أين أنت من القرآن الكريم؟

[ابوالوليد المسلم]

أين أنت من القرآن الكريم؟



جُبير بن مُطعم يقول: كنت أطوف بالكعبة فإذا محمد يصلي فاختبأت خلف أستارها، فصرت أستمع إليه وهو يقرأ سورة الطور فسمعتها فكاد أن يطير قلبي، فما ملكت نفسي حتى أنهى قراءتها فجئت وأسلمت.


الإمام الطبري -رحمه الله-: «إني لأعجب ممن يقرأ القرآن ولم يعلم تأويله فكيف يلتذ بقراءته؟!»

من نعم الله تبارك وتعالى على الناس وعلى الجن أن أرسل الرسل مبشرين ومنذرين وأيد الله -تبارك وتعالى- رسله بالآيات التي نسميها المعجزات، هذه الآيات تدل على صدقهم وعلى أنهم مبعوثون من عند الله -تبارك وتعالى-، وهذه الآيات ذهبت بذهابهم وماتت بموتهم إلا آية واحدة أبقاها الله -تبارك وتعالى- إلى يومنا هذا، آية أيّد الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم مع كثير من الآيات، ولكنها كلها ذهبت وبقيت هذه الآية العظيمة الدالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، هذه الآية هي كتاب الله تبارك وتعالى.

هذا الكتاب الذي تعهد الله -جلّ وعلا- بحفظه وقال: {إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، هذه الآية التي قال الله تبارك وتعالى عنها: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}، هذه الآية هي كتاب الله - تبارك وتعالى-، الذي تحدى به الإنس والجن على أن يأتوا بقرآن مثله فقال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}، ثم تحداهم على أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا، ثم تحداهم على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، قال تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فائتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين}، وسلموا أمرهم لله تبارك وتعالى فكانوا يقرون أن هذا القرآن فوق مستوى البشر، وقال الله - تبارك وتعالى-،مبيناً ذلك: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}، وقال عن قوم موسى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم}، صحيح أنهم جحدوا بها ولكن استيقنتها أنفسهم، فهم يعلمون أنه حق ويعلمون أن البشر لا يستطيعون أن يأتون بمثله، ومع هذا جحدوا والعياذ بالله واستكبروا عن أمر الله جل وعلا.
هذا القرآن جاء في فضله أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نذكر بعضها، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم : «خيركم من تعلم القرآن وعلّمه»، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يشتد عليه - وفي رواية: وهو يتتعتع فيه - فله أجران»، ويقول صلى الله عليه وسلم لأهل الصفّة: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان فيأتي منه بناقتين كوماوين من غير إثم بالله ولا قطيعة رحم؟ قالوا: يا رسول الله كلنا يحب ذلك، فقال صلوات الله وسلامه عليه: فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم آيتين خير من ناقتين، وثلاثٌ خير من ثلاث، وأربعٌ خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل»، آية من كتاب الله يتعلمها الإنسان خير من ناقة كوماوة وآيتان خير من ناقتين وثلاثٌ خير من ثلاث وهكذا، ولكن من يعي وأين من يحرص؟ ويقول صلوات الله وسلامه عليه: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» ويقول صلوات الله وسلامه عليه: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، وله جار يسمعه ويقول يا ليت لي مثل ما لفلان فأفعل كما يفعل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يسلّطه على هلكته في الحق».
تدبر آيات الله
هذا القرآن العظيم أمر الله - تبارك وتعالى-،بتدبره، بل نعى على من لا يتدبر كتابه فقال: {أفلا يتدبرون القرآن}، وذكر هذا في آيتين: في الآية الأولى قال: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا}، وفي الآية الأخرى قال: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}، أعلى القلوب أقفال تمنعها من تدبر القرآن؟! أوجد الناس اختلافاً في كتاب الله تبارك وتعالى؟! أبداً، ليس على القلوب أقفال وليس في القرآن اختلاف ولكن في الناس إعراض والعياذ بالله، أعرضوا عن كتاب الله جل وعلا، الذي يقول عنه: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله}، وهو جبل حجارة متراكمة بعضها على بعض فما بال قلوب البشر؟! أهي أشد من الجبال؟! إي والله إن من قلوب البشر لما هو أشد من الجبال كما قال الله تبارك وتعالى: {ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} و «أو» هنا بمعنى «بل» وهي للإعراض أي أن هذه القلوب كالحجارة، ثم بين أنها أشد قسوة من الحجارة، ثم بيّن الحجارة وبين أنها تختلف عن القلوب القاسية فقال: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله}، وقلوب بعض العباد أقسى حتى من الحجارة فتسمع آيات الله فلا تتأثر بها، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
العمل بالقرآن
يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن». وهذا القرآن العظيم تأثر به المشركون، فهذا عتبة بن ربيعة أرسله كفار مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: اذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ثم انهه عما هو عليه، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، آذيتنا في أزواجنا وآذيتنا في أولادنا وآذيتنا في أنفسنا، فماذا تريد؟ إن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كنت تريد مالاً جمعنا لك من المال حتى تكون أغنانا، وإن كنت تريد جاهاً وجهناك علينا حتى لا نقطع أمراً حتى نأخذ برأيك وإن كنت تريد زوجة زوجناك أجمل النساء، فماذا تريد؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنهى عتبة كلامه فلما انتهى التفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال أنتهيت يا عم؟ إكراماً له لكبر سنه، قال: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فاسمع منّي فقال: قل، فقرأ عليه أول سورة فُصّلت ولم يتكلم بكلمة من كلام البشر ولكن تكلم بكلام رب البشر -سبحانه وتعالى- فصار عتبة يسمع وينبهر مما يسمع حتى وضع يديه خلف ظهره وهو يستمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى، فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم التفت إلى عتبة وقال: هذا ما عندي، فرجع إلى كفار مكة وكانوا ينتظرونه على أحر من الجمر، فلما دخل عليهم نظروا إليه وإذا هو قد تغيّر فقال بعضهم لبعض: تالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به!
وهذا الوليد بن المغيرة يصف القرآن الذي يتلوه رسول الله بقوله: «إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه لحطم ما تحته»، وفيه نزل قول الله تبارك وتعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالاً ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدّر فقتل كيف قدّر ثم قتل كيف قدّر ثم نظر ثمّ عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحرٌ يُؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر}.
وهذا جُبير بن مُطعم يقول: «كنت أطوف بالكعبة فإذا محمد يصلي فاختبأت خلف أستارها، فصرت أستمع إليه وهو يقرأ سورة الطور فسمعتها فكاد أن يطير قلبي، فما ملكت نفسي حتى أنهى قراءتها فجئت وأسلمت».
هل تأثرت بالقرآن؟
كم مرة قرأت سورة الطور وكم مرة تأثرت؟! وهذا أبو سفيان ومعه أبو جهل والأخنس بن شُريق جاؤوا والنبي صلوات الله وسلامه عليه يقرأ القرآن يقوم الليل كما قال الله تبارك وتعالى: {يأيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا}، فكان كفار مكة يأتون ويستمعون إلى قراءة النبي صلوات الله وسلامه عليه خلف الجدار، فلما أنهى قراءته انصرفوا في جُنح الليل فرأى بعضهم فقال بعضهم لبعض: ويحكم ماذا جاء بكم؟ فقال كل لصاحبه: جئت لأستمع، قالوا: فلا تعودوا بعد هذه الليلة فتغروا السفهاء، وهكذا ثلاث ليالٍ، ثم في الثالثة لما رأى بعضهم بعضا تعاهدوا على ألاّ يرجعوا فقالوا: لا تغروا جهّال مكة بمجيئكم وسماعكم لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم .
وعلى الصحيح أيضاً أن عمر بن الخطاب ما أسلم إلا لما سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم عند الكعبة، لا القصة المشهورة وهي قصة فاطمة بنت الخطاب فإنها قصة ضعيفة، والقصة الصحيحة هذه وأن عمر سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ كلام الله - تبارك وتعالى-، عند الكعبة فرجع وأسلم. فهكذا كانوا يتأثرون بقراءة القرآن.
ويذكر عن رجل من قريش أنه علّق أبيات شعرٍ على الكعبة يهجو بها الإسلام ويهجو بها النبي صلوات الله وسلامه عليه ويهجو بها المؤمنين ويهجو بها القرآن، فما ملك رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وأخذته الغيرة فجاء وعلّق بجانبها سورة الرحمن، فجاء الكافر من الغد فوجد سورة الرحمن معلّقة فقرأها وأعلن إسلامه، فقال: لا والله، لا يقول هذا إلا إله، هكذا كانوا إذا سمعوا القرآن عرفوا ما فيه وتأثروا به فمنهم من يُؤمن ومنهم من يُعرض لكن الكل يُقر أنه من إله سبحانه وتعالى.
كيف نتأثر بالقرآن؟
1- قال الإمام الطبري رحمه الله: «إني لأعجب ممن يقرأ القرآن ولم يعلم تأويله فكيف يلتذ بقراءته؟!» فلا بد إذا أردنا أن نتأثر بالقرآن أن نتدبر معانيه.
2- كذلك أن نجعل له وقتاً من أوقاتنا، لا تكون قراءة القرآن فقط إذا تأخرت الإقامة (لصلاة الجماعة), بل لا بد أن تجعل له من وقتك، لا أقل من نصف ساعة في اليوم تخصصها لقراءة كتاب الله تبارك وتعالى، ولتدبر معانيه، لا أن تجعل للقرآن وقت الفراغ فقط الذي لا تجد فيه شغلاً بحيث إنك لو شغلت بشيءٍ آخر ما قرأته، بل اجعل له وقتاً دائماً من كل يوم فعندك أربعٌ وعشرون ساعة في اليوم والليلة.
3- الإكثار من قراءة سير الصالحين وسيدهم رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم ، وكيف كان يقرأ ويتدبر صلوات الله وسلامه عليه، ثم نقرأ سير التابعين وأتباع التابعين وغيرهم من علماء السلف، فالرسول صلوات الله وسلامه عليه قام ليلة كاملة يقرأ آية واحدة {إن تُعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}، أما عن سير الصحابة فهذا أُسيد ابن حضير كان يقرأ القرآن حتى نزلت الملائكة لسماع قراءته، حتى خشي على ولده وترك القراءة، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه الملائكة نزلت تسمع قراءتك.
وهذا سفيان الثوري إمام أئمة أتباع التابعين قام ليلة كاملة يقرأ {ألهاكم التكاثر...} يكررها ويتدبرها وينظر في معانيها ويعيش معها ليلة كاملة.
4- كذلك إذا أردت أن تلتذ بقراءة القرآن <فعليك أن تقرأه القراءة الصحيحة، مطبقاً أحكام التجويد، ومن أهم الأشياء أن تقرأ القرآن على شيخ مُجيد.
5- محاولة التعايش مع أحداث القرآن، فعندما تمر بآيات التهديد وآيات الوعيد وكذلك آيات الجنة والنار يجب أن تتأثر بها وأن تتعايش معها، كذلك لما تقرأ سورة آل عمران وسورة الأنفال والأحزاب والمعارك التي تكلمت عنها هذه السور تعايش معها واستشعر أنك كنت مع النبي صلوات الله وسلامه عليه ومع أصحابه وأنك قاتلت معهم وجاهدت، ولما تقرأ الآيات التي تحث على الإنفاق تذهب وتُنفق كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: {إذا سمعت يا أيها الذين آمنوا} فأرعِها سمعك، فإما خير يدلّك الله عليه وإما شر ينهاك الله تبارك وتعالى عنه.
6- الانتباه وعدم السرحان، فلا تقرأ القرآن وقلبك لاهٍ عن الله تبارك وتعالى بل اقرأ القرآن وقلبك وذهنك وعقلك معه وكلّك معه.
7- تغنَ بكتاب الله- تبارك وتعالى-، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منّا من لم يتغنَ بالقرآن»، فتغنَ به، لا تقرأ القرآن كما تقرأ الصحف اليومية أو أي كتاب آخر، فقد أذن الله للأنبياء أن يتغنوا بالقرآن، فكان نبي الله داود صلوات الله وسلامه عليه شجي الصوت بالقراءة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأبي موسى الأشعري: «كأن الله أعطاك مزماراً من مزامير آل داود»، وذلك لحسن صوته.

8- التكرار، كرّر الآية مرة ومرتين وثلاثاً، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ آية واحدة في قيام الليل كله.

اعداد: الشيخ: عثمان الخميس