|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام
كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام لمحمود محمد شاكر صفية الشقيفي مقدمة الأستاذ محمود محمد شاكر قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) :( بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله مالك الملك لا شريك له. هو الواحد القهار. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله وصفوته من خلقه، أنزل عليه القرآن العظيم كلام الله ليقرأه على الناس على مُكْثٍ، فأدى الأمانة، وبلغنا رسالة ربه، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، وصلى الله على أبوينا إبراهيم وإسماعيل وعلى سائر الأنبياء صلاة طيبة. وبعدُ: كان مفروضًا، أو هكذا سولت لي نفسي، أن أرتجل كلمة أجعلها مدخلاً إلى ماس وف أحدثكم عنه، ولكن لما دنا موعد هذا اللقاء خفت وجزعت، فآثرت أن لا أورط نفسي في أسبوع واحد مرتين، وحسبي ما ورطني فيه أخي وصديقي أبو فهد، الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، منذ أيام قلائل كما يعلم بعضكم، غفر الله لي وله. فأنا أجد حرجًا شديد الشراسة قابضًا على أكظامي، يأخذني أخذًا عنيفًا إذا ما قدر علي أن أقف في جمع من الناس مرتجلاً للكلام. فهذه ليست صناعتي، لم آلفها ولم أمارسها قط، صناعتي هي حمل القلم بين أناملي في خلوة بعيدة عن الناس، في كنف السكينة والاطمئنان، حيث لا يشغلني عما أريده خوف ولا تردد، ولا عين تحملق في وجهي، ولا أذن تصغى تنازعني لساني، وحيث لا يبلبلني صوت نفسي وأنا أسمع كلاما قد فصم عني، ثم لا أملك رده أو تغييره إن أخطأت أو جرت أو تهاويت في زلل، فإن هذه البلبلة بين البسط والقبض، خليقة أن تتركني كالمخنوق لا يجد مساغًا للتنفس. نعم، فأنا لا أجد حريتي إلا مع القلم، فهو وحده الذي يستطيع أن يتحدث عن نفسي مبينًا عنها، غير متردد ولا خائف ولا متهيب ولا متلجلج. ألفت هذه الحرية وأحببتها، حتى بطل عمل لساني وشفتي أو كاد، وصار القلم وحده هو لساني الذي أتحدث به إلى جموع [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 5] الناس. هذا عذري، فإن قبلتموه فهي منة لكم علي، وإن كرهتموه فلم تقبلوه، فأنا على كل حال لا أستطيع أن أفارق حريتي، لأقع في أسر من لا يرحمني. ولستم به إن شاء الله. وأظن أن أكثركم قرأ أو سمع أني سألقي سلسلة محاضرات. تحمل أسلوبًا جديدًا في الدراسات الأدبية كما جاء في إعلان الجامعة، وهذا تعبير مألوف متعارف عليه في جميع الجامعات، ولكني كعادتي، أخاف الأوهام التي تنشئها مفردات اللغة في أذهان القارئين والسامعين، فرأيته واجبًا علي أن أزيل وهما كبيرًا تحمله هذه الكلمات. فأنا بلا شك عندي، لست محاضرًا، لأني لم أعالج المحاضرة قط في حياتي، بل يحسن أن أقول لكم: إني لم أستمع إلى محاضرات إلا في صدر حياتي، حين كنت طالبًا في الجامعة، وحين كنت شابًا صغيرًا أتابع بعض ما كان في المحاضرات في زماني الأول البعيد، ثم بدا لي، وأنا في شرخ الشباب، أن أعتزل الحياة العامة بعض الاعتزال، فلم أسمع في خلال هذه العزلة سوى محاضرات قليلة جدًا، كنت أسمعها أحيانًا غارقًا في الدهشة من قدرة المحاضر المرتجل على التدفق في حديثه، كأنه يقرأ من كتاب. كيف يتم له هذا؟ لا أدري. وكنت أتمنى بيني وبين نفسي أن أكون كمثله، ولكن العجز كان يقف دائمًا حائلاً بيني وبين ما أتمنى. كنت أقول لنفسي أحيانًا: هذا المحاضر بلا شك، قد أوتي قدرًا كبيرًا جدًا من شيء حرمته، وهو شجاعة النظرة، وإلا فكيف يلقي هذا الجمع الكبير من الناس وعيناه في عيونهم؟ مئات العيون تنظر في عينيه، كيف يتلقى هذه السهام النوافذ بلا رهبة؟ مئات العيون تحيط به وتجشه وتقلبه وتروزه، تأخذه وترفعه وتضعه، وتنشره وتطويه، وتتداوله بالمس الرفيق والمس الخشن، كأنه ثوب عند بزاز تقلبه أيدي المشترين. كيف يطيق هذا؟ كيف يصبر له؟ لا أدري. وأنا الآن بينكم قد وقعت في مثل هذه التجربة المخوفة، ولا أدري كيف أجد عواقبها في نفسي، بعد أن أنزل عن هذا المنبر، ثم أفارقكم إلى الفندق، ثم أخلو بعد ذلك في غرفتي أتأمل ما كان مني ومنكم كيف كان. تجربة جديدة، أرجو أن أجد [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 6] لها لذة كل جديد، إن صدق الحطيئة في قوله: لكل جديد لذة، غير أنني ...... وجدت جديد الموت غير لذيذ وقد صدق في الثانية بلا ريب، فهل هو صادق في الأولى حيث جعلها عامة مستغرقة لكل شيء؟ لا أدري الآن. والله أستعين على ما كتب علي، وأسأله اللطف في قضائه وقدره. بيد أن الأساتذة الكبا رمن المحاضرين المتمكنين، قادرون على معونتي، وعلى التخفيف عني، بإرشادي إلى حقيقة هذه التجربة، وهم الآن جلوس معنا يسمعون ما أقول، فعسى أن يتكرموا على متطفل وابن سبيل، يسألهم ما لا يرزأهم شيئًا، إلا أن يأخذوا بيده ليخرجوه من ورطته وحيرته ومخاوفه، وهذا قليل من كثير فضلهم على كل طالب علم مسترشد.هذا والمحاضر محتاج، فيما أظن إلى قدر كبير جدًا من التنبه الخاطف المتتابع، فإنه يلقي جمعًا كبيرًا من الناس تختلف أسماعهم في تلقي ما يسمعون، ويختلف قدر اهتمامهم بما يسمعون، فينبغي أن يكون قادرًا على إدراك ذلك، لا بهذه المعرفة وحدها، بل بدقة ملاحظة وجوه الناس وحركاتهم في مجالسهم، فيسرع ابتداءً إلى إخراجهم من مما ينتابهم من الاعتراض عليه أو الضيق بحديثه، بمهارة فائقة، حتى يفرغ من محاضرته وقد أرضى جميعهم، وشغلهم عن حديث أنفسهم بحديثه. وليس هذا مكان تفصيل معنى «المحاضرة» وواجب المحاضر، ولكني أشير إليه لأعلمكم أني من كل هذه المواهب فقير معدم وأما «الدراسة الأدبية»، فأنا في الحقيقة غير قادر الآن لضيق الوقت على أن أفصل لكم رأيي فيها، وفي الاختلاف الذي أراه بين الدراسة الأدبية المحضة التي يتولاها أساتذة الجامعة في دروسهم وكتبهم، وبين شيء آخر لا يقوم إلا على مقدمة صحيحة من «الدراسة الأدبية المحضة». ولكنه يخالفها في النتيجة وفي الأسلوب، وهي كتابة الكاتب الذي يتناول نفس ما تتناوله الدراسة الأدبية المحضة، ولكنه يصوغها صياغة كاتب لا صياغة أستاذ دارس. فأنا في الحقيقة [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 7] أول الرجلين، لأن صناعتي هي الكتابة لا غير، ولأني لا أحب أن أكون مرة أخرى متطفلاً على الأساتذة الدارسين، مقحمًا نفسي بينهم. ومع ذلك، فأنا أرجو أن أوضح لكم الأمر بعض التوضيح، فأنا حين أتناول ما يتناوله الأستاذ الجامعي الدارس، أبدأ القراءة دارسًا متفرغًا للدرس على «منهج» بينته منذ إحدى عشرة سنة في بعض ما كتبت، حيث قلت: «لفظ: المنهج، يحتاج مني هنا إلى بعض الإبانة، وإن كنت لا أريد به الآن ما اصطلح عليه المتكلمون في مثل هذا الشأن، بل أريد «ما قبل المنهج» أي الأساس الذي لا يقوم المنهج إلا عليه. فهذا الذي سميته هنا «منهجًا» ينقسم إلى شطرين: شطر في تناول المادة، وشطر في معاجلة التطبيق. فشطر المادة يتطلب قبل كل شيء، جمعها من مظانها على وجه الاستيعاب المتيسر، ثم تصنيف هذا المجموع، ثم تمحيص مفرداته تمحيصًا دقيقًا، وذلك بتحليل أجزائها بدقة متناهية، وبمهارة وحذق، حتى يتيسر للدارس أن يرى ما هو زيف جليًا واضحًا، وما هو صحيح مستبينًا ظاهرًا، بلا غفلة وبلا هوى وبلا تسرع». «أما شطر التطبيق، فيقتضي إعادة تركيب المادة بعد نفي زيفها وتمحيص جيدها، باستيعاب أيضًا لكل احتمال للخطأ أو الهوى أو التسرع. ثم على الدارس أن يتحرى لكل حقيقة من الحقائق موضعًا هو حق موضعها، لأن أخفى إساءة في وضع إحدى الحقائق في غير موضعها، خليق أن يشوه عمود الصورة تشويهًا بالغ القبح والشناعة». هذا ما قلت قديمًا، وأنا بلا شك ملتزم به في القراءة قبل الكتابة، ولكن الفرق بين ما أكتبه بعدئذ، وبين ما يكتبه الأستاذ الدارس، هو أنه بأستاذيته يلزم نفسه بإثبات كل ما وقف عليه مردودًا إلى مرجعه = أما أنا فعبد لصناعتي. وهي الكتابة، أتخير من مادة الدراسة الصحيحة ما أريد، وأفرق ما كان حقه [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 8] عند الدارس أن يجتمع، وأتنقل من الخواطر من معنى إلى معنى، ولا أكاد أرد إلى المراجع إلا ما لا بد من رده، وأقف على أشياء يتجاوزها الدارس فأطيل الوقوف، وفروق أخرى كثيرة جدًا، أخشى أن أتمادى بها وتتمادى بي، حتى أضيع وقتي ووقتكم، ولكنها على كل حال ظاهرة فيما كتبت قديمًا وحديثًا، ولكني رأيت أكثر أصحابنا قد غفل عنها. وإذن، فينبغي أن أبرئ ذمتي فأقول لكم: إني لست محاضرًا، ولست أستاذًا جامعيًا دارسًا، ولكني حين تورطت في هذا الأمر أصررت على أن أبقى كاتبًا، محاولاً بعض المحاولة أن أتشبه بالمحاضرين فيما أكتب على جهل مني بالمحاضرة، ومحاولاً أيضًا أن أتشبه بالأساتذة الدارسين، مع أني مشارك لهم في الأصل، وهو الدراسة التي أمارسها بصرامة كما يمارسونها، ولذلك فسيبقى ما تسمعونه مني كتابة أولاً، ثم محاضرة على إشفاق من الإخفاق في التجربة، ثم دراسة أدبية مقاربة، أخشى أن يتلقاها الأساتذة الكبار الحاضرون اليوم معنا، على مضض بشيء من الامتعاض، ولكني أرجو أن لا يجدوا ذلك في أنفسهم لأني أشاركهم مشاركة تامة في أصول الدراسة، وفي الالتزام بمنهج ارتضيته، لا يضرهم أن يخالف مناهجهم بعض المخالفة. ومع ذلك، فكن ينبغي أن لا أشك في قدرتهم على التغاضي عن هذه المخالفة التي ارتكبتها، لأنهم أرحب الناس صدورًا، وأعظمهم تسامحًا، وقد غمروني جميعًا بمودة لا أنساها، وبحسن لقاء وتفقد، لا يدع أحدهما للشك في النفس موضعًا). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 5-9] قضايا الشعر الجاهلي التي تناولها الكتاب قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) حين دعيت إلى هذه الجامعة، بدا لي أن أجعل أحاديثي عن شعر الأعشى الكبير، ميمون بن قيس، فلما مضيت في دراسة شعره، تبين لي أن أبدأ بحديث عن الشعر الجاهلي، لأن رأيي فيه لا ينفصل البتة عن رأيي في شعر الأعشى... أجده أمرًا لا بد منه أن أتحدث حديثًا موجزًا عن الشعر الجاهلي عامة، قبل أن أبدأ حديثي عن شعر الأعشى الكبير، ميمون بن قيس، وشعره الذي وصل إلينا في ديوان مجموع، هو من رواية أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، مولى [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 9] بني شيبان، وهو الإمام الذي انتهت إليه إمامة أهل الكوفة، ولد سنة مئتين، وتوفي ببغداد ليلة السبت لعشر خلون من جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين ومئتين. وبعض هذه الحديث عن الشعر الجاهلي لا بد منه، لأنه لا ينفصل البتة عن رأيي في شعر الأعشى، وفيما وصل إلينا منه، ولا عن رأيي فيما قاله بعض علمائنا الأقدمين في بعض قصائده التي انتهت إلينا أنها مصنوعة، ولا عن رأيي فيما ادعاه بعض المحدثين من الحكم على كثير من شعره، أو على أكثر شعره، أنه موضوع منحول. وعندي أن أكبر القضايا التي يثيرها أمر >الشعر الجاهلي< ثلاث قضايا: القضية الأولى: قضية عمر الشعر الجاهلي الذي وقع إلينا، وهي قضية متفرعة عن أولية الشعر نفسه في لسان العرب. والقضية الثانية: قضية شعراء الجاهلية المعروفين، وما انتهى إلينا من أشعارهم، ومقدار هذا الشعر. والقضية الثالثة: قضية وضع الشعر ونحله شعراء الجاهلية، أهي صحيحة أم باطلة؟ فإن صحت، فأين هذا المنحول فيما وصلنا عن العلماء الرواة من أشعارهم؟ وهذه القضايا الثلاث متداخلة متشابكة، ومن صواب الرأي أن يحاول المرء أن يوضح مواضع الفصل بين كل قضية وقضية. لأن هذا الفصل بين متداخلاتها خليق أن يضيء الطريق للباحث، ويعينه على تصور قضية الشعر الجاهلي كله تصورًا صحيحًا أو قريبًا من الصحيح، وسأحاول أن أفعل ذلك، مستعينًا بالله، وباذلاً غاية جهدي اليوم، بعد زمان طويل مضى على محنتي محنة شديدة قاسية بأمر الشعر الجاهلي في أول عمري، وما وقعت يومئذ فيه من الاضطراب حتى استقر قراري على صحة ما انتهيت إليه من الثقة بصحة هذا الشعر ثقة لا تتزعزع، فرميت كل ما كان يومئذ دبر أذني، وانطلقت أدرس الشعر نفسه، وبلذة أجدها في دراسته. غير مبال بكل ما كان من [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 10] اضطرابي حتى انتهيت إلى الاستقرار والاطمئنان إلى صحة هذا الشعر. فالآن بعد هذا الزمان المتباعد. أحاول أن ألم شعث ما انتشر وضاع ونسى من أسباب ثقتي بهذا الشعر) [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 9-11] يتبع
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام
كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام لمحمود محمد شاكر قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) صفية الشقيفي عمر الشعر الجاهلي ورأي الجاحظ فيه أما القضية الأولى، وهي قضية عمر الشعر الجاهلي وأوليته، فإني رأيت أكثر الباحثين يؤولون في الحديث عنها إلى قول أبي عثمان الجاحظ، (المولود سنة 150، والمتوفى سنة 255هـ)، لأنه من أقدم ما قيل في هذه القضية، ولثقة الناس بعقل الجاحظ ونظره. فلذلك أرى أن أثبت هنا مقالته كلها التي تتعلق بالشعر، في خلال ما أفاض فيه من ذكر فضل الكتابة والكتاب، وهذا نص ما قاله في كتاب الحيوان (1/ 71: 75). >... فكل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها وتحصين مناقبها على ضرب من الضروب وشكل من الأشكال، وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها ... وذهبت العجم على أن تقيد مىثرها بالبنيان ... بنى أردشير بيضاء إصطخر، وبيضاء المدائن، والحضر، والمدن والحصون والقناطر والجسور والنواويس. ثم إن العرب أحبت أن تشارك العجم في البناء، وتنفرد بالشعر، فبنوا غمدان، وكعبة نجران، وقصر مارد، وقصر مأرب، وقصر شعوب، والأبلق الفرد<. ثم انتهى أبو عثمان إلى أن قال: >وأما الشعر فحديث الميلاد صغير السن، أول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه: امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة. وكتب أرسطاطاليس، ومعلمه أفلاطون، ثم يطليموس، وديمقريطس وفلانٍ وفلانٍ قبل بدء الشعر بالدهور قبل الدهور، والأحقاب قبل الأحقاب. ويدل على حداثة الشعر قول امرئ القيس بن حجر: إن بني عوف ابتنوا حسبــــــــــــــــــا..... ضيعه الدخللون إذ غـــــــــــــــــدروا [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 11]أدوا إلى جارهم خفارتــــــــــــــــــــــــــه ..... ولم يضع بالمغيب من نصـــــــــــــروا لم يفعلــــــــــــــوا فعل آل حنظلة ..... إنهم، جير، بئس مـــــــــــــــا ائتمروا فانظر كم عمر زرارة؟ وكم كان بين موت زرارة ومولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإذا استظهرنا الشعر، وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومئة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمئتي عام< وانتهت مقالة أبي عثمان.لا حميري وفي ولا عـــــــــــــــــدس ..... ولا است عير يحكهــــــــــــــــا الثفر لكـــــــــــــــــــن عوير وفى بذمته ..... لا قصر عـــــــــــابه ولا عـــــــــــــــــــــــــــــور وهذه الأبيات التي استدل بها أبو عثمان، يقولها امرؤ القيس في شأن مقتل أبيه حجر، لما قتلته بنو أسد، فانحازت ابنته هند هي وقطينها إلى عوير بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن زيد مناة بن تميم، فأجارها وفر بها ورمى بها النجاد حتى أطلعها نجران وقال لها: >إني لا أغني عنك شيئًا وراء هذا الموضع، وهؤلاء قومك، وقد برئت خفارتي<. وكان امرؤ القيس حين قتل أبوه حجر مقيمًا في بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، لأن ظئره كانت امرأة منهم. وبين من هذا الشعر أنه هو وأخته استجارا ببني حنظلة فلم يجيروهما. استجارا بحميري بن رياح بن يربوع بن حنظلة وعدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة. و>عدس<، هو أبو زرارة بن عدس، وزرارة بن عدس، كان أحد حكام تميم في الجاهلية. وكان قد أسن، وكان موته قبل يوم أوارة الثاني بقليل، وذلك على عهد عمرو بن هند، الذي حرق بني تميم، فقيل له >محرق<، وهو >مضرط الحجارة<، وهو >عمرو ابن المنذر بن ماء السماء<. وكان موله صلى الله عليه وسلم، كما في تاريخ أبي جعفر الطبري (2: 94) لثماني سنين وثمانية أشهر من ملك عمرو بن هند بالحيرة، وذلك في زمن كسرى أنوشروان، وهو عام الفيل الذي غزا فيه أبو يكسوم الأشرم بيت الله الحرام يريد هدمه. وظني، وهو ظاهر الصواب إن شاء الله، أن أسلوب الجاحظ في استظهاره هو هذا: كان موت زرارة بن عدس قبيل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه نحو من خمس وأربعين سنة إلى أن بعث الله رسوله بالإسلام على رأس أربعين سنة من [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 12] مولده. وزرارة بن عدس قد رأس وقاد تميمًا، (وهو أحد الجرارين)، نحوًا من أربعين سنة أو أكثر إلى أن أسن ومات قبل يوم أوارة الثاني، فهذه نحو من تسعين سنة. وابوه >عدس بن زيد< قد ساد من قبله ورأس نحوًا من أربعين سنة. فهذه مئة وعشرون إلى مئة وخمسين سنة، على الأكثر. فإذا كان امرؤ القيس قد ذكر >عدس بن زيد< في شعره، فهذا دليل على حداثة الشعر. ولم كان ذلك؟ لأن أبا عثمان قد زعم أن >أول من نهج سبيل الشعر وسهل الطريق إليه< هو امرؤ القيس الكندي وخاله مهلهل بن ربيعة التغلبي، وما دام هذا صحيحًا عند أبي عثمان، فإنه سيتظهر بغاية الاستظهار، هكذا يقول، فيضيف خمسين سنة أخرى لما عسى أن يكون صحيحًا من قولهم إن امرأ القيس كان يتكئ في بعض شعره على من سبقه كابن حذام الطائي وأبي دؤاد الإيادي، فهذه مئتا عام بغاية الاستظهار. وإذن فالشعر >حديث الميلاد صغير السن<. هذا هو أسلوب أبي عثمان في الاستدلال على حداثة >الشعر< عند العرب. وهذا الأسلوب من النظر في تقدير عمر الشعر العربي، أسلوب حسابي بحت. والحساب وحده لا يكاد يغني شيئًا في ميلاد الشعر وحداثة سنه. لم ينظر أبو عثمان، أو لم يبال أن ينظر، في شعر امرئ القيس نفسه، كيف جاء موزونًا مقفى على ضروب مختلفة من الأوزان والقوافي معروفة عنده في شعر مهلهل وابن أخته الذي ورث عنه الشعر. ولم يبال أن يأمر نفسه أن تنظر، كما أمرنا أن ننظر ف يموت زرارة، كيف تسنى لمهلهل وابن أخته أن يستحدثنا هذا القدر في البحور المختلفة الأوزان والقوافي؟ ولا كيف يمكن أن يقع لهما هذا القدر من الابتداع جملة على غير مثال سابق؟ وأسئلة أخرى كثيرة جدًا. والذي لا أشك فيه، لطول معرفتي بأبي عثمان، هو أنه فرح فرحًا شديدًا غامرًا بأسلوبه الحسابي في الاستدلال على ميلاد الشعر، فأغفله الفرح الغامر عن مذهبه في النظر والفحص والتساؤل، وتقليل كل قضية على وجه بعد وجه، معترضًا، آخذًا تاركًا، دافعًا مثبتًا حتى يفرغ. وهو مذهبه الذي برع فيه، كما [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 13] هو معلوم مألوف في كتبه ورسائله، وفي احتجاجه لآرائه التي تولى نصرتها، وأقواله التي استحدث بها مذهبه في الاعتزال. وهذا الأسلوب الحسابي لا يغني ولا ينفع إلا في أمر واحد لا غير، هو تحديد عم رما بلغنا من شعر مهلهل وابن أخته امرئ القيس، لا أكثر. وكل تجاوز لهذا القدر، تهجم على غيب بلا دليل هاد، وهو أيضًا خطأ فاحش في نقله نتيجة الحساب من موضع هو به لائق، إلى موضع آخر يباينه كل المباينة، وليس ينفع أبا عثمان أن يتكئ في نقله على دعوى يدعيها هو لامرئ القيس أو لخاله مهلهل، زاعمًا أنه أول من نهج سبيل الشعر وسهل الطريق إليه. وذلك لأن هذه الدعوى في أولية امرئ القيس أو غيره، هي قبل كل شيء محتاجة في إثباتها إلى دليل مقنع، غير مجرد الادعاء الذي لا برهان عليه أن: >كتب أرسطاطاليس، ومعلمه أفلاطون، ثم بطليموس وديمقريطس وفلان وفلان، قبل بدء الشعر بالدهور قبل الدهور، والأحقاب قبل الأحقاب<، كما قال، والدعوى لا تقرر بدعوى مثلها تفتقر هي نفسها إلى برهان يجليها ويثبتها. وكلتاهما تحتاج إلى دليل غير الدليل الحسابي المعتمد على زمن الميلاد وزمن الوفاة. وإذن، فقول الجاحظ: >إن الشعر حديث الميلاد صغير السن<، قضية باطلة، لا برهان عليها، وليس لها دليل، وهي مقالة لا أصل لها. وليس يبقى في أيدينا من استظهاره الذي استظهره إلا أمر واحد، هو أن امرأ القيس وخاله المهلهل من أقدم شعراء الجاهلية الذين انتهى إلينا شعرهم، فإذا كان ذلك فإن أكثر الذي انتهى إلينا من سائر قديم شعراء الجاهلية، لا يكاد يتجاوز عمره مئتي عام. وهذا يوشك أن يكون حقًا لا ريب فيه، ولكن يحسن أن نقيد هذه القضية بقيد لا بد منه، احترازًا من التعميم الغامض، هو أننا نعني القصائد الطوال المقصدة، دون ما نسميه المقطعات، أو الأبيات ذوات العدد التي بلغتنا من قديم شعر الجاهلية. وقد كنت شديد العجب من أمر أبي عثمان، أتعجب من أين أتى بهذه الدعوى التي بنى عليها استظهاره، أن امرأ القيس هو أول من نهج سبيل الشعر [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 14] وسهل طريقه؟ وكان بدا لي قديمًا أن أبا عثمان قد أخذ هذا من الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (رقم: 7127)، عن هشيم، حدثنا أبو الجهيم الواسطي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار<. وهذا الخبر نفسه رواه البخاري في الكنى قال: >قال مسدد، حدثنا هشيم، حدثنا شيخ يكنى أبا جهم، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: >صاحب لواء الشعراء إلى النار، امرء القيس، لأنه أول من أحكم الشعر<. وأبو الجهم هذا قال فيه ابن عدي >شيخ مجهول، لا يعرف له اسم، وخبره منكر، ولا أعرف له غيره<، وقد أفاض أخي السيد أحمد محمد شاكر رحمه الله في شرح إسناد هذا الخبر، وذكر إجماع علماء الجرح والتعديل على أن أبا الجهم معروف برواية هذا الخبر، وأنه خبر واهٍ ضعيف جدًا، وذكر أيضًا ما يدور في كتب الأدب من حديث ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر امرأ القيس فقال: >ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها. منسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار<، ووجد أخي إسناده في تاريخ ابن عساكر عن ابن الكلبي، ورواه الطبراني في الكبير >من طريق مسعد بن فروة بن عفيف عن أبيه عن جده< قال: >ولم أجد من ترجم هؤلاء. وهذا إسناد مظلم، لا تقوم به حجة، بل لا تقوم له قائمة. وإنما هي كلها روايات ضعاف متهافتة، يضعف بعضها بعضًا<. وكنت أعذر الجاحظ، لأنه لا علم له بالحديث، وأتعجب له أن يزور في كتبه عن الأحاديث الصحاح الراسخة في الصحة، ثم يعتمد في هذا الأمر على خبر هالك متهافت لا تنهض به حجة! وكنت أظن أو أرجح أنه ترجم ما جاء في هذا الكلام: أن امرأ القيس هو >أول من أحكم الشعر<، فقال: >هو أول من نهج سبيل الشعر وسهل الطريق إليه<، والتشابه بين سياق القولين ظاهر بين، وهذا جائز جدًا، لأن أبا عثمان ذكر في كتبه كالبيان والحيوان وغيرهما أحاديث من أحاديث هشيم بن بشير الواسطي الإمام الثقة (104 – 183)، وروى كثيرًا من الأخبار من [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 15] كتب ابن الكلبي، هشام بن محمد بن السائب (0000 – 204)، فهو خليق أن يكون رأى هذين الخبرين، فأخذ منهما ما أخذ، وصاغ هذه القضية وألقاها إلقاء الواثق بصحتها، وهي في الحقيقة دعوى لا نسب لها إلا في ألفاظ خبرين واهيين، من رواة مجاهيل كذبة معرقين في الكذب. ازددت على الأيام ثقة بأن مقالة أبي عثمان في >كتاب الحيوان<، دعوى مشتقة من ألفاظ هذين الخبرين العليلين الهالكين، مع التباين الشديد في حقيقة المعنى، لم يسبقه إليها أحد من نقاد الشعر وحفظته. بيد أن وجه الرأي تغير عندي فيما بعد. أيكون أبو عثمان وحده هو الذي نظر في قضية >الشعر الجاجلي< وأوليته وقدمه؟ لا بل، نظر فيها رجل من معاصريه هو أقوم منه على الشعر عامة، وعلى الشعر الجاهلي خاصة. وهو أشد تحققًا بدراسته، وأبلغ نفاذًا وتثبتًا في روايته وفحصه. لا، بل من الخطأ أن يقايس بينهما، لاختلاف طريقيهما في النظر والرواية اختلافًا مبينًا. وهذا الرجل هو أبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي، صاحب كتاب >طبقات فحول الشعراء<، (المولود سنة 139، والمتوفى سنة 231)، فهو كما ترى معاصر لأبي عثمان الجاحظ (المولود سنة 150، والمتوفى سنة 255). ولولا أني شغلت بكتاب ابن سلام، وأجمعت العزم على شرحه وتحريره، لكنت خليقًا أن أقف حيث كنت من رأي في دعوى أبي عثمان، لا أزيد عليه شيئًا يذكر) [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 11-16 ]
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
رد: كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام
كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام لمحمود محمد شاكر صفية الشقيفي محمد بن سلام وكتابه الطبقات قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) ويحسن بي هنا. أن أقص القصة في خلال مراجعتي نص كتاب >طبقات فحول الشعراء<، وتتبعي ما نقله العلماء من كتابه إلى كتبهم، وجدت الجاحظ قد نقل في مواضع من كتاب >الحيوان< خاصة، عن ابن سلام أقوالاً وأخبارًا هي بنصها موجودة في نسختي من >طبقات فحول الشعراء<، فثبت عندي أن الجاحظ قد اطلع على نسخة من كتاب ابن سلام، فنقل منها. والدليل على ذلك أن أبا عثما،، كما ذكر الأستاذ عبد السلام هارون في مقدمة >كتاب الحيوان< ومقدمة >كتاب البيان والتبيين<، قد اقعده الفالج قبيل مقتل ابن الزيات في سنة 233، وأنه ألف الكتابين في آخر حياته. وقد أوشك الدكتور طه الحاجري أن [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 16] يقطع بوقت تأليف >كتاب الحيوان< في مقدمة كتاب البخلاء فقال: >أما كتاب الحيوان فنستطيع القطعَ في طمأنينة علمية بأنه كتبه في أواخر حياته، بعد مقتل المتوكل سنة 247<. وقد استظهرت أنا أيضًا أنه ألف كتابًا ثالثًا هو >كتاب البرصان والعرجان< في تلك العلة، ألفه مع الحيوان، وقبل كتاب البيان، لأنه ذكر فيه الأحنف بن قيس، وذكر شيئًا من اقواله ثم قال ص207: >وسنذكر فقرًا من كلامه في كتاب البيان والتبيان، إن شاء الله، وبالله التوفيق< . وإذا كان >كتاب الحيوان<، الذي ألفه أبو عثمان في آخر حياته، يدل على أنه اطلع على كتاب ابن سلام ونقل منه، فإن كتاب >البرصان والعرجان< يدل دلالة قاطعة أخرى على ذلك. فإن أبا عثمان، بعد أن فرغ من ذكر البرصان، واستفتح القول في العرجان ص: 110، قال في تقدمة الباب: >وسنذكر شأن العرجان وأسمائهم وأنسابهم وصفاتهم وأقدارهم بمثل ذلك من الأشعار الصحيحة والأسانيد المرضية<، وقد وفى بما قال في شأن من ذكرهم إلا رجلاً واحدًا لم يذكر عنه خبرًا ولا صفة ولا بيانًا من بين جميع من عددهم وحلاهم من العرجان، من ص110، إلى ص270، بل أسقطه إسقاطًا في خلال العرجان وأخبارهم، فقال في ص: 128 >ومن العرجان: أبان بن عثمان البجلي الأعرج، وكان صاحب أخبار، وقد أكثر عنه محمد بن سلام الجمحي<، ولمي زد على ذلك شيئًا من خبر أو غيره. والذي ذكره من إكثار محمد بن سلام عنه في الرواية بين في كتاب الطبقات. فأنا أرجح أنه استفاد أنه >أعرج< من كتاب ابن سلام فضمه إلى عرجانه، لأن ابن سلام وصفه بالأعرج في موضعين من كتاب الطبقات (ص: 253، 482)، إذ كان أبو عثمان حديث عهد بكتاب ابن سلام، وكان أمر العرجان يشغله، فأخذه وضمه، ولكنه نسى أن يضيف إلى نسبته >البجلي< [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 17] >الكوفي<، لأن ابن سلام لم ينسبه كذلك إلا في موضع واحد من كتابه (ص: 375)، وكوفيته لا تشغل أبا عثمان، إنما يشغله عرجه وهو يؤلف في العرجان. فهذا كما ترى قاطع الدلالة على أن الجاحظ قبل أن يؤلف >كتاب الحيوان< >وكتاب البرصان والعرجان< وقع إليه كتاب الجحمي بأخرة عند تأليفه، فقرأه ونقل منه ما نقل. وظني أن أبا عثمان، كان قد سمع بكتاب الطبقات بعد وفاة ابن سلام، ممن كان يختلف إليه من أصحابه وتلامذته، لأن ابن سلام لم يقرأ كتابه على أحد في حياته، فلما مات بقيت كتبه عند أهله، فأرسل أبو عثمان إلى بعض أهله، فاستعار الكتاب أيامًا، فقرأه على عجل ثم رده، ثم نقلت كتبه بعد ذلك من بغداد إلى البصرة، إلى ابن أخته أبي خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، ولم يقرأه أو خليفة على الناس إلا بعد دهر طويل من وفاة ابن سلام. ولما كان محمد بن سلام قد صدر كتابه في >طبقات فحول الشعراء<، برسالة في الشعر القديم وفي رواة هذا الشعر، ساقه النظر إلى ذكر الشعر فقال: >إن أوائل العرب لم يكن لهم من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف (ص: 26)، وأن >أول من قصد القصائد وذكر الوقائع المهلهل بن ربيعة التغلبي< (ص: 39)، ثم قال: >كان امرؤ القيس بن حجر بعد مهلهل، ومهلهل خاله، وطرفة، وعبيد، وعمرو بن قميئة، والمتلمس في عصر واحد< (ص41)، وأن امرأ القيس >سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنتها العرب، واتبعته فيها الشعراء: استيقاف صحبه، والتبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ وشبه النساء بالظباء والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصى، وقيد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى< (ص: 55) – ولما قرأ أبو عثمان مقالة ابن سلام في أول كتابه، أعجبته، وهزته، وذكرته بالخبر الهالك الذي جاء فيه أن امرأ القيس >صاحب لواء الشعراء إلى النار، وأنه أول من أحكم الشعر<، بدا له أني صوغ من ذلك كله قضية، يزيد فيها على ابن سلام، فاجتهد فصاغ قضيته الأولى: >أول من نهج سبيل الشعر وسهل الطريق إليه، امرؤ القيس ومهلهل بن ربيعة<، وأعجبه [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 18] ما صاغ إعجابًا مفرطًا، فإنه ابتدع ما لم يسبق إليه، ولم يبال بهذا الفرق الظاهر بين قوله هو: >أول من نهج سبيل الشعر<، وقول ابن سلام: >أول من قصد القصائد<، وقولي الخبر الهالك أيضًا: >أول من أحكم الشعر<. فإن ألفاظ الخبرين جميعًا لا تتناول الحكم على أولية الشعر نفسه، بل هي مقصورة على أولية تقصيد القصائد وذكر الوقائع فيها، أو على أولية إحكام الشعر، وأن مهلهلاً وامرأ القيس كان لكل منهما الفضل الأول في ذلك. بيد أن أبا عثمان لم يبال طرفة عين أن ينقل هذه الأولية من معنى خاص محدود، هو تقصيد القصائد وتطويلها، إلى معنى عام مطلق جامع هو >الشعر< نفسه. واستحوذ على أبي عثمان إعجابه بنفسه، وثقته بحسن رأيه ونظره، أن يزداد سبقًا في الاستخراج والاستنباط، فزاغ زيغة منكرة مفرطة الغرابة، فأعاد صياغة القضية صياغة جديدة يلقيها مسلمة لا تحتاج إلى برهان فقال: >أما الشعر فحديث الميلاد صغير السن، أول من نهج سبيله، وسهل الطريق إليه: امرؤ القيس ومهلهل بن ربيعة<. وصدر هذه القضية مشتق من قول ابن سلام: >وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف<، لقرب عهدهما من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو >محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف<. والأمر بين جدا كما ترى!! ولم يقنع أبو عثمان بهذا، بل أراد أن يدعم هذه القضية بدليل مبتدع آخر لم يسبق إليه. فسول له إعجابه بنفسه وبرأيه، وبالقضية التي بهرته صياغتها حين صاغها، فزاغ زيغة أخرى أشد جورًا، فابتغى أن يحدد ميلاد الشعر تحديدًا لا يختلف عليه، فطلب من شعر امرئ القيس الذي كان عنده أول من نهج سبيل الشعر كما زعم، دليلاً أشد ظهورًا وتحديدًا، وأوثق حجة من قول ابن سلام في شأن أولية تقصيد القصائد على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف، فأسعفه شعر امرئ القيس بأبيات فيها ذكر >حميري بن رياح بن يربوع بن حنظلة< و>عدس بن زيد بن عبد الله بن مالك بن حنظلة<، >وعدس<، [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 19] هو رأس بني تميم في زمانه، وابنه زرارة بن عدس، رأس تميمًا أيضًا، وهو مشهور لا يخفى ذكره، لاقتران اسمه بأشنع يوم مذكور في بني تميم، يوم أن حرق عمرو بن هند مئة من تميم في يوم أوارة الثاني، وهو مشهور أيضًا معروف قرب تاريخ حدوثه من تاريخ مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذن، فما أيسر الأمر وما أبينه! وإذن، فقد أوفى أبو عثمان على الغاية، وسبق، فحق له أن يختم ما استخرجته براعته فيقول مدلا متبخترًا: >فانظركم كان عمر زرارة، وكم كان بين موت زرارة ومولد النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا استظهرنا الشعر، وجدنا إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار، فمئتي عام<. وانتقال أبي عثمان من الاستدلال بالشعر الذي فيه ذكر >عدس<، دون أن يذكر أنه يعنيه أو يريده، ثم إلقاؤه اسم >زرارة< غفلا بعقب ذلك مباشرة دون أن يشير إلى أنه >زرارة بن عدس< واطراحه ذكر >يوم أوارة الثاني< الذي جاء عقب موت >زرارة<، وإغضاؤه عن الاحتجاج لتاريخ ذلك اليوم متى كان؟. أقول هذا الانتقال المفاجئ، وسياق عبارته في الأمر والاستفهام وتفويض الأمر كله إلى سامعه أو قارئه غاية في الإدلال والتشامخ ليس بعدها غاية! وما حاجة أبي عثمان إلى تفسير هذا الاستدلال الحسابي، إذا كان الأمر أوضح من أن يفتقر إلى بيان؟!! وقد بيناه نحن آنفًا إكرامًا لأبي عثمان! وقد ظن أبو عثمان ما ظن في لطف ما سبق إليه، وفي براعة ما ابتدعه. واحتملته خيلاؤه التي لا تفارقه فقيده في أول >كتاب الحيوان<، وكان حديث عهد بقراءة كتاب ابن سلام، ليكون عند نفسه وعند الناس قد أربى على الجمحي، وافترع قولاً هو أحسن من قوله وأوثق، وأنه أتى على ما أبهمه ابن سلام فأضاءه ونفى عنه الظلام. بيد أن الحق دامغ، يغسل تهاويل الزينة الظاهرة عن وجه كل قضية باطنها باطل. وقضية أبي عثمان في أولية الشعر، هي كما رأيت، دعوى باطلة مركبة على دعوى باطلة أخرى لا أصل لها، وكلتاها لا حجة عليها يجب التسليم لها من نص أو نظر. لقد بطلت قضيته وتكشفت [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 20] عنها زينتها، وعادت عجوزًا غير ذات خليل، كما يقول امرؤ القيس. شمطاء جزت رأسها وتنكرت ... مكروهة للشم والتقبيل فالعجب كل العجب بعد ذلك، لمن يعتمد قول الجاحظ في أولية الشعر وعمره، وحداثة ميلاده وصغر سنه! ولم يبق في أيدينا مما يعتمد عليه، إلا الذي لم يختلف عليه أحد، وهو أن من أقدم ما وصلنا من شعر الجاهلية، شعر مهلهل وامرئ القيس وأقرانهما، فإن شئت ألا تفجع أبا عثمان في قضيته وحسابه فزد على ذلك أن الذي بين الرجلين الشاعرين وأقرانهما وبين مجيء الله بالإسلام، يتراوح ما بين مئة وخمسين سنة، إلى مئتي سنة. هذا غاية ما يمكن التسليم بصحته، لا أكثر ولا أقل. ومع ذلك فالأمر على هذا الوجه ليس يقينًا جامعًا، ولا حقًا قاطعًا.وإذن، فقد صار قول الجاحظ الآن لا يعنينا في شيء، والذي ينبغي أن يعنينا هو ما قاله ابن سلام في رسالة كتابه >طبقات فحول الشعراء<، فالرجل أشد من أبي عثمان تحريًا وضبطًا، وأبلغ منه تحققًا وتثبيتًا في رواية الشعر ونقده، وهو بلا ريب أعلم به منه وأخبر. فمن الحسن إذن أن نقبل بوجوهنا عليه، وأن نحاول أيضًا تحليل أقواله تحليلاً متأنيًا، يقفنا على أول مدرجة الصواب، ويجوز بنا طريق الشك إلى قرار الحق واليقين، ولا حول ولا قوة إلا بالله المخرجنا من ظلمات الحيرة والضلال إلى نور الهدى والطمأنينة. وقبل كل شيء، وقبل النظر في مقالة أبي عبد الله محمد بن سلام الجمحي في كتابه، >طبقات فحول الشعراء<، أجده لزامًا لا مفر منه، أن أكشف عن شيء من منهجي في قراءة كتب القدماء من علمائنا رحمهم الله. فقد غبر علي زمان طويل في مدارسة كتبهم، على اختلاف موضوعاتها، [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 21] واختلاف أزمنة مؤلفيها، ولقيت العنت وما فوق العنت في التردد ما بين الخطأ والصواب في فهم بعض ما يقولون، فأسلمني ذلك إلى حالة من الشك تأخذ بأكظامي، وأنا أقرأ بعض كلامهم، حتى ما أطيق أن أتنفس، وأظل حائرًا متهيبًا أن أقول برأي قاطع في فهم ما أقرأ، وتغلبني غمرة طاغية من قلة الثقة بفهمي وبمعرفتي. ورب حرف واحد في كلامهم ينقلني من موقف الواثق، إلى موقف مناقض ينفي هذه الثقة، ثم يأتي بعده حرف آخر يحملني من موقفي هذا، فيطرحني مرة أخرى إلى الموقف الأول في الثقة والاطمئنان، وهكذا دواليك حتى أضق بما أنا فيه. فمن أجل ذلك ألجأ دائمًا إلى إعادة النظر مرة بعد مرة، وأحاول أن أستوعب في كل مرة قدرًا من الشكوك وقدرًا من اليقين، وأعرض هذا على الكلام كله شيئًا بعد شيء، حتى أزيل التخالف الداعي إلى الشك ما استطعت. ومعنى ذلك: أن ألجأ إلى تحليل الألفاظ ثم الجمل تحليلاً دقيقًا، في خلال النص كله طال أو قصر، ثم أعيد تركيبه بعد أن يزول كل غموض يكتنف الألفاظ، وكل تشقق يسري في الجمل، وكل انتشار يبعثر مقاصد كاتبه على أنظارنا نحن المحدثين من أهل العربية. وهذا أمر يطول الحديث عنه، ولا يظهر ظهورًا جليًا إلا بمثل مضروب يدل عليه، وقد كان ذلك في بعض ما كتبت قديمًا، وكان منذ قليل في تحليلي لكلام أبي عثمان الجاحظ على وجه من وجوه هذا المنهج، وسيكون شيء منه بعد قليل من تحليل كلام ابن سلام في رسالة كتابه >طبقات فحول الشعراء<، وحتى عنوان هذا الكتاب نفسه لم يسلم عندي من الشك والتحليل. وذلك أني منذ عهد قديم، وقفت حائرًا متلددًا في ضبط معنى بعض ألفاظ تدور بينا اليوم قريبة واضحة المعنى، ثم لا نجد في أنفسنا سببًا يحملنا على إعادة النظر في حقيقة معناها، ثم عند التوقف والشك، ومع الأناة والترداد، ظهر لي أن بعضها في كلام ابن سلام عند تحليله، أصبح محفوفًا بمعان غير [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 22] المعاني التي ألفتها وألفها العلماء والأدباء في زماننا وقبل زماننا، لم يساورهم ولم يساورني أنا أيضًا من قبل شك في معناها الواضح المألوف عندنا. فلما توقفت فيها فيما بعد لأسباب كثيرة، لم يكن ذلك عندي مستغربًا، لأن بعض الألفاظ التي استحدثها قدماء علمائنا من أهل العلم، في كل فن منه، لم تكن يومئذ قد استقرت معانيها على الوجه الذي انتهى إلينا وألفناه نحن في كتب من بعدهم من العلماء والأدباء. وهذا أمر معروف مقرر بلا ريب فيه، ولكن الإلف يغطى عليه وينسيناه. فمن ذلك، مثلاً في كتاب ابن سلام لفظ >طبقة<، استعمله صاحبنا في ثنايا كتابه، ثم جعل جمعه >طبقات< عنوانًا لكتابه. وهذا اللفظ مألوف معروف عندنا وعند من سبقنا من العلماء، وسموا كثيرًا من كتبهم به، فقالوا: >طبقات الفقهاء<، >وطبقات الأدباء< و>طبقات الأطباء<، و>طبقات الشافعية< و>طبقات اللغويين والنحاة< و>طبقات الأمم<، و>طبقات الصوفية<، وعشراتٌ من الكتب تحمل لفظ >طبقات<، وهو في جميعها مفهوم واضح. ولما تعرض المحدثون من علمائنا لكتاب ابن سلام، حملوا معنى >الطبقة< و>الطبقات< عنده على ما ألفوه، فقالوا بتفضيل الطبقة الأولى من فحول الجاهلية على الطبقة الثانية منهم، وهكذا، لأنه ظاهر أنه لم يقسم هؤلاء الشعراء على وفق الزمن وتاريخ المولد والوفاة، فلم يبق في أيديهم إلا معنى واحد من معاني >الطبقة<، وهو تفضيل طبقة على طبقة، وهو معنى لا يريده ابن سلام، وليس في كتابه شيء يد لعليه، بل فيه ما يدل على أنه لا يريد هذا التفضيل البتة. وقد بينت في مقدمة الطبعة الثانية من نسختي من >طبقات فحول الشعراء< (ص24، 25) ما أنا فيه من التردد من فهم هذا اللفظ، ثم عدت في المقدمة نفسها، فحللت هذا اللفظ، وحاولت تتبع تاريخه، وانتهيت إلى ما أظن أنه حقيقة ما يعنيه ابن سلام بهذا اللفظ، وذلك في المقدمة من ص65 إلى ص69، ثم قلت في ختام ذلك: >وسيبقى أمر كتاب >طبقات فحول الشعراء< بعد ذلك، محتاجًا إلى دراسة وتفصيل وتتبع، وإلى تفلية لأصول ابن سلام في النظر، ولأسسه التي بنى عليها نقده في الشعر، [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 23] وهو خليق بأن تبذل في دراسته الأعوام، لأنه أقدم كتاب وصل إلينا من كتب قدماء نقاد الأدب والشعر، بل لعله طليعة كتب النقد في الأدب العربي. وهو حقيق بهذه المنزلة من التقديم والجلال<. وهذا كاف إن شاء الله، في الدلالة على بعض منهجي في تحليل هذه الرسالة الجليلة التي استفتح بها أبو عبد الله بن سلام الجمحي، كتابه >طبقات فحول الشعراء<). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 16-24]
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
رد: كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام
كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام لمحمود محمد شاكر صفية الشقيفي رسالة طبقات فحول الشعراء وسياقاتها قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) أما رسالة كتاب >طبقات فحول الشعراء<، وهي مقدمته التي استغرقت نحو خمسين صفحة من طبعتي الثانية لكتابه ص(3 – 50). والتي قسمتها أنا إلى خمس وخمسين فقرة، أولاهن إسناد الكتاب، فلي في جملتها وسياقها حديث قصير، لا بد منه، حتى يكون ما أقوله واضحًا، وليكون ما نتولاه من تحليل مقالة ابن سلام في صدر كتابه واضحًا أيضًا، وميسرًا سبيل من يريد أن يتعقب كلامي، وهو ينظر في الأصل، وهو الكتاب المطبوع. والذي يوجب ذلك أن القدماء من علمائنا كانوا لا يجدون في الاستطراد حرجًا على أنفسهم ولا على سامعيهم أو قارئيهم، وكانوا لا يرون به بأسًا، لأنه يعين على بذل علم أو معرفة نافعة في جانب من جوانب الموضوع الذي يتحدثون فيه. حتى يبلغوا من ذلك أن تجد أداة الشرط في أول الحديث، ثم تنقضي عدة صفحات طوال جدًا حتى تقف على جواب الشرط. تجد هذا عند الشافعي والطبري وغيرهما من أهل العلم، ~. ولهذا من فعلهم أسباب كثيرة، ليس هذا موضع بيانها. وسترى مصداق ذلك في رسالة كتاب >طبقات فحول الشعراء<، كما أصفها الآن.بدأ ابن سلام عرض كتابه وسببه تأليفه في الفقرة الثانية (ص3 من المطبوع) فقال: >ذكرنا العرب وأشعارها، والمشهورين المعروفين من شعرائها وفرسانها وأشرافها وأيامها، إذ كان لا يحاط بشعر قبيلة واحدة من قبائل العرب، وكذلك فرسانها وساداتها وأيامها. فاقتصرنا من ذلك على ما لا يجهله عالم، ولا يستغنى عن علمه ناظر في أمر العرب، فبدأنا بالشعر<.... [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 24] وواضح أنه أراد هنا أن يبين منهجه في تأليف الكتاب، وأنه سيذكر بعقب ذلك تتمة عرضه لعمله في التأليف، ولكنه قطع هذا العرض فجأة، ولم يعد إلى وصل الحديث عنه إلا في الفقرة الحادية والثلاثين (ص: 23) فقال متممًا ما بدأ به: >ففصلنا الشعراء من أهل الجاهلية والإسلام، والمخضرمين الذين كانوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام، فنزلناهم منازلهم، واحتججنا لكل شاعر بما وجدنا له من حجة، وما قال فيه العلماء ...<، ثم استطرد بعد ذلك في حديث متصل عن هذا الشعر منذ انتهى من هذه الفقرة الحادية والثلاثين، ثم عاد في الفقرة الخامسة والخمسين (ص: 49) فقال متممًا عرض كتابه أيضًا فقال: >ثم إنا اقتصرنا بعد الفحص والنظر والرواية عمن مضى من أهل العلم، إلى رهط أربعة، اجتمعوا على أنهم أشعر العرب طبقة...< وختم بتمام هذه الفقرة رسالة كتابه أو مقدمته. وفي خلال ذلك بعض الاستطراد وهو لا يعنينا هنا. هذا هو السياق الأول في مقدمة كتابه. ثم يأتي سياق ثان معترض يبدأ من الفقرة الثالثة (ص: 4)، وينتهي عند آخر الفقرة الثالثة عشرة (ص: 11) يبدأه بقوله: >وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه ...<، يتعرض فيه لبيان رأيه في هذا الموضوع، ويكشف عن حقيقة بطلانه. ثم يبدأ سياقًا ثالثًا يذكر فيه علماء العربية، منذ الفقرة الرابعة عشرة (ص: 12) إلى أن ينتهي بالفقرة الثلاثين (ص: 23)، بادئًا بذكر أبي الأسود الدؤلي، ويحيى بن يعمر العدواني، وقتادة، وإسحق بن سويد، وميمون الأقرن، وعنبسة الفيل، ونصر بن عاصم الليثي، وعبد الله بن أبي إسحق الحضرمي، وعيسى بن عمر، وأبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، ومسلمة بن عبد الله الفهري، وحماد بن الزبرقان، ثم الخليل بن أحمد الفراهيدي، ثم أبي محرز خلف بن حيان، وهو خلف الأحمر، ثم الأصمعي، وأبي عبيدة، وكلهم من أهل البصرة، ثم يختم هذا السياق، فيقول: >وأعلم من وردّ علينا من غير أهل البصرة المفضل بن محمد الضبي الكفوي<. [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 25] وإذن فترتيب سياق المقدمة جملة هو هكذا: السياق الأول: 1، 2، ثم 31 إلى 44. السياق الثاني: من 3، إلى 13. السياق الثالث: من 14، إلى 30. ووضوح هذه السياقات الثلاثة المتداخلة والفصل بينها واجب ومهم جدًا لمن يريد أن يفهم ما يريد ابن سلام بكلامه، وهو أشد وجوبًا لمن يحلل ألفاظه وجمله بغيرة الوقوف على مقاصده، بلا خلط بين كلامين مفترقين متباينين. وبين جدًا أن ابن سلام قد قطع تمام كلامه في الفقرة الثانية التي يعرض فيها نهج كتابه، والتي وصلها بعد ذلك بزمان في الفقرة الحادية والثلاثين إلى الخامسة والخمسين، معترضًا مستطردًا بفصلين مختلفين، أولهما عن >المصنوع< من الفقرة الثالثة إلى آخر الثالثة عشرة. وثانيهما عن علماء العربية من الفقرة الرابعة عشرة إلى الفقرة الثلاثين (12: 23). وبهذه المناسبة عند ذكر هذا الفصل الثاني الطويل، أحب أن أذكر وهمًا كبيرًا وقع فيه إمام جليل من قدماء علمائنا أيضًا، يدلنا على وجوب التأني وإعادة النظر ووضوح الفصل بين هذه الفصول التي تضمنها رسالة كتاب >طبقات فحول الشعراء< ، وذلك أن إمامنا أبا علي القالي صاحب كتاب الأمالي والنوادر (المولود سنة 288، والمتوفى سنة 356) وهو قريب العهد من ابن سلام، قال في أماليه (1: 157): >وقال محمد بن سلام في كتاب "طبقات العلماء<، >كنا إذا سمعنا الشعر من أبي محرز (يعني خلفًا الأحمر) لا نبالي ألا نسمعه من قائله< وهو الجزء المذكور في كتاب >طبقات فحول الشعراء رقم 29 من هذا الفصل الثاني، وليس لابن سلام كتابٌ بهذا الاسم، ووهم أبو علي لأنه اعتمد على ذاكرته، ولم يكن كتاب ابن سلام من بين الكتب التي حملها معه إلى الأندلس، كما يدل على ذلك فهرست ابن خير الإشبيلي. وقد أشرت إلى ذلك في مقدمة الكتاب (ص: 38). وهذا الوهم على هوانه، يحذرنا ويوجب علينا الحرص على الأناة والدقة، مخافة أن نقع فيما هو أجل وأخطر، وأبعد أثرًا في إساءة فهم كلام أبي عبد الله ابن سلام، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 26] لم يكد أبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي يستفتح رسالة عرض منهج كتابة بالفقرة الثانية التي ختمها بقوله: >فبدأنا بالشعر<، والتي نقلتها آنفًا من قريب، حتى هجم بغتة على إحدى قضايا >الشعر<، وهي قضية المصنوع المفتعل منذ أول الفقرة الثالثة فقال: >وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربية، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج، ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف، وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد، إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه، أن يقبل من صحيفة، ولا يروى عن صحفي. وقد اختلفت العلماء بعد في بعض الشعر، كما اختلفت سائر الأشياء، فأما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه<. وهي الفقرة الثالثة كلها. وهذه عبارة واضحة جدًا عند النظرة الأولى، ليس فيها معنى غامض يوجب الأناة والتأمل، وقد مررت بها مرارًا وأنا أعيد قراءة كتاب ابن سلام، فما توقفت ولا ترددت. وحتى المباغتة التي ارتكبها ابن سلام في انتقاله وقطع حديثه عن عرض الكتاب إلى أن تبدأ الفقرة الثلاثين، لم تختلجني إلى الشك في فهمي وإعادة النظر في ألفاظها. ومضى دهر قطعتني فيه عن ابن سلام القواطع، ثم أتى علي يوم فانتبهت فيه فجأة إلى أن هذه الفقرة قد غابت عن الطبعة الأولى المختصرة من >كتاب الطبقات< والتي طبعها الأعجمي يوسف هل في مدينة ليدن سنة 1913، عن طبعته الثانية في القاهرة سنة 1920، فكان غيابها عن هاتين الطبعتين اللتين رجع إليهما العلماء والأدباء إلى أن طبعت نسختي التامة منه في سنة 1952، قد قاد أول المشككين في الشعر الجاهلي النافين لصحة ما روى منه، إلى فساد كثير في الرأي. وإلى خلل مفزع في النظر. فلما حضرت هذه الفقرة نفسها في نسختي، فهمت على غير وجهها، ووضعت في غير موضعها، وصارت حجة في معان هي في الحقيقة حجة [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 27] عليها لا لها، ثم أفضت إلى تفسير سائر كلام ابن سلام في رسالة كتابه تفسيرًا غير صحيح. فيا عجبا لها من فقرة! كان حضورها في نسختنا من الطبقات ضارًا، وكان غيابها عن نسخة يوسف هل ضارًا ايضًا! وإذن فللكلام كما للناس أضرار، في مشهدهم ومغيبهم!. وعلى الأيام إلا بي ارتيابي في شأن هذه الرسالة، ودون أن ارجع إلى نص كلام ابن سلام، جدت في نفسي، أو وقع في روعي على الأصح، أن الأمر لا يخرج عن أحد احتمالين: إما أن يكون سقط من أصل كلام ابن سلام شيء مهم، وإما أن أكون أنا قد أسأت فهم ما قرأت. فعدت أقرأ الرسالة كلها متمهلاً، فلم أستطع أن أتبين موضعًا أقول فيه: ههنا شيء مفقود، ووجدت أيضًا أني قد نبهت في تعليقي على الكتاب، وبينت مواضع الاعتراض والاستطراد بيانًا غير مختل ولا ناقص. وإذن، فقد بطل احتمال ضياع شيء من كلام ابن سلام، ولم يبق إلا أن تكون الآفة من سوء فهمي لكلامه، ولم أكذب، فقرأت مرة أخرى، ولكني لم أظفر بالذي أبتغيه من اتهام نفسي وإساءتها، فأصحح ما أسأت فيه، ولكن القراءة ثم إعادة القراءة قد أظفرتني بشيء مهم جدًا، وهو أن مباغتة ابن سلام بانتقاله من الفقرة الثانية التي بدأ فيها عرض منهجه في كتابه، والتي ختمها بقوله: >فبدأنا بالشعر<. قبل أن يستتم عرضه إلى فقرة ثالثة يتحدث فيها عن ضرب من الكلام >مصنوع مفتعل موضوع< مستطردًا متدفقًا في بيان خبث هذا الشعر وعواره، ثم لا يكف حتى يبلغ أقصى الفقرة الثالثة عشرة – أقول: انقلبت هذه المباغتة التي ألفت أشباهها في بعض كتب القدماء من علمائنا، إلى طفرة غريبة مفرطة الغرابة، تزداد غرابتها ظهورًا وعلانية حين يستمر في إعراضه وازوراره عن إتمام ما ابتدأه في الفقرة الثانية، غير مبال نقرة ولا فتلة بما هو فاعل، لا تساوره أدنى رغبة في وصل ما انقطع من حديثه، بل زاد تدافعًا في غلواء استطراده الأول باستطراد ثان يبدأ منذ الفقرة الرابعة عشرة إلى أن يكفكف من تدافعه عند منقطع الفقرة الثلاثين، ثم يكف فجأة ايضًا، ثم لا يفصل بينها وبين الفقرة الحادية [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 28] والثلاثين بنفس أو نفسين ليستريح، بل ينطلق كأنه لم يقل شيئًا، وكأن ختام الفقرة الثانية لم يكد يفصل بعد عن لسانه وهو يقول: >فبدأنا بالشعر<، فيستمر قائلاً: >ففصلنا الشعراء من أهل الجاهلية والإسلام والمخضرمين الذين كانوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام، فنزلناهم منازلهم ...< ويسير على هينته يعرض نهج كتابه حتى انقضى العرض عند آخر الفقرة الخامسة والخمسين. هذا عجبٌ! وابتداؤه هذه الفقرة الحادية والثلاثين بالفاء العاطفة المعقبة (أي التي تفيد العطف والتعقيب) في قوله: >ففصلنا< منبت كل البت عن الفقرة الثلاثين، وملتحم تمام الالتحام بالفقرة الثانية، على بعد ما بينهما. فسياق كلامه إذن: >فبدأنا بالشعر، ففصلنا الشعراء من أهل الجاهلية ...< ورحم الله أبا عبد الله وغفر له). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 24-29]
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
رد: كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام
كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام لمحمود محمد شاكر قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) صفية الشقيفي الوجوه الخمسة الملثمة في رسالة ابن سلام ما هذا الذي فعله ابن سلام؟ ولم؟ وفيم؟ وعلام؟ وأسئلة أخرى كثيرة، فاستيقنت نفسي أني لن أجد إلى جوابها سبيلاً إلا بعد تحليل هذه الفقرة الثالثة تحليلاً شافيًا كافيًا معينًا على استخراج ما كمن فيها وفي ألفاظها من دوافعه ومعانيه، ثم أعرض ما أقف عليه عرضًا متصلاً بلا ملل، وإلا فإني واقف طويلاً حيث أنا من حيرتي وتلددي، بلا بصيص من نور يهدي. وما كذبت أن فعلت، وكانت غمة فانزاحت، وتبلج عمود الصبح عن بياضه، بحمد الله على إحسانه وفضله. وبيان ذلك: أني رأيت هذه الفقرة المباغتة التي شرع ابن سلام يحدثنا فيها عن >مصنوع، مفتعل، موضوع<، قد اشتملت على ذكر >ناس< لم يحدد هو معارفهم وأوصافهم في كلامه، ولم يفصل بين ناس منهم وناس، واشتملت أيضًا على ألفاظ لا ندري نحن حد معانيها عنده، قبل أن تنتهي إلينا محملة بمعان نشبت فيها على مر القرون وعلى طول الاستعمال. فاستخرجت منها خمسة وجوه ملثمة، لا بد من كشف القناع عن ملامحها حتى نتبين قسماتها تبينًا ينفي عنها الغموض والإبهام، وهذه هي على ترتيبها في كلام ابن سلام: [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 29] الوجه الأول: >قوم تداولوا شعرًا من كتاب إلى كتاب<. ولا ندري من الناس يعني ابن سلام؟ الوجه الثاني: وصف هؤلاء القوم بأنهم >لم يأخذوا هذا الشعر عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء<، فذكر >أهل البادية< >والعلماء<. وهذا أيضًا غير محدد، لأنا لا نعرف ماذا يريد بقوله >أهل البادية<، ولا نعلم من هم هؤلاء >العلماء<؟ الوجه الثالث: ذكر قومًا آخرين سماهم >أهل العلم والرواية الصحيحة<، لهم وحدهم حق إبطال بعض هذا الشعر، ولكنه لم يبين من هم >أهل العلم< ولا معنى ما يريده بالرواية الصحيحة. الوجه الرابع: ذكر >صحيفة< نهى عن قبول هذا الشعر عنها، وذكر >صحفيًا< نهى كل أحد أن يروى عنه هذا الشعر. وأيضًا تركنا في عمياء دون أن يحدد لنا معنى ما يريد بالصحيفة، ودون أن يبين من يكون هذا >الصحفي<؟ وهذه الوجوه، غير ممكن تبين ملامحها وحدودها على وجه الدقة، فيما أظن، حتى يتم توسم آخرهن، وهو الوجه الخامس، ولذلك رأيت أن أتجاوزها حتى أفرغ منه. أما الوجه الخامس: فهو وجه >الشعر<، وهو عندي أخفاهن صورة، وأعسرهن على التوسم، وهو أحق بالتقديم، لأنه هو الحقيقة المشتركة الموزعة بين جميعهن. وتحليل معانيه عند ابن سلام في سياق هذه الفقرة، هو الذي سيضيء بنوره معارف هذه الوجوه الأربعة، فنخرج من الشك والتردد، إلى اليقين والاطمئنان. كان انتقال ابن سلام المفاجئ من منتهى الفقرة الثانية إلى رأس الفقرة الثالثة على هذا الوجه: >فبدأنا بالشعر، وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه<. وأيسر النظر والتأمل دال على أن في أيدينا قسمة واضحة، تجعل >الشعر< قسمين: أحدهما ظاهر في صريح لفظه، وهو >الشعر المصنوع المفتعل [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 30] الموضوع<، والآخر محدثٌ مضمرٌ يخرج بدلالة المخالفة وهو >الشعر غير المصنوع<. وظاهر السياق بعد ذلك يوهم أن كل ما في هذه الفقرة مصروف إلى الظاهر منهما وهو >الشعر المصنوع< وحده دون >الشعر غير المصنوع<، ولكني بعد تأمل وجدت الأمر غير مستقيم ولا واضح، لأنه بعد أن فرغ من وصف >الشعر المصنوع<، أتى بجملتين متتابعتين فيهما أربعة ضمائر، أولاهن فيها ثلاثة ضمائر متتابعات في قوله: >وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء<، فهذه الثلاثة لا غضاضة في عودتها إلى >الشعر المصنوع<، إلا الضمير الثالث في >لم يعرضوه<، فإن عودته إليه قد تجعل هذه الجملة فضولاً محضًا لا معنى له، لأنه إذا كان جوهر الحديث كله عن >الشعر المصنوع< وحده، فعرضه على العلماء وترك عرضهم عليهم سواء، فإن عرضه عليهم لا ينفعه شيئًا، ومحال أن يصححوه أو يصححوا شيئًا منه؛ لأن الحديث هنا عن >الشعر المصنوع< لا عن غيره من الشعر. ثم تأتي الجملة الثانية وفيها الضمير الرابع، وهي قوله: >وليس لأحد، إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه، أن يقبل من صحيفة أو يروى عن صحفي< فإن هذه الجملة إذا كانت بضميرها هذه تمامًا لسياق الحديث عن >الشعر المصنوع< وحده، صارت أشد فضولاً وبطلانًا واضطرابًا من الجملة السالفة، إذ لا معنى لإجماع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء، أي بعض من المصنوع دون بعض، وهو عندنا هنا كله مصنوع. وإذا أجمعوا على إبطال بعض المصنوع، فما حكم هذا الباقي، وهو مصنوع أيضًا؟ هذا خلف من الكلام غير مستقيم. بل أكبر من ذلك وأسوأ مصيرًا، أنه إذا كان السياق كله عن >الشعر المصنوع< وحده، فإن هذه الجملة تكون عطفًا على ما قبلها، فإذا بدئ بالشرط الذي فيها، والشرط محتاج إلى جزاء، كان تركيبها هكذا: >وإذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه، فليس لأحد أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي<، وهو كلام، كما يقولون [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 31] >كبعر الكبش<، يقع متفرقًا غير جار على نظم متصل ولا مشاكلة بين الشرط وجوابه، و>بعر الكبش<، هو الذي يقول فيه القائل: وشعر كبعر الكبش، فرق بينه .... لسان دعى في القريض دخيل وهذا لا يقبل ممن هو دون ابن سلام بمنازل لا تعد، فما ظنك بابن سلام! ولو كان الحديث كله عن >المصنوع< وحده لكان حق هذه الجملة أن تكون خاتمة قائمة برأسها، غير معطوفة على ما قبلها، وتكون نهيًا من ابن سلام عن قبول هذا المصنوع وروايته، فيكون حق تركيبها: >وليس لأحد أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي< بإسقاط الشرط المعترض الذي أحال معناها، وجعلها من تمام الحديث >المصنوع< معطوفة عليه. وبذلك يستقيم الكلام على بعض الخلل.بل إن الأمر سينتهي إلى فساد في المعاني والمقاصد أبلغ وأفحش، فإنه يقول بعقب هذا الكلام مباشرة: >وقد اختلف العلماء بعد في بعض الشعر، كما اختلف في سائر الأشياء، فأما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه< فنحن بين اثنتين حيال هذه الجملة: إما أن تكون عن سياق حديثه عن >الشعر المصنوع< وحده، والذي استمر في الحديث عنه إلى آخر الفقرة الثالثة عشرة = وإما أن تكون جملة معترضة قائمة على حيالها في خلال الحديث عن >الشعر المصنوع<. فإذا كانت الثانية، وذلك أن تكون جملة معترضة في السياق قائمة على حيالها، لا علاقة بما قبلها من حديث >الشعر المصنوع<، ولا بما بعدها منه، كأن ابن سلام أعرض عنه إعراضة ليحدثنا مبتدئًا عن >العلماء< الذين عندهم شعر شعراء العرب، ويدلنا على أن هؤلاء العلماء قد اختلفوا في بعض ما عندهم من شعر العرب، واتفقوا على بعض، فما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه = فإن كان هذا منه، فمعنى ما حدثنا عنه صحيح لا غبار عليه، وهو حق كله، لا يقدح فيه أنه لم يبين لنا معنى اختلافهم هذا، ما هو؟ وما صورته؟ وعلى أي وجه يكون؟ أيختلفون في نسبة قصيدة، ينسبها بعضهم إلى [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 32] شاعر جاهلي بعينه، وينسبها آخرون إلى جاهلي آخر؟ أم في نسبة بعض أبياتها إلى جاهلي، ونسبة بعضها الآخر إلى جاهلي غيره أو إلى جاهلين آخرين؟ أم في نسبتها كلها إلى مخضرم أو إسلامي؟ أم في نسبة بعضها إلى جاهلي، ونسبة بعضها إلى مخضرم أو إلى إسلامي؟ ووجوه أخرى من الاختلاف كثيرة كلها صحيح وممكن. ولكن ينبغي هنا أن يبقى هذا الاختلاف بعيدًا كل البعد عن الصنع والافتعال والوضع، لأن ابن سلام كما قلنا قد قطع هذا الحديث وأعرض عنه إعراضة، ليحدثنا مبتدئًا عن شيء غير >الشعر المصنوع< ... وإذا كان ذلك كذلك، فقد عدنا مرة أخرى إلى >بعر الكبش< الذي يقع متفرقًا متعاديًا متنافرًا، وبذلك يكون ابن سلام قد ارتكب عملاً غريبًا جدًا، هو إسقاطه جملة معادية لسياق حديثه عن >الشعر المصنوع<، يقذف بها في خلاله، وفي موضع لا يليق بها، وبلا هدف مفهوم، وبلا داع يدعوه إلى ذلك أو يسوله له. وهذا غير سائغ، بل هو فساد واختلال في تنزل الكلام منازله، وسفه متهور في البيان والتبيين، وهو على أي وجوهه غير مرضي ولا مقبول. ولا أظن أن أحدًا يرتاب في أن ابن سلام منزه كل التنزيه عن مثل هذا الخلل والفساد بدلالة كتابه كله. وأما إذا كانت الأولى، وهي أن تكون هذه الجملة جزءًا من سياق قد أخلصه للحديث عن >الشعر المصنوع< وحده، فعندئذ يصبح معنى قوله: >وقد اختلفت العلماء بعد في بعض الشعر< أن العلماء قد اختلفوا في بعض المصنوع من الشعر. وهذا كلام لا معنى له البتة، على أي وجه كان. وليت شعري في أي شيء يختلفون؟ أيختلفون فيمن صنعه وافتعله ووضعه؟ من يكون أو من يكونون؟ هذا سخف وقلة عقل = أم يختلفون فيقول بعضهم: هذا الشعر المصنوع مصنوع، ويقول آخرون: هذا الشعر المصنوع غير مصنوع!! هذه تخاليط ممرورين لا اختلاف علماء. وأشنع من اختلافهم اتفاقهم: أيتفقون على بعض الشعر المصنوع أنه مصنوع؟ وإذن، فما حكم باقي المصنوع؟ أيفوض هؤلاء العلماء أمره إلى غيرهم ليحكم عليه؟ فيقول المحكم ماذا؟ هذا [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 33] كله عجب وفوق العجب، وهو بيقين باطل وفوق الباطل، ومحال أن يريد هذا المعنى رجل متهافت العقل، فما ظنك بابن سلام. وإذ بطل هذا الفرض يقينًا، فلم يبق إلا الفرض الأول، أن تكون هذه الجملة معترضة قائمة على حيالها، لا علاقة لها بالحديث عن الشعر المصنوع = وأنها من حيث هي جملة تامة، صحيحة المعنى، على رغم كل ما قلته آنفًا من وقوعها موقعًا غريبًا معاديًا لسياق ما سبقها، وعلى رغم كل ما أدى إليه هذا الموقع الذي لا يليق بها. وهذا التحليل الموجز المقتضب قد أفضى إلى غرائب في تركيب هذه الفقرة، وهذه هي على تتابعها في السياق: أولاها: قوله في أولها: >وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربية، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف< وهذا بلا ريب حديث طويل عن >الشعر المصنوع< وكشف عن عواره. ثم يقول بعقبه، وقد صرف أذهاننا كلها إليه: >وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء<، فالضمائر الثلاثة في هذه الجملة مصروفة إلى >الشعر المصنوع< وحده خالصة له، وهي لائقة به لا تستنكر. ثانيتها: وهي الجملة التي تليها مباشرة ملاصقة لها، وهي قوله: >وليس لأحد، إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه، أن يقبل من صحيفة، ولا يروى عن صحفي<، فهذا الضمير الرابع في >شيء منه<، هو أخر الضمائر الثلاثة وشقيقها راضع بلبانها، أو ابن عمها لحا، لازق نسبه بنسبها. والتبعيض في >شيء منه< تبعيض لما يعود إليه هذا الضمير، وهو >الشعر المصنوع<، والشرط المزحزح عن مكانه، يجعل الجملة معطوفة على ما سبقها من حديث عن >الشعر المصنوع<، وأصل سياقه جملة الشرط هكذا: >وإذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه، فليس لأحد أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي<. وهذا خلف من الكلام لا يستقيم من وجوه، أفدحها أن لا معنى لإجماع أهل العلم والرواية على إبطال بعض [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 34] المصنوع دون بعض. هذا، فضلاً عن أن قوله: >فليس لأحد أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي<، هو جزاء للشرط في صدر الكلام من جهة التركيب النحوي، ولكنه من جهة المعنى >بعر كبش< محض، إذ لا مشاكلة بين المعنى الذي في الشرط والمعنى الذي في الجزاء، كالذي يقول: >إذا كبر الإمام مستقبل القبلة وكبر المأمون، فليس لأحد أن يعبد غير الله<!! وهو كلام كما ترى! وإذا أريد لهذه الجملة أن تدخل في حيز الحديث عن >الشعر المصنوع<، فلا مفر من إسقاط جملة الشرط برمتها، فتكون ختامًا للحديث عن >الشعر المصنوع< ونهيًا عن قبوله، أي تصير: >وليس لأحد أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي<، فهي عندئذ لائقة بالحديث عنه، غير مستنكرة فيه. ولكن أنى لنا هذا!. وثالثة الغرائب: جملة تختم بها هذه الفقرة التي جرى الحديث فيها خالصًا للشعر المصنوع، وهي قوله: >وقد اختلفت العلماء بعدُ في بعض الشعر، كما اختلفت في سائر الأشياء، فأما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه<، فكان محالاً كذبًا، كما يقول سيبويه، أن يكون لفظ >الشعر< فيها يراد به >الشعر المصنوع<، وإلا صار اختلاف العلماء واتفاقهم هنا ضربًا مزيدًا من تخاليط الموسوسين. ولكنها إذا فصلت عن السياق، فهي في ذاتها صحيحة المعنى لا غبار عليها، لا بل صادقة بينة الصدق، لأن العلماء فيما نعلمه يقينًا قد اختلفوا في بعض ما عندهم، واتفقوا على بعض. ولما كان ذلك كذلك، وكانت محالاً كذبًا في سياق ما قبلها، فهي إذن جملة معترضة قائمة على حيالها، نزلت في الكلام منزلاً لا يليق بها، وهو تنزيل، شئنا أو لم نشأ، مخل متهور. وإذن فهذه فقرة فيها ثلاث جمل متتابعات آخذ بعضها برقاب بعض: الأولى أصل في الحديث عن >الشعر المصنوع<، بلا ريب، وفيها ثلاثة ضمائر راجعة إليه = والثانية: فيها ضمير رابع هو شقيق الضمائر الثلاثة الماضية، وبذلك صارت من تمام الحديث عن >الشعر المصنوع<، ولكنها عندئذ أيضًا خلف من [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 35] الكلام لا يستقيم، وكلام أيضًا يعادي بعضه بعضًا = والثالثة: بيقين قاطع خارجة من سياق الحديث عن >الشعر المصنوع<. هل هذا ممكن؟ هل هذا لائق؟ هل هذا كلام؟ والأمر لله من قبل ومن بعد!! وقعنا، إذن، في الذي يقول فيه مضرس بن ربعي الفقعسي: وليل يقول القوم من ظلماته ..... سواء بصيرات العيون وعورها سواء بصيرات العيون وعورها! لا حول ولا قوة إلا بالله. ما الذي أوقعنا في هذا التيه المتراكب الظلمات. إنه التحليل! أليس كذلك؟ ولكن لا، ولا بد من بيان نستطرد به كما استطرد أسلافنا رحمهم الله. فالتحليل، في الكلام وفي غير الكلام، أمر عسير يشق على الناس، ولا سيما في زماننا. لأنه يبدأ بانتزاع شيء مجتمع له صورة ومعنى، يجزئه المحلل أجزاء دقيقة، فيصير كل جزء منفردًا على حياله، ثم ينظر فيه على حياله أيضًا، ثم يبحث المحلل بعد عن الروابط التي تربط كل جزء بأخيه، ثم عن الروابط الأخرى التي تجعله شيئًا مجتمعًا له صورة ومعنى. وهذا عناء عسر بلا ريب، ولكنه في الحقيقة عناء لذيذ، وعنت مرغوب فيه، لأنه يفضي بنا إلى غاية من الرضى والاطمئنان، وإلى الثقة بوضوح الصورة، وإلى التثبت من سلامة المعنى، وإلى التحقق من براءة الروابط من كل عيب يقدح في وضوح الصورة، وفي سلامة المعنى وانتظامه جمل الكلام من أوله إلى آخره. وقد نظن أن تحليلنا هذا الموجز، لم يفض بنا إلى شيء من ذلك، بل زاد حيرتنا خبالاً. هذا ظاهر الأمر، نعم، ولو لجأنا إلى ضروب أخرى من التحليل هي في طبيعتها أعنف وأغمض وأوغل وأقسى، لزاد الأمر عسرًا وعنتًا فيما أظن، ولكني في الحقيقة مطمئن إلى أن هذا التحليل الذي زاد حيرتنا، هو الذي سوف يعيننا على التهدي إلى مخرج ينقذنا من هذا التيه ومن ظلماته، وينقذ ابن سلام أيضًا معنا، لأنه كان هو قائدنا الذي قذف بنا في ظلماته، وإذا لم نصبر على التحليل في هذه الفقرة [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 36] الثالثة، فإن مصير المعاني التي ساقها ابن سلام في رسالة كتابه هذا، سوف تكون أشد تهالكًا واضطرابًا وتنافرًا من هذه الفقرة، التي قلت قبل إن غيابها من طبعة الأعجمي يوسف هل كان ضارًا بفهم كلام ابن سلام وبمقاصده، وأن حضورها في طبعتنا كان ضارًا أيضًا في فهم هذه المعاني والمقاصد. وسأنصرف الآن عن تمام التحليل المجرد إلى طلب المخرج، ولكن لا تظن أني سأفارق التحليل بتة واحدة لا رجعة فيها، فهذا ليس مذهبي ولا طريقي في المعرفة والعلم، ولكني سأجتهد أن أنفي ما يزعج وما يشق وما يجلب العنت، بلا مفارقة قاطعة بيني وبين مذهبي وطريقي. وأعود أدراجي إلى المطلب الأول، وهو كشف القناع عن خامس الوجوه الملثمة في الفقرة الثالثة من كلام ابن سلام وهو >وجه الشعر<، لأنه هو الذي ألجأنا باستطراده إلى شيء غريب عجيب، وهو أن نعود بعد القرون المتتابعة منذ الجاهلية الأولى إلى يومنا هذا، إلى محالة منكرة في لفظ >الشعر< نلتمس بها تحديد معارف وجهه وملامحه وصورته عند ابن سلام. ووجه >الشعر< عندنا نحن عرب اليوم، وعند أسلافنا منذ دهور متطاولة، ومنهم ابن سلام نفسه، وجه معروف لا يتنازع في تبينه أحد، هذا أمر مسلم به فيما أظن. ولفظ >الشعر< في لسان العرب موضوع للدلالة على كل كلام شريف المعنى، نبيل المبنى، محكم اللفظ، يضبطه إيقاع متناسب الأجزاء، وينتظمه نغم ظاهر للسمع، مفرط الإحكام والدقة في تنزيل الألفاظ وجرس حروفها في مواضعها منه، لينبعث من جميعها لحن تتجاوب أصداؤه متحدرة من ظاهر لفظه ومن باطن معانيه، وهذا اللحن المتكامل هو الذي نسميه >القصيدة<، وهذا اللحن المتكامل مقسم أيضًا تقسيمًا متعانق الأطراف متناظر الأوصال، تحدده قواف متشابهة البناء والألوان، متناسبة المواقع، متساوية الأزمان، هذا هو >الشعر<. والذي يتوخى هذا الضرب الشريف النبيل المحكم من الكلام، ويأخذه بحقه، ويبذله بحقه، فتصغى إليه الأسماع والألباب مأخوذة بسحره وجماله وجلاله، هو >الشاعر<. هذه هي بديهة اللغة، وبديهة [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 37] أصحاب اللسان العربي قديمه وحديثه، في الأحقاب بعد الأحقاب. والذي يسمع مثلاً ما رواه أبو عبد الله البخاري في صحيحه، وأبو عبد الله أحمد بن حنبل في مسنده، من حديث أبيّ بن كعب الأنصاري، سيد قراء القرآن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: >إن من الشعر حكمة<. لا يخالجه ارتياب يدعوه إلى طلب حد أو رسم أو تصنيف للفظ >الشعر<، ولا يلتمس له بيانًا سوى هذا البيان الحاضر في كل نفس عربية على بديهة اللغة، وعلى البديهة التي توارثها أصحاب اللسان العربي من المحدثين والقدماء. فهل يرتاب في ذلك أحد؟ أظن أن لا. فإذا جاء أبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي، وقد عقد عزمه على أن يؤلف كتابًا في >الشعر< و>الشعراء<، ورأى أن يعرض علينا منهجه في تأليف الكتاب، لم يخالجنا شك في معنى هذين اللفظين على ما في أنفسنا من بديهة اللغة. وإذا بدا له أن يبدي لنا عذره الذي حمله على جعله كتابًا مختصرًا غير مستوعب لشعر العرب وشعرائها جميعًا، فنحن معه نتابعه على هذه البديهة العربية. فإذا ابتدأ كتابه برسالة يذكر فيها هذا العذر بكلام متصل بلا استطراد يجمع الفقرة الثانية من تقسيمنا نحن للكتاب. إلى أختها التي لا يتم الكلام إلا بها فقال: >ذكرنا العرب وأشعارها، والمشهورين المعروفين من شعرائها وفرسانها وأشرافها وأيامها، إذ كان لا يحاط بشعر قبيلة واحدة من قبائل العرب، وكذلك فرسانها وساداتها وأيامها. فاقتصرنا من ذلك على ما لا يجهله عالم ولا يستغنى عن علمه ناظر في أمر العرب فبدأنا بالشعر، ففصلنا الشعراء من أهل الجاهلية والإسلام والمخضرمين الذين كانوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام فنزلناهم منازلهم، واحتججنا لكل شاعر بما وجدنا له من حجة، وما قال فيه العلماء ...< ومضى على ذلك حتى يفرغ من كتابه كله. فنحن معه بلا ريب على بديهة اللغة وبديهة أصحاب اللسان العربي وورثته، لا يخامرنا شك في أنه عنى بالشعر، هذا الكلام الشريف النبيل المحكم الذي وصفناه، وعنى بالشعراء، هؤلاء العرب الذين أخذوا الشعر بحقه وبذلوه بحقه. كما قلنا. ولم نحتج نحن [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 38] إلى سؤاله عن معناه عنده، ولا يرى هو حاجة إلى أن يبين لنا بيانًا آخر عنهما. أليس كذلك؟ بلا ريب، بلى، وجير، أيضًا كما يقول امرؤ القيس. ولكن ابن سلام لم يفعل ذلك، بل فعل ما أشقانا وأشقاه كلامه، وقف يستريح استراحة لينفس نفسًا أو نفسين عند آخر قوله: >فبدأنا بالشعر<، وغاب عنا غيبة، ثم إذا به يأتي من تلك الغيبة منقضًا مسرعًا عجلاً ثائرًا، مخترمًا حديثه عن >الشعر<، مقتحمًا بديهتنا التي كنا معه عليها، متهجمًا على بديهة اللغة المتوارثة، محدثًا فيها صدعًا جائزًا بائنًا وهو يقول: >وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربية، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف<، ولولا أنه تعب، فيما أظن، لما كفكف من انقضاضه وعجلته وسرعته وثورته شيئًا حتى يستقصى كل عيب كائن فيما يتحدث عنه، أي >شعر<، هذا الذي فيه ما فيه مما وصف بعد؟ أهو >الشعر< الذي تعرفه بديهة اللغة وبديهة أصحاب اللسان العربي، وهو كل كلام شريف المعنى، نبيل المبنى، محكم اللفظ، كما وصفناه آنفًا، والذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: >إن من الشعر حكمة<؟ بلا ريب لا. أهو >الشعر< الذي عقد ابن سلام عزمه على أن يؤلف فيه كتابًا، فحدثنا عنه إلى أن وقف عند قوله: >فبدأنا بالشعر<؟ بلا ريب لا، أيضًا. فإذا كان ذلك صحيحًا وهو صحيح بلا ريب، فما معنى هذا الذي اخترم به ابن سلام بديهة اللغة، وصدعَ به هذه البديهة صدعًا بائنًا بقوله: >وفي الشعر مصنوع مفتعل ...< إلى آخر ما قال؟ وفي بعض الأناة خير إن شاء الله. هذا >الشيء< الذي سلبه ابن سلام كل فضيلة فقال: >هو مصنوع مفتعل موضوع لا خير فيه، ولا حجة في عربية، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج، ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب، ولا نسيب مستطرف<، ولولا التعب لزاد وبالغ، أهذا >الشيء< الذي سلبه كل فضيلة، وهو كلامٌ بلا ريب، ممكن أن يدخل في الكلام الشريف النبيل المحكم، الذي تلتمس في بعضه الحكمة، [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 39] والذي هو >الشعر<، على بديهة العرب وبديهة لغتهم، ويكون جزءًا منه أو معدودًا فيه أو مسمى باسمه؟ أظنه محالاً مفرط الاستحالة، وأنا لا أحب أن أستقصى هنا الأسئلة، وأعود محللاً موغلاً في التحليل مرة أخرى، فمن أجل ذلك أوجز مقالتي ما استطعت. وأنا لا أشك أن ابن سلام لما جاء مقتحمًا متهجمًا على بديهة لفظ >الشعر>، كاد يفلت لسانه فيقول: >وفي الشعر، >شعر< مصنوع مفتعل موضوع...< ولكنه أمسك ورد اللفظ، مستنكفًا متقذرًا، من تسمية هذا الكلام المسلوب كل فضيلة >شعرا<، فقال: >وفي الشعر، مصنوع مفتعل موضوع<، لأنه أبى من أن يجعل هذا الشيء المتقذر قسيمًا للفظ >الشعر< الشريف النبيل المحكم، أو نظيرًا له، أو بعضًا منه، وعجل، فلم يغير ما ابتدأ به، وأفاض في سلب الفضائل عما تقذره من الكلام. والدليل على هذا الذي أقول قائم حاضر في كلام ابن سلام نفسه فيما بعد ذلك بقليل، ومأخوذ عنه، فإنه لما فرغ من هذه الفقرة الثالثة، وعقب عليها بحديث يتصل ببعضها اتصالاً وثيقًا، بدأ في الفقرة السابعة يدلنا على أسباب ثورته وعجلته، فقال، وتأن عند كل لفظ من قوله: >وكان ممن أفسد الشعر وهجنه، وحمل كل غثاء منه: محمد بن إسحق بن يسار مولى آل مخرمة ... وكان من علماء الناس بالسير = قال الزهري: لا يزال في الناس علم ما بقى مولى آل مخرمة. وكان أكثر علمه بالمغازي والسير وغير ذلك، فقبل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، أتينا به فأحمله. ولم يكن ذلك له عذرًا. فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلاً عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف<. هذه واحدة. ثم إنه قال في آخر الفقرة الثانية عشرة، بعد أن فرغ من استطراده فقال: >ونحن لا نجد لأولية العرب المعروفين شعرًا، فكيف بعاد وثمود؟ فهذا الكلام [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 40] الواهن الخبيث، ولم يرو قط عربي منها بيتًا واحدًا، ولا راوية للشعر، مع ضعف أسره وقلة طلاوته<، هذه ثانية. ثم عقب على ذلك بالفقرة الثالثة عشرة، التي ختم بها هذا الجزء من استطراده المقتحم، ما بين الفقرة الثانية والفقرة الحادية والثلاثين، فقال الجملة المشهورة التي زل عليها من زل من المشككين في الشعر الجاهلي، وهي قوله: >وقال أبو عمرو بن العلاء في ذلك: ما لسان حمير وأقاصي اليمن اليوم، بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا، فكيف بما على عهد عاد وثمود، مع تداعيه ووهيه، فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن اسحق، ومثل ما روى الصحفيون، ما كانت إليه حاجة، ولا فيه دليل على علم< هذه ثالثة. ثم لما فرغ ابن سلام من استطراده بعد الفقرة الثلاثين، ودخل في تتمة عرض كتابه منذ الفقرة الحادية والثلاثين، ذكر دليله على ذهاب شعر الجاهلية وسقوطه (أي ضياعه ونسيانه فسقط من ذاكرة العرب) فقال في الفقرة الرابعة والثلاثين: >ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه، قلة ما بقى بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد، اللذين صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن، فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة. وإن كان ما يروى من الغثاء لهما، فليس يستحقان مكانهما على أفواه الرواة< فهذه رابعة. وهذه الأربعة فيها تمام نعت >الشيء< الذي تقذرت بديهته العربية أن تسميه شعرًا، فأسقط الموصوف من عبارته واستبقى الصفة، فقال: >وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربية، ولا أدب يستفاد،...<، إلى آخر النعوت التي سلبته وعرته من كل فضيلة حتى بدت سوأته. وتمام هذه النعوت المعرية، أنه >الغثا<، و>الكلام الواهن الخبيث<، >مع ضعف أسره وقلة طلاوته<، و>مع تداعيه ووهيه<، و>لم يرو قط عربي منه بيتًا واحدًا ولا راوية للشعر<، و>لو كان الشعر مثل هذا الذي وضع لابن إسحق، ومثل ما روى الصحفيون، ما كانت إليه حاجة، ولا فيه دليل على [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 41] علم، ثم نفاه نفيًا من طريقه فقال: >وهو ليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف<. وإذن، فابن سلام يستنكف أن يكون هذا الكلام الواهن الخبيث المصنوع المفتعل ضريعًا للشعر، أو قسيمًا له يشاركه في الاسم، أو نظيرًا له وإن باينه في الصفة، أو جزءًا منه يفارقه في الجودة أو الرداءة، أو معدودًا معه يقع تحت الطرف البعيد من أقاصي ظله، فنفاه نفيًا، ولم يطق إلا أن يسميه، لخبثه ووهيه ووهنه، >كلامًا مؤلفًا< قد عقدت أواخره بقافية! وحين احتاج إلى الإشارة إليه في سائر كلامه، وفي أكثر من عشرة مواضع، لجأ إلى الحيلة في العبارة عنه، تقززًا من أن يختلط هذا الغثاء الخبيث، بالكلام الشريف النبيل المحكم، معدن الحكمة، وهو >الشعر<، فهجر هذا اللفظ المفرد، ولجأ إلى الجمع وهو >الأشعار<، فأطلقه عليه حيث وقع من كلامه، لأن اللغة استعصت عليه أن يجد له فيها وسمًا يسمه به، أو لفظًا يدل عليه، ولأن هذا الغثاء الخبيث مطروح على وزن الشعر معقود بمثل قوافيه، ولأن بعضه ينسب إلى من تعرف من الشعراء، أو إلى ناس تكذب واضعوه عليهم فأقحموهم مع الشعراء، فأشار إليه بقوله >الأشعار<، ولكنه ليس من >الشعر< المعروف في بديهة اللغة في شيء، لا قليل ولا كثير. وإذن، فابن سلام حين انتهى عند قوله: >فبدأنا بالشعر<، وسكت يستريح، ثم جاء بغتة منقضًا ثائرًا متقحمًا عجلا مندفعًا يقول: >وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه<، قد اخترم بديهة اللغة، وبديهة سامعيه، وبديهة نفسه هو، وصدع البديهة صدعًا بائنًا جائزًا، وكان في عجلته وتسرعه الزلل والخطأ في التعبير، وصار ظاهره لظفه الذي سبق لسانه أناته وفكره، يوهم من قرب أن الكلام الشريف النبيل المحكم معدن الحكمة، الذي تتفجر ينابيعه على ألسنة الشعراء عبيد >الشعر<، وذلك الغثاء الخبيث الواهن المؤلف المطروح على عقد القوافي، والذي لا يعرف له أب ولا صاحب = كلاهما يقع عليه لفظ >الشعر< المعروف ببديهة اللغة وقوعًا واحدًا = وأن هذا الخبيث قسيم ذلك الشريف في دلالة اللفظ!. [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 42] ومن جراء هذا الإيهام القريب الظاهر قلت في فاتحة تحليلي السالف: >إن أيسر النظر والتأمل، دال على أن في أيدينا قسمة واضحة، تجعل الشعر قسمين: أحدهما ظاهر في صريح لفظه، وهو الشعر المصنوع المفتعل الموضوع، وآخر محدث مضمر يخرج بدلالة المخالفة، وهو >الشعر غير المصنوع<، وأستغفر الله وأتوب إليه، فقد تبين الآن أن هذا قول باطل أشد البطلان عندنا وعند ابن سلام نفسه = وأن الذي في أيدينا إنما هو وهم فاسد = وأن ليس في أيدينا قسمة واضحة أو غير واضحة، وأن ليس في أيدينا ظاهر يقال له >شعر مصنوع<، بل غثاء خبيث معقود بقواف، وأن ليس في أيدينا مضمر يخرج بدلالة المخالفة يقال له >شعر غير مصنوع<، لأن لفظ >شعر< جار أبدًا على بديهة اللغة وبديهة ورثتها، لا يحتاج إلى صفة تبين عنه، أو نعت يميزه من غيره. وإذن فقد بطلت القسمة، وهلك التقسيم الفاسد، وبقى لفظ >الشعر< في قول ابن سلام: >وفي الشعر مصنوع<، جاريًا على بديهته ونقائه وشرفه ونبله، مبرأ من كل حاجة إلى بيان يرفع من خسيسته، لأنه بائن من كل كلام بشرفه ونبالته. وآخر عذر لأبي عبد الله محمد بن سلام الجمحي أنه عجل، فزل، فأخطأ، فأضلنا خطؤه عن مراده. ولكن هل من سبيل إلى معرفة السر الذي قاده إلى هذا الزلل، وإلى تبين الصواب الذي ينفي هذا الخطأ، وإلى المخرج من التيه المتراكب الظلمات الذي أوقعتنا فيه هذه الفقرة الثالثة المحيرة، في فاتحة رسالة >طبقات فحول الشعراء<؟ فأقول: نعم! ونعامى عين. ويبدو أن الحيرة التي رافقتنا بما أحدثته الفقرة الثالثة، فعالجت أمرها حتى كدت أفلت منها ولما، عادت تحاصرني الآن بأسباب من قبل نفسي! بأيهما أبدأ، أبالبحث عن سر ما أوقع ابن سلام في الزلل، أم بتبين الخطأ في عبارته، وتصحيح سياقها؟ وسياق ما كنا فيه آنفًا يتطلب أن أبدأ بثانيهما، ليكون سياقًا واحدًا، بعد أن ثبت أنه محال أن يكون بناء الفقرة الثالثة مقصورًا على الغثاء [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 43] المصنوع المفتعل الموضوع وحده، وأشد منه استحالة أن يكون لفظ >الشعر< في عبارة ابن سلام واقعًا على هذا الغثاء الخبيث مشتملاً عليه، فيكون بعضًا منه، أو داخلاً في بديهته. ولكني تأملت، وجدت أن ما في صدري في الحديث إذا أنا تابعت السياق مضطرب غير قابل للبيان، أو على الأصح وجدتني محبوسًا عن هذا البيان. وأنا كثير الترداد؛ لما قرأته قديمًا من كلمة لإمامنا محمد بن إدريس الشافعي، بلغ بها أقصى غوامض النفس الإنسانية التي علمها الله البيان بقدرته وعزته، وفوض إليها الجهاد في بلوغ ما تريد منه. وذلك أن الإمام يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري، وهو من أصحاب الشافعي، وكان ركنًا من أركان الإسلام في زمانه (170 – 264هـ) سأل الشافعي يومًا عن مسألة، فقال له: >يا يونس، إني لأجد بيانها في قلبي، ولكن لا ينطلق به لساني<. ما أروعها كلمة! وكل ناطق بلسان أو كاتب بقلم، يجد ذلك في نفسه وجدانًا ظاهرًا، إذا أخذ البيان بحقه، وحرص على إجادته، وأنا أجد هذا في نفسي الآن، وأنا أحاول أن أسوق الحديث على وجهه من التعانق والتواصل، وأجده عسيرًا أن أبين عن جميع ما فيها، لأن بعض هذا الحديث يخلجني ويشدني شدًا إلى الحديث عن سر ما أوقع ابن سلام في الزلل، لأنهما في الحقيقة مترابطان. فجعلت أميل الرأي بين الأمرين حائرًا حتى كاد يضيع وقتي في الحيرة. وبعد لأي عزمت على أن أبدأ بأولهما كما وقع اتفاقًا في ترتيب الأسئلة، مهما يكن في ذلك من انقطاع حديثي عن الفقرة الثالثة. ولد أب عبد الله محمد بن سلام الجمحي بالبصرة سنة 139، وقضى بها أكثر عمره، ثم بدا له فانتقل إلى بغداد سنة 222، وهو في الثانية والثمانين من عمره، وأقام بها حتى توفى في سنة 231، وقد بلغ الثانية والتسعين. وقد بلغ ابن سلام مرتبة الإمام في علم الشعر والأخبار، حتى قال الرياشي عنه: >أحاديث محمد بن سلام عندنا (يعني عند أهل العلم والرواية الصحيحة) مثل حديث أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة<، يعني حديث أيوب بن أبي تميمة السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، في الصحة [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 44] والسلامة والقوة، ومع ذلك لم يقع في أيدينا من كتب ابن سلام سوى كتاب >طبقات فحول الشعراء<، وقد دلت رسالة هذا الكتاب الذي أفرده للشعر، على أنه سوف يتبعه بكتاب أو كتب عن >أشراف العرب وساداتها وفرسانها وأيامها<. وفي فهرس النديم أن له كتابًا سماه >بيوتات العرب<، لم يصل إلينا منه شيء، وظني أنه كتاب عن >أشراف العرب وساداتها وما لهم من شعر<. ودلنا أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني على كتاب آخر هو كتاب >الفرسان< أو >فرسان الشعراء<، لم يصل إلينا نصًا، ولكنه كان عند أبي الفرج، تلقاه مكتوبًا من أبي خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، ابن أخت ابن سلام. وظاهر كلام ابن سلام في رسالة الطبقات. فمتى ألف هذه الكتب الثلاثة؟ وأولهن خاصة؟). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 29- 45]
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
رد: كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام
كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام لمحمود محمد شاكر صفية الشقيفي أسانيد الطبقات وأهميتها قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) وترجمة ابن سلام في كتب تراجم الرجال والعلماء والأدباء، مختصرة موجزة لا تكاد تشفى، وقلما يذكر مؤلفوها زمان تألف العلماء كتبهم، فنحن نعتمد في ذلك على الاستظهار لا غير. وأنا في خلال تتبعي للكتب التي ألتمس فيها نقلاً من كتاب >طبقات فحول الشعراء<، لم أجد خبرًا عن ابن سلام يطابق نصه نص ما في كتاب >الطبقات<، إلا وهو مروى من طريق ابن أخته الحافظ مسند عصره أبي خليفة الفضل بن الحباب الجمحي. فاستظهرت من ذلك أن ابن سلام لم يقرأ كتابه على أحد، ولم يروه عنه سماعًا وحفظًا سوى ابن أخته أبي خليفة الجمحي، وكان في آخر عمره ضريرًا ذاهب البصر. واستظهرت أيضًا أن كتاب الطبقات وكتاب الفرسان، وكتاب بيوتات العرب، لم يذع أمرها في حياة ابن سلام، ولم تكن عند أحد منها نسخة. واستظهرت أيضًا أن كتاب الطبقات، كان عند أهله ببغداد عند وفاته سنة 231، ثم آلت إلى أبي خليفة ونقلت إلى البصرة بعد زمان من وفاته، وأن أبا خليفة لم يخرج كتب خاله إلى الناس إلا بعد دهر طويل، فقرأها عليهم وأخذوها عنه.ودليل ذلك أن عندنا اليوم نسختين عتيقتين من كتاب >طبقات فحول الشعراء<، أقدمهن نسختي التي نشرتها، والأخرى نسخة المدينة شرّفها الله [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 45] وصلى الله على صاحبها صلاة طيبة وسلم، وهي على النصف من نسختي، لأن صاحبها اختصرها اختصارًا شديدًا. ولهاتين النسختين ثلاثة أسانيد عن أبي خليفة: إسنادان في نسختي، وإسناد نسخة المدينة. والإسناد الأول: رواية أبي عبد الله محمد بن أحمد بن أسيد الأصفهاني (المتوفى سنة 336) عن القاضي أبي خليفة الجمحي. وأبو خليفة ولى قضاء البصرة في سنة 293، وابن أسيد الذي سمعها منه، رحل من أصفهان إلى بغداد، ومر في رحلته بالبصرة، فسمع من أبي خليفة، وذلك قبيل وفاة أبي خليفة سنة 305، فبين هذين التاريخين قرأ على القاضي كتاب الطبقات. (293 – 305) على أكثر تقدير. والإسناد الثاني: رواية أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني (260 – وتوفى سنة 360) عن القاضي أبي خليفة أيضًا، والطبراني نزل أصفهان واستوطنها ستين سنة إلى أن توفى، وذلك في سنة 300. وإذن، فهو قد قرأها على القاضي أبي خليفة ما بين سنة 293 وسنة 300. والإسناد الثالث: رواية أبي طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر بن بجير الذهلي القاضي، عن أبي خليفة. وأبو طاهر ولد سنة 279 وتوفى سنة 367 بمصر، وانتقل إلى بغداد في خلال ذلك وولى قضاءها سنة 329. وظاهرٌ من تأخر ميلاده إلى سنة 279، يدل على أنه قرأ على أبي خليفة هو أيضًا قبل سنة 300 بقليل، أي في نفس الوقت الذي قرأها على الناس أبو خليفة، وسمعها منه ابن أسيد والطبراني. وفقداننا رواية عن كتاب الطبقات أو نقلاً عنه، إلا من طريق أبي خليفة وحده، ودلالة الأسانيد الثلاثة السالفة الدالة على أن القاضي أبا خليفة قرأ الكتاب على الناس بالبصرة ما بين سنة 295 وسنة 300، يوفقنا على مثل اليقين بأن كتب ابن سلام الثلاثة، وكتاب الطبقات خاصة، لم يذع ذكره في [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 46] الناس إلا بعد وفاة ابن سلام سنة 231، بأكثر من خمس وستين سنة. ويزيدني ثقة بهذا الاستظهار أن أبا الفرج الأصفهاني المولود بأصبهان سنة 284 (وتوفى سنة 356) والذي نشأ فيها، ثم هاجر بعد إلى بغداد سمع بكتب ابن سلام، فأرسل إلى القاضي أبي خليفة يستجيزه ويسأله أن يرسل إليه نسخة من كل كتاب من كتب ابن سلام، فكتب إليه بها وأجازه، كما هو ظاهر من أسانيده في كتاب الأغاني إلى كتاب الطبقات، التي جمعتها في مقدمة الكتاب. وأشبه باليقين أن يكون ذلك كان، وأبو الفرج بأصبهان في حدود السادسة عشرة من عمره سنة 300 أيضًا، أي قبل أن يعودَ ابن أُسيد إلى أصبهان بعد وفاة والده سنة 310، وقبل أن يستوطن الطبراني أصبهان في سنة 300هـ، وإلا لكان في غنى عن الكتابة إلى أبي خليفة يستجيزه ولأخذ الكتاب عن أحدهما، بلا مؤونة عليه في ذلك. وأنا أظن ظنًا، أنا أبا خليفة كان قد لحق بخاله حتى رحل إلى بغداد سنة 222، وبقى معه قليلاً وهو يؤلف هذه الكتب، وقرأها عليه، ثم رحل عنها بعد وفاته سنة 231، وشغل بطلب العلم وروايته، ثم عاد إلى البصرة لا يحمل معه شيئًا من الكتب إلا ما سمع من خاله لأنه كان ضريرًا كما قلت، ولكني لا أحقق هذا الظن لأسباب كثيرة وبقيت كتب ابن سلام خاله عند أهله ببغداد، ثم مضى دهر طويل جدًا، فنقلت هذه الكتب إلى البصرة بعد ولاية أبي خليفة القضاء سنة 293، وعندئذ قعد أبو خليفة للإقراء، وأجلس قارئًا يقرأ كتب ابن سلام، ولذلك جاء في إسناد ابن أُسيد والطبراني كليهما: >قرئ على القاضي أبي خليفة، وأنا أسمع<، فهذا أول ذيوع خبر كتاب >طبقات فحول الشعراء< وغيره من كتب ابن سلام ما بين سنة 295، إلى سنة 300، حين نقلت كتبه من بغداد إلى البصرة، والله أعلم ولكني أستظهر) [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 46-47] تاريخ تأليف ابن سلام كتبه قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) أما متى ألف ابن سلام كتبه هذه؟ فنحن على يقين أنه لم يؤلفها في صدر حياته، ولا في أوسطها، ولكنه ألفها بأخرة. ودليل ذلك أن أبا الطيب علي بن عبد الواحد الحلبي اللغوي (المتوفى 351) حدثنا في كتابه >مراتب النحويين< عن الحسين بن صالح، عن أبي خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال: كان [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 47] الرياشي (وهو العباس بن الفرج، المتوفى سنة 257) يختلف إلى أبي عبد الله (يعني ابن سلام)، ليستعير منه كتابه في الطبقات، فكنت أخرج له منه جزءًا جزءًا. فقيل للرياشي في ذلك فقال: لو عاش يومين لسمعته منه<. والرياشي بصري، وابن سلام بصري رحل عن البصرة سنة 222هـ، إلى بغداد، وكانت وفاتها بها = فلو كان ابن سلام ألف الكتاب وإخوته، وهو بالبصرة، لعرف ذلك الرياشي، ولم يؤجل ذلك إلى أن يصير ابن سلام في بغداد سنة 231، فيزوره ليأخذ منه جزءًا جزءًا. ونستظهر من هذا الخبر أيضًا أن ابن سلام كان قد فرغ قبل قليل جدًا من وفاته، من تأليف هذه الكتب، وأنه كان قد عزم على إقرائها للناس، ولكن المنية فاتتهم به، فلم يسمعوا منه شيئًا، ولم يسمع منه سوى ابن أخته أبي خليفة وحده، لأنه كان يومئذ معه ببغداد. وبين أيدينا خبر آخر يدل على أن ابن سلام كان في آخر حياته، قد أهمه أمر شعر العرب وشعرائها وأخبارها؛ وأنه رأى أنه قد قضى عمره كله في السماع من العلماء على اختلاف علومهم، من نحو ولغة وشعر وحديث وأخبار، حتى بلغ إمامة العلم في بعض ذلك، وأخذ الناس عنه فأكثروا وأكثر، حتى بلغ الثانية والثمانين من عمره، وبدا له أن يرحل إلى بغداد، كما رحل كثير من علماء البصرة، فيحدثنا الخطيب البغدادي، عن الحسين بن فهم، (وهو صاحب محمد بن سعد كاتب الواقدي، وصاحب الطبقات الكبير) (ولد الحسين بن فهم سنة 211، وتوفى سنة 289)، وهو أيضًا أحد أصحاب (ابن سلام والرواة عنه)، فيقول الحسين بن فهم: >قدم علينا (أي قدم عليهم ببغداد) سنة اثنتين وعشرين ومئتين، فاعتل علة شديدة، فما تخلف عنه أحد، وأهدى إليه الأجلاء أطباءهم، وكان ابن ماسويه الطبيب ممن أهدى إليه (يوحنا بن ماسويه طبيب الخلفاء، وكان يومئذ طبيب المعتصم، توفى سنة 243)، فلما جسه ونظر إليه قال: ما ارى من العلة كما أرى من الجزع!! فقال ابن سلام: والله ما ذاك لحرص على الدنيا مع اثنتين وثمانين سنة، ولكن الإنسان في غفلة حتى وقظ بعلة. ولو وقفت بعرفات وقفة، وزرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم زورة، وقضيت أشياء في نفسي، لرأيت ما اشتد علي من هذا قد [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 48] سهل. فقال له ابن ماسويه: فلا تجزع، فقد رأيت في عرقك من الحرارة الغريزية وقوتها، ما إن سلمك الله من العوارض، بلغك عشر سنين أخرى، قال الحسين بن فهم: فوافق كلامه قدرًا، فعاش محمد بن سلام عشر سنين بعد ذلك، ومات سنة اثنتين وثلاثين ومئتين<. فقول ابن سلام رحمه الله: >ولكن الإنسان في غفلة حتى يوقظ بعلة<، وقوله: >لو وقفت بعرفات وقفة، وزرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم زورة، وقضيت أشياء في نفسي، لرأيت ما اشتد علي من هذا قد سهل<، يدل على أن هذه العلة الشديدة قد أهبته من غفلة عن أشياء كانت في نفسه، ويتمنى أن يكتب الله لو أن يقف حيث يستجاب الدعاء، فيسأل ربه أن ييسر له قضاءها والفروغ منها وتقر عينه، فلا يأخذه من أمر هذه الدنيا جزع. وأكبر ظني أن هذه الأشياء التي كان يتمنى قضاءها هي تأليف كتب جامعة، كان يحب أن يتعجل كتابتها، بعد أن قضى اثنتين وثمانين سنة لم يؤلف كتابًا، ولا يبقى من علمه عند الناس إلا الشيء من الأحاديث التي أثرت عنه، والأخبار سماعًا ورواية. والكتابة قيد العلم ووعاؤه. فلما أبل من علته قليلاً أجمع رأيه على أن يعد منهجه لكتبه التي كان يحب أن يؤلفها، بعد دهر طويل جدًا من انتياب خواطر تلم ساعات ثم تذهب غير محققة ولا مثبتة في كتاب. ففي المدة التي قضاها بين سنة 222هـ وسنة 231، بدأ كتابه في الشعر، وهو كتاب الطبقات، ثم كتاب شعراء الفرسان، ثم كتاب سادات العرب وأشرافها وما قالوا من شعر، ثم كتاب أيام العرب، وغير ذلك مما وصل إلينا خبر عنه أو لم يصل. ثم اخترمته المنية هو وأخوه المحدث المشهور >عبد الرحمن بن سلام الجمحي< سنة 231، وبقى كل ما كتبه من كتب عند أهله ببغداد، حتى رحلوا إلى البصرة عائدين، أو حتى حملوها إلى ابن أخته أبي خليفة قاضي البصرة، فآلت إليه وصارت في حوزته، فيما أرجح، بعد توليه قضاء البصرة في سنة 293هـ. والله أعلم أي ذلك كان؟ وعرفها الناس من يومئذ). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 47-49]
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
رد: كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام
كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام لمحمود محمد شاكر صفية الشقيفي أثر تأخر سن ابن سلام على كتاب الطبقات قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) بقي أبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي بالبصرة، عمرا طويلاً حتى بلغ الثانية والثمانين من عمره، وصارت إليه إمامة الأدب والرواية والعلم وأخبار [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 49] العرب، إلى فنون أخرى كان يحسنها ويرويها ويأخذها الناس عنه، أجيالاً بعد أجيال من العلماء والأدباء، لأنه كان من قدماء أهل العلم والرواية، وطارت شهرته في الآفاق، ثم بدا له أن يرحل من البصرة إلى بغداد، كما رحل كثير من علماء البصرة من قبله، فرحل في سنة 222هـ، فلما نزل بغداد لقى الحفاوة كلها من الخليفة المعتصم، ومن علماء الناس صغيرهم وكبيرهم، ومن الأشراف والسادات، وقصده طلاب العلم والرواية في كل فن، وداروا به وسألوه وسمعوا منه. ولقد ألف ابن سلام الشيخ مثل هذه الحفاوة وهو بدار نشأته في البصرة، أما في بغداد، وهو حديث عهد باغتراب عن وطنه دار نشأته، فإن هذه الحفاوة قد هزته وأسعدته، وأشعرت قلبه لذة الفرح بما لقى من إكرام وإلطاف، ولما يكد حتى بطشت به علة شديدة شردت ما وجده في نفسه من السعادة بهذه الحفاوة، وجزع من حوله من أهله ومن طلبة العلم مخافة عليه لعلو سنه، وجزع هو، ورأى أن ما انفسح له من الأمل الذي أمله بالرحلة إلى بغداد، دار العلم يومئذ، قد ضاق، فلما مضت عنه شدة العلة واطمأن قلبه قليلاً، وعاده أهل العلم والرواية يحفون به ويسألونه، وعاوده أمل تقادم عهده أن يؤلف للناس كتبًا تبقى في أيديهم من بعده. وأول كتاب >طبقات فحول الشعراء<، دلل على أن الذي وصفت، أو قريبًا منه، قد كان كما وصفت، فإنه بدأ الكتاب هكذا: >ذكرنا العرب وأشعارها، والمشهورين المعروفين من شعرائها وفرسانها وأشرافها وأيامها ...< فكأن أهل العلم يومئذ قد ذاكروه وذاكرهم، ولعله أفضى إليهم بما في نفسه كما قال في حديثه مع ابن ماسويه الطبيب >وقضيت اشياء في نفسي<، يعني تأليف كتب تبقى في أيدي الناس، فسأله أصحابه من أهل العلم أن يفعل فاستجاب لهم. وكانت العلة الموقظة بعد الثانية والثمانين، حافزًا له على العجلة في قضاء ما في نفسه، وفي الوفاء بما وعد. ولكن يظهر أن هذه العلة قد تراخت به، تنتابه زمنًا بعد زمن، توشك أن تقطعه عن قضاء ذلك، وبدأ يكتب كتبه بأخرة، وهو يسابق الأيام مخافة أن تسبقه، غير مغتر بمقالة ابن ماسويه الطبيب: >قد رأيت في عرقك من الحرارة [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 50] الغريزية وقوتها، ما إن سلمك الله من العوارض، بلغك عشر سنين أخرى<، وكيف يغتر، وأخوات الثمانين أشد إيقاظًا من الغفلة من بطش هذه العلة؟ ولكن يظهر أن العلة كانت تنتابه وتقطعه، فلم يستطع أن يفرغ من تأليف كتبه، إلا وقد دنا الأجل من وراء الحجب يشقها إليه، ففرغ ولما يكد، لما دلنا على ذلك خبر أبي خليفة عن الرياشي حيث قال: >لو عاش يومين لسمعته منه<، يعني كتاب الطبقات، كما سلف. وهذه العجلة التي استظهرتها ووصفتها بينة في مواضع من كتابه >طبقات فحول الشعراء< التي سلمت وبقيت في أيدينا من كتبه، فقد وجدت فيه أشياء قد سقطت عنه أو منه، وهو في هذه العجلة من أمره، وأنه في هذه العجلة من أمره زاد أشياء لا ذكر لها في عرض كتابه، ومثال ذلك: أن ابن سلام في رسالة كتابه قال: >فاقتصرنا من الفحول المشهورين على أربعين شاعرًا، فألفنا من تشابه شعره منهم إلى نظرائه، فوجدناهم عشر طبقات، أربعة رهط كل طبقة متكافئين معتدلين<، يعني عشر طبقات من أهل الجاهلية، وعشر طبقات من أهل الإسلام. فهؤلاء ثمانون شاعرًا. هذا ما قصده ابن سلام حين بدأ كتابه، ولكنه لم يكد يفرغ من أمر شعراء الجاهلية، حتى بدا له أن يقحم بين الأربعين من شعراء الجاهلية، والأربعين من شعراء الإسلام، طبقات أخرى لم يذكرها في عرض كتابه، كما حدده حين بدأ تأليف كتابه، فقال في آخر طبقات الجاهلية: >انقضى خبر الطبقات العشر<. وكان حق ما حدده أن يقول بعده: >طبقات الإسلام: كل طبقة أربعة رهط متكافئين معتدلين = الطبقة الأولى< كما هو نص عنوانه في أول طبقات الإسلام، ولكنه لم يفعل ذلك، فإنه حين فرغ من الجاهلية فقال: >انقضى خبر العشر الطبقات<، اخترم سياق كتابه كما عرضه فابتدأ قائلاً: >وصيرنا أصحاب المراثي طبقة عبد العشر الطبقات< ومضى في ذكر أصحاب المراثي. فأتى بجديد، ثم مضى غير مبال باقتحام هذا الموضع فيما حدده في أول [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 51] كتابه، فابتدأ في ذكر >شعراء القرى العربية<، فذكر شعراء المدينة، ثم شعراء مكة، ثم شعراء الطائف، ثم شعراء البحرين، ثم شعراء يهود، وانتهى هذا الاقتحام، وبدأ في تمام ما كان حدده في رسالة كتابه. وهذا في ترقيم نسختنا من رقم: 267 إلى آخر رقم: 386 (ص203 – 296) وهو استطراد طويل كما ترى، وسار فيه على غير نهجه في جعل كل طبقة أربعة شعراء، فجعل >طبقة أصحاب المرائي<، أربعة، وشعراء المدينة خمسة، وشعراء مكة تسعة، وشعراء الطائف خمسة، وشعراء البحرين ثلاثة، وشعراء يهود ثمانية، فهؤلاء أربعة وثلاثون شاعرًا، زادهم على الثمانين، على ما رسمه وبينه في أول كتابه. ومع ذلك، ففي هذا الاستطراد المقحم على نهج الكتاب، إخلال شديد بطريقته التي سار عليها في ذكر طبقات شعراء الجاهلية الأربعين، وطبقات شعراء الإسلام الأربعين، من وجوه كثيرة سوى عدد الشعراء الأربعة في كل طبقة ذكرها. وهذا عندي دال على أن ابن سلام رحمه الله قد أقحم هذا القدر كله من الشعراء، بعد أن فرغ من النسخة الأولى من كتابه، والتي كانت مقصورة على ما نهجه في رسالة كتابه، من ذكر طبقات عشر لفحول الجاهلية، وطبقات عشر لفحول الإسلام. فلما عاد إلى كتابه الكتاب على الوجه الذي بينه أقحم هؤلاء الشعراء إقحامًا في النسخة الآخرة (وهي التي في أيدينا اليوم) ونسى أن يغير ما كتبه في رسالة كتابه، وكان قد أسن وقارب التسعين أو جاوزها، وأقحم أشياء أخرى سنعود إلى ذكرها بعد قليل). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 49-52] الخلل الظاهر في رسالة ابن سلام نتيجة لكتابتها مرتين قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) ومما يدل على أنه كان ينسى، وأن المرض كان يقطع عليه ما يكتب أنه في هذا الجزء الذي أقحمه، لم يقتصر على تغيير منهجه في ذكر أربعة شعراء في كل طبقة، فزاد العدد أو نقصه، ليس هذا فحسب، بل إنه وقع في شيء آخر يدل على أثر المرض في تقديره وضبطه، كان ملتزمًا بأن يذكر في أول كل طبقة أسماء شعراء هذه الطبقة الأربعة، فكان هنا في هذا الجزء المقحم ملتزمًا أيضًا بذكر أسماء شعراء كل قسم في أول كلامه، فذكر في شعراء مكة تسعة، نسى أن يذكر لاثنين منهما بعد ذلك خبرًا أو شعرًا، وهما مسافر بن أبي عمرو، والممزق [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 52] عبد الله بن حذافة السهمي، مع خطأ غريب في اسمه، ذكرته في تعليقي على الكتاب = ثم في شعراء الطائف ذكر خمسة شعراء، ولكنه سقط عنه كنانة بن عبد ياليل، فلم يذكر له بعد ذلك أيضًا خبرًا ولا شعرًا، هذا مع قلة الأخبار عن كل شاعر منهم ذكره، وقلة ما ذكر له من الشعر، فإنه كان خليقًا أن لا ينسى إذن. فمن أجل ذلك كله رأيت أن ابن سلام كان يومئذ قد بلغ منه السن، وعوقه المرض وأنساه، وأنه أدخل هذا القسم وأقحمه في موضعه بين الجاهليين والإسلاميين، لأنه كان في عجلة من أمره، وهو يعيد كتابة النسخة الثانية من كتابه هذا (في آخر عمره)، أي حين رجع إلى كتاب رسالة الكتاب). فمن أجل ذلك أستطيع الآن أن أقول، وأنا مطمئن كل الاطمئنان: أن صنيع ابن سلام حين انتهى من الفقرة الثانية من كتابه في أصله الأول من نسخته الأولى، فقال ...>فبدأنا بالشعر< كان كلامه متصلاً بالفقرة الحادية والثلاثين حيث يقول: >ففصلنا الشعراء من أهل الجاهلية والإسلام والمخضرمين الذين كانوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام، فنزلناهم منازلهم، واحتججنا لكل شاعر بما وجدنا له من حجة، وما قال في العلماء ...<. فلما أعاد كتابة هذا في النسخة الثانية، بدا له على عجلٍ أن يقحم في كلامه هنا خاطرًا جديدًا في الحديث عن >المصنوع المفتعل الموضوع<، ففصل بين الكلامين المتعانقين تعانقًا تامًا، بما أثبته من أول الفقرة الثالثة، إلى آخر الفقرة الثلاثين، وجعل هذا الاستطراد المقحم قسمين: أولهما عن >المصنوع< من الفقرة الثالثة إلى الفقرة الثالثة عشرة، وثانيهما عن أهل العلم والرواية الصحيحة من العلماء، من الفقرة الرابعة عشرة إلى آخر الفقرة الثلاثين. وهذا الإقحام الجديد على رقعة الكتاب، والإقحام الذي قبله، ربما زاده بهاءً وحسنًا، ولكنهما على كل حال أحدثا في نسجه بعض الاضطراب، ولكنه اضطراب غير معيب، إلا في مطلع الفقرة الثالثة، الذي قذف بنا في حيرة غريبة جدًا، كما رأيت آنفًا من قريب. والآن، وقد فرغنا من إعادة النظر في بناء كتاب ابن سلام >طبقات فحول الشعراء<، يكاد يكون من المقطوع به عندي أن ابن سلام حين عاد إلى كتابه [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 53] نسخته الأخيرة، وهي التي بين أيدينا اليوم، قد أقحم على أصلها الأول زيادات لم تكن في سياق منهج الكتاب، وأنه كتب هذه الزيادات بأخرة قبيل وقاته، وأن بلوغه التسعين من نوبة العلة مرة بعد مرة، قد جعلاه على عجل من أمره في إقحامها إقحامًا يفصل فصلاً ظاهرًا بينًا بين كلامين كانا في أصله الأول متتابعين متصلين. وإذن، فلا غرابة في أن يكون هذا الإقحام العجل عند إعادة الكتابة، مما يحدث اضطرابًا وخللاً في سياق حديثه على وجهه الذي كان أثبته أولاً، وكان ينبغي أن يظل عليه، لولا أن عجل مع الخاطر الملح عليه إلحاحًا حمله على إثباته، ومع العجلة الزلل ومع الزلل تفلت الروابط واضطرابها، ومع التفلت الخطأ، وإذا نحن في تيه متراكبة ظلماته نقول: >سواء بصيرات العيون وعورها< من شدة الحيرة ومخافة الضلال! وإذا كنت قد اتهمت ابن سلام بالخطأ في عبارته فلم أتهمه إلا ومعي حجتي، ولم أقدم على ذلك إلا ومعي عذره، ولا أواجهه إلا ومعي اعتذاري إليه، فإنه إمام من أئمتنا، ونحن عيال عليه، مقرون بفضله وعلمه وتقدمه وجلالته وسناء مرتبته. ويعجبني حديث أبي بكر بن دريد قال: >أخبرنا عمرو أخو هلال الرأي، قال: جاء رجل إلى أبي زيد الأنصاري، فسأله عن مسألة من النحو فأجابه، فقال الرجل: إن سيبويه لا يرضى بهذا! فقال أبو زيد: اسكت يا صبي، لقد جلست هذا المجلس قبل أن يولد سيبويه بثلاثين سنة!<، فعلق على هذا الخبر أو أحمد العسكري، (الحسن بن عبد الله بن سعيد / 293 – 382هـ) فقال: >وهذا جوابٌ غير مرضيِّ، وكان يجب أن يتصرف مع الحجة لا مع كبر السن<، وصدق أبو أحمد، ونعم ما قال. ونحن بحمد الله، نتصرف مع الحجة، لا مع هيبة أبي عبد الله بن سلام وجلالة قدره، معترفين له بالسبق والإمامة والإحسان كل الإحسان فيما بقى لنا من علمه، وليس يعيبه أن يستدرك عليه من لا يلحق بغباره رحمه الله، وغفر لنا وله. بقى بعد هذا أن نلتمس السبب الذي من أجله استحسن ابن سلام أن [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 54] يقحم بين قوله: >فبدأنا بالشعر< وبين صلة كلامه في أصله الأول: >ففصلنا الشعراء من أهل الجاهلية والإسلام والمخضرمين الذين كانوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام ...< إلى آخر كلامه، فهتك من أجل ذلك حبل الفاء العاطفة المعقبة في >ففصلنا ...<، وبتكه بتكًا، ثم وضعه بعد الفقرة الثلاثين غريبًا عنها، وبقيت الفاء بلا معنى، لأن قبلها مباشرة: >وكان الأصمعي وأبو عبيدة من أهل العلم، وأعلم من ورد علينا من غير أهل البصرة المفضل بن محمد الضبي الكوفي، ففصلنا الشعراء ...<. فأي خاطر كان يجول في نفسه، أثاره وهاجه وأغراه بأن لا يبالي بسياق كلامه، وحمله، وهو يكتب النسخة الثانية، أن يقحم بين الفقرة الثانية والفقرة الحادية والثلاثين، ثمانية وعشرين فقرة، إقحام متعجل لا يكاد يصبر؟ والإجابة على هذا السؤال تتطلب بيانًا لا بد منه. وأخشى أن يكون ترك الإبانة عنه، مما يجعل الحديث عنه غير مقنع ولا واضح، لأن هذا أمر يتعلق بالسرائر المضمرة في النفس، لا بالكلام المسطور في الصحف. وقد وجدته، بعد الفحص، محالاً أن ألتمسه في صحف هذا الكتاب. وسأوجزه إيجازًا شديدًا) [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 52-55]
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
رد: كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام
كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام لمحمود محمد شاكر صفية الشقيفي عصر ابن سلام قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) الذي لا أشك فيه، ولا يشك فيه أحد ممن تقدمنا، أنا أبا عبد الله بن سلام كان حفيًا كل الحفاوة بشعر العرب وأخبارها وأيامها في الجاهلية والإسلام. وكان أبوه >سلام بن عبد الله بن سالم الجمحي، مولى قدامة بن مظعون الجمحي<، هو أيضًا حفيًّا بالشعر والشعراء وأخبارهم، كما يدل على ذلك ما رواه عنه ابنه >محمد بن سلام< في كتاب الطبقات، فقد لقى سلام ذا الرمة (رقم: 764)، فحرص بعد ذلك على أن يلقى >خرقاء< في ديار >بني عامر بن ربيعة<، وهي التي كان يشبب بها ذو الرمة، وقال سلام >دخلت على خرقاء، فقالت: اخرجي يا فاطمة – تعني ابنتها، فخرجت امرأة جميلة، وليست كأمها. و>خرقها< التي كانت تقول: >أنا من مناسك الحج< لقول ذي الرمة: [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 55] تمام الحج أن تقف المطايا .... على خرقاء واضعة اللثام ونشأ ابن سلام مع أبيه، فأخذ عنه، وغرى بالشعر والشعراء وأخبارهم، وكان ابن سلام يكثر سؤاله عما يسمع من أخبارهم، كما تدل على ذلك روايته عنه في كتابه. (ولم أجد لأبيه سلام، ذكرًا ولا خبرًا ولا رواية في غير كتاب الطبقات). فمنذ عقل محمد بن سلام في نحو سنة 150 من الهجرة إلى أن بلغ أقصى العمر وطعن في الثانية والتسعين، ظل متقصيًا للشعر والشعراء، فلقى الأئمة الكبار من علماء الأمة، من أهل العلم والرواية الصحيحة، وصحبهم دهرًا طويلاً، حتى انتهت إليه الإمامة بعد ذهاب الأئمة القدماء، فقصده الناس من الأقطار، يأخذون عنه، ويعرضون عليه، ويسألونه عما أشكل عليهم من الشعر والأخبار وعلم العربية والحديث، وغيرها مما كان عنده في وعائه. ويدل كتابه هذا، على أنه لم يقض عمره باطلاً، ولم يقطعه غفلة عما كان يدور في مجالس العلم والعلماء في زمانه، ولا قصر في الاطلاع على ما كتب العلماء والرواة قبل مولده، وفي مدة حياته.والعصر الذي عاش فيه ابن سلام كان عصرًا زاخرًا يعب عبابه، لا في دار الخلافة وحدها، بغداد، ولا في سائر مدنها الكبار كالكوفة والبصرة التي عاش فيها اثنتين وثمانين سنة، بل في كل أرجاء الأرض التي أظلتها كلمة لا إله إلا الله، محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. من أقصى الأندلس والمغرب، إلى تخوم الصين، في كل مدينة وربض وبادية. ولو ذهبت أصف ما كان كيف كان، لما وسعته الأسفار الكبار، فكيف السبيل إلى ذلك في سطور لا تزيد في سفر صغير ولا تنقص. إنه أروع عصر مر في تاريخ حضارات هذا العالم، منذ ترك الإنسان وسمه على الأرض في حضارة متكاملة، وحسبك أن تعلم أنها الحضارة الأولى في تاريخ البشر، التي ما كادت تعرف صناعة الورق، حتى أخذتها بقوة، وأحدثت بها فتحًا جديدًا للإنسان، ونقلتها من صناعة مقصورة على المهارق والصكوك والسجلات والطوامير، التي كانت تراد لأعمال الدولة ودواوينها أكثر ما تراد، وأقله كتابة الكتب الكبار والأسفار المتعددة الجلود، بل كان [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 56] أكثره يلف في الأضابير – نقلت هذه الصناعة إلى صناعة أخرى جديدة استحدثتها، هي صناعة ورق الصحف التي تطوي كراريس كراريس، وتجمع في جلد واحد يصونها، جدد أسلافنا يومئذ أساليب هذه الصناعة، حتى صارت قادرة على كثرة الإنتاج، وحتى صارت كل مدينة فما دونها لا تكاد تخلو من صناعته، ولا من صناعة المداد، وصار الورق من يومئذ مبذولاً للصغار والكبار، وفي أيدي الرجال والنساء. ولم يسمع الزمن من صرير الأقلام على وجوه الصحف، وفي نواحي الأرض المتباعدة المتقاذفة، وعلى تطاول الدهور = ما سمع من صريرها منذ خرج الورق على يد العرب من أسر الدواوين وكتابها إلى أيدي الصغار والكبار من جماهير الناس وطلبة العلم، ولم ير الزمن أيضًا مدادًا يراق على الطروس، كما رآه في زمانهم هذا. ويقيني أنه لولا نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا ما أوتيه صلى الله عليه وسلم من الحكمة وجوامع الكلمة، وأنه كان كما قال صلى الله عليه وسلم >أوتيت القرآن ومثله معه<، وهو حديثه صلى الله عليه وسلم، ثم لولا فتوى أبي بكر رضي الله عنه بكتابة المصحف = لبقى عالمنا هذا إلى يومنا هذا محبوسًا أكثر ورقة في المهارق المطوية في الأضابير بين جدران الدواوين وبيوت الدولة، وأقله في كتابة الكتب. فهذا فضل واحد لا غير، من فضل أمة كانت في سابق علمه سبحانه وتعالى، كما قال لهم في كتابه: >كنتم خير أمة أخرجت للناس<). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 55-57] التذوق أساس الحضارة وأمثلة عليه قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) لم أملك أن أكبح جماح هذا القلم، فإنه عصر يذهلني، كلما جاء ذكره في نفسي، عما كنت فيه، والذي كنت فيه هو الفحص عن الخاطر الذي استولى على ابن سلام، فأثاره وهاجه وأغراه أن لا يبالي بسياق كلامه، وهو يكتب النسخة الثانية من كتابه، فأقحم ما أقحم متعجلاً قليل الصبر، كيف جاء؟ وكيف استولى عليه؟ وأعود مرة أخرى أقول: إن الإجابة عن هذا السؤال تكاد تكون ضربًا من استشفاف السرائر المطوية المستقرة في أغوار الضمائر، بلا دليل يهدي، وما هو إلا كتاب مكتوب! أما ابن سلام فقد مضى لطيته، وطوته الدهور الطوال في [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 57] متظاهر أكفانها فلا علم لأحد بسرائر الماضين على حقيقتها، فإن علمها عند علام الغيوب، وكل ما في أيدينا أن نستدل بالخبر الشاهد على خبر غائب، ولكن رب استدلال وافق صوابًا خفيًا، ولولاه لبطل علم كثير. بل إن كل بحث في الأدب والتاريخ وغيرهما من علومنا، لا يكاد يقوم إلا على هذا الاستدلال وحده، وإن كان السبيل إليه محفوفًا بالعواثير المهلكة، والمتالف المرهوبة. ولذلك ينبغي أن نحذر كل الحذر، فإن الخطأ فيه أكثر من الصواب، لمن لم يملك حسًّا مرهفًا نافذًا يتلقى نبض اللغة وألفاظها بالجس والتقليب، جس الطبيب مواطن البدن الدالة على مكان العلة من العليل. والبحث ي مأثور الآداب، وفي أخبار التاريخ، وفي مسطور الكتب ورسائل الكتاب، وفي روائع الشعر، لم يكن قط إلا بحثًا متواصلاً في سرائر أغلقت عليها صدور أصحابها أو قائليها أو كاتبيها، أو طويت معهم طيًّا، وذهبت حيث ذهبوا، بلا أمل لأحد بعد ذهاب أشباحهم في لقاء أو سمع أو سؤال. ومذهبي أن هذا الاستدلال قائم أساسه على >التذوق<، وقد قلت قديمًا في بعض ما كتبتُ: >كل حضارة بالغة تفقد دقة التذوق، تفقد معها أسباب بقائها. والتذوق ليس قوامًا للآداب والفنون وحدها، بل هو قوام لكل علم وصناعة، على اختلاف بابات ذلك كله وتباين أنواعه وضروبه. وكل حضارة نامية تريد أن تفرض وجودها، وتبلغ تمام تكوينها، إذا لم تستقل بتذوق حساس نافذ تختص به وتنفرد، لم يكن لإرادتها في فرض وجودها معنى يُعقل، بل تكاد هذه الإرادة أن تكون ضربًا من التوهم والأحلام لا خير فيه، فحسن التذوق، يعني سلامة العقل والنفس والقلب من الآفات، فهو لب الحضارة وقوامها، لأنه أيضًا قوام الإنسان العاقل المدرك الذي تقوم به الحضارة<. ونحن، أصحاب هذا اللسان العربي المبين، قد قام أصل حضارتنا على التذوق، في الجاهلية الغابرة، وفي الإسلام الباقي بحمد الله وحده، وبلغ التذوق بنا مبلغًا سنيًّا فريدًا، وحين بدأ تشتته وتبعثره بدأ معهما التدهور [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 58] والإدبار. فواجبنا اليوم أن نعيد بناء أنفسنا على ما بينت عليه حضارتنا من دقة >التذوق<، وأن يكون التذوق أساس عملنا الأدبي في آثار أسلافنا، وأن نلاقي كلمات أخبارهم التي أثرت عنهم بالفحص النافذ، وأن ننفض غيب كلماتهم بالتذوق، ونتوسم بالتفرس في معاطفها، ثم نستجليها ونسألها ونستخبرها عن هذه السرائر المغيبة المحجوبة في طواياها، وإلا يكن هذا حقًّا محضًا، فحدثني إذن، كيف يمكن أن يقع التمييز بين شعر امرئ القيس، وشعر طرفة، وشعر زهير، وشعر النابغة، وشعر أبي تمام، وشعر البحتري، ومن شئت من الشعراء؟ كيف كان ممكنًا ذلك التمييز في مدة حياتهم، وكيف يكون ممكنًا بعد مماتهم، إلا بهذا العمل الدائب في ممارسة الكلمات، واستنباط الخفى من أسرارها، وتذوق أساليبها، وتسمع الركز الخفي في جرسها ونبرها، ثم تولج الحس إلى كنه كل حرف في بنائه وتركيبها، بلمح متيقظ متلقط بصير، حتى تنشأ في النفس صورة واضحة لكل منهم يبين بها من سواه. وحتى يتردد في السمع صدى متميز يعرف به صوت أحدهم من صوت صاحبه؟ وإذا بلغ التذوق هذا المبلغ، لم يكد المرء بعد ذلك يخطئ الصورة البينة الملامح، ولا يكاد يستنكر الصوت المتفرد بترجيعه ونغمته. وإذا قرأت شعر أحدهم وجدت صاحبه بعد ذلك حيًّا يروح ويغدو في جميع أحواله، على ضروب من الهيئة تعرفها النفس معرفة التبين والتمييز. وكلب بحث أدبي أو تاريخي، سوف يكون عندئذ استحياء لأشباح مضت، من رسوم كلمات بقيت. وسر هذا كامن في التذوق، وفي تذوق الكلمات خاصة. وسأضرب مثلين من أمثلة كثيرة، يدلان على أن هذا كان كائنًا عند أسلافنا، أحدهما جليل القدر، والآخر أجل وأعظم. أما الأول فإن ذا الرمة الشاعر، كان قد نشب الهجاء بينه وبين هشام المرئي، وكاد هشام يغلب عليه، حتى لقى يومًا جريرًا، فاستنشده هجاءه [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 59] هشامًا، فأنشده رائيته في هجائه، فلما فرغ من إنشاده قال له جرير: ما صنعت شيئًا! أأرفدك؟ قال ذو الرمة: نعم، فأرفده ثلاثة أبيات ختم بها قصيدته، وهي: يعد الناسبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــو ن بني تميم ....بيوت المجــــــــــــــــــــــــــــــــــــد أربعة كبــــــــــــــــــــــــــــــــــــار فغلبه يومئذ ذو الرمة بهذه الثلاثة الأبيات ... ثم مر ذو الرمة بعد بالفرزدق، فقال له: أنشدني أحدث ما قلت في المرئي، فأنشده هذه القصيدة، فلما بلغ أخر الأبيات الثلاثة في ختامها، أطرق الفرزدق ساعة، ثم قال له: أعد فأعاد، فقال له: كذبت وأيم الله! ما هذا لك! ولقد قالها أشد لحيين منك! ما هذا إلا شعر ابن الأتان! (يعني جريرًا).يعدون الربـــــــــــــــــــــــــاب وآل سعــــــــد .... وعمــــــــــــــــــــــــــــــرًا، ثم حنظلة الخيــــــــــــــــــــــارا ويهلك بينهـــــــــــــــــــــــــــــــــــا المرئي لغــــوا .... كمـــــــا ألغيت في الدية الحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوارا فبهذا التذوق النافذ وحده، استطاع الفرزدق أن يلمح جريرًا بهيئته وصورته وصوته من وراء هذه الكلمات القلائل. أما ثاني المثلين، فهو أروع وأنفذ، فإن الله سبحانه حين ابتعث نبيه صلى الله عليه وسلم، لم يجعل للناس دليلاً على صدق نبوته يطالبهم بالإيمان به، سوى ما نزل عليه من القرآن منجمًا على ثلاث وعشرين سنة. وطالب عباده من عرب الجاهلية أن يتبينوا أن ما نزل إليه هو كلام الله المفارق لكلام البشر على اختلاف ألسنتهم، وذلك بمجرد سماعه يتلى عليهم في آيات قلائل في أول العهد بالإسلام، وفوض إليهم أن يحكموا على قليله منذ بعث، بأنه وحي أوحاه الله لا يطيق أن يأتي بمثله لا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا غيره من البشر. ولا سبيل لأحد إلا عن طريق التذوق الذي وصفناه لا غير، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >ما من نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحي إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة<، أي أن الآية التي يفوض أمرها إلى التذوق القائم في طبيعة البشر، أبقى من الآية التي تنقضي بانقضاء حدوثها، ولا يبقى للبشر بعدها إلا التسليم بحدوثها لا غير، كعصى موسى [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 60] وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. ولكن ليس هذا موضع المثل الذي أردته، ورأيي في معنى قولنا >إعجاز القرآن< معروف فيما أظن. أما المثل الذي أردته، فهو أبلغ وأنفذ في عمل >التذوق< لا في تمييز كلام رب العالمين من كلام البشر، بل في تمييز كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كلامه هو نفسه قبل البعثة، ومن كلام سائر العرب في زمانه وبعد زمانه. كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق يعرفه في الجاهلية، كما يعرف الناس بعضهم بعضًا، فلما بُعث صلى الله عليه وسلم على رأس الأربعين من عمره، ناوأه قومه من قريش وسفهوه وآذوه. فقد هذا الصديق القديم مكة يومًا، فسمع الناس يتحدثون أن محمدًا: شاعر وكاهن ومجنون، يقول ابن عباس في حديثه الذي رواه مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده والنسائي في سننه، وابن سعد في الطبقات، وغيرهم، وهذا لفظ مسلم: >عن ابن عباس: أن ضمادًا قدم مكة، وكان من أزد شنوءة وكان يرقى من هذه الريح (أي من الجنون ومس الجن)، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدًا مجنون! فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي! قال: فلقيه، فقال: يا محمد، إني أرقى من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من يشاء، فهل لك؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد< قال فقال (ضماد): أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. قال فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر! قال فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه... كلمات قلائل تذوقها ضماد رضي الله عنه، ولم يصبر حتى يتلى عليه بعض ما نزل من القرآن يومئذ بمكة، وقطع الحديث ليستعيد ما سمع، ونحن اليوم نسمعها من كل منبر في كل يوم جمعة، ونحن في غفلة عن تذوقها تذوق ضماد. كانت هذه الكلمات التي سمعها ضماد يومئذ هي وحدها دليله [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 61] على نبوّة صديقه الذي كان يعرفه ويعرف كلامه بالأمس في الجاهلية. لأنه وصل بتذوقها إلى صميم الفرق بين كلام صاحبه بالأمس، وكلامه في هذا اليوم، وأسرعت به إلى البيعة على الإسلام قبل أن يسمع كلام الله! فأي دقة في التذوق!! وأي رجال كان هؤلاء الذين فوض إليهم التفريق بين كلام رب العالمين، وكلام عبيده من البشر!؟). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 57-62]
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
رد: كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام
كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام لمحمود محمد شاكر صفية الشقيفي سمةُ تلقي العلم وتدوينه في عصر ابن سلام قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) لقد أطلت الاستطراد، ولكني رأيته شيئًا لا بد منه، لأن مذهبي في دراسة الأدب قائم عليه فيما كتبته قديمًا، وفيما أكتبه اليوم، ولأنه هو الفيصل الفارق بين مناهج الدراسة المتلقاة عن غير أهل هذا اللسان، وبين المناهج التي ينبغي أن تنبع من الأصل الذي قامت عليه حضارة هذا اللسان، ثم ضللنا عنه وطال الضلال. وهذا حين عودتنا إلى شيخنا محمد بن سلام، وما كان من خبره في تأليف كتاب >طبقات فحول الشعراء<. نشأ أبو عبد الله محمد بن سلام واكتهل وبلغ من السن ما بلغ، في سرَّة عصر فريد في تاريخ البشر، على تطاول القرون من قبله ومن بعده. أستثنى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الأربعة. وكان عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم قد انقضى، وتدفق علمهم في صدور ورثتهم متلاطمًا، فانشق القرن الثاني من الهجرة عن بحور العلم الزاخرة وجباله الشوامخ. وكانت قواعد العلم الكبرى قائمة في الكوفة، وفي البصرة التي نشأ فيها ابن سلام، وهما المدينتان العتيقتان اللتان تم تمصيرهما على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ما بين سنة 14، 17 من الهجرة. وظلت أجيال من علماء الأمة تتوارث العلم، وتتكاثر في هاتين المدينتين العظيمتين، فجاء منتصف القرن الثاني من الهجرة، وفيهما وفرة وافرة من جبال العلم وبحاره المتدفقة. أدرك محمد بن سلام منتصف هذا القرن، وهو بالغ يتعلم، فشهد تلاقي هذا التدفق من صدور العلماء إلى آذان تلامذتهم، ثم تلقى هذا الجيل من حفاظ العلم وطلبته تلقيًا يزخر بالهمة والفهم والتوسع. كان علم هؤلاء العلماء بحرًا يجيش في صدورهم، أقله [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 62] ما قيدوه كتابة، وأكثره ما كانوا يتحدثون به، ويبينون عنه بألسنتهم حين يسألون عن بيان ما يتحدثون به. فقل اهتمامهم بتأليف الكتب الكبار المفصلة المفسرة، وأكثرهم لم يؤلف كتابًا قط، وإنما سار علمه في الناس بكثرة من أخذ عنه وسأله وأجابه. فكان جل تلامذتهم يسيرون على سنتهم، ويتلقون عنهم. ويحفظون ما يتلقونه وما يكتبونه مع ما سمعوه منهم، بيد أن بعض تلامذتهم خالفوا سنتهم في ترك تأليف الكتب، وفي الاقتصار على تأليف الكتب الصغار. ولكي تكون هذه الصورة واضحة، ينبغي أن نضرب مثلاً يبين عنها. فالخليل بن أحمد الفراهيدي (100 – 170هـ)، كان أحد ورثة العلم الكبار، وكان بحرًا لا يكاد يدرك مداه. ومع ذلك فإنه لم يؤلف إلا كتبًا صغارًا جدًّا ضاع أكثرها، أو جميعها على الأصحّ، ولكنه كان لطلبة العلم ينبوعًا متفجرًا يصدر عنه الورّاد رواءً، حتى قال أحد تلامذته النضر بن شميل: >أكلت الدنيا بعلم الخليل وكتبه، وهو في خص لا يشعر به<. هذا مع أنه أول رجل في الأرض، وضع الأساس الكامل لتأليف معاجم اللغة لم يسبقه أحد إلى مثله، والبشر قاطبة عيال عليه في معرفة الطريق إلى تأليف المعاجم، فهو الذي حدد أصول المعجم المنسوب إليه، وهو >كتاب العين<، قال ثعلب: >إنما وقع الغلط في كتاب العين، لأن الخليل رسمه ولم يحشه، ولو كان حشاه ما بقى فيه شيء، لأن الخليل رجل لم ير مثله، وقد حشا الكتاب قوم علماء، إلا أنه لم يؤخذ عنهم رواية، وإنما وجد بنقل الوراقين، فاختل الكتاب لهذه الجهة<. وطريقة رسم الكتاب التي ذكرها ثعلب، أن الخليل حين فكر في وضع معجم يجمع لغة العرب، لجأ إلى حصر رؤوس مادة اللغة أولاً، وذلك بأن عمد إلى أصعب طريق، ولكنه أوثقه حتى لا يسقط من مادة اللغة شيء، فأخذ حروف المعجم التسعة والشعرين (أ. ب. ت. ث.........)، ولجأ إلى ما نسميه اليوم >قانون التباديل والتوافيق<، فاستخرج عدة الأبنية التي يمكن أن تتركب من حروف المعجم، فبلغت عدة ملايين، في الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي من [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 63] الأبنية. ثم عرض هذه الملايين على ما في صدره من كلام العرب، فاستخرج المهمل والمستعمل، حتى حصر اللغة حصرًا دقيقًا بلا رجوع إلى كتاب مقيد، فوضع هذا الأصل لمادة اللغة، ولكنه لم يزد على الحصر. ثم تبعه الناس، فألفوا معجم اللغة، وإن خالفوا فيما بعدُ طريقته. وهو أيضًا أول رجل ضبط حدود الحركات والسكنات على نسب لا تختل، إذا بُني عليها كلام من كلام العرب كان نغمًا موزونًا، وأراد بذلك أن يضبط ما يسمى في كلام العرب >شعرًا<، وهو علم العروض الذي نعرفه. وعن طريق اهتدائه إلى هذا الضبط، اهتدى أيضًا إلى ضبط نغم الموسيقى، فكان أول رجل في الأرض وضع هذا الضبط، وأخذه عنه إمام الموسيقى في عصره، (والخليل لم يكن له معرفة بالموسيقى)، إسحق بن إبراهيم الموصلي (150 – 235هـ)، فأتم عمل الخليل بعلمه. وحين ألف إسحق كتابه >الإيقاع والنغم<، عرضه على ضريعه ومنافسه ومخالفه في الطريقة، إبراهيم بن المهدي (163 – 224)، فقال له إبراهيم: >أحسنت يا أبا محمد، وكثيرًا ما تحسن!< فقال إسحق: >بل أحسن الخليل، لأنه هو الذي جعل السبيل إلى الإحسان<. وأسس إسحق علم الموسيقى وضبطه، وكان عمل الخليل هو الذي هداه، وهدى الناس من بعده إلى ضبط الموسيقى وحصرها، وهو الذي نعرفه اليوم باسم >النوتة الموسيقية<. وكان الخليل يوشك أن يأتي بأعجب من ذلك. أراد أن يضبط علم الحساب ويحصره حتى يكون له ميزان يرجع إليه، كالذي فعله في >العروض< و>النغم<، وقال يومئذ: >أريد أن أقرب نوعًا من الحساب، تمضي به الجارية إلى البقال، فلا يمكنه أن يظلمها<، أي أن يغالطها في الحساب، وهي جاهلة الحساب. فدخل المسجد يومًا وهو مشغول بوضع هذا الميزان الخاص للحساب، فصدمته سارية من سواري المسجد، وهو غافل مستغرق في حسابه، فانقلب على ظهره، فكان ذلك سبب موته بعد قليل. فلننظر الآن كيف صار أمر علم الخليل، الذي نستطيع أن نقول إنه لم [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 64] يؤلف في عمره الطويل كتابًا يُذْكر، والذي قال فيه تلميذه النضر بن شميل (000 – 203): >ما رأى الراؤون مثل الخليل، ولا رأى الخليل مثل نفسه<. أما >النغم<، فقد ذهب به إسحق كما قلنا. وأما >علم العروض<، فأخذه عنه أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش (000 – 215)، فبسط هذا العلم ومده واستوعبه، وتبعه الناس، وبقيت كتب الأخفش من بعده أصلاً واسعًا لهذا العلم، وضاع قليل ما كتب الخليل. وأما مادة حصر اللغة التي أسسها ووضعها في أصل كتاب العين، فأخذه عن الليث بن نصر بن سيار، وحشاه وتبعه الناس. أما علم النحو والعربية، وهو أوثق علوم الخليل وأجلها، فلم نسمع قط أنه ألف فيه كتابًا، وقد تلقاه عنه عشرات من كبار العلماء من شيوخه وأسنانه وتلامذته، ولكن بان من بينهم شابٌّ آثره الخليل بما ضمن به على غيره، وحمله علمه وأسراره الخفية وكان شابًا ملء ثيابه عقلاً وإدراكًا وبيانًا وذكاءً ومقدرةً، وهو سيبويه (000 – 180). وقد بلغ من إيثار الخليل سيبويه بعلمه أن الأخفش، حدث عن نفسه فقال: >حضرت مجلس الخليل، فجاء سيبويه فسأله مسألةً وفسرها له الخليل، فلم أفهم ما قالا، فقمت وجلست له في الطريق، فقلت: جعلني الله فداءك! سألت الخليل عن مسألة، فلم أفهم ما رد عليك. ففهمنيه! فأخبرني بها، فلم تقع لي ولا فهمتها. فقلت له: لا تتوهم أني أسألك إعناتًا، فإني لم أفهمها ولم تقع لي! فقال لي: ويلك! ومتى توهمت أني أتوهم أنك تعنتني، ثم زجرني وتركني ومضى<. وظل هذا الشاب يأخذ عن الخليل من ينبوعه المتفجر، وبذل له سر العربية الذي كان في صدره، وعقد له بناء النحو عقدًا كاملاً وآثره به، ولم يكتب هو شيئًا، وبقى مع الخليل حتى مات، يحدثنا القاضي إسماعيل بن إسحق الأزدي (000 – 282)، عن نصر بن علي بن نصر الجهضمي (000 – 250)، عن أبيه علي بن نصر الجهضمي (000 – 187). وكان قرين سيبويه، وكانا معًا من أصحاب الخليل في علم العربية، قال علي بن نصر: >قال لي سيبويه حين رآني (يعني بعد موت الخليل): تعال نتعاون على إحياء علم الخليل<، ولكن عليًا لم يعاون سيبويه، فانطلق سيبويه وحده [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 65] يؤلف هذا الكتاب البَحْر، الذي لم ير الناس مثله قبله ولا بعده، وهو >الكتاب<، وقد قلت منذ أربعين سنة غن قراءة كتاب سيبويه، وتتبع مصطلحاته، تدل دلالة قاطعة على أن الخليل هو الذي وضع لسيبويه بناء هذا الكتاب، وأنه هو الذي عقد له عقده الذي نراه عليه اليوم. ولولا الخليل لما كان >الكتاب<! هذه صورة تلاقي جبال العلم الشوامخ الذين كان علمهم في صدورهم وقلَّ تأليفهم، وبحار العلم من تلامذتهم الذين تدفق إليهم علم شيوخهم، فألفوا وكتبوا ووضعوا أصول العلم المختلفة. انتزعتها من رجل واحد، ورثه تلامذته، وأشباه هذا الرجل الفذ كثير في عصره، وأشبه تلامذته كثير من بعد شيوخهم). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 62-65] عَوْد إلى محمد بن سلام والداعي إلى تأليف كتابه قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) وقد شهد محمد بن سلام هذا التلاقي وما كان من أثره، منذ كان يحضر مجالس أبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، والأصمعي، وأبي عبيدة والخليل بن أحمد وسيبويه، والأخفش، فنازعته نفسه منذ ذلك الوقت أن يفعل في شأن الأدب والشعر وأخبار العرب ما فعل هؤلاء بعلم >العروض< و >علم النغم<، و>علم النحو والعربية< ومضت الأيام به سراعًا حتى كانت سنة 222، وهو في الثانية والثمانين من عمره ورأى العلماء من قَبْله ترحل إلى بغداد، المدينة الحديثة العهد التي أنشأها أبو جعفر المنصور سنة 146، وصارت دار الخلافة، واحتشد فيها مهاجرة العلم والعلماء، وعزم على أن يلحق بمن سبقه ممن هاجر من البصرة إلى بغداد، وفي نفسه ذلك الأمل الذي لم يحققه، لأنه بقى على إلفه القديم من سنة العلماء الماضين، ممن كان علمهم في صدورهم. فلما دخل بغداد، ولقيته الحفاوة كل الحفاوة، ورأى أفواج العلماء والأأشراف وطلبة العلم، تطيف به من نواحيه، ويسأله السائلون ويستفسرونه ويستخبرونه، وهو الإمام المشهور في الأدب واللغة والعربية والشعر، وبقية الماضين من جبال العلم الشوامخ، عاد ما كان يجيش قديمًا في صدره من تأسيس علم الأدب وعلم الشعر وعلم أخبار العرب، بكتب يؤلفها. ولكن لم يكد حتى مرض ... وزاره الطبيب ابن ماسويه، فقال له فيما قال: >الإنسان في غفلة حتى يوقظ بعلة، ولو وقفت على عرفات وقفة، وزرت قبر رسول الله [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 66] صلى الله عليه وسلم زورة، وقضيت أشياء في نفسي، لرأيت ما اشتد علي من هذا قد سهل<. فبدأ بعد أن استبل، في وضع منهج كتابه الأول >طبقات فحول الشعراء<، وكتب هذا المنهج في صدر كتابه، ومضى يؤلف، ليؤسس بهذا الكتاب >علم الأدب والشعر<، كما فعل الأخفش وسيبويه وغيرهما، ومضى عجلاً وألف، وفرغ فيما أرجح، من نسخته الأولى، ولكنه فوجئ برجل كان واحد الدنيا في زمانه، فذكره بأشياء كان ينبغي أن تكون أساس منهجه ولكنه غفل عنها أو نسيها، أو لم تخطر له في أول التأليف على بال، مع تقدم السن، ومع العجلة، ومع غموض تأسيس منهج شامل لعلم الأدب والشعر. هذا الرجل، هو يحيى بن معين بن عون، أبو زكريا المري، مولى مرة غطفان، المولود سنة 158، والمتوفى سنة 233هـ، من هو يحيى بن معين؟ وماذا فعل بابن سلام؟). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 66-67]
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |