|
|
ملتقى الأمومة والطفل يختص بكل ما يفيد الطفل وبتوعية الام وتثقيفها صحياً وتعليمياً ودينياً |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
قطوف تربوية من كتاب العيال لابن أبي الدنيا
قطوف تربوية من كتاب العيال لابن أبي الدنيا سعيد امختاري مدخل: كل الحضارات احتاجت إلى قرون كي تنبغ في كل مجالاتها، إلا الحضارة الإسلامية، فما هي إلا سنوات حتى صارت منارة العلم والعلماء، ومنزل المحدثين والفقهاء وقبلة الفلاسفة والحكماء، وما ذاك إلا لأن الأمة الإسلامية أمة تصنع العجائب في أقل وقت وعلى أحسن ما يكون، ولعل السبب الأول في هذا أن الأمم جميعا عانت كثيرا حتى تستقر على منهج تسير عليه في بناء الحضارة، أما الأمة الإسلامية فقد كفيت هذا العناء لأن الله تعالى قد حباها بمنهج متكامل هو القرآن الكريم والسنة النبوية، والله جل وعلا يقول: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]، ولم يطلب من الأمة الإسلامية إلا إعمال العقل من أجل الفهم الصحيح لهذا المنهج وتطبيقه على أرض الواقع لكي تسعد هذه الأمة وتسعد معها البشرية. فطبيعي جدا أن تسرع هذه الأمة نحو التطور الكبير في أقل وقت وأوجزه، ذلك لأن المنهج رباني، والقائد للناس بهذا المنهج رجل اختاره الله تعالى لقيادة البشرية وليكون مثلها الأعلى، وهو النبي الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. وفي هذا الصدد يقول الفيلسوف تواس كارليل عن العرب: " هم قوم يضربون في الصحراء، لا يؤبه لهم عدة قرون، فلما جاءهم النبي العربي، أصبحوا قبلة النظار في العلوم والعرفان، وكثروا بعد القلة، وعزوا بعد الذلة، ولم يمض قرن حتى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم"[1]. وسر هذه العظمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معلما في حد ذاته، علم الناس العقيدة والدين والفقه والتربية وكل ما ينفعهم وحذرهم من كل ما يضرهم في حياتهم الدينية والدنيوية وفي الحال والمآل، وفي العاجل والآجل، وتبعه على هذا النهج القويم الصحابة رضي الله عنهم الذين ورثوا من معين النبي صلى الله عليه وسلم منهجا تربويا عظيما، ذاك المنهج الذي عاينوه معاينة، وهو كما قيل: ليس بعد العيان بيان. وعلى هذا الدرب القويم سار الورثة الأجلاء من التابعين وتابعيهم، سلفا عن خلف عدلا عن عدل، ديدنهم أن ينشروا هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي صنع رجالا عظماء في كل ميدان من ميادين الحياة، وميدان التربية والتعليم واحد من أجل تلك الميادين التي ضرب فيها المسلمون بأوفر سهم ونالوا منها أغزر حظ. تشهد لذلك الكتب والمصنفات الناضجة التي يزخر بها تاريخنا التربوي، ولكن هذا التراث التربوي العظيم هو محل أنظار مختلفة في هذا العالم وإن بعضها لفي غاية التناقض مع البعض الآخر إلا ما صدر عن رأي حصيف وحكمة لا تقبل التزييف. النظر الأول: هو نظر الغرب الاستعماري المتحيز إلى تاريخه وثقافته، وهو الذي ينكر السبق لكل حضارة إلا حضارته، وهذا ما اصطلح عليه عدد من المفكرين الكبار بنظرية أو إشكالية التحيز، وقد ألفت في هذا الموضوع مؤلفات ودراسات كثيرة لعل أبرزها كتاب صدر عن المعهد العلمي في جزأين تحت عنوان: إشكالية التحيز[2]. وهذا النظر يمثله الاتجاه الغربي الذي يرى نفسه أنه مركز كل شيء في هذا العالم، وأنه هو السابق إلى كل إبداع وهو الاستاذ لكل متعلم، ويلحق بهذا المتشبعون بالثقافة الغربية الذين تم فصلهم شيئا فشيئا عن مقومات حضارتهم وتاريخهم فصاروا يمجدون كل ما هو غربي لا عن اتباع بالدليل والحكمة ولكن عن ضعف وشعور بالهزيمة النفسية والحرمان، وفي هذا الصدد يقول الباحث الكبير في علوم التربية، سعيد إسماعيل علي:" وبرغم انحسار الاستعمار واسترداد بلدان العالم الثالث استقلالها السياسي ابتداء من أربعينات هذا القرن إلا أن المستعمر تمكن من فرض تصوراته وأفكاره وصياغة الحياة في هذه المجتمعات بالشكل الذي يخدم مصالحه وأغراضه الاستعمارية، وبالتالي أصبحت هذه البلدان تستند في تفسيرها لواقع الحياة فيها إلى رصيد من المفاهيم والنظريات تمت بلورته وصياغته في المجتمعات التي هيمن على مصائر معظم بلدان هذا العالم منذ بدء حركة الاستعمار وإلى يومنا هذا. وقد حرصت الدول الغربية الرأسمالية على استمرار هذا الوضع تكريسا لسيطرتها على شعوب هذه البلاد بما يحقق المصالح الذاتية للمجتمعات الغربية، فاهتمت بشكل خاص بنشر التحديث الثقافي والتربوي في مجتمعات العالم الثالث والسيطرة على التعليم في هذه البلاد. وفي عالمنا العربي الإسلامي لعبت المدرسة التي أنشئت على النمط الغربي الحديث بنهجه العلماني، دورا خطيرا في تحقيق هذا الهدف حيث عملت على خلق نخبة سياسية ثقافية مرتبطة بالغرب وبمصالحه ومشبعة بأفكاره ومؤمنة بتفوقه الحضاري ومنفصلة عن محيطها وثقافتها الإسلامية الأصيلة..."[3]. إن هذا المنهج المتحيز، أنتج في بلداننا عددا من المنظرين في التربية والتعليم، كل كلامهم لا يعدو أن يكون تسويقا لأفكار غربية لا تصنع شيئا ذا بال على أرض الواقع، بقدر ما تحدث مزيدا من الانشطار والتمزق والتخلف، وفي نفس الصدد يقول الدكتور سعيد إسماعيل علي: "...ولم تؤد هذه الحركة من التدمير الثقافي إلى ثقافة اجتماعية جديدة تنصهر فيها مختلف المنظومات وذلك لأن هذا التدمير لم تواكبه عملية نشر للمعارف العلمية على مجال اجتماعي محدود، فبدل أن تقود إلى إجماع ثقافي، قادت إلى انقسام ثقافي وكان من نتيجة هذا الانقسام أن ضاعت الهوية الثقافية"[4]. وهذا الوضع الذي صرنا إليه كان من تخطيط المبشرين والمستشرقين، الذين سموا هذا المشروع حينئذ بالغارة على العالم الإسلامي، يقول شاتلييه: " ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبنيا قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتثبت من فائدته. ويجدر بنا لتحقيق ذلك بالفعل أن لا نقتصر على المشروعات الخاصة التي يقوم الرهبان والمبشرون وغيرهم بها لأن لهذه المشروعات أغراضا اختصاصية ثم ليس للقائمين بها حول ولا قوة في هيئتنا الاجتماعية التي من دأبها الاتكال على الحكومة وعدم الإقبال على مساعدة المشروعات الخاصة التي يقوم بها الأفراد فتبقى مجهوداتهم ضئيلة بالنسبة إلى الغرض العام الذي نتوخاه، وهو غرض لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعة الفرنساوية، نظرا لما اختص به التعليم من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة. يتبع
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: قطوف تربوية من كتاب العيال لابن أبي الدنيا
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
رد: قطوف تربوية من كتاب العيال لابن أبي الدنيا
قطوف تربوية من كتاب العيال لابن أبي الدنيا سعيد امختاري ويقول أيضاً في موضع آخر: " وليست دراسة العلوم الحديثة التجريبية هي المضرة بالحقيقة الثقافية في الإسلام، وإنما المضر هو روح المدنية الغربية التي يقترب المسلم بها إلى تلك العلوم... وهذا معناه أننا مقيدون بمادة العلم وبأسلوبه ليس إلا. وبكلمة أخرى يجب علينا ألا نتردد في درس العلوم الرياضية الطبيعية حسب الأسس الغربية، ولكن يجب ألا نتنازل للفلسفة الغربية عن أي دور من أدوار تنشئة أحداث المسلمين...ثم إنه من الصعب في كثير من الأحوال أن نجد حلاً فاصلاً بين العلم التجريبي والفلسفة النظرية...[11]. وهناك تفاصيل أخرى عند محمد أسد وغيره، تؤكد أنه لا يمكن على وجه الحقيقة الفصل بين العلوم وروح الحضارة التي أنتجت تلك العلوم، لذلك يرى محمد أسد رحمه الله أن الغرب كان أكثر ذكاء واعتزازا بروحه الحضارة في فترة من فترات التاريخ حيث يقول: " والنهضة الأوروبية أحسن مثل في هذا الباب. فقد رأينا كيف ان أوروبة تقبلت المؤثرات العربية فيما يتعلق بالعلم وأساليبه عن طيب خاطر ولكنها لم تقبل المظهر الخارجي ولا روح الثقافة العربية قط، ولم تضح استقلالها العقلي أو البديعي على الإطلاق. لقد اتخذت أوروبة من المؤثرات العربية سمادا لتربتها كما فعل العرب حينما استغلوا المؤثرات الهيلانية ولكن كانت النتيجة في كلتا الحالتين نموا جديدا عظيما للمدنية الأصلية، مملوء بالإعجاب. وما نحن من مدنية تستطيع أن تزدهر أو أن تظل على قيد الوجود بعد أن تخسر إعجابها بنفسها وصلتها بماضيها[12]. نعم لقد أخذ الغربيون علوم ابن سينا ولكن لم يلبسوا لباس ابن سينا ولم يتدينوا بدين ابن سينا وكذلك مع الفارابي والغزالي وابن رشد وغيره، ولكن في عالمنا الإسلامي اليوم فبمجرد أخذ فتات من علوم الغرب صار المنبهرون المتنورون يتزيون بزي الغرب ويتحدثون بلغته بل يأكلون حتى بالشمال، وصارت أستاذة لغة من اللغات الأجنبية في بعض الأحيان تأخذ شكل ومظهر ولباس فتيات تلك اللغة التي تدرسها وقس على ذلك كل شيء، وما ذلك إلا كما قال المفكر محمد أسد من أن روح الحضارة الغربية تسير في كل ما نستورد من العلوم سواء كانت تجريبية أم إنسانية وأدبية وفلسفية.... وخشية أن يطول هذا المدخل، فإنني سأجول بعض الجولات في تراث واحد من أبرز علماء المسلمين، إنه ابن أبي الدنيا، فما من مسلم إلا يعرف هذا العالم الجليل، لكن الذي يظهر والله -أعلم- أن بعض علمائنا الكبار - ومنهم ابن أبي الدنيا - لما صنفوا كتبا في الزهد والأخلاق والاستعداد للآخرة، ظن الناس أن هؤلاء العلماء لا علاقة لهم بحقيقة الدنيا. والحق أن هذا الفهم البعيد عن الصواب راجع إلى سوء فهمنا لهذا الزهد الذي تحدث عنه علماؤنا الأقدمون، بحيث ظنناه دعوة إلى طلاق الدنيا والانزواء في المحاريب والزوايا والمساجد، ولكن النظر السديد في مناهج أولئك العلماء يجعلنا نصحح كثيراً من الأمور التي فهمناها على غير حقيقتها. ابن أبي الدنيا- مولده ونشأته: ولد ابن أبي الدنيا ببغداد سنة: 208 هــ وتوفي سنة: 281 هـ،[13]. أما عن ولادته ونشأته، فقد ولد ببغداد، في عهد الخليفة المأمون، آخر العصر العباسي الأول، في عهد الحضارة الإسلامية الذهبي. وكانت الثقافة والعلوم يطفح بها المجتمع الإسلامي في كل ميدان من ميادين العلم والأدب. ولم يقتصر النشاط العلمي على العلوم النقلية فحسب، بل تجاوزها إلى العلوم العقلية، وذلك بفضل فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، وترجمة الكتب من اللغات الأجنبية، وخاصة اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية. ولقد كان طلب العلم والسعي في جمعه سمة ذلك العصر.[14] نعم، لقد نشأ الإمام ابن أبي الدنيا في هذه البيئة العلمية القوية، تلك البيئة التي وصفها واحد من أهل الغرب، وهو الأستاذ نيكلسون حيث يقول: " وفي عهد الدولة العباسية كان الناس يجوبون ثلاث قارات سعياً إلى موارد العلم والعرفان، ليعودوا إلى بلادهم كالنحل يحملون الشهد إلى جميع التلاميذ المتلهفين، ثم يصنفون- بفضل ما بذلوه من جهد متصل - هذه المصنفات، التي هي أشبه بدوائر المعارف، والتي كان لها أكبر الفضل في إيصال هذه العلوم إلينا بصورة لم تكن متوقعة من قبل".[15] في هذه البيئة العلمية نشأ الإمام ابن أبي الدنيا ماتحاً من معين هذا التطور العلمي والحضاري والثقافي، وهذا بلا شك سيكون له أعظم الأثر على صقل حياته الشخصية والعلمية والثقافية. ابن أبي الدنيا والفكر التربوي: بالإضافة إلى العلوم الغزيرة التي حصلها الإمام ابن أبي الدنيا في تلك الحقبة المزدهرة من تاريخ الإسلام والدولة العباسية، فإنه مارس مهمة التدريس والتعليم بنفسه، مما يعني أنه ستمتزج لديه الثقافة العلمية الواسعة بالطرق والأساليب المتنوعة في تبليغ هذه الثقافة لغيره، مما ينعكس بقوة النظر أثناء التأليف في مجال التربية والتعليم، يقول الدكتور نجم عبد الرحمن خلف: " كان ابن أبي الدنيا إلى ما ذكرناه من رصانته العلمية، وموسوعيته، ووفرة عطائه، أستاذاً ماهراً ومدرساً قديراً، اصطفاه الخلفاء لتأديب أبنائهم وتثقيفهم. لأن التأديب في ذلك الوقت عمل علمي جليل، لا يليه إلا كل عالم ضليع باللغة والأدب، ولا يسند إلا إلى أهل النبل والاستقامة، ليكون تأديبهم بالقدوة قبل الكلمة. وكان ابن أبي الدنيا قد توفرت فيه هذه الصفات بالإضافة إلى أنه كان شخصية محبوبة ومؤْثًرة وكان إذا جالس أحدا، أذا شاء أضحكه، وإن شاء أبكاه في آن واحد. أما أولاد الخلفاء الذين أدبهم ابن أبي الدنيا فقد أغفلت المصادر ذكرهم، واكتفت بالتعميم، ولم تسم منهم سوى اسنين وهما الخليفة المعتضد، وابنه علي بن المعتضد الملقب بالمكتفي بالله. وفي راي الدكتور نجم عبد الرحمن خلف، أن السبب في ذكر هذين الخليفتين فقط، هو أنهما حكما فاشتهرا، وبقية أبناء الخلفاء أهملوا لعدم شهرتهم، واكتفى المؤرخون بالتعميم[16]. وفي هذا المقام ينقل الدكتور نجم عبد الرحمن خلف ما ذكره بعض العلماء عن تأديب ابن أبي الدنيا لأبناء الخلفاء، منهم ابن الجوزي الذي يقول: " وقد أدب غير واحد من أولاد الفقهاء، منهم المعتضد وعلي بن المعتضد، وكان يجري له في كل شهر خمسة عشر ديناراً"[17]. ومن المؤرخين الذين ذكروا هذا الخبر: ابن كثير في البداية والنهاية، وابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات، وابن تغري بردي في النجوم الزاهرة،...[18]. وهناك مؤرخون آخرون تحدثوا عن تربية ابن أبي الدنيا لأبناء الخلفاء، ليس هذا محل بحثها، ويستحسن الرجوع إلى مقدمة الدكتور نجم عبد الرحمن خلف القيمة لتحقيق كتاب العيال لأجل الوقوف على مزيد من التفاصيل حول الإمام ابن أبي الدنيا. وقد ذكر الدكتور نجم أن ابن أبي الدنيا ترك أثرا عظيما في الخلفاء الذين أدبهم إضافة إلى جمهور المسلمين من طلبته الذين أخذوا عنه العلم أو اطلعوا على كتبه ومصنفاته. إن عالماً من طراز ابن أبي الدنيا، الذي امتلأ علماً وحلماً وزهداً وغَيرة على أمة الإسلام ودينها، وكانت حياته وقفاً على خدمة القرآن الكريم والسنة النبوية وتراث العلماء والشيوخ المسلمين، لهو العالم الذي ينبغي أن يدرس علمه وينشر، ويتخذ نبراساً لكل من أراد أن يضرب بسهم في تربية الأجيال المسلمة في وطننا الحبيب، وذلك للوقوف في وجه العملاء الثقافيين المنتسبين إلى عالم التنوير في زعمهم، ممن يسرقون منا فلذات أكبادنا ويطوعونهم للأساليب الاستعمارية، ويدجنونهم ليكونوا عبيداً للغرب نيابة عن ذلك الغرب نفسه. إن الغرض من إبراز معالم التربية والتعليم لدى الإمام ابن أبي الدنيا هو غرض الإمام نفسه والذي يبينه محقق الكتاب قائلا: " لم يكن الحافظ ابن أبي الدنيا يوم وضع هذه المصنفات الهامة - ولم نكن نحن حين نهضنا بمهمة بعثها وإخراجها - يطمح هو أو نهدف نحن إلى التذكير النظري المجرد السالب، بل قصد - وقصدنا من ورائه - إلى التذكير الإيجابي الذي يجعل من هذه الموضوعات - الجامعة في بابها - دليلا هاديا، يدعو إلى العبرة والدرس، والمتابعة والتأسي، وكذلك يكون التعامل المجدي مع النصوص العلمية، وكذا تكون صورة العلم النافع، وبدون هذا التصور الحركي يصبح استحضار هذه النصوص وإحياؤها هربا من الواقع، وضربا من المتعة والتسلية، وسبيلا إلى ملء الجعبة بالمعلومات والروايات، كنوع من أنواع الترف الثقافي البارد الذي لا يدفع ولا ينفع والعياذ بالله "[19]. يتبع
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
رد: قطوف تربوية من كتاب العيال لابن أبي الدنيا
قطوف تربوية من كتاب العيال لابن أبي الدنيا سعيد امختاري وهذا هو الرأي الصائب إن شاء الله، لأن الغرض من هذه الدراسة ليس البكاء على الماضي دون أي عمل، صحيح أن البكاء على الماضي إن كان خيرا من حاضرنا أمر نافع، لا كما يزدري الناس الماضي بهذه العبارة التي ظاهرها حق وباطنها باطل. البكاء على الماضي يكون سلبيا إذا كان لمجرد البكاء، أما أن نقارن بين كيف كنا يوم تمسكنا بالمنهج وكيف أصبحنا يوم تخلينا عن المنهج، فالأمر يدعو إلى دراسة ذلك الماضي وأسباب التفوق فيه لعلنا نرجع إلى الأصل، ولا تطور لحضارة من الحضارات إلا إذا رجعت إلى أصلها ثم استأنفت التطوير والتجديد من الداخل لا إملاء من الخارج. ولن يكون العمل في دراستنا هذه المقاربة بين ما كان عند علمائنا في التدريس وما عند الغربيين الآن، لأن هذه المقاربات غالبا ما تنحاز في الأخير نحو النظريات الغربية، أو تسهل الطريق نحو الأخذ بالثقافة الغربية، وذلك راجع إلى كثرة التطبيع مع هذه الثقافة بسبب المقاربة، إذ كثيرا من الدراسات التي تعتمد المقاربة لا تعتمدها إلا لتبرير أخذها بالنظريات الغربية، موهمة الناس أن ذلك مما يقره الإسلام والتراث الإسلامي أيضا. إن العمل في هذه الدراسة وما سيأتي بعدها إن شاء الله، سيكون إظهارا وإبرازا لما تتميز به العلوم التربوية في تراثنا الإسلامي الخالد، أي هكذا كان تراثنا وسيظل، وأما زوبعة العلمانيين والمقلدين والعملاء فسينهزمون مع انهزام الغرب الذي يقلدونه تقليد من لا يملك لنفسه حولا ولا قوة، ولا عقلا ولا تفكيرا: فكم من اسم بارز في التربية والتعليم ملأ الدنيا ضجيجا، فإذا استمعت إليه وجدته يلوك في فيه كليمات أمليت عليه، ويصدر غمغمات غربية بلسان عربي، ويخط باليمين أفكار أصحاب الشمال. إن نصوص التراث الإسلامي نصوص مفعمة بالحركة والجد والنشاط، إنها نصوص تسري فيها روح الرجولة والقوة، وتنبعث منها رائحة التقدم والتفوق الإنساني ماديا وروحيا، إنها نصوص صيغت وفق العقيدة الإسلامية التوحيدية، إنها نصوص تحث على حب الشرف والوطن، والتحلي بمحاسن الأخلاق وجميل الآداب الإسلامية، نقول هذا في الوقت الذي يتحدث فيه المقلدون العلمانيون عن الأخلاق الكونية العالمية، ولا نرى أخلاقا كونية ولا عالمية، بل نرى الظلم يسري في عروق هذه الحياة ونرى الاستعمار والقتل والتشريد والتجويع والعنصرية والأنانية وغير ذلك في كل مكان. ولن تجد نصوص تراثنا إلا داعية إلى الفضائل والمحاسن، والعزة والكرامة والأنفة، لم نجد في نصوص العلماء والفقهاء نصا يدعو فيه الفقيه من حوله من المتعلمين إلى الانبطاح بين أيدي الثقافات والحضارات الأخرى التي كانت سائدة، بل إننا نجد عكس ذلك تماما، نجد فقهاءنا يدعون من حولهم إلى الارتباط بالحضارة الإسلامية، والثقة بالنفس، والتحصين الثقافي والعلمي والديني وغير ذلك من مظاهر القوة والثبات. نصوص تربوية من كتاب العيال: إن نصوص الإمام ابن أبي الدنيا متعددة الفوائد وغزيرة المنافع رغم كونها مختصرة، إلا أن فوائدها عظيمة القدر جليلة الشأن، قال الدكتور نجم عبد الرحمن خلف: " تضمن الكتاب 674 نصاً، جامعاً لكل ما يتعلق بشؤون العائلة وتربيتها من أحاديث مرفوعة، وآثار عن الصحابة والتابعين، وبهذا التوسع الموضوعي الشامل أصبح الكتاب وحيدا في بابه، فريدا في استيعابه، وضم بين دفتيه طائفة كبيرة من النصوص النادرة التي قد لا تجدها في كتاب مسند سواه. فمصنفات ابن أبي الدنيا تعتبر من المصادر الرئيسية لكل من له عناية بالأخلاق والتربية الرقاق"[20]. إن كتاب العيال لابن أبي الدنيا يعطينا الصورة الحية لما كان عليه المجتمع الإسلامي حينئذ، ذلك المجتمع الذي ورث الدين والخلق عن مرحلة من أقرب المراحل إلى الهدي النبوي التي تمثله الصحابة والتابعون، انطلاقاً من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إن هذا الكتاب النادر النفيس الذي كتبه ابن أبي الدنيا يعتبر من أقوى الأدلة القاطعة في الرد على الأديب الكبير والفيلسوف زكي نجيب محمود الذي قال في كتابه تجديد الفكر العربي، وفي فصل تحت عنوان: نموذج الإنسان في تراثنا: " إن الأمر كثيراً ما يختلط علينا إذ نقرأ لأسلافنا ما كتبوا، فنسأل: ترى هل كانوا يرسمون بأقلامهم صورة معاصريهم، أو أنها صورة رسمت لتصلح في المعاصرين فساداً؟ ترى هل حاكوا الواقع أم تصورا المثال؟ وأيا ما كان شأن الأسلاف الكاتبين، حينما كتبوا عن الإنسان كيف كان أو كيف ينبغي له أن يكون، فهأنذا أمام تحليلات هبطت منهم إلينا، ولو نشرت أمام أبصارنا نحن أبناء هذا العصر، لوجدنا فيها - يقينا - صورة الكمال الإنساني، التي تصلح معيارا نقيس إليه واقع الإنسان المعاصر. لنرى كم بلغت في سلوكه زاوية الانحراف، نعم إن هذه التحليلات التي أعنيها، تفوح برائحة اليونان الأقدمين. كأنما تلك - في مواضع كثيرة - تلخيص لهذه، لكن القبول نصف الابتكار، فيكفينا في هذا الصدد أننا قد قبلنا الصورة الكاملة معيارا لنا، قبلناها عن اعتقاد ورضى، وأجريناها على أقلامنا جزءاً من تراثنا، وليس يحد من كمال الكامل أين يكون مصدره...."[21]. أمام نصوص ابن أبي الدنيا في كتاب العيال، لم يبق هناك شك في أن الكتاب يرسم صورة مشرقة عما كان عليه أسلافنا رحمهم الله، وكذلك يخبرنا الكتاب أن ما كان عليه سلفنا لم يكن مستمدا من اليونان ولا من رائحة الثقافة اليونانية، فابن أبي الدنيا أبعد ما يكون عن الثقافة اليونانية والفلسفة اليونانية، وكذلك ما دونه في كتابه لم يكن تأملات فكرية فلسفية وإنما كان رواية وإسنادا وإخبار عما قيل أو فعل، أو رواية لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا علاقة لذلك كله بالتأملات الفلسفية اليونانية، قال محقق كتاب العيال: " لقد تضمن الكتاب بلسان الحال صورة عن الواقع الذي كان يعيشه المجتمع الإسلامي وقتذاك، مع محاولة لعلاجه، ذلك أن ابن أبي الدنيا لم تأته فكرة الكتاب من فراغ، وإنما جاءت ضرورة ملحة تقتضيها أجواء المجتمع الإسلامي. فقد كانت هناك مآت الآلاف من الوافدين الجدد على هذا الدين القيم لم تأخذ حظها من الإعداد والتربية والصقل، كما أنهم كانوا أحوج الناس إلى هذا المنهج وإلى التعليم والتوجيه، فجاءت مصنفات ابن أبي الدنيا علاجا لهذه الحالة وجاء كتاب العيال ليسد هذا النقص، ويذكر المسلمين الجدد بمنهج النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأسرة المسلمة..."[22] وسنرى من خلال نماذج من نصوص كتب العيال، تلك المكانة العظمى التي بلغها مجتمعنا الإسلامي من حيث التربية والأخلاق، وحسن السلوك، وهذا هو أصل المجتمع الإسلامي، وإن حدث خروج عن هذا المنهج في ذلك الوقت فإنما هو استثناء يحتاج إلى تربية وتقويم، أما ما كان يخص الداخلين الجدد في الإسلام، كما قال محقق كتاب العيال، فالأمر إذن عادي جدا لأن الداخل الجديد في الدين يحتاج إلى مدة من الزمن لأجل تعريفه بهذا الدين وشرائعه. إن تأليف كتب في التربية والتعليم في هذه المرحلة المبكرة من تاريخ الإسلام، يعني بما لا يدع مجالا للشك أن الكتب تحكي لنا صورة أناس شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وإن بركتهم كانت لا تزال سائرة فيما بينهم لأنهم كانوا مشمولين ببركة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم، بأنهم خير القرون بعهده، وأما أن ندعي أنهم كتبوا ما كتبوا لأجل بيان ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان لا ما كانوا عليه هم، فها القول بعيد عن الصواب والله أعلم. إن الناظر في أبواب كتاب العيال لابن أبي الدنيا يدرك مدى التوسع والشمولية التي كانت تميز نظرة أئمتنا إلى تربية النشء والأجيال، إنها المعاني الجميلة التي استنبطت من القرآن والسنة وتراث السلف العقلاء العلماء، وهي في كثير من الأحيان نفس المعاني التي أصبح يتشدق بها المقلدون المغردون في أعشاش غيرهم، ولا يغردون بها إلا مقرونة بأسماء أجنبية غربية استعمارية، ففي كثير من الأحيان تكون الفكرة متطابقة تماما، لكن إذا كان قائلها ابن تيمية أو ابن القيم أو الجاحظ أو الغزالي أو غيرهم، فلا قيمة لها، لكن إذا قالها بياجيه، أو ديوي أو غيره فإنهم يتناولونها بكثير من الحفاوة والتقدير، مثل ما يتشدقون به اليوم من الفروقات الفردية، والذكاءات المتعددة، والجانب السلوكي والمعرفي والوجداني والحس حركين وغير ذلك من المصطلحات التي لا تقبل إلا إذا صدرت من أفواه أجنبية ولاكتها ألسنة غربية، حتى ولو نقلتها عن تراثنا وعلمائنا، إنها الهزيمة النفسية في أحيان كثيرة، والعمالة الحضارية في أحيان أخرى. إن كثيرا من الناس يستسيغون التقليد الأعمى متذرعين بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الحكمة ضالة المؤمن..." فيلقون بأنفسهم في أحضان التقليد، ناسين أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث عن وصف من أعظم الأوصاف وهو المؤمن، المؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، المؤمن بالمنهج القرآني والنبوي، المؤمن بأمته وحضارته، وواجبه نحو خدمة تراث دينه، وغير ذلك من المعاني التي يوحي بها وصف المؤمن العزيز الذي أعزه الله بالدين الإسلامي، وليست الحكمة ضالة الضال عن المنهج، المنبهر بغيره، وليست الحكمة ضالة المقلد المهزوم نفسيا وحضاريا، وليست الحكمة ضالة من رضي بمفارقة روح القرآن الكريم والسنة النبوية... أن الإمام ابن أبي الدنيا تناول في كتاب العيال أبوابا كثيرة متكاملة فيما بينها، فهي أبواب تتعلق بالأسرة أولا ثم بأماكن التعليم خارج الأسرة، ذلك لأن المتعلم يتخرج أولا من أسرته، إن لم ينجح فيها فيصعب عليه أن ينجح خارجها. كما أنه رحمه الله يبدأ بالتكوين المادي والعاطفي للأولاد قبل التكوين العلمي المعرفي، وذلك أن أول أبواب كتابه هو باب النفقة على العيال والثواب على النفقة عليهم. ثم باب العدل بين الأولاد، ثم بعد ذلك بقليل تحدث عن العطف على البنين والمحبة لهم، ثم الرأفة على الولدان والرأفة بهم، ثم حمل الولدان وشمهم وتقبيلهم، ثم باب تنقيز الولدان ومداعبتهم، ثم باب التسليم على الصبيان. هذه الأبواب الأولى كلها - كما نلاحظ - تركز على التنشئة الجسدية النفسية للولدان قبل تعليمهم وتلقينهم المعارف والعلوم. وهذا ما يراه جل المربين والدارسين لعلوم التربية، فالمتعلم قبل أن يلج باب التعلم، ينبغي أن يحصل له إشباع مادي من أكل وشرب ولباس وغيره، إضافة إلى الإشباع العاطفي من حب وتقبيل وشم من قبل الوالدين، واللعب معهم وحملهم وتنقيزهم، كل ذلك يجعل المتعلم إذا ولج إلى المسجد أو المدرسة أو أي مكان للتعليم، يشعر بتوازن في شخصيته ونفسه، فهو يلج باب التعلم وقد حقق الإشباع النفسي من الرحمة والرأفة والحب والحنان واللعب، ما يجعله مستجمعا لكل قواه حول التعلم. ثم ينتقل الإمام ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى إلى الحديث عن التعليم بعد ذلك، وإن روعة التربية والتعليم لدى ابن أبي الدنيا لتظهر في أن أول ما يتعلمه الصبي هو الصلاة. ثم بعد ذلك خصص بابا لتعليم الأصاغر القرآن، سواء في البيت أو عند شيخ من الشيوخ خارج البيت، ثم باب تعليم الرجل أهله وتعليم ولده وتأديبهم، وفي هذا دلالة عظيمة على أن التربية خارج البيت لا تؤتي أكلها إلا بقيام الرجل بتربية وتعليم أبنائه في البيت. وبعد هذه الأبواب أبواب أخرى مفعمة بالحيوية والمنهج التربوي المتين، والتي قد يراها القارئ للكتاب أمرا عاديا لكنه إذا نظر إلى ترتيب ابن أبي الدنيا سيدرك السر والسبب وراء ذلك كله، لأن الإمام ذكر في ثنايا كتابه أبوابا تلت الأبواب السابقة ونمثل لذلك بما يأتي: باب التوسع على العيال، باب العطف على الأزواج والرأفة بهم والمداراة لهم، باب حق المرأة على زوجها والثواب على النفقة عليها، باب ملاعبة الرجل أهله، ثم ذكر مرة أخرى باب اللعب للصبيان، وأتبعه بباب تعليم العلم للأصاغر، مع أنه ذكر في السابق ما يتعلق باللعب والمداعبة للولدان، وذلك عند الحديث عن تعليم الولدان الصلاة والقرآن، فلما عاد للحديث عن تعليم العلم للأصاغر قرن ذلك بالملاعبة واللعب للصبيان، إنه أمر غريب حقا لمن يقرأ ترتيب هذه الأبواب قراءة سطحية، ولكن من نظر إلى ابن أبي الدنيا على أنه مرب من الدرجة العالية، وأن شهرته في تعليم وتأديب الخلفاء قد ملأت الآفاق تبين له السر العظيم وراء هذا الترتيب العجيب الذي بنى عليه الإمام كتابه العجاب هذا. قال محقق كتاب العيال: " لقد بقيت هذه المواد العلمية والتربوية الهامة مبثوثة موزعة في مصنفات المحدثين، ولم أقف على كتاب نهض لجمعها وتنسيقها بطريقة منسقة مبوبة سوى ما بين أيدينا من محاولة الحافظ ابن أبي الدنيا الذي اضطلع بهذا الأمر الهام، وقام بأعبائه، وتنبه لضرورته وعظيم جدواه"[23]. ويقول أيضا: " أما كتاب العيال للحافظ ابن أبي الدنيا فإنه عالج موضوع العائلة، وشؤون الأسرة معالجة موسوعية شاملة خصت كل فرد فيها بباب متميز، أو أكثر من باب، ومن زاوية، أو من زوايا عديدة، ثم يبحث الموضوع بصورة كلية باعتبار أن الأسرة لحمة واحدة وبنية متماسكة مترابطة"[24]. يتبع
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
رد: قطوف تربوية من كتاب العيال لابن أبي الدنيا
قطوف تربوية من كتاب العيال لابن أبي الدنيا سعيد امختاري إن العلاقة الأسرية هي التي ستحكم العلاقة خارج الأسرة للمتعلم، فهي امتداد لتلك اللحمة التي يعيشها المتعلم خارج أسرته، وإننا اليوم نرى نتيجة ذلك في الشارع وفي المؤسسات التعليمية، وذلك أن التخلي عن البناء الأسري المنظم والمحكم يؤدي غلى تكوين أفراد غير طبيعيين في هذا الواقع الذي أصبح ينذر بالخوف، والمتأمل في مشروع ابن أبي الدنيا يدرك العبقرية الفذة لهذا الإمام، وإن كثيرا من العلماء رحمهم الله قد كتبوا في تربية الأبناء كتبا جليلة القدر كما فعل ابن القيم رحمه الله في تحفة المودود، لكنه كما يرى محقق كتاب العيال قصره على المولود فقط، أما ابن أبي الدنيا فقد تناول البناء الأسري ككل، ويقرر هذا الأثر الأسري في تربية المتعلمين وتعليمهم الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن قائلا: " أن الأسرة تقوم على عنصرين أساسين: أحدهما العلاقة النسبية باعتبارها تجمع بين طرفين على الأقل، وهي على ضروب مختلفة، الأصل فيها العلاقة الزواجية، وسواها متفرع عنها كعلاقة الأبوة وعلاقة الأمومة وعلاقة البنوة وعلاقة الأخوة، والعنصر الثاني هو الخلق باعتباره يخلع على هذه العلاقة صفة الإنسانية... فالأسرة هي إذن منشأ العلاقة الأخلاقية بين الناس بحق، بحيث لا علاقة إنسانية بغير أخلاق، ولا أخلاق بغير أسرة. ويقول في الهامش معلقا على هذا التقرير: لا يقال بأن هناك علاقات أخلاقية خارج الأسرة، مثل علاقة الأستاذ بالتلميذ، وعلاقة الصديق بالصديق، لأن الجواب هو أن هذه العلاقات تتخذ من العلاقات القائمة داخل الأسرة نماذج لها كأن تحتذي علاقة الأستاذ بالتلميذ حذو علاقة الوالد بولده وتحتذي علاقة الصديق بالصديق حذو علاقة الأخ بأخيه.[25] بل إن ابن أبي الدنيا قد ألحق اليتامى أيضا بكتابه، وجعلهم ممن يستحقون العناية والتأديب، وقد يقرأ بعض الناس قراءات معاصرة صرفة لنصوص تراثية كتبت وقيلت في ظروف تاريخية خاصة، لكن رغم ذلك فإن التمسك بروح تلك النصوص مع إعادة النظر في بعض تفاصيلها هو المنهج الأسلم للحفاظ على التطور الحضاري من داخل أمتنا لا من خارجها، لأن كل الشعوب والأمم كانت لها بعض التفسيرات القديمة التي تحتاج إلى تطوير كما في الوسائل مثلا لكن هذه الأمم طورت مناهجها ونظراتها النقدية من داخل وعيها الحضاري لا مما يملى عليها من الآراء الاستعمارية الفكرية. نصوص مختارة من كتاب العيال: فبعد باب النفقة والإطعام والتعهد بالرعاية والنمو الجسميين، ينتقل بنا الإمام ابن أبي الدنيا إلى ما يتعلق بالنمو النفسي والروحي والوجداني، فمن ذلك مثلا: ♦ باب في العطف على البنين والمحبة لهم: • حدثنا أبو عبد الرحمن القرشي، حدثني خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، عن أبيه، قال: قال عمر بن الخطاب: «ما من أهل ولا مال ولا ولد إلا وأنا أحب أن أقول عليه إنا لله وإنا إليه راجعون إلا عبد الله بن عمر فإني أحب أن يبقى في الناس بعدي»[26] • حدثنا علي بن الجعد، أخبرني عاصم بن محمد العمري، عن زيد بن محمد، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا لقي ابنه سالما قبله ويقول: «شيخ يقبل شيخا»[27] • حدثنا أحمد بن جميل، أخبرنا عبد الله بن المبارك، حدثنا عاصم بن سليمان، عن مسلم أبي عبد الله الحنفي، قال: «بر ولدك فإنه أجدر أن يبرك , وإنه من شاء عق ولده»[28] • حدثنا عبد الله بن أبي بدر، حدثنا شعيب بن حرب، عن سلام بن مسكين، عن عمران بن عبد الله الخزاعي، قال: قال رجل: يا رسول الله، من أبر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بر والديك» قال: ليس لي والدان قال: «بر ولدك»[29] • حدثت عن أبي همام، عن الأشجعي، قال: كنا مع سفيان الثوري فمر ابنه سعيد فقال: «ترون هذا ما جفوته قط وربما دعاني وأنا في صلاة غير مكتوبة فأقطعها له»[30]. وغير هذا من النصوص كثير جدا تحت كل باب، والذي يمكن استشفافه من النماذج السابقة مثلا، تلك الروح التي كان السلف ينظرون بها إلى الأولاد، فنظرتهم كانت تطبعها الرقة والرأفة والمحبة الشديدة إلى درجة البكاء، مما يشعر الولد أنه محبوب وأنه ذو مكانة في هذه الدنيا تلك المكانة التي تبدأ من قلب أبيه وأمه، مما يجعله ينظر إلى غيره بنفس النظرة، ولكن العكس الذي يحدث أحيانا، فإن الولد المعنف داخل الأسرة والذي يشعر أنه غير مرغوب فيه، بحيث يتعرض للضرب والإهانة والعنف المادي والمعنوي، فإنه يحمل تلك الروح العدوانية خارج البيت ليعمل على إخراجها إما في خصومات عنيفة مع زملائه في الشارع وفي المدرسة، أو في أعمال تخريبية أخرى، لأننا لاحظنا بالتجربة أن الأسر الأكثر استقرارا هي التي يكون أبناؤها المتعلمون أكثر اتزانا في الفصول الدراسية، وتلك ميزة كبيرة لا يتفطن لها كثير من الناس، ولن تستقر الأحوال من هذه الناحية إلا بالعودة إلى النبع الصافي الذي كان عليه السلف الصالح. ♦ باب تنقيز الولدان ومداعبتهم: وهذا باب آخر انتقيته من اجتهادي، وإلا فالكتاب كله حافل بأبواب تعتبر صفحات ناصعة في التربية وتنشئة الأجيال السليمة المشبعة عاطفيا ونفسيا. • «حدثنا أبو خيثمة، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن ابن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث، قال: رأيت أبا بكر رضي الله عنه يحمل الحسن بن علي ويقول: بأبي شبه النبي***ليس شبيها بعلي، وعلي يبتسم»[31]. • وزعم مصعب بن عبد الله الزبيري عن أبيه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كان أبي ينقزني ويقول: « أبيض من آل أبي عتيق مبارك من ولد الصديق ألذه كما ألذ ريقي»[32]. • « حدثني العباس بن هشام، عن أبيه، قال: كانت أم الفضل بن عباس ترقص الفضل وتقول: ثكلت نفسي وثكلت بكري إن لم يسد فهراً أو غير فهر بالحسب العز وبذل الوفر»[33]. يتبع
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
رد: قطوف تربوية من كتاب العيال لابن أبي الدنيا
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
رد: قطوف تربوية من كتاب العيال لابن أبي الدنيا
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
رد: قطوف تربوية من كتاب العيال لابن أبي الدنيا
قطوف تربوية من كتاب العيال لابن أبي الدنيا سعيد امختاري وكذلك الخبر الآتي: • حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن محمد الثقفي، عن عنبسة بن عمار، قال: « ما بلغني غلام فذهب بي أبي يستنهي ابن عمر يستظهر من الكلام وكان ابن عمر قد وطئ أم الغلام , فقال ابن عمر لأبي: أحسن أدب ابنك فإنك مسئول عن أدبه وتعليمه وهو مسئول عن بره إياك». ورغم أن المحقق ذكر أن في الخبر الثاني سقطا لا يهتدى إليه، فإن المعنى واضح من الخبرين معا، وهو أن بر الوالدين وما يتولد عنه من الإحسان إلى الكبار بحسن الخلق، كل ذلك ناتج عن أسلوب التربية التي تلقاها الولد، فكم من أب يشكو عقوق ابنه والسبب أنه هو من لم يحسن تربيته، وكذلك الدولة اليوم تشكو انحراف شبابها والسبب أنها هي التي لم تحسن تربيتهم، ويا ليت المسؤولين عن التعليم اليوم يتفطنون لهذه القضية وهم يتحدثون عن مخاطر العنف في صفوف الشباب، فيعملون على إعادة النظر في أساليب التربية التي تتناسب مع ثقافة الأمة وحضارة الأمة عوض التمادي في تقليد لا يأتي إلا بمزيد من الفسخ والمسخ والعنف والانحراف على كل الأصعدة وفي كل المجالات. في تأديب الصبيان بالضرب: ذكر الإمام ابن أبي الدنيا أخبارا كثيرة في تأديب الصبيان بالعلم والقرآن ومحاسن الأخلاق، لكن المعلم كالعادة قد يحتاج إلى الحزم والعقاب بالضرب، فساق لأجل ذلك أخبارا في مشروعية ضرب المتعلمين، ولمن حتى لا يفهم الناس الأمور على غير حقيقتها فإنه رحمه الله أورد أخبارا تقيد الضرب جدا، حتى لا يكثر القول في العنف والسلطوية داخل أماكن التدريس، فقال رحمه الله: • «وقال أبو علي الجروي: حدثنا علي بن سعيد، عن الخصيب بن ناصح، عن طلحة بن زيد، عن إبراهيم بن أبي عبلة، قال: كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار: لا يقرن المعلم فوق ثلاث فإنها مخافة للغلام»[49]. • حدثني يحيى بن يوسف الزمي، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قال: «ما ضرب المعلم غلاما فوق ثلاث فهو قصاص»[50]. • «وحدثنا عبد الرحمن بن واقد، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب، كره ضرب المعلم الصبيان وقال: يضرب من لا ذنب له»[51]. • « حدثنا أبو طالب الهروي، قال: حدثنا فضيل بن عياض، عن ليث، عن الحسن، قال: إذا لم يعدل المعلم بين الصبيان كتب من الظلمة»[52]. في هذه الأخبار من الفوائد الشيء الكثير، فإن كان الضرب ملازما لكل عمل تربوي عند الضرورة التي تقتضيه، فإن السلف كانوا يجعلون له ضوابط تضبطه، لذا نقول دائما: إن من لم يتوسع في قراءة التراث الإسلامي سيجني على نفسه أمرين: أولهما الجهل بحقيقة هذا التراث، وثانيهما: أن يصدر أحكاما غير عادلة في حق هذا التراث ظلما، لأنه لم يكلف نفسه البحث في كل ثناياه. إن الضرب حسب هذه الأخبار القيمة لا يمكن أن يتجاوز ثلاثا حتى لا يكون ظلما للصبي، ولا يقرن بينهما حتى لا يؤدي به ذلك إلى الخوف، وهنا نستنتج كم كان السلف يراعون الجوانب النفسية للمتعلم، قبل أن يفتخر علينا أحد أنه هو المخترع المكتشف لهذه الحقائق. بل إن الضرب عند بعضهم إذا جاوز ثلاثا أصبح قصاصا، أي يقتص من المعلم بسبب مجاوزته لثلاث مرات في الضرب، ومن السلف من كان يعتبر الضرب ظلما من أساسه كما في خبر ابن شوذب الذي كان يرى الضرب ظلما للصبي البريء الذي لا ذنب له، وكان يكره ضرب الصبيان لأجل ذلك. فأي اهتمام بالمتعلم بلغ هذا الاهتمام النابع من توجيهات الإسلام؟ ومتى تصل البشرية إلى نهج هذا النهج الذي تفوح منه رائحة الأخلاق العالية السامية، ماذا لو دأب المسلمون منذ القديم على تطوير هذه الكنوز الدفينة فصاغوا منها نظريات تربوية؟ أكيد أنهم كانوا سيصبحون قادة الإنسانية، كما أصبحوا اليوم في ذيل الإنسانية لما آثروا التقليد وأصغوا إلى شياطين المبشرين والمستشرقين الين أقنعوهم أن تراثهم خرافي لا قيمة له. وأما الخبر الذي يجعل المعلم إذا لم يعد بين الصبيان يكتب من الظلمة، فيبين كم تسهم القيم الإسلامية في حماية المتعلمين من الظلم والإجحاف، ولو استقر هذا الخلق في نفوس المدرسين لكان وقعه أعظم من وقع المصطلحات المعاصرة مثل تكافؤ الفرص وغيره، كم نرى اليوم من التجاوزات المجحفة في حق المتعلمين من قبل المدرس الذي يتناوم في الفصل لأجل جلب المتعلمين إلى بيته كي يشرح لهم الدرس عن طريق الساعات الإضافية التي تثقل كاهل التلميذ ووالديه، وأما من لا يخضع لاستفزازه وابتزازه فإنه يبقى محروما من فهم الدرس واكتساب المعارف، ولكن الدولة عوض أن تربي المعلم على أخلاق السلف صارت تربيه بالمذكرات، والمذكرات لا تصنع رجلا مخلصا لعمله وأمته، ودينه، بل متى استطاع أحد أن يتحايل على مذكرة من المذكرات فعل ذلك ولا وازع له ولا رادع. ثم عقد الإمام بعد هذا الباب ثلاثة عشر بابا كلها في سلوك الرجل داخل بيته مع زوجته وأبنائه مرة أخرى، وذلك أن المتعلم الذي يخرج من بيت مستقر إلى المدرسة، ثم يعود إليه فيجده مستقرا، فإنه يعيش هو أيضا حياة مستقرة، وتستقر لديه التعليمات التي اكتسبها، كما يستقر هو أيضا في مسيرته الدراسية، أما إذا وجد عكس ذلك، فلا تسأل عن الإحباط والخمول والكسل والانحراف الذي قد يتعرض له ذلك المتعلم. في الأبواب الأخيرة عقد بابا آخر لتعليم العلم للأصاغر، وإنه لترتيب عجيب جاء به ابن أبي الدنيا في كتابه هذا، وهذا يعني أنه كان رحمه الله يمتلك رؤية واضحة متكاملة نحو التربية والتعليم، فمن تكوين للجانب المادي الجسدي بالنفقة والإطعام ثم الجانب النفسي باللعب والتنقيز، إلى جانب تعليم الصلاة والقرآن، ثم الأدب والأخلاق، وحسن المعاملة داخل المنزل مرة أخرى إلى المرحلة التالية، وهي تعليم العلم، مما يدل على أن المتعلم قد وقف على أرضية صلبة، واتبع منهجا قويا يستطيع من خلاله الآن أن يسلك الطريق نحو المستقبل لأجل اكتساب مزيد من العلوم والمعارف، ففي هذا الباب ننتقي بعض الأخبار التي أوردها كالآتي: • «حدثني الحسين بن محمد السعدي، حدثنا المفضل بن نوح الراسبي، حدثنا يزيد بن معمر، قال: العلم في صغر كالنقش في الحجر»[53]. وفي هذا الخبر تشجيع على التعلم والتبكير به في المراحل الأولى من العمر لتحصل الفائدة وتظهر النتيجة، إنها دعوة صريحة إلى تعميم التعليم، والقضاء على ألأمية. • «حدثنا الهيثم بن خارجة، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عمارة بن غزية، عن عثمان بن عروة بن الزبير، عن أبيه، أنه كان يقول لبنيه: أي بني هلموا فتعلموا فإنكم توشكوا أن تكونوا كبار قوم وإني كنت صغيرا لا ينظر إلي فلما أدركت من السن ما أدركت جعل الناس يسألوني وما أشد على امرئ أن يسأل عن شيء من أمر دينه فيجهله»[54]. في هذا الخبر أيضا دعوة إلى التعليم مع التحفيز ورفع المعنويات، بقول الزبير لبنيه بأنهم يوشك أن يكونوا كبار قوم، وهذا هو الغرض الذي من أجله يدرس ويتعلم المتعلم، أن يتصدر الحياة والمجالس، وأن ترتفع مكانته في المجتمع ليصنع الحضارة، إن قوله لبنيه بأنهم يوشك أن يكونوا كبار قوم، دعوة إلى حث الطالب على التحلي بالقوة في النفس لا أن يعيش المتعلم منهزما مقلدا وهو يشعر بالقهر والدون والهزيمة النفسية الحضارية كما يحدث الآن في عالمنا، بحيث تراجعت الأنفة والغيرة على الأمة، والهوية والوطن، وزهدت نفوس الطلبة في ارتقاء سلم العظمة والتدرج فيه. ومن عجيب النصائح والتوجيهات التي تضمنها هذا الأثر النفيس، الاهتمام بتعلم الدين الذي يرفع مقام الأجيال، وإن أصعب شيء على هذه الأجيال أن يأتي يوم لا تعرف فيه دينها، وأيم الله إن هذا لهو الحاصل الآن، بحيث نصادف من أحوال المتعلمين ما يدمي القلب، ويقطع الكبد، ويقتل حزنا وأسى، بحيث نجد الطالب في آخر الأقسام الثانوية، وفي الجامعة أيضا لا يحفظ شيئا من القرآن الكريم ولو حتى من جزء المفصل والله المستعان، أما أمور الدين والسيرة والتاريخ الإسلامي فلا شيء، نقول هذا في زمن التدليس حيث تقدم صورة عن التلميذ على غير حقيقتها المزرية. فليتنا سبرنا أغوار هذا التراث الذي يعلمنا الرجولة والقوة والفتوة عوض التقليد الأعمى الذي صنع أناسا لا يصلحون لشيء في عالمنا الإسلامي، إلا لتسويق المنتجات الأوروبية وتسويق الأفكار الاستعمارية. وفي هذا المقام لا بد لنا أن نستحضر مرة ثانية خبر عبد الله بن عيسى الذي قال: "لا تزال هذه الأمة بخير ما تعلم ولدانها القرآن، نعم حينما يصيرون كبارا ومقدمين ومسؤولين في الأمة، وهم لا يعرفون شيئا من القرآن والدين، فأي حضارة سيقيمون؟ وأي خدمة يسقمون لأمتهم؟. وأختم بخبر في غاية الروعة، غزير الفائدة ذي معان سامية، وهو قول الإمام ابن أبي الدنيا: « حدثنا يوسف بن موسى، قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: مروا على الأعمش وحوله فتيان فقال: انظروا إلى الأعمش قد جمع حوله الصبيان فقال: ردوهم إن هؤلاء يحفظون عليكم دينكم »[55]. إنه الأعمش المحدث المشهور، ذو الخبرة في التربية والتعليم، جلس ومن حوله فتيان يتعلمون، فمر به قوم من المستهزئين الساخرين، فسخروا منه لأنه كبير السن والشأن يجمع حوله الصبيان، وسخروا من أولئك الصبيان لأنهم ليسوا أهلا لأن يجالسوا الأعمش، فهؤلاء الناس موجودون على مر الزمان، بل يسخرون ممن يعلم أو يتعلم، فيسخرون في الأخير من المعرفة، ولكن الأعمش كان في قمة الوعي والصفاء والذكاء، فلم يجب هؤلاء الناس بعيدا عن المتعلمين، وإنما دعاهم وردهم ليسمع المتعلمون، ولكي يرفع من معنويات أولئك الصبية إلى أعلى المراتب، ويصحح المفاهيم المنحرفة في نفس المكان والوقت، إنه أمام وضعية تحتاج شيخا ومعلما ومدرسا كالأعمش، ذاك الأعمش الإمام الذي استغل هذه الوضعية فبين شرف المتعلمين، ومهمتهم في هذه الحياة، لقد بين للمستهزئين أن هؤلاء الصبية لا غنى لهم عنهم، لأنهم يحفظون الدين على الناس وبخاصة أولئك المستهزئين، فكيف يتصور أن يكون شعور المتعلم الذي يرى نفسه حافظا لدين الله على الناس الذين لا وجود لهم إلا بهذا الدين؟، إنه يرى نفسه ذا وظيفة عظمى في هذه الحياة أقل ما تساويه وظيفة شيخة بعد سنوات معدودات، فهل في ثقافات الناس ومناهجهم التربوية تحفيز أعظم من هذا التحفيز؟ وهل في تراث غير تراث المسلمين هذه الكنوز الدفينة التي إما سرقت منا وإما أخفيت عنا، فدلس عينا شر تدليس. خاتمة: لقد عشت بعض اللحظات مع الإمام المربي ابن أبي الدنيا، الذي شهد له الجم الغفير من العلماء بأنه كان مؤدبا معلما مربيا متفننا، حتى أدب الأمراء وأبناء الخلفاء الذين صاروا على نهج آبائهم خلفاء، فأثرت هذه التجربة الكبيرة على الإمام وصقلت مواهبه حتى ألف هذا السفر النفيس الذي يختزن كنوزا تربوية تدل على عبقرية التراث الإسلامي منذ القرن الأول وإلى يومنا هذا، ولعل الله تعالى أن يهدي أهل الغيرة على الدين واللغة وأبناء المسلمين وأوطانهم إلى نسج نظريات تربوية قوية متينة تعيد لأمتنا كرامتها وهيبتها. وإن ما نرجوه من خلال هذه القراءة العجلى لكتاب ابن أبي الدنيا، أن نبين الحق الذي نراه حقاً، وأن نذب عن تراثنا بكل حزم وشجاعة، وأن نعلن رفض التبديل والتغيير والتبعية والخيانة لهذه الأمة وتراثها، وأن نعلن لأسلافنا العلماء وهم في قبورهم أننا على نهجهم، وسائرون على دربهم، لا نخاف في الله لومة لائم، ولا يأخذنا في ذلك تملق لأحد، ولا إرضاء لأحد إلا لله، وأن يكون دربنا كما قال محمد أسد رحمه الله: " وكيما يستطيع المسلم إحياء الإسلام يجب أن يعيش عالي الرأس، يجب عليه أن يتحقق أنه متميز وأنه مختلف عن سائر الناس، وأن يكون عظيم الفخر لأنه كذلك. ويجب عليه أن يكد ليحتفظ بهذا الفارق على أنه صفة غالبة وأن يعلن هذا الفارق على الناس بشجاعة بدلا من أن يعتذر عنه بينما يحاول أن يذوب في مناطق ثقافية أخر..."[56] [1] نقلاً عن الرسول المعلم وأساليبه في التعليم للشيخ عبد الفتاح أبي غدة، ص: 11. [2] وهو كتاب في غاية الأهمية، يظم أبحاث أربعة وأربعين من كبار الباحثين والأساتذة، صدر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي ما بين سنتي 1995 و 1996، قام بتحريره الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله، والكتاب يعالج إشكالية التحيز في العلوم الاجتماعية والنفسية والتربوية والأدبية وغيرها. [3] إسماعيل علي، إشكالية التحيز في التعليم، ضمن كتاب إشكالية التحيز، ج: 2، ص: 444. [4] المرجع السابق، ص: 444. [5] شاتلييه، الغارة على العالم الإسلامي، تلخيص وتعريب: مساعد اليافي ومحب الدين الخطيب، الطبعة: 2- 1387هـ، ص: 13-14 [6] نفسه، ص: 36. [7] سعيد إسماعيل علي، إشكالية التحيز في التعليم، ضمن كتاب إشكالية التحيز، ج: 2، ص: 451. [8] نفسه، ص: 462. [9] الدكتور طه عبدالرحمن، حوارات من أجل المستقبل، ص: 12، منشورات جريدة الزمن سنة 2000، الكتاب رقم 13. [10] محمد أسد، الإسلام على مفترق الطرق، ص: 52-53. [11] نفسه، ص: 74، بتصرف [12] نفسه ص: 86. [13] محمد بن شاكر الكتبي: فوات الوفيات، ج: 1، ص: 494. [14] د. نجم عبد الرحمن خلف، من مقدمة تحقيقه لكتاب العيال، ج: 1، ص: 68. [15] نقلا عن د. نجم عبد الله خلف، المرجع السابق بالترجمة العربية، وانظر النص الأصلي الإنجليزي في: A Literary History of the Arabs by Reynold Alleyne Nicholson. P: 281**1891 [16] د. نجم عبد الرحمن خلف، مقدمة تحقيق كتاب العيال، ج: 1، ص: 100. [17] ابن الجوزي المنتظم، ج: 5، ص: 148. [18] د. نجم عبد الرحمن خلف، مقدمة تحقيق كتاب العيال، ج: 1، ص: 100 [19] د. نجم عبد الرحمن خلف، مقدمة تحقيق كتاب العيال، ج: 1، ص: 8 [20] مقدمة تحقيق كتاب العيال، ج: 1، ص: 20 [21] د. زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، ص: 341-342. [22] مقدمة تحقيق كتاب العيال، ج: 1، ص: 21. [23] مقدمة تحقيق كتاب العيال، ج: 1، ص: 23. [24] مقدمة تحقيق كتاب العيال، ج: 1، ص: 26. [25] ينظر كل ذلك في: د. طه عبد الرحمان، روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، ص: 100. [26] كتاب العيال، ج: 1، ص: 302. [27] نفسه، ص: 303. [28] نفسه، ص: 305 [29] نفسه، ص: 307. [30] نفسه، ص: 319. [31] نفسه، ص: 431. [32] نفسه، ص: 433. [33] نفسه، ص: 434. [34] نفسه، ص: 435. [35] نفسه، ص: 436. [36] نفسه، ص: 437. [37] نفسه، ج: 1، ص: 465 [38] نفسه، ص: 466. [39] نفسه، ص: 469. [40] قال الدكتور نجم عبد الرحمن خلف: " أي شجعه وحفزه على أداء الصلوات. يقال: أجد الولد صار ذا جد. وقد درج علماء السلف الصالح على العناية بتربية أولادهم على حب الصلاة، والتعود عليها، والالتزام بها. قال عبد الله بن مسعود - مؤكدا على هذه المنهجية التربوية - " حافظوا على أبنائكم في الصلاة، ثم تعودوا الخير فإنما الخير بالعادة" ( كتاب العيال هامش ص: 469). [41] نفسه، ج:1، ص: 475. [42] نفسه، ص: 480. [43] نفسه، ص: 489. [44] نفسه، ص: 490. [45] د. عبد الكريم بكار، حول التربية والتعليم، ص: 283. [46] كتاب العيال، ج: 1 هامش ص: 489. [47] كتاب العيال، ج: 1، ص: 485. [48] نفسه، ص: 502. [49] نفسه، ص: 531. [50] نفسه، ص: 532. [51] نفسه، ص: 533. [52] نفسه، ص: 534. [53] كتاب العيال، ج: 2/ ص: 800 [54] نفسه، ص: 802. [55] نفسه ص: 803. [56] محمد أسد، الإسلام في مفترق الطرق، ص: 85.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |