بعث الروح الإسلامية في أمم الشرق عند محمد إقبال - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12522 - عددالزوار : 213611 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          متعة الإجازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          التقوى وأركانها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر

ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-10-2021, 10:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي بعث الروح الإسلامية في أمم الشرق عند محمد إقبال

بعث الروح الإسلامية في أمم الشرق عند محمد إقبال


أ. د. حامد طاهر








سلسلة أبحاث جامعية محكمة يشرف على إصدارها الدكتور حامد طاهر










بالتعاون مع مركز اللغات الأجنبية والترجمة بجامعة القاهرة



دراسات عربية وإسلامية





بعث الروح الإسلامية في أمم الشرق



عند محمد إقبال



أ.د حامد طاهر[1]







سبق أن كتبت عن (منهج) محمد إقبال في دراسة الفلسفة الإسلامية، مستخلصًا إياه من كتابه الذي تُرجم إلى اللغة العربية بعنوان: "تجديد التفكير الدِّيني في الإسلام"، وقد قارنتُه بالمنهج عند كلٍّ من الشيخ مصطفى عبدالرازق، والدكتور إبراهيم مدكور، والثلاثة يعتبرون من روَّاد دراسة الفلسفة الإسلامية الذين دَرسوها بمنهج حديث في النصف الأول من القرن العشرين، وقد سار على مناهجهم معظم دارسي الفلسفة الإسلامية، الذين أصبَحوا فيما بعدُ أساتذةً في الجامعات المِصْريَّة والعربيَّة، وصار لهم عشراتُ التَّلاميذ الذين يَسيرون على خُطاهم حتَّى اليوم.







وفي هذا البحث سأُحاول أن أرصد وأُحلِّل بعض أشعار محمد إقبال التي كتَبَها بالفارسيَّة مِن خلال ديوانٍ بعنوان: "والآن ماذا ينبغي أن نفعل يا أُمَم الشَّرق؟"، الَّذي قام بترجمته إلى العربيَّة زميلي وصديقي الأستاذ الدكتور يوسف عبدالفتاح، والذي يبذل جهودًا مشكورة في ترجمة مؤلَّفات إقبال إلى العربيَّة، فجزاه الله عن قُرَّائها خير الجزاء.







يَحْتوي الديوان على ثلاث عشرة قصيدةً، وتَشِيع فيه روحٌ إسلاميَّة صادقة، حاول محمد إقبال أن ينفثها في نُفوس المسلمين في الشَّرق؛ لكي يُدرِكوا ذاتهم، ويتعرَّفوا على حقيقتهم، ويتخلَّصوا من تبعيَّتِهم الخانعة للغرب.







وفي البداية يؤكِّد إقبال على أهَميَّة العقل في حياة المؤمن، ولكنَّه يحذِّر في نفس الوقت من (بَغْي العقل):



"أريد أن أُرسِلَ جيشًا جديدًا من ولاية العِشْق؛ لِدَفْع خطر بغي العَقْل على الحرم".







ثم يستدرك قائلاً:



"لا تَظننَّ أن العقل لا وزن له ولا حساب، إنَّ نظر العبد المؤمن يقوم على العقل".







وهو يتحدَّث في "التَّمهيد" عن الشيخ الرُّومي، ومن الواضح أنَّه يَقْصد جلال الدين الرومي صاحب المثنوي، الذي يقول على لسانه:



"إنَّ الأرواح صارَتْ حرم الأسرار، واستيقظَ الشَّرق من النَّوم العميق".







وهو في رأيه الذي:



"منح جَذْبة جديدة، فحطَّمَت القيود القديمة".







ثم يُخاطبه - وهو في الواقع كأنَّما يشير إلى نفسه - قائلاً:



"أيُّها العالِمُ: لا يَعْرف أسرارَ الإفرنج سواك، ولا يستطيع الخوضَ في نارهم إلاَّ أنت"!







بَعْث الروح الإسلامية عند إقبال يعتمد على عدَّة ركائز أساسيَّة:



أوَّلُها: الإيمان الصَّادق المُمتَزِج بدقَّات القلب.



وثانيها: العقل المُدْرِك لحقائق الشَّريعة الإسلامية، والواعي بِمَاضي العالم الإسلامي وحاضره.



وثالثها: التنبُّه لخطورة المتربِّصين بالإسلام والمسلمين، وعلى رأسهم الغَرْب، الذي لا يدرك أسرارَ الرُّوح، وفِكْرُه متعلِّق فقط بالجسَدِ المكوَّن من الماء والطين!







ثم إنَّ هذه الرَّكائز الثلاثة تكتسي بعنصُرَين يمدَّانها بالحرارة والحيويَّة، وهما: العنصر الصُّوفي، وعنصر الخيال الشِّعري.







يقول إقبال:



"إنَّ حياة الأمم لا تَكون إلاَّ بجذبات القلب، الذي يَحْسبه قصيرُ النَّظر جنونًا، ولَم تفعل أيَّة أمَّةٍ شيئًا تحت قبَّة السماء اللازوردية بدون (الجنون فنون)!".







وبالطَّبْع لا ينبغي أن يُفْهَم من ذلك أن محمد إقبال يدْعو إلى الخروج من إطار العقل، وإنَّما هو يدعو بكلِّ قوة إلى استخدام الخيال المبدِع، الذي يكتشف غوامض الكَوْن، ويخترع الأساليبَ والأدواتِ التي تساعده على تسخيره، والإفادة الكاملة منه.







كذلك فإنَّ "المؤمن الحقَّ" لدى إقبال ليس هو الإنسان الضَّعيف المُتواكل؛ وإنَّما:



"المؤمن قاهرٌ بالعزم والتوكُّل، وهو الذي يميِّز الخير من الشر، ويتزلزَلُ العالم من نظرتِه، وتتهَشَّم الجبال من ضربته، ويَخْتفي آلاف الثُّوار في طيَّات جيبه"!







وبالنِّسبة إلى أهل الدُّنيا وعُشَّاقها، والمُنغَمِسين في ظاهرها الحِسِّي، فإنَّ محمد إقبال يؤكد:



"إنَّ أهل الدنيا لا خيال لهم ولا قياس، ولا يميِّزون بين الحصير والحرير"!







ويدعو إقبال الشاعر الإسلامي الحقيقيّ إلى أن:



"يوضِّح معنى السِّياسة والدين لأهل الحقِّ، وأن يُعيد التوضيح لهاتين الحكمتين"!







وفي قصيدته "خطاب إلى الشَّمس المضيئة" يَقول:



"أنتِ ضياء الصُّبح، وأنا غروبُ اليوم، فأشعِلي سراجًا في ضميري، وأَنِيري ظلمة تُرابي، واستُريه في تجلياتك؛ حتى أُحيل لَيل أفكار الشَّرق نهارًا، وأُشعل صدور أحرار الشَّرق، وأَصوغ النَّغمات من خام الطَّبْع، وأفتح الأيام دورةً أخرى؛ كي يتحرَّر فِكْرُ الشَّرق من الإفرنج، ويكتسب من شعري مياهًا جديدة، ولونًا آخَر".







الهدف إذًا واضح، وهو "إحالة ليل أفكار الشَّرق إلى نهار، وإشعالُ الجَذْوة في صدور أحرار الشَّرق"، وهنا تظهر أهميَّة عمل العقل، وتَحْريك الفِكْر الرَّاكد:



حينما يتعطَّل فِكْر شعب، تتحوَّل الفضَّة النقيَّة في يده إلى فضَّة مزيَّفة، ويموت القلب السليم في الصَّدْر، ويبدو في نظَرِه الشيءُ المستقيم معوجًّا!







ويلجأ محمد إقبال إلى الفِكْرة الَّتي أَطْلق عليها صوفيَّةُ المسلمين مصطلحَ "التَّخْلية قبل التحلية"، ويَقْصدون بها أن يَبْدأ المريد بتطهير نفسه أوَّلاً من كلِّ العلائق والشوائب التي تَرْبِطه بالمادَّة، وبملذَّات الحياة الدنيويَّة؛ تمهيدًا لملئها، وإعادة ملئها بكلِّ الأخلاق المرضيَّة، التي تقرِّبه من الله تعالى؛ يقول إقبال:



"إذًا فلا بدَّ - بدايةً - من (تَطْهير الفِكْر)، وبعد ذلك يُصبِح (تعمير الفِكْر) سهلاً".







وفي قصيدةٍ أخرى بعنوان: "حكمة الكليم" يؤكِّد إقبال أنه:



"عندما يَفْنى المؤمنُ في رضا الحقِّ، يصبح هو قضاء الحق، ويَخْرج من ضميره الطَّاهر: عالم جديدٌ له جهات أربع، فضاؤه أزرَق"!







ونحن عندما نقرأ هذه الأبيات نَسْتحضر على الفور قولَ الله تعالى في حديثٍ قدسي: ((ما يَزال عبدي يتقرَّب إلَيَّ بالنوافل حتَّى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يَسْمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، وقدمَه التي يَمْشي عليها)).







وفي مقابل حكمة أهل الحقِّ والدِّين، يُخص إقبال قصيدةً لأضدادهم - أهل الحِقْد والمَكْر والخداع - بعنوان: "الحكمة الفرعونيَّة" التي تقوم على تخريب الرُّوح وإعمار الجسَد، كما تبتعد تَمامًا عن الدين، وتُحوِّل التعليم إلى رسومٍ ومَظاهرَ ونظامٍ يَجْعل السَّادة عبيدًا في التفكير، ويجعل شُيوخ الدِّين يُؤوِّلونه ليخدم مرادَ الحُكَّام، وهم بذلك يشطرون وَحْدة الأُمَّة، وفي مثل هذه الحالة تُصبِح الأُمَّة محرومةً من الصادقين الغيورين، ويتحوَّل الجميعُ إلى شخوصٍ ذوي أرواح ميتة في أجسادها؛ كالموتى في قبورهم؛ الكبار منهم غَرُباء عن الحياة، والشَّباب مشغولون بالجسَد مثل النِّساء:



"الآمال مُضْطربة في قلوبهم، وُلِدوا موتى من بطون الأُمَّهات، بنَاتُهم أسيراتُ طرتِهن وزينتِها، لا حياءَ عندهن، مُعجَبات بأنفسهنَّ، منتَقِدات للغير، مُتصنِّعات، مُخْتالات، مائلات، حواجبهن مُرقَّقات كالسيفَيْن، سواعِدُهن الفضيَّة قُوت الأنظار، صدورهنَّ باديةٌ للعيون كالأسماك تحت الماء!







شَعْبهم صار رمادًا بلا شرر، وصار صُبحُهم أحلك سوادًا من اللَّيل، عمَلُه وفِكْره رغبةٌ في العيش، وخوفٌ من الموت، أغنياؤه بُخَلاء، عاشقون للحياة، غافِلون عن الجوهر، مَشْغولون بالقشر والعرَض.







معبودهم فرمان المَلِك، ونفعهم ورِبْحهم في خسران الدِّين والإيمان، لَم يتجاوز فِكْرُهم حدودَ اللَّحظة الراهنة، وليس لهم تصوُّر للغد في زمانه.







لديهم كتبٌ يَعْيا بحملها البعيرُ من أيَّام أجدادهم، فآهٍ من قومٍ غافلةٍ قلوبُهم، ماتوا ولَم يَعْلموا بموتهم"!







إنَّ هذا الوصف التفصيليَّ لهؤلاء الأضداد، المُخاصمين للحقِّ، والبعيدين عن إطار الدِّين هو ما يجعل محمد إقبال يندفع بكلِّ قوَّة وجرأةٍ لِبَعث الرُّوح في نفوس الأمَّة الإسلاميَّة، التي تمتلك - وحْدَها - كلمة التَّوحيد "لا إله إلا الله"، وهي التي تُعدُّ: "ميزان حياة الكائنات، وبِها فتح باب تسخيرها".







وهو يرى: "أنَّ أمَّةً لا تُضيء حياتها بكلمة التوحيد، لا تستطيع تجديد حياتها.







إنَّ ضربات كلمة التوحيد - كما يقول إقبال - حرَّرَت العالم كلَّه من اللاَّت ومناة، وبها تحطَّمَت كلُّ أبنية الطواغيت القديمة، وهلَكَ بسببها كِسْرى وقيصر، وقد كانت كلمةُ التوحيد أحيانًا كالبَرْق والأمطار تغزو الصَّحراء، وأحيانًا أخرى كالطُّوفان تغزو البحر، لقد أضاءت العالَم الذي كان كديرٍ قديم، حتَّى بدا عالَمًا جديدًا، ولقد طهَّر أهلُها لوحَ القلب من عبادة غَيْر الله، وحرَّروا الإنسانَ مِن التعدُّدية.







إنَّ الحياة لا تستقرُّ عند مقام (لا)، وإنَّما تَسير نحو (إلاَّ)؛ فبِـ (لا.. وإلاَّ) يستقرُّ أمر الأمم، ولكن النَّفي فقط بلا إثبات موتُ الأمم، وأخيرًا فإنَّ كل من كان في يده سيف "لا إله إلا الله"، فإنَّ جميع الموجودات تأتمر بأمره".







وفي قصيدة بعنوان: "الفَقْر" يحمل بكلِّ قوَّة على الزُّهاد والصوفيَّة المُتخاذلين، مبيِّنًا لهم أنَّ الفقر ليس هو انعِدام المال، أو الزُّهد في الدنيا؛ وإنَّما هو:



"نظرةٌ ثاقبة وقلب حيٌّ، إنَّه عبارة عن تدبُّر أحوالك، والطَّواف حول "لا إله".







الفقر هو الَّذي فتح خَيْبر مع خبز الشَّعيرة، الفقر ذَوْق وشَوق، وتسليمٌ ورِضا، ونحن أُمَناء على ميراث المصطفى هذا.







الفقر يُعْطي الخاملين ذَوْق الطَّيَران، ويعطي البعوضة قوَّة النسر.







الفقر يجعل الفقير يناقش السَّلاطين، وتتزلزَلُ عروشهم من عظمة حصيرته، ويُثير كامن الجنون في الأُمَّة، ويُخلِّصها من قيود الجَبْر والقهر.







قلب الفقير مليءٌ بالقوَّة والجذب، وصيحتُه أمام السُّلطان: لا ملوك!







والنتيجة:



إنَّه لا تَهْلك أمَّة ما دام فيها فقيرٌ واحد"!







إنَّ هذا الفقير الذي يتحدَّث عنه إقبال هو الإنسانُ المسلم، الَّذي يتجرَّد من قيود الدُّنيا الزائلة؛ ليتمسَّك بقوة الحق واليقين، ويُواجه أعتى الصِّعاب معتمِدًا على إيمانه القويِّ بالله تعالى، إنَّ قُوَّة الدِّين في عِزِّ الفقر، وإذا كان الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أرشَدَنا إلى أنَّ وجه الأرض كلِّها مسجد، فأي مأساةٍ تلك التي أوقعَت المسلمين في أيدي الآخرين؟!







وعلى ذلك؛ يُصبِح المؤمن الطَّاهرُ هو الذي يبذل قصارى جهدِه؛ لكي يُخلِّص مسجد مولاه من الأَسْر.







ويُخاطب إقبال المتزهِّدين الَّذين يدَّعون تَرْك الدُّنيا، قائلاً لهم: "إنَّ تَرْكَها هو تَسخيرُها، وليس تَدْميرها، الدُّنيا هي صيد المؤمن، فهل يمكن أن يُقال للصَّقر البازي: اتْرُك صيدك؟!".







ويؤكد إقبال أنَّ الفقر هو ما يقرُّه القرآن الكريم، وليس كما هو شائعٌ في رَقْص وسُكْر، وشِعْر وربابات، وإذا سُئِلت عن فقرِ المؤمن، فَقُل: إنَّه تسخير الجهات، ويصير العبد المؤمنُ مولًى لجميع الصِّفات!







وإذا تساءَلْنا: ماذا حدث للأُمَّة الإسلاميَّة؟ يجيب إقبال:



"منذ ثلاثة قرون، وهذه الأُمَّة مسكينةٌ ذَليلة، تَحْيا بلا سُرورٍ ولا حرقة قلب، أصبح الفِكْر خسيسًا، والذَّوق أعمى، فحُرِم مُعلِّموها الشَّوق، وحُرِمت مَدارِسُها منه، لدرجة أنَّه لَم يَعُد الإنسانُ فيها يعلم شيئًا عن مقامه ومَنْزلته، ومات ذوق الثَّورة في قلبه، صار طبْعُه بلا صحبةٍ لِمُرشدٍ خبير، سقيمًا لا يقبل الحقَّ.







حتَّى إنه جعل العبد المفلس الماكِرَ السَّافل مولاه ليس لدَيْه المال الَّذي يأخذه السُّلطان، ولا نور القلب الذي يَنْزعه الشيطان!







هو مريدٌ لشيخه اللُّورد الإفرنجي، وإنْ تغنَّى بمقام (بايزيد)"!







ويُناشد إقبال الإنسانَ المسلم، التَّائه عن مقامه ومكانة وطنه، قائلاً بأعلى الصوت:



"كن نَفْسَك: رجُلاً لِلَحْظة، وكُنْ أجنبيًّا مع الأجنبي، أيُّها الجاهل عن اللَّحن والصَّوت، اعرف جنسَك، ولا تَطِرْ مع الغربان"!







ثم يختم القصيدة بقوله:



"خُذْ حظَّك من فقري، فلن يأتي بعد الآن فقيرٌ مثلي"!







أمَّا قصيدة "الرَّجل الحر"، فهي تَصِفُ ملامح المسلم الجديد الَّذي يريده محمد إقبال؛ لكي ينهض بالأمَّة الإسلامية، وتنهض به:



"الرجل الحرُّ رأسه في كفِّه عند النِّزال، وليست في جيبه مثلنا، ضَميره منيرٌ بـ "لا إله إلاَّ الله"، فلا يصير عبدًا لسلطانٍ ولا لأمير.







إنَّه يحمل الأثقالَ كالإبل، ويأكل الحسك، يضَعُ قدمَه في كلِّ موضعٍ بحساب وقوَّة، ويكاد يقفز وريدُه من شدَّة نبضه، روحُه تَخْلد بالموت أكثرَ من الحياة، ولَحْن تكبيره خارجٌ عن إطار العُرْف والصَّوت.







نحن نعرف سرَّ الدِّين بالخبَر، ويعرفه هو بالنَّظَر، هو في الدَّار، ونحن خارجَ الباب، هو عبدُ الله، ونحن جميعًا عبيد الإفرنج!







فكرنا دائمًا في الدُّنيا، ونهايتنا ليست سوى الموت، أمَّا هو فثابتٌ في الدنيا المُتأرجِحة، وموتُه إحدى مقامات الحياة!







هو في يوم الصُّلح كنَسيم الرَّبيع على المرج الأخضر، أمَّا في يوم الحَرْب، فيَحفِر قبره بسيفِه.







ليس لك في هذا العالَم سوى أن تتعلَّق بأذيال هذا الرَّجُل وأمثالِه الأحرار"!


يتبع





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 02-10-2021, 10:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: بعث الروح الإسلامية في أمم الشرق عند محمد إقبال

ويُمثِّل فَهْمُ الدِّين فهمًا صحيحًا وعميقًا إحدى الرَّكائز الأساسيَّة في البعث الإسلاميِّ المنشود لدى محمد إقبال؛ يقول في قصيدتِه بعنوان: "أسرار الشَّريعة":



"إنَّ حِفْظ المال ضروريٌّ من أجل الدِّين، وتِلْك حكمةٌ لا يُدرِك معناها كثيرٌ مِمَّن يمتلكون الذَّهَب والفضَّة، الذين ينحَصِر هَمُّهم في جَمْع المال وتَكْديسه في خزائنهم؛ ولذلك فإنَّ تجديد روح الأمَّة لا قيمةَ له عندهم، فهم مُقلِّدون يحافظون على القديم ويَدْعمونه، الباطل في نظَرِهم صواب؛ لأنَّهم يَخْشون معارك الثُّوار، السيِّد يأكل خبزَ العبد الأجير، ويُريق ماءَ وجه ابنته!







إنَّ إصلاح الأُمَّة لا يأتي إلاَّ مِن فارغي الأيدي، وفَسادها يأتي من المُنعَّمين المُتْرَفين، وما لَم تعرف حِكْمة الأكل الحلال، فحياتُك وبالٌ على جماعة المسلمين"!







وبعد أن يَسْتطرد إقبال إلى المقارنة بحال أوروبا التي لا تدرك حقيقة هذا المقام الدِّيني؛ لأنَّ عيونها لا تنظر بنور الله، ولا تُميِّز بين الحرام والحلال، يُؤكِّد للمسلمين أن:



"الشرع ينهض من أعماق الحياة، وإذا أردتَ أن ترى أعماق الدِّين واضحة، فلا تنظر إليه إلاَّ مِن أعماق الضَّمير، وإن لم تَفْعل، فدينُك هو الجَبْر، ومثل هذا الدِّين لا يرضاه الله".







ويَستمِرُّ إقبال في دعوة عُلَماء الدِّين إلى الخروج من مَجالسهم المَحْدودة إلى فضاء العالم الرَّحيب؛ لكي ينشروا الإسلام، ويكتَشِفوا أسرار الشَّرع المبين؛ حتَّى لا يُصبِح أحَدٌ في هذا العالم مُحتاجًا إلى أحد، وهو يُعلِّق على هذا قائلاً:



"هذه هي أسرار الشَّرع المبين وحَسْب! أمَّا العلماء الَّذين لجَؤوا إلى التأويل، فقد خمدَ ميزانُهم في الضَّمير، ومن ثَمَّ لم يعودوا قادرين على التَّواصل مع الشَّباب، والتأثير فيهم".







يقول إقبال: "لقد وُجد في عصري مَن لا يرى في القرآن سِوَى نفسِه، وكأنَّه نبيٌّ! كلُّ واحد منهم عالِمٌ في القرآن والحديث، إلاَّ أنهم قليلو الدِّراية بالشريعة.







جعَلوا العقل والنَّقْل تبعًا لأهوائهم، فمِنْبرُهم منبر "أَكْل العيش وحسب"!







وفي قصيدته "دموعٌ بسبب فرقة الهنود" تصل اللَّهجة الثَّائرة لدى إقبال أقصى مَداها، وفيها يقول:



"إنَّ الأمة التي لا تَأْكل السُّم من أجل المَجْد سوف يُمحَى مكانُها من خريطة الوجود".







وهو يحدِّد وضع الهند المُتردِّي بسبب الاستِعْمار البريطاني قائلاً:



"اختلَفَ الهنودُ مع بعضهم، وأثاروا الفِتَن القديمة، حتَّى جاء الإفرنجُ من الغرب؛ لكي يكونوا وسيطًا بين الكُفْر والدِّين، فما عاد المَرْء يُفرِّق بين الماء والسراب، فالثَّورة، الثَّورة، الثورة"!







أما قصيدة "السِّياسة الحاضرة"، فتصف أسلوبَ الاستعمار الماكر، والذي يخدع أبناءَ الوطن بقشرة من الحريَّة، بينما هو يُحْكِم القيد على رقابهم، يقول إقبال:



"يُحْكِم الاستعمارُ القيدَ على العبيد، ويَعدُّ ذلك حريَّةً لهم، وعندما رأى شعاراتِ الجمهوريَّة برَّاقة، أسدَلَ السِّتار على الملَكِيَّة، وقال: إنَّ السُّلطة جامعةٌ للأقوام، فبدا نَقْصُها!







لا يَسْتطيع أحدٌ أن يطير في فضائها، كما لا يستطيع أحدٌ فتْحَ بابها بمفتاحها"!







ويُحذِّر إقبال مواطنيه بألاَّ ينخدعوا بمعسول حديث المستعمر؛ فإنَّ حديثه كلَّه زيف:



"فقد عمِيَت العيون من كحله، فالعَبْد معه أشَدُّ قهرًا من ذي قبل، حَذارِ مِن شرابه اللَّذيذ، وحذار من مُجالستهم في قمارهم السيِّئ، الرجل الحرُّ لا يغفل عن ذاتيَّتِه، فاحفَظْ نفسك، ولا تتناول الأفيون، واعتَمِد على نفسك في هذا الطَّريق؛ لأنَّ الرجل لا يصطاد الغزالَ بالكلب الأعمى"!







ويَكاد إقبال يَصْرخ من تحَسُّره على حال قومه الَّذين خلَتْ قلوبهُم من الإيمان الحقيقيِّ، القائم على اليقين:



"آهٍ من القوم الَّذين عميَتْ أعينُهم، فتعلَّقَت قلوبهُم بغير الله، فضاعوا، إذا كانت (الذاتيَّة) في صدر الأُمَّة انهارت ولو كانت كالجبَل".







أمَّا إذا كان في أساسها "لا إله إلاَّ الله" وُلِد من بطنها المُسْلم، ذلك الذي يَمْنح اليقين للمرتابين.







ذلك الذي تتزلزَلُ الأرض من سجوده، ذلك الذي يُعلِن "لا إله إلاَّ الله" تحت ظلال السُّيوف، ويَكْتبها بدمه"!







أمَّا القصيدة "خطاب إلى الأمَّة العربيَّة"، فيحمل فيها إقبال على العرَبِ، مُشيرًا إلى جهلهم بِماضيهم العريق، وبِذاتيَّتِهم الحاضرة، ثم بانخِداعهم بأسلوب حياة الغرب الَّذي استعمَرَ أرضهم، وفرَّق مجتمعَهم الواحد إلى العديد من المُجتمَعات المُتفرِّقة الغَريبةِ إِحْداها عن الأخرى.







وفي البداية، يُنادي إقبال العربَ قائلاً:



"يا مَن مُلْكهم باقٍ إلى الأبد، يا من أطلَقوا صيحة: "لا كسرى ولا قيصر"، مَن الذي كان أوَّل قارئٍ للقرآن في هذا العالَم المُترامي الأطراف بالأَمْس واليوم؟ ومَن الذي علَّم الدُّنيا سرَّ "إلاَّ الله"؟!







ومن الَّذي أشعلَ هذا السِّراج لأوَّل مرَّة؟ ومن الذي أطعم النَّاس على مائدته العلمَ والحِكْمة، ومَن الَّذين نزلَتْ فيهم آيةُ ﴿ فَأَصْبَحْتُمْ؟!".







والإشارة هنا إلى الآية الكريمة ﴿ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103].







ثُم بعد أن يُعدِّد بعض مناقب الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويُشيد بسيفِ صلاح الدِّين الأيوبي، ونَظْرة بايزيد، والمنجزات الحضاريَّة الرائعة التي ما زالت قائمة، ومُعبِّرة عن مدى ما وصَلَ إليه المُسلمون من حضارةٍ ورُقيّ؛ مثل: "قَصْر الحمراء" في إسبانيا، و"تاج محل" في الهند "الَّتي يَدْفع الزُّوارُ الخَراجَ لأهلها طوعًا"، يُصارح إقبالٌ العربَ قائلاً:



"لقد تقدَّمَت الأمم بِسَعيها، وأنت أيُّها العربي لا تعرف قيمة صَحْرائك، كنتم أمَّة، فصِرْتُم أُمَمًا، وأصبحتم متفرِّقين غُرَباء، حتَّى عن أنفُسِكم، كلُّ مَن تحَلَّل مِن قيد ذاتيَّته فقد مات، وكلُّ من أسلمَ زمامه للغرباء فقد مات.







لقد فعلتَ بنفسك ما لَم يفعَلْه أحد، فتألَّمَت روحُ المصطفى الطَّاهرة من فعلتك، يا مَن صرت جاهلاً بسِحْر الغرب، انظر: إنَّ الفتن كامنةٌ تَحْت ثوبه، فإذا أردتَ الخلاص من خداعه، فعليك أن تطرد إبِلَه عن حياضِك!







لقد وضَعَ الشُّعوبَ في فمه، ومزَّق الوطن العربي مائة دويلة، منذ وقَعُ العرَبُ في قبضته، لم تتمتَّع سماؤهم بلحظةٍ واحدة من الأمان، فانظُر إلى عصرك يا صاحب النَّظَر؛ حتى تعيد روحَ عُمر - رضي الله عنه - إلى بدَنِك.







إنَّ قوة الجماعة من الدِّين المبين، والدِّين عزمٌ وإخلاص ويقين"!







ويمكن القول هنا: إنَّ الشاعر المُلْهَم هو الذي يتمكَّن من وضع يدِه بدِقَّة على مَواطن الدَّاء في أُمَّتِه، كما يُمْكِنه أيضًا أن يُشخِّص المرض، ورُبَّما نبَّه إلى علاجه والشِّفاء منه، ويَكْفي أن نتأمَّل قول إقبال في هذه القصيدة الرائعة عن العرَبِ وأحوالهم: "منذ وقَعَ العرَبُ في قبضَتِه - الاستعمار - لَم تتمتَّع سماؤهم بلحظةٍ واحدة من الأمان"؛ لكي نُدرِك حقيقةً واقعة، ومع ذلك فإنَّها قد تغيب عن معظم العُقول التي ترصد وتُحلِّل، والكثير منها يتفلسَفُ ويتفَذْلك!







كذلك فإنَّ الشاعر يُؤكِّد أن الحلَّ موجودٌ ومُتاح:



"إنَّ قوَّة الجماعةِ من الدِّين المبين، والدِّين عزمٌ وإخلاص ويقين"!







وفي قصيدة إقبال التي اختارَ عُنوانَها؛ ليكون هو عنوان هذا الدِّيوان الهام: "إذًا ماذا يجب أن نَفْعل يا أمم الشرق؟"، يضَعُ خلاصةَ تجربته وثقافته السياسيَّة، التي أدركَ مِن خلالها حقيقة الغرب، أو موقفه المُعادِيَ من أمم الشَّرق؛ باعتبارها مجالاً واسعًا لاستعماره واستغلاله، مُحاوِلاً بكلِّ الطُّرق تحطيم ذاتيته، وتفريقَ شعوبه، وجَعْله دائمًا في مكان التَّابع الذليل له؛ لذلك فهو يستهلُّ القصيدة بقوله:



"لقَدْ أنَّت الإنسانيَّة من جَوْر الغرب، وذبلت الحياةُ بسببه"!







وهو يؤكِّد أنَّ "أوروبا هوَتْ بحدِّ سيفها، منذُ رسمَتْ طريق الإلحاد تحت القُبَّة الزرقاء".







وهكذا يضَعُ محمد إقبال الصِّراع بين الغرب والشَّرق على بساط الدِّين واللاَّدين، وليس فقط على بِساط الاستعمار والاستغلال، فيَقول:



"إنَّ عقل الغرب وفِكْرَه لا يُفرِّق بين الخير والشَّر، وعَيْناه جامدتان، وقلبه صخرٌ أصم.







العلم في الحواضر والبَوادي في خجَلٍ منهم، عِلْم الغرب سيفٌ بتَّار قد صُنِع لإهلاك النَّوع الإنساني، فآهٍ من الغرب! وآهٍ من قوانينه! وآه من فِكْره الإلحادي!







وهو يَدْعو المسلم - الذي يَعرف الفرق بين الرُّوح والجسَد - أن يُحطِّم سِحْر هذه المدنيَّة المُلحِدة، وأن ينتزع السَّيف من قبضة قاطع الطَّريق! وهنا يُعبِّر إقبال عن مضمون رسالته الشعريَّة، والعقلية أيضًا حين يُخاطب هذا المسلم:



"انْفث روحَ الشَّرق في جسده، حتَّى تصير هذه الرُّوح مفتاح قفلِ المعنى.







إنَّ الإنسان العقلانيَّ ربَّاني ما دام في حُكْم القلب، فإذا تحرَّر منه صار شيطانًا"!







وهذا ما حدثَ في أوروبا، الَّتي أصبحَ شرْعُها هو شَرْعَ الغابة، وهو الَّذي جعل لَحْم الحمَلِ حلالاً للذِّئاب، أولئك الذين يَصِفُهم إقبالٌ بأنَّهم "سارقو الأَكْفان، ونبَّاشو القبور"!







وهو يُخاطِب ابن الشَّرق، والمَقْصود بالطَّبْع هو المُسْلِم الحقيقي:



"يا أسير الألوان، انتبه! كُن مؤمِنًا بذاتك، واكفر بالغرب؛ فزِمام النَّفْع والضَّرر بيدك أنت، وكَرامة الشَّرق وعِزَّتُه في يدك أنت.







وَحِّدْ شتاتَ هذه الأمم العريقة، وارفع رايةَ الصِّدق والصفاء عاليًا؛ فقُوَّة الأمة تَكْمن في وحدتها".







ولا تقتصر دعوة محمد إقبال للمسلمين إلى النُّهوض بِذَواتهم، والتَّماسك من أجل وحدتهم، وعدم الاغترار بحضارة الغرب الزَّائفة، والتي تُخفي سُمَّها القاتل في العسل الذي تُقدِّمه للشُّعوب الشرقيَّة المقهورة، بل إنَّه يَعْمل على المقارنة بين الطَّرَفين، مُشيدًا بالحضارة الإسلاميَّة التي أشرَقَتْ بِنُورها على العالم كلِّه، فأضاءَتْه:



"نبتَ العلم والدِّين في أرض الشَّرق، رفَعْنا الحجاب عن الكائنات، فالشَّمس منَّا، ونحن من الشمس!







جَوهرُ كلِّ صدف مِن ربيعنا، وشوكة كل بحر من قوَّة طوفاننا، كشَفَ فِكْرُنا أسرارَ الوجود، وكُنَّا أوَّل عازفٍ على أوتار الكَوْن".







ويُنبِّه محمد إقبال المسلمَ إلى عدم الانخِداع بِمُنتجات الغَرْب، فيقول:



"يا غافلاً عن شؤون هذا العَصْر، تأمَّلْ مهارة الأيدي الأوروبيَّة؛ نسَجوا السجَّاد من حريرِك، ثم أعادوه إليك مرَّة أخرى، فانخدَعَت عينُك بِظَاهره وبأصباغه الزَّائفة"!







وهو يتأسَّى على حال المسلم، الَّذي نزع (العُلماءُ الجامدون) من قَلْبِه "جذبة الدِّين" أو بالأَحْرى شعلتَه الَّتي كانت تضيء العالمَ مِن حوله، حتَّى صار مثل العبد الَّذي يرسف في أغلاله، ويستَجْدي مِن الغرب خبز الشَّعير؛ يقول إقبال:



"تجوَّلتُ بين العجم والعرَب، فرأيتُ قلَّةَ أتباعِ المصطفى، وكثرةَ أتباع أبي لهَب!







هذا المسلم مضيءُ القلب، الَّذي يُضيء ضميره بدون سراج، كالحرير نعومةً ولُطفًا في شبابه، تَموت الرَّغبة في صدرِه!







وهذا العَبْد أبو العبد ابن العبد، فِكرُه في الحريَّة حرام! أخذَ أهل العلم جذبة الدِّين منه، ولا يَعْلم من وجوده سوى أنَّه كائنٌ حي، فنَسِي نفسه، وتعلَّق بالغرب، يَطْلب منه خبز الشعير"!







وفي ختام الدِّيوان، يضَعُ إقبال قصيدةَ مناجاةٍ للرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يخاطبه فيها بأسًى وحُرْقة، ويعتَرِف أمامه بصِدْقٍ وانكسار، ويَشْكو إليه حالَ الأُمَّة التي أصبحَتْ مريضة كالغزال الضَّعيف، وعلاجها صعبٌ للغاية، لكنَّه يظلُّ بيد الله تعالى، القادر على أن يهبَ المسلمين عبدًا مِن عباده المُحبِّين يجلي لهم حقيقتهم، ويلم شملهم الممزَّق في أرجاء العالم، ثم يقول:



"ما دام ليس لي في غير الله أمَل، فإمَّا أن يجعَلَني سيفًا للحق، أو مفتاحًا للخير".







ويتحدث عن نفسه قائلاً:



"إنَّ لي في فَهْم الدِّين فكرًا قويًّا، لكنَّه لم يثمر في تربيتِي، فأَعْطِ فأسي حدًّا حادًّا؛ إذْ إنَّ محنتي أشدُّ من صخور الجبال، وأنا مؤمنٌ، لستُ منكِرًا لذاتيَّتِي التي تحطم الخرافات؛ لأنني نقيُّ الجوهر.







وإن كانت تربة عمري قد خلَتْ من المَحصول، فإنَّني ما زِلْت أملك شيئًا، وهو القَلْب، أُخْفيه عن أعين الناس؛ لأنَّه خُتِم بخاتَمِ حُبِّك".







ويختم مناجاته قائلاً:



"يا من وهبت صلاح الدِّين شجاعة العرَب، اقبَلْ طلبي لأَكون في حضرتك، أنا العبد الذي صار كالشَّقائق حُمْرةً من الألَم، ولا يدري أصحابُه عن ألَمِه شيئًا، أنا العبد الَّذي صارت أنَّاتُه كأَنَّات الناي، واحترقَتْ روحه بنار النغمات!







قد راحت القافلةُ وخلَّفَتْني في الصَّحراء كَعُودٍ يحترق، وما زال، فهَلْ ستأتي قافلةٌ أخرى في هذه الصَّحراء الشاسعة؟!".







ومن جانبنا لا يسَعُنا بعد هذه الجولة السَّريعة في ديوان محمد إقبال "والآن ماذا يَنْبغي أن نفعل يا أمم الشرق؟" إلاَّ أن نسجِّل مدى الصِّدق الذي تفيض به قصائِدُ الشَّاعر، والذي يدقُّ بشدَّة على أبواب القلوب، فيَجْعلها تنتفض من رَقْدة الكسَل والجهل والتَّخاذل؛ لكي تتحرَّك نحو الاعتزاز بِماضيها، والإحساس بذاتيتها، والتَّقَوِّي بإيمانها.







لكن الشاعر لا يَعْتمد فقط على صدق عاطفته وشفافية رُوحِه، وإنَّما يجعل من العقل مقياسًا لِمَعرفة الحقِّ من الباطل، والخير مِن الشَّر، والحُرِّية من العبوديَّة، والاستقلال من التبعية للمستعمِر الماكر والمُخادِع، إنَّ العقل الواعي هو أهمُّ ما يعتمد عليه محمد إقبال في توعية المسلمين المعاصرين بالأخطار المُحْدِقة بهم، وهو لا يترَدَّد عن الكَشْف عن أهم أسباب التخلُّف والانحطاط الَّتي أصابَتْ حضارتَهم.







وليس الدِّينُ عند إقبال مجرَّدَ شكلِيَّات ومظاهر، بل إنَّه إيمانٌ عميق يَسْري في كيان المسلم كلِّه، فيَجْعله أحَدَّ من السيف، وأقوى من الصَّخر، وأعتَى من الطُّوفان، وأنَّ كلمة "لا إله إلا الله" - الَّتي تتضمَّن عدم الإذعان أو الإقرار بالعبوديَّة لغير الله تعالى - هي المِفْتاح الَّذي يَفْتح به المسلم كنوزَ العالم، ويُسخِّرها من أجل خير الإنسانيَّة جمعاء.







والتصوُّف الذي يصبغ الشَّاعرُ به دعوتَه الدينيَّة ليس هو أيضًا ما يَظْهر به أدعياءُ الزُّهد في الدنيا، وإنَّما هو "الجذبة" أو الجَذْوة الرُّوحية حين تملأ الشَّعائر التي يتَّجِه بها المسلمُ نَحْو الله في صلاته، وخاصَّة عند سجوده الذي تتزلزَلُ منه الأرض، وترتَعِش منه الطواغيت!







أمَّا الحضارة الإسلاميَّة، فهي الخلفيَّة التي تظهر في المشهد الَّذي يرسمه محمد إقبال للمسلم المعاصر، تلك الحضارة التي أبدعَت الرَّوائع التي ما تَزال شاهدةً حتَّى اليوم بمدى ما وصلَ إليه الأجدادُ مِن علمٍ وإتقان، وفي هذا المجال يُشار إلى "قصر الحمراء" الموجود في مدينة غرناطة بأندلُسِ الأمس، وإسبانيا اليوم، وكذلك "تاج محل" في الهند، ومن الجدير بالذِّكْر أنَّ محمد إقبال يلاحظ أنَّ زوار هذه الأماكن يدفعون الخراجَ طوعًا لأهلها!







وبالنِّسبة إلى الغرب، وطليعتُه أوروبا التي يَعْرفها إقبال جيِّدًا، تَبْدو الصُّورة المضادَّة تمامًا للعالَم الإسلاميِّ، أوروبا الَّتي أغارت عليه، فبدَّدَتْ قوتَه، واستَنْزفَتْ موارده، واستعبدت أبناءَه، وحملَتْ موارده إلى مَصانعها، ثُم أعادت منتجاتها لتبيعها لهم بأَضْعاف ثمَنِها، ومع ذلك فإنَّها لم تتوقف عن أن تورِّد للمسلمين الضلال والانحلال والإلحاد، وتُشيع بين شعوبهم الفُرقةَ والتخاذل.







إذًا لن يَنْهض العالم الإسلاميُّ المعاصر إلاَّ إذا تخلَّص من تبعيته للغرب، هذا الغرب الذي يُشبِّهه محمد إقبال بالذِّئب الذي يوصي الحمَل بأن يَبْني حظيرتَه في فِنائه! والواضح تمامًا لدى الشَّاعر أنَّ التَّعارُض - بل التضادّ - قائمٌ - وسيَظلُّ - بين الغَرْب والعالم الإسلامي؛ لأنَّ مُنطلَقات كلٍّ منهما مُختلِفةٌ تَمامًا.







فالغَرْب لا يعترف إلاَّ بِحَضارة الجسَد، بينما العالم الإسلاميُّ كلُّه يقوم تصَوُّره على أنَّ الإنسان - أكرَمَ المخلوقات - مكوَّنٌ من جسَد وروح، وهذا يعني أنَّنا أمام طرَفَيْن: أحدهما تقوم حضارتُه على الإيمان بالله الواحد، والطَّرَف الآخَر ميَّال بطبعه وحضارته إلى الإلحاد!







وأخيرًا، فإنَّ تمَيُّز الشاعر محمد إقبال يَكْمُن - بالإضافة إلى فِكْره الثاقب، وتحليلاته الدقيقة، وملاحظاته الواعية - في صُوَرِه الشعريَّة التي تُضْفي على أبياته جمالاً وروعة، وتبثُّ فيها روحًا وحيويَّة، وتجعلها تنتقل بين العقول والقلوب، وتمتزج بالنُّفوس والأرواح، ومِن المُقرَّر أنَّ هذه الخصائص تقف وَراءها موهبةٌ شعريَّة متكامِلةُ العناصرِ والأدوات.







[1] أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم، ونائب رئيس جامعة القاهرة الأسبق.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 94.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 92.47 كيلو بايت... تم توفير 2.35 كيلو بايت...بمعدل (2.48%)]