دعاوى الالتزام بالمنهجية العلمية عند المستشرق البريطاني مونتجومري وات: "كتاب محمد في - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         واحة الفرقان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 3358 )           »          مكافحة الفحش.. أسباب وحلول (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          أي الفريقين؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          الصراع مع اليهود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 11 )           »          نكبتنا في سرقة كتبنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          كيف نجيد فن التعامل مع المراهق؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الطفل والأدب.. تنمــية الذائقة الجمالية الأدبية وتربيتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          ترجمة موجزة عن فضيلة العلامة الشيخ: محمد أمان بن علي الجامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          يجب احترام ولاة الأمر وتوقيرهــم وتحرم غيبتهم أو السخرية منهم أو تنــقّصهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 37 - عددالزوار : 1184 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-06-2023, 03:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,014
الدولة : Egypt
افتراضي دعاوى الالتزام بالمنهجية العلمية عند المستشرق البريطاني مونتجومري وات: "كتاب محمد في

دعاوى الالتزام بالمنهجية العلمية عند المستشرق البريطاني مونتجومري وات: "كتاب محمد في مكة أنموذجًا" (2-1)


. أسامه تكنامس




ملخص البحث:
يهدف البحث إلى إبراز العيوب المنهجية العلمية التي وقع فيها المستشرق البريطاني (مونتجومري وات) Montgomery Watt، في كتابه (محمد في مكة) Muhammad at Mecca، مع بيان خطورة هذه الأخطاء، وكذا إيضاح أن تلك العيوب مؤثرة في سلامة النتائج التي توصل إليها (مونتجومري وات)، مما يجعلنا لا نقبل أحكامه وآراءه التي أطلقها حول السيرة النبوية.
المقدمة:
تُعد كتابات المستشرق البريطاني (مونتجومري وات) من أهم الدراسات الاستشراقية، وأخطرها على السيرة النبوية المطهرة، ولذا اخترت أن يكون هذا البحث عن كتابه الموسوم بـــــ(محمد في مكة)؛ لعدة اعتبارات سيتم إيضاحها فيما يلي:
أهمية البحث ودوافع اختياره:
تكمن أهمية البحث في النقطتين التاليتين:
أولاً: التزام (وات) بـ«المقاييس العلمية التاريخية الغربية»[1] في بحثه، ويكون أفضل ردّ عليه هو بيان تجاوزه لأصول المنهج العلمي المتعارَف عليها عالميًّا، سواء عند المسلمين أو غيرهم، ولذا جاء هذا البحث للإجابة عن سؤال محدد هو: ما العيوب المنهجية التي خالَف فيها المستشرق «مونتجومري وات» أصول المنهج العلمي وقواعده في كتابه (محمد في مكة)؟
ثانيًا: مكانة كتابات «وات» وانتشارها بين المستشرقين المعاصرين؛ إذ يعدّون كتاباته في السيرة النبوية موضوعية، ويرون أنه قدَّم نظرية محايدة في ذلك.
هدف البحث:
يهدف البحث إلى تحقيق أمرين هما:
أولاً: إبراز عيوب المنهج العلمي التي وقع فيها «وات» في كتابه (محمد في مكة)، مع بيان خطورة هذه الأخطاء لدى المختصين في المنهجية العلمية، مصحوبة بذِكْر بعض الأمثلة من كلام «وات»، وكلام المختصين في المنهج العلمي من الغربيين، أو من بعض المختصين العرب الذين كتبوا في المنهجية، معتمدين بصفة خاصة على المصادر الغربية؛ بهدف إثبات أن أصول المنهجية التي تجاوزها «وات» متفق عليها عالميًّا.
ثانيًا: إيضاح أن تلك العيوب مؤثرة في سلامة النتائج التي توصل إليها «وات»؛ مما يجعل أحكامه وآراءه المتعلقة بالسيرة النبوية، لا يمكن -وفق أصول المنهج العلمي الدقيق- أن تكون مقبولة أو مُسلَّمًا بها، حتى عند غير المسلمين، ولكي يُعلم أيضًا أن سبب رفض المسلمين لمثل هذه الآراء ليس لمجرد أنها مخالفة لمعتقداتهم فقط، وإنما لكونها مبنية على أساس مليء بالعيوب المنهجية الخطيرة.
خطة البحث:
لتحقيق أهداف البحث قسَّمته إلى مبحثين، وخاتمة:
المبحث الأول: خصصته للتعريف بالمؤلف والكتاب.
والمبحث الثاني: بيَّنت فيه أبرز العيوب المنهجية.
ثم خاتمة: ذكرتُ فيها أهم النتائج التي توصلت إليها.
المبحث الأول: التعريف بالمستشرق (مونتجومري وات)[2] وبكتابه (محمد في مكة)
مولده ونشأته:
وُلِدَ وليام مونتجومري وات في بلدة سِـيـــرِيــسْ (Ceres) بإسكتلندا، في الرابع عشر من مارس سنة 1909م، ونشأ يتيمًا؛ حيث مات والده -القسيس أندرو وات- وهو رضيع، فعاش في كنف أمه وعمّه وعمته بإدِنْبْرَة طفلًا وحيدًا.
تكوينه العلمي ومناصبه العلمية:
تلقَّى تعليمه في كلية جورج واتسون؛ حيث تخصَّص في الفلسفة واللاهوت، وبدأ اهتمامه بالإسلام بعد محادثة مطولة مع شخصٍ هنديّ كان أحمديَّ المذهب، بالإضافة إلى دراسته الجادة للغة العربية مع ريتشارد بيل -مستشرق إدنبرة-، كما أدَّى تعيينه لاحقًا قسيسًا إلى رفع اهتمامه بالإسلام، ثم درَّس في جامعات: إدنبرة، وجينا، وأكسفورد، وقد شغل عدة مناصب أكاديمية؛ منها:
مدرس مساعد في الفلسفة الأخلاقية، بجامعة إدنبرة خلال الفترة الممتدة بين 1934و1938م.
مُحاضِر في الفلسفة القديمة في موسم: 1946م - 1947م.
ثم مُحاضِر أول في اللغة العربية من سنة: 1947م إلى سنة: 1964م.
أستاذ الدراسات العربية والإسلامية: ما بين 1964م - 1979م.
مكانته العلمية:
تحظى أحكام «وليام مونتجومري وات» وأقواله بمكانة علمية كبيرة لدى المهتمين بالدراسات الإسلامية من غير المسلمين، مما يبيّن الخطورة التي تُمثّلها الآراء التي يبثّها في أوساط المستشرقين، وفيما يلي بعض النصوص الدالة على مكانته العلمية عند المستشرقين وغيرهم:
تقول عنه المستشرقة كارول هيلينبراند: «هو الذي ربما كان في حياته الطويلة على الأرجح أول مفسِّر غير مسلم للإسلام في الغرب، باحثًا مؤثرًا بشكل كبير في مجال الدراسات الإسلامية، واسمًا يحظى باحترام كثير من المسلمين في جميع أنحاء العالم... وتُرجمت كتبه الأخرى إلى لغات عديدة»[3].
ويؤكد الدكتور عماد الدين خليل على ذلك بقوله: «يبدو مونتجمري وات على مستوى تقنية البحث كان متفوّقا بمعنى الكلمة، وهو يمتلك أداة البحث ومستلزماته، ويعتمد أسلوبًا نقديًّا مقارنًا يثير الإعجاب، وقد تَمكَّن بواسطته من تحقيق عدد من النتائج القيّمة على مستوى السيرة»[4].
إنتاجه العلمي:
خلّف مونتجمري وات أكثر من ثلاثين كتابًا أصبحت مراجع علمية فيما بعد، ومن أشهر كتبه: «محمد في مكة» الذي أصدره سنة 1953م، و«محمد في المدينة» المنشور سنة 1956م، «محمد: النبي ورجل الدولة» الصادر سنة 1961م، وترجمه إلى العربية الباحث السوري حمّود حمّود، وأصدرته دار التكوين بدمشق سنة 2014م.
كما أصدر العديد من المؤلفات من أشهرها: «القضاء والقدر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة»، «الفلسفة الإسلامية والعقيدة»، «الفكر السياسي الإسلامي»، «تأثير الإسلام في أوروبا: القرون الوسطى»، «الأصولية الإسلامية والتحديث»، «العلاقات الإسلامية النصرانية»، «حقيقة الدين في عصرنا»، «الفترة التكوينية للفكر الإسلامي»، «موجز تاريخ الإسلام».
وفاته: كانت وفاته في الرابع والعشرين من أكتوبر سنة 2006م، في إدنبرة عن عمر يناهز تسعة وسبعين عامًا.
الفكرة العامة للكتاب:
يدرس مونتجومري وات في كتابه (محمد في مكة) المرحلة المكية من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع مقدمة موجزة عن الأوضاع في مكة وشبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وقد نُشِرَ الكتاب بجامعة أكسفورد في عام 1953م، وتَرجمه إلى العربية الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ، وعلق عليه الدكتور أحمد شلبي، نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة عام 1994م.
دوافع التأليف:
يؤكد «وات» أن سبب صياغته الجديدة لحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست نتاجًا لاكتشاف مادة جديدة، وإنما لتغيُّر اهتمامات المؤرخين واتجاهاتهم خلال النصف من القرن التاسع عشر؛ فقد أصبحوا أكثر وعيًا بالعوامل المادية التي يقوم عليها التاريخ، وهذا يعني أن المؤرّخ من منتصف القرن العشرين يريد أن يسأل أسئلة كثيرة عن الخلفية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مع عدم التقليل من شأن الجوانب الدينية والفكرية للحركة التي بدأها النبي صلى الله عليه وسلم ... ولأن السيرة [5] لا تنقّب في المصادر المتاحة بدقة أكثر فحسب٫١٠١، بل تعطي اهتمامًا أكثر لهذه العوامل المادية وتحاول الإجابة عن أسئلة لم تُثَر مِن قبل[6].
فصول الكتاب:
قدّم وات لكتابه بمقدمة أبرَز فيها المصادر العربية الإسلامية التي استقَى منها النصوص، ثم ثنَّى بستة فصول، وتحت كل فصل أورد عددًا من المباحث والموضوعات، ثم خاتمة، وملاحق تناول فيها: الأحابيش، والتوحيد عند العرب، والتأثيرات اليهودية المسيحية، والحنفاء، ومبحث حول مدلولات لفظة (تَزَكَّى)[7]، والمرويات عن عروة، وعودة المهاجرين، وقوائم مختلفة.
وجاءت فصول الكتاب على النحو التالي:
الفصل الأول (الخلفية العربية): درس فيه شبه الجزيرة العربية في العصر الجاهلي من مختلف جوانبها؛ حيث تطرَّق للأسس الاقتصادية، والسياسية المكية، والخَلفية الاجتماعية والأخلاقية، ليختم بالحديث عن الخلفية الدينية والفكرية، كما نجده ناقش آراء المستشرقين من أمثال (لامنس، تويبني، نولدكه)، وركز على النزعات التوحيدية في المنطقة، مستعينًا بالنصوص القرآنية.
الفصل الثاني (بواكير حياة محمد ودعوة النبوة): تطرَّق فيه إلى نَسب النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، ومولده وسنواته الأولى، وزواجه صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة -رضي الله عنها-، ثم انتقل إلى مرحلة الدعوة للنبوة.
الفصل الثالث (الرسالة الأصلية/ جوهر الرسالة): افتتحه بتاريخ نزول القرآن الكريم، ثم بدأ بدراسة أول ما نزل من القرآن الكريم، ليختم هذا الفصل بتحليل العلاقة الوثيقة بين الرسالة والأحوال المعاصرة.
تناول الفصل الرابع (أوّل مَن أسلم): توقف عند الروايات المتداولة عن المسلمين الأوائل، ثم بدأ بعرض المسلمين السابقين، ليختم بتحليل دوافع لجوء -حسب تعبيره- الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- للإسلام.
الفصل الخامس (بداية المعارضة، الآيات الشيطانية): تحدث عن المعارضين للدعوة الإسلامية، وهجرة المسلمين إلى الحبشة، ومناورات المعارضة، وشهادة القرآن الكريم على المؤامرات التي تعرَّض لها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضوان الله عليهم-.
أما الفصل السادس (آفاق ممتدة): فتعرَّض فيه إلى تدهور حال النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه أبي طالب، وزوجته خديجة -رضي الله عنها-، وتحدث عن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم للطائف، والاقتراب من القبائل البدوية، والمفاوضات مع أهل المدينة، والهجرة إلى المدينة، ليختم كتابه بتقديم حصيلة الحقبة المكية.
مصادره:
اعتمد «وات» على نوعين من المصادر:
المصادر العربية الإسلامية: نجده اعتمد على القرآن الكريم من خلال ترجمة ريتشارد بلْ bell، وكتب السنة خاصة صحيح البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد بن حنبل، والمصادر الأصلية للسيرة النبوية والمغازي ممثلة أساسًا في تهذيب السيرة لابن هشام -مترجمة-، وطبقات ابن سعد، بالإضافة إلى كتب التاريخ العام المتقدمة مثل تاريخ الطبري.
الكتب الغربية الاستشراقية: اعتمد مونتجومري وات على عدد منها، وفي مقدمتها كتاب حوليات الإسلام للمستشرق كايتاني، وكتاب الأبطال أو عبادة الأبطال للمستشرق كارليل.
وقد حلّل «وات» مصادره في مقدمة كتابه، وبيَّن أهميتها لبحثه بصورة واضحة، موضحًا ما هو في صلب البحث وما هو تكميلي، ثم بيَّن رؤيته حول التعامل مع كتب التاريخ الإسلامي.
كما انتقد «وات» خلال مقدمته آراءهم في التعامل مع هذه المصادر ومع التاريخ الإسلامي عمومًا؛ حيث يراهم متعصبين ومنحازين وغير منطقيين في بعض رؤاهم ويبالغون في الشك المنهجي دون دليل.
منهج مونتجومري وات في كتاب «محمد في مكة»:
اعتمد «وات» في كتابه «محمد في مكة» على المنهج التحليلي القائم على التفسير والنقد والاستنباط؛ حيث اهتم كثيرًا بتفسير الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للأحداث، مع عدم إهمال الخلفيات الأخرى، كما حاول المحافظة على الحياد والمقاييس العلمية التاريخية الغربية، وهذا ما أوضحه بقوله:
«هذا الكتاب يهم ثلاث طوائف من القرَّاء على الأقل: الذين يهمهم الموضوع كدارسين للتاريخ، والذين يتناولونه لأنهم مسلمون أو مسيحيون، وعلى أيّ حال فهذا الكتاب مُوجَّه أولاً وبصفة رئيسة للمهتمين بالتاريخ ... ولقد حاولتُ المحافظة على الحياد في المسائل اللاهوتية (الدينية) التي يدور حولها النقاش بين المسيحية والإسلام، فمثلًا لتجنُّب الجزم بما إذا كان القرآن كلام الله أم لا، فقد تحاشيتُ استخدام التعبير «يقول الله» أو «يقول محمد»، واستخدمت التعبير «يقول القرآن»، ومع ذلك فإنني لا أتبنَّى المنظور المادي بحجة التزامي بالنزاهة التاريخية، فأنا أكتب كمؤمن بالتوحيد - فقد حاولت -مع الالتزام بالمقاييس العلمية التاريخية الغربية- ألا أقول شيئًا يُفْهَم منه رَفْض أي مبدأ من مبادئ الإسلام الأساسية؛ إذ لا يجوز أن تكون هناك هوة لا يمكن عبورها بين الثقافة الغربية والإسلام، فإذا كانت بعض النتائج التي توصل إليها علماء الغرب لا يتقبلها المسلمون، فربما كان السبب في ذلك أن علماء الغرب لم يكونوا دائمًا مخلصين لمبادئهم العلمية، وأن استنتاجاتهم تحتاج إلى مراجعة، حتى من وجهة النظر التاريخية البحتة. ومن الناحية الأخرى، ربما كان صحيحًا ذلك القول الذي مُؤدَّاه أن هناك مجالًا لشيء من إعادة صياغة العقيدة الإسلامية، بدون أي تغيير في الأساسيات»[8].
ويضيف «وات» في فقرة لاحقة بعض الإرشادات التي تُظهر منهجه في كتابة المرحلة المكية: «ولقد تناولنا الأحاديث النبوية في المرحلة المكية من ناحية المتن أو المحتوى، ولم نُعِر الإسناد أو سلسلة الرواة اهتمامًا كبيرًا، أما في المرحلة المدنية فإن دراسة الإسناد تُساعد على تقييم الحديث ومدى موثوقيته، كما تساعد على تقدير اتجاهاته، أما في فترة ما قبل الهجرة فإن دراسة الإسناد لا يبدو أنها تؤدي إلى نتائج ذات قيمة، والراوي الوحيد الذي تَستحق رواياته الدراسة هو عروة بن الزبير»[9].

[1]  محمد في مكة، مونتجومري وات: (ص40).
[2] () يُلاحَظ أن «وات» ليس له ترجمة تتناسب مع مكانته الاستشراقية في المصادر العربية التي اعتنت بتراجم المستشرقين؛ فاجتهدت في صوغ ترجمة وافية، اعتمادًا على بعض المقالات الأجنبية والمصادر العربية. وفيما يلي أهم مصادر ترجمته: المستشرقون: لنجيب العقيقي: (2/ 544)، الاستشراق: للدكتور مازن مطبقاني: (ص 34)، مدارس السيرة النبوية: للدكتور محمد اليولو: (ص 140)، «البروفيسور مونتجومري وات» كارول هيلين براند.
[3]  البروفيسور مونتجومري وات، مقال كارول هيلين براند
professor-w-montgomery-watt
[4]  المستشرقون والسيرة النبوية: ص 49.
[5]  يقصد بالسيرة كتابه محمد في مكة.
[6]  محمد في مكة: (ص 41).
[7]  يقصد مدلول كلمة تزكى في القرآن.
[8]  محمد في مكة: (ص 40).
[9]  المصدر نفسه: (ص 48).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 25-08-2023, 04:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,014
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دعاوى الالتزام بالمنهجية العلمية عند المستشرق البريطاني مونتجومري وات: "كتاب محمد

دعاوى الالتزام بالمنهجية العلمية عند المستشرق البريطاني مونتجومري وات: "كتاب محمد في مكة أنموذجًا" (2-2)


. أسامه تكنامس







ملخص البحث:
يهدف البحث إلى إبراز العيوب المنهجية العلمية التي وقع فيها المستشرق البريطاني (مونتجومري وات) Montgomery Watt، في كتابه (محمد في مكة) Muhammad at Mecca، مع بيان خطورة هذه الأخطاء، وكذا إيضاح أن تلك العيوب مؤثرة في سلامة النتائج التي توصل إليها (مونتجومري وات)، مما يجعلنا لا نقبل أحكامه وآراءه التي أطلقها حول السيرة النبوية.
انتهينا في العدد الماضي إلى عرض المبحث الأول المبحث الأول: التعريف بالمستشرق (مونتجومري وات) وبكتابه (محمد في مكة) وفيما يلي المبحث الثاني.
المبحث الثاني: عيوب المنهج العلمي عند: (مونتجومري وات)
أولاً: عدم استيعاب المصادر المتخصصة:
لم يستوعب الكاتب كل المصادر المتخصصة، والمصادر التي اعتمد عليها لا تُسعفه كثيرًا في موضوعه؛ لأنها ليست شاملة ولا مستوعبة للفترة المكية، ففيها الصحيح والضعيف -ما عدا القرآن الكريم-، ولخلوها من مصادر أخرى مهمة، كما أن مراجعة مصادر المذاهب الإسلامية التاريخية والروائية، وشروح الحديث، وشروح السيرة كشرح السهيلي لسيرة ابن هشام، وما دون في مُختلِف (مشكل) السيرة النبوية، وتفاسير القران الكريم، له أثر مهم وحاسم في بناء التصورات الصحيحة أو القريبة من الواقع.
وهذه الإشكالات المنهجية من أخطر العيوب في البحث العلمي، ولإيضاح أهمية استيعاب المصادر الأصلية المتخصصة في البحث العلمي عند أساتذة المنهجية، ننقل بعض النصوص من كلامهم حول ذلك:
يقول شارل فيكتور لانجلوا: إذا لم يعرف المرء قبل البدء في عمل تاريخي، كيف يُحيط نفسه بكل المعلومات الميسّرة له، فإنه يزيد بسهولة من مزالق خطر العمل على أساس وثائق غير كافية، وهي مزالق وفيرة العدد مهما بذل من جهد، وكم مِن عمل مِن أعمال التاريخ عُولِج وفقًا لقواعد أدقّ المناهج قد أفسده، بل قضى عليه قضاء مبرمًا، أمر مادي بسيط هو أن المؤلف لم يقف على وثائق كان من شأنها أن تُوضّح تلك التي كانت في متناول يده -واقتصر عليها- وأن تكملها أو تنقضها[1].
ويتفق أساتذة المنهجية على أن مِن أهم واجبات الباحث، إن لم يكن من أولويات البحث، أن يُحيط إحاطة تامة بمصادر بحثه الأصلية التي تكون شديدة الصلة به[2].
ثانيًا: الانتقائية في الروايات:
تُعد روايات المشهد النبوي من المصادر الأساسية لدى الباحث في السيرة النبوية، وبينت آنفًا أقوال المختصين في أهمية استيعاب المصادر الخاصة بموضوع البحث، ونبين هنا أقوال علماء الحديث في أهمية جمع طرق الحديث:
روى الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع عن الإمام أحمد بن حنبل، يقول: «الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يُفسّر بعضه بعضًا»[3].
وروى عن علي بن المديني، قال: «الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه»[4].
ومما يلاحظ على المستشرق (وات) أنه لا يتعامل مع الروايات بمنهج علمي محايد، بل يستدعي من الروايات ما يقوّي رأيه، ويُعرض عن باقي الروايات لغرض تضييق مساحة الخلاف بين الروايات المختلفة، وبفعل هذا المنهج يصور المسألة كأن لا خلاف فيها، وخير مثال على ما ذهبت إليه حديثه عن رؤيا خالد بن سعيد “أنه كان واقفًا على شفا حفرة من النار، وأن أباه كان يحاول أن يدفعه إليها”[5]، بينما لم يذكر الرواية التي تفيد أنه رأى قبل المبعث بيسير نورًا يخرج من زمزم، حتى ظهرت له البسر في نخيل يثرب، فقصَّها على أخيه عمرو، فقال له إنها حفرة عبد المطلب، وإن هذا النور منهم فكان ذلك سبب مبادرته إلى الإسلام.[6]
ومن منهجه إبهام الروايات، ونقصد بالإبهام هنا: أنه يشير إلى وجود الرواية ولا يفصح عن حالها ولا عينها، ويرجع ذلك إلى عدم استقصاء كل المصادر؛ بل يكتفي إما برواية الطبري أو رواية ابن إسحاق أو رواية ابن سعد في الطبقات، فلو جمع بين كل الروايات الواردة في المسألة الواحدة لوصل إلى نتائج تكشف له الحقيقة، وترفع عنه هذا الشك الذي يجول في فكره.
ونوضح ذلك بقوله: “وثمة روايات عن صعوبات واجهها محمد صلى الله عليه وسلم مع أفكار عثمان بن مظعون”[7]؛ فأنت ترى أنه لم يعيّن تلك الروايات، خاصة في قضية مهمة كقضية شقاق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عثمان بن مظعون؛ على حد تعبيره.
ثالثا: اعتماد منهج الإسقاط projection:
الإسقاط هو رؤية الكاتب للحدث التاريخي وتفسيره له برؤيته الخاصة التي تتحكم فيها ظروف عصره وأحاسيسه الباطنية[8].
قال عبد الله النعيم: «وهو إسقاط الواقع المعاصر المعاش على الوقائع التاريخية الضاربة في أعماق التاريخ فيفسرونها في ضوء خبراتهم ومشاعرهم الخاصة وما يعرفونه من وقع حياتهم ومجتمعاتهم»[9].
وحذّر المؤرخ الكبير «هرنشو» من الإسقاط في العمل العلمي، وعبّر عن صعوبته بقوله: «أما حذر المؤرخ الدائم فيجب أن يوجه إلى عدم تشخيص الحركات والنظم الماضية بالحركات والنظم الحاضرة، ذلك أن الطريقة التي نسير عليها لنفهم المجهول (الماضي) بالتدرج من المعلوم (تجربتنا الخاصة بنا) هو أمر لا نستطيع التهرب منه إلا بشق الأنفس»[10].
فهل التزم «وات» بهذه القاعدة التي قررها «هرنشو» وغيره من علمائهم؟
نموذج إسقاطي:
يتحدث «وات» في الفصل الرابع من كتابه «محمد في مكة» الموسوم بـ«طبقات المسلمين الأوائل» عن الأسباب والدوافع التي أدت إلى دخولهم في الإسلام، وقد أرجع «وات» تلكم الأسباب إلى أسباب: اجتماعية، واقتصادية، وسياسية. فما صحة هذه الدوافع والأسباب؟
الدوافع الاجتماعية:
قسم المؤلف المسلمين الأوائل إلى ثلاث طبقات:
الطبقة الأولى: تنتمي إلى أُسَر بيدها الحل والعقد داخل القبيلة.
والطبقة الثانية: أقل درجة عن الأولى، لكنها لا تخرج عن دائرة السلطة والنفوذ داخل التنظيم القبلي.
أما الطبقة الثالثة: فتتكون من المستضعفين.
من خلال هذا التقسيم حاول المؤلف أن يُقعّد لنظرية التأثير القَبَلي (البيئة الاجتماعية) في تفكير الأفراد، ولعل الكاتب يقصد: أن الوضع الاجتماعي الذي يعيشه الفرد داخل مجتمعه أو قبيلته يوجّه تفكيره واعتقاده، والمؤلف له حظ من الصواب في فكرته، ولا يمكننا أن ننكر هذا التأثير بطبيعة الحال، كما لا نقبل بإسقاط نظرية التأثير القَبَلي على إسلام الصحابة -رضوان الله عليهم-، فالقياس بين واقع الصحابة وواقع الحركة الشيوعية في أوروبا قياس مع وجود فارق.
وذكر «أن الإسلام الشاب كان في جوهره حركة شبابية»[11]، وهؤلاء الشباب عاشوا في وسط اجتماعي يستحوذ على السلطة والزعامة[12] ينتشر فيه الظلم والقهر[13]. والشاب عادة عندما يعيش في مجتمع يتسم بهذه السمات لا محالة سيبحث عن الرقي الاجتماعي، ويبحث كذلك عن الحماية، خاصة إن عاش في أُسرة تمتلك السلطة ولا يجد لها سبيلاً، أو أنه تعرَّض لظلم وسلب للحق.
من هنا نرى الكاتب يحاول أن يُسقط هذه الصورة على السابقين للإسلام حينما قسَّمهم ذلك التقسيم الذي أشرنا إليه سابقا.
فتعبيره بلفظ ضعاف الناس في هذا السياق الذي ألمعنا إليه آنفًا يُوهم بكون أوائل المسلمين ما أسلموا إلا ليتخلصوا من اضطهاد وتعذيب القبيلة لهم، والبحث عن الحماية داخل الإسلام، وخفي عن السيد «وات» أن التعذيب لم يبدأ إلا بعد إعلان المسلمين لإسلامهم، فَلِمَ يبحثون عن الحماية المزعومة قبل الإسلام؟
بل الدافع الأساسي في اعتناقهم الإسلام يكمن في اقتناعهم بمبادئه وأخلاقه، ويبدو أن المؤلف أغفل أو تغافل عن الروايات التي تصرّح بأخلاق الدين الخاتم وعظمته، ومنها قول عروة بن مسعود: «أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إن رأيت ملكًا قط يُعظّمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدًا»[14].
ونحن نسأل السيد (وات) ما السر وراء هذا الارتباط؟ أليست أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم هي السبب الرئيسي في هذا التعظيم؟
الدوافع السياسية:
يُفسّر المستشرق (وات) تلك الدوافع تفسيرًا سياسيًّا، ويحاول أن يحصر قضية الإسلام في قضية سياسية صرفة، ويستبعد الجانب الديني ويضعه في رتبة متأخرة عن الأسباب المادية الثلاثة (المجتمع، السياسة، الاقتصاد)، واستدل بهجرة خالد بن سعيد وإقامته فيها على عدم اتفاقه مع سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا استدلال غير مقنع تمامًا، وقد شهد غير واحد من المخالفين ببُعْد الإسلام عن الأطماع السياسية، بل اهتم بالتوحيد ومكارم الأخلاق، فلما قوي الإسلام؛ بدأ التفكير في بناء دولة المدينة. فالكاتب وقع في تعارض مع المعلوم بالضرورة من التاريخ، فكيف لأوائل المسلمين أن يفكروا في الزعامة السياسية وهم في حالة الضعف؟ كما صرح بذلك الكاتب بنفسه عندما ذكر الفئة الثالثة.
ودَفْع هذا الوهم لا يحتاج إلى كبير عناء، بل يكفي أن نُمثِّل بقول هرقل لأبي سفيان: «وسألتك هل كان من آبائه مِن مَلِك؟، فذكرت أن لا، قلت فلو كان من آبائه مِن مَلِك، قلتُ رجل يطلب ملك أبيه»[15].
فهذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصحابة الكرام تخرّجوا من مدرسته صلى الله عليه وسلم فكيف يمكن لهم أن يتشوّفوا للسياسة وقد تأثروا بمنهجه صلى الله عليه وسلم خاصة في مرحلة الضعف والتنكيل؟
الأسباب الاقتصادية:
عبّر المؤلف عن الإسلام باعتباره حركة نضال بين الذين يملكون والذين امتلكوا منذ وقت قريب[16]، فهذه عبارة تدل على أن الكاتب يعتمد على آلية القياس؛ إذ يقيس الإسلام بالثورة الشيوعية في أوروبا، ومن خلال هذا القياس يحاول أن يصل إلى فكرة مفادها أن أوائل الصحابة جعلوا من الإسلام وسيلةً للوصول إلى أغراض اقتصادية.
ووقائع التاريخ تشهد بغير ذلك فهذا سلمان الفارسي كان مُنعَّمًا في أُسرته، ومع كل الإمكانات المادية خرج يبحث عن الحقيقة حتى وجد ضالته في الإسلام. وهذا الصِّدِّيق -رضي الله عنه- قد تصدَّق بجميع ماله، فكيف يمكن حصر همة {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] في أمر اقتصادي مادي صرف؟!
فبعد تحليلنا لهذه الأسباب والدوافع؛ يتبن أن المؤلف حاول إسقاط التأثيرات البيئية (الأوروبية) المعاصرة على وقائع دخول الصحابة -رضوان الله عليهم- في الإسلام، وكل باحث يعتمد في بحثه على منهج الإسقاط، فإن نتائجه لا تكشف الحقيقة، ولا تزيل لثام الشك عن وجه اليقين.
رابعًا: تأثير الأفكار القبْلِية في نتائج البحث:
من الأسباب التي تؤدي بالباحث إلى نتائج خاطئة في العملية البحثية الفكرية؛ الانطلاق من الأفكار القبلية أو المُسلَّمات الأولية في معالجة القضايا التي يتطرق لها في بحثه، والملاحظ أن المؤلف تَوخَّى العدل والإنصاف -الموضوعية- في دراسته للفترة المكية، إلا أنه لم يستطع التخلص من تأثير أفكاره القبلية في نتائج دراسته.
وخير مثال يوضح ذلك: تفسيره تحنُّث النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء بفراره صلى الله عليه وسلم من حرّ مكة خلال فصل الصيف؛ لأنه لا يستطيع التوجه للطائف، مُسقطًا مُسلَّماته المبنية على واقعه المعيش لتسويغ الحادثة مُبعدًا لها عن ما ذكر في كتب السُّنة عن بدايات نبوته صلى الله عليه وسلم .
ومثال آخر على تأثير الأفكار القَبلية في نتائج البحث: تبرير «وات» هجرة المسلمين إلى الحبشة برغبتهم في مساعدة عسكرية، وتحويل الحبشة إلى قاعدة لمهاجمة تجارة مكة، ومحاولة إيجاد طريق جديد لتجارة الجنوب لا يمر بمكة، ووجود خلافات حادة في الرأي داخل صفوف المسلمين. وهو ما يُرجّحه «وات» ويبني عليه أن هذه الهجرة لم تكن بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، رافضًا كل الأسباب والدوافع الوجيهة والحقائق التاريخية، ليصل إلى النتيجة التي يريدها، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينجح في بداية دعوته مع أصحابه.
وهذا التحيز أو التأثير يُعتبر من أشد نواقض الموضوعية وقوادحها؛ إذ يحذر أساتذة المنهج العلمي الباحثين من الوقوع في التحيز لقومية أو فكرة أو مبدأ أو شخص أو مذهب؛ لأن ذلك يتعارض مع مبدأ الموضوعية، وسأورد فيما يلي نصوصًا لبعض المختصين تؤكد هذه الحقيقة:
يقول روبرت ثاولس[17]: من الأمور التي تجعلنا ميالين إلى التفكير الأعوج؛ تحيزاتنا التي هي: طرق في التفكير تقررها سلفًا قوى ودوافع انفعالية شديدة، كالتي يكون مصدرها منافعنا الذاتية الخاصة، أو ارتباطاتنا الاجتماعية[18].
ويضيف: إننا نكون تحت تأثير الهوى والتحيز في آرائنا ميالين إلى تصديق ما نرغب في تصديقه، أو ما نحتاج إليه أن يكون صحيحًا، وإلى إنكار ما نرغب في إنكاره، أو ما نحتاجه أن يكون باطلاً[19].
ويقول فؤاد زكريا عن أخطار التعصُّب على المنهج العلمي: «وأعظم الأخطار التي يجلبها التعصب على العلم، هو أنه يجعل الحقيقة ذاتية، ومتعددة ومتناقضة، وهو ما يتعارض كلية وطبيعة الحقيقة العلمية... كما ينطوي التعصب على تفكير أسطوري -خرافي- يتّسم بطابع وهمي ومختلق، وهو بطبيعته يشجع التفكير غير العقلي؛ لأنه هو الدعامة الوحيدة لموقفه»[20].
ويقول أحد الباحثين المختصين في منهجية البحث التاريخي: إذا وقع الباحث في أَسْر التعصب، كان من السهل وَصْمه بالذاتية التي هي نقيض الموضوعية والعلم[21].
إن هذه النصوص -وغيرها- تُبيّن لنا أن الباحث المتحيز لا يمكن أن تكون نتائج بحثه علمية بأيّ حال من الأحوال[22].
خامسًا: الشك غير المنهجي:
الشك المنهجي مطلوب في البحث العلمي بوصفه خطوة أولى هدفها هو التثبت من الأمر، ومِن ثَم نجد المختصين في المنهجية يعطون للشك المنهجي مكانة مهمة، لذلك قالوا: «كل ما لم يثبت بعدُ، ينبغي أن يظل مؤقتًا موضوعًا للشك»[23].
وقد عرّف مجمع اللغة العربية الشك المنهجي بأنه: «مرحلة أساسية من مراحل منهج البحث في الفلسفة، وقوامها تمحيص المعاني والأحكام تمحيصًا تامًّا بحيث لا يُقبل منها إلا ما ثبت يقينه، ومن أبرز من قال به الغزالي ثم ديكارت. فعلى الباحث أن يُحرّر نفسه من الأفكار الخاطئة «بالشك»، وأن يتروَّى فيما يعرض له، فلا يتسرع في حكمه»[24].
وعرّفه الأستاذ جبور عبد النور بأنه «موقف يتميز عن الشك الارتيابي بأنه وقتي، ويسلم بالمقدرة على بلوغ حقائق أكيدة شرط التمكن من التدليل عليها»[25].
وعليه فلا بد للشك حتى يكون علميًّا من معايير موضوعية علمية بعيدة عن الذاتية والتحيز، ولا بد أن يكون مبنيًّا على بينة أو قرينة مقبولة، فإذا خلا الشك من هذه الشروط؛ خرج من دائرة الشك المنهجي إلى دائرة الشك غير المنهجي، وهو ما حذَّر منه أساتذة المنهجية.
يقول «لانجلوا»: «ينبغي ألا نسيء استعماله، فإن الإفراط في الشك والاتهام في هذه الأمور، يكاد يكون له نفس النتائج الضارة، في الثقة والاعتقاد»[26].
ويقول الدكتور علي جواد الطاهر: «الشك ضروري على أن يكون علميًّا، وفي حدود الحقيقة، وأن يقع في السلب والإيجاب، وفيما لنا، وما علينا، أما الشك المرضي أو الشك الذي تدفعك إليه نزوة في مخالفة المألوف... فهو خارج حدودنا، وليس من وكدنا»[27].
وبعد أن ألممنا بموقف المختصين في منهجية البحث العلمي من «الشك المنهجي» و «غير المنهجي»، فلننظر ماذا فعل «وات»؟
تشكيكه في المرويات المتداولة عن أوائل المسلمين:
لقد استهل «وات» فصله الرابع[28] بأسلوب تعليلي، أراد أن يُبرهن من خلاله على ضعف صحة الروايات
المتداولة عن أوائل المسلمين رابطًا بين عامل النَّبَالة الذي يقوم -حسب زعمه- على خدمة قضية
المجتمع، وبين تصديق المسلمين لما قاله أو كتبه أجدادهم، ضاربًا عُرض الحائط بعِلْم مصطلح الحديث
والجرح والتعديل، اللذين امتازت بهما الأمة الإسلامية عن باقي الأمم، كما أنه تمادَى في افتراضاته التي لا تستند إلى أيّ دليل علميّ حين قال: «وإذا وجدنا قولاً عن واحد من هؤلاء منسوبًا إلى أحد سلالته أو المعجبين به مؤداه أنه كان من بين المسلمين الاثني عشر الأوائل، فلا بد أن نستنتج ونحن مطمئنون أنه كان في الخامسة والثلاثين من عمره»؛ زاعما بذلك أن الحمية العرقية أو الإعجاب هما الدافع الأساسي لأسلافنا عند حديثهم عن أوائل المسلمين، غاضًّا الطرف عما بذله العلماء المسلمون من مجهودات في سبيل النقد والتمحيص للمرويات، حاملين شعار «سَمُّوا لنا رجالكم»، كأن لم يطرق سمعه قصة جابر بن عبد الله المذكورة في أحد مصادره «مسند الإمام أحمد»، وكذلك ترجم بها الإمام البخاري بقوله: «باب الخروج في طلب العلم، ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد.

وقد أكثر وات من استعمال الألفاظ التشكيكية من قبيل: «لكن هناك اختلافات حادة بشأن أول من أسلم من الرجال، ورغم وجود أساس للشك في الروايات المتعلقة بأوائل المسلمين» [29]، «ومن المستبعد أن هؤلاء الخمسة كانوا قد أتوا الرسول مجتمعين... في مرحلة مبكرة جدًّا من تاريخ الإسلام»[30].
الخاتمة
وفي الختام نخلص إلى النتائج الآتية:
أولاً: حاول المؤلف أن يلتزم الحياد والموضوعية، لكنَّ نزعته المادية طغت على أفكاره في غير ما مرة في كثير من القضايا.
ثانيًا: لا يُنكر المؤلف الدوافع الدينية جملةً وتفصيلاً، وإنما يحاول أن يقلل من شأنها، ويضعها بعد الأسباب المادية الثلاثة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ثالثًا: وقع الكاتب في مزالق منهجية، وهذا يجعلنا نرفض استنتاجاته، ولا نطمئن لمنهجه العلمي، وقد حدّدنا أهمها في الأمور الآتية:
1- عدم استيعاب المصادر المتخصصة.
2- الانتقائية في الروايات.
3- اعتماد منهج الإسقاط.
4- تأثير الأفكار القبْلِية في نتائج البحث.
5- الشك غير المنهجي.
وعليه يجدر الاهتمام بالدراسات النقدية؛ لكشف العيوب المنهجية في أعمال المستشرقين المتعلقة بالسيرة النبوية، المنافية للعمل الأكاديمي، وربط علاقات بين الباحثين في الدراسات الإسلامية والمختصين في اللغات الأجنبية؛ لإنجاز أبحاث علمية محكمة ونشرها في مجلات غربية، ومشاركة نتائجها على وسائل الاتصال الحديثة.
لائحة المصادر والمراجع
أصول البحث العلمي ومناهجه، أحمد بدر، وكالة المطبوعات، الكويت، ط 4، 1978م
البحث في التاريخ، د. عصام الدسوقي، دار الجيل بيروت، ط1، 1411هـ.
التفكير العلمي، د. فؤاد زكريا، مكتبة مصر، القاهرة، 1412هـ.
التفكير المستقيم والتفكير الأعوج، روبرت ثالوس، ترجمة حسن سعيد الكرمي، سلسلة كتب عالم المعرفة، الكويت، ط 1، 1399هـ.
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، لخطيب البغدادي، تحقيق محمود الطحان، مكتبة المعارف، الرياض.
الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، البخاري، تحقيق محمد الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى 1422هـ.
الروض الأنف، السهيلي، تحقيق السلامي، دَار إحْيَاء التراث الْعَرَبِيّ، بيروت، الطبعة الأولى، 1421هـ/ 2000م.
فلسفة العلوم الميثودولوجيا، د. ماهر عبد القادر محمد علي، دار النهضة العربية، بيروت، ط 1، 1997م.
محمد في مكة، مونتجومري وات، ترجمة د. أحمد شلبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994م.
مدارس السيرة النبوية، د. محمد اليولو، دار التوحيد، الرياض، ط 1، 2017م.
المدخل إلى البحث في العلوم السلوكية، صالح بن حمد العساف، الرياض، ط 1، 1409م.
المدخل إلى الدراسات التاريخية، مطبوع ضمن كتاب النقد التاريخي، أنجلوا وسينوبوس، ترجمة عبد الرحمان بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط4، 1981م.
المدخل إلى مناهج البحث العلمي، د. محمد محمد قاسم، دار النهضة العربية، بيروت، ط 1، 1999م.
مزالق في طريق البحث اللغوي والأدبي وتوثيق النصوص، د. عبد المجيد عابدين، دار النهضة العربية، بيروت، ط 1، 2001م.
المستشرقون، نجيب العقيقي، دار المعارف، القاهرة، ط 4، 1980م.
المستشرقون والسيرة النبوية، عماد الدين خليل، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط 1، 1426ه.
المعجم الأدبي، جبور عبد النور، دار العلم للملايين، بيروت، ط 2، 1983م.
المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية في مصر، الهيئة العامة لشؤون الطباعة الأميرية، 1403ه.
مناهج البحث العلمي، د. بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط 3، 1977م.
المنطق وفلسفة العلوم، بول موي، ترجمة د. فؤاد حسن زكريا، مكتبة دار العروبة، الكويت، 1401م.
المنهج لإحكام قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم، ديكارت، ترجمة فواز الملاح ومحمود الصالح، دمشق، ط 1، 1988م.
منهج البحث التاريخي، د. حسن عثمان، دار المعارف، القاهرة، ط 4.
منهج البحث في الأدب واللغة، لانسون وماييه، ترجمة د. محمد مندور، دار العلم للملايين، بيروت، ط 2، 1982م.
البروفيسور مونتجومري وات، مقال لكارول هيلين براند:
https://www.independent.co.uk/news/o...ontgomery-watt
إسقاطات المستشرقين والحداثيين والعقلانيين في كتابة السيرة النبوية: دراسة نقدية: ص 89. مجلة الإبراهيمي للآداب، جامعة برج بوعريرج، العدد 3 - جوان 2020م.


[1] النقد التاريخي، لأنجلوا وزميله سينوبوس: (ص 5 - 6).
[2] مناهج البحث العلمي: (ص 184 - 185)، مزالق في طريق البحث اللغوي والأدبي: (ص 25).
[3] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي: (2/ 212).
[4] المصدر نفسه.
[5] محمد في مكة: (ص 189).
[6] ينظر: الروض الأنف للسهيلي: (2/ 115).
[7] محمد في مكة: (ص 188).
[8] إسقاطات المستشرقين والحداثيين والعقلانيين في كتابة السيرة النبوية: دراسة نقدية: (ص 89).
[9] الاستشراق في السيرة: (ص 34).
[10] علم التاريخ، هرنشو: (ص 117 - 120).
[11] محمد في مكة: (ص187).
[12] قال المؤلف: الذين أصبحوا على وعي بالتفاوت بينهم وبين أولئك المتربعين على القمة (ص 188).
[13] قال المؤلف: لم يُعطه أحد حماية فعالة (ص 186)، وانظر كذلك إلى التعريف الذي اختاره لكلمة المستضعفين وعزاه لابن سعد (ص187).
[14] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، رقم الحديث2731.
[15] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، رقم الحديث 7.
[16] محمد في مكة: (ص 188).
[17] روبرت هنري ثاولس يعمل أستاذًا بجامعة كمبردج وشغل منصب محاضر في علم النفس بجامعتي مانشستر وجلاسجو، وله عدة كتب في علم النفس منها: سيطرة العقل، وعلم النفس العام والاجتماعي.
[18] التفكير المستقيم والتفكير الأعوج: (ص 183).
[19] التفكير المستقيم: (ص 187).
[20] التفكير العلمي: (ص 99 -101).
[21] البحث في التاريخ: (ص 20).
[22] ينظر: المنهج لإحكام قيادة العقل لديكارت: ص36، والمنطق وفلسفة العلوم: (ص 58 - 59)، وأصول البحث العلمي: (ص 58،59، 61)، وفلسفة العلوم الميثودولوجيا: (ص 99)، والمدخل إلى البحث في العلوم السلوكية: (ص 297)، ومنهج البحث التاريخي، (ص 19)، والمدخل إلى مناهج البحث العلمي، (ص 26 - 27).
[23] المدخل إلى الدراسات التاريخية: (ص 122).
[24] المعجم الفلسفي: (ص 103).
[25] المعجم الأدبي: (ص 154).
[26] المدخل إلى الدراسات التاريخية: (ص 75).
[27] منهج البحث الأدبي: (ص 46).
[28] محمد في مكة: (ص 171).
[29] المصدر نفسه: (ص 171).
[30] المصدر نفسه: (ص 172).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 109.11 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 106.75 كيلو بايت... تم توفير 2.36 كيلو بايت...بمعدل (2.16%)]