ليس دفاعا عن البخاري - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4412 - عددالزوار : 850152 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3942 - عددالزوار : 386293 )           »          الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          غربة الدين في ممالك المادة والهوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 69 )           »          أهمية الوقت والتخطيط في حياة الشاب المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 65 )           »          الإسلام والغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          من أساليب تربية الأبناء: تعليمهم مراقبة الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »          همسة في أذن الآباء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 57 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-10-2021, 06:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي ليس دفاعا عن البخاري

ليس دفاعا عن البخاري
محمود بن أحمد أبو مسلّم



بعدما أخبرني بعض الغيورين عن حلقات تلفزيونية متكررة، وكمٍّ من المقالات كُتب مؤخرًا، وقد قرأتُ بعضه في هجمة تكاد تكون "منظَّمة" على صحيح الإمام البخاري - رحمه الله - وصلت إلى أن بعضهم ذكر أن هناك مُطالَبة شعبية لإلغاء صحيح البخاري! وإنا لله وإنا إليه راجعون!


وذكروا في حلقاتهم ومقالاتهم بعض الشبهات - بزعمهم هم - أما الصحيح فليس فيه شبهات - ولله الحمد - بل الشبهات عليهم ترد.



وطلبوا ردًّا على كل ما ذكروه من انتقاصات في الصحيح؛ لاشتباه بعضها على الناس، وبحيث يكون الرد لكل حديث في مقال على حِدَة، فكتبتُ على صفحتي في مواقع التواصل الاجتماعي بعضَ الردود، ولما لاقتِ استحسانًا قررت أن أنشرَها على مستوى أكبر؛ لعلَّ الناس تَنتفِع بها إن شاء الله.




وقد سميتُ هذه المقالات: "ليس دفاعًا عن البخاري وصحيحه"؛ وذلك لأن البخاري وصحيحِه لا يحتاجان في الحقيقة أي دفاع، إنما المسألة بالنسبة للدعاة والعلماء: إزالة لبس وقع فيه البعض، وتصحيح معتقد، أو إقامة حُجة!



فالأمة تلقَّت الصحيح بالقَبول منذ كتابته من أكثر من ألف عام إلى يومنا هذا، وما عرف أن أحدًا طالب بحَجبِ الصحيح أو إلغائه أو حذف أحاديث منه أو غير ذلك من مطالب هي في الحقيقة "شاذَّة" ومتعمَّدة.



لذلك، قبل أن نجيب على أوهام الزاعمين والمنتقصين لأحاديث صحيح الإمام البخاري، نود أن نقدم بمقدمة مهمَّة، وهي سوء الفهم عند كثير من الناس عن كتاب الإمام البخاري، وليُعلَم ابتداء أنالعلماء وأهل العلم لا "يخترعون" من عند أنفسهم دينًا جديدًا، وإنما يقتصر دورهم على إرشاد الناس إلى "الطريق الصحيح" الذي مشى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ورائه السلف الصالح.



فقط هم - أي العلماء - يعرفون الطريق وعلاماته المميزة الصحيحة التي يستطيعون من خلالها أن يُرشدوا الناس إلى الطريق.



و ليس دورهم أبدًا أن يمهِّدوا لهم طريقًا جديدًا، ولا موازيًا، ولا قاطعًا، ويمكنك أن تسترشد لطريق الرسول صلى الله عليه وسلم بأفضل وأوضح خريطة على الإطلاق، ألا وهي: "صحيح الإمام البخاري".




سوء الفهم الأول:

"البخاري هو واضع أو مؤلف هذه الأحاديث":

وهذا إشكال ضخم في الحقيقة من جهتين:

الأول: ضحالة الثقافة والمعرفة للتراث الإسلامي العِلمي عامة.

الثاني: الجهل بقواعد علم الحديث خاصة.




والحقيقة التي يجب أن يفهمها الجميع جيدًا أن الإمام البخاري لم يأتِ بهذه الأحاديث من كيسِه، ولا ألَّفها، ولا انفرد بها.


هذه الأحاديث الموجودة عند الإمام البخاري في صحيحه موجودة بنصها في دواوين العلماء الأخرى مثل: صحيح مسلم، وكتاب الترمذي، وأبي داود، وسنن النسائي، وابن ماجه، ومسند أحمد، وإسحاق بن راهويه، ومصنَّف ابن أبي شيبة، ومصنَّف عبدالرزاق، والمئات أو الآلاف من المصنَّفات الحديثية التي أُلِّفت في عصر البخاري أو قبله أو بعده.



يعني أن البخاري "كعالم للحديث" شارك زملاء له في رواية نفس الأحاديث التي أخرجها هو في صحيحه، ولم يأت هو بجديد لم يُخرِّجوه هم في كتبهم، بل قد قال البخاري: "صنفتُ الصحيح في ست عشرة سنة، وخرَّجته من ستِّمائة ألف حديث، وجعلته حُجَّةً فيما بيني وبين الله"، وقال: "صنفتُ كتابي الجامع في المسجد الحرام، وما أدخلتُ فيه حديثًا حتى استخرتُ الله تعالى، وصلَّيتُ ركعتين، وتيقَّنتُ صحته"، بل في رواية: "ما وضعت في كتاب الصحيح حديثًا إلا اغتسلتُ قبل ذلك، وصليت ركعتين"، وصحَّ عنه أيضًا أنه لم يضع كل ما صحَّ عنده من أحاديث في كتابه الصحيح.



إذًا ما فائدة كتاب البخاري على غيره من الكتب؟


والجواب: أن عبقرية البخاري ظهرت في ملمحَين أساسيين؛ الأول: هو انتقاؤه لأحاديث كتابه، واختيارها بعناية فائقة، في زمن انتشرت فيه الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتشر نقَلتُها "الرواة"، وكان فيهم الكذاب والصادق، فكان البخاري من هؤلاء العلماء الراسخين الذين تصدوا للكذابين على رسول الله، وبيَّن حال الرواة من ضعف أو قوة، ثم وضع البخاري كتابًا مختصرًا جامعًا لما صحَّ من سُنَّة رسول الله في جميع أحواله ورُتَبِه، وبوَّبه تبويبًا بديعًا، وهذا هو الملمح الثاني من عبقريته في هذا الكتاب بعد الجمع لما صحَّ واتَّفق عليه العلماء.


سبق كتابَ البخاريِّ كتابُ الإمام مالك "الموطأ"، وهو أيضًا كتاب جمَع بعضًا من سُنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كتاب أصل في السنَّة والفقه ومذهب المالكية.



وقيل: كان هناك مصنفات في الأحاديث سبقَت كتاب البخاري؛ كمسند إسحاق بن راهويه وغيره، لكن البخاري كان أول من صنَّف كتابًا بهذا الشكل وهذه الطريقة العلمية المتقَنة التي ثبَتَ عليها من أول الكتاب إلى آخره بمنهج رصين، جعل كل من ألَّف بعده إما مقلدًا له، أو مُستفيدًا به.



وأما كتابه "التاريخ الكبير" الذي جمع فيه حال الرواة، فهو بديع جدًّا، وكل من ألف في علم الرجال أو صنف في الرواة إنما هم عيال على كتاب البخاري "التاريخ الكبير".



المهم في هذه النقطة، والذي يهمني أن يفهمه الناس هو أن البخاري لم يجلس في شرفتِه يَحتسي قهوتَه وينظر في السماء وفي يده قلَمٌ وأخذ يؤلف أحاديث كتابه الصحيح، بل البخاري أخرج الأحاديث التي اتفق على صحتها أهل العلم في عصره من جهابذة الرواة، وكانت عبقرية البخاري في انتقاء الأحاديث من بين مئات الألوف من الأحاديث، ثم حسن تبويبها ووضعها في كتاب مختصر ليبيِّن للناس أصح ما عُرف عن رسول الله من سنن وآداب.



يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-10-2021, 06:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ليس دفاعا عن البخاري

ليس دفاعا عن البخاري
محمود بن أحمد أبو مسلّم




سوء الفهم الثاني "صحيح البخاري فوق النقد":
بيَّنا في المقال السابق سوءَ الفهم الأول عن البخاري وصحيحه، وأن البخاري لم يأته إلهام بهذه الأحاديث، ولا ألَّفها من بنات أفكاره، وإنما ما أخرجه البخاري في صحيحه من أحاديث هو ما اتفق عليه علماء عصره من أئمة الحديث على صحة هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.


ومن المفاهيم المغلوطة أيضًا عند الناس عن الصحيح أنه فوق مستوى النقد!


وهذا غير سديد، ولم يَقُلْ أي منتسب للعلم على مر العصور أن كتاب البخاري ممنوع من النقد، هذا ما لم يحدث؛ بل ما حدث هو العكس.


هناك أحاديث انتُقدتْ على البخاري لماذا أخرجها في صحيحه، ولعل أشهرها حديث المعراج من رواية شريك بن عبدالله بن أبي نمر عن أنس رضي الله عنه، وستأتي معنا إن شاء الله في مقال منفصل.


وقد تتبعه الدارقطني - رحمه الله - في كتابه "التتبع" في عدد من الأحاديث من ناحية "الصنعة" الحديثية.


نعم، ليس في البخاري حديث ضعيف - إلا ثلاثة أحاديث أو أربعة - ربما يضعِّفُها بعض أهل العلم من جهة إسنادها، والبعض الآخر يراها صحيحة كسائر الصحيح.


فالمراد أن كتاب البخاري يتعرَّض للنقد كسائر أي جهد بشري، لكنه قليل بالنسبة لحجم كتابه ونوعية النقد، وإلى يومنا هذا طلبة العلم ربما يرَوْن أن إخراج البخاري لهذه الرواية وعدم إخراجه لتلك فيها نوع من القصور، وأن إخراجه لبعض الرواة دون بعض غير سديد،أو أنه صحح أحاديث خارج كتابه الصحيح ولم يضعها في كتابه، لكن الأخير هذا هو اعتَذَر عنه أنه لم يضع كل حديث صحيح عنده في هذا الكتاب.


ليس هذا فحسب، بل إن من أهل العلم من قدَّم كتاب صحيح مسلم على كتاب البخاري، ومنهم من قدم كتاب أبي داود المعروف بالسنن، ومنهم كذلك من قدم سنن الترمذي عليه.



وهؤلاء - وإن كانوا قليلاً - لكن المهم أنه لم يحدث "عصمة" لكتاب البخاري كما يزعم من لا علم عنده.

فكتاب البخاري عمل بشري، فيه قصور، لكن في الجملة يعتبر هو أصح كتاب على وجه الأرض وضع ليُبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق أغلب علماء العصور إلى وقتنا هذا.



فما انتُقِد على البخاري من أحاديث، جلها انتقادات فنية (انتقادات لأسانيد الحديث وحال رواتها)، وليست انتقادات لأصل الحديث (الرواية ذاتها)؛ فكل ما في كتاب البخاري من متون هو صحيح، وهذا ما استقرَّ عليه العلماء منذ زمن طويل، والحمد لله رب العالمين.


وأما سوء الفهم الثالث: أن من يطعن في أحاديث كتاب البخاري (وكما ذكرنا أن ما يوجد في البخاري يوجد في أغلب دواوين السنة) فهو في الحقيقة يطعن في الدين بطريق مباشر أو غير مباشر، عن قصد أو دون قصد، لماذا؟


لأن التشكيك في صحة الحديث هو في الحقيقة تشكيك في صحة إسناد الحديث (سلسلة الرجال الذين رووا الحديث بداية من الصحابي الذي رواه عن رسول الله، ثم التابعي الذي رواه عن الصحابي، ثم الذي بعده، ثم البخاري أو الرواة عامة).

وهذا الإسناد (المُشكَّك فيه) قدر روي به عشرات الأحاديث أو مئات في الصوم والصلاة والزكاة... إلخ.


وهؤلاء الرجال الذين هم رجال الإسناد رَوَوْا الآلاف من الأحاديث، فلو طعنَّا في روايتهم لحديث واحد، فما المانع أن نطعن في روايتهم لباقي الأحاديث، وتضيع السُّنة، ويضيع الدين؟.



مثال:
هذا الإسناد مثلاً في البخاري: الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رُوِي به حديث: أن رسول الله نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك. وهذا أصل في مناسك الحج أن النحر قبل الحلق.



هذا الإسناد: (الزهري، عن عروة، عن المسور رضي الله عنه) هو هو إسناد رواية خروج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وحدوث صلح الحديبية في حديث طويل مشهور، وفيه سب أبي بكر رضي الله عنه لعروة بن مسعود (الذي كان كافرًا وقتها، وصدَّ المسلمين عن بيت الله، واتَّهَمَ - ضمنًا - المسلمين بالجُبن، وأنهم سيفرُّون عن رسول الله، وسيخذلونه، فلذلك قال له أبو بكر هذه الكلمة الشديدة: "امصص بَظْرَ اللات"، وسنتعرض لهذا الموقف في حديث منفصل إن شاء الله).


الشاهد: أن من يطعن في هذا الحديث، وهذا الإسناد بالتبعية، فإنه يطعن في حديث الحج، ولو قال: بل حديث الحج صحيح، وحديث الحديبية كذب، فقد اتبع هواه وحكَّمه في دين الله، ولم يعد الأمر لا علميًّا ولا منهجيًّا ولا يحزنون، وأصبح الأمر أن من أعجبه حديثٌ قَبِلَه، ومن لم يعجبه كذَّبه وردَّه، وقال الله: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23].


فمن يُشكِّكُ في حديث صحيح، فإنه يطعن في إسناده (الرجال الذين نقلوا الحديث) أولاً، وأولهم الصحابي (أو رسول الله حسب وجهة نظر الطاعن ومعتقده)، ويلزمه إن طعن في إسناد رواية ما، وزعم كذبها، فيلزمُه أن يُكذِّبَ كل رواية نقلت بهذا الإسناد، يعني تكون الخلاصة هدم السنة والدين معًا!


فأنت لا تعرف كيف تصلي، ولا تصوم، ولا تزكِّي، ولا تحج، ولا تعتمر، ولا تصلي الجنازة، ولا أحكام القصاص، ولا كثيرًا من أحكام المواريث، ولا أحكام الطلاق والزواج، ولا...، ولا... ولا... - إلا بالسنة.


وحتى لا ندخل في كثير من التفاصيل العلمية، دعونا نأخذ الآن حديثًا حديثًا مما (لا يعجب وليس على هوى البعض) سواء من المنتسبين للعلم أو من أصحاب الأهواء أو المنافقين أو غيرهم؛ لنَردَّ على مزاعم الزاعمين والحاقدين والمغيَّبين، وبالله التوفيق.


يتبع..



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 01-10-2021, 06:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ليس دفاعا عن البخاري


ليس دفاعا عن البخاري (3)
محمود بن أحمد أبو مسلّم




وأول حديث نقف معه (ليس) بحديث؛ إنما هو أثر موقوف - أي: من كلام الصحابي - وهو أثر عمرو بن ميمون الذي أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية، قال: "رأيت في الجاهلية قِرْدَةً اجتمع عليها قِرَدَةٌ قد زنتْ، فرجموها، فرجمتُها معهم".

هذ الأثر الذي تلف الدنيا وراءه وكأنه وصمة عار في جبين الصحيح!

لكن دعنا نتناقش بموضوعية مع هؤلاء:
أولاً: لماذا أخرج البخاري هذا الأثر في كتابه؟
اعلم أنه من أصول القراءة في كتاب البخاري، أن تفهم جيدًا أن البخاري لم يرتب كتابه عشوائيًّا، ولا يصلح أصلاً أن يشرحه أو يفسره إلا طالب علم متخصص؛ لأن البخاري يرتب الأحاديث لغرض أو لهدف لا يفهمه إلا متمرس؛ فالبخاري مثلاً: ذكر أبواب الحج قبل أبواب الصيام، لماذا؟

لأنه اعتمد رواية الحديث: ((بُنِيَ الإسلام على خمس...)) إلخ، وفيها: ((والحج وصوم رمضان))، فقدم معظم الرواة الحج على الصوم، وليس الصوم ثم الحج آخرًا كما يعتقد الكثير من الناس، فلما رتب البخاري كتابه وضع أبواب الحج قبل أبواب الصيام، هذا مثال.

وهذا الأثر (يعترضون) عليه لمجرد أن الرجل وصف شيئًا رآه بعينه يخبر به عن أيام جاهليته، وهذا هو مراد البخاري، وهو من عبقريته في التبويب ومن فقه عقله، فإذا نظرت في الأحاديث التي قبل هذا الأثر، لوجدتها كلها صفات للناس وما كانوا يفعلونه قبل الإسلام.

فقبل هذا الأثر كان قول ابن عباس رضي الله عنه: "من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر، ولا تقولوا: الحَطِيم؛ فإن الرجل في الجاهلية كان يحلف فيلقي سوطه أو نعله أو قوسه".

وقبله قول عائشة رضي الله عنها، قالت: " كان يوم بعاث يومًا قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترَق ملؤهم، وقُتِّلتْ سَرَوَاتهم وجُرِّحوا، قدَّمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم في الإسلام".

فمراد البخاري هو أن يبين للقارئ ما كان عليه أهل هذا الزمان في الجاهلية من أحوال وأخلاق قبل مجيء الإسلام.

تتوقع إذًا ما هي الأبواب التالية لأبواب (أيام الجاهلية)؟
الذي فهم ما قلت، سيعرف حتمًا أنها أبواب "مبعث النبي صلى الله عليه وسلم" ومجيء الإسلام، وهذا بالفعل ما فعله البخاري، بعد أن انتهى من وصف أيام الجاهلية؛ ليفهم القارئ ما كان عليه الناس، وما بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به الإسلام من أشياء خالف فيها ما كانت عليه الجاهلية، وأشياء أخرى أقرها!

ثانيًا: هل يوجد في الأثر ما يستنكر إذًا؟

لا، ليس فيه شيء إطلاقًا مما يستنكر، والبخاري أخرج الأثر مختصرًا، والحكاية أخرجها الإسماعيلي مطولة مفصلة، يحكي فيها عمرو (مراقبته) لمجموعة قرود (والقرود مشهورة موجودة بالمملكة إلى الآن)، وكيف أن قردة زنت بقرد آخر غير زوجها الذي كانت تنام بجواره، فشمها زوجها بعد، فعلم أنها خانته فصاح بها، فجاء قطيع القرود فرموها بالحجارة، كذا باختصار.

والبخاري لم يخرج هذه القصة المطولة، إنما أخرج فقط المختصر؛ لسبب فني، وهو أن إسناد المختصر أصح من المطول.

المهم، ليس مراد البخاري إذًا الاستدلال على حكم الرجم في الزنا بفعل القرود!

ولو وضع هذا الأثر في أبواب الزنا، لكان أهل العلم أول المطالبين بنقله منها؛ فالقرود غير مكلَّفة، ولا يصح الاستدلال بمثل ذلك؛ فيكون عبثًا؛ وإنما كان مراد البخاري الكلمة الأخيرة في الأثر لمن تأمَّل، وهي:
"فرجموها فرجمتُها معهم".

فهذا فكر جاهلي بحت؛ إذ كيف لمسلم - فضلًا عن عاقل - أن يُقحم نفسه في تصرف الحيوانات وسلوكها ليكون كواحد منهم؟!

هذا ليس من العقل في شيء، ولا من الإسلام في شيء.

وكأن البخاري يريد أن يقول: "لقد كانوا في الجاهلية يُقحمون أنفسهم حتى في شؤون الحيوان، والإسلام لم يأمر بهذا، والإسلام كرَّم الإنسان ونزَّهه عن هذه الأفعال".

هذا هو مراد البخاري في هذا الباب تحديدًا، ليس له أي غرض آخر، وبالأخص الاستدلال بهذا الأثر على حكم شرعي.

من يقرأ كتاب البخاري ويفهمه، حين يسمع منتقديه لن يكون ردُّه سوى الابتسام بسخرية، لكننا نوضح للمسلمين الغيورين على دينهم ومن يريد أن يتعلم!

ثالثًا: هل هناك شيء غريب في هذه القصة؟

لا، إطلاقًا، وكلام عمرو رضي الله عنه مطابق لما نراه كل يوم على قناة Nat Geo Wild مثلًا، فالقردة بالفعل تعيش في مجموعات تسمى Troops، وتتصرف باجتماعية في تحصيل الغذاء والنوم والدفاع عن القطيع من الأعداء والتزاوج، ولكل قرد أسرته، وهناك فيلم مشهور أيضًا كيف يمكن أن يتصرف هذا القطيع بفظاظة مع البشر في فيلم Monkey Thieves، وهو فيلم مشهور يصور كيف تقتحم القرود المدن في الهند لسرقة الأكل وغيره بشكل منظم وذكي، فإن كانوا يفعلون مثل هذه التصرفات، ومعلوم أن قابلية القرد للتعلم والتقليد كبيرة؛ مما يدل على ذكائه، فما المشكلة لو ثبت مثل حكاية عمرو؟ ما الذي يمنع؟!

والكبير من هذه القرود Gorillaz أذكى وأذكى.

لكن المهم في كل ذلك لو صدر من مجموعة من القرود تصرُّفٌ ما يشبه ما حكى عمرو في روايته، لم يكن ذلك بالغريب، فلقد رأينا الأغرب في عالم الحيوان، ومن يشاهد قنوات الناشيونال جيوجرافيك وغيرها، يرى العجب العجاب في عالم الحيوان.

أفإن جاء الوصف من الغرب وعلمائه أحبَبْناه وصدَّقناه وتداولناه، وإذا جاء في كتب تراثنا قبل 1400 سنة أنكرناه وكذَّبناه؟!

إن هي إلا فتنة أضرَّت بقوم، وثبت فيها قوم فزادهم ربهم إيمانًا!

رابعًا: هل هناك من أهل العلم من استنكر هذه القصة؟

والجواب أن نعم، وليس فيها ما يستنكر، لكن استنكرها ابن عبدالبر، وقال: ربما يكون رأى عمرو قومًا من الجن في صورة قردة؛ لأن القردة غير مكلفة برجم الزاني، وقد أجبنا عن ذلك، وأما كونهم من الجن، فهذا تأويل منه بعيد، وغير ضروري لما وضحنا.

ومِن أهل العلم قديمًا من رأى أن هذه الرواية مقحمة في البخاري وليست موجودة في كل النسخ المعتمدة، وهذا ليس بسديد أيضًا، فهي موجودة في أصح نسخ البخاري، ولله الحمد.


والمهم، أنه ليس في القصة ما يُستنكَر أصلًا، وقد بينا لماذا وضع البخاري هذه "القصة" في كتابه، ووجه استدلاله بها.

فالقصة ليست "حدوتة شاذة"، وليست هي مما ذهب إليه البعض من استدلال البخاري على حكم الرجم، وليست هي من باب (الفانتازيا) الفكرية أو حواديت (ألف ليلة)، وليست هي إلا:
توضيح لتصرُّف البشر أيام الجاهلية قبل الإسلام، وكيف أن الإسلام هذَّب تصرُّفات البشر وسواها..


إن لم تقتنع بكل ذلك، فاذهب واشترك في قناتي National Geographic Animal Planet، وسترى أعاجيب وأسرارَ خَلْق ربك الذي قال: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام: 38] أمم أمثالكم، يعيشون ويتعايشون، ولهم قوانينهم وحياتهم، ويسبحون ربهم أيضًا، قال ربُّك: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44].

هذا، والحمد لله رب العالمين.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 01-10-2021, 06:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ليس دفاعا عن البخاري


ليس دفاعا عن البخاري (4)
محمود بن أحمد أبو مسلّم




حديث المعراج


ومما أثاروه وانتقدوه على الصحيح حديثُ المعراج، الذي أخرجه البخاري من طريق شريك بن أبي نمر (المعروف بشريك القاضي)، عن أنس رضي الله عنه، وقد ذكرت في مقدمة المقالات أن هذه الرواية مما انتقدها بعض الحفاظ وأهل العلم على الإمام البخاري أصلاً وإخراجها في كتابه؛ لأنها فيها بضع عشرة مخالفة للأحاديث التي هي أصح من رواية شريك، قالوا: فشريك القاضي تفرد بذكر أحداث في القصة مخالِفة لما رواه مَن هو أوثق منه.


ومن هذه المآخذ - بزعمهم، وهي قطعة من رواية شريك -: "ثُمَّ عَلاَ بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لاَ يَعْلَمُهُ إلاَّ اللَّهُ، حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا لِلْجَبَّارِ رَبِّ الْعِزَّةِ، فَتَدَلَّى، حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلاَةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ".... إلخ الحديث.

قالوا: كيف يكون "التدلّي" من الله عز وجلّ؟! هذا غير معقول، ومستحيل في حق ربنا، وهذا التساؤل كان مما أخذه بعض أهل العلم على هذه الرواية، أن جعل (شريك) "التدلي" مِن الله عزّ وجلّ، وليس مِن جبريل عليه السلام، كما هو ظاهر الآية في سورة النجم: ﴿ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾ [النجم: 7، 8]، وهو قول ابن مسعود، وعائشة، أن الذي تدلى في الآية هو جبريل عليه السلام.

وهذه الرواية أخرجها البخاري في كتاب التوحيد، في آخر الصحيح: "باب قوله: وكلّم الله موسى تكليمًا"، وأخرجها البخاري من طريق سليمان بن بلال، عن شريك بن عبدالله القاضي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد انتقد أهل الحديث عليه هذه الرواية؛ لما انفرد فيها بألفاظ لم يأتِ بها غيره حسب قولهم، وسنبين أن ذلك خطأ، وأنه توبع على هذه الرواية، إن شاء الله.

الآن دعني أناقش مع حضرتك هذه المسألة بأسلوب علمي؛ لتقف معي على الفرق بين النقاش العلمي لمثل هذه الأمور وبين مجرد التكذيب، والاتهام، والعجلة، وتقديم العقل على النقل.
أولاً: كما ذكرت لك أن هذه الرواية وهذه اللفظة مما انتقد بعض أهل العلم بالفعل على البخاري إخراجها، ويدلُّك على ذلك أن الإمام مسلمًا لما أخرجها في كتابه الصحيح، أخرج الإسناد فقط، ولم يخرج الحديث وقصة المعراج من طريق شريك، بل قال: "وَسَاقَ الحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ نَحْوَ حَدِيثِ ثَابِتٍ البُنَانِيِّ، وَقَدَّمَ فِيهِ شَيْئًا وَأَخَّرَ، وَزَادَ وَنَقَصَ"، فدعنا نتفق أن هذه اللفظة من المختلف فيه قبولاً ورفضًا بين أهل العلم.

ثانيًا: مَن يتكلم في دين الله لا بد أن يكون ملمًّا بأصول اللغة، ووجوه كلام العرب، وهذا ليس معناه الإلمام بالنحو والصرف فحسب، فالنحو والصرف هما أُولى درجات علوم اللغة، أما أصول اللغة، وأصواتها وفنونها، وغريبها وشاذها؛ فعلوم لا يقف عليها إلا متبحر فقيه، ونحن إن كنا لا نستطيع أن نلم بذلك كلّه، لكن من أراد أن يتكلم أو يطلب العلم لا بد أن يبحث على الأقل في معاني الكلمات ومدلولاتها، وكيف كانت دلالتها ووقعها على أسماع العرب، لا على سمعك أنت، فنحن في زمن اندثر فيه التذوق اللغوي، وانقلبت الفِطرة اللغوية رأسًا على عقب، وما كان مستساغًا عند العرب أصبح الآن عيبًا وشتيمة، والعكس بالعكس.

وما يهمنا ههنا هو معنى التدلي.

والتدلية هي إرسال الشيء من علو إلى سفل، مأخوذ من تدلية الدلو؛ أي: إرساله في البئر.

والتدلية هي سبب القرب (الدنو)، فمعنى الآية إذًا هو: ثم تدلى فدنا؛ أي: فقرب، والعرب تقدم وتؤخر الألفاظ إن كانت بمعنى واحد، أو لها ارتباط، كما تقول: شتمني فأساء، وأساء فشتمني، فالإساءة والشتم بمعنى، وكما في قوله تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر: 1]، والمعنى: انشق القمر واقتربت الساعة، فالتقديم والتأخير هنا في كلام العرب صحيح، ما دام المعنى واحدًا، أو ارتبطت اللفظتان.



فالدنو والتدلي إذًا بمعنى القرب، وللدقة فالتدلي هو سبب القرب، ولا شيء في ذلك من الناحية اللغوية ولا الشرعية.

ثالثًا: هل يجوز في حق الله التدلي، أو القرب من عباده عمومًا؟
والجواب أنْ نعم، وقد أخبر ربنا عن نفسه سبحانه يوم القيامة: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾ [الأنعام: 158]، وقال سبحانه: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾ [البقرة: 210]، وقال عز وجل: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22]، وفي الدنيا - أيضًا -، كما جاء في دواوين السنة؛ الصحيحين، وغيرهما، من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟)).

واعلم أن أهل السنة لا يكيفون هذه الصفات من الرب تعالى، يعني: لا يشرحونها ولا يعرِّفون "كيفية النزول من الله سبحانه"، وإنما يقولون: ينزل نزولاً على وجه يليق بجلاله وكماله سبحانه، فهم يثبتون الصفة، ولا يؤولونها أو ينفونها، فلا يقولون: المراد بالنزول نزول رحمة الله مثلاً، ولا يشبِّهونها بشيء من نزول البشر ولا غيرهم، بل يقولون كما قال الإمام مالك في كلمته الشهيرة لما سئل عن معنى الاستواء على العرش في قوله: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، قال مالك بن أنس رحمة الله عليه: "الاستواء معلوم (يعني نعرف معناه في لغة العرب، ونعرف ثبوته لله عز وجل)، والكيف مجهول (يعني لا نقدر أن نعرف كيفيته من الله سبحانه) والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. انتهى

فالشاهد من هذا كله أن القرب من الله عز وجل جائز، قربًا يليق به، وبجلاله وكماله عزّ وجلّ.

رابعًا: من تكلم في رواية شريك القاضي وأعلَّها، من العلماء والحفاظ، قالوا: إن شريكًا ساء حفظه في آخر عمره، وهذه الرواية تفرد بها عن أنس، يعني: لم يأتِ أحد بمثل هذه الرواية من جهة ألفاظها، وإلا فالقصة محفوظة صحيحة من وجوه أخرى، عن أنس، وعن صحابة آخرين.

والسؤال الآن: هل فعلاً تفرَّد شريك بهذه الرواية عن أنس؟! والجواب أنْ لا - وراجع كتابنا "الإسراء والمعراج دراسة حديثية" هنا على شبكة الألوكة -، فلقد تابع شريكًا (يعني رواها بمثل روايته) عن أنس راوٍ يُقال له: "كثير بن خنيس"، كما في كتاب التوحيد لابن خزيمة، وكثيرٌ هذا صدوقٌ، مستقيم الحديث، وكذلك تابعهما راوٍ اسمه: "ميمون بن سياه"، كما في كتاب تهذيب الآثار للطبري، وإسناد الرواية ضعيف، لكنْ ميمون لا بأس به في المتابعات والشواهد، واستشهد به البخاري في صحيحه، يعني أن شريكًا لم يتفرد بالرواية، بل ربما يكون كلامه أن التدلي من الله عزّ وجلّ صحيحًا أيضًا، وأن كلام بعض الحفاظ أنه تفرد بها غير سديد، نعم، هناك ألفاظ في الرواية يمكن القطع أن شريكًا أخطأ فيها؛ مثل ذكره أن نهر الكوثر في السماء الدنيا، والصحيح أنه في الجنة، لكن ما يُهمنا في هذا الأمر أن هناك راويًا واحدًا صدوقًا (على الأقل) قد تابعه على كون التدلي كان من الله عز وجل.

خامسًا: ستقول لي الآن: قد صح عن عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما فسرا التدلي في الآية في سورة النجم أنه كان من جبريل عليه السلام، وأنا أقول لك: قد صحّ - أيضًا - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾ [النجم: 13] قَالَ: "دَنَا مِنْهُ رَبُّهُ عزّ وجلّ مَرَّتَيْنِ"، كما ذكره الذهبي في العلو له، وعزاه ابن حجر للبيهقي بعد أن حسَّن إسناده.

وكذلك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربه أصلاً ليلة المعراج، وهذا صحيح، لا شك فيه، ونحن لا ننازع في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه، فالصحيح أنه لم يره.

ولا يلزم من كون رب العزة سبحانه دنا فتدلى أن يكون محمد رآه؛ لأنه قال: ﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾ [النجم: 9]، وبينهما حجاب النور والعظمة والكبرياء.

ويمكن كذلك أن نستنبط من الحديث أن من دنا هو الله عزّ وجلّ؛ لأن جبريل كان مصاحبًا لمحمد عليه الصلاة والسلام طَوال الرحلة، فكان قريبًا منه أصلاً، فما وجه أن يذكر في الآية أنه قرب منه؟!

والمقصود أن من ذهب إلى أن التدلي إنما هو من الله سبحانه، ومِن ثَمّ يُثبت له هذه الصفة، فلا نكران لسعيه واجتهاده، ومعه وجه من الأدلة اللغوية والشرعية، والله أعلم.

سادسًا: هذا، وقد ناقشت شيخنا محمد حسان - شفاه الله - وحفظه منذ سنين في هذه اللفظة في دروس العقيدة، وكنت أذهب مذهب أن شريكًا قد أخطأ في كون التدلي من الله عز وجلّ، فأخذ الشيخ بيدي، وقال لي ونحن نصعد سُلم المسجد: "طالما ثبتت الصفة عن رب العزة، فأثبتها له"، أو كما قال الشيخ حفظه الله وشفاه وعافاه، آمين.

وهذا هو المقصود، أن من رأى أن هذه اللفظة صحيحة، وأن شريكًا لم يخطئ فيها، فله أن يثبتها، ولا شيء في ذلك، فإثبات الصفات أمر معروف عند أهل السنة ولله الحمد، وقد بينَّا أنهم يثبتون الصفة ولا يكيفونها ولا يؤولونها ليصرفوها عن معناها الحقيقي، ولا يشبهونها بصفات البشر، وقد بينا معنى التدلي عند العرب، وهي كلمة مشهورة حتى في الآثار والأحاديث، ولو استدللنا على ثبوتها عند العرب لسوَّدنا في ذلك صحفًا وأوراقًا كثيرة.

فالخلاصة: يا مَن أنت مِن أهل العلم، أو مِن حملته، أو ممن يتبعون الفريق الأول، إن قلت: إن هذه اللفظة خطأ ولا تثبت، فلا تثريب عليك إن اجتهدت بعلم وفَهم وصلك لهذا، أو اتبعت وقلدت أهل العلم الثقات الذين يقولون بذلك، وإن كنت مع الفريق الثاني أو منه، وأثبتَّ هذه الصفة لله سبحانه، فلا شيء عليك - أيضًا - ولك وجه وحجة في ذلك، المهم ألا تنكر بلا دليل، أو تقدم عقلك في كل كبير وصغير، وتتَّبع هواك فيُضلك عن السبيل.

سابعًا: وكما ذكرنا أن من أهل العلم من استنكر هذه الرواية أصلاً؛ ومنهم: ابن حزم، والخطابي شارح البخاري رحمهما الله، الذي شنع جدًّا في إنكارها، وردّ عليه الحافظ في فتحه، مع تحفظنا على اختياره مذهب التأويل للصفات، فقال في الفتح: "وقَد أَزالَ العُلَماء إِشكاله، فَقالَ القاضِي عِياض فِي الشِّفاء: إِضافَة الدُّنُوّ والقُرب إِلَى الله تَعالَى أَو مِنَ الله، لَيسَ دُنُوّ مَكان ولا قُرب زَمان؛ وإِنَّما هُو بِالنِّسبَةِ إِلَى النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم إِبانَة لِعَظِيمِ مَنزِلَته، وشَرِيف رُتبَته، وبِالنِّسبَةِ إِلَى الله عزّ وجلّ تَأنِيس لِنَبِيِّهِ وإِكرام لَهُ، ويُتَأَوَّل فِيهِ ما قالُوهُ فِي حَدِيث: ((يَنزِل رَبُّنا إِلَى السَّماء))، وكَذا فِي حَدِيث: ((مَن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبرًا، تَقَرَّبت مِنهُ ذِراعًا))، وقالَ غَيره: الدُّنُوّ مَجاز عَن القُرب المَعنَوِيّ؛ لإِظهارِ عَظِيم مَنزِلَته عِند رَبّه تَعالَى، والتَّدَلِّي طَلَب زِيادَة القُرب، وقابَ قَوسَينِ بِالنِّسبَةِ إِلَى النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم عِبارَة عَن لُطف المَحَلّ وإِيضاح المَعرِفَة، وبِالنِّسبَةِ إِلَى الله إِجابَة سُؤاله ورَفع دَرَجَته"؛ انتهى، والصحيح أن القرب من الله يُحمَل على ظاهره، ولا يكيف، ولا يشبه، حتى يأتي دليل يدل على أن الدنو المذكور معناه الرحمة، أو هو مجاز عن التأنيس والإكرام للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم.

ثامنًا وأخيرًا: فها هو النقاش العلمي المنصف، الذي لا يسد باب الاجتهاد، ولا يفتح أبواب الفتن والفساد، ولا يقف أمام تصورات العقل، ولا يتركه فيجمح جماحًا يحجب النقل، وما كان هناك داعٍ لتكذيب كلام، أو اتهام أفهام، ولا رمي ببهتان، وربما لو سألت عالمًا، أو ناقشت متفهمًا، لاختلف رجحان الميزان، واتهم نفسك بالتقصير، وسل ربك الزيادة في العلم، ولا تعجل، فربما خانتك نفسك، وأعمى الشيطان بصرك، ولا تتهم سلفك؛ البخاري، وغيره، واقصد فيهم دائمًا قول ربك:

﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].

يتبع...





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 01-10-2021, 06:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ليس دفاعا عن البخاري


ليس دفاعا عن البخاري (5)
محمود بن أحمد أبو مسلّم




(هل همَّ النبي صلى الله عليه وآله بالانتحار؟)






ومِن هذه الأحاديث المنتقَدَة على الإمام البخاري ما قد نقله البعضُ بأسلوبٍ رخيص وخبيث، وهو - كما صوَّروا - أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم - حاشاه - حاول الانتحارَ في بداية الوحي والدَّعوة!



وهذا الأسلوب رَخيص - أعني: في طريقة العرض والنَّقد - وله أغراضه؛ لأنَّ الباحث عن الحقيقة يجب أن يتحلَّى بالأدب والصَّبر، وإذا ما جاءه أمر مشكك فيه، وجب أن يتثبَّتَ ويسأل سؤالَ "المريض" عن الدَّواء ليَشْفى، لا سؤال اللَّئيم الباحث عن الجدل والمشكلات!



ودخولاً في الموضوع سريعًا بدلاً من التعليق في كلِّ مرَّة على سلبيات المنتقدين:

أولاً: هذه الرواية، كما سبق ونبَّهنا مرارًا، لم ينفرد البخاريُّ بإخراجها، وإنَّما أخرجها معه "متخصِّصو" الحديث في زمنه ومَن جمع كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكتبوها في مصنَّفاتهم كما كتبها البخاريُّ، لكن لكلِّ "متخصص" طريقة في عَرضه ونقلِه كما سنبيِّن؛ فأخرج نفسَ هذه الرواية أحمد في مسنده (25427)، وابن حبَّان في صحيحه (33)، وعبدالرزاق في مصنَّفه (9719) وغيرهم.



ثانيًا: وهذه الرواية أتَت من طريق الزُّهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، ورواها عن الزُّهري جمعٌ من أصحابه مثل: يونس بن يزيد الأيلي كما في مسلم (162)، وعقيل بن خالد كما عند البخاري (4955)، وصالح بن أبي الأخضر كما عند أبي داود الطيالسي (1572).



ثالثًا: هذه القصَّة محفوظة ولا شك؛ أعني: قصَّة بداية الوحي وكيف كان، وهي كالآتي - كما رواها الزُّهري - :

عن عائشة أُمِّ المُؤمنين، أنها، قالت: "أوَّل ما بُدئ به رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرُّؤيا الصَّالحة في النَّوم، فكان لا يرى رُؤيا إلاَّ جاءت مثل فلق الصُّبح، ثمَّ حُبِّب إليه الخلاءُ، وكان يخلُو بغار حراءٍ، فيتحنَّث فيه - وهو التعبُّد - اللَّيالي ذوات العدد قبل أن يَنزع إلى أهله ويتزوَّد لذلك، ثمَّ يرجعُ إلى خديجة فيتزوَّدُ لمثلها، حتَّى جاءه الحقُّ وهو في غار حراءٍ، فجاءه الملَكُ، فقال: اقرأ، قال: ((ما أنا بقارئٍ))، قال: فأخذَني فغطَّني حتى بلغ منِّي الجهد، ثمَّ أرسلني، فقال: اقرأ، قلتُ: ((ما أنا بقارئٍ))، فأخذني فغطَّني الثَّانية حتى بلغ منِّي الجهد، ثمَّ أرسلني، فقال: اقرأ، فقلتُ: ((ما أنا بقارئٍ))، فأخذني فغطَّني الثَّالثة، ثمَّ أرسلني فقال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ [العلق: 1 - 3]، فرجع بها رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يرجُفُ فُؤادُه، فدخل على خديجة بنت خُويلدٍ رضي الله عنها، فقال: ((زمِّلُوني زمِّلوني))، فزمَّلُوه حتى ذهب عنه الرَّوعُ، فقال لخديجة، وأخبرها الخبر: ((لقد خشيتُ على نفسي))، فقالت خديجةُ: كلاَّ، واللهِ ما يُخزيك الله أبدًا؛ إنَّك لتصلُ الرَّحِم، وتحملُ الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدُوم، وتَقرِي الضَّيفَ، وتُعِين على نوائب الحقِّ، فانطلقَت به خديجةُ حتى أتَت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعُزَّى ابن عمِّ خديجة، وكان امرأً تنصَّر في الجاهليَّة، وكان يكتُبُ الكتابَ العبرانيَّ، فيكتُبُ من الإنجيل بالعبرانيَّة ما شاء الله أن يكتُب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجةُ: يا بن عمِّ، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقةُ: يا بن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خبرَ ما رأى، فقال له ورقةُ: هذا النَّامُوسُ الذي نزَّل اللهُ على موسى صلى الله عليه وسلم، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكُونُ حيًّا إذ يُخرِجك قومُك، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أوَمُخرجيَّ هم؟))، قال: نعم، لم يأت رجُلٌ قطُّ بمثل ما جِئتَ به إلا عُودي، وإن يُدركْني يومُك أنصُرْك نصرًا مُؤزَّرًا، ثمَّ لم يَنشَب ورقةُ أن تُوُفِّي وفتر الوحيُ".



إلى ها هنا لم يختلف كلُّ الرواة عن الزُّهري في الوقوف عند قوله: "ثمَّ لم يَنشب ورقة أن توفِّي وفتر الوحي".



لكن زاد "مَعْمر بن راشد الصنعاني" - ومعمر فقط الذي زاد هذه الزيادة - وهي الرواية التي أخرجها البخاريُّ في كتاب "التعبير":

"وفتر الوحيُ فترةً، حتى حَزن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فيما بلَغنا حُزنًا غدَا مِنه مرارًا كي يتردَّى من رُؤوس شواهقِ الجبال، فكُلَّما أوفى بذروة جَبلٍ لكي يُلقي منه نفسَه تبدَّى له جبريلُ، فقال: يا محمَّد، إنَّك رسُولُ الله حقًّا، فيسكُنُ لذلك جأشُه، وتقرُّ نفسُه، فيرجعُ، فإذا طالَت عليه فترةُ الوحي، غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبلٍ، تبدَّى له جبريلُ، فقال له مثل ذلك".



وهنا أول وقفة مع هذه الرواية، وهي قولة: "فيما بلَغَنا"، ومعنى البلاغ عند أهل الحديث: أن يروي الراوي حكايةً بلا إسناد، فيقول مثلاً: بلغني أنَّ رسول الله فعل كذا وكذا، فيكون السؤال البديهي للمحدِّثين: "مَن أبلَغك"؟! وتزداد هذه البلاغات ضعفًا كلما بَعُد المبلِّغ عن رسول الله.



فالصحابة إذا قالوا: بلغَنا عن رسول الله، قُبل منهم؛ لأنَّهم كلهم عُدول في النقل، ومن زكَّاهم ومدَحهم هو الله جلَّ جلاله، كما اصطفاهم لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، فلا يصطفي ربُّنا إلاَّ الصادقين، وأمَّا مَن بَعدهم، فبلاغاتهم ومراسيلهم درجات، فيتوقَّف في بلاغاتهم إذا لم يكن لها شواهد مثلاً تدلُّ على صِحَّة هذه البلاغات؛ وذلك كأن يروي تابعيٌّ (وهو الجيل الثاني بعد الصحابة، ولم يرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم) رواية مثلاً، ثمَّ تأتي مثل روايته من طريق آخر، يرويها صحابيٌّ مثلاً، أو تابعيٌّ مثله لكنه أوثق منه، فربما شدَّ ذلك من روايته وقوَّاها نوعًا ما.



ويُرَدُّ هذا البلاغ لو كان هناك ما هو أصحُّ منه وأقوى؛ فمثلاً لو جاءت رواية صحيحة عن صحابي تُعارِض رواية البلاغ عن التابعي هذا، فلا شك أنَّنا سنقبل روايةَ الصحابي ونردُّ رواية التابعي، وكذلك نردُّ رواية التابعي ردًّا تامًّا لو صحَّت رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تُعارِض بلاغَ هذا التابعي.



وهذا الأمر لا يدخل في باب الجمعِ بين الروايات المتعارضة؛ لأنَّ الجمع لا يكون إلاَّ بين روايات متساوية في القوَّة أو متقاربة، ولا يُجمع بين روايات قوية وضعيفة إلاَّ على سبيل التنزُّل في الكلام.



المهم الآن.. هذا الجزء من الرِّواية بلاغ.. إمَّا من الزُّهري محمد بن مسلم بن شهاب، وإمَّا من مَعمر بن راشد الصنعاني الراوي عنه، ومراسيل الزهري وبلاغاته ضَعَّفها كثيرٌ من أهل العلم.



وهذه رِواية بلاغ ليس لها إسناد، ولا يُعرف مَن رواها ومن بلَّغها للزهري، وغالبًا سيكون من بلغها ورواها للزهري رجلٌ ضعيف في الرواية؛ لأنَّه لو كان رجلاً ثِقة ما تورَّع الزهري عن ذِكره بلا شك، فلمَّا أبهمه وأرسَل الكلام، وحكى حكايةً بلغَته، دلَّ على أنَّ راويها ليس بذاك المعتمد.



رابعًا: لماذا إذًا ذَكر البخاريُّ وغيره ممَّن أخرج هذه الرواية - هذا البلاغ - على ضعفها وإرسالها، ولم يَكتف بذكر ما صحَّ من القصَّة كما فعل سائر الرواة؟!



وهذا سؤال وجيه، والردُّ عليه من وجوه - وهي فوائد - :

1 - أنَّ الراوي يؤدِّي أمانة ما سمع غالبًا، ولا يقتص منه شيئًا، طالما رواه بإسناده، وبيَّن فيه صحَّته أو ضعفه أو ما به من عِلَّة، وهذه كانت حال أغلب المحدِّثين، يَروي كما سمع، وهي من دلائل الصِّدق في النَّقل.



2 - البخاريُّ وغيره أدَّوا الأمانة في ذِكر أنَّ هذه القصة "بَلاغ" من الزهري، وليست ممَّا اتَّصل من رواية مَعمر عنه، وذلك من فائدته ألا يأتي أحد بعد (وهو ما حدَث في هذا الزمان وحدث أيضًا في زمن المحدِّثين وشرَّاح البخاري) فيجعل القصَّة مترابطة، وكأنَّها قصَّة واحدة، ولا يبيِّن أنَّ هذا الجزء مُنقطع ومرسل وضعيف الإسناد، وليس كسائر القصة!



3 - بالنسبة للبخاري، فإنَّه أخرج هذه القصة في عِدَّة مواضع من صحيحه، لم يذكر هذه الرِّواية إلاَّ في آخر موضع، وهو كتاب "التعبير"، ولم يذكره في باب بدء الوحي أوَّل الكتاب مثلاً، وذلك لفائدة هامَّة جدًّا، سنذكرها بعد قليل، وهي الفائدة والردُّ القاطِع على هذا البلاغ وهذه الزيادة الضَّعيفة!



خامسًا: وهل فتر الوحيُ - يعني: انقطع - بالفعل عن رسول الله بعد أن جاءه في غار حِراء؟

والجواب أن نعم، والدَّليل: رواية عائشة التي مَعنا، وجاء ذلك من مراسيل الشعبي أنَّ الوحي انقطع سنتين، وجاء في رواية ابن عباس في الطَّبقات، وسأذكرها ها هنا على الرغم أنَّ في إسنادها رواة متَّهمين، وهي رواية تالفة، لكنها تعتبر كشاهد "ضعيف" لبلاغ الزهري، وهي كما قال ابن سعد (1/ 94):

أخبرنا محمدُ بن عمر، قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي موسى، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان بن طريفٍ، عن ابن عبَّاسٍ: "أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا نزل عليه الوحيُ بحراء مكث أيَّامًا لا يرى جبريل، فحزن حُزنًا شديدًا حتى كان يغدُو إلى ثَبِيرٍ مرَّةً، وإلى حراء مرَّةً يُريدُ أن يُلقي نفسَه منه، فبينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كذلك عامدًا لبعض تلك الجبال إلى أن سمع صوتًا من السَّماء، فوقف رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صعقًا للصوت، ثمَّ رفع رأسَه، فإذا جبريلُ على كُرسيٍّ بين السَّماء والأرض مُتربِّعًا عليه، يقولُ: يا محمد، أنت رسولُ الله حقًّا، وأنا جبريلُ، قال: فانصرف رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد أقرَّ الله عينَه، وربط جأشه، ثمَّ تتابَع الوحيُ بعدُ وحَمِي".



وإبراهيم بن محمد هذا، أغلب أهل العلم بالحديث كذَّبوه أو تركوه، والعجب من الشَّافعي ولا يزال كيف وثَّقه؟ ومحمد بن عمر الواقدي، متَّهم أيضًا، لكن على أي حال تبقى هذه الرواية شاهدًا لبلاغ الزهري، وذلك تنزُّلاً، وإنما سُقت لفظَها ها هنا لحكمة سأذكرها بعد قليل.



وهناك شاهدٌ آخر لهذه القصة ذكره الطبري في تاريخه (1/ 532) ولكنَّه تالف الإسناد والمتن.



والشاهد من هذا كلِّه أنَّ الوحي انقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن جاءه بحراء.. لكن ماذا حدث في فترة الانقطاع هذه؟ وهذا:

سادسًا: هل بالفعل همَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقتل نفسه؟

والجواب أن لا، وحاشاه صلَّى الله عليه وآله ومن والاه، وها هنا نذكر الردَّ القاطع، والقولَ الفصل، في هذه القضيَّة، فنقول ومن الله التوفيق والمدد:

1 - لم يهمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك قط، ولم يَثبت ذلك في رواية قطُّ، ومجرد ذِكر هذه الرواية "المرسلة" في الصحيح لا يعني أنَّها صحيحة؛ وذلك لأنَّ البخاريَّ اكتفى بكون الراوي صرَّح أنَّها بلاغ، ولو لم يصرِّح لبيَّن البخاريُّ ضعفَها كما فعل ذلك في مواضع من صحيحه، فعلى سبيل المثال قال في حديث شُعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: اشتريتُ بريرة، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((اشترِيها فإنَّ الولاء لمن أعتق))، وأُهدي لها شاةٌ، فقال: ((هو لها صدقةٌ، ولنا هديَّةٌ))، قال الحكمُ: وكان زوجُها حُرًّا، وقولُ الحكم: مُرسلٌ، وقال ابن عبَّاسٍ: رأيتُه عبدًا، انتهى؛ فبيَّن البخاريُّ أنَّ قول الحكم في مُغيث زوج بريرة: إنَّه كان حرًّا وليس عبدًا، أنَّه مُرسل، والصحيح قول ابن عباس المسند: إنَّه كان عبدًا، فلا يُعارِض قول الحكم "المرسل" مثل قول ابن عباس "الصحيح".



2 - فإن قلتَ: فلماذا لم يشِر البخاريُّ لذلك في هذه القصَّة؟ قلنا: بل أشار وفَعل، لكن كما ذكرنا في المقال الأول من هذه السلسلة أنَّ صحيح البخاري لا يصح أن يَخوض فيه إلاَّ الكبار من أهل العلم، ليس الصغار حتى؛ لأنَّهم لا يعرفون فنونَ أو منهج تصنيفه لصحيحه، وكيف رتَّب أحاديثَه، بل وكيف رتَّب المكرَّر من الأحاديث "كما معنا هذا الحديث" في صحيحه، فكيف أشار البخاريُّ إلى ذلك إذًا؟



3 - والجواب: حين أراد البخاريُّ الكلام على فتور الوحي في أول صحيحه، حديث رقم (4) جاء برواية عائشة التي معنا، لكن من طريق اللَّيث، عن عقيلٍ، عن ابن شهابٍ، عن عُروة بن الزُّبير، عن عائشة، والتي آخرها: "وإن يُدرِكني يومُك أنصُرك نصرًا مُؤزَّرًا، ثمَّ لم يَنشب ورقةُ أن تُوُفِّي، وفتر الوحيُ"، ثمَّ ذَكر هذا العبقريُّ روايةَ الفتور الصحيحة والتي لا يوجد أصحُّ منها، وهي من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسِه عن هذه الفترة، فقال البخاريُّ:

4 - ".... ثمَّ لم يَنشب ورقةُ أن تُوُفِّي وفتر الوحيُ"، قال ابن شهابٍ: وأخبرني أبُو سلمة بن عبدالرحمن، أنَّ جابر بن عبدالله الأنصاري، قال وهو يُحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: بينا أنا أمشي إذ سمعتُ صوتًا من السَّماء فرفعتُ بصري، فإذا الملَكُ الذي جاءني بحراء جالسٌ على كُرسيٍّ بين السَّماء والأرض، فرُعبتُ منه، فرجعتُ فقُلتُ: زمِّلُوني، فأنزل الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2]، فحميَ الوحيُ وتتابع، تابعه عبدالله بن يُوسُف، وأبو صالحٍ، وتابعه هلالُ بن ردَّادٍ، عن الزُّهري، وقال يُونُسُ، ومَعمر: بوادرُه.



5 - فانظر رحمك الله إلى هذه العبقريَّة في الأداء، أتى البخاريُّ برواية جابر الصحيحة في نفس مقامِ ومكان زيادة الزُّهري الضعيفة في رواية مَعمر التي هي محلُّ بحثنا، وكأنَّ البخاريَّ يقول: "بعد أن فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى جبريلَ بين السماء والأرض وهو يمشي"، ولم يهمَّ بإلقاء نفسه من فوق الجبال، فرأى جبريلَ أمامه فرجع عن فِكرة الانتحار، ولا يصح ذلك أبدًا؛ لأنَّ سياق رواية جابر يؤكِّد خلافَ ذلك تمامًا؛ إذ إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجع من رؤيته خائفًا من هول ما رأى، لا أنَّه كان يشتاق إليه فيذهب ليرمي بنفسه من شَواهق الجبال!



والعقل يؤيِّد هذا، فما حدَث له في حراء كان ثقيلاً شديدًا، خاف على نفسه صلى الله عليه وسلم أن يكون به جُنون، ثمَّ لما مرَّت فترة، وحدَث الأمر ثانية فرآه جالسًا على كرسيٍّ بين السماء والأرض، خاف ثانية، وهذه طَبيعة النفس السويَّة السليمة، تخاف ما تَجهل ولا تألفه، حتى تعتاد عليه مرَّة بعد مرة، لا أن تألَف مثل هذه الخوارق من أوَّل وَهلة، ثمَّ تشتاق إليها! ثمَّ تريد أن تموت من أجل أن تراها ثانية!



هذا نادر، والغالب خلافه..



المهمُّ.. أنَّ هذه اللَّطيفة في ترتيب الروايات خفيَت على كثير ممَّن أجاب عن رواية مَعمر، ولم يتعرَّض لها، وأنا أتبجَّح بذلك أن أكون أوَّل من أشار إليها، إلاَّ رجلاً لا أعرفه، فللَّه الحمد على مَنِّه وفضله وكرمه.



واللَّطيفة الثانية، والجواب عن ذِكري لرواية ابن سعد في طبقاته، وهي قصة ابن عباس رضي الله عنهما التي ذكرتُها آنفًا، هي أنَّ هذه القصَّة ذَكرَت أيضًا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريلَ على كرسيٍّ بين السماء والأرض لمَّا أراد إلقاءَ نفسه، بينما رواية بلاغ الزُّهري لم تذكر ذلك؛ وهذا دليل على تخليط الرواة "الضُّعفاء" لقصَّة انقطاع الوحي وما حدث فيها، فلفَّقوا بين ما صحَّ منها؛ وهو أنَّ الوحي انقطع، وبين ما لم يصح؛ وهو أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم همَّ بإلقاء نفسه من الجبال، وبين ظهور جبريل على كرسيٍّ بين السماء والأرض، وبين مجرَّد ظهوره لرسول الله صلى الله عليه وسلم من دون ذكر حاله!



ولم يَضبط رواية الفتور وما حدث فيها إلاَّ جابرُ بن عبدالله رضي الله عنه، كما أخرجها البخاريُّ، وكذلك أخرجها مسلم والترمذي وخَلْق، بل أكثر من ذلك.



رواية ابن عباس سالِفة الذِّكر موجودة أيضًا في الطبقات (1/ 93)، من طريق محمد بن عمر الواقدي، لكن ليست هذه المرَّة عن إبراهيم بن محمد، لكن عن طريق راوٍ آخر، اسمه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وهو ما بين مضعِّف له وموثِّق، لكنَّه على أي حال أوثَق وأحسن حالاً من إبراهيم بن محمد هذا، ونذكر الروايةَ ها هنا، لنبيِّن أنَّ الرواية الأخرى خطأ، ولم يَضبطها إبراهيم بن محمد، وضبطها ابنُ أبي حبيبة قريبًا من رواية جابر بن عبدالله، فقال في الطبقات:

أخبرنا محمدُ بن عمر، قال: حدَّثني إبراهيمُ بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحُصين، عن عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ، قال: فبينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وهو بأجيادٍ، إذ رأى ملَكًا واضعًا إحدى رجليه على الأُخرى في أُفُق السَّماء يصيحُ: يا محمد أنا جبريلُ، يا محمد أنا جبريلُ، فذُعر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وجعل يراه كُلَّما رفع رأسه إلى السَّماء، فرجع سريعًا إلى خديجة فأخبرها خبرَه، وقال: ((يا خديجةُ، والله ما أبغضتُ بُغض هذه الأصنام شيئًا قطُّ ولا الكُهَّان، وإنِّي لأخشى أن أكُون كاهنًا))، قالت: كلاَّ يا بن عمِّ لا تقُل ذلك؛ فإنَّ الله لا يفعلُ ذلك بك أبدًا؛ إنَّك لتصلُ الرَّحِم، وتصدُقُ الحديثَ، وتُؤدِّي الأمانة، وإنَّ خُلُقك لكريمٌ، ثمَّ انطلقَت إلى ورقة بن نوفلٍ - وهي أوَّلُ مرَّةٍ أتَته - فأخبرَته ما أخبرها به رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال ورقةُ: والله إنَّ ابن عمِّك لصادقٌ، وإنَّ هذا لبدءُ نبوَّةٍ، وإنَّه ليأتيه النَّاموسُ الأكبرُ، فمُريه أن لا يجعل في نفسه إلاَّ خيرًا".



وهذه الرواية جيدة، تشهد لرواية عائشة وروايةِ جابر، وتُشعر أنَّها ملفَّقة بين الروايتين، دليل على عدم حفظ الراوي، أمَّا الزهري، أستاذ الرواية وشيخ الحفَّاظ، ففصل قصَّة عائشة عن قصة جابر، كما بيَّن البخاريُّ، فسياق كلٍّ منهما مرتبط بالآخر ارتباطًا مسلسلاً، أوَّله نزول الوحي في الغار ابتداء، ثمَّ ذهاب النبيِّ إلى ورقة، ثمَّ فتور الوحي، ثمَّ رؤية جبريل ثانية بين السماء والأرض، ثمَّ تتابع الوحي بعد ذلك..



الشاهد أنَّ هذه الرواية لابن عباس تُعتبر شاهدًا جيدًا لرواية جابر، وهذا يقوِّي قصَّة جابر "مع أنَّها وحدها كافية"، لكن هذه الرواية تقضي على بلاغ الزُّهري هذا تمامًا، وتبيِّن مدى وَهنه، وأنَّه غالبًا ممَّا تحدَّث به الناس وتناقلوه كالقصص فيما بينهم، وليس له أصلٌ صحيح، كما يفعل الناس في هذا الزَّمان وفي كلِّ وقت، يكون للبعض خيالٌ خصب، أو غرَض خبيث، يختلِق له رواية، وينشرها، فتنتشر، والعجب من الزُّهري كيف يبلغها، مع أنَّه رَوى ما هو أصح منها؟



والعجَب أيضًا من مَعمر، لماذا ذَكرها عن الزهري، مع أنَّه روى عن الزهري قصَّة جابر أيضًا كما في البخاري (4925)؟!



لكنْ هذه نفوسٌ بشريَّة تخطئ وتصيب..



ولا يزال الأنبياء عامَّة، ومحمَّد صلى الله عليه وسلم خاصَّة، في مكانتهم الرفيعة، التي تعلو فوق مقام ارتكاب الكبائر واقترافِ الآثام، ولا يزال معتقدُنا في نبيِّنا صلوات ربِّي وسلامه عليه أنَّه أعقل البشر، وخير البريَّة، وما كان ليفكِّر في قتل نفسه، صلَّى الله عليه، كيف ذلك وهو القائل كما في الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((مَن تردَّى من جَبلٍ فقتل نفسَه، فهو في نار جهنَّم يتردَّى فيه خالدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا، ومن تحسَّى سُمًّا فقتل نفسه، فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنَّم خالدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا، ومن قتَل نفسه بحديدةٍ، فحديدتُه في يده يجأُ بها في بطنه في نار جهنَّم خالدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا))؟



هذا ما قاله، فهل يُعقل أن يروي ذلك وقد أَقدم في يوم على أن يفعل ما نَهى عنه؟!



وختامًا:

أمَّا انتقاد البخاري في إخراجه هذه "اللَّفظة أو الزيادة"، فينبغي أن يكون على سبيل لوم المحبِّ، لا على سبيل النَّقض والسبِّ، فالبخاري كان يمكن أن يُعرض عن هذه الزيادة كما فعل في مواضع من صحيحه، لكننا أجبنا عن إخراجه لها، وإعراضه عنها في قصَّة بدء الوحي، وأحسن إجابة عن إخراج البخاري لهذه اللَّفظة، هي بيانه أنَّها "بلاغ" من الزهري، وليسَت متَّصلة، حتى لا يأتي أحد بعد ويجعلها قصَّة واحدة، وهو ما فعله بالفعل بعضُ الرواة، كما فعل ابن حبَّان في ثِقاته (1/ 23)، فأخرج القصَّة دون قوله: "فيما بلغنا"، وكأنَّها قصَّة واحدة من رواية الزهري عن عروة عن عائشة متَّصلة صحيحة، وهي ليست كذلك، فظهرَت ها هنا فائدة إخراج البخاري لما صحَّ ولما لم يصح من هذه القصَّة، كما أسلفنا، ولله الحمد والمنَّة.




وأما إجابة بعض الشرَّاح والفضلاء عن روايةِ همِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ هذا من أجل حزنه الشديد واشتياقه، وأنَّ هذا أمر طبيعي في النفس البشرية، فأجوبة غير سديدة، ولا منطقية، وكان الأولى بهم الإعراض عن الرواية بالكليَّة مع بيان ضَعفها، والاكتفاء بما صحَّ منها، لكن غفر الله لنا ولهم، فهم ما فعلوا ذلك إلاَّ تنزُّلاً في الجدال، والإجابة عن احتمالية الثبوت، وغيرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.



هذا، ونسأل اللهَ أن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمَنا، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 01-10-2021, 06:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ليس دفاعا عن البخاري


ليس دفاعا عن البخاري (6)
محمود بن أحمد أبو مسلّم


حديث سحر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم

(وكيف يسحر النبيّ وهل أثر ذلك على الوحي؟)


أخرج البخاري في كتاب الطب، باب: السحر عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا.

ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ: أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟


فَقَالَ: مَطْبُوبٌ.
قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟
قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ.
قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟
قَالَ: فِي مُشْطٍ، وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ.
قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟
قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ.

فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ.

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا اسْتَخْرَجْتَهُ.

قَالَ: قَدْ عَافَانِي اللَّهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا، فَأَمَرَ بِهَا، فَدُفِنَتْ ".

أخرج البخاري الحديث في عدة مواطن من صحيحه، وكالعادة، لم ينفرد البخاري بإخراج هذا الحديث وحده، وأخرجه مسلم وابن ماجة وأحمد، وهو مخرج في أكثر من عشرين مصنفا من كتب السنة، وأخرجه النسائي من حديث زيد بن أرقم.

ولبيد بن الأعصم هذا قيل هو يهودي وقيل بل هو حليف لليهود، ساحر، سحر للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأمر من كبراء اليهود كما جاء في بعض الروايات المرسلة، وكان ذلك بعد صلح الحديبية.


ماذا أفادت القصة وما هي الحكاية؟
1- القصة؛ أن اليهود ما زالوا يحاولون إيذاء وقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بعدما فشلوا في محاولة اغتياله أول هجرته للمدينة، كما روي ذلك كسبب من أسباب غزوة بني النضير. فذهبوا إلى لبيد بن الأعصم بعد صلح الحديبية ليسحر لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن سحرهم له لم يؤثر فيه، وهذه رواية محمد بن عمر الواقدي، رواها ابن سعد في طبقاته.

وبغض النظر عن صحتها، فالثابت أن لبيدًا هذا كان يهوديًا أو حليفًا لهم، وسلّطه يهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

2- فعمل له سحرًا من بقية شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مشط تسريح الشعر المعروف، وعقد على المشط عُقدًا كما جاء في رواية الواقدي، ثم وضعها في طلح نخلة ذكر جاف، وهو يشبه الوعاء ودفنه في بئر اسمها ذروان.


3- كيف أثّر السحر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
كما جاء في الروايات، أن السحر أثر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من جهة واحدة، أنه كان يخيل إليه أنه يأتي نساءه لكنه لم يفعل، وهذا فقط كان أثر السحر على رسول الله، مجرد التخييل. وجاء في بعض الروايات المرسلة "حتى كاد ينكر بصره" يعني أن السحر قد أثر على رؤية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.


4- وكيف كان العلاج؟
دعا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ربّه كثيرًا، كما قالت عائشة " لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا" حتى أتاه ملكان، وفي رواية زيد بن أرقم أن الذي أتاه هو جبريل عليه السلام، فيمكن الجمع بين روايته ورواية عائشة رضي الله عنها أن جبريل كان أحد الملكين. والله أعلم.

«ثم قعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجله»؛ ويؤخذ من هذا أدب عيادة المريض، إن لم يكن يؤذيه أن تجلس عند قدمه أو رأسه لتكون قريبًا منه وتتحدث بصوت منخفض فيسمع كلامك، أو لترقيه رقية ينفعه الله بها. وقد صحَّ من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا عاد مريضًا جلس عند رأسه... ؛ رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني.

قال أحدهما للآخر: مما يشتكي؟
فأجاب الآخر: مسحور.

فسأله: من سحره؟

قال: لبيد بن الأعصم.

فسأل: سحره بأي شيء؟
فقال: فقال في مشط به من شعر رأسه، موضوعة في طلح نخل ذكر، مدفونة في بئر ذروان.

فاستجاب الله عزّ وجلّ لنبيه، وشفاه بدعائه إياه، وهذه من كرامات الدعاء وأعظم أسباب علاج السحر، الدعاء والإلحاح فيه. وكذلك الرقية بالقوافل (قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس، قل هو الله أحد، وقل أيها الكافرون) وآية الكرسي، وأواخر سورة البقرة، والقرآن كلّه شفاء.


5- هل استخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السحر؟
الظاهر أن نعم، وقد ذكر ابن حجر في الفتح أن في رواية ابن عباس لهذه القصة أنه ذكر أنهم استخرجوه فكان فيه وترا فيه عقد، فيبدو والله أعلم، أنه لما أخرجها صلّى الله عليه وسلّم ونظر إلى ما فيها عاد ودفنها مع البئر التي كانت فيها، وذلك حتى لا يثور الناس من رؤيته فيؤدي إلى فتنة قد تقع بين المسلمين وأهل النفاق، وكان لبيد هذا قد أظهر الإسلام، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم محافظا على نسيج المجتمع المسلم، مع علمه أن فيه المنافقين، ولكنه كان يتركهم حتى لا يصد الناس عن الإسلام، ويقولون إن محمدا يقتل أصحابه. ويؤيد أنه أخرجه أيضا رواية زيد بن أرقم وفيها " فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَاسْتَخْرَجُوهَا فَجِيءَ بِهَا".

وبهذا نجمع بين الروايات كلها، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذهب إلى البئر مع أصحابه، فاستخرج السحر فرأى ما فيه، ثم عاد فدفنها مع البئر، والحمد لله رب العالمين.


وهل كان ذلك من أسباب الشفاء أو لا؟
الظاهر لا، وهذه من الفوائد الجليلة، أن السحر لا ينبغي استخراجه ومعرفة مكانه للشفاء منه، فلو اتكل المسحور على ربّه وأحسن التوكل واللجوء والرقية، لأذهب الله عنه ما هو فيه، وربما لو ضعف عن ذلك استعان على ذلك بالبحث عن السحر، وإن كان ذلك غالبا لا يتم إلا بطرق غير مشروعة كالاستعانة بالجان، أو عن طريق ساحر آخر. والأمر فيه تفصيل ليس هذا موضع بحثه. لكن خلاصة الكلام أن العلاج من السحر ليس من شروطه استخراج السحر ومعرفة مكانه والله أعلم.


6- وماذا فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلبيد؟
لم يقتله، ولم يتعرض له.

لماذا؟
لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يحكم في الناس بعلمه فيهم، ولكن بالبينة الواضحة للناس جميعا. وهذا أصل عظيم في القضاء، أن القاضي لا يحكم في القضية بعلمه فيها، أي علمه الباطن وحسّه وشعوره الداخلي الحقيقي، حتى لو كان متأكدا بنسبة مئة بالمئة، فلا يجوز له أن يحكم على أحد إلا ببينة أو اعتراف أو شهود كما هو مقرر في موضعه.

ولذلك أيضا، لم يحكم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على المرأة الملاعنة لزوجها في حديث الصحيح، حديث سهل بن سعد، بما يعلم فيها فإنه قال " إِنْ جَاءَتْ بِهِ (يعني إن ولدت ابنها) أَحْمَرَ قَصِيرًا كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلَا أُرَاهَا إِلَّا قَدْ صَدَقَتْ وَكَذَبَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ فَلَا أُرَاهُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْ ذَلِكَ ". أي كانت زانية، لكن من غير بينة، وقد لاعنت زوجها كما أمر القرآن، فانتهى الأمر عند ذلك.

أما عن حكم الساحر هل يقتل أو لا؟ فخلاف بين أهل العلم، ولعل قول الشافعي وتفصيله هو الأحسن إذ قال: "إِنَّمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ إِذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي سِحْرِهِ مَا يَبْلُغُ بِهِ الْكُفْرَ، فَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا دُونَ الْكُفْرِ، فَلَمْ نَرَ عَلَيْهِ قَتْلًا". انتهى. وفي المسألة تفصيل أكثر من ذلك.


يبقى السؤال هل يجوز لنبيّ أن يُسحر؟ وألا يؤثر ذلك على الوحي؟
1- أولا ما هي حقيقة السحر، السحر حق، وهو علم أنزله الله فتنة للناس لقوله تعالى ﴿ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ [البقرة: 102]، فلذلك هو يؤثر في الناس كما أخبر الله ﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾ [البقرة: 102]، ومنه ما يمرض الناس، ومنه ما يقتل الناس. وكل ذلك بإذن الله.

2- إذا فالسحر سبب من الأسباب، ربما أثر في المؤمن والفاجر على حد سواء، وربما أثّر في الأنبياء، كما خيل لموسى عليه السلام سحر سحرة فرعون، أن الحبال والعصي تحولت إلى أفاعي، وهذا يسمى سحر التخييل، وهذا بعض ما حدث للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع نسائه، أنه كان يخيل إليه أنه صنع الشيء ولم يصنعه.

3- ولقد مرض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأثر فيه السم، وكسرت أسنانه، وشجت رأسه، وهو النبيّ الحق الصادق المصدوق، فإن لم تجوّز عليه أن يصيبه السحر، فلا ينبغي أن تجوّز عليه أن يمرض أو يجرح، أو ينسى، أو يحزن، أو يبكي، أو يتألم.. الخ!

4- والأصل في ذلك كلّه هو قول الله تعالى ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴾، وقال صلّى الله عليه وسلّم "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي"، فهو بشر بأبي هو وأمي يسري عليه قوانين البشرية كلّها دون استثناء. ولكنه الكامل المكمل في بشريته، والمعصوم من الخطأ والزلل والمعتصم الحق بالله وحده.

5- يبقى أمران:
الأول، كيف أثر السحر في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ وإلى أي مدى؟
الثاني، كيف تعامل معه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟

6- أما الأمر الأول، فلم يتجاوز الأثر في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما جاءت الروايات أنه كان يخيل إليه أنه يأتي نساءه ولا يأتيهن، أي الجماع، وهو السحر الذي يأخذ الرجل عن امرأته، لم يتجاوز الأمر ذلك، فلم يذهب السحر بعقله أو أثّر على تصرفاته، ليفعل أمورا لا يريدها مثلا، أو أنه كان لا يدري ما يقول كما يفتري عليه المفترون، مما لم تأت به أي رواية، بل هو مجرد افتراء محض.

بل كان عليه الصلاة والسلام يقضي يومه مثل سائر الأيام، يصلي ويصوم ويقضي بين الناس ويوحى إليه، بدليل أن الملكان جاءاه وأخبراه بعلته بعد أن دعا الله عزّ وجلّ كثيرا، فلو كان السحر مؤثرا على الوحي ما أتاه الملكان أصلا، وما أوحي إليه بالسحر ومن سحره.

يعني أن الأمر كان عارضا، كعرض المرض بالضبط، فتسأل الله الدعاء، وتطلب الدواء لتشفى، بل إن من الأمراض ما يأخذ بالعقل كالحمى وغيرها، وليس هذا ما حدث لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

فكان العارض خاص بإتيان أهله صلّى الله عليه وسلّم، لم يتجاوز ذلك إلى عقل أو وحي، ومن ادّعى ذلك فعليه البينة، ولله الحمد.

7- الأمر الثاني، وهو كيف كان تعامل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع الأمر، وهذا هام جدا من وجهين:
الأول، أن هذا دليل أن السحر يؤثّر في المؤمن القوي والضعيف، وغير صحيح ما يشاع أن السحر لا يؤثر إلا فيمن كان إيمانه ضعيف.

الثاني، الفارق بين الناس في التعامل مع السحر هو الإيمان، فالمؤمن لا يترك نفسه هملا، ولا يستسلم لأعراض السحر بل يقاومها بقوة، بالدعاء والصلاة والذكر واللجوء إلى الله حتى يصرف الله عنه ما هو فيه.

وهذا عين ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان الهدي في التعامل مع السحر اللجوء إلى الله بالدعاء الكثير مع المواظبة على فروض الله، حتى يأذن الله بصرف السحر عنك، وكما قدّمنا، ليس شرطا استخراج السحر والبحث عنه.


8- كيف نجمع إذا بين ذلك وبين قول الله تعالى ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67]؟
قال ربنا سبحانه ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67]، هذا أيضا مما يأخذونه على هذا الحديث، وهو من جهل الاستدلال بالآيات بما ليس مكانه ولا موضعه، فالعصمة ههنا باتفاق أهل التفسير، وبما هو واضح من الآيات، عصمة من الصد عن إبلاغ رسالة الله، وليس عصمة من الأمراض والأوجاع والهم والغم.. الخ، ومن بينها أن يؤذى بالسحر، وكلّ ذلك لا يؤثر، ولم يؤثر على بلاغ الرسالة، وإلا لبعث الله ملكا رسولا.

بل إنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعلّم أمته ويبين لها الهدى حتى وهو مريض ومتوعك، وهذا مشهور في الأحاديث الصحيحة، ولولا ضيق المقام لذكرنا بعضها، وحتى لما سحر كان في بيانه للأمر وعلاجه إياه أحسن الهدي في التعامل مع هذه الأمور، كما ذكرنا من تكراراه للدعاء، ودفن السحر، وعدم تعرضه للساحر مع علمه إياه، وغير ذلك من السنن.

فهذا التعهد من الله لرسوله، حتى لا يتعرض أحد له عند إبلاغ رسالته، نعم، قد يضايقه البعض، ويؤذيه، وقد يمرض، ويجرح، لكن لن يكون هذا على حساب بلاغ الرسالة، لذلك لم يفلح أحد في قتله عليه الصلاة والسلام، لماذا؟ لأن الله عزّ وجلّ تعهد بعصمته حتى يبلغ رسالته، فلو قتل عليه الصلاة والسلام دون أن يبلغ كامل الرسالة، لقلنا حينئذ، نعم لكم كلّ الحق في الاستدلال بالآية.


أما وقد بلّغ عليه الصلاة والسلام كامل الرسالة ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، فقد صدق الله وعده رسوله، ولم يعد هناك حجة للمحتجين.

هذا وصلّ اللهم وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 152.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 148.68 كيلو بايت... تم توفير 4.23 كيلو بايت...بمعدل (2.77%)]