#1
|
||||
|
||||
بين الرافعي والشاعر محمد بركات.. قلت في الحزن..
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 29-11-2022 الساعة 08:44 PM. |
#2
|
||||
|
||||
رد: بين الرافعي والشاعر محمد بركات.. قلت في الحزن..
بين الرافعي والشاعر محمد بركات.. قلت في الحزن.. منجية بن صالح لحواءَ مكان في حياة آدمَ تحتله كحبيبة، فلها قرب مكانيٌّ يملأ مكانة فارقتها عند نزولها إلى الأرض، فنراها تأوي إليها كلما وجدت قلب حبيب، ولقد كان لها مكان ومكانة في كيان آدم عندما كانا في الجنة، عاشا في ظلال سعادة مطلقة، يحتويهما كيان واحد، ينعمان بحب لا يعرف البغضَ، وبسعادة لا تعرف الحزن، وبحضور لا يعرف الفراق. يختزل الشاعر محمد بركات هذا المعنى، وكأنه يعود بالذاكرة إلى لحظة أزلية لم تفارقه، وهي لحظة الانفصال والنزول إلى الأرض، ليقول: مُذْ أَنْ خَسِرْتُكِ يَا حَبِيبَةُ لَمْ أَجِدْ ♦♦♦ شَيْئًا نَفِيسًا مِنْ بُعَيْدِكِ أَخْسَرُهْ وكأن الزمن يتماهى مع آخر، ليرسم تفاصيله الموجعة فينا، ويذكِّرنا حتى لا ننسى أن الإنسان غياب وحضور يحتويه قلم... فما الشِّعر إلا لحظة تجلٍّ يغادر فيها الشاعر العالم الحسيَّ، ليلج عالم حقيقة هو جمال مبين، أين تتوحد النفس مع الإحساس مع الفكر، فتفصح المعاني عن سرها، وتجعل الشاعر يعيش نشوة حياة؟ هي كلمة ترسمنا كيانًا أثيريًّا ينبض حبًّا وجمالًا، تجعل لنا حياة أخرى من خلال الخيال، وصورة يحركها معنى وكلمة، تتفاعل مع المتلقي، تحاور وجدانه، وتملأ فراغات تعاني منها مشاعره، وما الكتابة الجادة إلا حقيقة يخطها قلم أخرج أجمل ما فينا من زوال مؤكَّد، تتناقله أجيال قادمة، فتعطي النصَّ حياةً من حياتها. هكذا أفصحت رسائل الشاعر محمد بركات عن نفسها؛ إذ كانت بين حقيقة كامنة في الإنسان، وخيال احتضن وجودها، فكانت الصورة والكلمة المعنى، اختزلتها الذاكرة فوجدت مأواها في القلب، لنراه يقول في قصيدة حزن أنيق: أَخْفَيْتُ حَرْفًا فِي هَوَاكِ تَجِلَّةً وَهُنَاكَ حَرْفٌ رُغْمَ أَنْفِي أُظْهِرُهْ كَمْ نَدَّ حَرْفِي أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا لَوْلَا مَعَانٍ فِي غَرَامِكِ تَأْسِرُهْ اللهُ أَكْبَرُ مَا كَرِهْتُ غَرَامَنَا مَا زَالَ يَكْبُرُ فِي الفُؤَادِ وَأُكْبِرُهْ في فلسفة الحب والجمال: لقد كان الرافعي عبقريًّا على مستوى الفكر والمناظرة والمنطق، وكان يستمد ذلك من عقيدته، وهو الذي نهل من المَعِينِ القرآنيِّ والنبوي ما جعله يفحم أعداء المجتمع الإسلاميِّ ومناصري حداثة الفكر المستورد. كان له إدراك مميز لكل المسائل التي تطرق إليها، ورؤيةٌ متفردة تجمع بين الشيء ونقيضه، أو ما نحسبه نحن كذلك، فكانت له نظرة كلية للأشياء، تتكامل في جوهرها لتكون وحدة متجانسة يكمِّل بعضها بعضًا، ويفضي بعضها إلى الآخر، فلا يمكن أن ندرك رسائل الأحزان إلا من هذا المنطلق، حتى نلج إلى فلسفة الحب والجمال من بابها الواسع. الإنسان والبحث عن الذات: يقضي الإنسان حياته وهو يبحث عن ذاته الموجودة والمفقودة: الموجودة لأنها السر الذي يسكنه ولا يدركه، والمفقودة لأنها تتمثل في أنثى كانت جزءًا من كيانه وانفصلت عنه، فلا تكتمل إنسانيته إلا بها؛ حتى يستطيع أداء الأمانة، والقيام برسالة خُلِقَ من أجلها، هذا الفقد على مستوى المكان والمكانة يشيع الحزنَ في الإنسان، فتتجذر فيه المعاناة. يقول الرافعي في مقدمة رسائل الأحزان: "رجل وامرأة كانا ذرتين متجاورتين في طينة الخلق الأزلية، وخرجتا من يد الله معًا، هي بروعتها ودلالها وسحرها، وهو بأحزانه وقوته وفلسفته، فكان منهما شيء إلى شيء". ويرتقي الرافعي بقلبه وعقله إلى تخوم الروح التي لا يدرك سرَّها غير الخالق، ليقول: "إذا كنت حكيمًا، فسألت نفسك سؤال الفلاسفة: من أنا؟! ووجدت في نفسك ذلك السرَّ الخفي يقول عنك من هو، فإنه لن يظهر لك معنى أنا وهو، إلا إذا وضع الحب بينهما هي"؛ (رسائل الأحزان، ص18). إنها "هي" من يعطي الحياةَ معنى الوجود، ففقدها هو الحزن نفسه، ووجودها هو الجمال، فهي عطاء واكتمال يصاحبه شعورٌ بمعنى الحب، ويكأنه يولد فيها من جديد في كل لحظة من حياتها، وهو الذي خلقنا به ومن أجله، إننا في حاجة إلى وعي يحرِّك مفرداته، وإلى لقاء يحتويه مكان؛ ليكون لهذا الحب مكانةٌ لا غنى للإنسان عنها، وإلا انقلب إلى حزن وبغض مدمر، وما البغض والحب إلا وجهانِ لعملة واحدة تقلبنا الظروف بينهما كما تشاء، هذا بمقاييس عالم الشهادة، أما على مستوى عالم الغيب، فإن الإنسان يعيش جدلية الاحتواء والانفصال كأجمل ما يكون، ولو أدركنا معناها الحقيقيَّ لما عرَفت التعاسةُ لنا طريقًا. وقد عبر عن ذلك الشاعر محمد بركات في إحدى الرسائل بطريقة رائعة؛ إذ قال: "فهَبِي أن شخصين اجتمَعَا على حب كبير بينهما، ثم فجأة صَعِدتْ روح أحدهما لبارئها وهو بين يدي عاشقه، أترين للقرب هنا معنى، أم يصبح الحبيب أبعدَ شيء من حبيبه على قربه منه، ونومه بين أحضانه؟! وهبي أن شخصين أحبَّ بعضُهما بعضًا ولكن لم يجتمعا يومًا، هل يشعران رغم بُعد المسافات ببعد الأرواح والمشاعر؟!". ثم يقول: "ودونك أحسن القصص في القرآن؛ قصة نبي الله يوسف حين أراد إخوته أن ينزعوا من قلب أبيه حبَّه، فألقَوه في غياهب الجبِّ؛ ظنًّا منهم أنَّ بُعده عن أبيه سينسيه إياه ويستعيض بهم عنه، فإذا بنبيِّ الله يعقوب أشد كلَفًا وحبًّا لابنه؛ فكأن إخوته ألقَوا بأنفسهم في جب كراهية أبيهم لهم، وألقوا بيوسف في نهر من الحب والشفقة والرحمة في قلب أبيه، بل في رحمة من حزن طويل على يوسف، وما أعجب تعبيرَ القرآن حين قال: ﴿ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ﴾ [يوسف: 84]، هكذا (وَابْيَضَّتْ) وليس (اسودَّت) أو (عميت)... أرأيتِ أن الحزن أبيض؟! ابيضَّت لأن حب يوسف ملأها، وابيضَّت لأن الحبيب يوسف يسكنها، وابيضَّت هذه الرسائل من الحزن لأنك تسكنينها". إن اللون الأبيض هو لون الفرح والنقاء، وهو النور الذي نرى من خلاله حقيقة الأشياء... وابيضَّت عينا النبي يعقوبَ فشاهد حقيقة ما حصل ليوسف، فكان للحزن مكان بين حقيقة ناصعة وبغي خيال الإخوة. يعيش الإنسان حياته بين جدلية الاحتواء والانفصال، بين حقيقة خافية وخيال الصورة المخادعة، إنْ قادته الأنا أصبح من إخوة يوسف، وهو الانفصال في أقسى مظاهره، وإنْ تأسى بنبيِّ الله يعقوب سلِم وسلمت روحه، فيعيش الاحتواء والتكامل مع الذات، يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40]. هكذا يتجلى الحزن في النفس البشرية، ولا تزيحه غير المعية المحببة إلى القلب والروح، وإن تلازَمَا ظهَرَ بغضٌ لا يزيحه غير تكامل داخليٍّ مع الذات، تشعر الإنسان بسر وجوده، برسالته وبالأمانة التي عاهد الله على حملها، عندها لن يضير الإنسانَ بُعدٌ ولا قرب؛ إذ إنه يعيش الاكتمال مع الذات بالفطرة الآدمية التي خلق بها في الجنة، وكأنه يعيش في زمنِ ما قبل الغَواية، عندما كان يعيش الاحتواء دون أن يعرف للانفصال معنى.. وتنصهر كل المشاعر الإنسانية في بوتقة واحدة، لينسجا معًا أروع معاني الجمال، وما الجمال إلا تناغمُ روحينِ يحتويهما كيانان غير متجانسين. أما الشاعر محمد بركات، فيعيش حزنه بطريقته؛ إذ يمزج بين لوني الحزن والحب والجمال، ليرسم لنا عالمه بريشة فنان شاعر، يحدوه خيال، ويحلِّق به قلم، ليقول في مطلع قصيدة حزن أنيق: (أَهْوَاكِ) أَوَّلُ مَا نَطَقْتُ وَآخِرُهْ ♦♦♦ وَهَوَاكِ حُزْنٌ بِالجَمَالِ أُسَطِّرُهْ ثم يقول: تَبْدُو حُرُوفُ الحُزْنِ زَهْرًا بَاكِيًا يَقْتَاتُ غَيْثًا مِنْ جُفُونِكِ تُمْطِرُهْ مُذْ أَنْ خَسِرْتُكِ يَا حَبِيبَةُ لَمْ أَجِدْ شَيْئًا نَفِيسًا مِنْ بُعَيْدِكِ أَخْسَرُهْ فَارْتَاحَ قَلْبِي إِذْ غَدَا وَقَدِ اسْتَوَى عِنْدِي حَصَا هَذَا الوُجُودِ وَجَوْهَرُهْ يصل الشاعر في حزنه إلى حالة استواء، حيث يتخلص من رغبة التراب؛ ليرتقي إلى مكون أساسي فيه؛ الماء، وهو دليل الارتواء المعرفيِّ، والارتقاء إلى عالم تتكامل فيه الأضداد، حيث تكون قمة الرضا والسكينة، وكأنه صوفي متمرس تشبَّع بفلسفة التكامل مع الذات، تخلى عن مكونات الحياة الدنيوية ليرى حقيقةً نبعت من ذاته، فعرف طريق الاكتفاء، أين تكمن حقيقة الأشياء، ولكن سرعان ما يعود الشاعر للواقع؛ إذ يبقى للطين خاصيته، وللروح شوق وتوق إلى عالمها، فنراه يعيش حال الشد والجذب، بين حزن مقيم وحب مغادر، إنه يحلق بين أرض وسماء، بين جسد راسخ في طبيعة الطين وروحٍ تهفو إلى مقرها في السماء، بين خيال الواقع ورؤى الحقيقة، ليقول: لَمْ يَنْفِ نَعْتَ الحُزْنِ عَنِّيَ حُبُّهَا أَوَ هَلْ نَفَى نَعْتَ الدُّجَى لَكَ مُقْمِرُهْ هَذَا قَلِيلٌ مِنْ غَرَامٍ نَازِفٍ هُوَ مُضْمِرٌ جِسْمِي لِأَنِّيَ أُضْمِرُهْ ويجيبه الرافعي وكأنه يحاوره ليقول: "الحب الصحيح إذا استوى غيبه ومشهده كان أشبه بقوة سماوية تعمل عملها لتبدع من الإنسانية شعرًا أسمى من حقائقها... فشعر العقل تخلقه الإنسانية من الطبيعة بالعلم، وشعر القلب يخلقه الحب من الإنسانية بالجمال"؛ (من كتاب بعنوان "من روائع الرافعي" ص80). للحب والجمال فلسفة بُنيت على تناسق حركة الصورة في الخيال، وهذا التناسق هو رهين حركة المشاعر الإنسانية في النفس، والتي هي بدورها تتمثل لنا حسب محيط له تأثير واضح في المزاج العام للإنسان وكل كتاباته، فنرى الشاعر محمد بركات يقدِّم لنا الرسائل ليقول: "كل حزن في رسالة لا يشبه الآخر، مع أن الحروف التي تتألف منها كلُّ الرسائل واحدةٌ، كما أن المادة التي خُلق منها الناس رغم تباينهم وعدم تشابههم واحدةٌ، وهي الماء والطين، وإني لأسكب ماء عيني على حروفِ تلك الرسائل فتصير طينًا أخلُقُ منه معانيَ بعدد أنفاس الخلائق، وكما أن لله أسرارًا في خلقه، فإن أسراره في تأليف الحروف واستخراج المعانيمنها أدقُّ وأجلُّ، ولا يقف عليها إلا من شاء الله له الوقوف على شيء منها". ويختصر الرافعي المسير ليعرف لنا الرسائل، فيقول: "هي رسائل الأحزان؛ لا لأنها من الحزن جاءت، لكنها إلى الحزن انتهت، ثم لأنها من لسان كان سلمًا، يترجم عن قلب كان حربًا". هكذا تناغمت الأقلام وأفصحت عن وجهتها، وما اختزلته من مشاعر أصحابها في لحظة صفاء كانت فيها النفس شاهدة على حالها وشهيدة حب وجمال، ورغم أننا خُلقنا به ومن أجله، فإنه فاتنا أن ندرك حقيقته ونتفاعل معه. ما قاله الرافعي كان صورة من حياته العاطفية سكبها على أوراقه؛ ليخلِّد من خلالها تقلبات نفسه العاشقة في كل أحوالها، بلغةٍ كتبها قلم بمداد روحه، فرسم الحب و الجمال، والبغض والحزن، وثورة عاصفة كان بعدها هدوء المحارب، وهذا الهدوء هو ما وجدناه في رسائل "ما لم يقله الرافعي" للشاعر محمد بركات؛ إذ نستشف منها صفاء روحيًّا ينم عن سكينة رغم ما نستشعره من حزن من خلال كتابات الشاعر الشعرية والنثرية، التي تعامل معها الشاعر بحرفية وهو يتمثل هدنة المحارب رغم وضع قائم، محاولًا الإحاطةَ به؛ حتى يدرك سر حزنٍ تثيره أنثى لا تكتمل حياته إلا بها، وفي نفس الوقت يُشقيه هذا الانفصال الذي خلَّف وراءه جرحًا أزليًّا لم يندمل، إنه البحث عن الاحتواء المشروع الممنوع، فلا هو آدم عندما كان في الجنة، ولا هي ضلعه الذي كان مقيمًا فيه. لقد وجدت في رسائل ما قاله الرافعي وفيما لم يقله لكلا الكاتبين الرافعي وبركات - تناغمًا رائعًا، فهما يعزفان تقريبًا نفس اللحن الحزين، مع اختلاف الأسلوب في التعبير، ففي بعض المواطن نجد أن أحدهما يواصل ما قاله الآخر، وهذا ما جعلني أقدِّم هذه الدراسة المتواضعة التي أدرك أنها لا تفي بالغرض، لكني أعدُّها مقاربةً أماطت اللثام عن بعض نقاطٍ أظنُّها أساسية لإدراك ما وراء مشاعر الحب والحزن والبغض، وسبب إحساس الإنسان بالجمال من عدمه.
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 29-11-2022 الساعة 08:45 PM. |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |