الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله - الصفحة 12 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         القرآنُ الكريم كتابٌ واقعي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          هدايا العيد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          ما هي كلمات الله التي لا تتبدل؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          الثقة والشك بين الزوجين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          كيف التعامل مع زوج لا يتحمل مسؤوليته المالية ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          دروس رمضانية السيد مراد سلامة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 27 - عددالزوار : 601 )           »          كيف نودع رمضان؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          من جامع في يومين أو كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          المداومة على العمل الصالح لماذا وكيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          أركان الإسلام والإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #111  
قديم 22-03-2022, 05:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (111)
صـ262 إلى صـ 272


فإذا بنينا على ما فهمت من ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم للمداومة على الضحى ، [ ص: 262 ] فلا حرج على من فعلها .

ونظير ذلك أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يواصل الصيام ، ثم نهى عن الوصال وفهم الصحابة من ذلك عائشة ، وغيرها أن النهي للرفق فواصلوا ولم يواصلوا كلهم ، وإنما واصل منهم جماعة كان لهم قوة على الوصال ولم يتخوفوا عاقبته من الضعف عن القيام بالواجبات .

وأمثلة هذا الضرب كثيرة ، وحكمه الذي ينبغي فيه الموافقة للعمل الغالب كائنا ما كان ، وترك القليل ، أو تقليله حسبما فعلوه أما فيما كان تعريفا بحد ، وما أشبهه ، فقد استمر العمل الأول على ما هو الأولى فكذلك يكون بالنسبة إلى [ ص: 263 ] ما جاء بعد موافقته لهم على ذلك ، وأما غيره فكذلك أيضا ، ويظهر لك بالنظر في الأمثلة المذكورة .

فقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد ، ثم تركه بإطلاق مخافة التشريع يوجد مثله بعد موته ، وذلك بالنسبة إلى الأئمة والعلماء والفضلاء المقتدى بهم ، فإن هؤلاء منتصبون; لأن يقتدى بهم فيما يفعلون ، وفي باب البيان من هذا الكتاب لهذا بيان فيوشك أن يعتقد الجاهل بالفعل إذا رأى العالم مداوما عليه أنه واجب ، وسد الذرائع مطلوب مشروع ، وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع ، وفي هذا الكتاب له ذكر اللهم إلا أن يعمل به الصحابة كما في قيام رمضان ، فلا بأس ، وسنتهم سنة ماضية ، وقد حفظ الله فيها هذا المحظور الذي هو ظن الوجوب مع أنهم لم يجتمعوا على إعماله والمداومة عليه إلا وهم يرون أن القيام في البيوت أفضل ، ويتحرونه أيضا فكان على قولهم ، وعملهم القيام في البيوت أولى ولذلك جعل بعض الفقهاء القيام في المساجد أولى لمن لم يستظهر القرآن ، أو لمن لا يقوى إلا بالتأسي فكانت أولويته لعذر كالرخصة ، ومنهم من يطلق القول بأن البيوت أولى فعلى كل [ ص: 264 ] تقدير ما داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو المقدم ، وما رآه السلف الصالح فسنة أيضا ولذلك يقول بعضهم لا ينبغي تعطيل المساجد عنها جملة; لأنها مخالفة لما استمر عليه العمل في الصحابة .

وأما صلاة الضحى فشهادة عائشة بأنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها قط دليل على قلة عمله بها ، ثم الصحابة لم ينقل عنهم عموم العمل بها ، وإنما داوم من داوم عليها منهم بمكان لا يتأسى بهم فيه كالبيوت عملا بقاعدة الدوام على الأعمال ولأن عائشة فهمت أنه لولا خوف الإيجاب لداوم عليها ، وهذا أيضا موجود في عمل المقتدى بهم إلا أن ضميمة إخفائها يصد عن الاقتداء .

ومن هنا لم تشرع الجماعة في النوافل بإطلاق ، بل في بعض مؤكداتها كالعيدين والخسوف ، ونحوها ، وما سوى ذلك ، فقد بين - عليه الصلاة والسلام - أن النوافل في البيوت أفضل حتى جعلها في ظاهر لفظ الحديث أفضل من [ ص: 265 ] صلاتها في مسجده الذي هو أفضل البقاع التي يصلى فيها فلذلك صلى - عليه الصلاة والسلام - في بيت مليكة ركعتين في جماعة وصلى بابن عباس في بيت خالته ميمونة بالليل جماعة ولم يظهر ذلك في الناس ولا أمرهم به ولا شهره فيهم ولا أكثر من ذلك ، بل كان عامة عمله في النوافل على حال الانفراد فدلت هذه القرائن كلها مع ما انضاف إليها من أن ذلك أيضا لم يشتهر في السلف الصالح ولا واظبوا على العمل به دائما ولا كثيرا أنه مرجوح ، وأن ما كانوا عليه في الأعم الأغلب هو الأولى والأحرى ، وإذا نظرنا إلى أصل الذريعة اشتد الأمر في هذه القضايا فكان العمل على ما داوم عليه الأولون أولى ، وهو الذي أخذ به مالك فيما روي عنه أنه يجيز الجماعة في النافلة [ ص: 266 ] في الرجلين والثلاثة ، ونحو ذلك ، وحيث لا يكون مظنة اشتهار ، وما سوى ذلك فهو يكرهه .

وأما مسألة الوصال ، فإن الأحق والأولى ما كان عليه عامتهم ولم يواصل خاصتهم حتى كانوا في صيامهم كالعامة في تركهم له لما رزقهم الله من القوة التي هي أنموذج من قوله - عليه الصلاة والسلام - : إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني مع أن بعض من كان يسرد الصيام قال : بعد ما ضعف يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأيضا فإن طلب المداومة على الأعمال الصالحة يطلب المكلف بالرفق والقصد خوف الانقطاع ، وقد مر لهذا المعنى تقرير في كتاب الأحكام فكان الأحرى الحمل على التوسط وليس إلا ما كان عليه العامة ، وما واظبوا عليه ، وعلى هذا فاحمل نظائر هذا الضرب .

[ ص: 267 ] والضرب الثاني : ما كان على خلاف ذلك ولكنه يأتي على وجوه .

منها أن يكون محتملا في نفسه فيختلفوا فيه بحسب ما يقوى عند المجتهد فيه ، أو يختلف في أصله والذي هو أبرأ للعهدة ، وأبلغ في الاحتياط تركه والعمل على وفق الأعم الأغلب كقيام الرجل للرجل إكراما له ، وتعظيما ، فإن العمل المتصل تركه ، فقد كانوا لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل عليهم ، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس ولم ينقل عن الصحابة عمل مستمر ولو كان لنقل حتى روي عن عمر بن عبد العزيز أنه لما استخلف قاموا له في المجلس ، فقال : إن تقوموا [ ص: 268 ] نقم ، وإن تقعدوا نقعد ، وإنما يقوم الناس لرب العالمين فقيامه صلى الله عليه وسلم لجعفر ابن عمه ، وقوله قوموا لسيدكم إن حملناه على ظاهره فالأولى خلافه لما تقدم ، وإن نظرنا فيه وجدناه محتملا أن يكون القيام على وجه الاحترام والتعظيم أو على وجه آخر من المبادرة إلى اللقاء لشوق يجده القائم للمقوم [ ص: 269 ] له ، أو ليفسح له في المجلس حتى يجد موضعا للقعود ، أو للإعانة على معنى من المعاني ، أو لغير ذلك مما يحتمل .

وإذا احتمل الموضع طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر لإمكان أن يكون هذا العمل القليل غير معارض له فنحن في اتباع العمل المستمر على بينة ، وبراءة ذمة باتفاق ، وإن رجعنا إلى هذا المحتمل لم نجد فيه مع المعارض الأقوى وجها للتمسك إلا من باب التمسك بمجرد الظاهر ، وذلك لا يقوى قوة معارضه .

ومثل ذلك قصة مالك مع سفيان في المعانقة ، فإن مالكا قال له : كان ذلك خاصا بجعفر فقال سفيان ما يخصه يخصنا ، وما يعمه يعمنا إذا كنا صالحين . فيمكن أن يكون مالك عمل في المعانقة بناء على هذا الأصل فجعل معانقة النبي - عليه الصلاة والسلام - أمرا خاصا أي ليس عليه العمل فالذي ينبغي وقفه على ما جرى فيه .

وكذلك تقبيل اليد إن فرضنا ، أو سلمنا صحة ما روي فيه ، فإنه لم يقع [ ص: 270 ] تقبيل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نادرا ، ثم لم يستمر فيه عمل إلا الترك من الصحابة والتابعين فدل على مرجوحيته .

ومن ذلك سجود الشكر إن فرضنا ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يداوم عليه مع كثرة البشائر التي توالت عليه والنعم التي أفرغت عليه إفراغا فلم ينقل عنه مواظبة على ذلك ولا جاء عن عامة الصحابة منه شيء إلا في الندرة مثل كعب بن مالك ؛ إذ نزلت توبته ، فكان العمل على وفقه تركا للعمل على وفق العامة منهم .

ومن هذا المكان يتطلع إلى قصد مالك رحمه الله في جعله العمل مقدما على الأحاديث; إذ كان إنما يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر ، ويترك ما سوى ذلك ، وإن جاء فيه أحاديث ، وكان ممن أدرك التابعين وراقب [ ص: 271 ] أعمالهم ، وكان العمل المستمر فيهم مأخوذا عن العمل المستمر في الصحابة ، ولم يكن مستمرا فيهم إلا وهو مستمر في عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو في قوة المستمر .

وقد قيل لمالك : إن قوما يقولون إن التشهد فرض ، فقال : أما كان أحد يعرف التشهد ؟ فأشار إلى الإنكار عليه بأن مذهبهم كالمبتدع الذي جاء بخلاف ما عليه من تقدم .

وسأله أبو يوسف عن الأذان فقال مالك : وما حاجتك إلى ذلك ؟ فعجبا من فقيه يسأل عن الأذان ، ثم قال له مالك : وكيف الأذان عندكم ؟ فذكر مذهبهم فيه ، فقال من أين لكم هذا ؟ فذكر له أن بلالا لما قدم الشام سألوه أن يؤذن لهم فأذن لهم كما ذكر عنهم ، فقال له مالك : ما أدري ما أذان يوم ؟ وما صلاة يوم ؟ هذا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وولده من بعده يؤذنون في حياته ، وعند قبره ، وبحضرة الخلفاء الراشدين بعده .

فأشار مالك إلى أن ما جرى عليه العمل ، وثبت مستمرا أثبت في الاتباع ، وأولى أن يرجع إليه .

وقد بين في العتبية أصلا لهذا المعنى عظيما يجل موقعه عند من نظر إلى مغزاه ، وذلك أنه سئل عن الرجل يأتي إليه الأمر يحبه فيسجد لله شكرا فقال لا يفعل ليس مما مضى من أمر الناس قيل : له إن أبا بكر الصديق [ ص: 272 ] فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا ، أفسمعت ذلك ؟ قال : ما سمعت ذلك ، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر ، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول هذا شيء لم نسمع له خلافا ، ثم قال : قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى المسلمين بعده أفسمعت أن أحدا منهم سجد ؟ إذا جاءك مثل هذا مما كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك ، فإنه لو كان لذكر ; لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم ، فهل سمعت أن أحدا منهم سجد ؟ فهذا إجماع إذا جاءك الأمر لا تعرفه فدعه .

هذا ما قال ، وهو واضح في أن العمل العام هو المعتمد على أي وجه كان ، وفي أي محل وقع ولا يلتفت إلى قلائل ما نقل ولا نوادر الأفعال إذا عارضها الأمر العام والكثير .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #112  
قديم 22-03-2022, 05:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (112)
صـ273 إلى صـ 286

ومنها أن يكون هذا القليل خاصا بزمانه ، أو بصاحبه الذي عمل به ، أو خاصا بحال من الأحوال ، فلا يكون فيه حجة على العمل به في غير ما تقيد به كما قالوا في مسحه - عليه الصلاة والسلام - على ناصيته ، وعلى العمامة في الوضوء أنه كان به مرض ، وكذلك نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن ادخار لحوم الأضاحي [ ص: 273 ] بعد ثلاث بناء على أن إذنه بعد ذلك لم يكن نسخا ، وهو قوله : إنما نهيتكم لأجل الدافة .

ومنها أن يكون مما فعل فلتة فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه به ، ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره ولا يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأذن فيه ابتداء لأحد ، فلا يجب أن يكون تقريره عليه إذنا له ولغيره كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي - عليه الصلاة والسلام - في أمر فعمل فيه ، ثم رأى أن قد خان الله ورسوله فربط نفسه بسارية من سواري المسجد ، وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال - عليه الصلاة والسلام - : أما إنه لو جاءني لاستغفرت له ، وتركه كذلك حتى حكم الله فيه .

[ ص: 274 ] فهذا وأمثاله لا يقتضي أصل المشروعية ابتداء ولا دواما أما الابتداء فلم يكن فعله ذلك بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما دواما ، فإنه إنما تركه حتى يحكم الله فيه ، وهذا خاص بزمانه; إذ لا وصول إلى ذلك إلا بالوحي ، وقد انقطع بعده ، فلا يصح الإبقاء على ذلك لغيره حتى ينتظر الحكم فيه .

وأيضا فإنه لم يؤثر عن ذلك الرجل ولا عن غيره أنه فعل مثل فعله لا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيما بعده ، فإذا العمل بمثله أشد غررا; إذ لم يكن قبله تشريع يشهد له ولو كان قبله تشريع لكان استمرار العمل بخلافه كافيا في مرجوحيته .

ومنها أن يكون العمل القليل رأيا لبعض الصحابة لم يتابع عليه; إذ كان في زمانه - عليه الصلاة والسلام - ولم يعلم به فيجيزه ، أو يمنعه; لأنه من الأمور التعبدية البعيدة عن الاجتهاد كما روي عن أبي طلحة الأنصاري أنه أكل بردا ، وهو صائم في رمضان فقيل له : أتأكل البرد ، وأنت صائم ، فقال : " إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا ، وإنه ليس بطعام ولا شراب " .

قال الطحاوي : ولعل ذلك من فعله لم يقف النبي - عليه الصلاة والسلام - [ ص: 275 ] عليه فيعلمه الواجب عليه فيه . قال : وقد كان مثل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير ذلك عمر شيئا; إذ لم يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ينكره .

فكذلك ما روي عن أبي طلحة قال : والذي كان من ذلك ما روي عن رفاعة بن رافع قال : كنت عن يمين عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل فقال زيد بن ثابت يفتي الناس في الغسل من الجنابة برأيه ، فقال أعجل به علي فجاء زيد فقال عمر قد بلغ من أمرك أن تفتي الناس بالغسل من الجنابة في مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - برأيك ، فقال زيد والله يا أمير المؤمنين ما أفتيت برأيي ولكني سمعت من أعمامي شيئا فقلت به ، فقال من أي أعمامك فقال من أبي بن كعب ، وأبي أيوب ورفاعة بن رافع فالتفت إلي عمر فقال ما يقول هذا الفتى ، فقلت إنا كنا نفعله على عهد رسول الله [ ص: 276 ] صلى الله عليه وسلم ، ثم لا نغتسل قال : أفسألتم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ فقلت : لا ، ثم قال في آخر الحديث : لئن أخبرت بأحد يفعله ، ثم لا يغتسل لأنهكته عقوبة .

فهذا أيضا من ذلك القبيل ، والشاهد له أنه لم يعمل به ولا استمر من عمل الناس على حال فكفى بمثله حجة على الترك .

ومنها إمكان أن يكون عمل به قليلا ، ثم نسخ فترك العمل به جملة ، فلا يكون حجة بإطلاق فكان من الواجب في مثله الوقوف مع الأمر العام .

ومثاله حديث الصيام عن الميت ، فإنه لم ينقل استمرار عمل به ولا كثرة ، فإن غالب الرواية فيه دائرة على عائشة وابن عباس ، وهما أول من [ ص: 277 ] خالفاه فروي عن عائشة أنها سئلت عن امرأة ماتت ، وعليها صوم ، فقالت : أطعموا عنها . وعن ابن عباس أنه قال : لا يصوم أحد عن أحد .

قال مالك : ولم أسمع أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من التابعين بالمدينة أمروا أحدا أن يصوم عن أحد ، ولا يصلي أحد عن أحد ، وإنما يفعل ذلك كل أحد عن نفسه .

[ ص: 278 ] فهذا إخبار بترك العمل دائما في معظم الصحابة ، ومن يليهم ، وهو الذي عول عليه في المسألة كما أنه عول عليه في جملة عمله .

وقد سئل عن سجود القرآن الذي في المفصل ، وقيل له : أتسجد أنت فيه فقال : لا ، وقيل له : إنما ذكرنا هذا لك لحديث عمر بن عبد العزيز ، فقال : أحب الأحاديث إلي ما اجتمع الناس عليه ، وهذا مما لم يجتمع الناس عليه ، وإنما هو حديث من حديث الناس ، وأعظم من ذلك القرآن يقول الله : منه آيات محكمات هن أم الكتاب [ آل عمران : 7 ] فالقرآن أعظم خطرا ، وفيه الناسخ والمنسوخ فكيف بالأحاديث .

وهذا مما لم يجتمع عليه ، وهذا ظاهر في أن العمل بأحد المتعارضين دليل على أنه الناسخ للآخر; إذ كانوا إنما يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 279 ] وروي عن ابن شهاب أنه قال : أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخه ومنسوخه ، وهذا صحيح ولما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر والحمد لله .

وثم أقسام أخر يستدل على الحكم فيها بما تقدم ذكره .

وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين ، فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل إلا قليلا ، وعند الحاجة ، ومس الضرورة إن اقتضى معنى التخيير ولم يخف نسخ العمل ، أو عدم صحة في الدليل .

[ ص: 280 ] أو احتمالا لا ينهض به الدليل أن يكون حجة ، أو ما أشبه ذلك أما لو عمل بالقليل دائما للزمه أمور :

أحدها : المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها ، وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها .

والثاني : استلزام ترك ما داوموا عليه; إذ الفرض أنهم داوموا على خلاف هذه الآثار فإدامة العمل على موافقة ما لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه .

والثالث : أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه واشتهار ما خالفه; إذ الاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء بالأقوال فإذا وقع ذلك ممن يقتدى به كان أشد .

الحذر الحذر من مخالفة الأولين فلو كان ثم فضل ما لكان الأولون أحق به والله المستعان .

والقسم الثالث : أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال فهو أشد مما قبله والأدلة المتقدمة جارية هنا بالأولى ، وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه ألبتة ; إذ لو كان دليلا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ، ثم يفهمه هؤلاء فعمل الأولين - كيف كان - مصادم لمقتضى هذا المفهوم ، ومعارض له ولو كان ترك العمل ، فما عمل به [ ص: 281 ] المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة فما كانوا عليه من فعل ، أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر ، وهو الهدى وليس ثم إلا صواب أو خطأ ، فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ ، وهذا كاف ، والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جار هذا المجرى .

ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي أنه الخليفة بعده; لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه ، أو عدم اعتباره ; لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ ، وكثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يحملونهما مذاهبهم ، ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة ، ويظنون أنهم على شيء .

ولذلك أمثلة كثيرة كالاستدلالات الباطنية على سوء مذاهبهم بما هو شهير [ ص: 282 ] في النقل عنهم ، وسيأتي منه أشياء في دليل الكتاب إن شاء الله ، واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى : في أي صورة ما شاء ركبك [ الانفطار : 8 ] .

وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه مما لم يجر له ذكر ، ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين ، وحاش لله من ذلك .

ومنه أيضا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة ، وذكر الله برفع الأصوات ، وبهيئة الاجتماع بقوله - عليه الصلاة والسلام - : ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه فيما بينهم الحديث . والحديث الآخر ما اجتمع قوم يذكرون الله . . إلخ ، وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر .

[ ص: 283 ] وكذلك استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي [ الأنعام : 52 ] الآية ، وقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية [ الأعراف : 55 ] .

وبجهر قوام الليل بالقرآن واستدلالهم على الرقص في المساجد ، وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدرق والحراب ، وقوله عليه الصلاة والسلام لهم : دونكم يا بني أرفدة .

واستدلال كل من اخترع بدعة ، أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ككتب المصحف ، وتصنيف الكتب ، وتدوين الدواوين ، وتضمين الصناع ، وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة فخلطوا ، وغلطوا واتبعوا ما [ ص: 284 ] تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها ، وهو كله خطأ على الدين واتباع لسبيل الملحدين ، فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك ، وعبروا على هذه المسالك إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون ، أو حادوا عن فهمها ، وهذا الأخير هو الصواب ; إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم ولم يفهموا من الأدلة المذكورة ، وما أشبهها إلا ما كانوا عليه ، وهذه المحدثات لم تكن فيهم ولا عملوا بها فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال وصار عملهم بخلاف ذلك دليلا إجماعيا على أن هؤلاء في استدلالهم ، وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة .

فيقال لمن استدل بأمثال ذلك : هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين ، أو لم يوجد ؟ فإن زعم أنه لم يوجد ولا بد من ذلك ، فيقال له : أفكانوا غافلين عما تنبهت له ، أو جاهلين به أم لا ؟ ولا يسعه أن يقول بهذا ; لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه ، وخرق للإجماع ، وإن قال : إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها قيل له فما الذي حال بينهم ، وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها المتقول ، والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية فكل ما جاء مخالفا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه .

فإن زعم أن ما انتحله من ذلك إنما هو من قبيل المسكوت عنه في الأولين ، وإذا كان مسكوتا عنه ، ووجد له في الأدلة مساغ ، فلا مخالفة ، إنما [ ص: 285 ] المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده ، وهو البدعة المنكرة قيل له : بل هو مخالف ; لأن ما سكت عنه في الشريعة على وجهين :

أحدهما : أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه ، فلا سبيل إلى مخالفته ; لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له فمن استلحقه صار مخالفا للسنة حسبما تبين في كتاب المقاصد .

والثاني : أن لا توجد مظنة العمل به ، ثم توجد فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله ، وهي المصالح المرسلة ، وهي من أصول الشريعة المبني عليها ; إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع حسبما تبين في علم الأصول ، فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع .

وأيضا فالمصالح المرسلة عند القائل بها لا تدخل في التعبدات ألبتة ، وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة ، وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية ولذلك تجد مالكا ، وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة مشددا في العبادات أن لا تقع إلا على ما كانت عليه في الأولين فلذلك نهى عن أشياء ، وكره أشياء ، وإن كان إطلاق الأدلة لا ينفيها بناء منه على أنها تقيدت مطلقاتها بالعمل ، فلا مزيد عليه ، وقد تمهد أيضا في الأصول أن المطلق إذا وقع العمل به على وجه لم يكن حجة في غيره .

[ ص: 286 ] فالحاصل أن الأمر ، أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق فرأيت الأولين قد عنوا به على وجه واستمر عليه عملهم ، فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه ، وذلك كله مبين في باب الأوامر والنواهي من هذا الكتاب ، لكن على وجه آخر ، فإذا ليس ما انتحل هذا المخالف العمل به من قبيل المسكوت عنه ولا من قبيل ما أصله المصالح المرسلة فلم يبق إذا أن يكون إلا من قبيل المعارض لما مضى عليه عمل الأقدمين ، وكفى بذلك مزلة قدم ، وبالله التوفيق .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #113  
قديم 22-03-2022, 05:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (113)
صـ287 إلى صـ 296

فصل

واعلم أن المخالفة لعمل الأولين فيما تقدم ليست على رتبة واحدة ، بل فيها ما هو خفيف ، ومنها ما هو شديد ، وتفصيل القول في ذلك يستدعي طولا فلنكله إلى نظر المجتهدين ولكن المخالف على ضربين :

أحدهما : أن يكون من أهل الاجتهاد ، فلا يخلو أن يبلغ في اجتهاده غاية الوسع أولا ، فإن كان كذلك ، فلا حرج عليه ، وهو مأجور على كل حال ، وإن لم يعط الاجتهاد حقه وقصر فيه فهو آثم حسبما بينه أهل الأصول .

والثاني : أن لا يكون من أهل الاجتهاد ، وإنما أدخل نفسه فيه غلطا ، أو [ ص: 287 ] مغالطة ; إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهل الرتبة ولا رأوه أهلا للدخول معهم فهذا مذموم .

وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا من أهل هذا القسم ; لأن المجتهدين ، وإن اختلفوا في الأمر العام في المسائل التي اختلفوا فيها لا يختلفون إلا فيما اختلف فيه الأولون أو في مسألة من موارد الظنون لا ذكر لهم فيها فالأول يلزم منه اختلاف الأولين في العمل والثاني : يلزم منه الجريان على ما ورد فيه عمل .

أما القسم الثاني : فإن أهله لا يعرفون ما في موافقة العمل من أوجه الرجحان ، فإن موافقته شاهد للدليل الذي استدل به ، ومصدق له على نحو ما يصدقه الإجماع ، فإنه نوع من الإجماع فعلي ، بخلاف ما إذا خالفه ، فإن المخالفة موهنة له ، أو مكذبة .

[ ص: 288 ] وأيضا فإن العمل مخلص للأدلة من شوائب المحامل المقدرة الموهنة ; لأن المجتهد متى نظر في دليل على مسألة احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة لا يستقيم إعمال الدليل دونها والنظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالاتها حتما ، ومعين لناسخها من منسوخها ، ومبين لمجملها إلى غير ذلك فهو عون في سلوك سبيل الاجتهاد عظيم ولذلك اعتمده مالك بن أنس ، ومن قال بقوله ، وقد تقدم منه أمثلة ، وأيضا فإن ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فيها مؤدية إلى التعارض والاختلاف ، وهو مشاهد معنى ، ولأن تعارض الظواهر كثير مع القطع بأن الشريعة لا اختلاف فيها ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحدا من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة ، وقد مر من ذلك أمثلة ، بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة ، وفي كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها في الافتئات على الشريعة .

وانظر في مسألة التداوي من الخمار في درة الغواص للحريري ، وأشباهها ، بل قد استدل بعض [ ص: 289 ] النصارى على صحة ما هم عليه الآن بالقرآن ، ثم تحيل فاستدل على أنهم مع ذلك كالمسلمين في التوحيد وتعالى عما يقولون علوا كبيرا [ الإسراء : 43 ] .

فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون ، وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب ، وأقوم في العلم والعمل ولهذا الأمر سبب نذكره بحول الله على الاختصار ، وهي .
[ ص: 290 ] المسألة الثالثة عشرة

فاعلم أن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين :

أحدهما : أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم ، أما قبل وقوعها فبأن توقع على وفقه ، وأما بعد وقوعها فليتلافى الأمر ، ويستدرك الخطأ الواقع فيها بحيث يغلب على الظن ، أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع ، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة .

والثاني : أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة ، أن يظهر في بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل من غير تحر لقصد الشارع ، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه ، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة .

ويظهر هذا المعنى من الآية الكريمة : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله [ آل عمران : 7 ] فليس مقصودهم الاقتباس منها ، وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم ; إذ هو السابق المعتبر ، وأخذ الأدلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم ، والراسخون في العلم ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة فلذلك يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، [ ص: 291 ] ويقولون : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ آل عمران : 8 ] فيتبرءون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون فلذلك صار أهل الوجه الأول محكمين للدليل على أهوائهم ، وهو أصل الشريعة ; لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدا لله ، وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعا ، وتفصيل هذه الجملة قد مر منه في كتاب المقاصد ، وسيأتي تمامه في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى .
[ ص: 292 ] المسألة الرابعة عشرة

اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين :

أحدهما : الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض ، وهو الواقع على المحل مجردا عن التوابع والإضافات كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة ، وسن النكاح ، وندب الصدقات غير الزكاة ، وما أشبه ذلك .

والثاني : الاقتضاء التبعي ، وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء ، ووجوبه على من خشي العنت ، وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو ، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام ، أو لمن يدافعه الأخبثان ، وبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي .

فإذا تبين المعنى المراد فهل يصح الاقتصار في الاستدلال عن الدليل المقتضي للحكم الأصلي أم لا بد من اعتبار التوابع والإضافات حتى يتقيد دليل الإطلاق بالأدلة المقتضية لاعتبارها هذا مما فيه نظر وتفصيل .

فلا يخلو أن يأخذ المستدل الدليل على الحكم مفردا مجردا عن اعتبار الواقع أولا ، فإن أخذه مجردا صح الاستدلال ، وإن أخذه بقيد الوقوع ، فلا يصح ، وبيان ذلك أن الدليل المأخوذ بقيد الوقوع معناه التنزيل على المناط [ ص: 293 ] المعين ، وتعيين المناط موجب في كثير من النوازل إلى ضمائم وتقييدات لا يشعر المكلف بها عند عدم التعيين ، وإذا لم يشعر بها لم يلزم بيانها ; إذ ليس موضع الحاجة بخلاف [ ما ] إذا اقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره في الاستدلال ، فلا بد من اعتباره .

فقول الله تعالى : لا يستوي القاعدون من المؤمنين [ النساء : 95 ] الآية لما نزلت أولا كانت مقررة لحكم أصلي منزل على مناط أصلي من القدرة ، وإمكان الامتثال ، وهو السابق فلم ينزل حكم أولي الضرر ولما اشتبه ذو الضرر ظن أن عموم نفي الاستواء ، يستوي فيه ذو الضرر وغيره ، فخاف من ذلك وسأل الرخصة ، فنزل : غير أولي الضرر .

ولما قال عليه الصلاة والسلام من نوقش الحساب عذب بناء على [ ص: 294 ] تأصيل قاعدة أخروية سألت عائشة عن معنى قول الله عز وجل فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 8 ] ; لأنه يشكل دخوله تحت عموم الحديث فبين - عليه الصلاة والسلام - أن ذلك العرض لا الحساب المناقش فيه .

وقال - عليه الصلاة والسلام - : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه إلخ فسألته عائشة عن هذه الكراهية هل هي الطبيعية أم لا فأخبرها أن لا ، وتبين مناط الكراهية المرادة ، وقال الله تعالى : وقوموا لله قانتين [ البقرة : 238 ] تنزيلا على المناط المعتاد فلما عرض مناط آخر خارج عن المعتاد ، وهو المرض بينه - عليه الصلاة والسلام - بقوله وفعله حين جحش شقه .

وقال - عليه الصلاة والسلام - : أنا وكافل اليتيم كهاتين ، ثم لما تعين [ ص: 295 ] مناط فيه نظر ، قال - عليه الصلاة والسلام - لأبي ذر : لا تولين مال يتيم .

والأمثلة في هذا المعنى لا تحصى واستقراؤها من الشريعة يفيد العلم بصحة هذا التفصيل فلو فرض نزول حكم عام ، ثم أتى كل من سمعه يتثبت في مقتضى ذلك العام بالنسبة إليه لكان الجواب على وفق هذه القاعدة نظير وصيته - عليه الصلاة والسلام - لبعض أصحابه بشيء ، ووصيته لبعض بأمر آخر كما قال : قل ربي الله ، ثم استقم ، وقال لآخر : لا تغضب ، وكما قبل من [ ص: 296 ] بعضهم جميع ماله ، ومن بعضهم شطره ورد على بعضهم ما أتى به بعد تحريضه على الإنفاق في سبيل الله إلى سائر الأمثال .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #114  
قديم 22-03-2022, 05:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (114)
صـ297 إلى صـ 311


فصل

ولتعين المناط مواضع .

منها الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام كما إذا نزلت آية ، أو جاء حديث على سبب ، فإن الدليل يأتي بحسبه ، وعلى وفاق البيان التمام فيه ، فقد قال تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم الآية [ البقرة : 187 ] [ ص: 297 ] إذ كان ناس يختانون أنفسهم فجاءت الآية تبيح لهم ما كان ممنوعا قبل حتى لا يكون فعلهم ذلك الوقت خيانة منهم لأنفسهم .

وقوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] الآية ; إذ نزلت عند وجود مظنة خوف أن لا يقسطوا ، وما أشبه ذلك .

وفي الحديث : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله . . . الحديث ، أتى فيه بتمثيل الهجرة لما كان هو السبب ، وقال : ويل للأعقاب من النار مع أن غير الأعقاب يساويها حكما لكنه كان السبب في الحديث التقصير في الاستيعاب في غسل الرجلين ، ومن ذلك كثير .

ومنها أن يتوهم بعض المناطات داخلا في حكم عام ، أو خارجا عنه ولا يكون كذلك في الحكم فمثال الأول ما تقدم في قوله - عليه الصلاة والسلام - : من نوقش الحساب عذب .

[ ص: 298 ] وقوله : من كره لقاء الله كره الله لقاءه .

ومثال الثاني : قوله - عليه الصلاة والسلام - للمصلي : ما منعك أن تجيبني ; إذ دعوتك ، وقد جاء فيما نزل علي استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم الآية [ الأنفال : 24 ] ؟ .

أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، إذ كان إنما ثبت على صلاته لاعتقاده أن نازلته المعينة لا يتناولها معنى الآية .

ومنها أن يقع اللفظ المخاطب به مجملا ، بحيث لا يفهم المقصود به ابتداء ، فيفتقر المكلف عند العمل إلى بيانه ، وهذا الإجمال قد يقع لعامة المكلفين ، وقد يقع لبعضهم دون بعض ، فمثال العام قوله تعالى : وأنفقوا من ما رزقناكم [ المنافقون : 10 ] ، فإنه لا يفهم المقصود به من أول وهلة فجاءت أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وأفعاله مبينة لذلك .

ومثال الخاص قصة عدي بن حاتم في فهم الخيط الأبيض من [ ص: 299 ] الخيط الأسود حتى نزل بسببه من الفجر [ البقرة : 187 ] ، وقصته في معنى قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ التوبة : 31 ] [ ص: 300 ] وقصة ابن عمر في طلاق زوجته إلى أمثال من ذلك كثيرة .

فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة فأما إن لم يكن ثم تعيين فيصح أخذه على وفق الواقع مفروض الوقوع ، ويصح إفراده بمقتضى الدليل الدال عليه في الأصل ما لم يتعين ، فلا [ ص: 301 ] بد من اعتبار توابعه ، وعند ذلك نقول : لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع ، فإن أجاب على غير ذلك أخطأ في عدم اعتبار المناط المسئول عن حكمه ; لأنه سئل عن مناط معين فأجاب عن مناط غير معين .

لا يقال : إن المعين يتناوله المناط غير المعين ; لأنه فرد من أفراد عام ، أو مقيد من مطلق ; لأنا نقول : ليس الفرض هكذا ، وإنما الكلام على مناط خاص يختلف مع العام لطروء عوارض كما تقدم تمثيله ، فإن فرض عدم اختلافهما فالجواب إنما يقع بحسب المناط الخاص ، وما مثل هذا إلا مثل من سأل : هل يجوز بيع الدرهم من سكة كذا بدرهم في وزنه من سكة أخرى ، أو المسكوك بغير المسكوك ، وهو في وزنه ؟

فأجابه المسئول بأن الدرهم بالدرهم سواء بسواء فمن زاد ، أو ازداد ، فقد أربى ، فإنه لا يحصل له جواب مسألته من ذلك الأصل ; إذ له أن يقول : فهل [ ص: 302 ] ما سألتك عنه من قبيل الربا أم لا ؟ أما لو سأله هل يجوز الدرهم بالدرهم ، وهو في وزنه ، وسكته وطيبه ؟ فأجابه كذلك لحصل المقصود ، لكن بالعرض لعلم السائل بأن الدرهمين مثلان من كل وجه .

فإذا سئل عن بيع الفضة بالفضة فأجاب بذلك الكلام لكان مصيبا ; لأن السؤال لم يقع إلا على مناط مطلق فأجابه بمقتضى الأصل ولو فصل له الأمر بحسب الواقع لجاز ، ويحتمل فرض صور كثيرة ، وهو شأن المصنفين أهل التفريع والبسط للمسائل ، وبسبب ذلك عظمت أجرام الدواوين ، وكثرت أعداد المسائل غير أن الحكمة اقتضت أن يجاب السائل على حد سؤاله ، فإن سأل عن مناط غير معين أجيب على وفق الاقتضاء الأصلي ، وإن سأل عن معين ، فلا بد من اعتباره في الواقع إلى أن يستوفي له ما يحتاج إليه ، ومن اعتبر الأقضية والفتاوى الموجودة في القرآن والسنة وجدها على وفق هذا الأصل ، وبالله التوفيق .
[ ص: 303 ] وأما النظر الثاني في عوارض الأدلة فينحصر القول فيه في خمسة فصول .

[ ص: 304 ] [ ص: 305 ] الأول في الإحكام والتشابه .

وله مسائل .

المسألة الأولى

المحكم يطلق بإطلاقين : عام ، وخاص .

فأما الخاص فالذي يراد به خلاف المنسوخ ، وهي عبارة علماء الناسخ والمنسوخ سواء علينا أكان ذلك الحكم ناسخا أم لا فيقولون هذه الآية محكمة ، وهذه الآية منسوخة ، وأما العام فالذي يعني به البين الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره فالمتشابه بالإطلاق الأول هو المنسوخ ، وبالإطلاق الثاني : الذي لا يتبين المراد به من لفظه كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر أم لا ، وعلى هذا الثاني : مدارك كلام المفسرين في بيان معنى قول الله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات [ آل عمران : 7 ] .

ويدخل تحت المتشابه والمحكم بالمعنى الثاني ما نبه عليه الحديث [ ص: 306 ] من قول النبي صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات فالبين هو المحكم ، وإن كانت وجوه التشابه تختلف بحسب الآية والحديث فالمعنى واحد ; لأن ذلك راجع إلى فهم المخاطب ، وإذا تؤمل هذا الإطلاق وجد المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مبيناتها داخلة تحت معنى المتشابه كما أن الناسخ ، وما ثبت حكمه والمبين والمؤول والمخصص والمقيد داخلة تحت معنى المحكم .
[ ص: 307 ] المسألة الثانية

التشابه قد علم أنه واقع في الشرعيات ، لكن النظر في مقدار الواقع منه هل هو قليل أم كثير ؟ والثابت من ذلك القلة لا الكثرة لأمور .

أحدها : النص الصريح ، وذلك قوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] فقوله في المحكمات : هن أم الكتاب يدل أنها المعظم والجمهور ، وأم الشيء معظمه ، وعامته كما قالوا أم الطريق بمعنى معظمه ، وأم الدماغ بمعنى الجلدة الحاوية له الجامعة لأجزائه ونواحيه والأم أيضا الأصل ولذلك قيل لمكة أم القرى ; لأن الأرض دحيت من تحتها والمعنى يرجع إلى الأول ، فإذا كان كذلك فقوله تعالى : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] إنما يراد بها القليل .

[ ص: 308 ] والثاني : أن المتشابه لو كان كثيرا لكان الالتباس والإشكال كثيرا ، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان ، وهدى كقوله تعالى : هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين [ آل عمران : 138 ] ، وقوله تعالى : هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ، وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] .

وإنما نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس ، والمشكل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة لا بيان وهدى ، لكن الشريعة إنما هي بيان وهدى فدل على أنه ليس بكثير ولولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابها لم يصح القول به ، لكن ما جاء فيه من ذلك فلم يتعلق بالمكلفين حكم من جهته زائد على الإيمان به ، وإقراره كما جاء ، وهذا واضح .

والثالث : الاستقراء ، فإن المجتهد إذا نظر في أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر واتسقت أحكامها وانتظمت أطرافها على وجه واحد كما قال تعالى : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ هود : 1 ] ، وقال تعالى : تلك آيات الكتاب الحكيم [ يونس : 1 ] ، وقال تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها [ الزمر : 23 ] يعني يشبه بعضه بعضا ، ويصدق أوله آخره ، وآخره أوله ، أعني أوله وآخره في النزول .

[ ص: 309 ] فإن قيل : كيف يكون المتشابه قليلا ، وهو كثير جدا على الوجه الذي فسر به آنفا ، فإنه قد دخل فيه من المنسوخ والمجمل والعام والمطلق والمؤول كثير وكل نوع من هذه الأنواع يحتوي على تفاصيل كثيرة ، ويكفيك من ذلك الخبر المنقول عن ابن عباس حيث قال : لا عام إلا مخصص إلا قوله تعالى : والله بكل شيء عليم [ البقرة : 282 ] .

وإذا نظر المتأمل إلى أدلة الشرع على التفصيل مع قواعدها الكلية ألفيت لا تجري على معهود الاطراد فالواجبات من الضروريات أوجبت على حكم الإطلاق والعموم في الظاهر ، ثم جاءت الحاجيات والتكميليات والتحسينيات فقيدتها على وجوه شتى ، وأنحاء لا تنحصر ، وهكذا سائر ما ذكر مع العام .

ثم إنك لا تجد المسائل المتفق عليها من الشريعة بالنسبة إلى ما اختلف فيه إلا القليل ، ومعلوم أن المتفق عليه واضح ، وأن المختلف فيه غير واضح ; لأن مثار الاختلاف إنما هو التشابه يقع في مناطه ، وإلى هذا ، فإن الشريعة مبناها في التكليف على الأمر والنهي ، وقد اختلف فيه أولا في معناه ، ثم في [ ص: 310 ] صيغته ، ثم إذا تعينت له صيغة " افعل " ، أو " لا تفعل " فاختلف في ماذا تقتضيه على أقوال مختلفة فكل ما ينبني على هذا الأصل من فرع متفق عليه ، أو مختلف فيه مختلف فيه أيضا إلى أن يثبت تعيينه إلى جهة بإجماع ، وما أعز ذلك .

وأيضا فإن الأدلة التي يتلقى معناها من الألفاظ لا تتخلص إلا أن تسلم من القوادح العشرة المذكورة في أول الكتاب ، وذلك عسير جدا ، وأما الإجماع فمتنازع فيه أولا ، ثم إذا ثبت ففي ثبوت كونه حجة باتفاق شروط كثيرة جدا إذا تخلف منها شرط لم يكن حجة ، أو اختلف فيه ، ثم إن العموم مختلف فيه ابتداء هل له صيغة موجودة أم لا ، وإذا قلنا بوجودها ، فلا يعمل منها ما يعمل إلا بشروط تشترط ، وأوصاف تعتبر ، وإلا لم يعتبر ، أو اختلف في اعتباره ، وكذلك المطلق مع مقيده .

وأيضا فإذا كان معظم الأدلة غير نصوص ، بل محتملة للتأويل لم يستقر منها للناظر دليل يسلم بإطلاق ، [ ص: 311 ] ثم أخبار الآحاد هي عمدة الشريعة ، وهى أكثر الأدلة ، ويتطرق إليها من جهة الأسانيد ضعف حتى إنها مختلف في كونها حجة أم لا ، وإذا كانت حجة فلها شروط أيضا إن اختلت لم تعمل ، أو اختلف في إعمالها ، ومن جملة ما يقتنص منه الأحكام المفهوم ، وكله مختلف فيه ، فلا مسألة تتفرع عنه متفقا عليه .

ثم إذا رجعنا إلى القياس أتى الوادي بطمه على القرى بسبب اختلافهم فيه أولا ، ثم في أصنافه ، ثم في مسالك علله ، ثم في شروط صحته ولا بد مع ذلك أن يسلم من خمسة وعشرين اعتراضا ، وما أبعد هذا من التخلص حتى يصير مقتضاه حكما ظاهرا جليا .

وأيضا فإن كل استدلال شرعي مبني على مقدمتين .

إحداهما شرعية ، وفيها من النظر ما فيها ، ومقدمة نظرية تتعلق بتحقيق المناط وليس كل مناط معلوما بالضرورة ، بل الغالب أنه نظري ، فقد صار غالب أدلة الشرع نظرية ، وقد زعم ابن الجويني أن المسائل النظرية العقلية لا يمكن الاتفاق فيها عادة ، وهو رأي القاضي أيضا والنظرية غير العقلية المحضة أولى أن لا يقع الاتفاق فيها فهذا كله مما يبين لك أن المتشابهات في الشريعة كثيرة جدا بخلاف ما تقدم الاستدلال عليه .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #115  
قديم 22-03-2022, 05:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (115)
صـ312 إلى صـ 318


فالجواب أن هذا كله لا دليل فيه أما المتشابه بحسب التفسير المذكور [ ص: 312 ] وإن دخل فيه تلك الأنواع كلها التي مدار الأدلة عليها ، فلا تشابه فيها بحسب الواقع ; إذ هي قد فسرت بالعموم المراد به الخصوص قد نصب الدليل على تخصيصه ، وبين المراد به ، وعلى ذلك يدل قول ابن عباس لا عام إلا مخصص فأي تشابه فيه ، وقد حصل بيانه ، ومثله سائر الأنواع ، وإنما يكون متشابها عند عدم بيانه والبرهان قائم على البيان ، وأن الدين قد كمل قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك لا يقتصر ذو الاجتهاد على التمسك بالعام مثلا حتى يبحث عن مخصصه ، وعلى المطلق حتى ينظر هل له مقيد أم لا إذا كان حقيقة البيان مع الجمع بينهما فالعام مع خاصه هو الدليل ، فإن فقد الخاص صار العام مع إرادة الخصوص فيه من قبيل المتشابه وصار ارتفاعه زيغا وانحرافا عن الصواب .

[ ص: 313 ] ولأجل ذلك عدت المعتزلة من أهل الزيغ حيث اتبعوا نحو قوله تعالى اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] ، وقوله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ الكهف : 29 ] .

وتركوا مبينه ، وهو قوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ التكوير : 29 ] واتبع الخوارج نحو قوله تعالى : إن الحكم إلا لله [ يوسف : 40 ] ، وتركوا مبينه ، وهو قوله : يحكم به ذوا عدل منكم هديا [ المائدة : 95 ] الآية ، وقوله : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [ النساء : 35 ] واتبع الجبرية نحو قوله : والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] ، وتركوا بيانه ، وهو قوله : جزاء بما كانوا يكسبون [ التوبة : 82 و 95 ] ، وما أشبهه ، وهكذا سائر من اتبع هذه الأطراف من غير نظر فيما وراءها ولو جمعوا [ ص: 314 ] بين ذلك ، ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل لوصلوا إلى المقصود ، فإذا ثبت هذا فالبيان مقترن بالمبين ، فإذا أخذ المبين من غير بيان صار متشابها وليس بمتشابه في نفسه شرعا ، بل الزائغون أدخلوا فيه التشابه على أنفسهم فضلوا عن الصراط المستقيم ، وبيان هذا المعنى يتقرر بفرض قاعدة ، وهي .
[ ص: 315 ] المسألة الثالثة

وهي أن المتشابه الواقع في الشريعة على ضربين .

أحدهما : حقيقي والآخر إضافي ، وهذا فيما يختص بها نفسها ، وثم ضرب آخر راجع إلى المناط الذي تتنزل عليه الأحكام .

فالأول هو المراد بالآية ، ومعناه راجع إلى أنه لم يجعل لنا سبيل إلى فهم معناه ولا نصب لنا دليل على المراد منه ، فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة ، وتقصاها وجمع أطرافها لم يجد فيها ما يحكم له معناه ولا ما يدل على مقصوده ، ومغزاه ولا شك في أنه قليل لا كثير ، وعلى ذلك دلت الأدلة السابقة في أول المسألة ولا يكون إلا فيما لا يتعلق به تكليف سوى مجرد الإيمان به ، وهذا مذكور في فصل البيان والإجمال ، وفي نحو من هذا نزلت آية آل عمران هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب [ آل عمران : 7 ] حين قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 316 ] قال ابن إسحاق : بعد ما ذكر منهم جملة ، ووصف من شأنهم ، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم يريد في شأن عيسى يقولون هو الله ; لأنه كان يحيي الموتى ، و يبرئ الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفح فيه فيكون طيرا ، ويقولون هو ولد الله ; لأنه لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه ولد آدم قبله ، ويقولون هو ثالث ثلاثة لقول الله فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا ولو كان واحدا لما قال : إلا فعلت ، وقضيت ، وأمرت ، وخلقت ولكنه هو وعيسى ومريم .

قال : ففي كل ذلك من أمرهم قد نزل القرآن يعني صدر سورة آل عمران إلى قوله : فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [ آل عمران : 64 ] ففي الحكاية مما نحن فيه أنهم ما قدروا الله حق قدره ; إذ قاسوه بالعبيد فنسبوا له الصاحبة والولد ، وأثبتوا للمخلوق مالا يصلح إلا للخالق ، ونفوا عن الخالق القدرة على خلق إنسان من غير أب ، وكان الواجب عليهم الإيمان بآيات الله ، وتنزيهه عما لا يليق به فلم يفعلوا ، بل حكموا على الأمور الإلهية بمقتضى [ ص: 317 ] آرائهم فزاغوا عن الصراط المستقيم .
والثاني : وهو الإضافي ليس بداخل في صريح الآية ، وإن كان في المعنى داخلا فيه ; لأنه لم يصر متشابها من حيث وضع في الشريعة من جهة أنه قد حصل بيانه في نفس الأمر ولكن الناظر قصر في الاجتهاد ، أو زاغ عن طريق البيان اتباعا للهوى ، فلا يصح أن ينسب الاشتباه إلى الأدلة ، وإنما ينسب إلى الناظرين التقصير ، أو الجهل بمواقع الأدلة فيطلق عليهم أنهم متبعون للمتشابه لأنهم إذا كانوا على ذلك مع حصول البيان فما ظنك بهم مع عدمه فلهذا قيل : إنهم داخلون بالمعنى في حكم الآية .

ومن أمثلة هذا القسم ما تقدم آنفا للمعتزلة والخوارج ، وغيرهم ، ومثله ما خرجه مسلم عن سفيان قال : سمعت رجلا يسأل جابر بن يزيد الجعفي عن قوله : فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين [ يوسف : 80 ] فقال جابر : لم يجئ تأويل هذه الآية . قال سفيان : وكذب . قال الحميدي : فقلنا لسفيان : ما أراد بهذا ؟ فقال : إن الرافضة تقول إن عليا في السحاب ، فلا يخرج يعني مع من خرج من ولده حتى ينادي مناد من السماء يريد عليا أنه ينادي - : اخرجوا مع فلان يقول جابر فذا تأويل هذه الآية ، وكذب ، كانت في إخوة يوسف .

فهذه الآية أمرها واضح ، ومعناها ظاهر يدل عليه ما قبل الآية ، وما بعدها كما دل الخاص على معنى العام ، ودل المقيد على معنى المطلق فلما قطع [ ص: 318 ] جابر الآية عما قبلها ، وما بعدها كما قطع غيره الخاص عن العام والمقيد عن المطلق صار الموضع بالنسبة إليه من المتشابه فكان من حقه التوقف لكنه اتبع فيه هواه فزاغ عن معنى الآية .

وأما الثالث فالتشابه فيه ليس بعائد على الأدلة ، وإنما هو عائد على مناط الأدلة فالنهي عن أكل الميتة واضح والإذن في أكل الذكية كذلك ، فإذا اختلطت الميتة بالذكية حصل الاشتباه في المأكول لا في الدليل على تحليله ، أو تحريمه ، لكن جاء الدليل المقتضي لحكمه في اشتباهه ، وهو الاتقاء حتى يتبين الأمر ، وهو أيضا واضح لا تشابه فيه ، وهكذا سائر ما دخل في هذا النوع مما يكون محل الاشتباه فيه المناط لا نفس الدليل ، فلا مدخل له في المسألة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #116  
قديم 27-05-2022, 06:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (116)
صـ319 إلى صـ 329


فصل

فإذا ثبت هذا فلنرجع إلى الجواب عن باقي السؤال فنقول : قد ظهر مما تقدم أن التشابه باعتبار وقوع الأدلة مع ما يعارضها كالعام والخاص ، وما ذكر معه قليل ، وأن ما عد منه غير معدود منه ، وإنما يعد منه التشابه الحقيقي خاصة .

وأما مسائل الخلاف ، وإن كثرت فليست من المتشابهات بإطلاق ، بل فيها ما هو منها ، وهو نادر كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح فلم [ ص: 319 ] يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبة المحجوب أمره عن العباد كمسائل الاستواء والنزول والضحك واليد والقدم والوجه ، وأشباه ذلك .

وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم ، وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها ، وهو ظاهر القرآن ; لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل ولا تكليف يتعلق بمعناها ، وما سواها من مسائل الخلاف ليس من أجل تشابه أدلتها ، فإن البرهان قد دل على خلاف ذلك ، بل من جهة نظر المجتهد في مخارجها ، ومناطاتها والمجتهد لا تجب إصابته لما في نفس الأمر ، بل عليه الاجتهاد بمقدار وسعه والأنظار تختلف باختلاف القرائح والتبحر في علم الشريعة فلكل مأخذ يجري عليه وطريق يسلكه بحسبه لا بحسب ما في نفس الأمر فخرج المنصوص من الأدلة عن أن يكون متشابها [ ص: 320 ] بهذا الاعتبار ، وإنما قصاراه أن يصير إلى التشابه الإضافي ، وهو الثاني ، أو إلى التشابه الثالث .

ويدل على ذلك أنك تأخذ كل عالم في نفسه ، وما حصل له من علم الشريعة ، فلا تجد عنده من الأدلة المتشابهة والنصوص المجملة إلا النادر القليل ; لأنه أخذ الشريعة مأخذا اطردت له فيه واستمرت أدلتها على استقامة ولو كان وقوع الخلاف في المسائل يستلزم تشابه أدلتها لتشابهت على أكثر الناس ولم يتخلص منها بالبيان إلا القليل والأمر على ضد ذلك ، وما من مجتهد إلا وهو مقر بوضوح أدلة الشرع ، وإن وقع الخلاف في مسائلها ، ومعترف بأن قوله تعالى : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] على ظاهره من غير شك فيه فيستقرئ من هذا إجماعا على أن المتشابه في الشريعة قليل : وإن اعترفوا بكثرة الخلاف .

وأيضا فإن كل خلاف واقع لا يستمر أن يعد في الخلاف أما أولا فلما تقدم من أن الفرق الخارجة عن السنة حين لم تجمع بين أطراف الأدلة تشابهت عليها المآخذ فضلت ، وما ضلت إلا وهى غير معتبرة القول فيما ضلت فيه فخلافها لا يعد خلافا ، وهكذا ما جرى مجراها في الخروج عن الجادة ، وإلى [ ص: 321 ] ذلك ، فإن من الخلاف ما هو راجع في المعنى إلى الوفاق ، وهذا مذكور في كتاب الاجتهاد فسقط بسببه كثير مما يعد في الخلاف ، وإذا روجع ما هنالك تبين منه هذا المقصد ، ووجه آخر وهو أن كثيرا مما ليس بمحتاج إليه في علم الشريعة قد أدخل فيها وصار من مسائلها ولو فرض رفعه من الوجود رأسا لما اختل مما يحتاج إليه في الشريعة شئ بدليل ما كان عليه السلف الصالح في فهمها - دع العرب المحفوظة اللسان كالصحابة ، ومن يليهم من غيرهم - ، بل من ولد بعد ما فسد اللسان فاحتاج إلى علم كلام العرب كمالك والشافعي ، وأبي حنيفة ، ومن قبلهم ، أو بعدهم وأمثالهم ، فلما دخلت تلك الأمور وقع الخلاف بسببها ولو لم تدخل فيها لم يقع ذلك الخلاف .

ومن استقرأ مسائل الشريعة وجد منها في كلام المتأخرين عن تلك الطبقة كثيرا ، وقد مر في المقدمات تنبيه على هذا المعنى ، وفي كتاب الاجتهاد معرفة ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم المعينة له على اجتهاده ، فإذا جمعت هذه الأطراف تبين منها أن المتشابه قليل ، وأن المحكم هو الأمر العام الغالب .
[ ص: 322 ] المسألة الرابعة

التشابه لا يقع في القواعد الكلية ، وإنما يقع في الفروع الجزئية والدليل على ذلك من وجهين .

أحدهما : الاستقراء أن الأمر كذلك .

والثاني : أن الأصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الشريعة من المتشابه ، وهذا باطل .

وبيان ذلك أن الفرع مبني على أصله يصح بصحته ، ويفسد بفساده ، ويتضح باتضاحه ، ويخفى بخفائه ، وبالجملة فكل وصف في الأصل مثبت في الفرع ; إذ كل فرع فيه ما في الأصل ، وذلك يقتضي أن الفروع المبنية على الأصول المتشابهة متشابهة ، ومعلوم أن الأصول منوط بعضها ببعض في [ ص: 323 ] التفريع عليها فلو وقع في أصل من الأصول اشتباه لزم سريانه في جميعها ، فلا يكون المحكم أم الكتاب لكنه كذلك فدل على أن المتشابه لا يكون في شيء من أمهات الكتاب .

فإن قيل : فقد وقع في الأصول أيضا ، فإن أكثر الزائغين عن الحق إنما زاغوا في الأصول لا في الفروع ولو كان زيغهم في الفروع لكان الأمر أسهل عليهم .

فالجواب أن المراد بالأصول القواعد الكلية كانت في أصول الدين ، أو في أصول الفقه ، أو في غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية ، وعند ذلك لا نسلم أن التشابه وقع فيها ألبتة ، وإنما [ وقع ] في فروعها ؛ فالآيات الموهمة للتشبيه والأحاديث التي جاءت مثلها فروع عن أصل التنزيه الذي هو [ ص: 324 ] [ ص: 325 ] [ ص: 326 ] قاعدة من قواعد العلم الإلهي كما أن فواتح السور ، وتشابهها واقع ذلك في بعض فروع من علوم القرآن ، بل الأمر كذلك أيضا في التشابه الراجع إلى المناط ، فإن الإشكال الحاصل في الذكية المختلطة بالميتة من بعض فروع أصل التحليل والتحريم في المناطات البينة ، وهي الأكثر ، فإذا اعتبر هذا [ ص: 327 ] المعنى ؛ لم يوجد التشابه في قاعدة كلية ولا في أصل عام ، اللهم إلا أن يؤخذ التشابه على أنه الإضافي فعند ذلك لا فرق بين الأصول والفروع في ذلك ، ومن تلك الجهة حصل في العقائد الزيغ والضلال وليس هو المقصود هاهنا ولا هو مقصود صريح اللفظ ، وإن كان مقصودا بالمعنى والله أعلم ; لأنه تعالى قال : منه آيات محكمات [ آل عمران : 7 ] الآية فأثبت فيه متشابها ، وما هو راجع لغلط الناظر لا ينسب إلى الكتاب حقيقة ، وإن نسب إليه فبالمجاز .
[ ص: 328 ] المسألة الخامسة

تسليط التأويل على التشابه فيه تفصيل ، فلا يخلو أن يكون من المتشابه الحقيقي ، أو من الإضافي ، فإن كان من الإضافي ، فلا بد منه إذا تعين بالدليل كما بين العام بالخاص والمطلق بالمقيد والضروري بالحاجي ، وما أشبه ذلك ; لأن مجموعهما هو المحكم ، وقد مر بيانه ، وأما إن كان من الحقيقي فغير لازم تأويله ; إذ قد تبين في باب الإجمال والبيان أن المجمل لا يتعلق به تكليف إن كان موجودا ; لأنه إما أن يقع بيانه بالقرآن الصريح ، أو بالحديث الصحيح ، أو بالإجماع القاطع ، أو لا ، فإن وقع بيانه بأحد هذه ، فهو من قبيل الضرب الأول من التشابه ، وهو الإضافي ، وإن لم يقع بشيء من ذلك ، فالكلام في مراد الله تعالى من غير هذه الوجوه تسور على ما لا يعلم ، وهو غير محمود .

وأيضا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه الأشياء ولا تكلموا فيها بما يقتضي تعيين [ ص: 329 ] تأويل من غير دليل ، وهم الأسوة والقدوة ، وإلى غير ذلك ، فالآية مشيرة إلى ذلك بقوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه [ آل عمران : 7 ] الآية ، ثم قال : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] ، وقد ذهب جملة من متأخري الأمة إلى تسليط التأويل عليها أيضا رجوعا إلى ما يفهم من اتساع العرب في كلامها من جهة الكناية والاستعارة والتمثيل ، وغيرها من أنواع الاتساع تأنيسا للطالبين ، وبناء على استبعاد الخطاب بما لا يفهم مع إمكان الوقوف على قوله : والراسخون في العلم وهو أحد القولين للمفسرين منهم مجاهد ، وهي مسألة اجتهادية ولكن الصواب من ذلك ما كان عليه السلف ، وقد استدل الغزالي على صحة هذا المذهب بأمور ذكرها في كتابه المسمى ب ( إلجام العوام ) فطالعه من هنالك .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 27-05-2022 الساعة 11:13 PM.
رد مع اقتباس
  #117  
قديم 27-05-2022, 06:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (117)
صـ330 إلى صـ 343



المسألة السادسة

إذا تسلط التأويل على المتشابه فيراعى في المؤول به أوصاف ثلاثة : أن يرجع إلى معنى صحيح في الاعتبار متفق عليه في الجملة بين المختلفين ، ويكون اللفظ المؤول قابلا له ، وذلك أن الاحتمال المؤول به إما أن يقبله اللفظ أو لا ، فإن لم يقبله فاللفظ نص لا احتمال فيه ، فلا يقبل التأويل ، وإن قبله اللفظ فإما أن يجري على مقتضى العلم أولا ، فإن جرى على ذلك ، فلا [ ص: 331 ] إشكال في اعتباره ; لأن اللفظ قابل له والمعنى المقصود من اللفظ لا يأباه فاطراحه إهمال لما هو ممكن الاعتبار قصدا ، وذلك غير صحيح ما لم يقم دليل آخر على إهماله ، أو مرجوحيته ، وأما إن لم يجر على مقتضى العلم ، فلا يصح أن يحمله اللفظ على حال والدليل على ذلك أنه لو صح لكان الرجوع إليه مع ترك اللفظ الظاهر رجوعا إلى العمى ، ورميا في جهالة ، فهو ترك للدليل لغير شيء ، وما كان كذلك فباطل .

هذا وجه .

ووجه ثان وهو أن التأويل إنما يسلط على الدليل لمعارضة ما هو أقوى منه فالناظر بين أمرين إما أن يبطل المرجوح جملة اعتمادا على الراجح ولا يلزم نفسه الجمع ، وهذا نظر يرجع إلى مثله عند التعارض على الجملة ، وإما [ ص: 332 ] أن لا يبطله ، ويعتمد القول به على وجه ، فذلك الوجه إن صح واتفق عليه فذاك ، وإن لم يصح فهو نقض الغرض ; لأنه رام تصحيح دليله المرجوح لشيء لا يصح ، فقد أراد تصحيح الدليل بأمر باطل ، وذلك يقتضي بطلانه عند ما رام أن يكون صحيحا ، هذا خلف .

ووجه ثالث ، وهو أن تأويل الدليل معناه أن يحمل على وجه يصح كونه دليلا في الجملة فرده إلى ما يصح رجوع إلى أنه دليل لا يصح على وجه ، وهو جمع بين النقيضين ، ومثاله تأويل من تأول لفظ الخليل في قوله تعالى : واتخذ الله إبراهيم خليلا [ النساء : 125 ] بالفقير ؛ فإن ذلك يصير المعنى القرآني غير صحيح ، وكذلك تأويل من تأول غوى من قوله : وعصى آدم ربه فغوى [ طه : 121 ] [ ص: 333 ] أنه من غوي الفصيل لعدم صحة غوى بمعنى غوي ، فهذا لا يصح فيه التأويل من جهة اللفظ والأول لا يصح فيه من جهة المعنى ، ومثال ما تخلفت فيه الأوصاف تأويل بيان بن سمعان في قوله تعالى : هذا بيان للناس [ آل عمران : 138 ] .
وهذا المعنى لا يختص بباب التأويل ، بل هو جار في باب التعارض والترجيح ، فإن الاحتمالين قد يتواردان على موضوع واحد فيفتقر إلى الترجيح فيهما فذلك ثان عن صحة قبول المحل لهما وصحتهما في أنفسهما ، والدليل في الموضعين واحد .
الفصل الثاني : في الإحكام والنسخ .

ويشتمل على مسائل :

المسألة الأولى :

اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولا والذي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، ثم تبعها أشياء بالمدينة كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة ، وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة ؛ كالصلاة وإنفاق المال ، وغير ذلك ، ونهى عن كل ما هو كفر ، أو تابع للكفر كالافتراءات التي افتروها من الذبح لغير الله تعالى ، وما جعل لله وللشركاء الذين ادعوهم افتراء على الله ، وسائر ما حرموه على أنفسهم ، أو أوجبوه من غير أصل مما يخدم أصل عبادة غير الله ، وأمر مع ذلك بمكارم الأخلاق كلها كالعدل والإحسان والوفاء بالعهد ، وأخذ العفو والإعراض عن الجاهل والدفع بالتي هي أحسن والخوف من الله وحده والصبر والشكر ، ونحوها ، ونهى عن مساوئ الأخلاق من الفحشاء والمنكر والبغي ، [ ص: 336 ] والقول بغير علم والتطفيف في المكيال والميزان والفساد في الأرض والزنا والقتل والوأد ، وغير ذلك مما كان سائرا في دين الجاهلية ، وإنما كانت الجزئيات المشروعات بمكة قليلة والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر .

ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واتسعت خطة الإسلام كملت هنالك الأصول الكلية على تدريج كإصلاح ذات البين والوفاء بالعقود ، وتحريم المسكرات ، وتحديد الحدود التي تحفظ الأمور الضرورية ، وما يكملها ، ويحسنها ورفع الحرج بالتخفيفات والرخص ، وما أشبه ذلك ، وإنما ذلك كله تكميل للأصول الكلية .

فالنسخ إنما وقع معظمه بالمدينة لما اقتضته الحكمة الإلهية في تمهيد الأحكام ، وتأمل كيف تجد معظم النسخ إنما هو لما كان فيه تأنيس أولا للقريب [ ص: 337 ] العهد بالإسلام واستئلاف لهم ، مثل كون الصلاة كانت صلاتين ، ثم صارت خمسا ، وكون إنفاق المال مطلقا بحسب الخيرة في الجملة ، ثم صار محدودا مقدرا ، وأن القبلة كانت بالمدينة بيت المقدس ، ثم صارت الكعبة ، وكحل نكاح المتعة ، ثم تحريمه ، وأن الطلاق كان إلى غير نهاية على قول طائفة ، ثم صار ثلاثا والظهار كان طلاقا ، ثم صار غير طلاق إلى غير ذلك مما كان أصل الحكم فيه باقيا على حاله قبل الإسلام ، ثم أزيل ، أو كان أصل مشروعيته قريبا خفيفا ، ثم أحكم .
[ ص: 338 ] المسألة الثانية

لما تقرر أن المنزل بمكة من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية والقواعد الأصولية في الدين على غالب الأمر اقتضى ذلك أن النسخ فيها قليل لا كثير ; لأن النسخ لا يكون في الكليات ، وقوعا ، وإن أمكن عقلا .

ويدل على ذلك الاستقراء التام ، وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات ، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء ، بل إنما أتى بالمدينة ما يقويها ، ويحكمها ، ويحصنها ، وإذا كان كذلك لم يثبت نسخ [ ص: 339 ] لكلي ألبتة ، ومن استقرأ كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها ، والجزئيات المكية قليلة .

وإلى هذا ، فإن الاستقراء يبين أن الجزئيات الفرعية التي وقع فيها الناسخ والمنسوخ بالنسبة إلى ما بقي محكما قليلة ، ويقوى هذا في قول من جعل المنسوخ من المتشابه ، وغير المنسوخ من المحكم لقوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] .

فدخول النسخ في الفروع المكية قليل ، و هي قليلة فالنسخ فيها قليل في قليل ، فهو إذا بالنسبة إلى الأحكام المكية نادر .

ووجه آخر ، وهو أن الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق ; لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق ؛ فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق ؛ ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر ; لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون فاقتضى [ ص: 340 ] هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعي نسخه لا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين ولا دعوى الإحكام فيهما .
فصل

وهكذا يقال : في سائر الأحكام مكية كانت ، أو مدنية .

ويدل على ذلك الوجهان الأخيران ، ووجه ثالث ، وهو أن غالب ما ادعي فيه النسخ إذا تأمل وجدته متنازعا فيه ، ومحتملا ، وقريبا من التأويل بالجمع بين الدليلين على وجه من كون الثاني بيانا لمجمل ، أو تخصيصا لعموم ، أو تقييدا لمطلق ، وما أشبه ذلك من وجوه الجمع مع البقاء على الأصل من الإحكام في الأول والثاني .

وقد أسقط ابن العربي من الناسخ والمنسوخ كثيرا بهذه الطريقة ، وقال الطبري أجمع أهل العلم على أن زكاة الفطر فرضت ، ثم اختلفوا في نسخها .

قال ابن النحاس : " فلما ثبتت بالإجماع ، وبالأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز أن تزال إلا بالإجماع ، أو حديث يزيلها ، ويبين نسخها ولم [ ص: 341 ] يأت من ذلك شيء " . انتهى المقصود منه .

ووجه رابع يدل على قلة النسخ ، وندوره أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ عند الأصوليين كالخمر والربا ، فإن تحريمهما بعد ما كانا على حكم الأصل لا يعد نسخا لحكم الإباحة الأصلية ولذلك قالوا في حد النسخ إنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ، ومثله رفع براءة الذمة بدليل .

وقد كانوا في الصلاة يكلم بعضهم بعضا إلى أن نزل وقوموا لله قانتين [ البقرة : 238 ] [ ص: 342 ] وروي أنهم كانوا يلتفتون في الصلاة إلى أن نزل قوله : الذين هم في صلاتهم خاشعون [ المؤمنون : 2 ] [ ص: 343 ] قالوا ، وهذا إنما نسخ أمرا كانوا عليه ، وأكثر القرآن على ذلك ، معنى هذا أنهم كانوا يفعلون ذلك بحكم الأصل من الإباحة فهو مما لا يعد نسخا ، وهكذا كل ما أبطله الشرع من أحكام الجاهلية .

فإذا اجتمعت هذه الأمور ، ونظرت إلى الأدلة من الكتاب والسنة لم يتخلص في يدك من منسوخها إلا ما هو نادر على أن هاهنا معنى يجب التنبه له ليفهم اصطلاح القوم في النسخ ، وهي .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 27-05-2022 الساعة 11:13 PM.
رد مع اقتباس
  #118  
قديم 27-05-2022, 06:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (118)
صـ344 إلى صـ 367



وذلك أنالذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين،فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا ، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل ، أومنفصل نسخا ، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا كما يطلقون على رفع الحكمالشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا ; لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد ، وهو أنالنسخ في الاصطلاحالمتأخراقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف ، وإنما المراد ما جيء بهآخرا ؛ فالأول غير معمول به ؛ والثاني : هو المعمول به . وهذا المعنى جار في تقييد المطلق ، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده ،فلا إعمال له في إطلاقه ، بل المعمل هو المقيد ، فكأن المطلق لم يفد معمقيده شيئا فصار مثل الناسخ والمنسوخ ، وكذلك العام مع الخاص ; إذ كان ظاهرالعام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ فلما جاء الخاص أخرج حكمظاهر العام عن الاعتبار فأشبه الناسخ المنسوخ إلا أن اللفظ العام لم يهملمدلوله جملة ، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص ،[ ص: 345 ] وبقيالسائر على الحكم الأول والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق فلما كانكذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني لرجوعها إلى شيء واحد . ولا بد من أمثلة تبين المراد ، فقد رويعنابن عباسأنه قال في قوله تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد[ الإسراء : 18 ] : إنه ناسخ لقوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها[ الشورى : 20 ] . وعلى هذا التحقيق تقييد لمطلق إذا كان قوله : نؤته منهامطلقا ، ومعناه مقيد بالمشيئة ، وهو قوله في الآية الأخرى : لمن نريد، وإلا فهو إخبار ، والأخبار لا يدخلها النسخ . [ ص: 346 ] وقال في قوله : والشعراء يتبعهم الغاوونإلى قوله : وأنهم يقولون ما لا يفعلون[ الشعراء : 224 - 226 ] : هو منسوخ بقوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا[ الشعراء : 227 ] الآية . قالمكي: وقد ذكر عنابن عباسفي أشياء كثيرة في القرآن فيها حرف الاستثناء أنه قال : منسوخ . قال : وهو مجاز لا حقيقة ; لأن المستثنى مرتبط بالمستثنى منه بينه حرفالاستثناء أنه في بعض الأعيان الذين عمهم اللفظ الأول ، والناسخ[ ص: 347 ] منفصل عن المنسوخ رافع لحكمه ، وهو بغير حرف . هذا ما قال ، ومعنى ذلك أنه تخصيص للعموم قبله ولكنه أطلق عليه لفظ النسخ ، إذ لم يعتبر فيه الاصطلاح الخاص . وقال في قوله تعالى : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها[ النور : 27 ] إنه منسوخ بقوله : ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة[ النور : 29 ] الآية . وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء غير أن قوله : ليس عليكم جناحيثبت أن البيوت في الآية الأخرى إنما يراد بها المسكونة . وقال في قوله : انفروا خفافا وثقالا[ التوبة : 41 ] إنه منسوخ[ ص: 348 ] بقوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة[ التوبة : 122 ] والآيتان في معنيين ولكنه نبه على أن الحكم بعد غزوة تبوك أن لا يجب النفير على الجميع . وقال في قوله تعالى : قل الأنفال لله والرسول[ الأنفال : 1 ] منسوخ بقوله : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسهالآية [ الأنفال : 41 ] ، وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله : لله والرسولوقال في قوله : وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء[ الأنعام : 69 ] إنه منسوخ بقوله : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها[ النساء : 140 ] الآية ، وآية الأنعام خبر من الأخبار والأخبار[ ص: 349 ] لا تنسخ ولا تنسخ . وقال في قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه[ النساء : 8 ] [ ص: 350 ] الآية : إنه منسوخ بآية المواريث . وقال مثلهالضحاكوالسدي،وعكرمة، وقالالحسنمنسوخ بالزكاة ، وقالابن المسيبنسخه الميراث والوصية . والجمع بين الآيتين ممكن لاحتمال [ حمل ] الآية على الندب والمراد بأولي القربى من لا يرث بدليل قوله : وإذا حضرفقيد كما[ ص: 351 ] ترى الرزق بالحضور ، [ فدل أن ] المراد غير الوارثين ، وبينالحسنأن المراد الندب أيضا بدليل آية الوصية والميراث فهو من بيان المجمل والمبهم . وقال هووابن مسعودفي قوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء[ البقرة : 284 ] : إنه منسوخ بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها[ البقرة : 286 ] ، مع أن الأخبار لا تنسخ ، وإنما المراد - والله أعلم - ما انطوت عليه النفوس من الأمور الكسبية التي هي في وسع الإنسان ، وبينذلك قوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها[ البقرة : 286 ] [ ص: 352 ] بدليل أنابن عباسفسر الآية بكتمان الشهادة ; إذ تقدم قوله : [ ص: 353 ] ولا تكتموا الشهادة[ البقرة : 283 ] ثم قال : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللهالآية [ البقرة : 284 ] فحصل أن ذلك من باب[ ص: 354 ] تخصيص العموم ، أو بيان المجمل . وقال في قوله : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها[ النور : 31 ] : إنه منسوخ بقوله : والقواعد من النساءالآية [ النور : 60 ] وليس بنسخ إنما هو تخصيص لما تقدم من العموم . وعنأبي الدرداء،وعبادة بن الصامتفي قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم[ المائدة : 5 ] أنه ناسخ لقوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه[ الأنعام : 121 ] ، فإن كان المراد أن طعامأهل الكتابحلال، وإن لم يذكر اسم الله عليه فهو تخصيص للعموم ، وإن كان المراد أن طعامهمحلال بشرط التسمية فهو أيضا من باب التخصيص ، لكن آية الأنعام هي آيةالعموم المخصوص في الوجه الأول ، وفي الثاني بالعكس . [ ص: 355 ] وقالعطاءفي قوله تعالى : ومن يولهم يومئذ دبره[ الأنفال : 16 ] : إنه منسوخ بقوله : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين[ الأنفال : 65 ] إلى آخر الآيتين، وإنما هو تخصيص ، وبيان لقوله : ومن يولهمفكأنه على معنى : ومن يولهم وكانوا مثلي عدد المؤمنين ، فلا تعارض ولا نسخ بالإطلاق الأخير . وقال في قوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم[ النساء : 24 ] : إنه منسوخ بالنهي عن نكاح المرأة على عمتها ، أو على خالتها ، وهذا من باب تخصيص العموم . [ ص: 356 ] وقالوهب بن منبهفي قوله : ويستغفرون لمن في الأرض[ الشورى : 5 ] : نسختها الآية التي في غافرويستغفرون للذين آمنوا[ غافر : 7 ] . وهذا معناه أن آية غافر مبينة لآية الشورى ; إذ هو خبر محض والأخبار لا نسخ فيها . وقالابن النحاس: " هذا لا يقع فيها ناسخ ولا منسوخ ; لأنه خبر من الله ولكن يجوز أن يكون ،وهب بن منبهأراد أن هذه الآية على نسخة تلك الآية لا فرق بينهما يعني أنهما بمعنى واحد وإحداهما تبين الأخرى " . قال : " وكذا يجب أن يتأول للعلماء ولا يتأول عليهم الخطأ العظيم إذا كان لما قالوه وجه " . [ ص: 357 ] قال : والدليل على ما قلناه ما حدثناهأحمد بن محمد، ثم أسندعنقتادةفي قوله : ويستغفرون لمن في الأرض[ الشورى : 5 ] قال : للمؤمنين منهم. وعنعراك بن مالكوعمر بن عبد العزيزوابن شهابأن قوله : والذين يكنزون الذهب والفضةالآية [ التوبة : 34 ] منسوخ بقوله : خذ من أموالهم صدقة[ التوبة : 103 ] ، وإنما هو بيان لما يسمى كنزا ، وأن المال إذا أديتزكاته لا يسمى كنزا ، وبقي ما لم يزك داخلا تحت التسمية ، فليس من النسخ فيشيء . وقالقتادةفي قوله : اتقوا الله حق تقاته[ آل عمران : 102 ] : إنه منسوخ بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم[ التغابن : 16 ] ، وقالهالربيع بن أنسوالسديوابن زيد، وهذا من الطراز المذكور ; لأن الآيتين مدنيتان ولم[ ص: 358 ] تنزلا إلا بعد تقرير أن الدين لا حرج فيه ، وأن التكليف بما لا يستطاع مرفوع فصار معنى قوله : اتقوا الله حق تقاته[ آل عمران : 102 ] فيما استطعتم ، وهو معنى قوله : فاتقوا الله ما استطعتم[ التغابن : 16 ] فإنما أرادوا بالنسخ أن إطلاق سورة آل عمران مقيد بسورة التغابن . وقالقتادةأيضا في قوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء[ البقرة : 228 ] : إنه نسخ من ذلك التي لم يدخل بها بقوله : فما لكم عليهن من عدة تعتدونها[ الأحزاب : 49 ] والتي يئست من المحيض والتي لم تحض بعد والحامل بقوله : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهرإلى قوله : أن يضعن حملهن[ الطلاق : 4 ] . وقالعبد الملك بن حبيبفي قوله : اعملوا ما شئتم[ فصلت : 40 ] [ ص: 359 ] وقوله : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر[ الكهف : 29 ] ، وقوله : لمن شاء منكم أن يستقيم[ التكوير : 28 ] : إن ذلك منسوخ بقوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين[ التكوير : 29 ] ، وهذه الآية إنما جاءت في معرض التهديد والوعيد ،وهو معنى لا يصح نسخه فالمراد أن إسناد المشيئة للعباد ليس على ظاهره ، بلهي مقيدة بمشيئة الله سبحانه . وقال في قوله : الأعراب أشد كفرا ونفاقا[ التوبة : 97 ] ، وقوله : ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما[ التوبة : 98 ] إنه منسوخ بقوله : ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر[ التوبة : 99 ] الآية ، وهذا من[ ص: 360 ] الأخبار التي لا يصح نسخها والمقصود أن عموم الأعراب مخصوص بمن كفر دون من آمن . وقالأبو عبيد، وغيره إن قوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون[ النور : 4 ] [ ص: 361 ] منسوخ بقوله : إلا الذين تابوا من بعد ذلكالآية [ النور : 5 ] . وقد تقدملابن عباسمثله . وقيل في قوله : إن الله يغفر الذنوب جميعا[ الزمر : 53 ] منسوخ بقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك بهالآية [ النساء : 48 ] ، وقوله : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنمالآية [ النساء : 93 ] ، وهذا من باب تخصيص العموم لا من باب النسخ . وفي قوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم[ الأنبياء : 98 ] [ ص: 362 ] إنه منسوخ بقوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون[ الأنبياء : 101 ] ، وكذلك قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها[ مريم : 71 ] منسوخ بها[ ص: 363 ] أيضا ، وهو إطلاق النسخ في الأخبار ، وهو غير جائز . قالمكي: " وأيضا فإن هذا لو نسخ لوجب زوال حكم دخول المعبودين من دون اللهكلهم النار ; لأن النسخ إزالة الحكم الأول ، وحلول الثاني محله ولا يجوززوال الحكم الأول في هذا بكليته إنما زال بعضه فهو تخصيص ، وبيان " . [ ص: 364 ] وفي قوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمناتالآية [ النساء : 25 ] إنه منسوخ بقوله : ذلك لمن خشي العنت منكم[ النساء : 25 ] ، وإنما هو بيان لشرط نكاح الإماء المؤمنات . والأمثلة هنا كثيرة توضح لك أن مقصود المتقدمين بإطلاق لفظ النسخ بيان مافي تلقي الأحكام من مجرد ظاهره إشكال وإيهام لمعنى غير مقصود للشارع فهوأعم من إطلاق الأصوليين فليفهم هذا ، وبالله التوفيق . [ ص: 365 ] المسألة الرابعةالقواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينيات لم يقع فيها نسخ،وإنما وقع النسخ في أمور جزئية بدليل الاستقراء ، فإن كل ما يعود بالحفظعلى الأمور الخمسة ثابت ، وإن فرض نسخ بعض جزئياتها فذلك لا يكون إلا بوجهآخر من الحفظ ، وإن فرض النسخ في بعضها إلى غير بدل فأصل الحفظ باق ; إذ لايلزم من رفع بعض أنواع الجنس رفع الجنس . بل زعم الأصوليون أن الضروريات مراعاة في كل ملة ، وإن اختلفت أوجه الحفظبحسب كل ملة ، وهكذا يقتضي الأمر في الحاجيات والتحسينيات . وقد قال الله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه[ الشورى : 13 ] وقال تعالى : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل[ الأحقاف : 35 ] وقال بعد ذكر كثير من الأنبياء عليهم السلام : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده[ الأنعام : 90 ] وقال تعالى : وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم اللهالآية [ المائدة : 43 ] . [ ص: 366 ] وكثير من الآيات أخبر فيها بأحكام كلية كانت في الشرائع المتقدمة ، وهي في شريعتنا ولا فرق بينهما . وقال تعالى : ملة أبيكم إبراهيم[ الحج : 78 ] . وقال في قصةموسىعليه السلام : إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري[ طه : 14 ] وقال : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم[ البقرة : 183 ] وقال : إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة[ القلم : 17 ] وقال : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس[ المائدة : 45 ] إلى سائر ما في ذلك من معاني الضروريات . وكذلك الحاجيات فإنا نعلم أنهم لم يكلفوا بما لا يطاق ، هذا وإن كانوا قدكلفوا بأمور شاقة فذلك لا يرفع أصل اعتبار الحاجيات ، ومثل ذلك التحسينيات ،فقد قال تعالى : أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر[ العنكبوت : 29 ] ، وقوله : فبهداهم اقتده[ الأنعام : 90 ] يقتضي بظاهره دخول محاسن العادات من الصبر على الأذى والدفع بالتي هي أحسن ، وغير ذلك . [ ص: 367 ] وأما قوله : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا[ المائدة : 48 ] ، فإنه يصدق على الفروع الجزئية ، وبه تجتمع معانيالآيات والأخبار ، فإذا كانت الشرائع قد اتفقت في الأصول مع وقوع النسخفيها ، وثبتت ولم تنسخ ، فهي في الملة الواحدة الجامعة لمحاسن الملل أولىوالله تعالى أعلم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 27-05-2022 الساعة 11:23 PM.
رد مع اقتباس
  #119  
قديم 27-05-2022, 06:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (119)
صـ368 إلى صـ 378

الفصل الثالث في الأوامر والنواهي .

وفيه مسائل :

المسألة الأولى

الأمر والنهي يستلزم طلبا وإرادة من الآمر ؛ فالأمر يتضمن طلب المأمور به ، وإرادة إيقاعه والنهي يتضمن طلبا لترك المنهي عنه وإرادة لعدم إيقاعه ، ومع [ ص: 370 ] هذا ففعل المأمور به ، وترك المنهي عنه يتضمنان ، أو يستلزمان إرادة بها يقع الفعل ، أو الترك ، أو لا يقع .

وبيان ذلك أن الإرادة جاءت في الشريعة على معنيين .

أحدهما : الإرادة الخلقية القدرية المتعلقة بكل مراد فما أراد الله كونه كان ، وما أراد أن لا يكون ، فلا سبيل إلى كونه ، أو تقول ، وما لم يرد أن يكون ، فلا سبيل إلى كونه .

والثاني : الإرادة الأمرية المتعلقة بطلب إيقاع المأمور به ، وعدم إيقاع [ ص: 371 ] المنهي عنه ، ومعنى هذه الإرادة أنه يحب فعل ما أمر به ، ويرضاه ، ويحب أن يفعله المأمور ، ويرضاه منه من حيث هو مأمور به ، وكذلك النهي يحب ترك المنهي عنه ، ويرضاه .

فالله عز وجل أمر العباد بما أمرهم به ؛ فتعلقت إرادته بالمعنى الثاني بالأمر ; إذ الأمر يستلزمها ; لأن حقيقة إلزام المكلف الفعل أو الترك ؛ فلا بد أن يكون ذلك الإلزام مرادا ، وإلا لم يكن إلزاما ولا يتصور له معنى مفهوم .

وأيضا فلا يمكن مع ذلك أن يريد الإلزام مع العرو عن إرادة إيقاع الملزم به على المعنى المذكور ، لكن الله تعالى أعان أهل الطاعة فكان أيضا مريدا لوقوع الطاعة منهم فوقعت على وفق إرادته بالمعنى الأول ، وهو القدري ولم يعن أهل المعصية فلم يرد وقوع الطاعة منهم فكان الواقع الترك ، وهو مقتضى إرادته بالمعنى الأول ، والإرادة بهذا المعنى الأول لا يستلزمها الأمر ، فقد يأمر بما لا يريد ، وينهى عما يريد ، وأما بالمعنى الثاني ، فلا يأمر إلا بما يريد ولا ينهى إلا عما لا يريد .

والإرادة على المعنيين قد جاءت في الشريعة ؛ فقال تعالى في الأولى : [ ص: 372 ] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا الآية [ الأنعام : 125 ]

وفي حكاية نوح عليه السلام : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم [ هود : 34 ] .

وقال تعالى : ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم إلى قوله : ولكن الله يفعل ما يريد [ البقرة : 253 ] ، وهو كثير جدا .

وقال في الثانية : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ]

ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم الآية [ المائدة : 6 ] .

يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم إلى قوله : يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 26 - 28 ] [ ص: 373 ] إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت [ الأحزاب : 33 ] ، وهو كثير جدا أيضا .

ولأجل عدم التنبه للفرق بين الإرادتين وقع الغلط في المسألة ؛ فربما نفى بعض الناس الإرادة عن الأمر والنهي مطلقا ، وربما نفاها بعضهم عما لم يؤمر به مطلقا ، وأثبتها في الأمر مطلقا ، ومن عرف الفرق بين الموضعين لم يلتبس عليه شيء من ذلك .

وحاصل الإرادة الأمرية أنها إرادة التشريع ولا بد من إثباتها بإطلاق ، والإرادة القدرية هي إرادة التكوين ، فإذا رأيت في هذا التقييد إطلاق لفظ القصد وإضافته إلى الشارع فإلى معنى الإرادة التشريعية أشير ، وهي أيضا إرادة التكليف ، وهو شهير في علم الأصوليين أن يقولوا إرادة التكوين ، ويعنون بالمعنى الأول إرادة التكليف ، ويعنون بالمعنى الثاني الذي يجري ذكره بلفظ القصد في هذا الكتاب ولا مشاحة في الاصطلاح والله المستعان .
[ ص: 374 ] المسألة الثانية

الأمر بالمطلقات يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعها كما أن النهي يستلزم قصده لترك إيقاعها .

وذلك أن معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك ، ومعنى الاقتضاء الطلب والطلب يستلزم مطلوبا والقصد لإيقاع ذلك المطلوب ولا معنى للطلب إلا هذا .

ووجه ثان أنه لو تصور طلب لا يستلزم القصد لإيقاع المطلوب لأمكن أن يرد أمر مع القصد لعدم إيقاع المأمور به ، وأن يرد نهي مع القصد لإيقاع المنهي عنه ، وبذلك لا يكون الأمر أمرا ولا النهي نهيا ، هذا خلف ، ولصح انقلاب الأمر نهيا ، وبالعكس ولأمكن أن يوجد أمر أو نهي من غير قصد إلى إيقاع فعل ، أو عدمه فيكون المأمور به ، أو المنهي عنه مباحا ، أو مسكوتا عن [ ص: 375 ] حكمه ، وهذا كله محال .

والثالث أن الأمر والنهي من غير قصد إلى إيقاع المأمور به ، وترك المنهي عنه هو كلام الساهي والنائم والمجنون ، وذلك ليس بأمر ولا نهي باتفاق والأمر في هذا أوضح من أن يستدل عليه .

فإن قيل : هذا مشكل من أوجه .

أحدها : أنه يلزم على هذا أن يكون التكليف بما لا يطاق مقصودا إلى إيقاعه ، فإن المحققين اتفقوا على جواز ذلك ، وإن لم يقع ، فإن جوازه يستلزم صحة القصد إلى إيقاعه ، والقصد إلى إيقاع ما لا يمكن إيقاعه عبث ؛ فيلزم أن يكون القصد إلى الأمر بما لا يطاق عبثا ، وتجويز العبث على الله محال ؛ فكل ما يلزم عنه محال ، وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع بخلاف ما إذا قلنا إن الأمر لا يستلزم القصد إلى الإيقاع ، فإنه لا يلزم منه محظور عقلي فوجب القول به .

[ ص: 376 ] والثاني : أن مثل هذا يلزم في السيد إذا أمر عبده بحضرة ملك قد توعد السيد على ضرب عبده زاعما أنه لا يطيعه ، وطلب تمهيد عذره بمشاهدة الملك ، فإنه يأمر العبد ، وهو غير قاصد لإيقاع المأمور به ; لأن القصد هنا يستلزم قصده لإهلاك نفسه ، وذلك لا يصدر من العقلاء فلم يصح أن يكون قاصدا وهو آمر ، وإذا لم يصح لم يلزم أن يكون كل آمر قاصدا للمأمور به ، وكذلك النهي حرفا بحرف ، وهو المطلوب .

والثالث : أن هذا لازم في أمر التعجيز نحو فليمدد بسبب إلى السماء [ الحج : 15 ] ، وفي أمر التهديد نحو اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] ، وما أشبه ذلك ; إذ معلوم أن المعجز والمهدد غير قاصد لإيقاع المأمور به في تلك الصيغة .

فالجواب عن الأول أن القصد إلى إيقاع ما لا يطاق لا بد منه ولا يلزم من القصد إلى ذلك حصوله ; إذ القصد إلى الأمر بالشيء لا يستلزم إرادة الشيء إلا على قول من يقول : إن الأمر إرادة الفعل ، وهو رأي المعتزلة .

[ ص: 377 ] وأما الأشاعرة فالأمر عندهم غير مستلزم للإرادة ، وإلا وقعت المأمورات كلها ، وأيضا لو فرض في تكليف ما لا يطاق عدم القصد إلى إيقاعه لم يكن تكليف ما لا يطاق ; لأن حقيقته إلزام فعل ما لا يقدر على فعله ، وإلزام الفعل هو القصد إلى أن يفعل ، أو لازم القصد إلى أن يفعل ، فإذا علم ذلك ، فلا تكليف به فهو طلب للتحصيل لا طلب للحصول ، وبينهما فرق واضح .

وهكذا القول في جميع الأسئلة ، فإن السيد إذا أمر عبده ، فقد طلب منه أن يحصل ما أمر به ولم يطلب حصول ما أمره به ، وفرق بين طلب التحصيل وطلب الحصول .

[ ص: 378 ] وأما أمر التعجيز والتهديد فليس في الحقيقة بأمر ، وإن قيل : أنه أمر بالمجاز فعلى ما تقدم ; إذ الأمر ، وإن كان مجازيا فيستلزم قصدا به يكون أمرا فيتصور وجه المجاز ، وإلا فلا يكون أمرا دون قصد إلى إيقاع المأمور به بوجه .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 27-05-2022 الساعة 11:23 PM.
رد مع اقتباس
  #120  
قديم 27-05-2022, 06:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (120)
صـ379 إلى صـ 390



المسألة الثالثة

الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد ، والدليل على ذلك أمور :

أحدها : أنه لو استلزم الأمر بالمقيد لانتفى أن يكون أمرا بالمطلق .

وقد فرضناه كذلك ، هذا خلف ، فإنه إذا قال الشارع : " أعتق رقبة " فمعناه أعتق ما يطلق عليه هذا الاسم من غير تعيين فلو كان يستلزم الأمر بالمقيد لكان معناه أعتق الرقبة المعينة الفلانية ، فلا يكون أمرا بمطلق ألبتة .

[ ص: 380 ] والثاني : أن الأمر من باب الثبوت ، وثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص فالأمر بالأعم لا يستلزم الأمر بالأخص ، وهذا على اصطلاح بعض الأصوليين الذين اعتبروا الكليات الذهنية في الأمور الشرعية .

والثالث : أنه لو كان أمرا بالمقيد فإما أن يكون معينا ، أو غير معين ، فإن كان معينا لزم تكليف ما لا يطاق وقوعا ، فإنه لم يعين في النص وللزم أن يكون ذلك المعين بالنسبة إلى كل مأمور ، وهذا محال ، وإن كان غير معين فتكليف ما لا يطاق لازم أيضا ; لأنه أمر بمجهول والمجهول لا يتحصل به امتثال ؛ فالتكليف به محال ، وإذا ثبت أن الأمر لا يتعلق بالمقيد لزم أن لا يكون قصد الشارع متعلقا بالمقيد من حيث هو مقيد ، فلا يكون مقصودا له ; لأنا قد فرضنا أن قصده إيقاع المطلق فلو كان له قصد في إيقاع المقيد لم يكن [ ص: 381 ] قصده إيقاع المطلق ، هذا خلف لا يمكن .

فإن قيل : هذا معارض بأمرين :

أحدهما : أنه لو كان الأمر بالمطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد لكان التكليف به محالا أيضا ; لأن المطلق لا يوجد في الخارج ، وإنما هو موجود في الذهن ، والمكلف به يقتضي أن يوجد في الخارج ; إذ لا يقع به الامتثال إلا عند حصوله في الخارج ، وإذ ذاك يصير مقيدا لا مطلقا ، فلا يكون بإيقاعه ممتثلا والذهني لا يمكن إيقاعه في الخارج ، فلا يكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق ، وهو ممتنع ، فلا بد أن يكون الأمر به مستلزما للأمر بالمقيد ، وحينئذ يمكن الأمتثال فوجب المصير إليه ، بل القول به .

والثاني : أن المقيد لو لم يقصد في الأمر بالمطلق لم يختلف الثواب باختلاف الأفراد الواقعة من المكلف ; لأنها من حيث الأمر بالمطلق على تساو ؛ فكان يكون الثواب على تساو أيضا ، وليس كذلك ، بل يقع الثواب على مقادير المقيدات المتضمنة لذلك المطلق فالمأمور بالعتق إذا أعتق أدون الرقاب كان له من الثواب بمقدار ذلك ، وإذا أعتق الأعلى كان ثوابه أعظم .

وقد سئل - عليه الصلاة والسلام - عن أفضل الرقاب فقال : أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها .

[ ص: 382 ] وأمر بالمغالاة في أثمان القربات كالضحايا ، وبإكمال الصلاة وغيرها من العبادات حتى يكون الأمر فيها أعظم ، ولا خلاف في أن قصد الأعلى في أفراد المطلقات المأمور بها أفضل ، وأكثر ثوابا من غيره ، فإذا كان التفاوت في أفراد المطلقات موجبا للتفاوت في الدرجات ؛ لزم من ذلك كون المقيدات مقصودة للشارع ، وإن حصل الأمر بالمطلقات .

[ ص: 383 ] فالجواب عن الأول أن التكليف بالمطلق عند العرب ليس معناه التكليف بأمر ذهني ، بل معناه التكليف بفرد من الأفراد الموجودة في الخارج ، أو التي يصح وجودها في الخارج مطابقا لمعنى اللفظ [ بحيث ] لو أطلق عليه اللفظ صدق ، وهو الاسم النكرة عند العرب ، فإذا قال : " أعتق رقبة " فالمراد طلب إيقاع العتق بفرد مما يصدق عليه لفظ الرقبة فإنها لم تضع لفظ الرقبة إلا على فرد من الأفراد غير مختص بواحد من الجنس ، هذا هو الذي تعرفه العرب والحاصل أن الأمر به أمر بواحد كما في الخارج ، وللمكلف اختياره في الأفراد الخارجية .

وعن الثاني : أن ذلك التفاوت الذي التفت إليه الشارع إما أن يكون القصد إليه مفهوما من نفس الأمر بالمطلق ، أو من دليل خارجي والأول ممنوع لما تقدم من الأدلة ولذلك لم يقع التفاوت في الوجوب ، أو الندب الذي اقتضاه الأمر بالمطلق ، وإنما وقع التفاوت في أمر آخر خارج عن مقتضى مفهوم [ ص: 384 ] [ المطلق ] ، وهذا صحيح .

والثاني : مسلم ؛ فإن التفاوت إنما فهم من دليل خارجي كالأدلة الدالة على أن أفضل الرقاب أعلاها ، وأن الصلاة المشتملة على جميع آدابها المطلوبة أفضل من التي نقص منها بعض ذلك ، وكذا سائر المسائل فمن هنالك كان مقصود الشارع ؛ ولذلك كان ندبا لا وجوبا ، وإن كان الأصل واجبا ; لأنه زائد على مفهومه ، فإذا القصد إلى تفضيل بعض الأفراد على بعض يستلزم القصد إلى الأفراد وليس ذلك من جهة الأمر بالمطلق ، بل [ بدليل من ] خارج ؛ فثبت أن القصد إلى المطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم القصد إلى المقيد من حيث هو مقيد .

بخلاف الواجب المخير ، فإن أنواعه مقصودة للشارع بالإذن ، فإذا أعتق المكلف رقبة ، أو ضحى بأضحية ، أو صلى صلاة ، ومثلها موافق للمطلق فله أجر ذلك من حيث هو داخل تحت المطلق ؛ إلا أن يكون ثم فضل زائد فيثاب عليه بمقتضى الندب الخارجي ، وهو مطلق أيضا ، وإذا كفر بعتق فله أجر العتق ، أو أطعم فأجر الإطعام ، أو كسا فأجر الكسوة بحسب ما فعل ، لا لأن له أجر كفارة اليمين فقط من غير تقييد بما كفر [ به ] ، فإن تعيين الشارع المخير فيه يقتضي قصده إلى ذلك دون غيره ، وعدم تعيينه في المطلقات يقتضي عدم قصده إلى ذلك .

وقد اندرج هنا أصل آخر ، وهي .
[ ص: 385 ] المسألة الرابعة

وترجمتها أن الأمر المخير يستلزم قصد الشارع إلى أفراده المطلقة المخير فيها .
المسألة الخامسة

المطلوب الشرعي ضربان :

أحدهما : ما كان شاهد الطبع خادما له ، ومعينا على مقتضاه بحيث يكون الطبع الإنساني باعثا على مقتضى الطلب كالأكل والشرب والوقاع والبعد عن استعمال القاذورات من أكلها والتضمخ بها ، أو كانت العادة الجارية من العقلاء في محاسن الشيم ، ومكارم الأخلاق موافقة لمقتضى ذلك الطلب من غير منازع طبيعي كستر العورة والحفظ على النساء والحرم ، وما أشبه ذلك ، وإنما قيد بعدم المنازع تحرزا من الزنا ، ونحوه مما [ ص: 386 ] يصد فيه الطبع عن موافقة الطلب .

والثاني : ما لم يكن كذلك كالعبادات من الطهارات والصلوات والصيام والحج ، وسائر المعاملات المراعى فيها العدل الشرعي والجنايات والأنكحة المخصوصة بالولاية والشهادة ، وما أشبه ذلك .

فأما الضرب الأول ، فقد يكتفي الشارع في طلبه بمقتضى الجبلة الطبيعية والعادات الجارية ، فلا يتأكد الطلب تأكد غيره ، حوالة على الوازع الباعث على الموافقة دون المخالفة ، وإن كان في نفس الأمر متأكدا ألا ترى أنه لم يوضع في هذه الأشياء على المخالفة حدود معلومة زيادة على ما أخبر به من الجزاء الأخروي ؟

ومن هنا يطلق كثير من العلماء على تلك الأمور أنها سنن ، أو مندوب إليها ، أو مباحات على الجملة مع أنه لو خولف الأمر والنهي فيها مخالفة ظاهرة لم يقع الحكم على وفق ذلك المقتضى ؛ كما جاء في قاتل نفسه أنه يعذب في جهنم بما قتل به نفسه .

[ ص: 387 ] وجاء في مذهب مالك أن من صلى بنجاسة ناسيا ، فلا إعادة عليه إلا استحسانا ، ومن صلى بها عامدا أعاد أبدا من حيث خالف الأمر الحتم فأوقع على إزالة النجاسة لفظ السنة اعتمادا على الوازع الطبيعي والمحاسن العادية ، فإذا خالف ذلك عمدا رجع إلى الأصل من الطلب الجزم فأمر بالإعادة أبدا .

وأبين من هذا أنه لم يأت نص جازم في طلب الأكل والشرب واللباس الواقي من الحر والبرد والنكاح الذي به بقاء النسل ، وإنما جاء ذكر هذه الأشياء في معرض الإباحة ، أو الندب ؛ حتى إذا كان المكلف في مظنة مخالفة الطبع أمر وأبيح له المحرم إلى أشباه ذلك .

[ ص: 388 ] وأما الضرب الثاني ؛ فإن الشارع قرره على مقتضاه من التأكيد في المؤكدات والتخفيف في المخففات ; إذ ليس للإنسان فيه خادم طبعي باعث على مقتضى الطلب ، بل ربما كان مقتضى الجبلة يمانعه ، وينازعه كالعبادات ; لأنها مجرد تكليف .

وكما يكون ذلك في الطلب الأمري ، كذلك يكون في النهي ؛ فإن المنهيات على الضربين : فالأول كتحريم الخبائث ، وكشف العورات ، وتناول السموم واقتحام المهالك وأشباهها ، ويلحق بها اقتحام المحرمات لغير شهوة عاجلة ولا باعث طبعي ؛ كالملك الكذاب والشيخ الزاني والعائل المستكبر ، فإن مثل هذا قريب مما تخالفه الطباع ، ومحاسن العادات ، فلا تدعو إليه شهوة ولا يميل إليه عقل سليم فهذا الضرب لم يؤكد بحد معلوم في [ ص: 389 ] الغالب ولا وضعت له عقوبة معينة ، بل جاء النهي فيه كما جاء الأمر في المطلوبات التي لا يكون الطبع خادما لها ؛ إلا أن مرتكب هذا لما كان مخالفا لوازع الطبع ، ومقتضى العادة إلى ما فيه من انتهاك حرمة الشرع أشبه بذلك المجاهر بالمعاصي المعاند فيها ، بل هو هو فصار الأمر في حقه أعظم بسبب أنه لا يستدعي لنفسه حظا عاجلا ولا يبقى لها في مجال العقلاء بل البهائم مرتبة ولأجل ذلك جاء من الوعيد في الثلاثة : " الشيخ الزاني وأخويه " ما جاء ، وكذلك فيمن قتل نفسه .

بخلاف العاصي بسبب شهوة عنت وطبع غلب ناسيا لمقتضى الأمر ، ومغلقا عنه باب العلم بمآل المعصية ، ومقدار ما جنى بمخالفة الأمر ولذلك قال تعالى : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة الآية : [ النساء : 17 ] .

أما الذي ليس له داع إليها ولا باعث عليها فهو في حكم المعاند المجاهر فصار هاتكا لحرمة النهي والأمر مستهزئا بالخطاب ؛ فكان الأمر فيه أشد ، ولكن كل ما كان الباعث فيه على المخالفة الطبع جعل فيه في الغالب [ ص: 390 ] حدود وعقوبات مرتبة إبلاغا في الزجر عما تقتضيه الطباع .

بخلاف ما خالف الطبع ، أو كان الطبع وازعا عنه ، فإنه لم يجعل له حد محدود .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 27-05-2022 الساعة 11:24 PM.
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 231.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 225.43 كيلو بايت... تم توفير 6.26 كيلو بايت...بمعدل (2.70%)]