صدقه صلى الله عليه وسلم وأمانته، وحفظه للعهد وبرّه ووفاؤه - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الدور الحضاري للوقف الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          آفاق التنمية والتطوير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 3892 )           »          تحت العشرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 61 - عددالزوار : 6965 )           »          المرأة والأسرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 61 - عددالزوار : 6433 )           »          الأخ الكبير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          فوائد متنوعة منتقاة من بعض الكتب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 202 )           »          الحفاظ على النفس والصحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          شرح النووي لحديث: أنت مني بمنزلة هارون من موسى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          نظرية التأخر الحضاري في البلاد المسلمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          الاستعلائية في الشخصية اليهودية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19-01-2023, 10:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,915
الدولة : Egypt
افتراضي صدقه صلى الله عليه وسلم وأمانته، وحفظه للعهد وبرّه ووفاؤه

صدقه صلى الله عليه وسلم وأمانته، وحفظه للعهد وبرّه ووفاؤه (1)











عبد المجيد أسعد البيانوني





الصدق والأمانة أعلى مظاهر العظمة النفسيّة، وهما ملتقى الفضائل النفسيّة كلّها ومجمعها، وفصّها وأسّها.. وأمّا الأمانة فقوامها: اعتدال الفطرة، وسموّ الهمّة، واتّزان الشخصيّة، وعفّة النفس، وتجرّدها عن سفساف الأمور والتعلّق بالدنيا، وحصر الاهتمام عليها، فلا عجب بعد ذلك أن تكون تلكما الصفتان أوّل لوازم حياة الرسل، وأعظم صفاتهم.

وحقيقة الصدقِ قوّة النفس ووقوفها مع الحقّ بتجرّد، ونصرته بكلّ ما أوتيت منْ قوّة، لا تحيد عَنْه ولا تتوارى، ولا تستثقل تكاليفه، ولا تتباطأ عنها، فهو عنوانها، فهي منه، وهو منها، لا تعرف سواه، ولا ترى وجودها ورفعتها إلاّ به..

ومعلوم أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم افتتح دعوتَه إلى قومه باستنطاقهم عن موقفهم مِنْ صدقه: أيرونه صادقاً فيما يقول ويخبر، أم أنّهم عهدوا عليه أنّه لا يعدّ الكذب أمراً ذا بال، فهو لا يتورّع عنه، ولا يأنف من اقترَافه.؟!

روى الشيخان والبلاذري عن ابن عباس، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم عن قبيصة بن المخارق رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين}[الشعراء:214]، قام على الصفا فعلا أعلاها حجراً ثمّ نادى: يا صباحاه.

فقالوا: من هذا؟ وجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج يرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فاجتمعوا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً.

فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنقذ نفسك من النار فإني لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة محمد، ويا فاطمة بنت محمد أنقذا أنفسكما من النار فإني لا أملك لكما من الله شيئاً، غير أن لكما رحماً سأبلها ببلالها، إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد.

وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ لَمّا أَنَزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين}[الشعراء:214]، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتّى أَتَى الصّفَا، فَصَعِدَ عَلَيْهِ فَهَتَفَ " يَا صُبَاحَاه "، فَلَمّا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدّقِيّ "؟ قَالُوا: مَا جَرّبْنَا عَلَيْك كَذِبًا. قَالَ " فَإِنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبّا لَك سائر اليوم أَلِهَذَا جَمَعْتنَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب}[المَسَد:1]، إلى آخر السورة.

ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بني عبد المطلب إنّي والله ما أعلم شابّاً من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إنّي قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة [سبل الهدى والرشاد 2/324/].

وأمّا الصدق في شخصِ الرسُول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من رسالة فهو لا يقف عند صدق القول والخبر، وإنّما يتّسع ليشمل حياة الإنسان كلّها، فهو يشمل صِدقَ الفعل ليتطابق مع النيّة والقصد، وصدق الرغبة فيما عند اللهِ لتقع الأعمال خالصة لله، لا تشوبُها شائبة، وصدق العزيمة في الوقوف مع الحقّ، ونصرته وتأييدِه، فلا يقف في وجهها عائق، وصِدقَ الحَالِ، فلا تصدّه الدعاوى الملبِّسة..

ولقد كان أشدّ ما اغتمّ له الرسول صلى الله عليه وسلم تكذيب المشركين له، ومن ثمّ فقد جاء تخفيف القرآن عنه بأنّهم لا يكذّبونه حقيقة، وإنّما هم يجحدون بآيات الله، ويستنكرون وقوعها، يقول الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُون}[الأنعام:33]{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِين}[الأنعام:34].

ولقد شهدت قريش بإجماع رجالها وعقلائها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمانة قبل نبوّته وشهد له القرآن الكريم بالخلق العظيم بعد رسالته، ولا بدّ من نظرة إلى شهادة قريش من زاويتين:

ـ الزاوية الأولى: من زاوية الدافع إلى هذه الشهادة وقيمتها؛ فلا بدّ أن الأمانة التي تحلّى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة محلّ بروز وتألّق وتميّز، في شخصيّته صلى الله عليه وسلم وسلوكه، بصورة جذبت أنظار المراقبين، ولفتت انتباه المجتمع من حوله، وانتزعت منهم شدّة إعجابهم، كما كانت تعبيراً عن اجتماع حقائقها، وتآلف معانيها، لتكون حقيقة كبرى، تنتظم من خلالها شخصيّة المصطفى صلى الله عليه وسلم بصورة معجزة إنسانيّة، لم يسبق لها مثيل، كلّ ذلك كان في بيئة، لم تكن بيئة علم وتثقيف، ولكنّها كانت بيئة فطريّة نقيّة في كثير من جوانبها، ولم تعرف من الأمانة إلاّ جزئيّات متناثرة، ولم تعرفها كلاًّ لا يقبل التجزيء والتبعيض إلاّ في حياة محمّد صلى الله عليه وسلم وسلوكه، ولولا فقد بيئته لهذه الصفة، واجتماع حقائقها، وتآلف معانيها فيه لما أجمع قومه على وصفه بها، ولما كان في ذلك كبير فائدة، أو مزيد مزيّة.

ـ والزاوية الأخرى: أن هذه الشهادة من قريش كانت عن مرحلة تعدّ أخطر المراحل التي يمرّ بها الشاب، وهي مرحلة اكتمال الرجولة، واتّقاد الغرائز، وهي مرحلة تختلف فيها الأغراض والغايات وتضطرب، وتتناكر النوازع والاتّجاهات وتحترب، وفي الشابّ في تلك المرحلة من موفور القوّة وقوّة الغريزة ما يجعله يندفع وراء تحقيقها إلى أقصى المدى، متوارياً من عادات قومه، وأعراف بيئته حيناً، أو متجاوزاً متحدّياً حيناً آخر.. ومع ذلك كلّه فقد بقي هذا اللقب يصحب محمّداً صلى الله عليه وسلم، ويطبع شخصيّته طيلة حياته قبل البعثة، ولم تعرف عنه قريش ما يخرم هذه الأمانة أو يشذّ عنها، فمن ثمّ لم تستطع قريش أن تنزع هذا اللقب عن محمّد صلى الله عليه وسلم بعد رسالته، كما أنها لم تستطع أن تمنحه أحداً من زعمائها، حتى أولئك الذين كانوا محلّ إجماعها، وكانت تأتمر بأمرهم، وتصدر عن رأيهم، وتظهر لهم مزيد التقدير والاحترام.

فهل أنطق الله تعالى قريشاً بما قالت، ليكون من قولها حجّة ساطعة لمن يقول بعصمة الأنبياء قبل النبوّة وبعدها؟ ولتكون تلك الحجّة على لسان المخالف المعادي أبلغ في الشهادة وألزم، وأقوم في البيّنة وأحكم، وأدنى ألا يرتاب المرتابون.؟

ثمّ إن هذه الشهادة من قريش تدلّ على أن الأمانة التي عرفتها قريش في شخصيّته صلى الله عليه وسلم، كانت خلقاً أصيلاً نابعاً من فطرته، التي فطره الله عليها، واختصّه بها، بما تحوي من الفضائل والكمالات، فمن ثمّ فقد كان صلى الله عليه وسلم معزولاً عن البيئة المحيطة به، ومحصّناً عنها؛ فأنى لها أن تؤثّر فيه، أو تغيّره؟ وإن منطق الحقّ في مثله أن يؤثّر فيما حوله ولا يتأثّر، وأن يغالب الظواهر الاجتماعيّة، ويتغلّب عليها، حتى يصهرها في فضائله، ويشحنها بنسائمه، ويطبعها بطابع منهجه ورسالته.

والأمانة النبويّة لا تقبل التجزئة أو التنازل تحت أيّ ظرف أو موقف، ولا تخضع لشيء من النفعيّة والمساومة..

والأمانة في مفهوم الإسلام أوسع من أن تكون حفظاً لوديعة مادّيّة، ثمّ ردّاً لها، إنّها عنوان عامّ لحياة المسلم، يشمل ذلك، كما يشمل القيام بالواجب دون تقصير، والاضطلاع بالتكاليف دون تقاعس، والاهتمام بأمر العامّة، دون تهاون أو محاباة، وكتمان السرّ، وإخلاص الرأي وحسن المشورة..

لقد بلّغ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ربّه كلّ ما أوحي إليه، حتّى ما وجّه إليه من عتاب، ولم يتقاعس في القيام بواجب الدعوة إلى الله، ولم يتراخ في الاضطلاع بمهامّها، ولم تزده الشدائد التي اعترضته إلاّ ثباتاً، ولا المحن التي صادفته إلاّ قوّة ومضاءً.

وكان حين يسأل عن أمر لا دراية له به يتوقّف حتّى يأتيه الوحي من الله في شأنه.. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدلّ على هذا، منها قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون}[البقرة:219].

وقوله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ... }[المائدة:4].

وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ... }[الأعراف:187].

وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين}[الأنفال:1].

وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا}[الإسراء:85].

وقد سنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه السنّة الحسنة، وقرّر هذا المنهج الأخلاقيّ لأمّته، وعلّمهم أن لا يتجرّأوا على الفتوى بغير علم، وبخاصّة في الأمور الشرعيّة، فذلك من القول على الله بغير علم، وهو من أكبر الكبائر.. وتلك من الناحية الأخلاقيّة غاية الأمانة، ومن الناحية الحضاريّة قمّة النضج العلميّ والفكريّ، وقد قرّر ذلك القرآن بأوجز بيان معجز، إذ يقول تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا}[الإسراء:36].

وكان صلى الله عليه وسلم من شدّة أمانته على الوحي، وحرصه التامّ على وعيه، وخوفه من ضياع شيء منه، يعجل في متابعة جبريل عليه السلام عندما يتنزّل عليه بشيء من القرآن، فطمأنه الله تعالى بقوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَه * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه}[القيامة:16 ــ19].

وقال تعالى: {فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114].

والمال أمانة فلا يؤخذ إلاّ بحقّه، ومن حلّه، ولا يوضع إلاّ في حلّه، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للناس في ذلك، وقد جاء في الحَديث الصحيح:

(.. وَاللهِ لَوْ أَنَّ لَكُمْ شَجَرَ تِهَامَةَ نَعَماً قَسَمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ لَمْ تَلْقَوْنِي بَخِيلاً، وَلا جَبَاناً، وَلا كَذُوباً، ثُمَّ أَتَى بَعِيراً، فَأَخَذَ مِنْ سَنَامِهِ وَبَرَةً بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: هَا إِنَّهُ لَيْسَ لِي مِنْ الْفَيْءِ شَيْءٌ، وَلا هَذِهِ، إِلاّ خُمُسٌ، وَالخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ.. وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَدُّوا الخِيَاطَ وَالمَخِيطَ، فَإِنَّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ عَاراً وَشَنَاراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [رواه النسائيّ في كتاب الهبة برقم /2628/ في قِصّةِ وَفْدِ هَوَازِنَ، بعدما وقع من سبيهم في الغزو].

وحذّر صلى الله عليه وسلم من العدوان على شيء من أموال الناس، ولو عوداً من أراك، ففي الحديث عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ) فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رَسُولَ اللهِ.؟ قَالَ: (وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حقّ مسلم بيمين فاجرة بالنار برقم /196/ وفي رواية مالك في كتاب الأقضية /1215/ كرّر (وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ) ثلاثاً.

وفي الحديث الصحيح: عَنْ أَبِي نَضْرَةَ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاّ بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، قَالَ: وَلا أَدْرِي قَالَ: أَوْ أَعْرَاضَكُمْ أَمْ لا، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ) رواه أحمد في المسند برقم /22391/، وأصله في الصحيحين.

وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (المُسْلِمُ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ، المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، وَالتَّقْوَى هَاهُنَا، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْقَلْبِ، قَالَ: وَحَسْبُ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ) رواه أحمد في المسند برقم /15444/، وأصله في الصحيحين.

* ومن أروع مواقف الأمانة موقفه صلى الله عليه وسلم يوم أراد الهجرة، فقد أهدرت قريش دمه، وسعت كلّ جهدها لقتله، وأغرت من يأتي به أو بصاحبه حيّاً أو ميتاً بأثمن الجوائز.. وفي الوقت نفسه كان صلى الله عليه وسلم هو المؤتمن على كرائم أموال المشركين، لا يجدون أميناً سواه، أفما كان يسعه صلى الله عليه وسلم أن يحجز أموالهم ليساومهم عليها، وهم قد أهدروا دمه.؟ أو يهمل حفظها لهم، فتضيع بين ظهرانيهم، فيكون ذلك أقلّ جزاءاً ممّا يستحقّون.؟! أو يجحد أماناتهم، بعدما أعلنوا عليه هذه الحرب الظالمة الأثيمة.؟! وسيجد من يعذره فيما فعل.. كلاّ، ثمّ كلاّ، إنّ ذلك كلّه لا يلتقي مع أمانة النبوّة المطلقة، ولا مع عظمة الأخلاق النبويّة المشرقة.. إنّ أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم أسمى وأزكى ممّا يتصوّر البشر جميعاً.. فكيف تصرّف النبيّ صلى الله عليه وسلم.؟ لقد عرّض صلى الله عليه وسلم حياة ابن عمّه عليّ رضي الله عنه للخطر، فأمره أن يبيت في فراشه ليلة الهجرة، وأن يتأخّر عنه في هجرته، وهذا أيضاً باب من أبواب الخطر، ولكنّه صلى الله عليه وسلم بشّره أنّه لا يصاب بأيّ أذىً منهم.. وكلّ ذلك ليؤدّي الأمانات إلى أهلها، فأيّ أخلاق أعظم من هذه الأخلاق وأسمى.؟!

وقارن هذا الموقف العظيم بموقفه صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكّة فاتحاً منتصراً، وطأطأ كبار المشركين رءوسهم أمامه، خاضعين لقوّة الحقّ، واشرأبّت أعناقهم إليه، تنتظر بم يقضي فيهم هذا الطريد المهاجر بالأمس.؟! وطلب النبيّ صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة من عثمان بن طلحة، ودخل إليها، وصلّى فيها ركعتين، وهدم ما فيها من الأصنام، وكان يسعه صلى الله عليه وسلم ـ ولا رادّ لقضائه إلاّ الله ـ ألاّ يردّ مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة، وحجّته في ذلك وجيهة ظاهرة.. ولكنّها الأمانة التي لا تقف عند حدّ.. وعظمة أخلاق النبوّة، التي لا تحيط بها عقول البشر..

روى ابن سعد عن عثمان بن طلحة: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، فدعاني إلى الاسلام فقلت: يا محمد العجب لك حيث تطمع أن أتّبعك، وقد خالفت دين قومك، وجئت بدين محدث، وكنّا نفتح الكعبة في الجاهلية الاثنين والخميس، فاقبل يوماً يريد أن يدخل الكعبة مع الناس فأغلظت عليه، ونلت منه، فحلم عني، ثمّ قال: (يا عثمان! لعلك سترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت) فقلت: لقد هلكت قريش وذلّت.

قال: (بل عمرت يومئذ وعزت)، ودخل الكعبة، فوقعت كلمته منّي موقعاّ، فظننت أنّ الامر سيصير كما قال، فأردت الإسلام فإذا قومي يزبرونني زبراً شديداً، فلمّا كان يوم الفتح قال لي: (يا عثمان! ائت بالمفتاح) فأتيته به.

فأخذه مني، ثم دفعه إليّ وقال: (خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلاّ ظالم، يا عثمان إنّ الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما وصل إليكم من هذا البيت بالمعروف)، فلما ولّيت ناداني، فرجعت إليه، فقال: (ألم يكن الذي قلت لك؟) فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: (لعلّك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت).

فقلت: بلى، أشهد أنّك رسول الله، فقام عليّ بن أبي طالب ومفتاح الكعبة بيده فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين عثمان بن طلحة؟ فدعا فقال: (هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برّ ووفاء) قالوا: وأعطاه المفتاح ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطبع بثوبه عليه، وقال " غيبوه، إنّ الله تعالى رضي لكم بها في الجاهليّة والاسلام) انظر البداية والنهاية 4/301.

وروى الفاكهي عن جبير بن مطعم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا ناول عثمان المفتاح قال له: (غيّبه)، قال الزهري: فلذلك يغيب المفتاح.

وروى ابن عائذ وابن أبي شيبة من مرسل عبد الرحمن بن سابط: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة، فقال: (خذوها خالدة مخلّدة، إنّي لم أدفعها إليكم، ولكنّ الله تعالى دفعها إليكم، ولا ينزعها منكم إلاّ ظالم).

وروى ابن عائذ أيضاً والأزرقيّ عن ابن جريح رحمه الله تعالى أنّ عليّاً رضي الله عنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: اجمع لنا الحجابة والسقاية فنزلت: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا...}[النساء:58] سبل الهدى والرشاد 5/244/.

وفي غزوة خيبر بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الأمانة في مال الأعداء واجبة الحفظ والرعاية والأداء، لا تبرّر العداوة وحالة الحرب القائمة إهمالها، وإذا كانت أموال الأعداء تغنم في القتال، ويأخذها المسلمون، ويقسمونها بينهم، فإنّ ذلك ممّا أحلّه الله لهذه الأمّة في الحرب، وليس من قانون الإسلام خيانة الأمانة، ولو مع العدوّ المحارب.

روى موسى بن عقبة عن عروة بن الزبير: أنّه جاء عبد حبشي أسود من أهل خيبر، كان في غنم لسيده، فلمّا رأى أهل خيبر قد حملوا السلاح سألهم ماذا تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ، فوقع في نفسه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل بغنمه حتّى عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إلى من تدعو؟ قال: أدعوك إلى الإسلام، أن تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأني رسول الله، وألا تعبد إلا الله، فقال العبد: فماذا يكون لي إن شهدت بذلك، وآمنت بالله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجنة إن متّ على ذلك، قال الرجل المؤمن: يا رسول الله إن هذه الغنم عندي أمانة، إذ كان يرعاها، وهنا أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤدي أمانته، ولم يقل إنّها غنيمة للمسلمين، ولم يضمّها إلى أموال الله؛ لأنّ الأمانة يجب أن تراعى لذاتها، لا فرق فيها بين عدوّ محارب، وولي مناصر، بل قال الرسول الأمين: أخرجها من عسكرنا، وارمها بالحصى، فإنّ الله سيؤدي عنك أمانتك، ففعل، فرجعت الغنم إلى سيّدها، فعرف اليهوديّ أنّ غلامه قد أسلم.


ولقد قتل ذلك العبد الأمين في خيبر شهيداً، فأدخل في قماط الرسول صلى الله عليه وسلم.

وإن هذا درس حكيم للذين يخونون أموال الناس، ويبرّرونها بعداوة لهم، وقد يكونون ظالمين في العداوة كما هم ظالمون بالخيانة، والله عليم بذات الصدور. انظر: خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم للشيخ محمّد أبو زهرة 2/ 913 ـ 914/.

وبعد؛ فانظُر أيّها العاقل المنصف إلى كلّ ما جاء في القرآن الكريم من أمر ونهي، وإرشاد وتوجيه تجد السيرة النبويّة العطرة هي التطبيق العمليّ الدقيق، والمرآة النقيّة، الصافية الأمينة لكلّ ذلك، وتلك من أهمّ سمات أمانته صلى الله عليه وسلم، وتاجها وحليتها، وبسط ذلك يحتاج إلى إفراد بالحديث يطول فيه القول ويمتدّ، وهو منجم من البحث بكر، لا أعلم من تناوله بالتفصيل والبيان.









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 22-01-2023, 09:52 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,915
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صدقه صلى الله عليه وسلم وأمانته، وحفظه للعهد وبرّه ووفاؤه

صدقه صلى الله عليه وسلم وأمانته، وحفظه للعهد وبرّه ووفاؤه (2)


عبد المجيد أسعد البيانوني



أما حفظه صلى الله عليه وسلم للعهد ووفاؤه فهو نوع من أمانته، وباب بحدّ ذاته من أبواب عظمة أخلاقه صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم أوفى الناس بالوعد، وأرعاهم للعهد، وأوصلهم للرحم قبل النبوّة وبعدها، وقد عاهد اليهود والمشركين، فما نقض العهد، وما عرف عنه الغدر، ولمّا توفّيت السيّدة الجليلة خديجة رضي الله عنها كان دائم الذكر لها، والثناء عليها، حتّى كانت عائشة تغار من ذلك، وكان يحبّ صديقات خديجة، ويبرّهنّ، فكان يذبح الشاة، ويقطّعها ويقول: (أرسلوا إلى صديقات خديجة) رواه البخاري.

وكانت تستأذن عليه هالة بنت خويلد، أخت خديجة، فيهشّ لها، وترتاح نفسه، لأنّ صوتها يذكّره بصوت خديجة، وجاءته ذات يوم عجوز من صويحبات خديجة، فصار يسألها عن أحوالها، وما صارت إليه، ولمّا خرجت قالت له عائشة: تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟! فقال لها: (إنّها كانت تأتينا زمان خديجة، وإنّ حسن العهد من الإيمان) رواه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان، كما في السيرة النبويّة لأبي شهبة 2/644/.

* ومن المواقف الدالّة على برّه ووفائه صلى الله عليه وسلم وصيّته بالأنصار رضي الله عنه، لما كان منهم من نصرة لدين الله، وجهاد في سبيله، ودفاع عن رسوله صلى الله عليه وسلم: جاء في الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: مَرَّ أَبُو بَكْرٍ وَالْعَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا بِمَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ، وَهُمْ يَبْكُونَ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكُمْ؟ قَالُوا: ذَكَرْنَا مَجْلِسَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَّا، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ عَصَبَ عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ، قَالَ: فَصَعِدَ المِنْبَرَ، وَلَمْ يَصْعَدْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ: فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِالأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، وَقَدْ قَضَوْا الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ) رواه البخاريّ في كتاب المناقب برقم /3353/.

ويبلغ وفاء النبيّ صلى الله عليه وسلم قمّة لا تساميها قمّة، عندما يلتزم بعهد شخصيّ، أخذ على بعض أصحابه، ولم يؤخذ عليه، تعظيماً لعَهْدِ اللهِ وَمِيثَاقِهِ، وكيلا يظنّ به التسبّب بنقض العهد.. كما جاء في الحديث عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ رضي الله عنه قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاّ أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّداً فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلاّ المَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى المَدِينَةِ، وَلا نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ الخَبَرَ، فَقَالَ: (انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير برقم /3342/.

* ومن المواقف الدالّة على شدّة حرصه على البرّ والوفاء: ترجيحه صلى الله عليه وسلم لحقّ الوالدين وبرّهما على الهجرة إليه صلى الله عليه وسلم: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَلَقَدْ تَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، قَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا، كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا) رواه النسائيّ في كتاب البيعة برقم /4093/.

* ومن أجمل مواقف برّه صلى الله عليه وسلم موقفه مع أبي العاص بن الربيع رضي الله عنه زوج ابنته زينب رضي الله عنها عندما وقع في الأسر يوم بدر: لمّا بعث أهل مكّة في فداء أسراهم، قدم في فداء أبي العاص بن الربيع، زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوه عمرو بن الربيع بمال دفعته إليه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قلادة كانت خديجة قد أهدتها إليها، يوم أدخل بها على أبي العاص، فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم القلادة رقّ لها فقال لأصحابه: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردّوا عليها الذي لها فافعلوا) فقالوا: نعم.

* وموقف آخر مع أبي العاص بن الربيع كان سبب إسلامه: فقد خرج في تجارة لقريش قبيل فتح مكّة، فلقيته سريّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسها زيد بن حارثة، فأخذ المسلمون ما في تلك العير، وأسروا ناساً، فلجأ أبو العاص بن الربيع إلى زوجه زينب رضي الله عنها، واستجار بها فأجارته، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّه قد جاء في طلب ماله، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال هذه السريّة، وقال لهم: (إنّ هذا الرجل منّا بحيث علمتم، وقد أصبتم له مالاً، وهو ممّا أفاء الله عليكم، وأنا أحبّ أن تحسنوا، وتردّوا عليه الذي له، فإن أبيتم فأنتم أحقّ به)، فقالوا: بل نردّه عليه، فردّوا عليه ماله جميعاً، فعاد إلى مكّة، وأدّى إلى قريش ما بيده من الأمانات، ثمّ قال أمام الملأ من قريش: " أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله "، والله ما منعني من الإسلام إلاّ خوفاً أن تظنّوا بي أكل أموالكم " ثمّ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً، وحسن إسلامه.

فانظر إلى عظمة أخلاقه صلى الله عليه وسلم وسموّ ذوقه مع أصحابه أوّلاً، أفما كان يستطيعُ صلى الله عليه وسلم أن يبدي لهم رغبة جازمةً بمَا يريد.؟ وهل يستطيع أحد منهم بعقد الإيمان، وعهد الحبّ والولاء والوفاء أن لا يستجيب لرغبته صلى الله عليه وسلم.؟! ولكنّه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً دائماً على تطييب القلوب، وتزكية المشاعر، وقطع الهواجس والوساوس.. ثمّ انظر ثانياً إلى عظمة أخلاقه صلى الله عليه وسلم مع زوج ابنته السيّدة زينب، كيف حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم في المرّتين أن يردّ له ماله، فاستأذن لذلك أصحاب الحقّ في كلّ مرّة.. ولاشكّ أنّ أبا العاص قدّر هذا الموقف من النبيّ صلى الله عليه وسلم غاية التقدير، واعتمل في نفسه، فكان من ثمرته أن عاد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مسلماً مهاجراً، فردّ له النبيّ صلى الله عليه وسلم زوجته.

وكان صلى الله عليه وسلم يوصي بالوفاء، وحسن الرعاية للعهد حتّى مع الحيوان، وإليك هذا المثل الفذّ من سموّ الأخلاق التي جاء بها صلى الله عليه وسلم، ومبلغ الرحمة التي جبل عليها: عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً مِنْ المُسْلِمِينَ أَسَرَهَا الْعَدُوُّ، وَقَدْ كَانُوا أَصَابُوا قَبْلَ ذَلِكَ نَاقَةً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَرَأَتْ مِنْ الْقَوْمِ غَفْلَةً، قَالَ: فَرَكِبَتْ نَاقَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ جَعَلَتْ عَلَيْهَا أَنْ تَنْحَرَهَا، قَالَ: فَقَدِمَتْ المَدِينَةَ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَنْحَرَ نَاقَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمُنِعَتْ مِنْ ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (بِئْسَمَا جَزَيْتِيهَا)، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: (لا نَذْرَ لابْنِ آدَمَ فِيمَا لا يَمْلِكُ، وَلا فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى) رواه أحمد في المسند برقم /19010/.

وكما كان صلى الله عليه وسلم وفيّاً مع الأحبّاء والأهل والأصدقاء، فقد كان وفيّاً حتّى مع الأعداء، لا ينقض العهد، ولا يغدر، وكذلك كان الرسل عليهم الصلاة والسلام.. وقد شهد أبو سفيان أمام هرقل قبل أن يسلم أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغدر.. فقال له هرقل: " وَكَذلِكَ الرسُلُ لا تَغدِرُ.. " انظر حديث أبي سفيان مع هرقل في البخاري باب بدء الوحي برقم /7/، ومسلم في كتاب الجهاد والسير باب كتاب النبيّ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام برقم /3322/.

لقد عاهد اليهود ووفّى لهم، ولكنّهم هم الذين نقضوا العهد في كلّ مرّة، وألّبوا عليه الأحزاب، وعاهد المشركين في الحديبية، ووفّى لهم، وعندما جاءه أبو جندل وأبو بصير مسلمين ردّهما تنفيذاً لشروط العهد، على كرهٍ منهما ومن المسلمين، حتّى جعل الله لهما فرجاً ومخرجاً.

ولَمّا دخل مكّة عام عمرة القضاء، وقضى بها ثلاثة أيّام ليس معهم إلاّ السيوف في أغمادها، جاء المشركون إليه ليخرج، فأبى بعض المسلمين عليهم، ورغب إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدَعوه حتّى يعرّس بالسيّدة ميمونة بنت الحارث، فيأكل المسلمون، ويأكلون معهم، فأبوا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالانصراف وفاء بالعهد، ودخل بها " بسَرِف " وهو مكان قرب مكّة.

* ومن أروع المواقف الدالّة على وفائه بالعهد صلى الله عليه وسلم، كما تدلّ على عقله وحكمته، وقوّة بصيرته في دين الله وبعد نظره: موقفه صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، هذا الموقف الذي لم يستوعب فيه كثير من الصحابة، وعلى رأسهم عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، بعد نظر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعميق حكمته، وأثبت الوحي الإلهيّ، وتطوّر الأحداث في الواقع أنّ هذا الصلح كان فتحاً مبيناً كما سمّاه الله تعالى.

روى الإمام أحمد عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بَنِ الحَكَمِ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالا: " خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَمَانَ الحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الحُلَيْفَةِ قَلَّدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَيْناًَ لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ يُخْبِرُهُ عَنْ قُرَيْشٍ، وَسَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كَانَ بِغَدِيرِ الأَشْطَاطِ، قَرِيبٌ مِنْ عُسْفَانَ، أَتَاهُ عَيْنُهُ الخُزَاعِيُّ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ قَدْ جَمَعُوا لَكَ الأَحَابِشَ، وَجَمَعُوا لَكَ جُمُوعاً، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَشِيرُوا عَلَيَّ: أَتَرَوْنَ أَنْ نَمِيلَ إِلَى ذَرَارِيِّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ، فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْرُوبِينَ، وَإِنْ نَجَوْا، وَإِنْ يَحْنُونَ تَكُنْ عُنُقاً قَطَعَهَا اللهُ، أَوْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ.؟

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَلَمْ نَجِئْ نُقَاتِلُ أَحَداً، وَلَكِنْ مَنْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَرُوحُوا إِذاً.

قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً قَطُّ كَانَ أَكْثَرَ مَشُورَةً لأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

فَرَاحُوا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً، فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ، فَوَاللهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ، حَتَّى إِذَا هُوَ بِقَتَرَةِ الجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيراً لِقُرَيْشٍ.

وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يَهْبِطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهَا رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: حَلْ حَلْ، فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلأَتْ الْقَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا خَلأَتْ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلاّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ بِهِ، قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهَا حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ المَاءِ، إِنَّمَا يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضاً، فَلَمْ يَلْبَثْهُ النَّاسُ أَنْ نَزَحُوهُ، فَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، قَالَ: فَوَاللهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ.

قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحٍ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، وَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ، وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ، نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الحُدَيْبِيَةِ، مَعَهُمْ الْعُوذُ المَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ، وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشاً قَدْ نَهَكَتْهُمْ الحَرْبُ، فَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرُ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلاّ فَقَدْ جَمَوْا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، وَإِلاّ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، أَوْ لَيُنْفِذَنَّ اللهُ أَمْرَهُ، قَالَ: فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْنَاهُمْ مُدَّةً.

قَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشاً فَقَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلاً، فَإِنْ شِئْتُمْ نَعْرِضُهُ عَلَيْكُمْ؟ فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لا حَاجَةَ لَنَا فِي أَنْ تُحَدِّثَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ذُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ، قَالَ: قَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ فَقَالَ: أَيْ قَوْمُ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لا، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ [كلّوا وانقطعوا] جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، وَدَعُونِي آتِهِ فَقَالُوا: ائْتِهِ فَأَتَاهُ، قَالَ: فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنْ اسْتَأْصَلْتَ قَوْمَكَ، هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُنْ الأُخْرَى فَوَاللهِ إِنِّي لأَرَى وُجُوهًا، وَأَرَى أَوْبَاشاً مِنْ النَّاسِ خُلُقاً أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: امْصُصْ بَظْرَ اللاّتِ، نَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟! فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأَجَبْتُكَ.

وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَكُلَّمَا كَلَّمَهُ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ السَّيْفُ، وَعَلَيْهِ المِغْفَرُ، وَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ يَدَهُ بِنَصْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ عُرْوَةُ يَدَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَالَ: أَيْ غُدَرُ أَوَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟

وَكَانَ المُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْماً فِي الجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا الإِسْلامُ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا المَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ.

ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنِهِ، قَالَ: فَوَاللهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إِلاّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيماً لَهُ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ وَاللهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكاً قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم، وَاللهِ إِنْ يَتَنَخَّمُ نُخَامَةً إِلاّ وَقَعَتْ فِي كَفَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيماً لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا.

فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا فُلانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ الْقَوْمُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ.

قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَلَمْ أَرَ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ.

فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فَقَالَ: دَعُونِي آتِهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: سَهُلَ مِنْ أَمْرِكُمْ.

فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَاباً، فَدَعَا الْكَاتِبَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اكْتُبْ، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ: وَاللهِ مَا نَكْتُبُهَا إِلاّ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ، وَلا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (وَاللهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ).

قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: (لا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلاّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا).

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللهِ لا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ لَكَ مِنْ الْعَامِ المُقْبِلِ فَكَتَبَ.

فَقَالَ سُهَيْلٌ: عَلَى أَنَّهُ لا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، فَقَالَ: المسلِمُونَ سُبْحَانَ اللهِ! كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ، وَقَدْ جَاءَ مُسْلِماً؟

فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ المُسْلِمِينَ.

فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ، أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ.

قَالَ: فَوَاللهِ إِذًا لا نُصَالِحُكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَأَجِزْهُ لِي قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزُهُ لَكَ، قَالَ: بَلَى فَافْعَلْ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ.

قَالَ مِكْرَزٌ: بَلَى قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ، فَقَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعَاشِرَ المُسْلِمِينَ أُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ، وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِماً، أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ، وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَاباً شَدِيداً فِي اللهِ.

فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللهِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي، قُلْتُ: أَوَلَسْتَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ، فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُتَطَوِّفٌ بِهِ.

قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه، فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟

قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ حَتَّى تَمُوتَ، فَوَاللهِ إِنَّهُ لَعَلَى الحَقِّ.

قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ، وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ، وَمُتَطَوِّفٌ بِهِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً.

[لاحظ أخي القارئ الكريم التوافق العجيب بين قول أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، وجوابه لعمر رضي الله عنه، وبين جواب النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه، ممّا يشهد لك بسموّ مقام الصدّيق، وعظيم إيمانه ويقينه، ورسوخ قدمه، ودقّة فهمه. وقوله صلى الله عليه وسلم: ".. إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي.. " يمكن أن يفهم منه أنّه صلى الله عليه وسلم يتصرّف في هذا الموقف بأمر الوحي وتوجيهه فهو لا يملك إلاّ الاستجابة لأمر الله، والمضيّ في طاعته مهما كلّف الأمر، كما يمكن أن يفهم منه أنّه صلى الله عليه وسلم يجتهد في هذا الموقف بما أذن الله له في الاجتهاد فيه، وهو لا يعصي الله في اجتهاده، والله تعالى لا يتخلّى عنه، ويرجّح الكاتب هذا الفهم، بدليل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد استشار أصحابه أوّل الأمر، وهو لا يستشير في شيء يوحى له فيه، والله تعالى أعلم].

قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا، قَالَ: فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَامَ فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ.

فَقَامَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَداً مِنْهُمْ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ هَدْيَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضاً، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضاً غَمّاً.

ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيم}[الممتحنة:10].

قَالَ: فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ، كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ.

ثُمَّ رَجَعَ إِلَى المَدِينَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ أَبُو بَصِيرِ بْنُ أُسَيْدٍ الثَّقَفِيُّ مُسْلِماً مُهَاجِراً، فَاسْتَأْجَرَ الأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ رَجُلاً كَافِراً مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَمَوْلىً مَعَهُ، وَكَتَبَ مَعَهُمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ الْوَفَاءَ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا فِيهِ، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا بِهِ ذَا الحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللهِ إِنِّي لأَرَى سَيْفَكَ يَا فُلانُ هَذَا جَيِّداً، فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ، وَاللهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ، ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ، وَفَرَّ الآخَرُ، حَتَّى أَتَى المَدِينَةَ، فَدَخَلَ المَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْراً، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُتِلَ وَاللهِ صَاحِبِي، وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ.

فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ قَدْ وَاللهِ أَوْفَى اللهُ ذِمَّتَكَ، قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِي اللهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ)، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ.

قَالَ: وَيَتَفَلَّتُ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاّ لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، قَالَ: فَوَاللهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّامِ إِلاّ اعْتَرَضُوا لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُنَاشِدُهُ اللهَ وَالرَّحِمَ، لَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ...حَتَّى بَلَغَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ...}، وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللهِ، وَلَمْ يُقِرُّوا: " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ).

وفي تتمّة الرواية: (.. قَالَ: فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ رَكِبَ نَفَرٌ مِنْهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: إِنَّهَا لا تُغْنِي مُدَّتُكَ شَيْئاً، وَنَحْنُ نُقْتَلُ، وَتُنْهَبُ أَمْوَالُنَا، وَإِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تُدْخِلَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنَّا فِي صُلْحِكَ، وَتَمْنَعَهُمْ، وَتَحْجِزَ عَنَّا قِتَالَهُمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ..) رواه أحمد في المسند برقم /18166/.


فانظر إلى مبلغ وفائه صلى الله عليه وسلم بعهوده، ودقّة التزامه بها، ولو أدّى ذلك إلى تفويت لبعض المصالح في ظاهر الأمر، ومزيد الابتلاء لأصحابه، والشدّة عليهم، ولا يخفى أنّ هذه الرواية والحادثة تفيض بالعبر والدروس، والدلائل العميقة على عظمة الشخصيّة المحمّديّة، والأخلاق النبويّة، كما نجد ذلك في جميع أحداث السيرة الكريمة.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 105.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 103.02 كيلو بايت... تم توفير 2.36 كيلو بايت...بمعدل (2.24%)]