شعريّة المصطلح النحوي في رسالة للرافعي - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12522 - عددالزوار : 213550 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          متعة الإجازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          التقوى وأركانها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النحو وأصوله

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23-06-2021, 03:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي شعريّة المصطلح النحوي في رسالة للرافعي

شعريّة المصطلح النحوي في رسالة للرافعي


د. أحمد عادل عبدالمولى








يأبَى الفنَّان إلاَّ أن ينظرَ إلى كل ما حوله بعين رمزيَّة، فتَستحيل معارفه وخِبراته عناصرَ لبناء عالمه الإبداعي الرَّمزي، حتى يصلَ به الحدُّ إلى إدخال المصطلحات العلميَّة في دائرة الشِّعريَّة، بالرغم مِن طبيعتها الجافَّة؛ إذ إنَّها لا تحتمِل في أساس وضعها المعانيَ الثواني.

والغرَض مِن هذا المقال النقدي هو دِراسة توظيف المصطلحات النحويَّة في إنتاج الدَّلالة الأدبيَّة، كما تجلَّى ذلك عندَ مصطفى صادق الرافعي في رسالته "في العتاب"[1] التي ضمنها كتابه: "أوراق الورد رسائلها ورسائله".

والمقصود بالمصطلح النَّحْوي: هو ما اشتملتْ عليه الرِّسالة مِن اصطلاحات نحويَّة أو صرفيَّة، وإيثار استخدام المصطلح النحْوي جاء مِن باب التغليب فقط - كما سنرى.

و"أوراق الورد" - كما يقول الأستاذ محمد سعيد العريان مُصدِّر الكتاب -: "هو طائفة مِن الخواطر المنثورة في فلسفةِ الجمال والحب، أنشأه الرافعي ليصفَ حالة مِن حالاته، ويثبت تاريخًا مِن تاريخه في فترة من العُمر لم يكن يرى لنفسه مِن قبلها تاريخًا ولا مِن بعد...

إنَّ "أوراق الورد" منجَم من المعاني الذهبيَّة، لو عرفه المتأدِّبون مِن شبابنا، لوَضعوا يدهم على أثمن كَنز في العربية في معاني الحبِّ والجمال يكون لهم غذاءً ومادةً في الشِّعر والبيان"[2].

أمَّا رسالة "في العتاب"، فيقدِّم لها الرافعي نفسه فيقول:
"وكتَب إليها مرةً كتاب هوى، فتفتَّرت في الردِّ عليه، تريد أن يطولَ به الانتظار فيؤلمه، أو تُريد أن تَزيد به الشوق فيؤلمه، أو كأنَّها تطمعه بألاَّ تطمعه ليتألَّم"!!

فلمَّا انتهى فيه دلالها إلى الضجر، كتَب إليها هذه الرسالة يؤلمها بها، وجعلها على طريقةِ السجع التي كان يتراسَل بها، فُحول الكتاب في القرن الرابع للهجرة وما بعدَه؛ لأنَّها هي تكره هذه الطريقةَ وتجد لها ألَمًا في نفسها؛ ولذلك مضَى بها مسجوعةً إلى آخرها؛ ليبالغ في إيلامها والتهكُّم بها وبفلسفتها، وردَّتْ في الرسائل بكلِّ ذلك إرادته على إرادتها".

وكما يتَّضح مِن كلام الرافعي في هذا التقديم أنه بنَى رسالته على السَّجع، وهو ما شكَّل الإطار الذي غلَّف الصياغة، ومِن ثَم كان له عميقُ الأثر في المتلقي بما يَهبه مِن إيقاع موسيقيٍّ مُؤازر للدَّلالة.

وإذا كان ذلك هو حال الإطار الذي اعتمدَه الرافعي، فإنَّ من أهمِّ السمات الأسلوبية البارِزة في الرسالة: اعتمادَه التناص القرآني، وتوظيفَ المصطلحات العلميَّة توظيفًا فنيًّا.

أمَّا الظاهرة الأولى، فقد أشبعتْها دراساتٌ كثيرة لإبداع الرافعي؛ وذلك بسبب كتاباته الإسلاميَّة المعروفة، ويَكفينا أن نُشير إلى ما ورَد في الرسالة من تناصٍّ قرآني، وذلك في فِقرته التي يقول فيها:
"فسبحان مَن علَّم آدم الأسماء كلَّها لينطق بها، وعلَّمكِ أنتِ مِن دون أبنائه وبناته السكوت، والسلام عليكِ في أزلية جفائِك التي لا تَنتهي، أمَّا أنا فالسلام عليَّ يومَ وُلدت ويومَ أموت!".

وأمَّا الظاهرة الثانيَّة، فاللافت أنَّه قام بتوظيف المصطلح الهندسيِّ، وكذلك المصطلح النحْويّ - وهو موضوع المقال - فنيًّا؛ للإسهام في خلْق المعنى الأدبي.

وهو حين قامَ بتوظيف المصطلح الهندسي، وظَّفه في فِقرة واحدة فحسبُ، أما المصطلح النحوي فقدِ اتَّسع نطاقه كما سنرى.

وقبل الولوجِ في دِراسة توظيفه للمصطلح النحوي، نُورِد فِقرته التي استثمر فيها معرفتَه بالمصطلح الهندسي، يخاطِب الرافعي محبوبَته:
"فإنْ كان قلبك يا سيدتي قلبًا غير القلوب، فما نحن شيئًا غير الناس، وإنْ كنتِ (هندسة) وحدها في (بناء) الحب، فما خُلِقتْ أعمارنا في (هندستك) (للقياس)، وهبي قلبك خُلِق (مربَّعًا) أفلا يسعُنا (ضِلع) من (أضلاعه)؟ أو (مُدوَّرًا) أفلا يُمسكنا (محيطه) في (نقطة) من (انخفاضه) أو (ارتفاعه)؟ وهبيه (مُثَلَّثًا) فاجعلينا منه بقيةً في (الزاوية)، أو (مستطيلاً)، فدَعينا نمتدّ معه ولو إلى (ناحية)!".

وإذا كان حظُّ التناص القرآني وتوظيف المصطلح الهندسي فقرة واحدة لكلٍّ منهما كما سبَق القول، فإنَّ الاصطلاح النحوي امتدَّ في نِصف فقرات الرسالة تقريبًا، فالرسالة تحتوي على سَبعمائة كلمة تقريبًا كُتبتْ في عَشر فقرات، خمس منها وردتْ فيه الاصطلاحات النحويَّة والصرفيَّة.

وقد بلغتِ الكلمات التي تدخُل دائرة الاصطلاح النَّحْوي والصَّرْفي في الرِّسالة ثلاثَ عشرةَ كلمةً، هي:
(حركة - تحرَّكتِ - مبني على السُّكون - نبنيه - سكنتِ - لا محلَّ له مِن الإعراب - خبر كان - خبر إنَّه - مفرد - مثنى بألف ونون - صرف - نحو - التصغير).

وهذا ما يُمكن أن نقولَ عن وروده: إنَّه ما ورَد بالفعل، حيث إنَّ هناك ما ورد بالقوَّة، كاستحضار صِيغة الاستفهام في توظيفِه لدالَّي (السؤال) و(الجواب)، وكذلك صيغة الضمير في توظيفِه للضميرين (أنا) و(أنت).

ففي الفِقرة الرابعة مِن الرسالة، يقول الخطاب:
"ما هذا يا سيدتي؟ وليس خيط عمري في إِبرتكِ، ولا ما يتمزَّق من أيامي تصلحه ماكينةُ الخياطة بقُدرتكِ، وإن كنتُ أنا أقلَّ من (أنا)، فلستِ أنتِ بأكثرَ من (أنتِ)، وما علمنا أنكِ مع القدر تحرَّكتِ، ولا مع القدَر سكنتِ!"


وإذ تبدأ الصياغةُ بالاستفهام الإنكاري: ما هذا يا سيِّدتي؟ تُتبع ذلك بإيلاجِ (العمر والأيام) في سِياق الحياكة، مستخدمة دوال: (خيط - إبرة - يتمزق - ماكينة الخياطة)، فالإبداع يحيل (العمر) و(الأيام) مِن طبيعتهما المعنويَّة الصرفة إلى طبيعة ماديَّة بفِعل التشبيه في (خيط عمري)، والاستعارة المكنيَّة في (يتمزق مِن أيامي)، كاشفًا بذلك عن رفْض الكاتب لسيطرة العناصر الماديَّة الصغيرة لدَى المرأة على معنويَّات الكاتب الكبيرة المتمثلة في عمره وأيَّامه.

ثم تبدأ الصياغة في استحضارِ الاصطلاحات النحويَّة، وذلك عبرَ توظيف صيغة (الضمير) بالقوة، مِن خلال الضميرين (أنا وأنتِ)، وكذلك ثنائية (الحركة والسكون) مِن خلال الفِعلين (تحرَّكتِ وسكنتِ)، واستثمار المعلومة النحْوية التي تقول بأنَّ حركة الكسرة في الضمير (أنتِ) هي حركة بناء، وليستْ حركة إعراب - استثمارها في بناء صورة تهكميَّة لهذه المرأة تتمثَّل في عدم وضوح موقفها، فلا هي تحرَّكت؛ إذ إنَّ حركتها هنا للبناء فحسبُ، ولا هي سكَنت أيضًا.

وهذه المفارَقة بيْن الحركة والسكون تأخُذ شكلاً أكثرَ صراحة، حين يقول الخطاب:
"ما بال كتابنا يمضي (سؤالاً) مِن القلب فيبقى عندَك بلا (جواب)، و(نبنيه) نحن على (حركة) قلوبِنا، فتجعلينه أنتِ (مبنيًّا على السكون)، ثم (لا محلَّ له من الإعراب)؟".


فالجليُّ في هذه الفقرة اعتمادُها على العلاقة بين ثنائيَّة (السؤال والجواب) التي تَستحضر بالقوَّة صيغةَ الاستفهام النحويَّة، وثنائيَّة (الحركة والسكون) الإعرابيَّة، فبينما تبدو العلاقة الأولى في الثنائية الأولى ترابطيَّة؛ حيث إنَّه لا بدَّ للسؤال من جواب، تأتي العلاقة في الثنائيَّة الثانية جدليَّة.

وتتجلَّى المفارقة بين حال المرسِل والمرسَلة إليها في صدورِ السؤال من قلب الأوَّل، وبقائه عندَ الأخيرة بنفيِ الجواب، وفي ذلك قطْعٌ لأواصر العلاقة الترابطيَّة بيْن السؤال والجواب، وهو ما يأخُذ بعدًا رامزًا إلى توتُّر العلاقة بيْن طرفي الرِّسالة.

كما يكشف توظيفُ اصطلاحَي (البناء والحركة) في جملة (نبنيه نحن على حركة قلوبِنا) عنِ الثبات العاطفيِّ لدَى الكاتب المفعَم بالحيويَّة، فهو بناء، لكنه بناء على (حركة)، عملتِ الصياغة على إضافتها لكلمة (قلوبنا)؛ لتفرِّغها من مضمونها الاصطلاحي النَّحْوي، وتشحنها بدَلالتها الغزليَّة الجديدة الطارئة، ثم تقابلها الصياغة بمصطلح نحويٍّ آخَر تعمل على تفريغه مِن محتواه أيضًا، وهو مصطلح (البناء على السكون)، كاشفة عن ردِّ فِعل المحبوبة السلبيِّ، وبذلك يغدو كتاب الكاتِب ذا طبيعة جدليَّة من جرَّاء المفارقة بين تصرُّف طرفي الرسالة، لكن لا يتوقَّف إمداد الاصطلاح النحوي في تصوير ردِّ فِعل المحبوبة عندَ هذا الحد، بل إنَّ توظيف اصطلاح (البناء على السكون) يؤازره اصطلاح (لا محل له من الإعراب)، الذي يبتعد عن مفهومِه النَّحْوي؛ ليلحقَ بالبلاغة كنايةً عن انعدام الفائدة والقِيمة.

ولتأكيدِ المفارقة الحاليَّة بيْن الكاتب ومحبوبته، تأتي المقابلةُ اللفظيَّة بين (خبر كان) و(خبر إن)؛ حيث يدلُّ الأوَّل على انتهاء الحدَث، بينما يَعني الثاني تأكيده، كما أنَّه لا يخفَى ما في الاستعمال الدارج لاصطلاح (خبر كان) مِن دَلالة على الضياع، يقول الخطاب:
"لقد هممتُ أن أعاقبَ القلم الذي كتبتُ به إليكِ فأحطِّم سِنَّه، وأجعله مِن ناحيتي في (خبر كان)؛ حتى لا يبقَى مِن ناحيتك في (خبر إنَّه)".


واللافت أنَّ المفارقة الناشِئة مِن المقابلة بين المصطلحَين النحويَّينِ، تدخل في مفارقة أُخرى منشؤها إثبات الأوَّل ونفْي الثاني؛ ممَّا يجعلنا بصددِ مفارقة مركَّبة.

وقد هيَّأ الخطاب لهذا الإثبات مِن مبتدأ الفِقرة بتأكيد أسلوبي بحرفين، حيث استهلَّها باللام الواقِعة في جواب قسَم مقدر، ثم أتبعها بحرف التحقيق (قد)، ثم يأتي الفِعل (هممت) باعتباره مِن مقاصد النفس؛ ليدلَّ على حدَّة الصراع في الداخل النفسي لدَى الذات الكاتبة بيْن أداء الفِعل والإحجام عنه، وتأتي الاستعارة المكنيَّة في (أعاقب القلم)، كاشفةً عن رمزيَّة هذا القلم، فهو يشكِّل نسقًا ثقافيًّا مهمًّا؛ باعتباره عنصرًا ملازمًا لكاتبه، فهو كالسِّلاح لدَى الجندي، ومعاقبته تَعني معاقبةً للنَّفْس الكاتبة، وتحطيم سِنِّه تحطيمٌ للرأس الذي فكَّر في الكتابة، وبذلك يغدو القلمُ رمزًا واضحًا للوجدان.

وتأتي الجملةُ الثانية مستهلَّة بواو العطف الرابِطة بين الجملتين، والفِعل (أجعله) الذي يَشي بالفرضيَّة والإرغام، وتتأكَّد المفارقة بين طرَفي الخطاب باختلافِ الضميرين في التركيبَين: (من ناحيتي - من ناحيتك)، فيكون القلمُ في الأول في حالةٍ مِن إثبات الفناء له، عبَّرت عنه الشعريَّة بالمصطلح النَّحْوي (خبر كان)، وفي الثاني في حالةٍ مِن نفي التأكيد الذي عبَّر عنه نفي الفعل (لا يَبقى) قبل المصطلح النحوي (خبر إنَّه).

وتتكشف رمزيَّة هذا الصِّراع الداخلي لدَى الكاتب أكثر في حواره مع قلمِه إذ يقول له:
"وقلت: كيف - ويحَك - سوَّدتَ وجه صحيفتي بما هو في سوادِه مداد مع المداد، وفي نفْسه سواد أقبح مِن السواد؟ فقال: وهل أنا في نَغمات حبِّك إلا "عود"، وهل صورتُ إلاَّ حركاتِ وجدِك مِن قيامٍ وقعود؟ وسلِ الدواة مَن أمدَّها، والصحيفة مَن أعدَّها، وسلْ أناملك كيف كانت تضغط عليَّ كأنها تُسلِّم على الحبيبة سلامًا، ولا تخطُّ إليها كلامًا، وسلْ نفسك كيف كانت في حركتي تضطرب، وقلبَك كيف كان مِن كلمة يبتعد ومِن كلمة يقترب؟".

ولعلَّه قد بات واضحًا أنَّ الرافعي في توظيفه للمصطلح النحوي فنيًّا يعتمد الثنائيَّات لإثباتِ المغايرة والمفارقة بينه وبيْن التي يُعاتبها، لكن هذه الثنائيَّات النحويَّة تتواشج مع ثنائيَّاتٍ أخرى تُثري الناتج الدلاليَّ من ناحية، ويبرز تفرد توظيف المصطلح النحويِّ وسطها مِن ناحية أخرى.

ومِن هذه الثنائيَّات النحْويَّة الممتزجة مع غيرها، ثنائيَّة (المفرد والمثني)، ثم ثنائيَّة (النحو والصرف) في آخِر فِقرة من الرِّسالة، وفيها يقول الخطاب:
"فما نعلم يا سيِّدتي وقد أحببناكِ، أَنعدُّكِ مِن ذنوب الزمان أم مِن أعذاره؟ وهل نأخُذك في الحبِّ مِن وقائعه أم في الجفاء مِن أخباره؟ فإن أبيتِ أن تكوني منَّا إلا كالسماءِ مِن أرضها، وأن نكون منك كالسُّنة مِن فرْضها، وأَبيتِ أنت، وأنتِ (مفرد) الحُسن إلا أن نعدَّكِ أنتِ وكبرياءك (مثنًّى بألف ونون)، وإلاَّ أن تكوني على غيرِ ما نُريده ثم لا نكون، إلاَّ كما أردتِ أن نكون، فإنْ خاطبناكِ قلنا: يا فلانتان... ويا أيتها الحبيبتان، ويا غضباوان، وراضيتان، وأنشدْنا في هواك: (وَلَوْ كَانَ هَمٌّ وَاحِدٌ ... وَلَكِنَّهُ هَمٌّ وَثَان...)، وإن أبيتِ إلاَّ ما نأبَى ولم ترضَيْ مع صِدقنا في حبِّك إلا كذبًا، قلنا لك بلغة اليأس منك: لشدّ ما أصاب الزَّمان فينا وأخطأ فليصبْ بك أو ليخطئ، وكثيرًا ما أعطانا الدَّهْر وأخذ، فلتكوني فيما يأخُذ أو يُعطي، ونقول مع الذِّكر والنسيان، وما عسَى أن ينقص العالَم بإنسانة أو إنسان، ومَن ظن (بصرفنا) عن نفسِه أنه كبير، جعلناه مِن (نحونا) في باب التصغير، ومثلنا لا يتكلَّم إلاَّ بفائدة ولا يسكُت إلا بفائدة، فإنْ أخطأنا معك في واحدةٍ أصلحنا واحِدة، وما أكثرَ ما يجد الكاتبُ إذا عزَّ عليه أن يعاتب، وفي ذَكائك لا محالة، بقيَّة الرسالة. ولعلَّنا ولعلَّكِ... والسلام!".

فالملاحَظ أنَّ الفقرة تعتمد عددًا من الثنائيَّات، منها ما يُفيد المغايرة كثنائيَّة (الذنوب والأعذار)، و(الوقائع والأخبار)، ومنها ما يُفيد المطابقة مثل: (السماء والأرض)، و(السُّنَّة والفرض)، و(ليصب وليخطئ - أصاب وأخطأ)، و(الصدق والكذب)، و(أعطى وأخذ - يأخُذ ويعطي)، و(الذِّكر والنِّسيان).

ولعلَّ في هذا الحشد مِن هذه الثنائيَّات ما هيَّأ لاستخدام المصطلح النَّحْوي بالطريقة نفْسها؛ إذ نجِد ثنائيَّة (المفرد والمثني) في قوله:
"وأبيتِ أنت، وأنتِ (مُفْرد) الحُسن إلا أن نعدَّكِ أنتِ وكبرياءَك (مثنًّى بألف ونون)."


وجليٌّ أنَّ الكاتب لجأ إلى إضافةِ كلمة (الحسن) إلى كلمة (مفرد)، وهي مصاحَبة لغويَّة أثيرة شعريًّا، تواتر استخدام الشعراء لها منذُ العصر العباسي، حيث قال ابن غليون الصوري:
يَا مُفْرَدَ الحُسْنِ إِنِّي مُفردٌ أَبَدًا
بِالسُّقْمِ فِيكَ وَبَاقِي النَّاسِ أَشْبَاهُ



وكذلك الوأواء الدمشقي:
تَرَى مِزْوَجَ الحُسْنِ فِي مُفْرَدٍ
جَلِيلُ الْمَحَاسِنِ فِيهِ دَقِيقُ



كما ورَد عند ابن نباتة مِن شعراء العصر المملوكي:
وَمُفْرَدُ الحُسْنِ تَعَشَّقْتُهُ
فَكَانَ حَتَّى مُفْرَدَ العَيْنِ[3]




ويبدو أنَّ هذه الإضافة هي التي مَنحتِ المصطلحَ صلاحيةَ استغلالِه فنيًّا في مقابل (المثنَّى) الذي اكتسب شرعيته البلاغيَّة من مصاحبة الكبرياء للذات، فصارت تثنيةً للذات مع صِفة مِن صفاته، وكأنَّ الكبرياء ذاتٌ أخرى ملحَقة بالذات الأصليَّة، وفي ذلك إمعانٌ في استنكار ذلك الكبرياء، ومبالَغة في حدِّه اكُتسبت مِن الفعل (أبيت) وحرْف الاستثناء (إلا)، وهو ما يَعني الرفض لكلِّ ما عدا تلك المصاحبة مع الكبرياء.

ويصِل الاستنكار إلى درجةِ السخرية اللاذعة، فيحوِّل الخطاب إلى المحبوبة المتكبرة إلى مثنًّى لُغويٍّ يخاطب بزيادة الألِف والنون، وهو ما يشكِّل ردَّ الفعل الغاضِب على تأبِّيها على معنَى الإفراد في الحُسن الذي أراده لها الكاتبُ العاشق، فيقول:
"فإن خاطبناك قلنا: يا فلانتان... ويا أيتها الحبيبتان، ويا غضباوان، وراضيتان، وأنشدنا في هواك: (وَلَوْ كَانَ هَمٌّ وَاحِدٌ... وَلَكِنَّهُ هَمٌّ وَثَان...)".


وتأتي الثنائيَّة الأخيرة بيْن مصطلحَي (الصرف والنحو) مكتسبةً شعريَّتها من المردود المعجميّ للدالَّيْن، فيقول الخطاب:
" ومَن ظنَّ (بصرفنا) عن نفسِه أنَّه كبير، جعلناه مِن (نحونا) في باب التصغير".


كما جاء مصطلح (التصغير) الصَّرفي مستغلاًّ أصله الوضعيَّ من الطباق بينه وبين (كبير)، وهو ما شكَّل المفارقةَ اللفظية في السِّياق، لكن اللافت أنَّه قد نجم عنها مفارقة موقفيَّة أوقع الكاتبُ محبوبتَه ضحيتَها بدلاً منه، وقد تأتَّى له ذلك أسلوبيًّا بوضع الفِعل (جعلناه) الذي يُفيد اليقينَ في مقابل الفِعل (ظنَّ) الذي يفيد الرُّجحان، ويعضِّد مِن ذلك أيضًا أنَّ الفعل (جعلناه) يمثِّل جوابَ الشرط الذي يردُّ على سابقِه (ظنَّ) فِعل الشرط، وهو ما يَعني انتصارًا للذاتِ على الآخَر، وهذا على اعتبار أنَّ (مَـنْ) هنا شرطيَّة لا موصولة.

ولعلَّ في ورود (ولعلَّنا ولعلَّك) قبل (السلام) في خِتام الرِّسالة استحضارًا لبنية الرجاء الأسلوبيَّة التي تُفيد التوقُّع، بَيْدَ أنَّه في غياب خبر (لعلَّ) - المعبَّر عنه كتابيًّا بنقاط الحذْف - ما يكسِر هذا التوقُّع دلاليًّا، وهو ما يَعني انقلاب الرجاء إلى تشكُّك قد يصِل إلى حدِّ فقدان الثِّقة في إصلاح العَلاقة المتصدِّعة بين طرفي الرِّسالة.

وبعد، فقدْ رأينا كيف يُمكن للمصطلح النَّحْوي أن يكتسبَ بُعدًا جديدًا باعتباره نمطًا أسلوبيًّا يُسهِم في إنتاج الدَّلالة الأدبيَّة فضلاً عن مدلولِه العِلميِّ الصِّرف؛ وذلك بتفريغ الشعريةِ المصطلحَ مِن محتواه التقعيديِّ، وشَحْنه بدلالات طارئة مناسِبة للسِّياق الإبداعيِّ، مستثمرةً في ذلك كلَّ أدواتِها مِن استغلالِ المردود المعجمي للدوالِّ الاصطلاحيَّة، وكذلك مصاحباتها اللُّغويَّة، وما وُظِّف منها شعريًّا، وما شكَّل ثنائيَّات المغايرة والمفارَقة في رِحاب النصِّ.


[1]- انظر الرسالة في: أوراق الورد رسائلها ورسائله، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م، (ص: 226 - 231).

[2] - السابق، (ص: 9 - 14).

[3] - راجع: الموسوعة الشعرية: المجمع الثقافي بأبو ظبي، الإصدار الثالث.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 71.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 69.88 كيلو بايت... تم توفير 1.89 كيلو بايت...بمعدل (2.63%)]