذ به] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين .أما بعد: [الأدلة من القرآن على أن السنة وحي من عند الله] فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الوحي الثاني بعد القرآن، وهي وحي من الله عز وجل كالكتاب، إلا أن الكتاب تعبد الله تعالى بتلاوته وجعله معجزاً.وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يجب العمل بها والأخذ بما فيها كالقرآن، وهي ليست من عند الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هي من عند الله، قال عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. فكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه العصمة والنجاة، والأخذ به لازم كالأخذ بالقرآن، ولا يجوز أن يفرق بين السنة والقرآن بأن يؤخذ بالقرآن ولا يؤخذ بالسنة، ومن زعم أنه يأخذ بالقرآن ولا يأخذ بالسنة فإنه كافر بالكتاب والسنة؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، ويقول عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، ويقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. فمن زعم أنه يأخذ من الكتاب ولا يأخذ من السنة فقد كفر بمقتضى قول الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه لعن النامصة والمتنمصة، وقال: ما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موجود في كتاب الله، فجاءت إليه امرأة وقالت: يا أبا عبد الرحمن انظر ماذا تقول، فإنك قلت: كذا وكذا، وإنني قرأت المصحف من أوله إلى آخره فما وجدت فيه الذي تقول. قال: إن كنت قرأته فقد وجدته، قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. فالسنة كلها داخلة في قوله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وطاعته عليه الصلاة والسلام لازمة كطاعة الله، ولهذا يقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). [الأدلة من السنة على أنها وحي يجب الأخذ به] وجاء في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث تدل على أن السنة وحي من الله، ومن ذلك حديث أنس الطويل في ذكر فرائض الصدقة التي فرضها الله عز وجل، ثم ذكر أسنان الإبل والغنم، ثم قال: (الفرائض التي فرضها الله عز وجل)، فأضاف فرضها إلى الله تعالى، وهي إنما جاءت في السنة وليست في القرآن، أعني ذكر مقادير الزكاة وأسنان الزكاة من الإبل والبقر والغنم. وكذلك جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء، ثم قال: إلا الدين، سارني به جبريل آنفاً) يعني: أن جبريل ساره باستثناء الدين، وهذا يدل على أن السنة وحي من الله.وكذلك الحديث الذي ذكر فيه قصة الرجل الذي يشتكي بطن أخيه، وقال له عليه الصلاة والسلام: (اسقه عسلاً)، ثم جاء ثانية وثالثة يشتكي، ثم أمره بعد ذلك وقال: (صدق الله وكذب بطن أخيك)، يعني: أن هذا من الله عز وجل وليس منه صلى الله عليه وسلم. [كفر من لم يأخذ بالسنة وبيان بطلان طريقته] من لم يأخذ بالسنة فهو كافر بالكتاب والسنة، ومن أوضح ما يبين ذلك: أن الصلوات الخمس فرضها الله تعالى بركعات معينة، وما جاء عددها في القرآن، فالظهر أربع ركعات، والعصر أربع ركعات، والمغرب ثلاث ركعات، والفجر ركعتان. فالذي يقول: إنه لا يأخذ إلا بالقرآن ولا يأخذ بالسنة كم سيصلي الظهر؟ وكم سيصلي العصر؟ لقد جاء كل ذلك مبيناً في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي من الله، والأخذ بها لازم كالقرآن، ولا يفرق بين السنة والقرآن من حيث العمل والأخذ بمقتضى ما دلت عليه، بل يجب أن يتلقى الإنسان أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ويعمل بها كما يعمل بما جاء في القرآن الكريم؛ لأن الكل وحي من الله سبحانه وتعالى. [حجية خبر الواحد] إن السنة حجة في جميع الأمور وليست حجة في شيء دون شيء، المتواتر منها والآحاد سواء، كل ذلك حجة في العقائد والأحكام والأخلاق والآداب وغير ذلك، وقد جاءت النصوص الكثيرة الدالة على ذلك، منها: كون النبي صلى الله عليه وسلم يبعث الرجل ليعلم الناس أمور دينهم، ويجب على الذين يبعثه إليهم أن يأخذوا بما يأتيهم به من بيان العقائد والعبادات والمعاملات وما إلى ذلك. وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن وقال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أجابوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). فالنبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً إلى اليمن، وأمره بتبليغ الناس أمور دينهم، وقامت الحجة عليهم بذلك في العبادات والمعاملات والعقائد، وأول شيء دعا إليه التوحيد والعقيدة، وما جاء عن الصحابة أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه فرد يحتاج إلى من يعززه، ولابد أن يكون العدد كبيراً، وما جاء عن الذين بعث إليهم أنهم سألوا واستفسروا وقالوا: هل يكفي أن نأخذ بما يأتي عن رجل واحد.وقد جاءت النصوص الكثيرة في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم دالة على الاكتفاء بخبر الواحد، وأنه تقوم به الحجة، ولا يلزم أن يكون الحديث الذي يحتج به متواتراً في العقيدة ودون ذلك في غيرها، بل إن العقائد والعبادات والمعاملات طريقها واحد، وإذا ثبت النص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فإنه حجة في العقيدة والعبادة والمعاملات ولو كان من قبيل الآحاد.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
شرح سنن أبي داود (عبد المحسن العباد) المعاني التي تطلق عليها السنة صــ 7إلى صــ12 الحلقة (2) المعاني التي تطلق عليها السنة [إطلاق السنة بمعنى الطريقة والمنهج] سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلق إطلاقات: فتطلق إطلاقاً عاماً يشمل كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، وحينها يراد بها طريقة الرسول ومنهجه. ومن ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) يعني: من رغب عن الطريقة التي كنت عليها، وهي الأخذ بما في الكتاب وما جاءت به السنة. ولهذا جاء في السنة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم (كان خلقه القرآن)، لأنه كان يتأدب بآدابه، ويتخلق بأخلاقه، ويعمل بما فيه، ولهذا لما نزل قول الله عز وجل: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] قالت عائشة رضي الله عنها: (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة إلا قال في ركوعه: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)، معناه: يطبق القرآن، وينفذ ما جاء به كتاب الله عز وجل.فهذا إطلاق عام يشمل الكتاب والسنة، فكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو سنته. [إطلاق السنة بمعنى الحديث] المعنى الثاني: تطلق السنة إطلاقاً آخر على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما يذكره العلماء من محدثين ومفسرين وفقهاء عندما يذكرون مسألة من المسائل فيقول أحدهم فيها: وهذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع.أما الكتاب فقول الله عز وجل كذا وكذا، وأما السنة فقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا، وأما الإجماع فقد حكى فلان الإجماع على هذا الحكم.فعطف السنة على الكتاب يقتضي أن يكون المراد بها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار معنى السنة هنا أخص من المعنى الأول.فالسنة مطابقة للحديث، وهي التي يعرفها علماء المصطلح بقولهم: هي ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خَلقي أو خُلقي.فما يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول يقوله، أو فعل يفعله، أو عمل يعمل بين يديه ويقره عليه الصلاة والسلام، أو بيان خلقته وصفته صلى الله عليه وسلم، أو أخلاقه الكريمة وسماته الحميدة عليه أفضل الصلاة والسلام؛ كل هذا يقال له سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. [إطلاق السنة على ما يقابل البدعة] المعني الثالث: تطلق السنة إطلاقاً ثالثاً يراد به ما يقابل البدعة، فيقال: سني وبدعي، وسنة وبدعة، ومن ذلك ما يصنعه كثير من المحدثين الذين يؤلفون في العقائد كتباً باسم السنة، مثل السنة لـ عبد الله بن الإمام أحمد، والسنة لـ ابن أبي عاصم، والسنة للطبراني، والسنة للالكائي، والسنة لـ محمد بن نصر المروزي؛ كل هذه الكتب باسم السنة ويراد بها ما يتعلق بالعقيدة مبنياً على سنة ومخالفاً لبدعة، ومنه الكتاب الذي أورده أبو داود في سننه ضمن كتبه الكثيرة حيث جعل ضمن كتاب السنن كتاب السنة، وأورد فيه ما يقرب من مائة وستين حديثاً كلها تتعلق بالعقائد.إذاً: السنة يراد بها ما يقابل البدعة، ولذا يقولون: سني وبدعي، أي: سني يعمل بالسنة، وبدعي يأخذ بما يخالف السنة، كما جاء ذلك في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).فذكر في هذا الحديث الحق والباطل والسنة والبدعة، ورغب في اتباع السنة بقوله: (عليكم)، وحذر من البدع ومن محدثات الأمور بقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة). وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). إذاً: يأتي لفظ السنة بمعنى ما يعتقد على وفق السنة وليس على وفق البدعة. [إطلاق السنة بمعنى المستحب والمندوب] المعنى الرابع: يأتي عند الفقهاء ذكر السنة بمعنى المستحب والمندوب. يقال في كتب الفقه: يسن كذا، أو يستحب كذا، أو يندب كذا.فتأتي السنة مرادفة للمندوب وللمستحب، ففي اصطلاح الفقهاء أن السنة تأتي للمأمور به لا على سبيل الإيجاب وإنما على سبيل الاستحباب، وهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، ويطلبه الشارع طلباً غير جازم، فمن ترك الفعل المسنون لا يعاقب إلا إذا كان الترك رغبة عن السنة وزهداً فيها، فهذا يؤاخذ على ذلك، أما إذا تركه لأنه ليس بواجب وليس رغبة عن السنة، لكنه يقتصر على الواجب ولا يفعل المستحب، فإنه لا يؤاخذ على ذلك.لكن المستحبات والسنن هي كالسياج للفرائض، ومن تهاون بالسنن جره ذلك إلى التهاون بالفرائض، والنوافل تكمل بها الفرائض إذا حصل نقص، كما جاء في الحديث: (أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة الصلاة) وجاء في آخر الحديث نفسه: أنه إذا حصل منه نقص فإنه ينظر إلى ما فعله من النوافل، فيكمل بالنفل ما حصل من النقص في الفرض.فالنوافل مكملة للفرائض وهي كالسياج والحصن الذي يحول دون التساهل بالفرائض؛ لأن من يتساهل بالسنن قد يجره ذلك إلى أن يتساهل في الفرائض، ومن حرص على النوافل فهو على الفرائض أحرص، ومن اشتغل بالنوافل وقصر في الفرائض فهو مخطئ وآثم. وقد قال بعض العلماء: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن اشتغل بالنفل عن الفرض فهو مغرور، كالإنسان يكون في وظيفة وله دوام معين عليه أنه يشغله، فإذا كان يقضي جزءاً من النهار وهو يصلي ويتنفل ويترك العمل مشغولاً بالنوافل، فهذا ترك للواجب واشتغال بغير الواجب. والله عز وجل يقول كما في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه). هذه أربعة معان تطلق على السنة: إطلاق عام يشمل الكتاب والسنة، وإطلاق يراد به خصوص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإطلاق يراد به ما يعتقد طبقاً للسنة خلافاً للبدعة، وإطلاق يراد به المأمور به على سبيل الندب لا على سبيل الوجوب. [فضل العناية بالسنة والاشتغال بها] جاءت أحاديث كثيرة تدل على فضل العناية بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام والاشتغال بها وتلقيها وتعلمها وتعليمها، ومن أوضح ما جاء فيها الحديث المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، وجاء في بعض رواياته: (رحم الله من سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه).فهذا الحديث المتواتر مشتمل على دعاء من النبي عليه الصلاة السلام لمن اشتغل بسنته عليه الصلاة والسلام وبلغها وعمل بها أن يجعله ذا نضرة وبهجة، بحيث يكون وجهه مشرقاً مضيئاً في الدنيا والآخرة، فتكون عليه البهجة في الدنيا، ويكون ذا نضرة وبهجة في الآخرة. وقد جاء في القرآن الكريم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فالأولى بالضاد أخت الصاد، وهي من النضرة التي معناها الإضاءة والإشراق، والثانية بالظاء أخت الطاء من النظر بالعين، وهي الرؤية.وهي من أدلة أهل السنة والجماعة على إثبات رؤية الله في الدار الآخرة.والدعاء المذكور في الحديث سببه أن هذا المرء يقوم بهذه المهمة العظيمة، فيتلقى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفظه ويبلغه إلى غيره؛ لأنه إذا حفظه وبلغه إلى غيره قد يستنبط غيره منه ما يخفى على ذلك الذي تحمل، ولهذا قال: (ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) لأنه بذلك حفظ السنن، ومكن غيره من استنباط أحكامها.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
شرح سنن أبي داود (عبد المحسن العباد) المعاني التي تطلق عليها السنة صــ 7إلى صــ12 الحلقة (3) فضل الجمع بين الرواية والدراية في الحديث [معنى الرواية والدراية] إن الاشتغال بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام يتطلب العناية بأمرين: العناية بالرواية والعناية بالدراية.فالعناية بالرواية بحيث تعرف الأحاديث بأسانيدها ومتونها، وتثبت بأسانيدها ومتونها مثل: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: كذا وكذا.هذا هو علم الرواية.وبيان ما يتعلق بالأسانيد والمتون، وشرح المتون، واستنباط فقهها، واستنباط أحكامها هو علم الدراية.فلابد من الرواية ولابد من الدراية، فلا يكون هم الإنسان الرواية فقط ويغفل عن الدراية والفقه، ولا يكون همه الاشتغال بمسائل الفقه، وجمعها والكلام فيها دون عناية بالحديث الذي هو علم الرواية.ولهذا جاءت بعض كتب أهل العلم مشتملة على الرواية والدراية، كما قالوا في صحيح البخاري: إنه كتاب رواية ودراية؛ لأنه مشتمل على الأحاديث بأسانيدها ومتونها، ومشتمل على آثار عن الصحابة والتابعين في بيان معاني تلك السنن، وبيان شيء من فقهها، وتراجمه رحمة الله عليه كلها فقه، ويقولون: فقه البخاري في تراجمه، فمن أراد أن يعرف فقه البخاري فإنه يعرف ذلك من تراجمه؛ لأنه يأتي بالترجمة ثم يورد الحديث بعدها مستدلاً على الفقه الذي في الترجمة واستنبطه من الحديث.وكذلك الكتب الأخرى التي صنفت على هذا المنوال والتي تأتي بالترجمة، ثم بالحديث مطابقاً للترجمة، فإن هذا الذي في الترجمة فقه، والحديث الذي يورد تحتها رواية، والعناية بهذا وهذا أمر مطلوب. [حث طالب العلم على علم الحديث والفقه] إن على طالب العلم أن يكون حريصاً على معرفة الأحاديث وما يتعلق بأسانيدها ومتونها، وعلى فقهها والاستنباط منها، وكذلك يعتني بكتب الفقه وما كتبه الفقهاء وجمعوه من المسائل والفروع، وينظر في أدلة تلك المسائل والأقوال، ويأخذ بما يكون راجحاً بالدليل، مع احترام العلماء وتوقيرهم وتعظيمهم، واعتقاد أنهم لا يعدمون الأجر أو الأجرين لأنهم مجتهدون، فمن أصاب حصل له أجرين: أجر الإصابة وأجر الاجتهاد، ومن أخطأ حصل له أجر الاجتهاد، وخطؤه مغفور له.فالواجب العناية بالحديث وبالفقه معاً، والرجوع إلى كتب الحديث والفقه، والاستفادة من فقه الفقهاء والرجوع إلى كلامهم وأقوالهم وأدلتهم، ولكن مع الاحترام والتوقير والتأدب، ومع ذكرهم بالجميل اللائق بهم دون أن يُنال منهم، أو أن يحط من شأنهم، بل يُستفاد منهم، وُيترحم عليهم، ويُدعى لهم، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة كما يقول الطحاوي رحمه الله: وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من اللاحقين أهل الخبر والأثر وأهل الفقه والنظر لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل. [أهمية الحديث للفقه وأهمية الفقه للحديث] ذكر أبو سليمان الخطابي في مقدمة كتابه معالم السنن: أن الناس انقسموا قسمين وصاروا حزبين: أهل خبر وأثر، وأهل فقه ونظر، وقال: إن كلاً منهم يكمل الآخر، ولا يستغني أحدهما عن صاحبه. ثم ضرب لذلك مثلاً فقال: إن الذي يعتني بالحديث ولا يشتغل بالفقه ولا باستنباط المسائل من الحديث مقصر.ويقابله الذي يشتغل بحصر مسائل الفقه والاشتغال بكلام فقيه من الفقهاء دون أن يرجع إلى كتب الحديث، ودون أن يرجع إلى الأدلة، فهذا أيضاً مقصر. ثم قال: إن الحديث والفقه كأساس البنيان والبنيان، فمن عمل أساساً وأحكمه وأتقنه ولم يبن عليه لم يستفد منه. قال: فهذا مثل من يعتني من الحديث بأسانيده ومتونه ولا يشتغل بفقهه وما يستنبط منه؛ لأن الناس متعبدون بالعمل بالحديث، والعمل بالحديث يأتي عن طريق الفقه والاستنباط. ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) والمقصود من الحديث ومن السنن هو فقهها واستنباط ما فيها من أحكام حتى يعمل بها، ولهذا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، يعني: يبصره ويعرفه بأمور دينه حتى يكون عارفاً بالحق عاملاً به داعياً إليه على بصيرة وهدى.فمن يقوي الأساس ثم لا يبني عليه فروعه لا تحصل ثمرته، ومن اشتغل بمسائل الفقه دون أن يرجع إلى الحديث، ودون أن يبحث عن الصحيح والضعيف؛ فإنه يبني على غير أساس، فهو بنيان ضعيف معرض للانهيار؛ لأنه يستدل بحديث موضوع، فكل من الحديث والفقه لابد له من الآخر.ولكن إذا جمع بين الأمرين فقد جمع بين الحسنيين، وعمل على تحصيل الأساس وتقويته ثم بنى عليه الفروع، فجمع بين الرواية والدراية، فهذا هو المطلوب.ومن المعلوم أن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد، وليس كل مجتهد مصيباً، ولو كان كل مجتهد مصيباً لحصل التناقض؛ لأن المختلفين في حكم يقول أحدهما: إنه حلال، ويقول الآخر: إنه حرام، وكيف يكون الشيء الواحد حلالاً حراماً في وقت واحد على وجه واحد، فمثلاً: بعض المسائل يختلفون فيها فيقول بعضهم: هذا يبطل الصلاة، ويقول غيره: هذا لا يبطل الصلاة، وهكذا: هذا ينقض الوضوء، ويقول الآخر: هذا لا ينقض الوضوء، فالمصيب واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى هذا في قوله: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد). فالنبي صلى الله عليه وسلم قسم المجتهدين إلى قسمين: مصيب ومخطئ، والمصيب له أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، والمخطئ له أجر الاجتهاد، والخطأ مغفور.والفقهاء من الصحابة ومن بعدهم كل يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام فإنه لا كلام لأحد بعد ذلك. ولهذا جاء عن الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمة الله عليهم أن كل واحد منهم حث على اتباع الدليل والأخذ بالسنن، وأنه إذا وجد له قول قد جاء حديث صحيح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بخلافه، فإنه يؤخذ بالحديث ويترك قوله. وقد قال الشافعي رحمة الله عليه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان.هذه كلمة تتعلق بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام وما ينبغي أن يكون عليه الإنسان وهو يطلب العلم من الجمع بين الفقه والحديث. الأسئلة [حكم التقيد بالدليل دون التقليد لمذهب] q الذي يتمسك بالكتاب والسنة ولا يتقيد بمذهب معين هل يعد خارجياً؟ a معلوم أن الله تعالى بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وتلقاه عنه أصحابه رضي الله عنهم، ولم يوجد مذهب في القرن الأول الذي هو خير القرون، وإنما كان الناس يرجعون إلى أهل العلم ويقومون باستفتائهم والأخذ بما يفتون به وبما يدل عليه الدليل، ولاشك أن هذا هو الذي يجب أن يكون عليه الناس دائماً وأبداً.ومن المعلوم أنه وجد في القرن الثاني عدد كبير من الفقهاء من التابعين وأتباع التابعين اشتهروا بالفقه، وفيهم من حصل له تلاميذ اعتنوا بفقهه واعتنوا بأقواله وجمعها وترتيبها وتنظيمها، وكان هناك فقهاء في درجة هؤلاء ولكن لم يتهيأ لهم من التلاميذ الذين يعنون بفقه شيوخهم مثل عناية تلاميذ الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في علمهم وفقههم وتنظيمه وترتيبه، والكل من أهل الفقه. وكما قلت: الذي كان عليه الناس في القرن الأول لاشك أنه خير، ولا يمكن أن يقال: إن الناس كانوا على غير خير، ثم جاءهم الخير بعد ذلك، بل ما كان عليه الناس في زمن القرن الأول ينبغي أن يكونوا عليه بعد القرن الأول، ولكن بعدما وجدت المذاهب الأربعة وهي من مذاهب علماء أهل السنة اتبعها الناس، وخدمت تلك المذاهب.والذي ينبغي لطالب العلم أن يرجع إليها، والرجوع إليها شيء طيب، ولكن الذي يعاب ويذم هو التعصب لشخص من الناس سوى الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول هو الذي يتبع في كل شيء، وهو الذي يلتزم بكل ما جاء به، وهو معصوم لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام، أما غيره فإنه يخطئ ويصيب. وكما قلت: الأئمة الأربعة أرشدوا إلى أنه إذا وجد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف قولاً جاء عن واحد منهم فإنه يترك قوله ويصار إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكرت أثر الشافعي الذي قال فيه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائن من كان. وعلى هذا فكيف يقال: إن الذي يأخذ بالكتاب والسنة ويحرص على معرفة الحق بدليله ولا يكون ملتزماً بقول واحد من الأئمة الأربعة أو غيرهم يكون خارجياً؟ كيف كان القرن الأول وهو خير القرون؟ ولد أبو حنيفة سنة ثمانين، وهو أول الأئمة الأربعة ومات سنة خمسين ومائة، ومالك والشافعي وأحمد كلهم بعده في الزمن، ومعلوم أن القرن الأول هو خير القرون، وقد كان الناس فيه على هذه الطريقة، وهي الرجوع إلى أهل العلم، والأخذ مما يفتون به مما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.وهذا هو الواجب، ولا يجوز التعصب لأحد من الأئمة، ولكن الاستفادة من كتب الفقهاء الأربعة وغيرهم مطلوبة، ولا يستغني طالب العلم عن كتب الفقه، ولكن عندما يرجع الإنسان إلى كتب الفقه يرجع إليها باحثاً عن الحق بدليله، ولا يكون متعصباً لشخص بعينه بأن يقول: لو كان هناك شيء لعلمه فلان.وكيف يقال هذا؟ هل يقال في حق واحد من الناس إنه ما من شاردة ولا واردة إلا وهي عنده، وكل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فهو عنده؟ هذا لا يقال في حق أحد، بل كل واحد منهم يقول قولاً ثم يأتيه الحديث فيترك قوله ويصير إليه.والإمام الشافعي رحمة الله عليه كانت هناك مسائل عديدة وصل إليه الحديث فيها من طريق لا يصح، وأخذ بخلاف الحديث لأنه لم يصح عنده، ثم قال: وإن صح الحديث قلت به، وقد جاء بعض أصحاب الشافعي كـ البيهقي والنووي وذكروا بعض هذه المسائل على وفق الدليل الذي جاء على خلاف مذهب الشافعي وقالوا: وهذا هو مذهب الشافعي؛ أي أن هذا مذهبه حكماً، بناء على قوله: (إن صح الحديث قلت به)، قالوا: وقد صح الحديث فهو مذهب الشافعي؛ لأنه علق القول به على صحته.والإنسان عندما يرجع إلى كتب الفقه يستفيد منها، ويكون قصده أن يصل إلى الحق بدليله، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في آخر كتاب الروح مثلاً ضربه للرجوع إلى الفقهاء والاستفادة من علمهم وفقههم وعدم التعصب لهم، وأن الإنسان إنما يرجع إليهم ليستعين بهم في الوصول إلى الحق وإلى الدليل، قال: فهم كالنجوم في السماء يهتدى بها: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] والناس إذا كانوا في الظلماء يستطيعون أن يعرفوا اتجاه القبلة وغير القبلة بالنظر إلى النجوم في السماء. يقول ابن القيم رحمة الله عليه: إن الرجوع إلى كلام العلماء مع احترامهم وتوقيرهم أمر مطلوب، ولكن يستعين بهم في الوصول إلى الحق، وإذا وصل إلى الحق وعرف الدليل الثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ليس له أن يعول على شيء سواه، وقال: إن هذا مثل الإنسان الذي في الفلاة في الليل يستدل على جهة القبلة بالنجم، لكن إذا وصل الإنسان إلى الكعبة وصار تحتها فإنه لا يرفع نظره إلى السماء يبحث عن النجوم ليهتدي بها إلى القبلة.قال: وكذلك العلماء يرجع إليهم حيث يخفى الحق، ويستعان بهم في الوصول إليه، فإذا عرف الدليل لم يعول على كلام أحد. وهذا مقتضى كلام الشافعي: (أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائن من كان).أما الإنسان الذي ليس عنده أحد يفقهه، واحتاج إلى أن يتعلم مذهباً من المذاهب الأربعة؛ لأنه ما أمكنه سواه، فله أن يتعلم ذلك الفقه، وأن يعبد الله عز وجل وفقاً لذلك المذهب الذي تعلمه، ولكنه إذا وجد من يبصره بالدليل ومن يعلمه بالثابت من غير الثابت فإنه يرجع إلى الدليل، وليس لأحد كلام مع كلام رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. [الضابط في خروج الإنسان من السنة] q ما هو الضابط في خروج الإنسان من السنة؛ أهو الاعتقاد أم العمل أم هما معاً؟ a يوجد خروج كلي وخروج جزئي، والخروج الكلي كالبدع التي يكفر أصحابها، وهناك بدع غير مكفرة ولكن أصحابها أهل بدع وإن كانوا داخلين في عداد المسلمين، كالفرق الثنتين والسبعين التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة، وهم من كان مثل ما أنا عليه وأصحابي).فاثنتان وسبعون فرقة من المسلمين هم أهل بدع وضلال ولكنهم ما وصلوا إلى حد الكفر، فهؤلاء يعتبرون مسلمين، ولكنهم أهل بدع، والذي على السنة هو من كان مثل ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
شرح سنن أبي داود (عبد المحسن العباد) المعاني التي تطلق عليها السنة صــ 1إلى صــ9 الحلقة (6) شرح سنن أبي داود [003] جمع أبو داود رحمه الله تعالى في سننه أحاديث مشتهرة عند أهل الحديث، وجانب الغريب منها، ولم يلجأ إلى المراسيل إلا إذا لم يجد في الصحاح ما يغني عنها. تابع رسالة أبي داود إلى أهل مكة لبيان منهجه في السنن [شهرة أحاديث سنن أبي داود] قال الإمام أبو داود رحمه الله تعالى: [والأحاديث التي وضعتها في كتابي السنن أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئا من الحديث، إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس، والفخر بها أنها مشاهير، فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم].تقدم ذكر جملة مما اشتملت عليه رسالة أبي داود رحمه الله التي فيها وصفه لكتابه السنن، ثم قال: [إن الأحاديث التي في سننه مشاهير عند الناس، والمشهور في اصطلاح المحدثين أنه ما روي من أكثر من طريقين ولم يصل إلى حد التواتر، والعزيز: ما روي من طريقين، والغريب: ما جاء من طريق واحد]. والإمام أبو داود رحمه الله يقول: إن الأحاديث أكثرها مشاهير، وإنها عند الناس الذين ألفوا في الحديث، وكون الحديث تتعدد موارده ويوجد عند المحدثين بطرق مختلفة؛ فإن يدل على شهرته، وعلى تعدد المخارج له، وإذا كانت تلك الطرق فيها ضعف يسير يمكن أن يجبر بعضها ببعض، وأن يعضد بعضها بعضا. [قبول الحديث الغريب إذا كان الراوي ممن يحتمل تفرده] الحديث الغريب: هو الذي جاء من طريق واحد، ولكن الغريب منه ما هو مقبول، وذلك فيما إذا كان تفرد صاحبه يحتمل، وبعض الأحاديث في الصحيحين وفي غير الصحيحين جاءت من طريق واحد وهي معتبرة عند العلماء ولا يتكلم في ردها أحد، ومنها أول حديث في صحيح البخاري، وهو حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات).فإنه ما رواه عمر رضي الله عنه، ورواه عن عمر: علقمة بن وقاص الليثي، ورواه عن علقمة: محمد بن إبراهيم التيمي، ورواه عن محمد بن إبراهيم التيمي: يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم كثر رواته عن يحيى بن سعيد، واتسع.وقد اعتبره العلماء.كذلك الحديث الذي ختم به البخاري صحيحه، وهو حديث أبي هريرة: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).فإنه ما جاء إلا من طريق أبي هريرة، ثم يرويه عن أبي هريرة أبو زرعة ابن جرير ويرويه عنه واحد بعد واحد، ثم بعد ذلك تتعدد رواته وطرقه، وهو حديث غريب.فأول وآخر حديث في صحيح البخاري حديث غريب ولكن رجالها ثقات، ويحتج بتفرد الواحد منهم، فهي حجة عند العلماء. رد الحديث الغريب إذا كان في رواته من لا يحتمل تفرده أو كان شاذا إذا كان الحديث الغريب في رجاله من لا يحتمل تفرده فإنه لا يفيد شيئا، وكذلك إذا جاء شاذا، وذلك بأن يأتي من طريق واحدة مخالفة للطرق الأخرى الصحيحة، فهو صحيح لولم يخالف، لكن الإشكال جاءه من المخالفة للثقات حيث لا يمكن الجمع، ولا يمكن النسخ، ولا يمكن الترجيح.أما إذا أمكن أن يجمع بين الأحاديث، وأن يحمل هذا على شيء وهذا على شيء، فإعمال النصوص أولى من إهمال شيء منها، ولكن إذا لم يمكن إلا أن يرجح بعضها على بعض؛ لأن الراوي روى شيئا خالف فيه الثقات فيصار إلى الترجيح، وذلك مثل الحديث الذي في صحيح مسلم في قصة صلاة الكسوف: أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلاها بثلاث ركوعات. جاء عن الثقات عند البخاري وغيره: أنها ركعتان في كل ركعة ركوعان وسجودان وليس فيها أكثر من سجودين؛ لكن جاء في بعض الروايات في مسلم ثلاثة ركوعات، والقصة واحدة كلها تتحدث عن موت إبراهيم وصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم صلاة الكسوف، فلا يمكن أن يجمع بينها ولا يقال بالنسخ لأن القصة واحدة، ولم يبق إلا الترجيح، وهو أن ترجح رواية الثقات على رواية الثقة الذي خالف الثقات.ولهذا عندما يعرفون الحديث الصحيح، يقولون: ما روي بنقل عدد تام الضبط، متصل السند، غير معلل شاذ.فليس مجرد ثقة الرجال واتصال الإسناد كافيا، بل لابد مع ذلك أن يسلم من الشذوذ والعلة، والشذوذ هو مخالفة الثقة للثقات. بعض العلماء قال: من شرط الصحيح: أن يكون له طريقان فأكثر.ولكن هذا رده أكثر العلماء وأنكروه على من قاله؛ لوجود أحاديث معتبرة وصحيحة جاءت من طريق واحد. يقول أبو داود رحمه الله: [الأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئا من الحديث إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس]. أي: أن معرفة الحديث المشهور والحديث الغريب لا يتأتى إلا بجمع الطرق، وأما مجرد أن يقف الإنسان على حديث ولا يفتش عن الشواهد والمتابعات؛ فإن هذا لا يميزه كل أحد ولا يقدر عليه كل أحد، ولا يستطيع أن يحكم على غرابته إلا من عنده اطلاع واستيعاب. [مذهب أبي داود في الحديث الغريب] قال: [والفخر بها أنها مشاهير، فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم]. يعني: أن الإنسان يفتخر بهذا، ويطمئن إلى سلامتها وإلى تعدد طرقها ومصادرها وكونها مشهورة. أما قوله: (فإنه لا يحتج بالغريب ولو كان من طريق مالك أو يحيى بن سعيد) فلا أدري ما يقصده بقوله بهذا، وهل يرى أن التفرد لا يعتبر ولو كان رجاله ثقات، أو أنه إذا كان من طريقهم ولكن روى عنهم من لا يحتمل تفرده؟ فإذا كان الأمر كذلك فوجود بعض الثقات في الإسناد لا ينفع إذا وجد فيه شخص ضعيف ولم تأت طرق أخرى تقويه وتؤيده، أما إذا كانوا كلهم ثقات وليس فيهم من لا يحتمل تفرده، فإن حديثهم معتبر ومعول عليه، والصحيحان قد اشتملا على ذلك، والعلماء اعتبروا تلك الأحاديث التي جاءت من مثل هذه الطرق صحيحة وثابتة. قال: [ولو احتج رجل بحديث غريب ودس من يطعن فيه]. أي: بكونه ما جاء إلا من طريق واحد، وليس معروفا عند الناس كلهم، يعني: أن هناك مجالا للطعن؛ لكن ليس كل حديث غريب يكون فيه مجال كما أسلفت.قال رحمه الله: [ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان الحديث غريبا شاذا].هنا إضافة الشذوذ إلى الغرابة، لكن الشذوذ إذا كان سببه الغرابة فلا إشكال في الحديث؛ لأن مخالفة الثقة للثقات إنما ترد بها رواية الثقة حيث لا يمكن الجمع بين رواية الثقات ولا معرفة الناسخ والمنسوخ.فإذا كانت القضية ليس فيها إلا الترجيح؛ فإن الحديث يكون شاذا ولو كان إسناده صحيحا، ولا يعول على ذلك الشاذ بل يعول على المحفوظ الذي هو في مقابلة الشاذ. قال: [فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح فليس يقدر أن يرده عليك أحد].الحديث المشهور التي تعددت مخارجه، وهو متصل لا انقطاع فيه، ليس يقدر أحد على أن يرده. ولعل هذا يوضح أن مراد أبي داود فيما تقدم من ذكر يحيى بن سعيد ومالك وروايتهم الحديث الغريب: أنه إذا كان في الإسناد من يقدح فيه من أجله، أما حيث يوجد الإسناد المتصل المشهور الذي تعددت مصادره ومخارجه فليس يقدر أحد أن يرده. [كراهة بعض العلماء للحديث الغريب] قال رحمه الله: [وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الغريب من الحديث].(كانوا) أي: العلماء (يكرهون الغريب من الحديث)، يعني: الذي لا يعرف إلا من طريق واحد، ويفضلون الذي جاء من طرق متعددة؛ لأن الحديث إذا تعددت طرقه كان ذلك أقرب إلى سلامته من أن يكون فيه وهن أو خطأ. الملقي: [وقال يزيد بن أبي حبيب: إذا سمعت الحديث فانشده كما تنشد الضالة؛ فإن عرف وإلا فدعه]. معناه: أن الإنسان يبحث عنه ويذكره، ويبحث عن شيء يساعده ويؤيده. [الإرسال والتدليس في سنن أبي داود] قال رحمه الله: [وإن من الأحاديث في كتابي السنن ما ليس بمتصل وهو مرسل ومدلس، وهو إذا لم توجد الصحاح عند عامة أهل الحديث على معنى أنه متصل، وهو مثل الحسن عن جابر، والحسن عن أبي هريرة، والحسن عن مقسم، وسماع الحكم من مقسم أربعة أحاديث]. [الفرق بين المرسل والمدلس] ذكر أبو داود رحمه الله بأن كتابه مشتمل على المرسل والمدلس، وقد سبق ذكر أن المرسل عند العلماء يطلق إطلاقين: إطلاقا خاصا وإطلاقا عاما. والإطلاق الخاص: هو قول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وهذا هو المشهور عند المحدثين. ويطلق إطلاقا أعم منه: وهو رواية الراوي عن شخص لم يدرك عصره، أو أدرك عصره ولم يسمع منه.وروايته عمن لم يدرك عصره يسمونه المرسل الجلي لأنه واضح، فإن كان عاصر ذلك الشخص الذي أضاف إليه الحديث ولكنه لم يلقه؛ فإن هذا يسمونه المرسل الخفي؛ لأنه لا يتفطن له، إذ مع المعاصرة يظن اللقاء. والمدلس: هو رواية التلميذ عن شيخه ما لم يسمعه منه بلفظ موهم للسماع كعن أو قال، والرواية بهذه الطريقة تسمى تدليسا؛ لأن فيها إيهاما بالاتصال، والواقع أنه لا اتصال. ولهذا يقولون في الحديث إذا جاء من طريق فيها صيغة تحتمل التدليس كـ: (عن أو قال): يرتفع التدليس إذا صرح التلميذ عن شيخه بالتحديث في موضع آخر بأن قال: حدثني، أو قال: أخبرني، أو قال: سمعت فلانا.والمدلس يذكره بعض المحدثين في أسانيدهم حيث لا يوجد غيره، وقد يصل إلى شخص بإسناد فيه تدليس، ثم يصل إلى شخص آخر بإسناد عند محدث آخر فيه التصريح بالسماع أو التحديث، وعند ذلك لا يضر التدليس في بعض الطرق؛ لأنه لزوال الاحتمال بوجوده من طريق آخر.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
شرح سنن أبي داود (عبد المحسن العباد) المعاني التي تطلق عليها السنة صــ 10إلى صــ18 الحلقة (7) [تقوي المرسل والمدلس بغيره] قال رحمه الله: [وإن من الأحاديث في كتابي السنن ما ليس بمتصل وهو مرسل ومدلس وهو إذا لم توجد الصحاح عند عامة أهل الحديث].ما ليس بمتصل هو المرسل والمدلس؛ لأن المدلس على حسب الظاهر ليس بمتصل؛ لأن الراوي إذا كان معروفا بالتدليس فمعناه: أنه يمكن أن تكون هناك واسطة، والمرسل فيه سقوط إن كان في أعلى الإسناد، وهو المشهور عند المحدثين، أنه قول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.وهذا فيه سقوط بلا شك؛ لأن التابعي ما أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم، والساقط يحتمل أن يكون صحابيا ويحتمل أن يكون تابعيا كما تقدم.فالمدلس والمرسل يذكرهما العلماء لأنه يمكن أن يتقوى بعضهما ببعض، فيمكن أن يتقوى المرسل بالمرسل، والمدلس بالمدلس، والمدلس بالمرسل؛ ما دام أنها في موضوع واحد وتعددت الطرق، فإن الأحاديث التي يتوقف فيها إذا انضم بعضها إلى بعض جبر بعضها بعضا، وانتقل إلى أن يكون من قبيل الحسن لغيره. قوله: (وهو إذا لم توجد الصحاح عند عامة أهل العلم على معنى أنه متصل). يعني: أن المدلس أو المرسل يذكره هو ويذكره غيره عندما لا يوجد غيره من الأحاديث المتصلة الصحيحة؛ لأن هذا هو الذي وجد، مثلما قال فيما مضى بالنسبة للمنكر. [أمثلة للحديث المدلس] قوله: (وهو مثل الحسن عن جابر) لأن الحسن البصري رحمه الله معروف بالتدليس.كـ الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.وكذلك الحسن عن أبي هريرة. قوله: والحكم عن مقسم)، هو الحكم بن عتيبة. قوله: (وسماع الحكم من مقسم أربعة أحاديث) يعني: أن الأحاديث التي وقع فيها السماع أربعة، والبقية مدلسة، وهذا مثلما قالوا في سماع الحسن من سمرة، فمنهم من تكلم فيه مطلقا، ومنهم من اعتبره مطلقا، ومنهم من فصل وقال: إن حديث العقيقة ثابت لأنه جاء ما يدل على سماعه من سمرة، وغيره يكون من قبيل المدلس. وهنا قال: إن سماع الحكم من مقسم أربعة أحاديث. قال رحمه الله: [وأما أبو إسحاق عن الحارث عن علي فلم يسمع أبو إسحاق من الحارث إلا أربعة أحاديث ليس فيها مسند واحد].وأبو إسحاق مدلس، فإذا جاء غير هذه الأربعة باللفظ الذي فيه العنعنة فإنه يعتبر من قبيل المدلس. قوله: (ليس فيها مسند واحد) يعني ليس منها حديث مسند متصل، بل تلك الأحاديث الأربعة التي سمعها والتي لا تدليس فيها ليس فيها شيء مسند. قال رحمه الله: [وأما ما في كتاب السنن من هذا النحو فقليل، ولعله ليس للحارث الأعور في كتاب السنن إلا حديث واحد، فإنما كتبته بآخرة]. يقول: وهذا الذي ذكره وفي السنن وأشار إليه فهو قليل، قال: ولعله ليس للحارث الأعور في كتابه إلا حديث واحد كتبه بآخرة، ومعناه: أنه ليس شيء من هذا عندي، والذي عندي للحارث هو حديث واحد كتبته مؤخرا. [توقف أبي داود عن ذكر بعض الأحاديث] قال رحمه الله: [وربما كان في الحديث ما تثبت صحة الحديث منه إذا كان يخفى علي، فربما تركت الحديث إذا لم أفقهه، وربما كتبته وبينته، وربما لم أقف عليه، وربما أتوقف عن مثل هذه لأنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث؛ لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا]. قوله: (وربما كان في الحديث ما تثبت صحة الحديث منه إذا كان يخفى علي).هذه العبارة غير واضحة؛ لأن الحديث يمكن أن يكون فيه ما يدل على صحته ويقويه من حيث الرواية، أو من حيث الراوي، أو من حيث التقديم والتأخير، لكن قوله: (إذا كان يخفى ذلك علي) فيه غموض. وقوله: (وربما تركت الحديث)، يعني: فلا يذكره إذا لم يفقهه، وهذا يدل على أنهم يعنون بالفقه، وأنهم يفقهون ويفهمون الأحاديث ويعرفون معانيها، وأنهم لا يثبتونها وهي موهمة أو خفية أو لا يتضح معناها، فإنهم يصيرون إلى الواضح ويتركون الشيء الذي فيه الخفاء. قوله: (وربما كتبته وبينته وربما لم أقف عليه)، أشار به إلى هذا الذي حصل له؛ لكن قوله: (وربما لم أقف عليه) لا أدري ما معنى: (لم أقف عليه)، وهل معناه: لم أقف على شيء يوضحه، أو أنه ما وقف على الحديث؟ وقوله: (وربما أتوقف عن مثل هذه؛ لأنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث؛ لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا) معناه: أنه ربما يتوقف عن ذكر كل شيء فيه إشكال؛ لأنه قد يؤثر على الذين لا يفقهون ولا يفهمون، ولا يعرفون عيوب الحديث. ومن الأشياء التي كانوا يتركونها لأن فيها إشكالا على الناس: أنهم لا يحدثون بكل حديث في كل مناسبة وفي كل مجال؛ لأن بعض العامة يقصر فهمهم عن مثل ذلك، مثلما جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي فيه: (يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وحق العباد على الله؟) ثم بين له ذلك فقال معاذ رضي الله عنه: (أفلا أبشر الناس يا رسول الله؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا)؛ لأن بعض الناس إذا حدث بحديث فيه ترغيب بشيء، أو فيه ذكر سعة جود الله وفضله وإحسانه قد يجره ذلك إلى التساهل، فلا يحدث بالأحاديث في كل مكان أو كل مجال إذا كان يترتب على ذلك ضرر.ولهذا ما حدث به معاذ رضي الله عنه إلا عند موته تأثما، يعني: خشية أن يلحقه إثم إذا لم يحدث بحديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا ذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تبشرهم فيتكلوا). وكذلك ما جاء في بعض الأحاديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى حائط وافتقده أصحابه وخشوا أن يكون حصل له مكروه، فذهبوا يبحثون عنه، وكان الذي سبق إليه أبو هريرة رضي الله عنه، فلقيه وأخبره أن الناس انزعجوا، وأنهم لا يعرفون ماذا حصل له، فأمره بأن يرجع وأن يبشر من لقي بالجنة، فلقيه عمر وطعن في صدره، وقال: اسكت، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره وقال ل عمر: لماذا فعلت هكذا؟ قال: خلهم يعملون، فقال الرسول: خلهم.لأن بعض الناس يعتمد على الأحاديث التي فيها ترغيب، وهذا هو الذي بنى عليه المرجئة عقيدتهم الفاسدة حيث قالوا: (لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة)، فعولوا على أحاديث الوعد وأغفلوا أحاديث الوعيد، وعكسهم الخوارج الذين عولوا على أحاديث الوعيد وأغفلوا أحاديث الوعد، وأهل السنة والجماعة أعملوا أحاديث الوعد وأحاديث الوعيد، فأخذوا بهذا وبهذا.فهم لا يعولون على أحاديث الوعد ويقعون في المعاصي، ولا يغفلون أحاديث الوعد ويعتبرون من أتى كبيرة أنه كفر أو ارتد أو خرج من الإسلام، بل يعتبرون من حصل له ذلك مؤمنا بإيمانه فاسقا بكبيرته، ولا يعطونه الإيمان المطلق ولا يسلبونه مطلق الإيمان، فهم متوسطون بين طرفي الإفراط والتفريط.ومن الأشياء التي كانوا لا يحدثون بها ما لا يفهمه السامع أو لا يعقله، وقد جاء: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!) فكون الإنسان يحدث بشيء لا يعقله ولا يطيقه فهمه قد يترتب عليه مضرة. [عدد كتب وأحاديث سنن أبي داود] قال رحمه الله: [وعدد كتب هذه السنن ثمانية عشر جزءا مع المراسيل، منها جزء واحد مراسيل]. أي: وعدد الكتب التي اشتمل عليها كتابه ثمانية عشر جزءا، جزء منها يعتبر مراسيل، يعني: أجزاء حديثية. قال رحمه الله: [وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من المراسيل منها ما لا يصح، ومنها ما هو مسند عن غيره وهو متصل صحيح].والمراسيل منها ما لا يصح لأنه ما جاء إلا من طريق وعر، ومنها ما هو مستند على غير هذا المرسل وهو متصل صحيح، والمعنى أنه مرسل من طريق ولكن يأتي طريق آخر يكون فيها متصلا. قال رحمه الله: [ولعل عدد الذي في كتابي من الأحاديث قدر أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ونحو ستمائة حديث من المراسيل]. والمراسيل كما هو معلوم: كتاب مستقل لـ أبي داود جمع فيه المراسيل. قال رحمه الله: [فمن أحب أن يميز هذه الأحاديث مع الألفاظ فربما يجيء حديث من طريق وهو عند العامة من طريق الأئمة الذين هم مشهورون، غير أنه ربما طلبت اللفظة التي تكون لها معان كثيرة، وممن عرفت نقل من جميع هذه الكتب].هذه العبارة فيها خفاء. قال: [وربما يجيء الإسناد فيعلم من حديث غيره أنه غير متصل، ولا يتبينه السامع إلا بأن يعلم الأحاديث وتكون له فيه معرفة فيقف عليه، مثلما يروى عن جريج قال: أخبرت عن الزهري، ويرويه البرساني عن ابن جريج عن الزهري، فالذي يسمع يظن أنه متصل ولا يصح بتة، فإنما تركناه لذلك، هذا لأن أصل الحديث غير متصل ولا يصح، وهو حديث معلول، ومثل هذا كثير]. يعني: أن من الأحاديث ما يأتي من طريق غير متصل، ثم يجيء من طريق أخرى وفيه ما يفيد أو ما يحتمل الاتصال فيظن أنه متصل. ثم ضرب لذلك مثلا وهو أن ابن جريج قال: أخبرت عن الزهري.فكلمة (أخبرت عن الزهري) واضحة بأن فيها انقطاعا، وأن بينه وبين الزهري واسطة ولم يذكر المخبر، وقد جاء الحديث من طريق البرساني عن ابن جريج عن الزهري هكذا. فالذي يطلع على هذا الإسناد الذي فيه: عن فلان عن فلان، يظن أنه متصل، وهذا لا يفيد شيئا لأنه ما دام الراوي مدلسا روى بالعنعنة فهو غير متصل؛ لكن عبارة: أخبرت عن الزهري واضحة في أنه لا اتصال، وأن هذا محتمل لأنه مدلس.فمن لا يعرف الحديث قد يجد الإسناد من طريق البرساني عن ابن جريج عن الزهري فيظن أنه متصل، وذلك لا يصح لأنه مدلس. قال رحمه الله: [والذي لا يعلم يقول: قد ترك حديثا صحيحا من هذا وجاء بحديث معلول].والذي لا يعرف الحديث إذا وجد هذا الذي فيه (أخبرت عن الزهري) والانقطاع فيه واضح ويجد المؤلف لم يذكر الحديث أنه متصل؛ الذي لا يعرف الحديث يظن أنه متصل ولا يعلم أن وجود هذا الإسناد الثاني كعدمه لأنه مدلس، والمدلس كما هو معلوم محتمل الاتصال ومحتمل الانقطاع، محتمل الواسطة ومحتمل عدم الواسطة. [تصنيف سنن أبي داود على الأحكام] قال رحمه الله: [وإنما لم أصنف في كتابي السنن إلا الأحكام، ولم أصنف كتب الزهد وفضائل الأعمال وغيرها].أخبر أبو داود رحمة الله عليه بأن كتابه اعتنى بأحاديث الأحكام، ولم يجعل فيه شيئا من الزهد والفضائل، وإنما أراد أن يكون كتاب أحكام.وله في الزهد كتاب مستقل ومؤلفات أخرى، ولكنه أراد أن يكون هذا الكتاب كتاب أحكام، ولهذا يعتبر كتاب أبي داود رحمة الله عليه من الأصول التي يعول عليها في الأحكام، بخلاف بعض العلماء الذين يدخلون في مؤلفاتهم الزهد والرقائق وما إلى ذلك، فهو يقول: إنه ما أراد أن يكون كتابه في الزهد والفضائل، وإنما أراد أن تكون عنايته بالأحكام التي يعول عليها الناس في عباداتهم ومعاملاتهم، وكذلك في عقائدهم؛ لأنه ذكر في كتابه كتاب السنة الذي اشتمل على أحاديث كثيرة كلها في العقيدة. قال رحمه الله: [فهذه الأربعة الآلاف والثمانمائة كلها في الأحكام، فأما أحاديث كثيرة في الزهد والفضائل وغيرها من غيرها من غير هذا لم أخرجه، والسلام عليكم ورحمة والله وبركاته، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما، وحسبنا الله ونعم الوكيل].هذا هو آخر رسالته التي وصف فيها سننه، ولاشك أنها مشتملة على أمور كثيرة، كما قلت سابقا: صاحب البيت أدرى بما فيه، فالمؤلف إذا بين خطته ومنهجه وطريقته فهو أدرى وأخبر.وبعض المؤلفين لا يوجد عنده شيء يوضح منهجه وطريقته، ولهذا يحتاج العلماء إلى أن يبحثوا عن شيء يكشف المنهج والطريقة، مثلما حصل للبخاري رحمة الله عليه في صحيحه فإنه ما ذكر منهجه؛ ولكن العلماء استخلصوا منهجه وطريقته بالاستقراء والتتبع كما فعل الحافظ ابن حجر في فتح الباري، حيث ذكر جملة كبيرة من الأمور التي توصل إليها بالاستقراء والتتبع من منهج البخاري وطريقته في إخراجه للأحاديث التي أوردها في كتابه الجامع الصحيح، وبهذا انتهت تلك الرسالة. [شروح سنن أبي داود] قبل أن نبدأ بالسنن أحب أن أذكر بعض الكتب التي صنفها العلماء حول هذا الكتاب.فالكتاب قد اختصر وشرح، ومن اختصاره تهذيب الحافظ المنذري له، فإنه هذبه وحذف أسانيده، وبعد إيراد الحديث يذكر من خرجه من أصحاب الكتب الأخرى، فكتاب المنذري رحمة الله عليه تهذيب السنن هو اختصار لسنن أبي داود، وفيه مع الاختصار الإشارة إلى التخريج في بقية الكتب الخمسة من الكتب الستة.وللعلامة ابن القيم تعليقات على مختصر المنذري في بعض الأحاديث وليس كلها، ولكنه أثنى عليه ثناء عظيما، وقال: إنه قد أحسن في تهذيبه حتى لم يدع للإحسان موضعا، أي ما ترك مجالا؛ لأنه في انتقائه واختصاره وعنايته أحسن إحسانا عظيما وقام بعمل جليل.وله حاشية عليه فيها شرح لبعض الأحاديث، يطيل في بعض الأحيان حتى يكون كلامه على الحديث بمثابة جزء، فإنه يقوم باستيعاب وبيان الفقه والأحكام وأقوال العلماء، ويتوسع في بعض المواضع، وفي بعضها يختصر، وكثير منها لا يعلق عليها شيئا، وقد طبع.وكذلك معالم السنن للخطابي، فإنه يذكر الكتاب، ويذكر الباب، ولكنه لا يستوعب حيث يقول: من باب كذا ثم يذكر بعض الأحاديث ويشرحها، فهو بمثابة الاختصار، ولكنه يشرح تلك الأحاديث التي يوردها وكلامه في التبويب يشير إلى انتقائه واختصاره حيث يقول: من باب كذا، ثم يذكر بعض الأحاديث التي انتقاها ويشرحها.وقد طبعت الثلاثة التي هي تهذيب المنذري أو مختصر المنذري، ومعالم السنن للخطابي، وحاشية ابن القيم على مختصر المنذري بمصر بعناية الشيخ محمد حامد الفقي رحمة الله عليه في ثمانية مجلدات.ولكن التمييز بين كلام ابن القيم وكلام المنذري وكلام الخطابي يحتاج إلى جهد، من جهة أن ابن القيم أحيانا يطول فيحتاج إلى أن يسوق صفحات كلها ل ابن القيم، وأحيانا لا يذكر شيئا.وقد طبعت معالم السنن للخطابي وحدها في مجلدين بعناية راغب الطباخ، وطبع كتاب ابن القيم مع عون المعبود في بعض الطبعات، وعون المعبود للطيب الآبادي الهندي شرح مختصر ومفيد، وهناك شروح أطول منه، ولكن منها ما هو غير كامل، وإنما وجد أوله مثل غاية المقصود لأحد علماء الهند، وكذلك أيضا ظهر في مصر المنهل العذب المورود للساعاتي وهو شرح فيه العدد القليل، ولكن الكتاب المشهور والموجود والذي هو كامل هو عون المعبود للطيب الهندي وهو في متناول الأيدي، وله شروح أخرى مذكورة في كشف الظنون وفي غيره من الكتب التي تذكر المؤلفين ومؤلفاتهم.والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. الأسئلة [أفعال النبي في الصلاة ليست كلها على الوجوب] q هل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) يدل على أن كل فعل فعله النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فهو واجب؟ a الحديث لا يدل على أن كل فعل يكون واجبا؛ لأن مما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ما ليس بواجب وإنما هو من الأمور التي إذا وجدت في الصلاة لا تؤثر فيها ولا تبطلها، وإنما هي من الأمور المستحبة ومن السنن، والإنسان يحرص على الواجبات والمستحبات.لكن لا يقال: إن كل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يكون من قبيل الواجب، وأنه إذا تركه فإنه يأثم، نعم يأثم إذا ترك ما علمه من السنة زهدا عنها ورغبة فيها، أما إذا صلى الإنسان صلاة وترك شيئا فعله النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقال: إن صلاته غير صحيحة؛ لأنه ما وجد منه ذلك.وليس أيضا كل ما جاء في قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) واجب، بل يستثنى من ذلك بالنسبة للمأمومين أنهم لا يقولون: سمع الله لمن حمده كما يقول الإمام، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس ويقول: سمع الله لمن حمده، والمأموم لا يقول: سمع الله لمن حمده.وبعض العلماء احتج بهذا الحديث على أنه يقول: سمع الله لمن حمده، فيجمع بين التسميع والتحميد، وبعض العلماء يقول: إن هذا الحديث يستثنى منه التسميع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرشد الناس إلى أن يصلوا، قال: (وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد). [احتجاج بعض المتصوفة بتقبيل لسان أبي داود على بدعهم] q استغل بعض الصوفية المعاصرين قصة الذي طلب من أبي داود أن يخرج له لسانه ليقبله على جواز التقبيل المعروف لديهم مما هو مخالف للشرع، فنرجو منكم توضيح المسألة؟ a التقبيل الذي يقوم به بعض الناس، والذي فيه ذل من المقبل واغترارا من المقبل ليس هو منهج السلف وطريقتهم، بعض العلماء قد يتواضع ويبتعد عن أن يغتر وهذا مطلوب منه، وقصة الذي قال: أخرج لسانك، إنما فعل ذلك مع إمام لسانه مشتغل بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما الصوفية فبماذا اشتغلوا؟ ما اشتغلوا إلا بالبدع والخرافات.فعلى أي أساس يقاس هذا بهذا؟ فهذا محدث ولسانه مشتغل بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولسانه طري بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا فيه بيان عظم قدر اللسان الذي حصل منه هذا.وأما الصوفية فماذا حصل لهم مما يدعو إلى تعظيمهم؟ أهو كونهم يأتون بالبدع وألسنتهم لا تشتغل إلا بالبدع؟ فرق بين هذا وهذا، ولا يلحق هذا بهذا.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
شرح سنن أبي داود (عبد المحسن العباد) المعاني التي تطلق عليها السنة صــ 1إلى صــ10 الحلقة (8) شرح سنن أبي داود [004] لقضاء الحاجة آداب وأحكام ينبغي على كل مسلم معرفتها والتأدب بها، ومن تلك الآداب والأحكام: طلب مكان بعيد يستتر به الناس عند قضاء الحاجة، والإتيان بالأذكار الواردة عند التخلي. ما جاء في التخلي عند قضاء الحاجة [شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد)]قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الطهارة. باب التخلي عند قضاء الحاجة: حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي حدثنا عبد العزيز -يعني: ابن محمد - عن محمد -يعني: ابن عمرو - عن أبي سلمة عن المغيرة بن شعبة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد)]. قول الإمام أبي داود السجستاني رحمة الله عليه: [كتاب الطهارة]، هذا هو أول كتاب في كتابه السنن، وجرت عادة المحدثين والفقهاء عندما يكتبون في الأحكام أنهم يقدمون كتاب الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، ويجعلون بين يدي الصلاة كتاب الطهارة؛ لأن الطهارة شرط في صحة الصلاة، فلزم أن تكون متقدمة عليها؛ فيجعلون الطهارة قبل الصلاة؛ لأنه لا صلاة إلا بطهارة، ولا صلاة إلا بوضوء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، فمن أجل ذلك كانوا يقدمون كتاب الطهارة على كتاب الصلاة والزكاة والصيام والحج. قوله: [باب التخلي عند قضاء الحاجة]. التخلي هو: الذهاب للخلاء، أو أن يكون الإنسان في مكان خال عن الناس بحيث لا يرى عورته أحد، وكانوا يذهبون إلى المكان الخالي لقضاء الحاجة، وكان هذا قبل أن توضع الكنف في البيوت، ولما وضعت الكنف في البيوت كانوا يقضون حوائجهم فيها. ومن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا أرد أن يقضي حاجته أن يذهب بعيدا عن الناس. أورد أبو داود رحمة الله عليه حديث المغيرة بن شعبة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد)، يعني: كان إذا ذهب إلى المكان الذي يقضي فيه حاجته ذهب بعيدا عن الناس.والذهاب إلى مكان بعيد عن الناس أمر مطلوب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يفعله، ولما يترتب على ذلك من فوائد، منها: ألا يرى عورته أحد، وأما أن يرى شخصه من مكان بعيد وهو يقضي الحاجة فهذا أمر لا يؤثر. ومنها: أنه إذا كان بعيدا عن الناس لا يسمع صوت بخلاف ما إذا كان قريبا من الناس فإن الناس يسمعون ذلك الصوت منه. فإذا: يستدل بهذا الحديث على أن الإنسان إذا كان في مكان خال وعراء وفضاء من الأرض أن عليه أن يذهب بعيدا عن الناس، وهذا من آداب قضاء الحاجة، وأما إذا كان في مكان مستور كالأبنية والحجب التي توضع دون رؤية الناس من القماش أو الجلود أو الخيام أو غير ذلك؛ فإن هذا مما يحصل به المقصود. فالمقصود هو: التستر والبعد عن الناس حتى لا يروا عورته، فإذا كان في مكان خال بعيدا عن الناس، وإذا كان في مكان أعد لذلك كالكنف فإنه يكون بذلك مستترا عن الناس، ولا سبيل للناس إلى رؤيته. [تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أذهب المذهب أبعد)] قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي]. هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة أخرج حديثه أصحاب الكتاب الستة إلا ابن ماجة.وقد كان ابن معين وابن المديني وغيرهما لا يقدمان عليه أحدا في الموطأ؛ لأن الذين رووا الموطأ عن مالك كثيرون ومنهم: عبد الله بن مسلمة بن قعنب.وهذا هو أول شيخ روى عنه أبو داود في سننه، عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي أحد رجال أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.وسبق أن مر بنا في سنن النسائي ومسلم والبخاري أن أول شيخ روى عنه النسائي هو قتيبة بن سعيد، وأول شيخ روى عنه مسلم هو زهير بن حرب أبو خيثمة، وأول شيخ روى عنه البخاري هو عبد الله بن الزبير المكي، وأول شيخ روى عنه ابن ماجة هو قتيبة، كـ النسائي، وأول شيخ روى عنه الترمذي هو أبو بكر بن أبي شيبة، فهؤلاء هم الذين حصل البدء بهم في هذه الكتب الستة.كلهم من الثقات، وفيهم من اتفق أصحاب الكتب الستة على الإخراج له، وفيهم من لم يخرج له بعضهم، ولا يعني عدم التخريج لشخص أو لرجل من الذين كتبوا في الصحيح، أو الذين يروون عن الثقات أن يكون فيه كلام؛ لأن الذين كتبوا في الصحيح ما كتبوا كل حديث صحيح، ولا أوردوا في مؤلفاتهم كل حديث صحيح، وإنما أوردوا جملة كبيرة من الصحيح، وكذلك لم يخرجوا عن كل ثقة، فكم من ثقة لم يخرج له أصحاب الصحيح وغيرهم، ولا يعني هذا أن فيه كلاما؛ لأنهم لم يلتزموا أن يخرجوا كل حديث صحيح، ولم يلتزموا أن يخرجوا عن كل شخص ثقة، فكم من ثقة خرج له البعض ولم يخرج له البعض الآخر! لا لقدح فيه، بل هو عنده حجة ولكنه ما اتفق له أن يخرج عنه؛ لأن الأحاديث التي اختارها ليس في إسنادها ذلك الشخص الثقة.[حدثنا عبد العزيز - يعني: ابن محمد -]. أي: ابن محمد الدراوردي فكلمة (يعني) هذه جاءت في نسب عبد العزيز الدراوردي؛ لأن تلميذه عبد الله بن مسلمة بن قعنب لما روى عنه ما زاد على كلمة عبد العزيز، وإنما قال: حدثنا عبد العزيز فقط، فالذي جاء بعده -وهو أبو داود - أراد أن يوضح من هو عبد العزيز هذا الذي أهمل نسبته عبد الله بن مسلمة بن قعنب تلميذه، فأراد أن يوضحه ولكن لما أراد توضيحه أتى بكلمة (يعني) حتى يفهم منها أن ذكر النسب ليس من التلميذ، ولكنه ممن دون التلميذ. ولو أن من دون عبد الله بن مسلمة قال: أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي لظن أن القائل هو التلميذ.وهذا من دقة علماء أهل الحديث وعنايتهم؛ إذ أن الشخص إذا كان مهملا في الإسناد فإن من دون تلميذه لا ينسبه أو يزيد في نسبه بدون أن يبين، بل يأتي بشيء يوضح به ذلك المهمل بكلمة مثل: (يعني) حتى يفهم منها أنها للتوضيح والبيان زادها من دون التلميذ.وعلى هذا فكلمة (يعني) فعل مضارع له فاعل وله قائل، ففاعله: ضمير مستتر يرجع إلى التلميذ، وهو عبد الله بن مسلمة بن قعنب، وقائل هذه العبارة هو من دون التلميذ، سواء كان أبو داود تلميذ عبد الله بن مسلمة بن قعنب أو الذي روى عن أبي داود، أو الذين تحت أبي داود؛ إذ من المعلوم كلمة (يعني) تأتي أحيانا في شيخ المصنف، وقد مر بنا في سنن النسائي مثل هذا، حيث يقول النسائي: أخبرنا فلان يعني: ابن فلان، أو أخبرنا فلان وهو ابن فلان.وهذه لا تكون من النسائي، وإنما تكون ممن دونه؛ لأن النسائي كما سبق أن عرفنا أحيانا يذكر بعض شيوخه في سطر، حيث ينسبه ويقول: فلان بن فلان بن فلان بن فلان إلى آخره، وأحيانا لا ينسبه، فيأتي من دونه فيأتي بكلمة (يعني) أو كلمة (هو).وعلى هذا فإن من دون التلميذ إذا أراد أن يوضح هذا المجمل الذي لم ينسبه شيخه فإنه يأتي بما يوضح، لكن يأتي بكلمة (يعني) أو بكلمة (هو).فقائل (هو) أو: (يعني): هو من دون التلميذ.وعبد العزيز بن محمد الدراوردي صدوق أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة. [عن محمد -يعني: ابن عمرو -].هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي صدوق له أوهام أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.وكلمة (يعني) يقال فيها كما قيل في التي قبلها، يعني: أن تلميذه عبد العزيز بن محمد الدراوردي لما روى عنه ما زاد على قوله: عن محمد، فلم يزد ابن عمرو، فـ عبد الله بن مسلمة القعنبي الذي هو تلميذ تلميذه أو أبو داود أو من دونه هو الذي زاد كلمة (يعني)، فالتي عند عبد العزيز بن محمد الزائد لها أبو داود أو من دونه، وأما (يعني) التي جاءت مع محمد بن عمرو فالزائد لها عبد الله بن مسلمة القعنبي أو من دونه؛ لأن عبد الله بن مسلمة القعنبي ليس تلميذه وإنما تلميذه عبد العزيز بن محمد الدراوردي، فـ عبد العزيز بن محمد، قال: حدثنا محمد، ومن دونه إما عبد الله بن مسلمة القعنبي أو أبو داود أو من دون أبي داود هو الذي أضاف أو أتى بكلمة (يعني): ابن عمرو. [فقهاء المدينة السبعة] [عن أبي سلمة] .هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف تابعي ثقة، معروف بكنيته، وقيل فيه: إنه سابع الفقهاء السبعة في المدينة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم؛ وذلك أنه اشتهر في المدينة في عصر التابعين سبعة من الفقهاء بلقب الفقهاء السبعة.وإذا ذكر المحدثون في كتب الحديث، أو الفقهاء في مسائل الفقه مسألة من المسائل اتفق عليه هؤلاء السبعة قالوا: وقال بها الفقهاء السبعة.فكلمة الفقهاء السبعة تعني سبعة من التابعين، وستة منهم لا خلاف في عدهم من الفقهاء السبعة، والسابع منهم فيه ثلاثة أقوال، أما الستة الذين اتفق على عدهم من الفقهاء السبعة فهم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن الزبير بن العوام وخارجة بن زيد بن ثابت والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار، هؤلاء ستة متفق على عدهم في فقهاء المدينة السبعة. وأما السابع ففيه ثلاثة أقوال: قيل: هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الذي معنا في هذا الإسناد، وقيل: هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وقيل: هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.وقد ذكر ابن القيم في أول كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) جملة كبيرة من المفتين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في مختلف الأقطار والبلاد، فذكر أهل الفتوى في المدينة من الصحابة والتابعين، وكذلك ذكر أهل الفتوى في البصرة والكوفة ومصر ومكة وهكذا.فذكر في أول كتابه (إعلام الموقعين) جملة من أهل الفتوى الذي عرفوا بالفتوى وبالفقه، والذين يرجع إليهم في المسائل يستفتون فيها، ولما جاء عند المدينة والفقهاء من التابعين ذكر من فقهاء التابعين في المدينة سبعة، وجعل السابع منهم أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وليس أبا سلمة الذي معنا في الإسناد.وذكر بعضهم بيتين من الشعر ثانيهما مشتمل على أسماء الفقهاء السبعة، على أن السابع هو: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، البيتان هما: إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجة فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة عبيد الله هو: عبيد الله بن عتبة بن مسعود، وقاسم هو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعروة هو: عروة بن الزبير بن العوام، وسعيد هو: سعيد بن المسيب، وسليمان هو: سليمان بن يسار، وخارجة هو: خارجة بن زيد بن ثابت، وأبو بكر هو: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.فذكر في هذا البيت أوائل أسماء هؤلاء الفقهاء السبعة، والسابع منهم على أحد الأقوال: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. ومن المسائل التي اتفق عليها الفقهاء السبعة: مسألة وجوب الزكاة في عروض التجارة، فيقولون: وقال بها الأئمة الأربعة، أي: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، والفقهاء السبعة، وهذا يغني عن عدهم وسردهم، ومن أراد أن يعرفهم فهم مذكورون في كتب المصطلح.فـ أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف تابعي ثقة أحد الفقهاء السبعة في المدينة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم. [عن المغيرة بن شعبة]. هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحابي مشهور، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.وكأن الحديث فيه اختصار، ففي بعض رواياته ذكر قصة، وأنه كان مرة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب منه أن يأتي بوضوء فتوضأ، ولما أراد أن يغسل رجليه أراد المغيرة أن ينزعهما ليغسلهما فقال: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين). [شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد)] قال المصنف: رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا إسماعيل بن عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد)].أورد أبو داود رحمه الله حديث جابر بن عبد الله الأنصاري وهو بمعنى حديث المغيرة بن شعبة المتقدم، بل هو موضح له؛ لأنه هنا عبر بالبراز، يعني: المكان الذي تقضى فيه الحاجة، وهو الفضاء. وقوله: [(كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد)]، هذا أيضا كناية عن قضاء الحاجة، ومعناه: أنه كان يذهب بعيدا عن الأنظار حتى لا يراه أحد، وليس المقصود أنه كان يتوارى بحيث أنه يكون بعيدا جدا، بل المقصود أنه كان يبعد حيث لا يراه أحد، ويمكن أن يبعد حتى يرى رؤية غير واضحة، والعورة لا سبيل إلى رؤيتها بهذا، فهذا الحديث هو بمعنى الحديث المتقدم. [تراجم رحال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد)] قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد]. هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.[حدثنا عيسى بن يونس] .هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.[حدثنا إسماعيل بن عبد الملك] .هو إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفيراء وهو صدوق كثير الوهم، أخرج حديثه البخاري في جزء رفع اليدين وأبو داود والترمذي وابن ماجة، ولم يخرج له النسائي، ففي كتاب النسائي الذي درسناه لم يمر بنا إسماعيل بن عبد الملك هذا؛ لأنه ليس من رجال النسائي، وهو صدوق كثير الوهم. [عن أبي الزبير]. هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق يدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [عن جابر بن عبد الله]. هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما وهو صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.وجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أحد السبعة الذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعة من الصحابة هم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأنس وجابر وأبو سعيد الخدري وعائشة أم المؤمنين.ستة رجال وامرأة واحدة. يقول السيوطي في الألفية مشيرا إلى هؤلاء: والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر وأنس والحبر -وهو ابن عباس - كالخدري وجابر وزوجة النبي.فهؤلاء سبعة من الصحابة رضي الله عنهم عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.وجابر بن عبد الله الأنصاري الذي في هذا الإسناد هو أحد هؤلاء السبعة من الصحابة المكثرين من رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.والإسناد فيه إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفيراء وهو صدوق كثير الوهم، وفيه أيضا أبو الزبير المكي وهو مدلس، لكن الحديث هو بمعنى الحديث المتقدم، فوجود شخص كثير الوهم، وآخر مدلس لا يؤثر؛ لأن الحديث هو بمعنى الحديث الذي قبله، فهو شاهد له، ويدل على ما يدل عليه الحديث الذي قبله. ما جاء في الرجل يتبوأ لبوله شرح حديث: (إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعا) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرجل يتبوأ لبوله: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا أبو التياح حدثني شيخ قال: لما قدم عبد الله بن عباس البصرة فكان يحدث عن أبي موسى فكتب عبد الله إلى أبي موسى يسأله عن أشياء فكتب إليه أبو موسى: (إني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأراد أن يبول فأتى دمثا في أصل جدار فبال، ثم قال: إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعا)]. أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي: باب الرجل يتبوأ لبوله، يعني: يبحث أو يختار مكانا مناسبا لبوله؛ لأنه لما ذكر في الباب الأول ما يتعلق بالتستر عند قضاء الحاجة، ذكر أنه إذا كان في فضاء يذهب بعيدا حتى لا يراه أحد، وإذا كان في مكان كالأبنية أو الخيام أو ما إلى ذلك فليكن في مكان يستره عن الناس.فالباب الأول يتعلق بالتستر، وأن الإنسان يبتعد عن الناس عند قضاء حاجته إذا كان في فضاء، أو يذهب إلى الأماكن المخصصة لقضاء الحاجة في البيوت مثل الكنف والمراحيض. وفي هذه الترجمة المقصود: أن ينظر المكان المناسب الذي يبول فيه؛ لأن المكان قد يكون صلبا وإذا وقع عليه البول تطاير على البائل؛ وأما إذا كان رخوا فإن الأرض تشربه ولا يرتد عليه، فيختار الإنسان مكانا مناسبا ليبول فيه بأن يكون دمثا، والدمث: هو الأرض السهلة الرخوة الترابية التي إذا وقع عليها البول راح وغاص فيها.أما إذا كانت الأرض صلبة فإن وقوعه على الأرض يكون معه التطاير، وأيضا ما لم تشربه الأرض فقد يسيل ويرجع على البائل إذا كان في مكان أعلى منه، وعلى هذا فالذي ينبغي على الإنسان أنه إذا جلس في الأرض ليقضي الحاجة أن يختار أرضا رخوة، وأن يكون أعلى من المكان الذي يبول فيه؛ لأنه إذا كان المكان أعلى منه قد ينزل البول ويرتد عليه، ولكنه إذا كان المكان أنزل منه فإنه لا مجال إلى ارتداه، وإذا كانت الأرض رخوة فإن الأرض تشرب البول ويذهب في الأرض ولا يتطاير على صاحبه. أورد أبو داود رحمة الله عليه حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (إني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأراد أن يبول فأتى دمثا في أصل جدار)، يعني: مكانا سهلا في أسفل الجدار أو بجوار الجدار، وإذا كان الجدار أمامه فهذا أكمل في الاستتار.والدماثة هي السهولة، ولهذا يقال عمن فيه سهولة في خلقه: دمث الأخلاق، أو فيه دماثة؛ إشارة إلى السهولة وعدم الشدة، كما أن الأرض التي بهذه السهولة يقال لها: دمثة.فالنبي صلى الله عليه وسلم اختار مكانا دمثا في أصل جدار، يعني: مكانا رخوا في أسفل الجدار بحيث يكون الجدار أمامه يستتر به، فكون الجدار أمامه فيه سترة فلا يراه أحد من أمامه، وكذلك أيضا كون الأرض دمثة، معناه: أن البول ينزل فيها ولا يرجع ولا يتطاير على صاحبه. وقوله: {فبال ثم قال صلى الله عليه وسلم: إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعا))، يعني: يبحث أو يختار لبوله مكانا وموضعا مناسبا فيه السهولة، وهذا هو المقصود من إيراد الحديث: أنه يبحث عن مكان سهل، ويختار موضعا مناسبا من حيث الاستتار كما استتر صلى الله عليه وسلم بالجدار أن يكون مكانا دمثا أو أرضا سهلة رخوة ينزل فيها البول وليست صلبة. تراجم رجال إسناد حديث: (إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعا) قوله: [(حدثنا موسى بن إسماعيل)].هو موسى بن إسماعيل التبوذكي أبو سلمة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [حدثنا حماد]. هو ابن سلمة، وهنا حماد مهمل، ويحتمل أن يكون حماد بن زيد وأن يكون حماد بن سلمة لكن موسى بن إسماعيل كثير الرواية عن حماد بن سلمة وقليل الرواية عن حماد بن زيد فالعادة جرت أن التلميذ عندما يكون مكثرا عن شيخ لا ينسبه؛ اكتفاء بما هو معروف عنه من كثرة الرواية عنه، فإذا كان التلميذ له شيخان أحدهما قد أكثر عنه والثاني لم يكثر عنه، ثم أهمله فلم ينسبه، فيحمل على الذي أكثر عنه، كما قال هنا: عن حماد، وما قال: ابن سلمة ولا قال: ابن زيد مع أنه تلميذ لهذا ولهذا إلا أنه مكثر عن ابن سلمة ومقل عن حماد بن زيد. إذا: يحمل المهمل على من له به خصوصية، ككونه مكثرا عنه كما هنا.وحماد بن سلمة بن دينار البصري ثقة أخرج له البخاري تعليقا ومسلم وأصحاب السنن الأربعة. [أخبرنا أبو التياح]. هو يزيد بن حميد، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته.ومن علوم المصطلح معرفة الكنى والألقاب، فمن له كنية ولقب ينبغي معرفتهما، وفائدة معرفة الكنى: ألا يظن الشخص الواحد شخصين، فإذا جاء في بعض الأسانيد يزيد بن حميد لزم أن يقال: هو أبو التياح وإذا أتى في بعضها أبو التياح لزوم أن يقال: هو يزيد بن حميد.فالذي لا يعرف أن يزيد بن حميد كنيته أبو التياح يظن أن أبا التياح شخص، وأن يزيد بن حميد شخص آخر. إذا: فائدة معرفة ذلك: ألا يظن الشخص الواحد شخصين؛ فإنه إذا ذكر باسمه مرة وبكنيته أخرى لا يظن أن هذا غير هذا، بل إن هذا هو هذا، وإنما ذكر مرة باسمه ومرة بكنيته.[حدثني شيخ]. هذا مبهم، وأما الذي مر وهو قوله: (حدثنا حماد) فهذا مهمل؛ ففي علم المصطلح إذا ذكر الشخص ولم ينسب قيل له: المهمل، وإذا ذكر بدون اسمه فقيل: شيخ أو رجل، فهذا يقال له: مبهم، والمهمل لابد من معرفة نسبته، والمبهم لابد من معرفة اسمه ونسبه وحاله، وإذا كان مبهما ولم يعرف فإن هذا قدح وضعف في الإسناد. [لما قدم عبد الله بن عباس البصرة فكان يحدث عن أبي موسى]، يعني: أن الصحابة كانوا يحدثون عن الصحابة.[فكتب عبد الله إلى أبي موسى يسأله عن أشياء، فكتب إليه أبو موسى: (إني كنت مع رسول الله)] يعني: أن ابن عباس قدم البصرة فكان يحدث بأحاديث، وكان يحدث عن أبي موسى، فكتب إلى أبي موسى يسأله عن أشياء كان منها هذا الذي يتعلق بهذا الحديث، فقال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم …).عبد الله بن عباس هو ابن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذين مر ذكرهم آنفا عند حديث جابر بن عبد الله، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم: عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير بن العوام، فهؤلاء أربعة من صغار الصحابة اشتهروا بلقب العبادلة الأربعة، وفي الصحابة عدد كبير من الصحابة يقال لهم: عبد الله، ومنهم أبو موسى الاشعري فهو مشهور بكنيته واسمه عبد الله بن قيس، وعبد الله بن مسعود وعدد كبير من الصحابة يقال لهم: عبد الله لكن اشتهر منهم أربعة لقبوا بالعبادلة الأربعة. فإذا قيل: العبادلة الأربعة من الصحابة، انصرف الذهن إلى ابن عباس وابن عمر وابن عمرو وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم. [فكتب عبد الله إلى أبي موسى]. أبو موسى هو عبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.وهذا الحديث ضعيف لكن معناه صحيح؛ لأن الإنسان يجب عليه التنزه من البول، وكذلك يجب عليه أن يحتاط بحيث لا يتطاير عليه البول، وكونه بال إلى أصل متصل بالجدار جاء ما يدل عليه في الأحاديث الأخرى.فهذا الحديث من حيث الإسناد ضعيف؛ لأن فيه راو لم يسم، وهو الشيخ الذي أبهم، ولكن الحديث من حيث المعنى صحيح.فالإنسان عندما يريد أن يبول عليه أن يستتر، وقد جاءت الأحاديث في الاستتار، ويختار المكان المناسب للبول، كالمكان الرخو الذي لا يكون صلبا يضرب فيه البول ثم يتطاير، وهذا أمر مطلوب.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |