شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 28 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         ولا تبغوا الفساد في الأرض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          تحرر من القيود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          فن التعامـل مع الطالبات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 28 - عددالزوار : 777 )           »          العمل السياسي الديـموقراطي سيؤثر في الصرح العقائدي وفي قضية الولاء والبراء وهي قضية م (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 129 )           »          طرائق تنمية الحواس الخمس لدى الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 16 )           »          حقيقة العلاج بالطاقة بين العلم والقرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 27 )           »          الله عرفناه.. بالعقل! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 90 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #271  
قديم 21-01-2023, 09:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (266)

صـــــ(1) إلى صــ(11)




شرح زاد المستقنع -‌‌ كتاب البيع [2]

لا يخلو يوم من أيام العباد من المعاملات المالية، سواء كانت تجارية أو غير تجارية، ومن ثم فقد يبتلى العبد بطعمة الحرام والخوض في البيوع المحرمة، وما ذاك إلا بسبب جهله بأحكام هذه البيوع، ومن هذا المنطلق لزم على الإنسان معرفة أحكام هذه البيوع وصيغ إبرامها ونقضها، ليكون على بصيرة من أمره فيما يدخل على أهله وعياله من هذا المال
‌‌حقيقة البيع شرعاً
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهو مبادلة مال ولو في الذمة].
لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا حقيقة البيع في اصطلاح الشرع، وقد تكلمنا عن أهمية معاملة البيوع، وأن المسلم محتاج إلى معرفة مسائل البيع؛ لأنها مما تعمّ بها البلوى، وقلّ أن يمر يوم على الإنسان إلا وهو بائع أو مشترٍ أو جامع بين البيع والشراء، ومن عرف أحكام البيع وعرف ما يترتب على البيع من مسائل؛ فإنه حريٌ به أن يتقي الله عز وجل فيفعل ما أذن الله به ويترك ما نهى الله عنه، ومن كان على جهل بهذه المسائل فإنه لا يؤمَن عليه أن يقع في المحظور وهو لا يدري، ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إنه قد يشيب عارض الإنسان في الإسلام وهو يلعن صباح مساء بأكله للربا والحرام؛ وذلك لأنه قد يفعل ذلك عن جهل منه، ويصحب الجهل التقصير في سؤال العلماء ومعرفة ما أحلّ الله وحرّم.
وباب البيوع من الأبواب التي تحتاج إلى شيء من العناء، كما ذكرنا ونبهنا على أنه ينبغي على طالب العلم أن يصبر ويصابر لضبط هذه المسائل؛ لأنها تحتاج إلى شيء من التركيز، وقد يحدث معها شيء من السآمة والملل، ولكن إذا صحت النية وصدقت العزيمة وصحب ذلك كله توفيق من الله فإن الله يعين العبد، ومن وراء ذلك خير كثير لمن احتسبه.
المقصود: أن المصنف بيّن لنا حقيقة البيع، وقد ذكرنا أن هناك تعاريف مختلفة، ومن أنسبها قول الإمام ابن قدامة رحمه الله وكذلك غيره من الأئمة، قالوا في تعريف البيع: (البيع مبادلة المال بالمال تملكاً وتمليكاً).
وقلنا: إن هذا التعريف يعتبر من أخصر التعاريف ومن أجمعها.
والمصنف رحمه الله عرّف البيع ولم يخرج في تعريفه عن هذا التعريف، ولكنه أدخل بعض الأنواع للبيع ونبّه عليها، وهي مما اختلف العلماء في اعتبارها بيعاً.
فقال رحمه الله: [وهو مبادلة مال ولو في الذمة].
(مبادلة مال) قلنا: المال هو الشيء الذي له قيمة، فكل شيء له قيمة فإنه مال، وبعض العلماء يقول: المال كل شيء فيه منفعة.
وقوله: (مبادلة مال ولو في الذمة) (لو) إشارة إلى خلاف مذهبي، فبعض العلماء لا ينبه على هذا، ويقول: مبادلة المال بالمال، فشملت مبادلة المال بالمال تسع صور: مبادلة العين بالعين، أو مبادلة الذمة بالذمة، أو مبادلة العين بالذمة.
وكل واحد من هذه الثلاث: إما ناجزاً من الطرفين، أو نسيئة منهما، أو ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
وسنشرح هذه الصور بإذن الله
‌‌صور البيع
فعندنا في البيع شيئان: إما أن تبيع الشيء وتعيّنه فتقول: بعتك هذا الكتاب، وسنمثل بأمثلة معاصرة حتى يكون الضبط أكثر؛ لأن البعض من طلاب العلم إذا مثّل لهم بالدنانير والدراهم والدواب والجمال والعبيد ونحوها لا يركز إذا أراد أن يطبق ذلك على ما يعيشه ويجده، فالأفضل أن نختار أمثلة معاصرة، مثلاً: لو أردت أن تبيع الكتاب -عندك كتاب ليكن صحيح البخاري، وهذه النسخة من صحيح البخاري إما أن تكون موجودة أمامك فتقول للمشتري- فأنت على حالتين: إما أن تقول له: أبيعك هذه النسخة من صحيح البخاري بمائة، فقولك: (أبيعك هذه النسخة)، معنى ذلك أنك عينت، فهذا يسمونه بيع العين؛ لأنك بعت وورد البيع على محل معيّن لا ينصرف إلى غيره، لكنك لو قلت له -وهذه هي الحالة الثانية-: أبيعك نسخة من صحيح البخاري من طبع كذا في تاريخ كذا، أو من نوع كذا من الطباعة، فهذا القول الذي قلته يصدق على هذه النسخة وعلى كل نسخة تشاركها في الصفة، فيعتبر بيع ذمة؛ لأنك التزمت في ذمتك أن تدفع نسخة من هذا الكتاب موصوفة بهذا الوصف.
إذاً: عندنا حالتان: إما أن تعين البيع ويرد البيع على العين فيكون بيع عين.
وإما أن يرد البيع على موصوف في الذمة، فكأن ذمتك وأمانتك وعهدتك شغلت بشيء تلتزم بأدائه، فصار في ذمتك وأمانة عليك، وهذا معنى قولهم: (في الذمة) فإذا بعت شيئاً في ذمتك وصفته.
لكن لماذا نحن نفصل هذه التفصيلات؟ من فوائد هذه التفصيلات، وهذا مما تمتاز به الشريعة الإسلامية في باب المعاملات: أنها تريد أن تعطي كل ذي حق حقه.
فمثلاً: لو جئت وقلت له: أشتري منك هذا الدواء بمائة، ثم أخذت الدواء فوجدت فيه عيباً وقلت له: رد لي المائة، فهذا من حقك؛ لأنك اشتريت هذا الشيء المعين وظهر به عيب، فمن حقك أن ترده وأن تطالب بالثمن، فلو قال: أعطيك بدلاً عنه، ولا أردّ لك القيمة، فيلزمه شرعاً إعطاء القيمة؛ لأن البيع ورد على معين بطل ببطلان العقد عليه، فهذا بيع العين.
لكن حينما تقول له: أعطني الدواء الفلاني، فأعطاك الدواء بصفته التي طلبتها، فلو وجدت به عيباً -انتهت مدة صلاحيته مثلاً- فجئت وقلت له: هذا لا أريده، أريد المال، من حقه أن يلزمك بالبدل؛ لأنك اشتريت موصوفاً في الذمة، وإذا لم يصدق الوصف على هذه فمن حقه أن يلزمك بما يصدق عليه من بدل.
فالشريعة تقدر في البيع والمعاملات كل كلمة تخرج من المتعاقدين، ولا تريد أن الكلام والعقد الذي يتم بينك وبينه يذهب هدراً، وهذا التدقيق من العلماء من باب العدل بين الناس، وإعطاء كل ذي حق حقه، فأنت إذا قلت: (أشتري هذا)، فالبيع على هذا، ولا يقع البيع على غيره، وليس من حقه أن يلزمك بغيره، وإن قلت (أشتري كذا)، فإنه يصدق على كل ما وافق وصفك الذي طلبته في المبيع.
إذاً: عندنا عين وعندنا ذمة، وبيع الأعيان إذا قلت له: أبيعك هذا الكتاب، فأنت إما أن تقول له: أبيعك هذا الكتاب بمائة حاضرة الآن، تعطيني وأعطيك، فيسمى بيع النجاز، نجز ونجزت، وهو ما يسمى في عرفنا ببيع النقد.
وإما أن تقول له: أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهذا نسيئة بنسيئة.
وإما أن تقول له: أعطيك الكتاب الآن، ويقول: ليس عندي فلوس، أعطيك غداً، أو بعد شهر، أو بعد أسبوع، فهذا نسيئة من طرف ناجز من الآخر.
إذاً: أصبح عندنا ثلاثة أشياء: عين بعين، وذمة بذمة، وعين بذمة.
وقد قلنا: إن البيع إما بيع ثمن بثمن، أو مثمن بمثمن، أو ثمن بمثمن، فنريد هنا مثالاً على بيع العين بالعين في الثمن بالثمن، والمثمن بالمثمن، والثمن بالمثمن.
نبدأ ببيع العين بالعين في الثمن بالثمن، مثل: صرف ريالات بدولارات، قال له: أصرف لك عشرة دولارات بمائتي ريال، قال: قبلت.
إذا قال له ذلك صار عيناً بعين في ثمن بثمن؛ لأن الدولارات ثمن والريالات ثمن، أو قال: أبيعك هذه المائة جنيه بهذه العشرة آلاف ريال، فهذا بيع عين بعين في الثمن بالثمن.
أما بيع العين بالعين في المثمن بالمثمن فمثاله أن يقول: أبيعك هذا الكتاب بهذا الكتاب أبيعك هذه (الفيلة) بهذه (الفيلة) فصار بيع عين بعين في مثمن بمثمن، أو هذه السيارة بهذه السيارة، فهذا أيضاً بيع مثمن بمثمن، وهو ما يعرف ببيع المقايضة.
أما بيع العين بالعين في الثمن بالمثمن فمثاله أن يقول: أبيعك هذا الكتاب بهذه العشرة، فالمثمن الكتاب والعشرة هي الثمن.
فهذا يسميه العلماء في جميع الصور الثلاث: بيع عين بعين.
وإذا حددت وعينت، إما أن تقول: أعطيك الآن وتعطيني الآن، فهذا يسمونه ناجزاً من الطرفين، فالبائع نجز والمشتري نجز، وصار التقابض بينهما في نفس مجلس العقد، إذاً: هو ناجز وبيع نقدي كما يسمى في عرفنا اليوم.
الصورة الثانية: أن يكون نسيئة من الطرفين، باعه عيناً بعين، لكن قال له: أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهو نسيئة من الطرفين، من البائع ومن المشتري، وهي عكس الصورة الأولى.
الصورة الثالثة: أن يكون ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، كأن أقول لك: هذا الكتاب بهذه العشرة، لكن تقول لي: لا أعطيك الكتاب الآن، وإنما أعطيك إياه غداً، أقول: خذ العشرة الآن وأنا آتي غداً وآخذ الكتاب، فهذا ناجز من أحدهما نسيئة من الآخر.
لاحظوا يا إخوان! نحن لا نتكلم الآن على الحلال والحرام في صور البيع، إنما هذه المرحلة تسمى مرحلة التصور، وهي أن تأتي بجميع البيوع الموجودة على وجه الأرض ويضعها الفقيه بين يديك، ثم بعد ذلك يقال: هذا حلال، وهذا حرام، نحن الآن فقط نريد أن نعرف ما الذي نتكلم عنه وهو البيع، وما هي صوره، حتى تستطيع بعد ذلك أن تحكم على كل صورة على حدة.
ننتقل بعد ذلك إلى بيع الذمة بالذمة، وقد قلنا: الذمة هي وصف في الإنسان، كما يقول العلماء، يقبل الإلزام والالتزام، أي: تلتزم به في ذمتك، تقول: لك عليَّ عشرة، لك عليَّ مائة، لك عليَّ كتاب مثلاً: (نسخة من صحيح البخاري)، لك عليَّ نسخة من شرح العمدة وهكذا، ومعناه أنك التزمت في ذمتك، وهذا يسمى عند العلماء الذمة، وغالباً ما يقع في بيوع الآجال.
وفي بيع الذمة بالذمة، نحتاج أول شيء إلى ضرب الأمثلة على بيع الثمن بالثمن، وبيع المثمن بالمثمن، وبيع الثمن بالمثمن.
فأنت الآن قررت أن يكون البيع ذمة بذمة، ومعناه أنك لا تعين، فتأتي إلى بائع الكتب، ويقول لك: أبيعك نسخة من صحيح البخاري، من طبع -مثلاً- بيروت، بمائة ريال، فيها عشرة أجزاء خمسة أجزاء أربعة أجزاء، فلاحظ هل المائة معينة أم موصوفة؟ هذه مائة موصوفة؛ لأن أي مائة تدفعها يصدق عليها أنها محل للعقد، فممكن أن تأتي بالمائة برأسها، وممكن أن تأتي بالمائة، في صورة ورقتين من فئة الخمسين وممكن أن تأتي بالمائة من فئة العشرات أو الخمسات أو الريالات، ومن حقك أن تلزمه بالبيع، فلو جئت بالمائة وهي قطع معدنية وقال: لا أريد، يلزمه البيع شرعاً؛ لأن البيع على موصوف في الذمة، ويصدق على هذه القطع المعدنية أنها مائة، هذا فرق المسألة، أي: حينما يقول لك: أبيعك بهذه المائة، لو أراد أن يبدلها بمائة أخرى لا يجوز، وليس من حقه إلا أن ترضى، ويعتبر إنشاءً جديداً للعقد، لكن إذا قال لك: بمائة، يكون قد صدق الوصف على أي مائة: ريالات حديد (نيكل) أو أن تكون جامعة بين النيكل والريالات، وليس بوارد على شيء معين، ولذلك قالوا: ذمة، التزم في ذمته بمائة.
والتزمت أنت له في ذمتك بمائة، فإذا قال لك: أبيعك نسخة من صحيح البخاري، وعنده مائة نسخة، فأي نسخة منها مما ينطبق عليها الشرط ممكن أن تكون محلاً للعقد، فلو أخذت هذه النسخة وبعد أن ذهبت إلى بيتك وجدت فيها صفحة مطموسة، فجئت إليه وقلت: لا أريد هذه النسخة، قال: أعطيك بدلاً عنها، فقلت له: ما دام بعتني شيئاً بهذه الصفة فلا أريد، من حقه أن يلزمك بالبدل؛ لأن البيع وقع على موصوف في الذمة، ولم يقع على معين يفوت بفواته.
إذاً: بيع الذمة بالذمة يقع في العين بالعين، ويقع: ناجزاً من الطرفين، ونسيئة من الطرفين، ويقع ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
وأيضاً: بيع الذمة بالذمة يقع في الثمن بالثمن، والمثمن بالمثمن، والثمن بالمثمن: ففي المثمن بالمثمن، كتاب بكتاب، تقول: أبيعك أو أعطيك نسخة من صحيح البخاري بنسخة من صحيح مسلم، التي عندي -مثلاً- من طبع كذا، والتي عندك من طبع كذا، فهذا بيع موصوف في الذمة بموصوف في الذمة في المثمن بالمثمن.
وبيع الموصوف بالذمة في الثمن بالثمن، كقولك: أبيعك عشرة دولارات بمائة ريال، فهو صادق على كل عشرة دولارات وعلى كل مائة ريال.
وقد يقع في الثمن بالمثمن، كقولك: أبيعك نسخة من صحيح البخاري بعشرة ريالات، فأصبح بيع ثمن بمثمن موصف في الذمة.
فإذاً: عندنا ثلاث حالات في الذمة بالذمة: إما ثمناً بثمن كدولارات بريالات دون تحديد لها أو تعيين.
أو مثمن بمثمن ككتاب بكتاب موصوفين في الذمة.
أو ثمن بمثمن ككتاب بريالات، دون أن يحددا ويعينا المبيع في كل هذه الصور.
بقي عندنا في بيع الذمة بالذمة: إما أن يكون ناجزاً من الطرفين.
أو نسيئة من الطرفين.
أو ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
- فأما أن يكون ناجزاً من الطرفين، كأن تقول له: أبيعك نسخة من صحيح البخاري بنسخة من صحيح مسلم ناجزاً منا، تعطيني الآن وأعطيك الآن، فتعطيه في المجلس ويعطيك في المجلس، فهذا يسمى: ذمة بذمة ناجزاً من الطرفين.
- وأما ذمة بذمة نسيئة من الطرفين، كأن يقول لك: أعطيك الكتاب غداً وتعطيني الكتاب أيضاً غداً، فهذا يسمى: بيع الذمة بالذمة نسيئة من الطرفين، هو أخّر وأنت أخّرت، فهذا معنى قولهم: نسيئة.
وأما ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، كأن تقول: خذ هذه النسخة الآن، فيقول: ليست عندي نسختي سأعطيك غداً، فهذا يعتبر ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
إذاً: الآن فرغنا من ست صور: عين بعين، ذمة بذمة، وفي كلتا الحالتين: ناجزاً منهما، نسيئة منهما، ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
بقي عندنا ثلاث صور: وهي بيع الذمة بالعين، فتبيع شيئاً معيناً بموصوف في الذمة، كقولك: أبيعك هذا الكتاب بمائة، فقولك: (أبيعك هذا الكتاب) عين، وقولك: (بمائة) موصوف في الذمة، ففي هذه الحالة إما أن يكون بيع الذمة بالعين في ثمن بثمن، أو مثمن بمثمن، أو ثمن ب
‌‌حكم بيع المنافع
قال رحمه الله: [أو منفعة مباحة].
النفع ضد الضر، والشيء الذي فيه منفعة المراد أن يكون فيه شيء يرتفق به الإنسان، مثلاً: السيارة منفعتها الركوب وحمل المتاع عليها، كما قال تعالى عن الدواب: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7] فهذه منافع: الركوب منفعة السكنى منفعة الحمل منفعة إلخ.
والمنفعة المباحة مثّل لها بعض العلماء: أن يقول له: أبيعك طريقاً في أرضي، أي: تشتري فقط المشي في هذا الموضع من أرضي، كما كان يقع في القديم عندما تبنى الأحوشة للبيوت، فيحتاج الجيران إلى منفذ، فيفتح لهم منفذاً ويكون مثلاً من تحت الدار، أو يبني داره ويترك منفذاً وطريقاً.
هذا الطريق اختلف العلماء فيه: فبعض العلماء يقول: لا يصح بيع المنافذ على هذا الوجه؛ لأنه ليس بمالك للأرض وإنما هو مالك لمنفعتها، فتكون الأرض عند شخص ومنفعة الأرض عند شخص آخر، وهذا لا يمكن، أي: أن هذه الأرض لا أستطيع أن أبنيها ولا أستطيع أن أنتفع بها من كل وجه، ولذلك بعض العلماء يمنع من مثل هذا البيع، ويعتبره من العقود غير الجائزة؛ لوجود الغرر فيه والغبن؛ لأنك قد تشتريه لمنفعة، وصحيح أن المنفعة موجودة، لكن لو أن الإنسان تأمل هذا البيع بضوابطه الشرعية، كأن يكون من اشترى الشيء من حقه أن يفعل فيه ما شاء كما لو شاء أن يهدمه، أو يحفر فيه، أو أن يحدث فيه مصلحة غير المصلحة التي اشتراها عليه، فإذا اشتريت أرضاً فالأصل أن من حقك أن تحرثها وتزرعها، ومن حقك أن تبنيها، ومن حقك أن تتركها مواتاً؛ لأنك ملكتها وملكت رقبتها، لكن لو اشتريتها على وجه منفعة المشي فقط، فلست بمالك لها من كل وجه ولست بخلوٍ من كل وجه، والمالك الحقيقي ليس بمالك من كل وجه وليس بخلوٍ من كل وجه، ولذلك يحدث فيها شيء من التعارض والتضاد على وجه يصعب معه التمييز، مع أن المشتري سيستفيد بالمرور في هذه الأرض، ولذلك يمنع بعض العلماء من مثل هذا البيع؛ لوجود الشبهة فيه، لكن المصنف قصد بيع المنافع على هذا الوجه.
فقوله: (منفعة مباحة) يخرج بها المنافع المحرمة، فلو -مثلاً- اشترى آلة محرمة كآلة لهوٍ محرم فإنه لا يصح البيع ولا ينعقد؛ لأنه يشترط في المنافع أن تكون مباحة، فكأن المنفعة التي حرّمها الشرع سلبها الشرع القيمة، فلما أصبحت محرمة صار وجودها وعدمها على حد سواء، فإذا دُفع الثمن لقاءها كأنه يدفع لشيء لا قيمة له، ومن هنا كان من أكل أموال الناس بالباطل، وكان من البيع الممتنع شرعاً.
والمنفعة المباحة تخرج غير الحاجة، ولذلك بعض العلماء يضيف قيداً، وهو قوله: (لغير الحاجة)؛ لأنها قد تكون مباحة لحاجة، ومع ذلك لا يجوز بيعها؛ لأن ما أبيح لحاجة يتقيد بها، فالكلب -أكرمكم الله- أبيح للصيد والحرث والماشية، فتصيد به وتجعله لحراسة الحرث ولحراسة الماشية، فإذا جاء شخص يبيع كلباً معلماً للصيد أو معلماً لحراسة الزراعة أو الماشية فإنه لا يصح البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه المنفعة مباحة للحاجة، فكأنه إذا باع الكلب انتفع منفعة زائدة على المنافع المأذون بها شرعاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من اتخذ كلباً إلا كلب صيد أو حرثٍ أو ماشية) فرخص في ثلاثة أشياء، فمن ملك الكلب لغير هذه الثلاثة الأشياء فإنه يأثم، فكأننا لو قلنا: يبيعه في هذه الأحوال كونه كلب صيد أو حرث أو ماشية، لأصبح هناك منفعة رابعة وهي اتخاذه للبيع والشراء، فيستفيد البائع له منفعة رابعة وهي منفعة الثمن، فصار محلاً للعقد، فتصبح منفعة زائدة على الرخصة، ولذلك لا يصح بيعه، وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر وجابر بن عبد الله وابن مسعود رضي الله عنهم وأرضاهم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، وقال: ثمن الكلب سحت)، وقال كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود: (إن جاءك يريد ماله -أي: ثمن الكلب- فاملأ كفه تراباً) أي: ليس له شيء، فهذا يدل على أن المنفعة يشترط أن تكون لغير حاجة، فمنفعة الصيد مباحة، ومنفعة الحرث مباحة، ومنفعة حراسة الماشية مباحة، لكنها أبيحت لحاجة، فلا يجوز أن تبيعه لهذه المنفعة الزائدة عن الإذن الشرعي.
قال رحمه الله: [كممر في دار].
كما ذكرنا.
قال: [بمثل أحدهما على التأبيد].
(بمثل) هذا لقوله (مبادلة مال)، أي: تبادل المال، والباء هنا للبدلية والعوض، أي: عوضاً عن مثل.
والمثل المراد هنا من جهة المالية، أي: مبادلة مال بمال، ولذلك بعض العلماء يقول: البيع مبادلة مال بمال، ويختصر هذه العبارات كلها.
فقوله: (بمثل) المراد بذلك أن يكون مالاً، لنفس الشروط وهي: أن يكون فيما أذن به شرعاً، وألا تكون منفعته مباحة للضرورة والحاجة
‌‌التأبيد في البيع
قال رحمه الله: [على التأبيد غير رباً وقرض].
قوله: (على التأبيد)؛ لأن البيع ليس على التعقيب، فخرجت الإجارة؛ لأنها على التعقيب، فمثلاً: إذا جاءك رجل وقال: أجرني بيتك، فإنه يقول: شهراً أو سنة، ولا أحد يقول: أجرني بيتك مدى العمر؛ لأننا لا ندري كم العمر، ولا ندري كم المدة، بل منع بعض العلماء من إجارة البيوت -وسيأتي هذا إن شاء الله في باب الإجارة- والمساكن المدد الطويلة، التي لا يؤمن معها بقاء العين، ولا يؤمن معها تغير العين وتغير منافع العين؛ لأن هذا من الغرر، وقد (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر -وفي رواية-: نهى عن الغرر) كما في الصحيح، فهذا من الغرر، فإذا أراد أن يبيع فإن البيع إلى الأبد، وبناءً على هذا: لو قال له: أبيعك هذه الدار عشر سنين، أو أبيعك هذه السيارة خمس سنوات، أو أبيعك هذه التجارة سنة؛ لم يصح، وليس هذا ببيع، ولا بجارٍ على عقود المسلمين في البيع؛ لأن البيع يكون إلى الأبد ولا يكون مؤقتاً.
وعلى هذا: فإنه لابد في البيع أن يكون على التأبيد، فلو قال قائل: نريد أن نحدث نوعاً من البيع، وهو أن نقول له: بعتك سيارتي أو بعتك داري عشر سنوات أو خمس سنوات، وحدد المدة، تقول: هذا ليس ببيع شرعي؛ لأن حقيقة البيع مبادلة المال بالمال على التأبيد وليس على التعقيب، وهذا ليس من البيع الشرعي، فلا يعتبر ولا يحكم بصحته
‌‌الفرق بين البيع والربا والقرض
قال رحمه الله: [غير رباً وقرض].
فقوله: (غير رباً)، الربا أصله الزيادة، وهو في الشرع: زيادة مخصوصة في أشياء مخصوصة على صفة مخصوصة، ويشمل هذا زيادة ربا الفضل وزيادة النسيئة بالأجل، وسيأتي إن شاء الله بيانه وذكر ضوابطه.
فلو سكت المصنف وقال: مبادلة مال لشمل الربا؛ لأن الربا يكون مبادلة، فلو قال له: اصرف لي هذه العشرة ريالات بتسعة، فهو رباً؛ لأنه زاد، ولذلك نقول: هذا في الأصل مبادلة فيدخل في البيع، بادله التسعة بالعشرة، وأكل المال بالباطل وهو الريال الزائد، ولذلك لن تجد أحداً يصرف العشرة بتسعة إلا وهو مضطر، والله يقول: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] والله لولا أنه محتاج لهذه التسعة لأجل ظرف نزل به ما صرف العشرة بالتسعة، وليس هناك عاقل حكيم يبذل العشرة مقابل التسعة؛ لأن هذا لا يمكن أن يكون، فهو زيادة، وهذه الزيادة تؤخذ على غير وجهها، فلو لم تحرم من جهة الربا لحرمت من باب أكل المال بالباطل؛ لأن الإنسان ليس فيه شرط الرضا، وقد قال الله عز وجل: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فهو يعطي العشرة بشيء من الاضطرار والحاجة، فتجده يعطي وهو كاره، وإذا أعطى لا يرضى، ولو أنه ترك على رضاه واختياره ما بادل.
فالربا من حيث هو مبادلة المال بالمال، فيدخل في مسمى البيع من هذا الوجه، فلما دخل في مسمى البيع احتاج المصنف أن يخرجه فاستثناه بقوله: (غير رباً)، والحنفية استثنوه بالتراضي، فإن الربا غالباً لا يقع فيه التراضي؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فوصف بيع الحلال بأنه عن تراضٍ، ولذلك تجد الإنسان يعطي السلعة ويأخذ الثمن، ويعطي الثمن ويأخذ السلعة بالرضا، وغالباً ما يقع الربا في بيوع الصرف، ولذلك احترز المصنف رحمه الله بقوله: (غير رباً).
وقوله: (وقرض) والقرض مبادلة، لكنها مبادلة على سبيل الرفق، وليس على وجه البيع؛ لأنه أخذه لا على سبيل المبادلة التي يراد بها البيع، وإنما المراد أن يرتفق بالمال لحاجته وما نزل به
‌‌الإيجاب والقبول في البيع
قال رحمه الله: [وينعقد بإيجاب وقبول بعده وقبله متراخياً عنه في مجلسه].
قوله: (وينعقد بإيجاب).
فبعد أن عرفنا حقيقة البيع، نحتاج الآن أن نعرف كيف يتم عقد البيع في الشرع، أي: ما هي الضوابط التي يحكم عن طريقها بوجود عقد البيع؟ وهذا يستلزم -كما سبقت الإشارة إليه في المجلس الماضي- وجود الصيغة، فإن عقود المعاملات تقوم على الصيغ، وهذه الصيغ هي الإيجاب والقبول، فإن كان الإيجاب وارداً على بيع والقبول وارداً عليه يقال: (عقد بيع)، وإن كان على إجارة فإجارة، وإن كان على نكاح فنكاح إلخ، والإيجاب هو أن يقول -مثلاً-: بعتك، أجرتك، زوجتك، والقبول: هو أن يقول الآخر: قبلت النكاح، قبلت البيع، قبلت الإجارة إلخ، والإيجاب غالباً ما يكون من الباذل وهو البائع، والقبول يكون من المشتري، فقول: (بعتك سيارتي بعشرة) هذا إيجاب من البائع، وقول: (قبلتها، اشتريتها)، هذا قبول من المشتري، أو قول: (رضيت، بارك الله لك) ونحو ذلك من الصيغ التي يعبر بها عن قبول البيع، والإيجاب والقبول يكون على الصيغة، وهي التي عبّر المصنف عنها بقوله: (وينعقد بإيجاب وقبول)، فالعقد عند العلماء يشتمل على الإيجاب والقبول، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فكأن الله سبحانه وتعالى ينبه عباده أن هذا الكلام الذي جرى في مجلس العقد من قوله: (بعتك، زوجتك، أجرتك)، هذه كلها كلمات رضيها المسلمون، وتواطئوا واتفقوا عليها، فينبغي أن تكون عند المسلم ذمة وأن يكون عنده عهد ويفي بهذه الصيغ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يا أهل الإيمان! يا من آمنتم بي وصدقتم برسلي وكتبي! (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، فهو هنا عظم الصيغة وأعطى لها منزلة في الإسلام، فهذا الكلام ليس هدراً، يقول شخص لآخر: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قال: قبلت، فلما افترقا عن المجلس قال: ما بعتك.
فهذا لا ينفع أبداً، فالمسلم له ذمة وله عهد ومنه الوفاء، ولذلك يلزم بالصيغة التي جرت بينه وبين الطرف الآخر، وإذا قضى القاضي أو أفتى المفتي فأول ما يلتفت إليه في البيع الصيغة، وإذا أراد الإنسان أن يفصل بين متخاصمين في معاملة فليبدأ أول ما يبدأ بالعقد، وليبدأ أول ما يبدأ بالاتفاق الذي جرى بينهما، ويأخذ الاتفاق من أول حرف فيه إلى آخره، ثم بعد ذلك يلزم كلا الطرفين بما التزم به، لا يظِلم ولا يُظلم، ولا يحمل كلامه فوق ما يحتمل، قال له -مثلاً-: بعتك سيارتي، فيقول: أنا قصدت السيارة وما عليها، فهذا لا ينفع؛ لأنه قال: بعتك سيارتي، ولم يقل: سيارتي وما عليها، فهذه الصيغ هذه والألفاظ محترمة، ومن هنا أمر بكتابة البيع إذا كان إلى أجل حفظاً وضماناً لمثل هذا؛ لأنه إذا كانت تجارة حاضرة فأمرها أهون والخصومة فيها أضعف؛ لكنها إذا كانت إلى أجل فيدخلها شيء من النسيان، وشيء من الزيادة والنقص، فالشريعة تريد معرفة ما الذي جرى بينك وبين الطرف الآخر، وما الذي قلته وما الذي قاله، وما الذي تم عليه العقد، فإن قال البائع: بعتك داري، ينصب البيع على داره، وإن قال: بعتك أرضي، ينصب على الأرض إلخ.
قوله: (ينعقد بإيجاب وقبول) فإذا قال البائع: بعتك سيارتي بعشرة آلاف فهذا إيجاب، وإذا قال المشتري: قبلت حينئذٍ يتم البيع بهذه الصيغة، وهي صيغة الإيجاب والقبول.
وعقد البيع إما أن يتم بالقول وإما أن يتم بالفعل، فإذا تم بالأقوال فهذه الصيغة -وهي: الإيجاب والقبول- تنقسم إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: أن تكون بصيغة الماضي.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #272  
قديم 21-01-2023, 09:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (267)

صـــــ(1) إلى صــ(15)






النوع الثاني: أن تكون بصيغة الأمر.
النوع الثالث: أن تكون بصيغة المضارع.

أولاً: صيغة الماضي: قال له: بعتك سيارتي هذه بعشرة آلاف، يقول المشتري: اشتريتها، فقول (بعت)، و (اشتريت) كل منهما للماضي، والصيغة بالإجماع على أنها إذا وقعت بلفظ الماضي أنها أقوى أنواع الصيغ، (كبعت اشتريت رضيت) فهذه كلها ألفاظ معتبرة.
ثانياً: صيغة الأمر، كقولك: بعني سيارتك بعشرة آلاف، فيقول البائع: خذها بعشرة آلاف، فـ (بعني) صيغة أمر.
ثالثاً: صيغة المضارع، كقولك: أتبيعني سيارتك بعشرة آلاف؟ أو أبيع سيارتي بعشرة آلاف يقول البائع -مثلاً-: أبيعك سيارتي بعشرة آلاف، فقوله: (أبيعك) هذا تعبير للمستقبل، فيقول: أشتريها بعشرة آلاف، فقوله: (أشتريها) هذا تعبير للمستقبل.
ففي الحالتين الأخيرتين: الأمر والمضارع، جماهير العلماء على أن الصيغة معتبرة، لكن يختلفون في مسألة هل يلزم إعادة الإيجاب مرة ثانية وإعادة القبول؟ ولكن العبرة بما دل عليه بساط المجلس وتعارف عليه الناس.
والصيغ تنقسم إلى: صريحة، وظنية، فالصريحة: أن يصرح بالبيع، فيقول: بعتك، فتقول: اشتريت، فلما تتأمل كلمة (بعت) و (اشتريت) تجد أن لفظة (بعت) صريحة بالبيع ولفظة (اشتريت) صريحة بالشراء، وهناك ألفاظ غير صريحة، لكنها تدل بالعرف على أنه قد رضي البيع أو الشراء، قال له مثلاً: ملكتك سيارتي بعشرة آلاف، فقال: رضيت، ولم يقل: اشتريت، فهذا ضمناً كأنه قال: اشتريت، وفي بعض الأحيان، يقول له: خذ سيارتي بعشرة آلاف، قال: بارك الله لك، فـ (بارك الله لك) تدل على أنه رضي، والغالب عندنا في العرف أن هذا القول يدل على أنه رضي الكلام الذي قد قاله له.
إذاً: إن كان اللفظ صريحاً أو بالنية فإنه يدل على انعقاد البيع، ونرجع إلى كل عرف بحسبه، فلا يتقيد الأمر بـ (بعت) و (اشتريت) وإنما يشمل كل لفظ دال على الرضا من الطرفين؛ لأن الله اشترط الرضا، والرضا أمر في القلب يدل عليه الظاهر، إما قولاً وإما فعلاً.
ننتقل بعد ذلك إلى صيغة الفعل، أو دلالة الفعل على البيع، ودلالة الفعل مشكلة، أي: أن يقع فعل من البائع وفعل من المشتري يدلان على أنهما تراضيا على البيع، مثال ذلك: ما يجري الآن حينما تدخل بقالة وتجد فيها نوعاً من الطعام قد كتب عليه عشرة ريالات مثلاً، أو كتب عليه مائة ريال، فتأخذ هذا النوع وتأتي عند المحاسب أو صاحب البقالة أو العامل الذي هو وكيل عن مالك البقالة وتدفع نفس القيمة المكتوبة على السلعة، فيأخذ القيمة ولا تتكلم ولا يتكلم، فهذا بيع بالفعل، فما قال: (بعت) ولا قلت: (اشتريت)؛ لكنكما تفاهمتما عن طريق الفعل، وهذا البيع لا يمكن أن يمر يوم دون أن تفعله، خاصة في الخبز، والأشياء الحقيرة أي: التي قيمتها يسيرة سماها العلماء (المحقرات) -وستأتينا إن شاء الله- والمحقرات: هي الأشياء التي قيمتها زهيدة.
فتأتي إلى الخبز وأنت تعلم أن الرغيف مثلاً بنصف ريال فتعطيه نصف ريال وتأخذ الخبز، فلم يقل: بعت ولم تقل: اشتريت، وليست هناك صيغة أبداً، إنما جرى العرف على أنك إذا وضعت نفس هذا المبلغ، وسحبت نفس الرغيف أنك راضٍ بهذا البيع.
إذاً: الرضا بالبيع: إما أن يكون باللفظ: (بعت) و (اشتريت) أو يكون بالفعل، وهذا النوع من البيوع هو الذي يسمى ببيع المعاطاة، وسنتكلم عليه إن شاء الله ونذكر خلاف أهل العلم رحمهم الله فيه.
أما إذا وقعت الصيغة باللفظ فلا إشكال، ولكن من حقك في الصيغة أن تتدخل وتلغيها، ومن حقه هو أن يتدخل ويلغيها، بشرط ألا تفترقا عن المجلس، فمثلاً: لو قال لك: بعتك سيارتي بعشرة آلاف ريال، فقلت له: قبلت، وأعطاك العشرة آلاف، وأعطيته مفاتيح السيارة، وجلستما خمس ساعات متواصلة، ثم في آخرها قال: لا أريد، فمن حقه أن يرجع في البيع، فالصيغة وحدها لا تلزم ما لم يكن بعدها الافتراق، وهذا ما سنتكلم عليه في خيار المجلس إن شاء الله تعالى.
إذاً: انعقاد البيع يكون بالصيغة: الإيجاب والقبول، ولكن يتوقف لزوم العقد ولزوم الصيغة على الافتراق من المجلس، فلا يعتبر هذا اللفظ ملزماً إلا إذا افترقا من المجلس أو خيّر أحدهما الآخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، فجعل الخيار لهما ما لم يقع الافتراق
‌‌الفاصل بين الإيجاب والقبول وحكمه
قال: [وينعقد بإيجاب وقبول بعده] (بإيجاب) هذا أول شيء، (وقبول بعده)، أي: بعد الإيجاب، فقوله: (بعده) أي: ألا يكون هناك فاصل بين الإيجاب والقبول، مثال ذلك: أن يقول له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قال: قبلت، فلما قال: قبلت وقع القبول بعد الإيجاب مباشرة، فالبيع صحيح وتام؛ لكن لو فصل فاصل، نقول: الفاصل ينقسم إلى قسمين: الفاصل المتضمن للعقد.
والفاصل الخارج عن العقد، ويسمى: بالفاصل المؤثر.
أما الفاصل الذي هو داخل العقد كأن يقول له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، ثم قام إلى السيارة فقلبها ونظر فيها وفحصها ثم قال: قبلت، فإننا نعلم أن هذا الفاصل من الأفعال؛ لأن الفاصل يكون بالأقوال ويكون بالأفعال، فهذا الفاصل الفعلي ولو أنه طال لكنه يعتبر داخلاً ضمن مجلس العقد، وكأنه من متممات العقد، أي: كأنه انبنى عليه تمام العقد، فهذا لا يؤثر، ولا يحتاج أن يعود مرة ثانية ويقول: بعتك؛ لأنه فصل بفاصل مركب على قوله: بعتك، وكذلك أيضاً الفاصل الزمني، قال له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، فجلس يتفحص ثم قال: عشرة آلاف، عندي كذا وعندي كذا، فجلس يحسب نفقته ويحسب ما الذي يترتب على قبوله البيع، ثم قال: قبلت، فهنا صح البيع، وهذا الفاصل يعتبر مما يعين على تحقيق البيع وتمامه.
أما الفاصل المؤثر أن يأتي بقول أو فعل أجنبي، مثلاً: قال له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قال: كيف حال فلان؟ فهذا الكلام خارج عن عقد البيع، وكلام أجنبي، ثم قال: هل خرج من المستشفى أم لا؟ قال: لم يخرج، قال: لعل الله أن يشفيه، فدخلوا في كلام خارج عن مسألة البيع، ثم قال له: قبلت، فهذا لا يصح، ولا يتركب القبول على الإيجاب الماضي؛ لأن دخول الفاصل الأجنبي كأنه يقول: لا أريد البيع، فهو بمثابة الإعراض عن البيع، ولذلك يحتاجان إلى أن يعيدا مرة ثانية ويقول: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، حتى يقع القبول بدون وجود هذا الفاصل الأجنبي المؤثر في اعتبار الإيجاب وما يتركب عليه من قبول.
قال رحمه الله: [وقبله متراخياً عنه في مجلسه].
(وقبله) أي: أن يقع القبول قبل الإيجاب، فيصح أن يقع القبول بعد الإيجاب وقبل الإيجاب، سواء سبق البائع أو سبق المشتري؛ لأن هذا كله يدل على الرضا، إلا أن الشافعية رحمهم الله يشددون ويشترطون سبق الإيجاب للقبول، ولذلك إذا قال له: أشتري منك سيارتك بعشرة آلاف ريال، فقال: بعتكها بعشرة آلاف ريال، فلابد أن يرجع المشتري مرة ثانية ويقول: قبلت، فيرون أنه لابد أن يتأخر القبول على الإيجاب، والجمهور من حيث الجملة لا يفرقون؛ لأن الله سبحانه وتعالى اعتبر الرضا، وهذا يدل على الرضا، سواء سبق أو تأخر، فكل منهما معتبر.
قال رحمه الله: [فإن اشتغلا بما يقطعه بطل].
(فإن اشتغلا بما يقطعه) أي: من القول أو الفعل، (بطل) أي: بطل الإيجاب، ولم يتركب القبول بعده على الإيجاب.
[وهي الصيغة القولية].
أي: هذا الذي قدمته لك وذكرته لك صيغة البيع القولية: (بعت) و (اشتريت)، كما ذكرنا، وبعد ذلك سينتقل إلى الصيغة الفعلية
‌‌بيع المعاطاة وحكمه
قال رحمه الله: [وبمعاطاة وهي الفعلية] أي: وينعقد -وهذا أصل التقدير فالواو للعطف- البيع بالمعاطاة، والمعاطاة مأخوذة من قولهم: أعطى الشيء يعطيه إعطاءً، فهذا النوع من البيع -كما قلنا- يقوم على الأفعال، كأن تأتي إلى البقالة وتعطي المال ثم تأخذ السلعة، دون أن يحصل بينكما إيجاب أو قبول، وهذا النوع من البيع اختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة وبعض أصحاب الشافعي كـ البغوي وغيره رحمهم الله إلى أن بيع المعاطاة يصح مطلقاً.
ما معنى قولهم: يصح مطلقاً؟ معناه: يصح في الأشياء الحقيرة والأشياء الغالية، فلو أنك جئت ورأيت بائع الخبز يبيع الرغيف بنصف ريال ووضعت النصف ريال وأخذت الرغيف، صح البيع عندهم، ولو أنك مررت على صاحب ذهب ورأيت عقد الذهب بعشرة آلاف ريال فجئت وسحبت العقد دون أن يقول لك: بعت، ودون أن تقول: اشتريت، ودفعت العشرة آلاف وأخذت العقد صح البيع، وهذا في الغالي والكثير، والأول في اليسير والحقير، والبيع عندهم صحيح، المهم عندهم أن يحصل شيء يدل على الرضا، ولا يقيدونه بالقول، فأي فعل يدل على الرضا فالبيع عندهم صحيح، وهذا مذهب الجمهور.
- وذهب الشافعية رحمهم الله إلى عدم صحة بيع المعاطاة مطلقاً، وأنك إذا اشتريت خبزاً بنصف ريال أو بربع ريال فلا يصح، حتى يقول لك: بعت، وتقول: اشتريت، أي: حتى يقع الإيجاب والقبول، فلا يصح هنا البيع بالأفعال، بل لا بد من القول.
- وذهب الحنفية في رواية، والإمام أحمد أيضاً في رواية، وهو قول عند الشافعية إلى التفريق، فقالوا: يصح بيع المعاطاة في اليسير والحقير، ولا يصح في الكثير والجليل أي: الشيء الذي له قيمة لا يصح بيع المعاطاة فيه، والشيء اليسير الذي قيمته يسيرة يصح البيع فيه، ففرقوا بين القليل والكثير.
أما الذين صححوا البيع وهم جمهور العلماء رحمهم الله فاحتجوا بدليل الكتاب والسنة والإجماع: أما دليلهم من الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] فالله عز وجل بيّن في هذه الآية صحة البيع دون أن يفرق بين بيع قائم على القول أو قائم على الفعل، فما فرق بين بيع وآخر.
ثانياً: قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الرضا أمر متعلق بالقلب يدل عليه الظاهر بالفعل كما يدل عليه بالقول، فأنت الآن حينما تأتي وترى على السلعة قيمة عشرة ريالات وتأتي وتدفعها له وتأخذ السلعة، ما معناه؟ معناه أنك راضٍ ببذل هذه العشرة مقابل هذه السلعة، كما أنك تقول له: بعت ويقول: اشتريت، فحينما دفعت المال لا فرق بينهما، هذا بالنسبة لدليل الكتاب.
أما دليل السنة: فحديث ابن حبان في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما البيع عن تراض) قالوا: إن الرضا -كما في دليل الكتاب- يدل عليه الفعل كما يدل عليه القول.
والدليل من الإجماع: هذا الإجماع نقله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وله بحث نفيس حبذا لو يرجع إليه في كتابه النفيس (القواعد النورانية) فقد تكلم على هذه المسألة كلاماً نفيساً، وقرر أن الشرع لا يقيدنا بالألفاظ وأن العبرة بالرضا، سواء كان بالقول أو بالفعل، ونقل كلاماً نفيساً عن السلف، وأنهم كانوا ينزلون دلالة الأفعال منزلة دلالة الأقوال، فيقول في معرض كلامه: ألا ترى الرجل يبني المسجد ثم يفتح أبواب المسجد، ولا يصيح للناس: أيها الناس! قد أوقفت هذا المسجد لله أو كذا، فنفهم أنه حينما فتح باب المسجد أنه يقصد وجه الله عز وجل، أو يريد وقفه للطاعة والصلاة فيه، فلا يحتاج الداخل ولا يحتاج المصلي إلى استئذان، كذلك لو مررت على سبيل ماء وتجد صاحبه -كما ذكر رحمه الله- يشرع للناس الماء، ويضع كئوس الماء، تفهم من هذا أنه سبيل ووقف يراد به الخير، فتشرب ولا تنتظر من صاحبه أن يقول: أذنت لك أن تشرب، فجعل إخراجه (لصنبور) الماء خارج داره وإبرازه منزلاً منزلة الإذن باللفظ، وذكر على هذا أشياء كثيرة، وأن السلف رحمهم الله كانوا على هذا، وعليه قال: إننا نعرف من إجماع السلف وهديهم رحمهم الله أنه لا فرق بين دلالة الفعل ودلالة القول.
وأما الذين منعوا بيع المعاطاة فيحتجون بقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] قالوا: إن الرضا أمر غيبي ولا نستطيع أن نعلمه إلا إذا صرح بدليل لفظه أنه راضٍ.
واستدلوا أيضاً بالقياس، فقالوا: لا يصح البيع بالأفعال كما لا يصح النكاح بالأفعال، أي: كما أن النكاح يجب فيه الصيغة باللفظ، كذلك البيع تجب فيه الصيغة باللفظ.
وأما الذين فرقوا بين القليل والكثير، فعندهم دليل الاستحسان، فيستدلون بدليل الشافعية على المنع ويستثنون اليسير من باب الاستحسان، والاستحسان: هو الاستثناء من الأصل العام بدليل ينقدح في نفس المجتهد.
والذي يترجح -ختاماً- في هذه المسألة هو القول بصحة بيع المعاطاة في القليل والكثير أولاً: بدلالة الكتاب والسنة.
ثانياً: أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاض} [النساء:29] دليل لنا؛ لأن الله لم يفرق بين رضاً وآخر، وأن الرضا كما يستفاد بالأقوال يستفاد كذلك بالأفعال.
وأما القياس فإننا نقول: إن هناك فرقاً بين النكاح والبيع، ففي النكاح شدد الشرع أكثر من البيع؛ لأن النكاح يحتاط فيه للفروج، ولذلك ليس في النكاح خيار مجلس، ولكن البيع فيه خيار المجلس، فرخص الشرع في البيع أكثر من ترخيصه في النكاح، وشدد في النكاح واعتبرت الصيغة، ولأن الفرق بين النكاح والسفاح -الحلال والحرام- يحتاج إلى صيغة، فتقيد بالصيغة، وهذا بخلاف البيع، ومن هنا يترجح القول بصحة بيع المعاطاة، وهناك بعض العلماء يحتج بدليل عزيز غريب، وهو في الحقيقة أنفس ما استدل به في هذا الباب، وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] قال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} [التوبة:111] وقال بعد ذلك: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111] فسماه بيعاً، مع أنه لا يقول: بعت ولا يقول: اشتريت، ولكن نزلت الأفعال -من خوضه في سبيل الله مقبلاً غير مدبر يحتسب الأجر عند الله- منزلة صريح القول، فقالوا: وهذا يدل على صحة بيع المعاطاة
‌‌الأسئلة
‌‌صور البيع

‌‌السؤال
ذكرتم -حفظكم الله- أن هناك ثلاث صور من صور البيع التسع محرمة عند العلماء، فما هي الثانية والثالثة؟ أثابكم الله.


‌‌الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فنحن قلنا: عندنا بيع العين بالعين، والذمة بالذمة، والعين بالذمة، هذه ثلاث، وكل واحدة من هذه الثلاث تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ناجزاً من الطرفين، ونسيئة من الطرفين، وناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، فأصبح المجموع (3×3) تسع صور، ففي كل واحدة من هذه الثلاث نسيئة من الطرفين: عين بعين نسيئة من الطرفين، وذمة بذمة نسيئة من الطرفين، وعين بذمة نسيئة من الطرفين، فإذا جئت تحصرها تقسم البيع، وتجعله ثلاثة أقسام: عين بعين، وذمة بذمة، وعين بذمة، هذه الثلاثة الأقسام الرئيسية، ثم كل واحدة من هذه الثلاث تجعل تحتها ثلاثة أقسام: ناجزاً من الطرفين، ونسيئة منهما، وناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، فجميع الصور التسع فيها ثلاث صور كقولك: العين بالعين نسيئة من الطرفين، والذمة بالذمة نسيئة من الطرفين، والعين بالذمة نسيئة من الطرفين، وصيغة العين بالعين نسيئة من الطرفين أن تقول: بعتك هذا الكتاب بهذا الكتاب أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهذا نسيئة من الطرفين ولا يجوز.
وصيغة الذمة بالذمة نسيئة من الطرفين أن تقول: أبيعك ساعة من نوع كذا وكذا بساعة من نوع كذا وكذا أو بمائة ريال أو بمائتين، فهذا يعتبر ذمة بذمة، وتقول: أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهذا نسيئة من الطرفين، ذمة بذمة.
وصيغة العين بالذمة نسيئة من الطرفين أن تأتي بواحد من الأول وواحد من الثاني فتقول: أبيعك هذه الساعة بمائة ريال، على أن أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهي نسيئة من الطرفين في صورة عين بذمة، فهذا بالنسبة لمسألة الثلاث الصور.
إذاً: أصبحت هناك ست صور: عين بعين، وذمة بذمة، وعين بذمة، فهذه ثلاث تضربها في القسمين الباقيين: ناجزاً منهما، ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، فهذه الست فيها بحث وفيها تفصيل وفيها أحكام، وأما الثلاث الأولى فللعلماء كلمة واحدة أنها لا تصح، وأنها من بيع الدين بالدين المنهي عنه شرعاً، وأجمع العلماء على عدم صحته واعتباره.
والله تعالى أعلم
‌‌تعريف الثمن

‌‌السؤال
هل يمكننا أن نعرف الثمن بأنه: كل ما دخلت عليه الباء فهو ثمن؟ أثابكم الله.


‌‌الجواب
بعتك هذا الكتاب بهذا الكتاب، فـ (بعتك هذا الكتاب) مثمن، (بهذا الكتاب) مثمن، و (بعتك هذه الأرض) كذلك (بهذه الأرض) مثمن، فليس كل شيء دخلت عليه الباء ثمن؛ لأن الباء تدخل على الثمن وتدخل على المثمن، فلا ينضبط ولا يتأكد ولا يستقيم أن تقول: كل شيء دخلت عليه الباء فهو ثمن، لكن لو قيل: إنه في البيع المطلق: أبيعك السيارة بعشرة آلاف؛ لأن البيع المطلق هو بيع الثمن بالمثمن، وهو أحد الأنواع التي ذكرناها فهذا ممكن.
فالمقصود: أن وضع الباء هذا لا أعرف أنه ضابط مطرد؛ لأنه يشترط في الضوابط أن تكون مطردة، والباء تدخل على الثمن وتدخل على المثمن بلا إشكال.
والله تعالى أعلم

‌‌حكم اقتطاع مال نقدي عند بائع واستهلاكه بعد ذلك


‌‌السؤال
أنا إنسان أعطي صاحب البقالة مبلغاً وقدره مائة ريال في بداية الشهر، وأنا على مرور أيام هذا الشهر آخذ ما أريد من البقالة، وصاحب البقالة يخصم المبلغ من المائة التي عنده في بداية الشهر، فهل هذا الفعل جائز، أم أن فيه نوعاً من أنواع الربا؟ أثابكم الله.


‌‌الجواب
هذه المسألة تورع بعض العلماء فيها، واعتبرها من باب بيع الدين بالدين، والسبب في هذا: أنه لما أعطاه المائة أصبح صاحب البقالة مديناً لك بالمائة، وهذه المائة أعطيت في لقاء دين آخر وهو السلع التي تريد أن يعطيكها؛ لكن رخص فيها بعض العلماء قياساً على السلم، ففي بيع السلم يعطي الثمن عاجلاً والمثمن مؤجلاً، لكن رد هذا القياس؛ لأن السلم رخصة، وما ثبت على الرخص لا يقاس عليها، والشبهة في هذا موجودة.
لكن إذا كان من جنس المكيلات والموزونات والمعدودات فمرخص فيه؛ لأن فيه شبهة السلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، مثال ذلك: أن تأتي إلى بائع الحليب وتقول له: هذه مائة لعشرة أيام كل يوم آخذ منك (كيلو)، فهذا في كيل معلوم إلى أجل معلوم، وكذلك إذا كان موزوناً فإنه ينضبط، فهذا بعض العلماء يدخله في باب السلم من هذا الوجه.
والله تعالى أعلم
‌‌حكم البيع مع الضمان

‌‌السؤال
اشتريت سلعة واشترط البائع ضمانها لسنة، فهل يصح ضمانه؟ أثابكم الله.


‌‌الجواب
مسألة الضمان هذه ترجع إلى أصل شرعي وهو الذي يسمى: بيع العهدة، والعهدة قضى بها الصحابة رضوان الله عليهم، وأثر عن بعض الخلفاء الراشدين أنه قضى بالعهدة، فقد كانوا يبيعون الدواب وغير الدواب أيضاً ويجعلون العهدة ثلاثة أيام، وخلال الثلاثة الأيام هذه ينكشف فيها حقيقة المبيع، ويكون المبيع من جنس المبيعات التي لا تعرف إلا بالتجربة، ولا تعرف إلا بالاستهلاك، فهذا يسمونه بيع العهدة، والضمان في الحقيقة هو تفضل من البائع للمشتري، فهو يقول له: أنا أضمن لك بقاءها خلال سنة؛ لأن هناك عيوباً لا تنكشف ولا تعرف إلا بالاستهلاك، فكونه يلتزم الضمان فيه وجه شرعي، أي: من ناحية شرعية له أصل.
وسنتكلم على هذا إن شاء الله في خيار العيب، فربما نعرج ونبين فيه بشيء من التفصيل، وبيع الضمان له وجه من العهدة، ومن أمثلة ذلك: أنهم كانوا يبيعون الرقيق به آفة وعاهة، ولا تنكشف إلا بعد شهر أو شهرين، وقد لا تنكشف إلا خلال سنة، فهذا كله يعتبره العلماء من باب ضمان حق المشتري.
والأصل فيه أيضاً حديث المصراة كما في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين: إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)، لاحظ النهي عن الغش: (لا تصروا الإبل والغنم)؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا بيعها وهي أنثى وفيها حليب حبسوها يومين أو ثلاثة لا يحلبونها، فينتفخ ضرعها، وعندها فلن تستطيع أن تكتشف هذا العيب إلا إذا جلست عندك، ولذلك ثبت في الرواية الأخرى: (فأمسكها ثلاثاً) أي: يمسكها ثلاثة أيام حتى ينكشف حقيقة الحليب الموجود فيها، فهذا نوع من إعطاء الضمان ثلاثة أيام، حتى ينكشف حقيقة الحليب الموجود، فأنت لا تستطيع أن تكتشف هذا العيب إلا إذا جلست ثلاثة أيام، ففي اليوم الأول تراها كثيرة الحليب، وفي اليوم الثاني ينقص وفي اليوم الثالث يرجع إلى طبيعته أو عادته أو قريباً من الطبيعة أو العادة، فحينئذٍ إن شئت أمسكت وإن شئت رددتها وصاعاً من تمر ضماناً للعيب الموجود فيها.
وعلى هذا: فإنه قد يقوى اعتبار الضمان من حيث الأصل، أما من حيث التفصيل فهذا يحتاج إلى نظر.
والله تعالى أعلم

‌‌حكم التفاضل في الأشياء التي لا يجري فيها الربا


‌‌السؤال
أريد أن أبيع ثلاجة قديمة بأخرى جديدة، مع دفع الفارق، دون قبض ثمن الأولى، فهل يصح هذا البيع؟ أثابكم الله.


‌‌الجواب
بالنسبة لمبادلة الثلاجات والغسالات والثياب والسيارات، كأن يكون عندك سيارة قديمة تبادلها بسيارة جديدة، أو أجهزة كهربائية مستعملة بأجهزة جديدة أو بأجهزة مستعملة أخرى، سواء بادلت بدون فرق أو بادلت بالفرق، فكله جائز؛ لأن الأجهزة الكهربائية كأن تبادل غسالة بغسالة فإن الغسالات ليست من جنس الأموال التي يحرم فيها التفاضل؛ لأنها ليست من الموزونات، وشرط جريان الربا في غير المطعوم أن يكون موزوناً، والغسالة لا تباع بالوزن بل تباع بالعدد، وهكذا بالنسبة للآلات الأخرى كالسيارات فإنها تباع بالعدد لا بالوزن، ولذلك كل شيء من غير الطعام إذا لم يكن موزوناً فيجوز فيه التفاضل، فيجوز أن تبيع الثلاجة بالثلاجتين، أو تبيع الثلاجة بالثلاجة وتدفع الفرق ولو كان نقوداً؛ لأنه ليس من جنس ما يمنع فيه التفاضل أو يجري فيه الربا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #273  
قديم 21-01-2023, 09:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (268)

صـــــ(1) إلى صــ(11)





شرح زاد المستقنع -‌‌ كتاب البيع [3]

للبيع شروط شرعية لا يحكم بصحة البيع ونفوذه إلا إذا توافرت فيه هذه الشروط، ومن أهم هذه الشروط: تراضي الطرفين -البائع والمشتري- وأهليتهما في التصرف، وأن تكون العين مباحة المنفعة لغير حاجة، فإذا فقد البيع أحد هذه الشروط فقد فُقدت شرعيته، وحينئذٍ يحكم ببطلانه، وعدم جوازه
‌‌شروط صحة البيع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويشترط التراضي منهما، فلا يصح من مكره بلا حق].
شرع المصنف رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توفرها لكي يحكم بصحة البيع، ولا يمكن أن يحكم بجواز البيع ونفوذه إلا إذا توفرت هذه الشروط الشرعية، وذلك لأن الأصل في مال المسلم أنه محرم إلا أن يدل الدليل على استباحته، وعقد البيع عقد مبادلة ومعاوضة، وهذه المبادلة والمعاوضة لها أمارات معينة في الشرع يحكم بوجودها في صحة البيع واعتباره، ويسمي العلماء رحمهم الله هذه الأمارات والعلامات: شروط صحة البيع، فشرع المصنف رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توافرها لكي يُحكم بكون البيع صحيحاً
‌‌التراضي
قال رحمه الله: (ويشترط التراضي) أي: يشترط لصحة عقد البيع أن يكون البائع راضياً، وأن يكون المشتري راضياً، فلابد أن يكون كل منهما راضياً على عقد المبادلة والمعاوضة، فلو قال رجل لرجل: بعتك بيتي بمائة ألف، فيشترط أن يكون هناك الرضا من البائع وهو صاحب البيت، بحيث يرضى بالمائة ألف عوضاً عن بيته، ويشترط الرضا في المشتري، بحيث يرضى بدفع المائة ألف في مقابل هذه العين، أعني: البيت.
والأصل في اشتراط هذا الشرط قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فبيّن سبحانه وتعالى حرمة أكل مال المسلم بالباطل، والباطل هو الذي ليس فيه وجه حق، وعلى هذا فإنه يستحق مال المسلم في التجارة إذا وجد الرضا، ومفهوم ذلك: أنه لا يستحق مال المسلم إذا فقد الرضا، والله تعالى يقول: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فاشتملت هذه الآية على اشتراط الرضا في الطرفين: في البائع وفي المشتري، ومفهوم ذلك: أنه لا يصح البيع إذا فقد الرضا.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن من شروط صحة البيع وجود الرضا من حيث الجملة؛ لنص الله عز وجل عليه، ولذلك نجد فقهاء الحنفية رحمهم الله لما وصفوا البيع الشرعي قالوا: مبادلة المال بالمال بالتراضي، وقولهم: (بالتراضي)، الباء للمصاحبة، أي: مصحوباً بالتراضي من الطرفين، أعني: البائع والمشتري.
وعلى هذا: فلو أن إنساناً هدد غيره أن يبيع فباع تحت هذا التهديد، أو أضر به أو قهره على البيع، فإذا توفرت شروط الإكراه لم يصح البيع؛ وذلك لأن الله عز وجل اشترط للحكم بجواز البيع وصحته أن يوجد الرضا، ومفهوم ذلك: أنه لا يحكم بصحة البيع واعتباره إذا لم يوجد الرضا، وقد جاء في حديث ابن عمر عند ابن حبان وغيره وحسن بعض العلماء إسناده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما البيع عن تراض)، فقوله: (إنما البيع) أسلوب حصر وقصر، كأنه يقول: البيع الشرعي هو البيع الذي وجد فيه التراضي، ومفهوم ذلك -وهو مفهوم الحصر كما يسميه الأصوليون-: أنه إذا لم يوجد الرضا فليس ثمّ بيع شرعي.
وقوله: (فلا يصح من مكره بلا حق) الفاء في قوله: (فلا يصح) للتفريع، فرّع على اشتراط الرضا في البائع والمشتري أنه لا يحكم بصحة البيع إذا أكره البائع على البيع أو أكره المشتري على الشراء، فإذا أكره أحدهما أو أكرها معاً لم يصح البيع.
وقوله: (من مكره) المكره: مأخوذ من الكره، وأصل الكره الشيء الذي انتفى فيه الرضا، والأصل في كون الإكراه مسقطاً للأحكام الشرعية قول الله سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فهذه الآية الكريمة قال علماء التفسير فيها: إنها أصل في إسقاط حكم الإكراه، ووجه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى بيّن أن المسلم إذا قال ما يوجب الردة -وهي كلمة الكفر- بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن هذا القول لا عبرة به، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار عندما أكره: (وإن عادوا فعد)، فأسقط بالإكراه الحكم بالمؤاخذة.
وعلى هذا: فلو قال المكره: بعت، وقال المكره: اشتريت، فإن هذا اللفظ من البائع والمشتري وجوده وعدمه على حد سواء؛ لكن يبقى النظر: متى نحكم بكون الإنسان مكرهاً؟ هذه المسألة تكلم عنها العلماء رحمهم الله، ولكن فيها تفصيل وكلام طويل، وسيكون الحديث عنها إن شاء الله في طلاق المكره، وسنتكلم عن الشروط المعتبرة للحكم بكون الإنسان مكرهاً، فمثلاً: لو قال رجل لرجل: بع بستانك هذا بمليون وإلا ضربتك على يدك، فإن الضرب على اليد أهون من بيع البستان بهذا المبلغ، فلا نقول: إنه مكره بهذا القول، وإنما يحكم بكونه مكرهاً، إذا هُدِّد بأمر هو أعظم من الأمر الذي طلب منه.
وهناك موازين وأمور معينة لا بد من وجودها للحكم بالإكراه.
فالشاهد: أن من باع مكرهاً على بيعه لم يصح بيعه، ومن اشترى مكرها على الشراء لم يصح شراؤه، ولكن يبقى النظر إذا أكره بحق، ومثال ذلك: المفلس، فلو أن رجلاً استدان من الناس حتى أفلس، ووجدت أمتعة الناس عنده -ومعلوم أنه لا يحكم بكون الإنسان مفلساً إلا إذا كانت ديونه أكثر من تجارته، وغلب على الظن عدم نمائها، وعدم استطاعته أو قدرته على رد الحقوق إلى أهلها -فإذا كان الإنسان مفلساً، وعليه دين مثلاً مليون، وهناك أرض أخذها من شخص بمائة ألف، وهناك أرض ثانية بمائتين، وهناك سيارة بمائة، فإن أصحاب الأرض وصاحب السيارة إذا وجدوا عين السيارة وعين الأرض فمن حقهم أن يأخذوها، فيقول صاحب الأرض: أنا آخذ أرضي وأسقط حقي في الدين، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن: (من وجد متاعه عند من أفلس فهو أحق به)، قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبناءً على هذا: لو أن المفلس -مثلاً- كان عنده من السيارات والعقارات ما يساوي المائة ألف، والديون التي عليه ثلاثمائة ألف، فقرر القاضي بيع ما عنده من الأملاك وتسديد الديون، فإنه ستخرج منه هذه الأملاك دون طواعية ودون رضاً، وسيبيع بدون اختياره وبدون رضاه، ولكنه إكراه بحق، ولذلك يصح البيع وينفذ.
فاحتاط المصنف رحمه الله وقال: (بلا حق)، فمن أكره بالحق فإن إكراهه شرعي، وهكذا لو احتيج إلى توسعة مسجد، أو توسعة طريق تضرر الناس بضيقه، وقيل لرجل: بع دارك لتوسعة الأرض أو توسعة المسجد، فأبى، فمن حق ولي الأمر أن يأخذه منه بالكره ويعوضه عليه بقدر ما للعين من قيمة، والأصل في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هدم دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وذلك حينما ضاق المطاف واحتاج أن يوسعه، فهدم دوراً، ومنها دار العباس رضي الله عنه وأرضاه، وكانت قريبة تطل على المسجد، فأكرهه على بيعها، وأكرهه على المناقلة فيها، فدل على مشروعية هذا النوع من البيع لوجود الحق، والقاعدة الشرعية تقول: (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام)، ومن فروعها هذه المسألة، وكذلك الحجر على المريض بمرض معْدٍ ونحوها، كلها أضرار خاصة قصد منها دفع الضرر العام.
فالبيع في مثل هذا بيع معتبر عند العلماء رحمهم الله
‌‌أهلية التصرف
قال رحمه الله: [وأن يكون العاقد جائز التصرف].
وهذا هو الشرط الثاني: أن يكون العاقد جائز التصرف، والجائز التصرف: هو الذي ينفذ تصرفه، فهنا بيع وشراء، فيشترط لصحة البيع وصحة الشراء أن يكون تصرف البائع تصرفاً صحيحاً ونافذاً، أي: عنده أهلية التصرف -كما يقول الفقهاء- وهذه الأهلية تستلزم ألَاّ يكون صبياً، ولا محجوراً عليه؛ والسبب في ذلك: أن الصبي والمجنون والسفيه يحجر عليهم، فإذا تصرفوا في أموالهم فإن تصرفهم غير صحيح.
إذاً: يسمي العلماء هذا الشرط بشرط نفاذ التصرف، أو يصفونه: بأهلية التصرف، بمعنى: أن يكون البائع والمشتري عنده أهلية تبيح له أن يأخذ وأن يعطي، فإذا فقد هذه الأهلية لوجود مانع يمنع من نفوذ تصرفه، فإننا لا نصحح البيع، فلو أن صبياً توفي عنه أبوه وترك له عمارة إرثاً، فجاء رجل إلى الصبي وقال له: بعني عمارتك التي ورثتها عن أبيك بمائة ألف، فقال: قبلت، فإنه مالك للعمارة وراض ببيعها، ولكنه غير أهل للتصرف في ماله؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وأمر سبحانه وتعالى بالحجر على الأيتام؛ والسبب في هذا: أن الصبي والسفيه والمجنون كل منهم لا يحسن النظر لحظ نفسه، وهذا يسميه العلماء: بالحجر على الإنسان لمصلحة نفسه، وإذا أردت أن تضبط هذا الشرط فتقول: نافذ التصرف هو غير المحجور عليه، والحجر إنما شرعه الله لأمرين: إما لمصلحة الإنسان نفسه، أو لمصلحة تتعلق بالغير.
فأما الحجر على الإنسان لمصلحة نفسه فكالمجنون، فإن المجنون لو أعطيناه ماله فيوشك أن يتلف المال، ولا يحسن التصرف فيه، وهكذا الصبي لو أعطيناه المال فإنه يوشك أن يتلفه، ولا يحسن النظر فيه، ومن هنا يحجر على كل من الصبي والمجنون والسفيه ونحوهم لمكان المصلحة، أو لحظوظ أنفسهم.
وأما النوع الثاني من الحجر: فهو أن تحجر على الإنسان وتمنعه من التصرف في ماله لمصلحة الغير لا لمصلحته هو، ومن أمثلة ذلك: المفلس، فإننا ذكرنا أن المديون يحجر عليه، فالذي عليه ديون -مثلاً- تعادل المائتي ألف، وأمواله تعادل خمسين ألفاً، فإن هذا يمنع من التصرف في أمواله وتباع سداداً للدين.
ومن أمثلة من يحجر عليه لمصلحة الغير: المريض مرض الموت، فإن المريض مرض الموت يتصدق بأمواله؛ ولكن في حدود الثلث، أي: لا يستطيع أن يهب، ولا أن يتصدق، ولا أن يتنازل عن شيء من ماله إلا في حدود الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير)، وقال: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)، فدل هذا على أن الثلثين ليس من حقه أن يتصرف فيهما، ومن هنا قالوا: إن الحجر على المريض في حدود الثلث يعتبر من باب مصلحة الغير؛ والسبب في هذا: أنه إذا مرض مرض الموت صار المال في حكم الإرث، وحينئذٍ كأن يده قد نقلت عن هذا المال، وأصبح له حظ النظر لمصلحة نفسه بالصدقات والهبات ونحوها من المجاملات التي يريد بها الإحسان إلى الناس.
وقد قال بعض العلماء في هذه المسألة: وَزَوْجَةٌ فِيْ غَيْرِ ثُلْثٍ تُعْتَرَضْ كَذَاَ مَرِيْضٌ مَاْتَ فِيْ ذَاْكَ الْمَرَضْ فالمريض يحجر عليه فيما فوق الثلث، وقوله: (وزوجة في غير ثلث تعترض) هذا على مذهب المالكية رحمهم الله، فإنهم يرون أنها تتصرف في حدود الثلث، وسيأتي بيان هذه المسألة في باب الحجر.
الشاهد: أن البيع لا يصح إذا كان البائع أو المشتري محجوراً عليه، فلو أن صبياً اشترى من رجل داره بمائة ألف، فإننا لا نصحح البيع؛ وإنما نقول: ليس للصبي أن يبيع ويشتري؛ وإنما النظر لوليه، فيأتي وليه وينظر في شراء الصبي؛ فإن كان شراء حكيماً، ومن المصلحة إمضاؤه أمضاه، وإن كان غير ذلك أبطله ورده.
إذاً: معناه: أن البيع لا يصح إلا إذا كان الشخص الذي يبيع ويشتري أهلاً لأن يتصرف في ماله، ومن هنا قال بعض العلماء في تعريف الحجر: هو منع نفوذ تصرف قولي لا فعلي في المال.
ومن هنا اشترط المصنف في العاقد: أن يكون جائز التصرف.
وقوله: (العاقد) يشمل الاثنين: (البائع والمشتري)؛ لأن كلاً منهما عاقد، لكن لو جئت إلى دكان فوجدت صبياً يبيع في الدكان، وهذا الصبي هو الذي يتولى الأخذ منك والإعطاء لك، فهل يصح بيعه؟ وهل تعتبر مالكاً للسلعة بالإيجاب والقبول الذي بينك وبينه؟ نقول: إذا كان الصبي مميزاً ومأذوناً له بالتصرف؛ فإنه حينئذ يصح بيعه، أما الصبي غير المميز؛ فإنه لا يصح بيعه، وعلى هذا قال العلماء: إذا وكّل الصبي ببيع السلع ووجدته في دكان ونحوه، فإنه يصح أن تشتري منه، ولا بأس بذلك.
يبقى

‌‌السؤال
إذا كان الصبي والمجنون والسفيه لا يصح بيعهم ولا شراؤهم إلا بإذن أوليائهم، فما هي الحكمة؟


‌‌الجواب
الحكمة أن الشرع منع من إعطاء هؤلاء الأموال رحمة بهم -كما ذكرنا- وحفاظاً على الأموال؛ لأنه لو أذن لهؤلاء أن يتصرفوا فإنه سيتضرر الناس بتصرفاتهم؛ لأنهم لا يحسنون النظر، لا للأخذ ولا للإعطاء، فلا يحسنون الأخذ لأنفسهم، فلربما اشتروا ما قيمته المائة بألف، وهذا لا شك أن فيه ظلماً، والشريعة جاءت بقفل أبواب الظلم والإضرار، كذلك أيضاً قد يبذلون للغير ما قيمته غالية بقيمة رخيصة؛ لأنهم لا يحسنون النظر في مصالح أنفسهم
‌‌عدم صحة تصرف الصبي والسفيه
قال رحمه الله: [فلا يصح تصرف صبي وسفيه بغير إذن ولي].
قوله: (فلا يصح تصرف صبي) أي: في بيع وشراء، ولذلك قال: (تصرف) حتى يشمل البيع والشراء، فلو أن رجلاً جاء واشترى من صبي أرضه، والصبي مالك لها، فجاء وليه وقال: البيع باطل، فقال المشتري: قد اشتريت، وهذا هو المالك، فنقول: لا يصح البيع إلا بإذن الولي.
وقوله: (وسفيه) أصل السفه: الخفة، والثوب السفساف: الخفيف الذي يشف ما وراءه، ويطلق السفساف على الريح ونحوها، وهي تحمل الرذاذ والشيء الخفيف، فالسفيه: خفيف العقل؛ والسبب في هذا: أن الله جعل العقل في الإنسان لكي يعقله ويحجره عما لا يليق من التصرفات، فإذا جاء الإنسان يتصرف في ماله تصرفاً غير حميد، فمعنى ذلك أن عقله غير رشيد، ولا يحسن النظر، ومن هنا يقولون: إنه سفيه، أي: أن في عقله خفة.
والسفيه له عدة ضوابط: الضابط الأول: هو الذي لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا يحسن الإعطاء لغيره، ومعنى قولهم: (لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا يحسن الإعطاء لغيره): أنه إذا أراد أن يشتري غُبِن في الشراء، وإذا أراد أن يبيع غُبِن في البيع، مثال ذلك: إذا كانت عنده سيارة قيمتها عشرة آلاف ريال، وأراد أن يبيعها فربما ماكسه المشتري، أو تلطف معه في العبارات، فيشتريها منه بستة أو بسبعة أو بثمانية آلاف ولا يبالي، ويقول له: أنت رجل طيب، وفيك خير، فهل تبيع هذه السيارة بثمانية آلاف أو بسبعة آلاف؟ فيقول: خذها، فمعنى ذلك أنه ليس عنده عقل، ولا عنده من الرشد ما يحجره ويمنعه لكي ينظر لمصلحة نفسه، فإذا نزل الإنسان إلى هذا المستوى ولم يكن قصده الآخرة، أما لو كان قصده الآخرة، وقصده أن يكون بينه وبين أخيه تآلف، فآثر ما عند الله عز وجل، وفضّل أخوة الإسلام على أن يكسب أخاه، فإن الله يجمع له بين ثواب الدنيا والآخرة؛ لكن نحن نتكلم على رجل أَخْرَق لا يحسن النظر لنفسه.
وبناءً على هذا: لو أن رجلاً عنده أموال (عمائر) أو سيارات فاشترى (العمائر) بقيمة، ثم باعها بقيمة رخيصة جداً، مع إمكان بيعها بقيمة غالية، فطالب أولياؤه بالحجر عليه، وثبت عند القاضي أنه باعها بهذه القيمة الرخيصة، فإنه يحجر عليه ويمنعه؛ لأنه ثبت عند القاضي أنه لا يحسن الإعطاء للغير، فإذا وجد أحد الأمرين: إما أنه لا يحسن الإعطاء للغير، أو لا يحسن الأخذ لنفسه، فيحجر عليه، فلو اشترى داراً قيمتها مائة ألف، فاشتراها بثلاثمائة ألف، أو بمائتي ألف، أو بأربعمائة ألف، فتعلم حينئذٍ أنه أَخْرَق، وأنه يُضحك عليه، فلا بد من الحجر عليه صيانة لماله لحظ نفسه، كما حجرنا على المجنون وعلى الصبي.
والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وقد جاء عن عثمان في قصة عبد الله بن جعفر وعلي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع، في مسألة شراء أرض في الغابة بالمدينة، فإن عثمان رضي الله عنه لما بلغه شراء عبد الله لها أراد أن يحجر عليه، فقال علي رضي الله عنه: أنا شريكه.
وعلى هذا: فالمقصود أننا نحجر على الإنسان إذا ثبت أنه لا يحسن الإعطاء للغير، أو لا يحسن الأخذ لنفسه.
الضابط الثاني للسفيه: أن يكون مسرفاً في الشهوات، والمراد بهذا: أن يشتري الأشياء المباحة، ويبالغ في الكماليات، مع أنه مكفي الحاجة بما دونها.
ومن أمثلة ذلك: أن يكون بحاجة إلى سيارة مثلاً، فيمكنه أن يشتري سيارة بخمسين ألفاً، فيذهب ويشتري سيارة بمائتي ألف، أو أن يكون بحاجة إلى ثوب، والثوب لمثله ومتوسط مثله من كان في قدره ومكانته يشتري الثوب بمائة، فيذهب ويشتري الأثواب بالمائتين والثلاثمائة والأربعمائة، فينقل نفسه إلى منزلة ليست له، ويتشبع بما لم يعط، فإذا أغرق في هذه المباحات، وأصبح يشتري الأشياء العالية الغالية، ويسرف فيها، مع أن مثله لا يليق به ذلك الشيء؛ فإنه يحجر عليه، ويوصف بالسفه، وهذا الضابط هو الذي أشار إليه بعض العلماء بقوله رحمه الله: وَالسَّفَهُ التَّبْذِيْرُ لِلأَمْوَالِ فِيْ لَذَّةٍ وَشَهْوَةٍ حَلَالِ حتى قال بعض العلماء: إذا أسرف وأكثر من الزواج، فيكون رجلاً كثير الطلاق للنساء، ورجلاً لا يحسن العشرة الزوجية، وكلما طلّق هذه ذهب ونكح غيرها، فمثل هذا يحجر عليه إذا بلغ به الأمر إلى الدَّين أو الضرر في ماله؛ لأنه في هذه الحالة قد أسرف في اللذة -وهي لذة حلال- وجاوز الحد المعتبر، فحينئذٍ يحجر عليه ويمنع، وقد روي عن علي رضي الله عنه -وهذا يروى عنه أثراً- أنه لما أكثر الحسن الزواج قام على المنبر وقال: (إنه كثير الطلاق أو مطلاق للنساء)، وكأنه يريد أن يمنع الناس من تزوجيه، فقالوا: لَنُزَوِّجَنَّه وإن كان مطلاقاً.
وذلك لشرفه رضي الله عنه وأرضاه، فهو ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم تعاظموا أنه قام في الكوفة وقال: (إن ابني هذا كثير الطلاق للنساء، فلا تزوجوه)، وكأنه يريد أن يؤدب الحسن، وقد قيل: إنه أحصن أكثر من مائة امرأة.
الشاهد: أنه إذا أكثر الإنسان في المباح ولو كان في الزواج، وحفظ عنه أنه يفعل ذلك على سبيل الخرق، ولم يكن هناك موجب لفعله، فإنه يحكم بسفهه؛ لأنه أسرف في اللذة المباحة مع إمكانه أن يجتزئ بما هو أقل من ذلك
‌‌أن تكون العين مباحة المنفعة
قال رحمه الله: [وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة].
هذا هو الشرط الثالث، وهو: أن تكون العين مباحة النفع لغير حاجة، وبيان ذلك: أن البيع وقع على محل، وهذا المحل يشمل الثمن، والمثمن، أي: صور البيع الثلاث، سواءً وقع بيع صرفٍ أو بيع مقايضةٍ أو بيعاً مطلقاً، فينبغي أن يكون مباح المنفعة، وهذا أكثر ما يقع في المثمونات، فالذهب والفضة مباحا النفع، فلا إشكال فيهما بالنسبة للثمن، فيبقى الإشكال دائماً في المثمونات، فإذا باع شيئاً محرم المنفعة فإنه حينئذٍ لا يُحكم بصحة البيع.
والمراد من هذا الشرط: أن الله عز وجل حينما أباح البيع أباحه لأمرين: الأمر الأول: جلب المصالح للعباد.
الأمر الثاني: درء المفاسد عنهم.
فأما جلب المصالح فإن الإنسان إذا احتاج للشيء وأراد أن يشتريه فإنه يجد مصلحة بحصوله على ذلك الشيء، فأنت إذا كنت محتاجاً إلى بيتٍ تسكنه وترتفق به، فإنك إذا اشتريته حصلت هذه المصلحة، كذلك إذا كنت محتاجاً إلى سيارة تركبها ونحو ذلك، فإنك تجلب المصلحة بهذا البيع، كذلك تدرأ عن نفسك المفسدة؛ لأنك إن بقيت بدون بيتٍ فستكون في العراء، وإذا بقيت بدون ثوبٍ أو بدون طعامٍ فأنت على ضرر، فإذاً: البيع فيه جلب مصلحة ودرء مفسدة، فهذه المصلحة التي يطلبها الإنسان أو المفسدة التي يدفعها لابد أن يشهد الشرع باعتبارها، والإذن بجلبها إن كانت مصلحة، والإذن بدرئها إن كانت مفسدة، فإذا اشتمل البيع على ما يضاد الشرع؛ فإنه حينئذٍ لا يمكن أن يحكم بكونه بيعاً شرعياً، فيقول الشرع حينئذٍ: لا يجوز هذا البيع، وعندي فيه أمارة أو علامة تقتضي الحكم بعدم جوازه، وذلك أن المنفعة التي قُصدت من هذا البيع منفعة محرمة.
ومن أمثلة هذا: أن يبيع الخمر، فإن الخمر منفعتها محرمة، وعلى الأصل أن الله عز وجل سلب المنافع من الخمر بعد أن حرمها، لكن لو قال قائل: إنه -والعياذ بالله- يشربها لما يكون فيها مما يظنه من منافع، أو يشتري أو يبيع المخدرات لاستعمالاتٍ محرمة، فإننا نقول: الخمر والمخدرات منافعهما محرمة، وما يقصد منها محرم.
إذاً: لا بد لصحة البيع أن تكون العين مباحة المنفعة، فإذا كانت منفعتها مضرّة فلا يجوز بيعها، ومن هنا قالوا باشتراط هذا الشرط؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأذن لعباده بالضرر، ولا يُبيح سبحانه وتعالى لهم ما فيه ضرر عليهم، لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الحج:78]، فهذا حكم الشرع، ولو أن الشرع أجاز هذا النوع من البيع فإنه حرجٌ ومشقة.
وفي هذا الشرط عدة فوائد وهي: الفائدة الأولى: لا يصحُّ بيع شيءٍ لا منفعة فيه، ومن أمثلة ذلك مما يذكره العلماء: لو قال له: أبيعك هذه التفاحة لشمِّها، أي: المنفعة الشم فقط، وبعض العلماء يدخل هذا في باب الإجارة، وهو صحيح؛ لأنه من باب المنافع أقرب منه للأعيان، لكن منهم من يذكره مثالاً على البيع، فلو قال له: أبيعك هذه التفاحة للنظر إليها، أو لشمِّها، فإن هذه ليست بمنفعة مقصودة، وليست بتلك المنفعة التي يشتغل بها، ومن هنا قال العلماء: لا يصحُّ بيع الحشرات؛ لأنهم في القديم كانوا لا يجدون فيها منفعة، فأبطلوا بيعها.
الفائدة الثانية -وهي فائدة عكسية-: أنه لا يجوز بيع ما فيه ضرر؛ كالسمومات، فإنه لا يجوز بيعها ولا شراؤها؛ لأن السمَّ لا منفعة فيه بل فيه ضرر؛ لكن لو احتيح إلى السمِّ للعلاج أو لمنفعة، وكانت منفعة مقصودة، فإننا نقول بجواز البيع وصحته؛ لكن من حيث الأصل فإن السمومات ليست من جنس ما أحلَّ الله؛ لأنها مشتملة على الضرر، والله عز وجل لا يأذن لعباده بقتل أنفسهم، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، وتحريم الشيء يقتضي تحريم وسائله، فحينما قال العلماء: يُشترط أن تكون هناك منفعة، خرج ثلاثة أمور: ما لا منفعة فيه كالحشرات، الأمر الثاني: العكس، وهو -مفهوم الشرط- ما فيه مضرة، فلو قال قائل: وُجدت المنفعة لكن هذه المنفعة محرمة، كالخمر فإن فيها منفعة الإسكار، والإسكار محرم، والمخدرات فيها منفعة التخدير، وهي محرمة، فعلى هذا نقول: لا يصحُّ البيع، ولا يجوز، وكذلك الميتة: وهي كلُّ حيوان مات حتف أنفه أو بغير ذكاةٍ شرعية، فإنه إذا قتل، أو كان يذكى بالصعق الكهربائي أو نحو ذلك، وبِيع، فإنه لا يصحُّ بيعه ولا يصحُّ شراؤه؛ وذلك لأن هذه الميتة منفعة الأكل منها محرمة شرعاً، إذاً: لا بد أن تكون المنفعة مباحة.
الأمر الثالث: خرج أيضاً المنفعة المباحة لحاجة، فأنت إذا قلت: هناك شيءٌ له منفعة، وهذه المنفعة مباحة؛ ولكن أبيحت للضرورة، أو أبيحت للحاجة، مثل: الكلب، ففي الأصل أنه لا يجوز اتخاذه، ولا يجوز أن يكون عند الإنسان كلب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من اتخذ كلباً إلاّ كلب صيدٍ أو حرث أو ماشية نقص من أجره كلَّ يوم قيراطان)، فهذا يدل على حرمة اتخاذ الكلب، فإذا كان اتخاذه محرماً فإنه أذن للضرورة للصيد والحرث والماشية، وهذه ثلاث منافع، فلو قيل لك: هل أشتري الكلب للصيد أو للحراسة -حراسة الماشية والزرع-؟ فنقول: نعم، فهذه ثلاث منافع، وينطبق عليها الشرط بأنها منفعة، ثم هي منفعة مباحة؛ لأن حفظ الأموال مقصود شرعاً؛ لكنها مباحة للضرورة، فإذاً: لم ينطبق عليها الشرط، فاحتاط المصنف رحمه الله وقال: (من غير حاجة) أي: يشترط أن تكون المنفعة منفعة مباحة مطلقاً، وليست بمنفعة مقيدة بالضرورة والحاجة، فإن المنافع المباحة للضرورة والحاجة لا يجوز بيعها، ومن هنا يتفرع عدم جواز بيع المادة المخدرة للاستعمال المضطر إليه؛ وإنما يُعطى المال عوضاً كإجارة، ولا يعطى عوضاً عن العين، وفرقٌ بين المعاوضة على المادة المخدرة إذا كانت لعلاجٍ كبيع، أو تعطى كإجارة، فهناك فرق بين المسألتين؛ لأنها إذا كانت بيعاً فإنَّ معنى ذلك أنها منفعة مباحة لحاجة، ولا يجوز بيع المنافع المباحة لحاجة؛ لأنه ثبت في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر البدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب)، وثبت في مسلم من حديث جابر رضي الله عنهما: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، أي: عن ثمن الكلب، وقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود بسند صحيح: (إن جاءك يريد ماله فاملأ كفه تراباً)، فهذا كله يدل على حرمة بيع الكلب وشرائه، وقال: (ثمن الكلب خبيث) كما في الصحيحين، وقال: (ثمن الكلب سحت)، ولم يفرِّق بين كلب وآخر، فدلَّ على أن الكلب المأذون به لمنفعة مضطر إليها لا يجوز بيعه لهذه المنفعة، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة وخلاف العلماء رحمهم الله فيها.
الشاهد: أن عندنا شرطاً يقول: ينبغي أن تكون العين لها منفعة مباحة، فخرجت العين التي لا منفعة فيها كالحشرات، وخرجت العين التي فيها مضرة كالسموم، ثم أضاف رحمه الله قيد الحاجة، ففهمنا من ذلك أنه إذا كانت مباحة للحاجة فإنه لا يجوز بيعها؛ والسبب في هذا من ناحية فقهيّة: أن الشرع إذا أذن لك باتخاذ الكلب للصيد والحرث والماشية، فمعنى ذلك أنه مباحٌ لضرورة الصيد، وضرورة الحرث، وضرورة الماشية، فإذا أُبيح لهذه الحوائج وجاء الإنسان يبيعه، فمعنى ذلك أنه قد زاد عن الحاجة، والقاعدة: (ما أبيح للحاجة فإنه يقدَّر بقدرها)، فلو أُبيح أخذ ثمن الكلب الذي للصيد مثلاً وقيل: يجوز بيعه؛ لأن منفعة الصيد مباحة فنريد أن نبيعه؛ فمعنى ذلك أنه يستفيد منه في الصيد ويستفيد منه في البيع بأكل ثمنه، وحينئذٍ خرج عن مقام الحاجة إلى مقام التوسع، والأصل أنه لا يباح منه إلاّ ما اضطر إليه، أو إلَاّ ما نصّ الشرع عليه: وهو الإذن باتخاذه للصيد وحراسة الحرث والماشية

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #274  
قديم 21-01-2023, 09:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (269)

صـــــ(1) إلى صــ(11)




‌‌ذكر بعض الحيوانات المباحة المنفعة
قال رحمه الله: [كالبغل، والحمار، ودود القزِّ وبزره والفيل].
قوله: (كالبغل)، فإن البغل فيه منفعة وهي منفعة الركوب، قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8]، فنقول: هذه الأشياء ذكرها الله سبحانه وتعالى امتناناً على عباده، فذكر أنَّ الخيل والبغال والحمير تركب، وهذا الركوب منفعة مقصودة؛ لأن الإنسان يحتاج إلى الركوب للسفر، ويحتاج إلى الركوب للتجارة، وإلى غير ذلك من المصالح؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُس} [النحل:7]، والسياق سياق منَّة، وقد جعل الله سورة النحل التي وردت فيها آية الخيل والبغال سورة (النعم)، كما يسميها بعض العلماء رحمهم الله؛ لكثرة ما فيها من النعم التي امتنَّ الله بها على عباده، فالسياق سياق امتنان، فلمَّا امتن الله بركوب البغال دلَّ على أنَّ منافعها مباحةٌ مأذونٌ بها شرعاً، فإذا باع البغل فمعنى ذلك أنه يريد أن يشتريه لمصلحة الركوب، وهكذا لو باع الخيل، أو باع الحمار، فكلُّ هذه الأشياء يُقصدُ منها المنافع المباحة.
وقوله: (ودود القزِّ وبزره)؛ لأنه يستخرج منه الحرير، وهي منفعة مباحة؛ لأن الحرير أحلَّه الله عز وجل لنساء الأمة، وهذا الحرير يُكْتسى ويُنْتفع به، وكذلك ينتفع به للمرض، فقد أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم لمن به حِكّة، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، فهذه المنافع كلها مقصودة، فلو باع دودة القز فإن من يشتريها إنما يقصد من ورائها الانتفاع بما يكون منها من النسيج الذي يستخلص منه الحرير، كما لو اشترى بقرةً حلوباً؛ لأن البقر تباع للحليب، أو ناقةً حلوباً؛ لأن الناقة تباع للحليب، وتباع كذلك للحمها، وتباع لظهرها، وقد تباع لهذه الثلاثة الأشياء، فكلها منافع مباحة، فإذا باع بغلاً فإن معنى ذلك أنه يريد أن يركبه، وإذا باع دودة قز فمعنى ذلك أنه يريد ما يكون منها من نتاج القز الذي يستخرج منه الحرير، كما لو اشترى البهائم من أجل أن يجزَّ أصوافها أو أوبارها وأشعارها لكي يتخذ منها الأثاث واللباس.
وقوله: (والفيل)، كذلك لو اشترى الفيل، فإن فيه مصالح، منها: الناب، حيث يتخذ من ناب الفيل أشياء، منها: الأمشاط التي تكون من العاج، ومنها: الأسورة التي تكون من العاج، وهو ناب الفيل، وكذلك أيضاً الركاب والرحال التي تحطُّ على الدواب يستفاد منها من عظم الناب، فهذه منافع يقصد منها، وكذلك الفيل يُركب في البلاد التي يركبون عليه كما يركب على البغال والحمير، وهذا في الأماكن التي توجد فيها الفيلة، وهذا من عظيم رحمة الله عز وجل وتفضيله لبني آدم، فإنك ترى الصبي الحدث يمتطي ظهر الفيل ويقوده حيث شاء، ولا يمكن للإنسان أن يتصور بعقله وإدراكه أن من كان في مثل هذا الحجم أن يقود هذا الحجم الكبير، ولكن الله عز وجل أذن، وإذا لم يأذن الله فلن يستطيع، فإن البعير يقوده الطفل الصغير ممسكاً بزمامه؛ ولكن إذا هاج البعير فقد يفتك بالقرية بكاملها، وقد ترى القرية بكاملها في ذعرٍ منه، وهذا يدلُّ على عظيم رحمة الله عز وجل وتفضيله لبني آدم، فاللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك؛ ولكن من الذي يعي ذلك؟! ومن الذي يقدر الله حقَّ قدره؟! وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]، فمن يتأمل في مثل هذه الأمور يدرك عظمة الله سبحانه وتعالى، ويدرك أن الله تعالى قد أحسن إلى العبد إحساناً غاية الإحسان، وليس بعد إحسان الله على عبده إحسان، ومن هنا كان الشكر لله وحده، فينبغي أن يكون على أتمِّ الوجوه وأكملها.
فالمقصود: أن الفيلة تباع من أجل الركوب عليها، ومن أجل القتال عليها، كما كان في القديم، ومن أجل حمل الأمتعة عليها.
قال رحمه الله: [وسباع البهائم التي تصلح للصيد].
قوله: (وسباع البهائم) أي: يجوز أن تباع سباع البهائم، والبهيمة مأخوذة من الإبهام، وأصل الإبهام الشيء غير الواضح، وقد قيل: سميت البهيمة بهيمة؛ لأنك لا تستطيع أن تفهم كلامها، وكلامها مبهمٌ عليك، ولا تستطيع هي أن تعبر لك بلغة تفهمها.
والبهائم تنقسم إلى أقسام: فمن البهائم ما خلقه الله للأكل.
ومنها ما خلقه الله للركوب.
ومنها ما خلقه الله لأشياء عديدة، ومن أراد أن يتقصى ما في البهائم من الحكم والأسرار لحار عقله، وللإمام ابن القيم رحمه الله كلام جميل في (بدائع الفوائد)، فقد ذكر فيه نكتاً عظيمة في مسألة خلق البهائم للمقاصد، كأن يجعل هناك بهائم للأكل، وبهائم للشرب، وبهائم للركوب، وبهائم للقتال عليها، ولمصالح عديدة، وتجد أن هذه البهيمة لو جيء بغيرها مما هو أقوى منها لكي يقوم مقامها فلا يمكن؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، فالله سبحانه وتعالى هداها لهذا الشيء المعين، ولا تستطيع أن تصرفها عن غير هذا الشيء، كأنها ما خلقت إلاّ لهذا الأمر.
فالمقصود: أن الله سبحانه وتعالى جعل في كل بهيمة مقاصدها، فالسباع تعدو، والسباع العادية كالأسد والنمر واللبوة -وهي أنثى الأسد- ونحوها من هذه السباع، هذه تعلّم الصيد، فالأسد مثلاً يمكن تعليمه الصيد، وهناك طريقة اعتنت كتب الأدب بها، ومن أفضل الكتب التي تكلمت على هذه الفوائد كتاب (نهاية الأرب)، و (صبح الأعشى) للقلقشندي، فقد ذكر فيها طرق تعليم الحيوانات للصيد.
وتنقسم هذه الحيوانات إلى قسمين: القسم الأول: الحيوانات التي على وجه الأرض، مثل السباع.

القسم الثاني: الحيوانات الطائرة؛ كالصقر والباز والباشق والشاهين والعقاب، ونحوها من الطيور العادية.

فسباع الطير وسباع البهائم يمكن أن يُسخر ويُذلَّل للصيد، فإذا باعه الإنسان أو اشتراه من أجل مصلحة الصيد به جاز؛ لأن الصيد مباح، ومنفعته مأذون بها شرعاً، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4]، وكذلك قال عدي رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح: (يا رسول الله! إني أصيد بكلبي المعلم، وبكلبي غير المعلم، وأصيد بهذه البزاة -وهي الباز- فماذا يحلُّ لي؟ فأنزل الله عز وجل آية الصيد: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4])، فدلَّت هذه الآية الكريمة على جواز تعليم السباع العادية الصيد؛ ولذلك قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4]، و (مُكلِّبين) مأخوذة من الكَلَب، وأصل الكَلَب القوة؛ لأن هذه البهائم فيها قوة وفتك بالفريسة، وسواء كانت من ذوات الطير أو كانت من ذوات السباع العادية من البهائم، فلو أنه اشترى أسداً من أجل أن يُعِّلمه الصيد صحَّ البيع وصحَّ الشراء، وكذلك لو اشترى لبوةً متعلمة للصيد صح كذلك، وهكذا النمر لو اشتراه معلماً الصيد وأراد أن ينتفع به للصيد فإنه يجوز له ذلك، وهذا هو الذي عناه المصنف رحمه الله بقوله: (وسباع البهائم).
قال رحمه الله: [إلاّ الكلب والحشرات].
(إلاّ): استثناء، والاستثناء: إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ، فقوله: (إلاّ الكلب) أي: لا يجوز بيع الكلب، مع أن فيه منفعة الصيد، وسنتكلم إن شاء الله على مسألة بيع الكلب؛ لأنها مسألة خلافية، وفيها ما يقارب خمسة أقوال للعلماء رحمهم الله، وفيها أدلة وردود ومناقشات.
والله تعالى أعلم
‌‌الأسئلة
‌‌حكم بيع المساومة والمزايدة


‌‌السؤال
ما حكم المساومة؟ وهل تقدح في شرط التراضي بين البائع والمشتري، أثابكم الله؟


‌‌الجواب
باسم الله، الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه وأفضل رسله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالمساومة: هي مفاعلة من السوم، والسوم: إعطاء القيمة في السلعة، كأن يعرض سلعة -كسيارة أو بهيمة- للبيع فتقول: أشتريها بعشرة، فإن قلت بعشرة فمعناها أنك سُمتها بعشرة، أو عرض أرضه أو عمارته للبيع، فقلت: أشتريها بمائة ألف، فسمتها بالمائة، فجاء غيرك وقال: بمائتين، إذاً: حصلت هنا منافسة وقد قيل لها: مساومة؛ لأنها مفاعلة من السوم، والمفاعلة في لغة العرب تستلزم وجود شخصين فأكثر، فلا يقال: مساومة، من شخص واحد؛ وإنما يقال: مساومة، إذا عرضت للمزاد، والمزاد: هو طلب الزيادة، بمعنى: أن يتنافس اثنان أو أكثر في سلعة ما، فيقول الأول: بعشرة، ويقول الثاني: بعشرين، ويقول الثالث: بخمسة وعشرين، ويقول الرابع: بثلاثين وهكذا، فهذا هو السوم.
والسوم له أحوال: أما من حيث الأصل والمعروف والشائع أن السلعة توضع بين الناس، ثم يتساومون عليها أو يزيدون فيها، فهذا جماهير العلماء رحمهم الله وحكى غير واحد الإجماع على أنه جائز؛ لكن حُكي عن البعض أنه لا يجوز، واستدلوا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المزايدة، وهذا الحديث ضعيف، فقد ضعفه الإمام البخاري وغيره، ولا يصح ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المساومة، والمساومة التي حرمها عليه الصلاة والسلام إنما هي سوم المسلم على أخيه، والسوم الذي حرمه الله عليك على أخيك المسلم شرطه: أن يتراكن الطرفان، أما لو عرض سيارته للبيع في المعرض أو أمام بيته أو في السوق، فقال رجل: بعشرة آلاف، فقلت أنت: بعشرة آلاف وخمسمائة، فإن قولك هذا ليس من سوم المسلم على أخيه المسلم؛ وإنما هو مزايدة، وفرق بين السوم وبين المزايدة، وأما السوم على أخيك المسلم الذي حرمه الله، فهو أن يأتي رجل ويقول: اشتريتها بعشرة آلاف، فيقول البائع: قبلت، ورضي بهذه العشرة، وقبل أن يفترقا ويتم البيع قلت أنت: أعطيك عشرة وخمسمائة، فإذا تراكنا ورضيا فلا يجوز لأحد أن يدخل بينهما؛ لأنه يُقَطِّع أواصر الأُخوة، ومن هنا كأن الله يبيح لنا البيع؛ لكن بشرط ألا يهدم الدين، وألا تكون الدنيا سبباً لإفساد الدين، فحرم على المسلم أن يبيع على بيع أخيه المسلم، أو يسوم على سومه، وبيعه على بيع أخيه أن يتراكنا فيقول: أبيعك السيارة بعشرة آلاف، فيقول المشتري: رضيتها بهذا الثمن، وإذا بالآخر يقول: عندي سيارة مثلها أبيعها لك بتسعة آلاف، أو بتسعة وخمسمائة، فإن هذا من البيع على بيع المسلم، فيحرم على المسلم أن يسوم على أخيه المسلم وأن يبيع على بيعه.
فإذا تراكنا فإنه تنقطع المساومة، والذي ينقطع به السوم إذا وقفا وكأنهما رضيا بذلك، فجاء الآخر يسوم في غير المزاد، فهذا محظور.
وعلى هذا فإنه يجوز للإنسان أن يسوم ولا بأس به.
وقد يقول القائل: لكن الإشكال في مسألة سوم المسلم على أخيه أن الرضا ليس موجوداً، فنقول: بالنسبة للبيع الرضا موجود، وليس في هذا إشكال، أي: بيع المساومة والمزايدة لا يمنع وصف الرضا؛ لأن الذي أتى بالسلعة إلى المعرض أتى بها باختياره وبرغبته ثم هو يضعها أمام الناس يسوموها، فإن أراد أن يبيع وإلَاّ امتنع، فليس هناك إكراه له على أن يبيع، وكذلك الذي يسوم ليس هناك أحد حَدّه وألزمه.
وأما الإثارة التي تقع من كونك تقول: عشرة، والآخر يقول: خمسة عشر، فرزق ساقه الله إليك، فكونك أنت ترى أنها تستاهل العشرة فقلت: عشرة، فجاء غيرك وقال: اثنا عشر، وكأن السائل يقصد أنه لم يقلها برضا؛ وإنما قالها منافسة للغير من أجل أن يأخذ المال وكأنه مكره، فمثل هذا ليس بمؤثر، وأصل الرضا المعتبر لصحة البيع موجود وغير مفقود، وليس هناك أحد يلزمه أن يشتري هذه السلعة بقليل ولا بكثير، ومن هنا لا اعتراض.
والله تعالى أعلم
‌‌كيفية الحجر

‌‌السؤال
كيف يكون الحجر؟ هل بسلب المال من يديه؟ أم بحبسه وعدم تمكينه من البيع والشراء؟ أثابكم الله.


‌‌الجواب
هناك جانبان لمن يحجر عليه: الجانب الأول: أن يمنع من التعاقد على هذه السلعة، أي: لا يملك أن يقول لك: بعتك، ولا يملك أن يقول لك: اشتريت منك، فالمحجور عليه لا يبيع ولا يشتري إلا بإذن وليه، فإذا أذن وليه بالبيع والشراء صح ولزم ولا إشكال، والولي ينظر في بيعه وشرائه، فإن كان من المصلحة أن يمضيه أمضاه، وإن كان فيه ضرر ألغاه.
وأما بالنسبة لقضية الحَجر بالفعل فلا يمنع المحجور عليه من الخروج من بيته، ومن هنا تجد دقة الفقهاء حينما قالوا: منع نفوذ تصرف قولي لا فعلي، فهناك فرق بين الاثنين؛ لأن العقود تقع بالأقوال وإن كانت الأفعال تابعة، كما قلنا في بيع المعاطاة: ينعقد البيع بما يدل على الرضا وإن تعاطى الكل فنحن نقول: إن الأفعال تابعة وليست بأصل في هذا، وأيَّاً ما كان فإن المحجور عليه يمنع من التصرف في قوله لا في فعله.
أما بالنسبة للفعل المبني على القول كأن يهدي السيارة، أو جاءه مسكين فأعطاه، فإنه لا يصح هذا الإعطاء، ولا تصح هبته ولا تصح صدقته كذلك، فلا يُتَصَدَّق بمال اليتيم، وهناك خطأ تقع فيه بعض الأمهات -أصلحهن الله- أنه إذا توفي زوجها وترك إرثاً لأولادها وكانوا أيتاماً، وأرادت أن تتصدق عن الزوج بحكم العاطفة والمحبة، وهي مأجورة على هذا الشعور؛ لكن تأتي إلى مال اليتيم وتتصدق منه وتقول: هذا لأبيهم؛ وهذا خطأ؛ لأنها جُعِلَت ناظرة على مالهم وحاضنة لهم وقائمة على المال لمصلحة المال لا لضرره، وكذلك الولي لو قال: أريد أن أتصدق على نية اليتيم، فلا ينفذ ذلك التصدق ولا يصح، وعليه أن يضمن جميع المال، وإذا بلغ اليتيم يلزمه القاضي بإحضار المال كله.
فينبغي أن يُفهم أن التصرف يمنع لمصلحة المحجور عليه، وتحقيقاً لمقصود الشرع من الرفق بالناس، حتى لا يسترسل من لا يحسن النظر في ماله في الإضرار بنفسه
‌‌حكم بيع الحيوانات المحنطة

‌‌السؤال
ما حكم بيع الحيوانات المحنطة، أثابكم الله؟


‌‌الجواب
الحيوان المحنط له حالتان: الحالة الأولى: أن يذكى ذكاة شرعية ثم يحنط، فإذا ذكي الذكاة الشرعية ثم حنط وبيع، وكان في بيعه منفعة؛ كالتعليم، أو شيء يحتاج إليه، فحينئذٍ لا إشكال، وله وجه من الجواز، ومن قال بالجواز فقوله له أساس من النظر.
الحالة الثانية: إذا كان الحيوان لم يذك، أو كان من جنس ما لا يذكى، فإنه إذا حنط فلا يجوز بيعه ولا شراؤه؛ لأنه ميتة، وقد جاء في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: (إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة، والخنزير، والأصنام)، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع الميتة، والحيوان المحنط غير المذكى ميتة.
ثم إننا لو تأملنا لوجدنا أن هذا الحيوان المحنط والذي يُشترى بمائة أو بمائتين أو بخمسمائة، وبعض الحيوانات النادرة إذا حنطت بطريقة ما فإن قيمتها قد تصل إلى الألف، وهذه الألف الريال قد تغني عشرة بيوت من فقراء المسلمين اليوم واليومين؛ بل إنه قد تكون عليهم فضلة في الأسبوع لو أنهم أحسنوا النظر، فكيف تذهب هدراً في لقاء حيوان محنط وميتة؟! وهذا كله ينبغي أن ينظر فيه المسلم، وأن يعلم أن الله سائله، وأنه -كما في الحديث-: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: وذكر منها: وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه).
فالحيوان المحنط الذي فيه منفعة؛ كمصلحة تعليم الطب، أو تعليم الأشياء التي يحتاج إلى تعلمها، وتوجد مصالح للعامة في تعلمها، فإن بيعها وشراءها بعد تحقق الشروط التي ذكرناها جائز شرعاً إذا ذكيت الذكاة المعتبرة شرعاً، وأما بغير ذلك فإنها تعتبر ميتة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #275  
قديم 19-03-2023, 04:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (270)

صـــــ(1) إلى صــ(17)



شرح زاد المستقنع -‌‌ كتاب البيع [4]
الأصل في العين الطاهرة المباحة جواز بيعها، إلا ما استثناه الشرع فحرم بيعه، لنجاسته أو انتفاء المنفعة المقصودة منه، أو غير ذلك.
وفي هذه المستثنيات أحكام وتفاصيل وتفريعات وخلافات ينبغي معرفتها لمن يريد أن يستبرئ لدينه ومعاملاته
‌‌ما يحرم بيعه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة، كالبغل والحمار ودود القزِّ وبزره، والفيل، وسباع البهائم التي تصلح للصيد]، ثم استثنى فقال: [إلاّ الكلب، والحشرات، والمصحف، والميتة].
فشرع المصنف رحمه الله في بيان ما يستثنى من المبيعات، وهذه المبيعات التي تستثنى حُكم بحرمة بيعها، وقد بيّن لنا ما فيه منافع مباحة، وذكر الأمثلة على ذلك، وقد ذكر أمثلتها من الحيوانات والحشرات، فلما فرغ من بيان المباح شرع في بيان غير المباح.
وإذا حكم بعدم جواز البيع للعين، فذلك إمّا أن يكون السبب نجاسة العين، وإمّا أن يكون السبب استثناء من الشرع لهذه العين، فحكم بعدم جواز بيعها، وإمّا أن يكون استنباطاً فهمه الفقيه من خلال نصوص الشرع، أو كان فيه أثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم باستثنائه.
ولا بد أن نقعِّد قاعدة وهي: (أن الأصل في الأعيان الطاهرة أنه يجوز بيعها)، فلو سُئلت عن بيع القماش ف

‌‌الجواب
هذه عين طاهرة فالأصل جواز بيعها، وإذا سُئلت عن بيع الخشب قلت: هذه عين طاهرة الأصل جواز بيعها، وإذا سُئلت عن جواز بيع الحديد والنحاس والنيكل والألمنيوم وغيرها من سائر المبيعات والأعيان الطاهرة فقل: هذه أعيان طاهرة يجوز بيعها.
فالمصنف رحمه الله بعد أن بيّن لنا ما فيه منفعة مباحة شرع في الاستثناء، وإذا استثنيت الأعيان التي فيها منافع مباحة، فإنها: إمّا أن تستثني لورود نص من الشرع، فتقول: الشرع قال هذه العين لا تباع.
وإما أن تستثني نظراً إلى المنفعة الموجودة في هذه العين لا يلتفت إليها الشرع، أي: لا يقيم لها وزناً لأنها غير مقصودة، فإذا لم يقم الشرع لهذه المنفعة قيمة، فمعنى ذلك أنه لا يجوز دفع المال في مقابلها؛ لأنك إذا دفعت المال لقاء الشيء الذي لا قيمة له فهو من السرف الذي نهى الشرع عنه، ومن السفه الذي لا يليق بالمسلم أن يتعاطاه ويفعله؛ لأنه من إضاعة المال.
وإمّا أن تكون العين نجسة، فإذا كانت العين نجسة، وهي قسمان: النجاسة في الحيوانات، والنجاسة في غير الحيوانات، فلنأخذ هذه الأربعة الأقسام: - فأمّا ما استثني من الشرع، أي: ما كان أصله مباحاً ثم استثني، فإنه يشمل نوعين: الكلب والحشرات، فإن الأصل في الحيوانات جواز البيع؛ لأن الله سخرها لمنافع يُحصّلها الآدمي، وخلقها الله من أجل أن ينتفع بها الآدمي، فالأصل في منافعها الموجودة فيها أن الآدمي يرتفق بها، فلو دفع المال لقاءها فقد حصّل مقصود الشرع.
فالإبل -مثلاً- جعل الله فيها منفعة الركوب، وجعل الله فيها منفعة الأكل من لحمها، وجعل الله فيها منفعة الصوف وما يكون عليها من الوبر، وجعل فيها منفعة حمل الأثقال، فإذا جئت تشتري الإبل لقاء هذه المنافع فأنت تدفع المال لقاء منفعة مقصودة معتبرةٍ شرعاً.
إذاً: الحيوانات في الأصل سخرّها الله لمنافع للآدمي؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، سخرَّه كلَّه لابن آدم؛ تكريماً وتشريفاً لهذا الآدمي حتى يحمده سبحانه ويشكره على ما أسدى، وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13].
فالله عز وجل جعل لنا هذه الأعيان لننتفع بما فيها ونرتفق بتلك المنافع.
فإذاً نضع قاعدة وهي: أن الحيوانات الأصل أنه يجوز بيعها لمنافعها، فتقول: استثني من الحيوانات الأحياء نوعان؛ لأن الحيوان: إمّا حيّ، وإمّا ميت، فاستثني الحيوان الذي ورد النص بتحريم بيعه وهو الكلب، كما جاء في الأحاديث الثابتة في الصحيحين وفي غيرهما عن عقبة بن عامر البدري وعن جابر بن عبد الله ورافع بن خديج وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع، وكلها أحاديث صحيحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ثمن الكلب، وحرم بيعه.
إذاً نقول: الأصل في الحيوانات جواز بيعها؛ لكن يستثنى الكلب فلا يجوز بيعه.
وفيه خلاف سنذكره، وهذا النوع الأول.
والنوع الثاني: يُستثنى الحشرات؛ لأن الحشرات ليست فيها منفعة مقصودة، فهي لا تؤكل، ولا يُنتفع بها انتفاعاً مقصوداً، وهذا في الزمن القديم؛ لكن لو احتيج إلى نوع خاص، وهي الحشرات التي كانوا يستخدمونها عُلقاً للدم، أي: كان الأطباء يستخدمون نوعاً من الحشرات في الجروح الملوثة، يُدخلون فيها هذا النوع فيسحب الجراثيم الموجودة، ثم تُرفع هذه العلق الموجودة وعليها الجراثيم الموجودة فيتنظف الجرح، وهذا مما علمه الله عز وجل ابن آدم دفعاً لمفسدة الجرح وضرره على البدن.
فهذا النوع من العلق لو بيع جاز بيعه؛ لأن درء مفسدة المرض مقصودة شرعاً.
كذلك أيضاً: لو أنك اشتريت حشرات تريدها غذاءً للطيور فإنه يجوز؛ لأن حياة الطير مقصودة، ومنفعتك من بقاء الطير مقصودة.
أو اشتريت حشرات طعاماً للأسماك فيجوز.
المقصود: أن الحشرات من حيث النظرة الغالبة فيها أنه ليس فيها منفعة؛ لكن كونها في بعض الأحيان تستثنى فإنه يستثنى منها بقدر، فالعلماء يقولون: (والحشرات)، فجمعوا لنا بين صنفين: الكلب والحشرات.
وهنا

‌‌السؤال
لماذا قدّم المصنف الكلب وأخّر الحشرات؟ الجواب: لأن النص الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحريم في الكلب أقوى منه في الحشرات، فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الحشرات؛ لكن العلة في تحريم بيع الحشرات أن تقول: أحرمها لأنه لا منفعة فيها، ودفع المال لقاءها سفه، وقد نهى الله عز وجل عن السفه وقال: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء:5]، فجعل السفه صفةً موجبةً للحجر، وذلك يدلُّ على حرمة إضاعة المال.
إذاً عندنا نوعان: النوع الأول: الكلاب.
والنوع الثاني: الحشرات.
بعد هذا عندنا شيء يستثنى لمعنى قريب من معنى الحشرات: وهو أن تكون المنفعة التي تقصد قد منع الشرع من بيعها مع أن المنفعة موجودة في العين، كالمصحف؛ فإنه لا يجوز للمسلم أن يبيع كلام الله على أنه يأخذ الثمن لقاء هذا، أي: كمكافأة على كتاب الله عز وجل وكلامه، حتى قالوا في العلم والتدريس ونحو ذلك: إذا قصد أن تكون قيمةً لكلامه، فلا يجوز.
لكن من حيث الأصل؛ حينما تنظر إلى ورق الكتاب الذي فيه المصحف وفيه كلام الله تجد أنه مما يجوز بيعه، فالكتاب بذاته يجوز بيعه؛ لكن لما كان المقصود من الكتاب قراءة ما فيه من الآيات، وكأن أمرها مغلظاً وحرمتها عظيمة، وليست من الأعراض التي تباع، بحيث يجعلها الإنسان ممتهنة مبتذلةً للبيع، فلذلك تقول: أمنعها لهذا المعنى.
وهذا المعنى يلتفت فيه إلى المنفعة؛ لأن المقصود من المصحف -الأوراق- كلام الله عز وجل، والمقصود من كلام الله الاهتداء، والاهتداء لا يؤخذ عليه أجر: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57].
وقال الله عز وجل عن أنبيائه نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب ولوط عليهم السلام؛ كلهم قالوا كما في سورة الشعراء: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلَاّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109].
فنفى سبحانه أن تكون الرسالة لقاء مال أو لقاء عرضٍ من الدنيا، والقرآن هو رسالة الله عز وجل إلى خلقه، فهو كلام الله عز وجل الذي تكلم به سبحانه وأوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الكلام لا يجوز لأحد أن يبيع نفس الكلام قاصداً بيع الكلام نفسه؛ لأن مثله أعظم وأجل من أن يباع.
فإذا ثبت هذا فإننا إنما نظرنا إلى جهة المنفعة، وهذا من الناحية الفقهية ومن ناحية الاصطلاح الذي رتبناه وذكرناه.
فذكر المصنف رحمه الله بيع المصاحف بعد الحشرات من جهة المنفعة، فإن الحشرات منفعتها غير مقصودة، والمصاحف المنفعة منها أن يهتدي الخلق بكلام الله عز وجل، وهذه الهداية لا تباع ولا تُشترى، وليست محلاً للبيع والشراء.
بقي النوع الأخير وهو الميتة والنجاسات: فالميتة والنجاسات ورد فيها النص، ولها أصول معينة سنتكلم عليها، فاستثنى المصنف رحمه الله هذه التي نصّ عليها: (إلاّ الكلب، والحشرات، والمصحف، والميتة).
فقدم الكلب؛ لأن النصّ في تحريمه صحيح صريح، وهو حديث الصحيحين.
ثم أتبع الكلب بجنسه وهي الحشرات لأنها لا منفعة فيها، ثم أتبع بالمصاحف؛ والسبب في هذا أن دليل تحريم المصاحف أضعف من دليل تحريم بيع الكلاب، وكذلك بيع الحشرات؛ لأنه إنما أُثر عن بعض الصحابة وهو عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وأتبع بالميتة؛ لأن لها تفصيلات في أنواع النجس والمتنجس، وسنذكرها إن شاء الله
‌‌حكم بيع الكلب وذكر أنواعه
‌‌شروط الكلب المعلم

أولاً: الكلب، وينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما فيه منفعة مأذون بها شرعاً، وهو كلب الصيد والحرث والماشية، فجعل الله الكلب للصيد رفقاً بالناس، ولا يكون الكلب كلب صيد إلا إذا توفرت فيه ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يشليه فينشلي.
الشرط الثاني: أن يدعوه فيجيب.
الشرط الثالث: أن يزجره فينزجر.

ومعنى (أن يشليه فينشلي) أي: يحرشه على الفريسة، فيكون بينه وبين الكلب صوت معين، فإذا صاح به انطلق الكلب على الفريسة، بحيث يكون الكلب جالساً، حتى لو مرت الفريسة من أمامه لا يتحرك من طاعته وتعلمه، ولا يمكن أن يرتسل إلى الفريسة إلاّ بإذن سيده، فإذا أشار سيده إلى الفريسة ذهب ليأتي بها، وإذا أشار له إلى قطعة قماش ذهب ليأتي بها.
والإشلاء في لغة العرب يطلق بمعنى: التحريش، ويطلق بمعنى الدعوة، أي أنه من الأضداد؛ فمعناه: أن تدفع الشيء وأن تدعو الشيء، ومن هنا ورد استخدامه بمعنى التحريش، ومنه قول الشاعر: أَتَيْنَا أَبا عَمْرٍو فَأَشْلَى كِلَابَهُ عَلَيْنَا فَكِدْنَا بَيْنَ بَيْتَيْهِ نُؤْكَلُ فهذا رجل بخيل جاءه أصحابه للزيارة، فإذا به خاف من كلفة الضيافة، فأشلى عليهم الكلاب، فقال قائلهم: أَتَيْنَا أَبا عَمْرٍو فَأَشْلَى كِلَابَهُ عَلَيْنَا فَكِدْنَا بَيْنَ بَيْتَيْهِ نُؤْكَلُ (فأشلى) أي: حرّش الكلاب علينا.
ويستعمل الإشلاء بمعنى الدعوة، ومنه قول الشاعر: أَشْلَيْتُ عَنْزِيْ وَمَسَحْتُ قعبي ثُمَّ انْثَنَيْتُ وَشَرِبْتُ قَأْبِيْ (أشليت عنزي) أي: دعوتها، يناديها حتى تأتي، (ومسحت قعبي) القعب: هو القدر الذي يريد أن يحلب فيه الإناء؛ لأنه يريد أن يحلب.
(ثم انثنيت) أي: بعد ما حلبتها، (وشربت قأبي)، يقال: (قبّه) إذا لم يُبْقِ فيه شيئاً، هذا معنى البيت.
الشاهد: استخدام الإشلاء بمعنى الدعوة.
إذاً الإشلاء إذا ذكره العلماء فيقصدون به التحريش، ويقصدون به الدعوة، وهذان شرطان لا بد وأن يوجدا في الكلب.
لكن متى يكون الكلب كلب صيد حتى يجوز لك بيعه -إذا قيل: بجواز بيعه عند من يستثنيه - ويجوز لك أكل صيده؟ يشترط أن تشليه ثلاث مرات ويطيعك، وتزجره ثلاث مرات ويطيعك، وتدعوه ثلاث مرات ويطيعك، فمثلاً: رميت شيئاً فحرشته عليه فذهب وجاء به، ثم رميت شيئاً آخر فذهب وجاء به، ثم رميت قطعة لحم مثلاً فذهب وجاء بها، فهذه ثلاث مرات، إذاً: تم الشرط الأول وهو الإشلاء أو التحريش.
بعد ذلك تنتقل للشرط الثاني: وهو أن يكون في مكان ثم تدعوه فيأتيك، ثم تتركه ساعة أو نصف ساعة أو قدراً من الزمن ثم تدعوه بالصوت نفسه فيأتيك، ثم المرة الثالثة فيأتيك، فإذا جاءك ثلاث مرات انطبق الشرط الثاني: وهو أن تدعوه فيجيب.
ثم بعد ذلك تنتقل للشرط الثالث وهو: أن تزجره فينزجر، كأن تضع أمامه قطعة لحم، فيأكل منها، فتصيح عليه صيحة معينة فيكف ويقف، فإذا فعلها المرة الأولى والمرة الثانية والمرة الثالثة تحقق الشرط الثالث.
فلو سنح لك ظبي فأرسلته وذكرت اسم الله، فصاده، وجاء به ميتاً من صيده حلَّ لك أكله؛ لأنه قد انطبقت الشروط الثلاثة بالتعليم ثلاث مرات.
وبعض الأحيان قد لا يأخذ تعليم الكلب إلا نصف ساعة، أو ساعة إلا ربع، وهذا يختلف بحسب نوعية الكلب المعلّم، وطريقة التعليم، وطبيعته في استجابته للإنسان، وحبّه أن يكون تحت يده وتحت سلطانه.
وكذلك في كلب الحرث، وكلب الماشية، هذه الثلاثة أذن الشرع بها.
القسم الثاني: الكلاب المطلقة
‌‌أقوال العلماء في بيع الكلاب وأدلتهم

اختلف العلماء هل يجوز بيع الكلب، أو لا يجوز؟ وذلك على أقوال: القول الأول: لا يجوز بيع الكلب مطلقاً، وهذا القول هو مذهب التحريم المطلق، وبهذا القول قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مرويٌّ عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وقال به بعض التابعين: كـ الحسن البصري وحماد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وكذلك قال به ربيعة الرأي والأوزاعي فقيه الشام، وهو مذهب المالكية في المشهور، والشافعية والحنابلة وأهل الحديث والظاهرية.
وتستطيع أن تقول: مذهب الجمهور أنه لا يجوز بيع الكلب مطلقاً، سواء كان كلب صيدٍ، أو حرثٍ، أو ماشيةٍ، أو كلباً مطلقاً، سواءً كان كلباً صغيراً، أو كلباً كبيراً، ولا يجوز دفع المال لقاء الكلب.
القول الثاني: أنه يجوز بيع الكلب مطلقاً، أي: عكس القول الأول تماماً، وهذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أنه يجوز بيع الكلب مطلقاً سواءً كان كلب صيدٍ، أو ماشية، أو حرثٍ، وسواء كان كلباً صغيراً، أو كبيراً، فيجوز أن تبيعه لما فيه من المنافع.
القول الثالث: يجوز بيع الكلب إلاّ الكلب العقور، فيوافق القول الثاني؛ لكن يستثنى الكلب العقور، وهو الذي يهجم على الناس ويؤذيهم ويقطع عليهم طرقهم، فكلما أرادوا قضاء مصالحهم آذاهم وتحرّش بهم، وهذا النوع من الكلاب استثناه القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله.
القول الرابع: لا يجوز بيع الكلب إلاّ كلب الصيد والماشية والزرع التي هي الكلاب المرخص بها، وهذا القول مأثور عن بعض الصحابة، قال به جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك قال به إبراهيم النخعي، وزيد بن علي بن الحسين الفقيه المشهور.
القول الخامس: وهو في مذهب الإمام مالك رحمه الله: يجوز بيع الكلب لمن يأكله؛ أي: لمن يريد أن يأكله، لأن هناك قولاً في مذهب الإمام مالك أنه يجوز أكل الكلب؛ لأنه طاهر.
والمالكية يرون أن الكلب طاهر، ويستدلون على طهارته بجواز أكل صيده، قالوا: ولو كان غير طاهر لما حلَّ أكل صيده؛ لأنه ينهش بفمه، فلو كان نجساً لما حلَّ أكله.
قالوا: وأمّا الأمر بغسل الإناء سبعاً منه فهذا أمرٌ تعبدي، ولو كان للنجاسة لكان ثلاثاً، وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطهارة، وبيّنا أن الصحيح أن الكلب نجس العين.
فالحاصل أنه على الرواية التي تقول إن الكلب يجوز أكله، يجوز بيعه لمن يأكله؛ لأنه إذا اشتراه من أجل الأكل فإنها منفعة مقصودة، وليس مراده أن يبقيه، وهذا عند أصحاب الإمام مالك رحمه الله، وهي من مفردات مذهب المالكية، ولذلك يقول الزمخشري -عامله الله بما يستحق-: وإن مالكي قلت قالوا بأنني أبيح لهم لحم الكلاب وهمْ همُ إذاً: عندنا خمسة أقوال: قولٌ بالتحريم، وقولٌ بالجواز، وقولٌ باستثناء الكلب العقور من الجواز، وقولٌ بالتحريم باستثناء كلب الصيد والحرث والماشية من التحريم، وقول بجواز البيع لمن يريد أن يأكله.
فأما الذين قالوا بالتحريم المطلق فاحتجوا بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولها: حديث عقبة بن عامر البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب سحت)، وهذا حديث متفق عليه، ووجه الدلالة منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ثمن الكلب سحتاً، والسحت حرام، فلا يجوز بيع الكلاب، وأثمانها محرمة.
الدليل الثاني: حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه، وهو في الصحيح أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب خبيث)، فهذا الحديث الصحيح نصَّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ثمن الكلب خبيث، ومعنى ذلك أن ثمن الكلب محرم؛ لأن الله حرم على هذه الأمة الخبائث، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الثمن بكونه خبيثاً، إذاً فالبيع محرم، وهذا هو مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من وصفه بالخبث.
الدليل الثالث: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح مسلم: أنه لما سُئل عن بيع الكلب والسِّنَور قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه) والسنور: هو القط، ويطلق على القط البرَّي والقط الأهلي المستأنس.
فأمّا القط البرّي المتوحش فهذا يفسد الزرع، ويعدو على الدجاج وعلى الطيور، ويؤذي بني آدم، وإذا خلا بالإنسان فإنه يؤذيه، وقد يتغذى بالخبائث، ويؤذي الطريق كثيراً، فهذا النوع هو الذي قصده جابر عندما قيل له: (والسنور).
أمّا القط الأهلي فقد نقل الإجماع على جواز بيعه، وجماهير العلماء على جواز بيعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات).
الشاهد: أنه قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، أي: الكلب، وهي صيغة من صيغ التحريم عند الأصوليين، والزجر عن الشيء الطرد والإبعاد عنه، فمعنى ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن هذا الشيء، ولا يزجر إلاّ عن حرام.
الدليل الرابع: حديث عبد الله بن عباس في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لما نهى عن ثمن الكلب: (فإن جاءك يريد ماله فاملأ كفه تراباً) أي: إذا جاء يريد أخذ قيمة الكلب فاملأ كفه تراباً، وهذا يدل على حرمة ثمن الكلب، وأنه لا قيمة له، وعلى هذا قال الجمهور: لا يجوز بيع الكلاب مطلقاً.
وقالوا: هذه الأحاديث حينما تأملناها ونظرنا فيها وجدناها لم تفرق بين كلبٍ وآخر، ولم تفرق بين حالةٍ وأخرى، فهي عامة في الكلاب ومطلقة في الأحوال.
عامة في الكلاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الكلب الصغير (الجرو) ولا الكبير، ولم يفرق أيضاً بين كلب الماشية والحرث والصيد وغيرها، وإنما عمم: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم)، (نهى النبي صلى الله عليه وسلم)، (ثمن الكلب خبيث)، (ثمن الكلب سحت)، وهذا كله عام.
وكذلك في الأحوال: لأنك إذا قلت: أريده لحالة معينة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في حالة دون أخرى.
أدلة القول الثاني: الذين قالوا بجواز البيع مطلقاً وهم الحنفية فقد استدلوا: بأن الكلب مال، والقاعدة عندهم: أنه يجوز بيع المال، والأصل جواز بيع الأموال.
والمال عندهم كل شيء فيه منفعة، فيقولون: الكلب كسائر الأموال، ففيه منفعة الصيد، ومنفعة حراسة الحرث والماشية، فلما كانت هذه المنفعة موجودة فيه وهي مقصودة شرعاً، فإنه يجوز أن تبيعه وتأخذ القيمة لقاء هذا الشيء الذي هو فيه من المنافع، وهذا دليل عقلي.
القول الثالث: الذين يوافقون القول الثاني لكنهم يستثنون الكلب العقور؛ قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله كما في الصحيحين: (خمسٌ يقتلنَّ في الحلَّ والحرم، وذكر منها: الكلب العقور).
القول الرابع: الذي استثنى كلب الصيد والماشية والزرع، وهو قول جابر بن عبد الله وإبراهيم النخعي وزيد بن علي رحم الله الجميع.
يقولون: دليلنا ما جاء في حديث أبي داود والنسائي والترمذي والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب إلاّ الضَّارِيَ سحتٌ) وفي رواية: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب إلاّ كلب الصيد) قالوا: هذا الحديث يدلُّ على استثناء الكلب الضَّارِيَ وكلب الصيد، وإنما خرجا لمنفعة مخصوصة أُذن بها وهي منفعة الصيد، فنقيس عليها منفعة حراسة الحرث وحراسة الماشية.
القول الخامس والأخير: وهو مذهب الذين قالوا بجواز البيع لمن يأكله، وهم يقولون: إنه طاهر العين مباح المنافع، فيجوز بيعه لهذه المنفعة المباحة وهي أكله.
قيل لهم: الشرع نهى عن اتخاذ الكلاب، قالوا: هذا لا يتخذه؛ لأنه يريد أن يأكله، فحينئذٍ يأخذه ويذبحه مباشرة، فليس هناك اتخاذ محرم
‌‌القول الراجح في حكم بيع الكلاب
والذي يترجح في نظري من هذه الأقوال: القول بالتحريم مطلقاً، لعدة أسباب: أولاً: لصحة دلالة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحريم، ودلالتها واضحة وصريحة، ولم تفرق بين نوع وآخر.
ثانياً: أمّا قول الحنفية بأن الكلب مال، فنجيب عنه من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم صحة هذا الدليل العقلي؛ لأن الكلب ليس بمالٍ من كل وجه، وإنما هو مال في أشياء معينة مخصوصة جاءت على سبيل الرخصة، فلا يجوز التوسع فيها، لأنك إذا قلت: إنه جاز للصيد وجاز للحرث والماشية، وقلت: يجوز بيعه لأن فيه هذه المنافع؛ فمعنى ذلك أنه جاز للصيد والحرث والماشية والبيع، فتزيد على استثناء الشرع، والشرع إنما استثنى ثلاثة أحوال: أن تجعله لحراسة حرث، أو ماشية، أو تصيد به.
فإذا جاء يبيعه فمعنى ذلك أنه أصبح هناك منفعة رابعة وهي منفعة البيع، فهذا دليل عقلي يعارض الأصل الشرعي، فنقول: إن قولكم: إن فيه منفعة، لا نسلم لكم أن فيه منفعة من كل وجه، ففيه منفعة مخصوصة مرخص فيها ينبغي التقيد بها؛ لأن ما جاء على خلاف الأصل ينبغي أن يتقيد به بالنص الوارد: فالأصل عدم جواز اتخاذ الكلب، وتقيد بهذه الثلاثة الأحوال، فيجوز لمن يريد اتخاذه أن يتخذه على هذه الثلاثة الأحوال المعينة.
أمّا الوجه الثاني فنقول: سلمنا جدلاً أن هذا الدليل العقلي صحيح، وهو أن الكلب مال وفيه منفعة؛ لكننا نقول: هذا اجتهاد مع النصّ، والقاعدة: (لا اجتهاد مع النص).
أي: هذا وجه من القياس نسلم به ونقول: هو من ناحية الشكل صحيح لكنه معارضٌ للنص، والقاعدة: أن القياس يقدح فيه من أربعة عشر وجهاً يسمونها قوادح القياس.
وقد ذكرها العلماء رحمهم الله في مبحث العلة في الأصول، وبينوا أوجه نقض القياس، ومنها: فساد الاعتبار، وهو أن يأتي المجتهد ويقيس شيئاً على شيء، فيحكم بالجواز في شيء ورد النص بتحريمه، فتقول: الكلب مال يجوز بيعه كسائر الأموال بجامع وجود المنفعة في كلٍ، وهذا قياس صحيح من ناحية الشكل وأركانه موجودة؛ ولكنه قياس مصادم للنص، والقاعدة: أنه لا اجتهاد مع النص، وهذا القادح يسمونه (قادح فساد الاعتبار)، أي: فسد اعتبار هذا القياس، وليس له قيمة ما دام أنه صادم النص من الكتاب والسنة.
أمّا القول الثالث: الذي استثنى كلب الصيد، فاستثنوا للحديث الذي ذكرناه، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في استثناء الكلب الضاري.
وهذا الحديث نجيب عنه من وجهين: الوجه الأول: من جهة السند.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #276  
قديم 19-03-2023, 04:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (271)

صـــــ(1) إلى صــ(17)



الوجه الثاني: من جهة المتن.
أمّا من جهة السند فهو حديث ضعيف، قال النسائي: إنه منكر، وكذلك ضعفه الإمام أحمد والإمام الترمذي رحمهم الله وهم أئمة الشأن، فقالوا: إنه حديث ضعيف؛ لأنه من رواية الحسين بن أبي جعفر الكرابيسي، وهو ضعيف الرواية، بل جزم النسائي رحمه الله بأنه منكر الرواية.
ولو سلمنا صحة هذا الحديث من ناحية كونه حسناً لغيره بالطرق، أو أن السند قابل للتحسين فإننا نقول: عارضه ما هو أصح فيقدم؛ لأن الحسن لا يحتج به إذا عارض ما هو صحيح، ولذلك يقولون في الحسن: وَهوَ فِي الْحُجَّةِ كَالصَّحِيْحِ وَدُوْنَهِ إِنْ صِيْرَ للتَّرْجِيْح أي: لا يمكن أن تصادم حديثاً صحيحاً بحديث حسن، وفائدة تقسيم العلماء الحديث إلى صحيح وحسن هو: أنها إذا تعارضت قدم الصحيح على الحسن.
ثم إن الصحيح قسموه إلى صحيح لذاته وصحيح لغيره؛ لكي يقدم الصحيح لذاته على الصحيح لغيره، وكذلك الحسن لذاته على الحسن لغيره إلى آخر مما هو مقرر في علم مصطلح الحديث.
وأما الجواب على المتن: فلو سلمنا فرضاً أن الحديث صحيح من جهة السند؛ لكن من جهة المتن نقول: قوله: (نهى عن ثمن الكلب إلاّ الكلب الضَّارِيَ) (إلاّ) هنا بمعنى العطف (الواو)، وهذه لغة من لغات العرب وهو أنهم يستعملون حرف الاستثناء (إلاّ) بمعنى العطف، وحملوا عليها قوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] فقوله: (إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ) أي: ولا ما قد سلف، ويكون المعنى: أي: لا تبقوهن ولا تستديموا نكاحهن.
ومنه أيضاً قوله سبحانه وتعالى، وهو وجه ذكره ابن العربي في أحكام القرآن في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَاّ خَطَأً} [النساء:92] أي: (ولا خطأ) بمعنى: أنه لا يتعاطى أسباب التفريط، فمثلاً: لو جاء إلى موضع يريد أن يصيد فيه، وهو يعلم أنه هذا الموضع فيه أناسٌ يرعون، أو فيه خيام لأناس نازلين بهذا المكان، وبمجرد أن يرى فريسة يرميها، فلا يجوز، بل ينبغي أن يتحفظ؛ لأن القتل الخطأ هو أن يقتل بدون أن يقصد القتل كأن يرمي صيداً فيصيب آدمياً، فالله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَاّ خَطَأً} [النساء:92] أي: (ولا خطأً)، بمعنى: ألا يتساهل، حتى ولو كان الخطأ معفواً عنه، فلا ينبغي عليه أن يتعاطى أسباب الخطأ، ومنه قول الشاعر: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوْهُ لَعَمْرُ أَبِيْكَ إِلاّ الْفَرْقَدَاْنِ أي: والفرقدان.
وعلى هذا يكون قوله: (نهى عن ثمن الكلب إلاّ الكلب الضاري) أي: والكلب الضاري، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الكلاب، ولو كانت كلاب صيد) تأكيداً في التحريم، ويكون هذا من باب قلب الدليل؛ لأنه إذا كان في الدليل معنيان: معنىً يعارض، ومعنىً يوافق، فينبغي صرف الحديث إلى المعنى الذي يوافق الأحاديث الأخرى، وحينئذٍ نقول: إن الأصحّ من هذه الأقوال هو القول بعدم جواز بيع الكلب مطلقاً
‌‌بيع الحشرات
وقوله: [إلا الكلب والحشرات].
(الحشرات) جمع حشرة، وهي الدويبات المعروفة على اختلاف أنواعها، وغالباً ما تكون صغيرة الحجم، سواءً كانت مما يرى أو كانت مما لا يُرى، فهذا النوع لا يجوز بيعه؛ والسبب في هذا -كما قلنا- أنه ليس في الحشرات منفعة مقصودة.
وعليه: فإنه لو جمع حشرات وأراد أن يبيعها فإن البيع غير صحيح؛ لأنه من باب إضاعة المال، ولا قيمة للحشرات.
لكن كيف تقرر التحريم بالدليل؟ تقول: الأصل أنه لا يجوز أكل المال بالباطل؛ لقوله سبحانه: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29].
ومعنى أكل المال بالباطل أن تأخذ المال بدون وجه حق، أي: بدون استحقاق، فإذا كانت الحشرات لا قيمة لها، وليس فيها منفعة مقصودة، ودفع لشرائها ألف ريال أو مائة ريال أو عشرة ريالات، فإنها أعطيت لغير شيء، وأعطيت لشيء لا قيمة له، فحينئذٍ تكون من أكل المال بالباطل.
لكن إن وجدت فيها منفعة مقصودة كالطعم ونحو ذلك، فحينئذٍ يكون دفع المال لقاء منفعة مقصودة، وأُخذ المال لقاء شيء له قيمة.
إذاً: وجه تحريم بيع الحشرات: أنها إذا كانت خلواً من المنافع وليس فيها منافع مقصودة، فقد خلت وعريت عن القيمة، فدفع المال لقاءها إنما هو من أكل المال بالباطل
‌‌حكم بيع المصحف
قال: [والمصحف].
المصحف اختلف في بيعه، فمذهب الحنابلة على التحريم، وهذا من مفردات مذهب الحنابلة، والجمهور على جوازه، وإن كان الشافعية يكرهون بيعه؛ لذلك يعتبرون هذه المسألة من الفوارق بين الحديث القدسي والقرآن، فبعضهم أوصلها إلى عشرة، ويدخلون فيها منع البيع، وأشار إلى ذلك صاحب الطلعة في قوله: وَمَنْعُ بَيْعِهِ لَدَى ابن حنبل وَكُرْهُهُ لَدَى ابن شافع جَلِيْ (ومنع بيعه) أي: المصحف، (لدى ابن حنبل) أي: عند الإمام أحمد رحمه الله.
(وكرهه) أي: كره البيع، فيصحّ البيع لكن مع الكراهة، (لدى ابن شافع جلي) أي: عند الإمام الشافعي رحمه الله؛ لأنه ابن شافع من بني المطلب بن عبد مناف، فيجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف.
فالتحريم يعتبر من مفردات المذهب الحنبلي؛ لأن الجمهور في هذا النوع الثالث من المستثنيات على جوازه.
واستدل الجمهور بالأصل والأدلة الدالة على جواز البيع، وأمّا ما أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف)، فإن ابن عمر رضي الله عنهما كان شديد الورع، ولذلك كان يشدد في المسائل، حتى قال أبو جعفر المنصور مما يُحكى في موطأ مالك أنه قال له: (اجتنب رخص ابن عباس وتشديدات ابن عمر).
فكان ابن عمر رضي الله عنه يشدد على نفسه وكذلك في فتواه؛ لأنه كان يأخذ بالعزائم، وهذا من ورعه وصلاحه وتقواه، وهناك مسائل معينة انفرد بها، ومنها هذه المسألة، وهي مسألة تحريم بيع المصحف.
لكن الجمهور خرّجوا ذلك فقالوا: يحتمل أن ابن عمر قصد من هذا من يقصد بيع الآيات، ولا يكون قصده انتشار المصحف لنفع المسلمين، ولا قصده بيعه لرواجه، وأخذ الأجر في الآخرة، إنما مطمعه أو مراده أو مقصوده هو المال، ولا شك أن في هذا خوفاً على الإنسان إذا وصل إلى هذه الدرجة.
وفي حكم المصحف بقية كتب العلم والأشرطة إذا باعها الإنسان وكان قصده تجارة الدنيا فقط، ولا يرضى أن يبذلها إلاّ للدنيا.
ويظهر ذلك حينما يأتيه الإنسان المحتاج أو طالب العلم المحتاج يريد أن يشتري الكتاب -مثلاً- بعشرة والكتاب بعشرين أو بخمسة عشر، ويعلم أنه ضعيف اليد، وليس عنده طَوْل، فيصر على أنه لا يبيعه إلا بهذه القيمة مع أنه يجد أرباحاً ويجد عوضاً بالثمن المبذول، فكأنه -والعياذ بالله- يحبس الانتفاع من العلم والانتفاع بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لقاء هذا المال، وهذا شيء خطير.
فينبغي لمن يبيع كتب العلم أو يبيع الأشرطة أن يجعل في حسبانه أن يكون همه الآخرة، وأن يجعل نية الدنيا تبعاً، ولا يجعلها أساساً، وإذا أراد وجه الله عز وجل والدار الآخرة وجعل الدنيا تبعاً فإن الله يأجره ويبارك له في صفقة يمينه، فيحوز خيري الدنيا والآخرة.
فالمقصود: لعل ابن عمر رضي الله عنهما قصد: من يفعل ذلك لا للآخرة وإنما للدنيا
‌‌الميتة وأنواعها وحكم بيعها
قال رحمه الله: [والميتة].
الميتة: هي كل حيوان مات حتف أنفه، أي: بغير ذكاة شرعية.
والميتة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون ميتة الآدمي.
القسم الثاني: أن تكون ميتة غير الآدمي
‌‌ميتة الآدمي

أمّا ميتة الآدمي فإنه لا يجوز بيع الآدمي لا حيَّاً ولا ميتاً، وهذا بالنسبة لبيعه بدون ملك اليمين؛ لأنه قد استثناه الشرع؛ لكن أن يباع الحر، فهذا مما ورد فيه الوعيد الشديد؛ ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجلٌ أُعطي بي ثم غدر، ورجلٌ باع حراً ثم أكل ثمنه.
الحديث)، فهذا يدل على الوعيد الشديد في بيع الآدمي الحر.
فالأصل أنه لا يجوز بيع الآدمي لا حيّاً ولا ميتاً إلاّ ما استثناه الشرع من بيع الرقيق، والرق سببه الكفر، وله ضوابط سنذكرها إن شاء الله في الأبواب الآتية في المعاملات.
إذا ثبت أنه لا يجوز بيع الآدمي فكذلك لا يجوز بيع أعضائه، فلا يجوز بيع اليد، ولا بيع الكلية، ولا بيع القرنية، ولا بيع الأجزاء ولو قصد نقلها إلى شخص آخر؛ لأن البيع مفرع على الملكية، والآدمي لا يملك نفسه؛ لأننا إذا قلنا: إن البيع شرعي فمعناه أن تكون مالكاً لما تبيع، والآدمي لا يملك نفسه، قال الإمام ابن حزم رحمه الله: أجمع العلماء على أن الآدمي لا يملك نفسه.
وإنما هي ملكٌ لله عز وجل، أذن الله للمرء أن يحفظ هذه النفس، وأن يسعى في صلاحها، فيفلح من زكاها، ويخيب من دسَّاها.
فإذا كتب الله للإنسان هذه النفس وكتب له الحياة فعليه أن يحافظ عليها، وينتفع بما جعل الله فيها من المصالح، فلا يتصرف فيها بشيء إلا بما أذن له الشرع، حتى لو أتلف جزءاً من نفسه لمصلحة البدن كله، فإنه على خطأ إلا فيما يستثنى، ومن ذلك حديث الطفيل بن عمرو لما هاجر ابن عمه معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خرج إلى الغزو، فجرح فاستعجل الموت، وضاقت عليه نفسه فقطع براجمه، فنزف ومات، فلما توفي رآه الطفيل فقال: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، قال: وما في يدك؟ وإذا به كأن على يده شيئاً، قال: قال الله لي: لن نصلح منك ما أفسدت من نفسك، قال: فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - والحديث في مسلم - فقصصت له ما كان منه، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم وليده فاغفر، اللهم وليده فاغفر، اللهم وليده فاغفر)، الشاهد: أن الله قال له: (لن نصلح منك ما أفسدت من نفسك)، فإنه قطع براجمه من أجل أن يرفق بنفسه، فكيف بمن يقطعها رفقاً بالغير.
إذاً: لا يملك الآدمي التصرف في نفسه، فهذا الجسد وضعه الله أمانة عند الإنسان، لا يجوز أن يقدم على شيء إلا في أحوال مخصوصة كأن تأتيه (غرغرينة)، أو يأتيه تسممُّ في يدٍ ويقطعها، فهذا مستثنى؛ لأنه استصلاح للجسد كله، وليس استعجالاً للموت كما جاء في حديث الطفيل؛ وإنما هو قطع لإبقاء، كما يكسر من السفينة لوح لنجاة كل السفينة.
فهذا أصل: وهو إتلاف البعض لاستبقاء الكل، وقد قرره العلماء في المذاهب كلها: المالكية والشافعية والحنفية والحنابلة، وذكروا: أنه يجوز قطع الجزء لاستبقاء الكل، وذكروا هذا في أموال اليتامى وغيرها، فحينئذٍ إذا أراد أن يقطع جزءاً منه لخوف التسمم أو نحو ذلك فلا بأس، لكن لو أتى مثلاً يخرج (اللوز) خوفاً أن تلتهب فليس من حقه؛ لأن الله لم يخلق هذه (اللوز) في الجسد عبثاً؛ لكن لو أنها تسممت وخيف على البدن جاز إخراجها، أمّا أن يكون إجراءً احتياطياً ونقول: نخشى أن يقع أو يحدث فلا يجوز؛ لأن الأصل عدم جواز التصرف في بدن الإنسان، فتتفرع جميع المسائل في الهبات والتبرعات ونحوها على هذا الأصل.
إذا ثبت هذا فإننا نقول: لا يجوز بيع الآدمي حيّاً ولا ميتاً، ولا يجوز بيع أعضائه سواءً كان حيّاً أو ميتاً
‌‌ميتة غير الآدمي
يبقى النظر في ميتة غير الآدمي، فنقول: ميتة غير الآدمي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما كان برّياً.
القسم الثاني: ما كان بحرياً.
القسم الثالث: ما كان برمائياً أي: برّياً بحرياً
‌‌ميتة البر

فأما ما كان برياً: فكشاة ماتت بدون ذكاة، فهذه ميتة بر، ويستوي في ميتة البر ما يكون من الزواحف أو يكون من الطيور كالعصفور الذي يموت حتف أنفه، فإن هذا كله من ميتة البر، فلا يجوز بيع ميتة البر بالإجماع.
والدليل: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الغد من فتح مكة -هي خطبته في اليوم الثاني من فتح مكة- وقال: (إن الله ورسوله حرَّم بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام).
فذكر أربعة أعيان محرمة، ومنها: (الميتة) فدل على عدم جواز بيع الميتة، لكن يستثنى منها نوع خاص، وهذا النوع هو الطاهر من ميتة البر التي هي الجراد، فإن الجراد طاهر يجوز أكله، ويجوز بيعه؛ لأن أصل تحريم الميتة -وهذا في قول جماهير العلماء- مركب على النجاسة، ومن هنا قالوا: يجوز أن يبيع الجراد؛ لأن الجراد يجوز صيده ويجوز قتله وتؤكل ميتته، قال صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان: أمّا الميتتان فالحوت والجراد) فذكر الجراد من الميتة، فلما قال: (أحلت لنا ميتتان) جعلها من حلال الميتة المحرمة؛ لأن الأصل في الميتة أنها محرمة، فيكون قوله: (حرم بيع الميتة) أي: الميتة التي هي في الأصل محرمة، وبقي ما أحلَّ من الميتة كميتة الجراد فيجوز بيعه.
فلو أخذ كيساً من الجراد وعرضه للبيع فقال قائل: لا يجوز لأنه ميتة، نقول: نعم، هذه ميتة لكنها حلال، ويجوز بيعها.
وفي حكمها الحشرات التي لا نفس لها سائلة، أي: التي ليس لها دم، مثل السوس الذي يوجد في الدقيق والتمر، فهذا النوع من الحشرات لا نفس له سائلة، ولو أكلته فهو طاهر كالجراد، وليس فيه بأس.
والجراد مما لا نفس له سائلة، وأجمع العلماء على أن الجراد طاهر، بناءً على نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وسنفصل هذا في كتاب الأطعمة إن شاء الله، وسيكون التفصيل أوسع؛ لكن الشاهد: أنه لو جمع الدود أو السوس الطاهر وعرض للبيع صحَّ ولا بأس في ذلك
‌‌ميتة البحر
أما ميتة البحر، فتشمل السمك والحوت وسائر حيوانات البحر التي لا تعيش إلا فيه، فإذا كانت من النوع الذي لا يعيش إلا في البحر، ومنه ما يُسمى (بالجمبري) الموجود الآن، فجمهور العلماء على جواز أكله، وأنه لا بأس في أكل ميتة البحر، وأنها طاهرة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته) وهو حديث أبي هريرة في السنن.
فوصف ميتته بأنها حلال، فيجوز أن يبيع السمك، والحوت، أو ما يُسمى (الجمبري)، أو غيره، وأنواع الأسماك كلها.
ثم ميتة البحر إمّا أن تخرجها من البحر فتكون ميتة؛ لأنك لم تذكها، فمثلاً: الشاة تذكى، وكذلك الدجاجة، والطير؛ لكن بالنسبة للسمك والحوت لا يذكى؛ لأنه ليس له موضع ذكاة، فإذا أخرجت من البحر خرجت بغير ذكاة فتكون ميتة، فحينئذٍ يجوز لك أن تأكلها؛ لكن لو أنها ماتت حتف أنفها في البحر فهل نقول: إنها تؤكل بغير ذكاة كالذي صيد، أم نقول: إنها ماتت حتف أنفها فلا يجوز أكلها؟ للعلماء وجهان: جمهور العلماء على أن السمك إذا مات وطفا على البحر يجوز أكله وبيعه ولا بأس في ذلك، ويسمونه السمك الطافي، وكذلك ما جزر عنه البحر؛ لأن البحر له مدُّ وجزر، فإذا مدَّ قذف بعض السمك خاصة الصغار منه، فإذا جزر يكون على أطراف الشواطئ، وهذا النوع من السمك سواء كان طافياً أو كان مما جزر عنه البحر، فالصحيح جواز أكله، وهو مذهب الجمهور، وفيه حديث أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه في سريتهم بسيف البحر، حينما أصابتهم المجاعة وجزر البحر عن الحوت، فأكلوه، وأتوا ببعضه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه، فدلَّ على جواز أكل الطافي، وأكل ما مات حتف نفسه؛ لكن إذا كان هذا النوع فيه ضرر أو خمج أو أنتن بحيث لو أكله الإنسان تضرر فلا يجوز بيعه ولا يجوز أخذ المال لقاءه؛ لأنه من الميتة المتنجسة في هذه الحالة
‌‌ميتة البرمائيات
النوع الثالث: وهو البرمائي، وقد اختلف فيه العلماء: فبعض العلماء يقول: الحيوان الذي يعيش في البر والماء ينظر فيه، فإن كان أكثر عيشه في الماء فميتته حلال، وإن كان أكثر عيشه في البر فميتته حرام؛ لأن الشيء يأخذ حكم غالبه.
ومنهم من يقول: بل ننظر أين يكون توالده وتكاثره وإيواؤه، فإن كان أكثر توالدها وتكاثرها بداخل الماء، فحكمها حكم حيوان الماء، وإن كان غالب تكاثرها وعيشها وجريانها في البر، فتأخذ حكم ميتة البر، مثل السلحفاة، وهذا القول قوي، والنفس تطمئن إليه.
[والميتة].
الميتة إذا بيعت بذاتها لا يجوز بيعها، ويشمل هذا ما كان محنطاً ولم يذك، إلا إذا كان من جنس ما يستثنى كالحوت والجراد، فهذا يجوز بيعه محنطاً.
فلو أن شاة دهست ثم ماتت قبل أن تذكى وعرضت، وجاء شخص يريد أن يشتريها نقول: لا يجوز هذا البيع ولا يجوز شراؤها، ولو أُخذ ثعبان وحنّط قلنا: لا يجوز بيعه ولا شراؤه، وماله غير جائز، كذلك لو أُخذ ثعلب وحنط ثم عرض للبيع فله نفس الحكم؛ لأن الثعلب ليس من جنس ما يذكى، ولا تعمل فيه الذكاة
‌‌ما قطع من حي
وما قطع من الحيوان في حال حياته أخذ حكم ميتته، مثلاً: لو أن الشاة قطعت منها رجلها أو قطعت إليتها، ثم جاء يريد أن يبيعها نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبين من حيٍّ فهو ميتته) وفي رواية: (فهو كميتته)، فالشاة لو ماتت لا يجوز بيعها، إذاً هذا الجزء المقطوع من الشاة حال حياتها يأخذ حكم الجزء المقطوع حال موتها، فتكون الإلية نجسة، ولا يجوز بيعها، وحكمها حكم الميتة بأجزائها التي تقبل الحياة، لكن هناك أجزاء لا تحلها الحياة.
فالحيوانات تنقسم أجزاؤها إلى قسمين: القسم الأول: ما فيه حياة الروح.
القسم الثاني: ما فيه حياة النمو.
حتى الآدمي فيه أجزاء حياتها حياة روح، وأجزاء حياتها حياة نمو، فمثلاً: اليد لو أنها لُسعت بنار تأذى الإنسان؛ لأن الحياة الموجودة فيها حياة روح وإحساس؛ لكن لو أنك أحرق طرف الشعر لم يحسُّ الإنسان؛ لأن الحياة التي في الشعر حياة نمو.
فعندنا أعضاء تقبل حياة الحسِّ، وأعضاء تقبل حياة النمو.
فما كان من الأعضاء يقبل حياة الروح فيعتبر نجساً إذا قطع في الحياة، كيدها ورجلها وإليتها وأذنها، وما كان لا يقبلها فلا، فمثلاً لو قُصَّ الشعر فإن الشعر من جنس ما لا تحله الحياة، فلو أنه قام على الناقة وجزَّ ما عليها من شعر وباع الوبر فإنه يجوز، قال تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [النحل:80].
والشاة يحلق ما عليها من الشعر، وكذلك الناقة يحلق ما عليها ويباع ويتخذ في الثياب ويغزل منه، هذا الذي أخذ من الصوف والوبر والشعر يجوز بيعه، مع أنه قطع في حال الحياة؛ لكن هذا الذي قطع ليس من جنس ما تحله حياة الروح، وإنما هو من جنس ما تحله حياة النمو.
أما جلد الميتة إذا دبغ ثم بيع، فإنه يجوز.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، وإذا كان طاهراً فإنه مستثنىً من الحرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحلت لنا ميتتان)، فجعل من الميتة ما يَحلّ، فهذا الجلد إذا دبغ خرج عنه وصف الميتة بالنجاسة
‌‌الأسئلة
‌‌علم القواعد الفقهية

‌‌السؤال
هل يمكننا أن نقول: كل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، إلا ما ورد الشرع بتحريمه، أثابكم الله؟


‌‌الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: الأفضل أن الإنسان لا يتدخل في القواعد ويتركها للعلماء الأجلاء الذين ألموا بنصوص الشرع في الكتاب والسنة وألموا بضوابط القواعد، فقد تأتي وتقعّد القاعدة لأنك تراها صحيحة، لكنها تصادم أصولاً أخرى.
فمثلاً هذه القاعدة تقول: كل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، أولاً: البيع ينصب على الذات والمنفعة، فأنت عندما تبيع البيت تبيع ذاتها ومنفعتها، ولو بعت عمارة فقام المشتري بهدم العمارة، فليس لك أن تمنعه لأنه سيقول: بعتني الدار ذاتها ومنفعتها التي هي السكنى، فالبيع يقع على الذات والمنفعة، فقاعدة: كل ما جازت منفعته جاز بيعه، تختص بالمنافع، والبيع يقوم على الذات وعلى المنفعة.
ثانياً: إذا كانت المنفعة جائزة لكن الذات محرمة، فقد تقدم الخلاف في الحكم، إذاً: فالتقعيد من الصعوبة بمكان.
وهناك كتب متخصصة في القواعد، منها: الأشباه والنظائر للسيوطي، والأشباه والنظائر لـ ابن نجيم، وقد جعلوا قواعدهم في حدود مذهب معين، وما استطاعوا أن يجعلوا قواعد عامة، فتجد -مثلاً- الأشباه والنظائر في قواعد الشافعية، والأشباه والنظائر في قواعد الحنفية، وتجد أيضاً الفوائد لـ ابن مفلح الحنبلي رحمه الله، كذلك أيضاً القواعد لـ ابن رجب في مذهب الحنابلة، وتجد إيصال السالك إلى قواعد مذهب مالك للونشريسي المالكي، فتجدهم قعدوا من خلال مذهب معين؛ لأنه ليس من السهولة بمكان أن تضع قاعدة عامة متفق عليها.
فمسألة التقعيد أولاً: تحتاج إلى سبر الأدلة الواردة في الباب؛ لأنه لا أحد يتكلم في القواعد الشرعية إلا من خلال النصوص، والفقيه مَنْ فقه عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيع أن يضع قاعدة عامة تتفرع عليها مسائل كثيرة حتى يجمع النصوص الواردة في هذا الباب.
ثانياً: بعد جمع النصوص ينظر هل هي قاعدة ثابتة، أو لها مستثنيات؟ حتى يأتي بالمستثنى منها، فيضع القاعدة وما يستثنى منها، فلا ينقض المستثنى القاعدة ولا يعترض به عليها، فينظر هل هي قاعدة مسلمة أو قاعدة فيها استثناءات ومحترزات.
ثالثاً: ما هو اللفظ الذي تختاره للقاعدة، فهناك علم ألفاظ القواعد، ولذلك ليس كل فقيه يستطيع أن يقعّد، وليس كل محصّل للأدلة يستطيع أن يقعد؛ لأن التقعيد مخاطبة، والمخاطبة بالقاعدة يحتاج إلى ضابط ويحتاج إلى أسلوب فقهي معين، وقد يجلس العالم فترة طويلة حتى يقعد هذه القاعدة، أي: ما كان العلماء بمجرد أنه يقرأ أحدهم الباب يضع القاعدة.
فاختيار الألفاظ في التقعيد لابد منه، وهذا ما يسمونه (ملكة التقعيد)، ولذلك عندما تبحث في كتب القواعد تجدها معدودة، والسبب في هذا ثقل هذا الباب وصعوبته.
ولذلك نقول: ليس من السهولة أن نضع قاعدة عامة، إنما نقول: اقرأ الباب وانظر إلى نصوص الكتاب والسُّنة، فإذا وعيت رحمك الله ما ورد في الكتاب والسُّنة فخير وبركة، وإذا أردت أن تدرس علم القواعد فقد كفاك العلماء المئونة، فاذهب إلى كتب القواعد واقرأ فيها واضبطها وحصلها.
وهناك قضية مهمة جداً كفائدة لطلاب العلم وهي: ما هي الحاجة إلى القاعدة؟ القاعدة لا توضع إلا إذا جاءت لها أدلة قوية متكاثرة في الكتاب والسُّنة، وقد يكون لها إجماع؛ لأن القاعدة قضية كلية تتفرع عليها المسائل الجزئية، فمعنى ذلك أنك لا تقعد قاعدة في مسألة معينة، وإنما تقعد قاعدة لكي تجمع مسائل، وبعض الأحيان القاعدة الواحدة تفرع عليها ثمانمائة مسألة والعلماء يسمونها (أمهات القواعد)، وقد تكون قاعدة تتفرع عليها قواعد، وكل قاعدة تحتها مسائل.
فمثلاً: قاعدة (الأمور بمقاصدها) تتفرع عليها قواعد في إعمال الأصل، واستصحاب الأصل، وكذلك البراءة الأصلية وكذلك قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك) تفرع عليها: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) وغيرها.
الشاهد: لماذا وضع العلماء القاعدة؟ وضعوها لأن الطالب بعد أن يقرأ الفقه بكامله، تكثر عليك المسائل، فتحتاج إلى ضوابط وقواعد.
وهناك شيء يسمى قاعدة وهناك شيء يسمى ضابط، فالقاعدة لا تختص بباب، فمثلاً قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) ممكن أن تجري في العبادات وفي المعاملات، ففي العبادات تستخدمها -مثلاً- في الطهارة " فيجوز لمن لم يجد الماء أن يتيمم، أو شقّ عليه الماء جاز له أن يتيمم، ويجوز لمن كان عليه جروح على ظاهر بدنه أن يعدل إلى التيمم، ويجوز لمن خاف على نفسه إذا طلب الماء أن يعدل إلى التيمم.
وتستخدمها في الصلاة فتقول: من شق عليه أن يصلي قائماً صلى قاعداً، ومن شق عليه أن يصلي قائماً وقاعداً صلى على جنبه، ومن شق عليه أن يقرأ الفاتحة وكان حديث عهد بإسلام فلا يستطيع أن يتعلمها ولا يستطيع أن ينطق بها فيمكث قدر الفاتحة أو يمكث قدر الوقوف، على تفصيل عند العلماء فيمن تعذرت عليه الفاتحة.
وتستخدمها بعد ذلك في الزكاة وفي الحج في الطواف وفي السعي ولما أذن للضعفة في الحج التوكيل في الرمي، فكلها تفرعها على قاعدة: (المشقة تجلب التيسير)، فوَسِعَت مسائل عديدة ولم تختص بباب ولم تختص بباب معين.
إذاً: تستطيع أن تأتي بالقاعدة فتنثر من تحتها المسائل المتعددة؛ لكن الضابط يكون في باب واحد أو كتاب واحد، تقول مثلاً: في باب الكفارات كفارة الجماع في نهار رمضان، الضابط عند الحنابلة: أنه لا تجب الكفارة إلا بجماع في نهار رمضان، فأنت ألممت بمسائل لكن في مذهب الحنابلة، بحيث لو جاءك سائل وقال لك: لو أن رجلاً قضى يوماً من رمضان في شوال، فجامع أهله في هذا اليوم فهل تجب عليه الكفارة في قول الإمام أحمد؟ تقول: لا؛ لأن الأصل عند الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يوجب الكفارة في الجماع إلا في نهار رمضان، ولا يُنزِّل القضاء منزلة الأداء، فهذا يسمى ضابط؛ لأنه متعلق بمسألة أو باب معين.
فيفرقون بين الضابط والقاعدة من هذا الوجه، فتارة يقولون: ضابط، وتارة يقولون: قاعدة.
المقصود أن العلماء احتاجوا إلى وضع علم القواعد؛ لأنك عندما تقرأ الفقه تتناثر عندك الأدلة وتكثر عليك المسائل، فوضعوا قواعد معينة تجمع كثيراً من المسائل، بحيث يمكن أن يفتى في أكثر من مسألة وأكثر من باب، وإذا جاءتك المسألة تستطيع أن تعرف ضابطها أو تعرف قاعدتها؛ فوضعوها تيسيراً للفتوى وتيسيراً للقضاء وتيسيراً للتعليم.
فهذا أصل مسألة التقعيد، ولا يقدم عليه إلا من كان عنده إلمام بالأدلة من الكتاب والسُّنة، وعنده إلمام بأسلوب القواعد؛ لأن بعض الأحيان توضع القاعدة فيعترض عليها في اللفظ وفي العبارة التي تخُتار، وتجد بعض العلماء يقول: هذه عبارة مكررة، فحينما قالوا: قاعدة: (أن الشريعة قامت على جلب المصلحة ودرء المفسدة) قال بعض العلماء: هذه القاعدة فيها تكرار، قيل: لماذا؟ قال: لأن جلب المصلحة يتضمن درء المفاسد؛ لأن كل مفسدة تدرؤها تُحَصَّل بها مصلحة.
وهذا فن وضع القواعد، فيحتاج إلى الألفاظ إلى العبارات إلى الجمل؛ لأنه لا بد أن يكون عارفاً بالمصطلحات، والمصطلحات هي كلمات وعبارات معينة يستخدمها العلماء للدلالة على أشياء مخصوصة في فن الفقه.
فمثلاً: قوله: كل ما كانت له منفعة مباحة جاز بيعه، فحينئذٍ انصب الكلام على المنفعة وأهمل العين التي تولدت منها المنفعة، فهذه قاعدة قاصرة؛ لأنه ليس في الشريعة أن يبني جواز بيع الأعيان بناءً على المنافع، فهذا لا يطرد، فقد يكون الشيء مما تجوز منافعه ولا يجوز بيعه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #277  
قديم 19-03-2023, 05:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (272)

صـــــ(1) إلى صــ(16)

شرح زاد المستقنع -‌‌ كتاب البيع [5]
من شروط صحة البيع: أن تكون العين مباحة المنفعة، فلا يجوز بيع الأعيان النجسة؛ لأنها محرمة الانتفاع، ومن الأعيان النجسة: السرجين أو ما يسمى بالسماد النجس، فقد ذهب جمهور العلماء إلى حرمة بيعه، ومنها: الأدهان والزيوت النجسة، فإنه يحرم كذلك بيعها وشراؤها.
ومن شروط صحة البيع: أن يكون البيع من مالك أو من يقوم مقامه، فمن باع أو اشترى شيئاً ليس في ملكه، فلا يصح منه ذلك ولا يتم حتى يجيزه المالك الحقيقي
‌‌الأشياء التي لا يجوز بيعها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى في معرض بيانه للأعيان المحرمة البيع: [إلاّ الكلب والحشرات والمصحف والميتة والسرجين النجس].
ما زال المصنف رحمه الله في معرض بيانه لما لا يحلُّ بيعه، وهي الأعيان التي حكم الشرع بعدم جواز بيعها، فلا ثمن لها، فيكون إعطاء المال في مقابلها في البيع من باب أكل المال بالباطل؛ لأن الأصل في البيع أن يُدفع الثمن لقاء شيء له قيمة، فإذا كانت العين مما لا قيمة له في الشرع، فإنه حينئذٍ يكون دفع المال في مقابلها من الباطل
‌‌الأعيان النجسة
ذكر العلماء رحمهم الله أن الأصل في الأعيان النجسة عدم جواز بيعها، فلا يجوز بيع البول، ولا يجوز بيع العذرة -عذرة الإنسان النجسة- وهكذا في فضلات الحيوان النجسة.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن النجاسات، كما في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم)، والدم نجس لقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145]، وفي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام)، قال العلماء رحمهم الله: إن هذا الحديث اشتمل على أربعة أعيان نجسة: إمّا نجاسة حسية، وإمّا نجاسة معنوية، وإمّا نجاسة الحس والمعنى معاً، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النجس من الحيوانات الحية: الخنزير، والنجس من الحيوانات الميتة وهي الميتة، حتى تقاس النجاسات من الحيوانات الحية على الخنزير، والنجس من الحيوانات الميتة تتبعه لأصل الميتة، ويقاس الجماد النجس المعنوي على الأصنام، ويقاس المائع من النجاسات على الخمر، وعلى هذا قال غير واحد من العلماء: حديث جابر هذا أصل في تحريم بيع الأعيان النجسة، والنجس حرمه الله على العباد، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله إذا حرم على قوم شيئاً حرم عليهم ثمنه)، وقد حرم الله النجاسات؛ فيحرم أخذ المال لقاءها.
والمبيع من حيث الأصل العام -حتى تكون الصورة واضحة- إما أن يكون طاهراً، وإما أن يكون نجساً، فالمبيعات الطاهرة من حيث الأصل جواز بيعها، والمبيعات النجسة من حيث الأصل عدم جواز بيعها، ويبقى شيء يُسمى: المتنجس.
فالنجس هو أن يكون نجس العين، مثل: الشحم المستخلص من الميتة، فإنه نجس العين، ونجس العين لا تستطيع تطهيره، فأصل عينه نجسة، فالخنزير لو غسلته مائة مرة فإنه سيبقى نجساً، فحينئذٍ يقال: نجس العين؛ لكن المتنجس تكون عينه في الأصل طاهرة ودخلت النجاسة عليه عارضة، بحيث يمكنك أن تزيلها، كثوب وقع عليه بول أو وقع عليه دم نجس فإنه حينئذ ثوب متنجس، انتقل عن أصله لعارضٍ وهو التنجس.
فأمّا بالنسبة للزيوت والشحوم والأدهان فمنها ما هو طاهر كالإلية، فإنك إذا ذبحت كبشاً وذكيته فإنّ جميع ما فيه طاهر؛ لأن التذكية تجعله حلالاً وطاهراً، فحينئذٍ لو أخذت الإلية وأذبت شحمها فنقول: هذا دُهنٌ طاهر، أما لو مات الكبش أو الضأن وأُخذت إليته وأُذيبت فنقول: هذا شحم نجس أو دهن نجس.
إذاً: هناك ما هو نجس العين، وهناك ما هو متنجس، والمتنجس يمكن تطهيره
‌‌السرجين وأنواعه
يقول المصنف رحمه الله: (والسرجين)، وهو السماد، والسماد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: السماد الطاهر، وهو فضلة ما يؤكل لحمه، على أصحِّ قولي العلماء، كما هو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة من حيث الجملة؛ لأن فضلة ما يؤكل لحمه -كالإبل، والبقر، والغنم، والطيور غير الجارحة- طاهرة، فلو أن إنساناً جمع زريبة من روث أو فضلة الإبل أو البقر أو الغنم فإنها طاهرة من حيث الأصل، فنقول: هذا سماد طاهر، والدليل على طهارته عدة أدلة: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العُرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل، وهي فضلة الإبل، فلو كان البول نجساً لما أمرهم أن يشربوه؛ لأن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حَرَّمَ عليها.
ثانياً: الإذن بالصلاة في مرابض الغنم، وهذا ثابت وصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت فضلة الغنم نجسة لما أذن بالصلاة فيها، وأما المنع من الصلاة في معاطن الإبل فهو لحكمة أخرى -كما نبهنا عليه في باب الصلاة- وذلك لأنها مواضع الشياطين.
وقد وصلى على بعيره، ومن المعلوم أن البعير ربما بال فلطخ ببوله فخذه وساقه، ومع ذلك صلى عليه، وطاف عليه، فدلَّ ذلك على طهارة فضلة ما يؤكل لحمه، وإنما خُصَّ البعير لأن البعير من حيث الأصل مما يؤكل لحمه، فقالوا: ما يؤكل لحمه فضلته طاهرة، وهذا يشمل الطيور كالعصافير والحمام وغيرها.
والسماد الذي يؤخذ من الحمام تستصلح به الحمضيات كأشجار الليمون، فإنه إذا وضع لها (ذرق) الحمام تنفع وتصلح بإذن الله عز وجل، فهذا سمادٌ طاهر.
وكذلك يؤخذ روث البقر لاستصلاح النخل، وهو من أفضل ما يكون لاستصلاح النخل.
والسماد الطاهر يجوز بيعه، فلو أن رجلاً عنده زريبة غنم وجاءه من يريد شراء ما فيها من الروث سماداً، فما حكم هذا البيع؟ نقول: السماد طاهر مقصود لمنفعة مباحة، وهي استصلاح الزرع، ومأذون بها شرعاً؛ بل ومقصودة شرعاً، فيجوز البيع إذا كان مستوفياً للشروط الأخرى المعتبرة في البيع.
وعلى هذا: فبيع السماد الطاهر جائز ولا بأس به؛ لأنه عينٌ مباحة، ومنفعتها مباحة ومقصودة شرعاً
‌‌حكم بيع السماد النجس
القسم الثاني: السماد النجس، وهو يشمل فضلة الآدمي من بوله وعذرته، وكذلك يشمل فضلة الحيوان غير مأكول اللحم؛ كالحمر الأهلية ونحوها، ولذلك لما أتى عبد الله بن مسعود للنبي صلى الله عليه وسلم بالروثة -قيل: إنها من الحمر- قال: (إنها ركس)، وعلى هذا يقول العلماء رحمهم الله: إذا كانت الفضلة من غير مأكول اللحم فهي نجسة، لكن هل يجوز أن يباع السماد النجس، أم لا يجوز؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين: القول الأول: لا يجوز بيع السماد النجس أو الزبل النجس أو الرجيع النجس، والمعنى واحد، وهذا القول هو مذهب المالكية في المشهور، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة في المشهور، وهو قول عند الحنفية رحمهم الله؛ لكن المذهب عندهم على الجواز.
القول الثاني: يجوز بيع الزبل النجس والسماد النجس، وهذا هو مذهب الحنفية، وقال به بعض أصحاب الإمام مالك كـ ابن الماجشون.
فالذين قالوا بالتحريم -وهم الجمهور- استدلوا بأدلة: أولاً: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، قالوا: إن الله حرم علينا أكل المال بالباطل، والباطل هو الذي لا وجه له ولا حقَّ فيه، فإذا كان السماد نجساً فإن النجس لا قيمة له -النجاسة لا قيمة لها- فدفع المال في مقابله يكون من أكل أموال الناس بالباطل.
ثانياً: استدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا حرم على قوم شيئاً حرم عليهم ثمنه)، والسماد نجس حرام فيحرم أكل ثمنه.
ثالثاً: قالوا: إن الأصل عدم جواز بيع النجاسة، والزبل النجس من النجاسات، والأصل في هذا حديث جابر بن عبد الله كما قدمنا.
واستدل الذين قالوا بالجواز بدليلين:
الدليل الأول: الإجماع.
الدليل الثاني: العقل.

أما دليلهم بالإجماع فقالوا: إن الناس من العصور القديمة يتبايعون ويبيعون السماد والزبل النجس، ولم ينكر عليهم أحد، فيكون هذا بمثابة الإجماع.
والدليل الثاني: قالوا: إن الحاجة داعية إلى بيع الزبل النجس، ولو لم نقل بجواز بيعه لكان في ذلك حرجٌ ومشقة، والشريعة لا حرج فيها ولا مشقة، وبناءً على ذلك يجوز بيع الزبل النجس، ومعنى هذا الدليل الذي قرروه بالنظر: أن الزبل النجس يستصلح النبات، وهذا يحتاجه الفلاح، ويحتاجه الناس، أمّا الفلاح فلأنّ إنتاجه ومحصوله لا يصلح إلا بهذا النوع من السماد، وأمّا الناس فإنه إذا تضرر الفلاح وكان نتاج الفلاحة قليلاً؛ فإن هذا سيضر بالسوق وسيضر بالناس، فحينئذٍ يكون في تحريمه حرجٌ ومشقة، والشريعة لا توقع الناس في الحرج.
إذاً القول بعدم الجواز فيه حرج، فيجوز البيع دفعاً للحرج والمشقة، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
والذي يترجح هو القول بعدم جواز بيع الزبل النجس، وذلك لما يلي: أولاً: لصحة ما ذكره أصحاب هذا القول، فإن الأصل عدم جواز بيع النجاسات، وهذا الأصل قرره حديث جابر رضي الله عنه، ولذلك سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شحوم الميتة -وهي متفرعة من الميتة-: (أنه يُطلى بها السفن ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: لا، هو حرام، قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه)، وفي رواية: (فاستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل)، فدلَّ الحديث على أن الشيء النجس لا يجوز بيعه في الأصل.
ثانياً: أما بالنسبة لاستدلالهم بالإجماع، فهذا الإجماع قد رده غير واحد من العلماء، حتى قال الماوردي في كتابه النفيس (الحاوي)، وهو من كتب الخلافيات، بل ومن أوسعها، قال فيه: إن هذا الإجماع إجماع العوام، إنما وقع بفعل الناس وليس بإجماع من يُعتدُّ بقوله ويُعتدُّ بإجماعه؛ لأن الإجماع إنما يكون من المجتهدين وليس من العوام، فالذي يبيعه ويأخذه هم العوام وليس العلماء الذين يُحكم بإجماعهم واجتهادهم.
ثالثاً: استدلالهم بأن فيه حرجاً ومشقة، فيقولون: لو قلنا: لا يجوز بيع السماد النجس لكان فيه حرج ومشقة، هذا يحتاج إلى نظر؛ والسبب في هذا: أن الحرج والمشقة إنما يقعان في حالة عدم وجود البديل؛ لكن عند وجود البديل -وهو الزبل الطاهر وكونه يقوم بسدِّ الحاجة- فإنه حينئذٍ ينتفي قولهم: بأننا مضطرون إليه؛ لأننا نتكلم عن أصل عام؛ والأصل العام هو وجود الزبل النجس والطاهر: فالإبل، والبقر، والغنم، والطيور وغيرها موجودة فضلتها، وهي طاهرة ومباحة، وينتفع بها النبات كما ينتفع بالنجس؛ بل إن الطاهر آمنُ من النجس -كما سنبين إن شاء الله - فإذا وجد البديل -والبديل موجود وهو الزبل الطاهر- فإننا نقول بعدم صحة ما ذكروه من وجود الحاجة؛ لأن الحاجة شرطها: عدم وجود البديل، فالمرأة -مثلاً- إذا وجدت امرأة تقوم بعلاجها وتطبيبها فلا نقول: إنها مضطرة إلى الرجل؛ لأنه مع وجود البديل لا يحكم بالضرورة، ومع وجود البديل لا يحكم بالحاجة إذا سدَّ مسده.
رابعاً: أن الحاجة هنا حاجة كمال، فإن الزبل النجس والرجيع النجس والسماد النجس فيه مضرة أعظم من منفعته، وهذا ثابت، فقد ثبت الآن طبيّاً وجود الأمراض والأضرار من اغتذاء النبات به؛ بل إن المذهب الصحيح من أقوال العلماء: عدم جواز أكل النبات المستصلح من النجس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح: (أنه نهى عن أكل الجلالة)، والآدمي قوته على دفع الضرر أكثر من قوة النبات، ومن المعلوم أنه لو وضع الزبل النجس سماداً للكراث والفجل، فإنه يغتذي منه مباشرة، وكذلك نحوه من المزروعات، فهذه من أعظم ما يكون، حتى ثبت طبيّاً الآن أنها من أعظم ما تكون ضرراً على صحة الناس، وأكثر ما ينشأ فيها من الأمراض مظنة العدوى -والعياذ بالله-، فحينئذٍ نقول: إنه لو لم يحرم بوجود الدليل لحرم لوجود الضرر، والمصلحة والحاجة التي تطلب إنما هي مصلحة كمال وحاجة كمال، وقولنا: (مصلحة الكمال) أي أن هذا النبات يكون بصورة أو بشكل أفضل، لكنه من حيث المضمون -لوجود الضرر فيه- أسوأ وأردأ من الطاهر، وعلى هذا نقول: إنها ليست بحاجة ضرورة، ولكنها حاجة كمال، وفرقٌ بين حاجة الضرورة الموجبة للترخيص، وبين حاجة الكمال التي لا توجب رخصة، خاصة مع وجود البديل.

فالذي يترجح هو: عدم جواز بيع الزبل النجس.

ومسألة الجلالة يقول بعض العلماء -حينما جاءت مسألة بيع النباتات أو اغتذاء النباتات بالنجاسات-: إنّ الجلالة -كالبقرة أو الشاة أو الدجاجة- تتغذى بالنجاسات وتأكل النجاسات، فحينئذٍ تتضرر وتتأثر بهذه النجاسات، ومع أنّ في جسم الإنسان من القوة على دفع الضرر أكثر من النبات -وهذا ثابتٌ طبياً: أن قوة جسم الآدمي على دفع السموم أقوى من غيره؛ وذلك لما خلق الله فيه وفضَّله على كثير ممن خلق، فجعل فيه خاصية أقوى من غيره- فمع هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة حتى تحبس ويطيب لحمها بالمباح، فهذا يدل على التأثر بالاغتذاء بالنجس، وإذا كان هذا في البهيمة مع أنها أقدر على الدفع وقلة التأثر أكثر من الزروع التي تكون على وجه الأرض؛ فمن باب أولى ما هو دونها، وعليه: فإنه لا يجوز بيع الزبل النجس ولا شراؤه؛ وذلك لأن الأصل الموجب للتحريم يقتضي منع هذا النوع من البيع، وليس ثمَّ دليلٌ يوجب الترخيص
‌‌أنواع الأدهان والزيوت وأحكام بيعها
قال رحمه الله: [والأدهان النجسة والمتنجسة].
الأدهان: جمع دهن، وهو يشمل الزيوت والطيب وغيرها، فمثلاً: السمن نقول: هو دهن؛ لأنه يمكن أن يكون طعاماً، ويمكن أن يدهن به الإنسان، وكذلك زيت الزيتون، وزيت الذرة، وزيت السمسم، فكل هذه تسمى بالأدهان.
والأدهان تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أدهان طاهرة.
القسم الثاني: أدهان غير طاهرة.

فالأدهان الطاهرة: كزيت الزيتون، وزيت السمسم، وزيت الذرة، وغيرها من الزيوت الطاهرة.
والزيت غير الطاهر ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: زيتٌ نجس.
القسم الثاني: زيتٌ متنجس.

أمّا الزيت النجس فهو الذي يستخلص من عين نجسة، مثل: الزيت الذي يؤخذ من شحوم الميتة؛ فإنه زيتٌ نجس، أي: عينه نجسة، فمهما غسلته ومهما فعلت به فلا يمكن أن يطهر.
وأما الزيت المتنجس، فأصله طاهر، كزيت الزيتون مثلاً؛ ولكن وقعت فيه نجاسة كقطرات بولٍ، فحينئذٍ يتنجس، ومن هنا حكمنا بتنجسه.
أمّا بالنسبة للزيت الطاهر فلا إشكال في جواز بيعه، والزيت النجس لا إشكال في حرمة بيعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن شحوم الميتة وذكروا له: (أنه يُطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، قال: لا، هو حرام)، أي: بيعها؛ لأن أصل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ الله ورسوله حرم بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، قالوا: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنه يُطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟! قال: لا، هو حرام).
وقد اختلف العلماء في قوله: (لا، هو حرام) هل الضمير عائد على طلي السفن ودهن الجلود والاستصباح بها -لأن السفن تمشي على البحار والأنهار، فوجود الزيت يدفع عنها الماء، ولذلك لا يتشرب الخشب للماء- فحينئذٍ يحرم أن يُطلى بها، ويحرم أن يدهن بها، ويحرم أن يستصبح بها، أم أن الضمير في قوله: (لا هو حرام) عائد على البيع؛ لأن أصل الحديث: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة)، فسألوه عن شحوم الميتة وقالوا: إن فيها منفعة، فهل يجوز بيعها؟ والقاعدة: (أن السياق والسباق محكم)، وسياق الحديث وسباقه كان في الكلام على البيع، فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن شحوم الميتة من جهة بيعها من أجل الطلاء والدهن والاستصباح فقال: (لا، هو حرام)، وهذا أقوى، وهو أنه عائدٌ على البيع، ومن هنا يعتبر الحديث أصلاً في تحريم بيع الزيت النجس، وأما الزيت المتنجس ففيه تفصيل سنذكره

‌‌حكم الزيوت المشتقة من البترول

إذاً: الزيوت المستخلصة من الميتة نجسة، لكن يبقى الكلام عن مسألة عارضة الآن يكثر الكلام حولها، وهي: مسألة الزيوت البترولية، وما يشتق من البترول، والسبب الذي جعل بعض طلاب العلم تلتبس عليه هذه المسألة: أنهم كانوا يقولون: إن أصل البترول من الحيوانات القديمة التي ماتت ثم ضغطت بين أطباق الأرض، ثم مع فعل الحرارة وسخونة الأرض تحولت إلى بترول، وهذا القول أنبه على أنه قول أهل الطبيعة الذين لا يؤمنون بوجود الله جل جلاله، كما أخبر الله عز وجل أن الإنسان كفور مبين، وكفره من أكفر ما يكون -نسأل الله السلامة والعافية- فالله تعالى يغدق عليه ويسكن له كنوز الأرض في الأرض، ويعطيها له سهلةً ميسرة ليقول: لا إله إلاّ الله، وليقول: الحمد لله، لكنه يقول: لا، منذ ألف مليون سنة كان يوجد حيوان اسمه (الديناصور)! ألف مليون سنة متى كانت؟! لا يوجد أكذب من الكافر إذا كذب على ربه؛ لأنه كفر بالله فطمس الله على قلبه وعلى بصيرته، ثم هذا (الديناصور) ما لقي أن يتوفى وأن يموت إلَاّ داخل المحيط! وممكن أن تقبل أنه توفي على وجه الأرض؛ لكن ما الذي ذهب به إلى أعماق المحيطات حتى يوجد البترول في أعماق المحيطات -تكذيباً لهم -؟ فهم لا يريدون أن يقولوا: إن الله هو الذي أوجده، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن في الأرض كنوزاً، وأن الله قدر في الأرض أقواتها منذ أن خلقها، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من علامات الساعة أن تخرج الأرض كنوزها)، وهذا يدل على أن الله أوجدها فيها، فنحن لا نقول بما يقوله الكفار، ولكن نقول: إن الذي أوجده هو الله، وهو نعمة من الله سبحانه وتعالى، والله على كل شيء قدير، ولو كان الأمر كما ذكروا وكما زعموا، فإن هذه المقابر الموجودة منذ سنوات عديدة مديدة ما وجدنا تحتها البترول، ولا وجدنا أنها تتحول إلى زيوت ولا إلى طبقات معينة من الأرض، لكن -كما ذكرنا- هو كفرٌ بالله وعدم تسليم بوحدانيته عز وجل، فيردون كل شيء إلى الطبيعة: وهو أن الأشياء وجدت صدفة! وأن الإنسان ينظر إلى هذه الأشياء على أنها أشياء طبيعية.
ومن أجل ذلك نشأ عند البعض شعور بأنه ما دام أن (الديناصور) قد مات فيعتبر ميتة، وشحم الميتة نجس، فمعنى ذلك: أن البترول نجس، وأن كل ما يتولد من البترول نجس، وهذا خطأ، فإن البترول طاهر، وجميع ما يُشتق منه طاهر، سواءٌ كان زيتاً أو كان بنزيناً أو غير ذلك من المشتقات، فهي كلها طاهرة؛ لأن الأصل أنها طاهرة، وليس هناك دليل يدل على نجاستها.
وبناءً على هذا: فلا يدخل في مسألة الزيوت النجسة والمتنجسة ما يشتق من البترول، فهو ليس بنجس ولا متنجس، وبيعه جائز وحلال، وهو مما سخره الله لابن آدم لينتفع ويرتفق به، والحمد لله على فضله، وله الشكر على نعمه، لا نحصي ثناءً عليه، جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه، وتعالى الله عما يقول الكافرون علواً عظيماً
‌‌أحكام الزيت المتنجس
يبقى النظر في الزيت المتنجس، وفيه مسائل: المسألة الأولى: نحتاج أن نبحث في مسألة: كيف يتنجس الزيت؟ المسألة الثانية: ما هو نوع النجاسة إذا حكمنا بكون الزيت يتنجس؟ المسألة الثالثة: هل يمكن للزيت أن يطهر إذا حكمنا بنجاسته؟ المسألة الأولى: كيف يتنجس الزيت؟ الذي يجعلنا نبحث هذه المسألة أن في الزيت خاصية تختلف عن غيره، فمن الملاحظ أن الزيت إذا وقعت فيه قطرة ماء فإنها لا تدخل في الزيت وتتحلل فيه، بل لو صببت الماء على الزيت لانفصل الماء عن الزيت، وهذا أمر ملموس، فنجد أن للزيت خاصية تدفع ولا تمكّن غيره من الامتزاج به، ومن هنا قسّم العلماء وقوع النجاسة في الأشياء إلى قسمين: القسم الأول: أن تقع النجاسة فتتحلل في الشيء، كنجاسة الماء والخل والمرقة ونحوها من المائعات، فإن الماء إذا وقعت فيه قطرة البول انتشرت فيه وتحللت، فحينئذٍ يقولون: إن نجاسته نجاسة ممازجة، أي: امتزج الماء مع البول، وهذا أقوى صور التنجيس، ويتأثر الشيء الطاهر بوقوع النجاسة فيه على هذا الوجه.
القسم الثاني: نجاسة المجاورة، وتكون هذه النجاسة بجوار الطاهر، وهي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: إمّا أن تلتصق به.
القسم الثاني: وإمّا أن تكون بجواره فقط، وتأتي الريح فتنقل رائحة النجاسة، فمثلاً: غدير الماء حينما يكون بجواره ميتة؛ كبعير أو بقرة أو شاة، فيأتي الهواء فينقل رائحة النجاسة إلى الغدير، فحينئذٍ يتنجس الغدير بالرائحة، أو ينقل أجزاءها فتقع في الغدير، إذاً: المجاور ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: مجاور ملتصق.
القسم الثاني: مجاور غير ملتصق.

فالمجاور الذي لا يلتصق بالماء لا يضر مطلقاً، لكن إذا التصق به ولم يكن متحللاً، وغير اللون أو الطعم، فإنه يؤثر وجهاً واحداً، وأما إذا غير الرائحة ففيه خلاف؛ لكن الصحيح عند طائفة من العلماء أنه يؤثر، وإلى ذلك أشار بعض العلماء بقوله: ليْسَ المجاَوِرُ إِذَا لَمْ يِلْتَصِقْ يَضَرُّ مُطْلَقَاً وَضَرَّ إِنْ لَصِقْ فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ بِالاتِّفَاقِ كَالرِّيْحِ فِيْ مُعْتَمَدِ الشِّقَاقِ نرجع إلى مسألة الزيت إذا وقعت فيه نجاسة: فيقولون: إنها نجاسة مجاورة ملاصقة؛ لأنها وقعت في داخل الزيت، لكنها لا تتحلل ولا تنتشر، فاختلف العلماء رحمهم الله في هذا النوع من النجاسة، وقد قلنا: إن الزيت تنجس، وحكمنا بأن نجاسته نجاسة مجاورة، وليست بنجاسة ممازجة ومخالطة.
يبقى السؤال الثالث والأخير وهو الذي عليه مدار المسألة التي سنذكرها في البيع وهي: إذا تنجس الزيت فهل يمكن تطهيره، أو لا يمكن تطهيره؟ قال بعض العلماء: إذا تنجس الزيت فلا يمكن تطهيره، وعند هؤلاء تنتقل المسألة إلى المسألة الأولى وهي بيع الزيت النجس، فعندهم أن النجس والمتنجس حكمه واحد؛ لأنهم يرون أن الزيت إذا تنجس فلا يمكن تطهيره، وهذا هو القول الأول.
القول الثاني: أن الزيت إذا تنجس فإنه يمكن تطهيره، ولتطهيره طريقتان: الطريقة الأولى: يسموها: طريقة الطبخ.
الطريقة الثانية: يسمونها: طريقة الغسل.
فأمّا طريقة الطبخ فهي أن توقد النار تحت الزيت فيغلي، وإذا غلى فإنه تتبخر النجاسة ويبقى الزيت، فإذا وقع فيه البول وغلي غلياناً شديداً فإنه يتبخر البول لخاصية في الزيت، ولو ترسب شيء قليل لكنه لا يؤثر، خاصة إذا كان الزيت كثيراً، فيقولون: إنه يحكم بطهارته في هذه الحالة.
الحالة الثانية: أن يغسل الزيت،
و
‌‌السؤال

كيف يغسل الزيت؟ أو كيف يمكن غسل الزيت؟ هل يعصر، أم يوضع في خلاطة؟ وهذا يحتاج إلى نظر، فقد قال بعض العلماء: غسل الزيت المراد به طهارة المكاثرة، فمثلاً: إذا وقعت قطرة من البول في الزيت، فتصب عليه ماءً طهوراً أضعاف أضعاف القطرة من البول، بحيث لو خالط ذلك الماء البول فإنه يذهب عنه وصفه بالنجاسة، وتطهر النجاسة بهذا الماء؛ لأنها ستختلط مع الماء، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم صبّ على بول الأعرابي ذنوباً من ماء، وقد كان البول قليلاً والماء كثيراً، فلما ورد الكثير من الماء على القليل من النجاسة طهرت النجاسة، فحينئذٍ قالوا: إذا كان في الوعاء قطرة من البول، فيأخذ (فنجاناً) مثلاً من الماء الطهور ويصبه، فيختلط مع النجاسة، فتصبح النجاسة منعدمة التأثير، ثم بعد ذلك تسحب بطريقة عند المختصين، فيسحبون الماء بالنجاسة، وحينئذٍ يبقى الزيت طاهراً على أصله.
لكن لماذا ذكرنا هذه المسألة هنا مع أنها من مسائل الطهارة؟ ذكرنا هذه المسألة؛ لأن الصحيح أن الزيت إذا وقعت فيه النجاسة، وكانت نجاسته ليست عينية مثل زيت الميتات؛ فإنه يمكننا أن نطهره، فحينئذٍ لو باع رجلٌ زيتاً متنجساً فإنه يمكنه أن يزيل هذه النجاسة، فيصبح في حكم من باع ثوباً متنجساً، والمتنجس ينقسم إلى
قسمين: القسم الأول: أن يمكن تطهيره.
القسم الثاني: ألَاّ يمكن تطهيره.

والذي يمكن تطهيره مثل الثوب، فلو جاء شخص وفي ثوبه دم نجس أو قطرة من البول، وقال: سأبيع هذا الثوب بعشرة ولكن فيه نجاسة، فنقول: بالإجماع أن البيع صحيح؛ لأن هذه النجاسة يمكن إزالتها، فليست مؤثرة في بيع الثوب، وليس هذا من باب بيع النجاسات؛ لأن العين طاهرة، ومن هنا فإذا قلنا: إن الزيت لا يتطهر، فلا يدخل في هذا؛ لأنه من باب بيع الأعيان النجسة؛ لكن إذا كان الزيت يمكن تطهيره بالطبخ وبالغسل، فحينئذٍ من باع زيتاً متنجساً، فإنه كمن باع ثوباً متنجساً، فكما أنه يأخذ الثوب ويغسله، كذلك يأخذ الزيت ويغسله، ومن هنا يقوى القول بأنه يجوز بيع الزيت المتنجس.
والذي لا يمكن تطهيره ببقاء عينه مثل السكر، فلو أن السكر وقع عليه بول وتنجس، فإنه لا يمكن تطهيره؛ لأنه إذا صُبَّ عليه الماء ذاب، فلا يمكن تطهيره ببقاء عين السكر؛ لكن لو أنه أخذ ماءً كثيراً وصبه على السكر حتى تحلل، بحيث صار الماء أضعاف النجاسة الموجودة في السكر؛ فإنه يكون طاهراً، لكن أن تبقى عين السكر فلا يمكن.
إذاً: هناك شيء يمكن تطهيره مع بقاء عينه، وهناك شيء لا يمكن تطهيره إلاّ بذهاب عينه، فبالنسبة للزيت يمكن تطهيره مع بقاء عينه مثل الثوب، وعليه فإنه يجوز بيع الزيت المتنجس؛ لكن بشرط: أن يُبين أنه متنجس، ولذلك نقل ابن رشد عن القائلين بجواز بيع الزيت المتنجس في البداية فقال: وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه -أي: الزيت المتنجس- إذا بيّن، أي: قال للمشتري: إنه نجس؛ والسبب في هذا: أن الزيت يؤكل ويدّهن به، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (كلوا الزيت وادّهنوا به، فإنه من شجرة مباركة)، فلو أخذه وهو متنجس، فإنه مظنة أن يدهن به فيتنجس، ومظنة أن يأكله وهو متنجس، ولا يجوز أكل المتنجس، ومن هنا قال العلماء: شرط جواز بيعه إذا بيّن البائع للمشتري أنه متنجس
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #278  
قديم 19-03-2023, 05:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (273)

صـــــ(1) إلى صــ(16)

‌‌حكم الاستصباح بالزيوت النجسة في المسجد وفي غيره
قال رحمه الله: [ويجوز الاستصباح بها في غير مسجدٍ].
الاستصباح: وضع الزيت في المصباح؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل في الزيت خاصية ومنافع، ومنها: أنه يستضاء به، ولذلك ضرب الله المثل بالمشكاة فيها مصباح فقال: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُور} [النور:35]، وهذه من أغرب الآيات في الأمثال في كتاب الله عز وجل، حيث جعل الله عز وجل نور الوحي مع نور العقل: (نُورٌ عَلَى نُور)، ولا يمكن لأحد أن يبصر بأحد النورين دون الآخر، فمثلاً: لو أن إنساناً كفيف البصر جيء به أمام الشمس، فإنه لا يمكن أن يبصر؛ لأنه فقد النور الداخلي، ولو أنه جيء بمبصرٍ ووضع في كهف مظلم، فلا يمكن أن يبصر مع وجود النور الداخلي، لكن النور الخارجي غير موجود، فاحتاج المبصر إلى نور داخلي ونور خارجي، وكذلك الإنسان يحتاج إلى نور العقل -وهو داخلٌ فيه- ونور الوحي، ولذلك قال سبحانه: {نُورٌ عَلَى نُور} [النور:35]، فمن كان عاقلاً ولا يهتدي بالوحي فإنه لا يمكن أن يهتدي؛ لأنه يحتاج إلى وحي الرسل، ولو كان مجنوناً وجيء بالوحي فلا يمكن أن يقبل، ولا يمكن أن يفقه، ولا يمكن أن يعلم، ولا يمكن أن يهتدي؛ لأنه يحتاج إلى النورين.
والله سبحانه وتعالى جعل الزيت نوراً، وجعله مما يستصبح به ويستضاء، فقال: (زَيْتُونِةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ)، قيل: إن البستان الشرقي يتعرض للشمس أكثر، والغربي يضعف تأثير الشمس عليه؛ لأنه لا تأتيه الشمس إلا عند الغروب وقد ضعف شعاعها؛ لكنه حينما يكون في الوسط فإنه يكون من أنفع وأصلح ما يكون، وقيل: إنها (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) إشارة إلى طور سيناء؛ لأنه أفضل منابت الزيتون، فهو ليس بشرق الأرض ولا بغربها، وإنما في وسط الأرض.
الشاهد: أن الله سبحانه وتعالى جعل في الزيت منافع منها: الاستصباح، فذكر المصنف أنه يجوز الاستصباح بالزيت النجس في غير المسجد، ونحن الآن نبحث في مسألة البيع، فما الذي أدخل مسألة الاستصباح؟

‌‌الجواب
أنه كما ذكرنا غير مرة أن العلماء يذكرون المسائل بالمناسبات، فهنا يتكلم على الزيت النجس، فأدخل أو ألحق مسألة الاستصباح بالزيت النجس، وبعض العلماء يغتفر إدخال مسألة الاستصباح؛ لأنه قد يباع من أجل أن يوضع في المصباح وهو متنجس، فيرد

‌‌السؤال
هل يجوز هذا الزيت، أم لا؟ أما بالنسبة للاستصباح بالزيت النجس فإن كان في غير المساجد فإنه يجوز عند من قال بجواز الاستصباح به، وأمّا في المساجد فقد اختلف العلماء: فمنهم من منعه مطلقاً، ومنهم من أجازه؛ لأنه لا يرى أن دخان النجاسة نجس، ويرى أنه حكم متحلل إلى مادة غير المادة الأصلية، ومن هنا أجاز أصحاب هذا القول الطبخ بالنجاسات، فلو جمع نجاسة وأوقد النار فيها وطبخ عليها طعاماً فقد أجازوه؛ لأنهم يرون أنه إذا طبخ انتقل وتحول إلى مادة غير المادة التي منع الشرع الانتفاع بها.
ومنهم من فصّل: فأجاز بشرط ألا يتحول الدخان إلى داخل المسجد، كأن يوضع في كُوّة من وراء زجاجة، فإن الكُوّة إذا هبَّ الهواء أخرج الدخان إلى الخارج، ويكون الفضل فضل الزجاج لوجود الضياء على داخل المسجد، والكوّة من الخارج لا من داخل المسجد، فهذا معنى الاستصباح به من خارج المسجد لا من داخله، وعلى هذا يقول المصنف: (ويجوز الاستصباح بها)، أي: وضع الزيت المتنجس في المصباح من أجل أن يوقد عليه
‌‌من شروط صحة البيع: ملكية البائع والمشتري أو من في مقامهما
قال رحمه الله: [وأن يكون من مالك أو من يقوم مقامه].
هذا هو الشرط الرابع لصحة البيع: فقوله: (وأن يكون من مالك)، أي: أن يصدر البيع والشراء من مالك، وهذا يشمل الثمن والمثمن البائع والمشتري، فلابد أن يقع البيع والإيجاب والقبول من شخص مالك، بمعنى: أن الشيء الذي يبيعه ملكٌ له أو مأذونٌ له بالتصرف فيه الإذن الشرعي، والإذن الشرعي يشمل: الولاية العامة، والولاية الخاصة، فالولاية الخاصة من الشخص نفسه؛ كالوكيل والوصي، والولاية العامة كالقاضي إذا باع مال السفيه ومال اليتيم ونحو ذلك.
إذاً: يُشترط في صحة البيع أن يكون من يبيع مالكاً، فيشترط أن يكون مالكاً للمال الذي يدفعه لك، أو أُذن له بدفعه والتصرف فيه، ويشترط إذا أعطاك سيارة أو أعطاك داراً أو أعطاك أرضاً أن يكون مالكاً للسيارة والدار والأرض؛ لأنه إذا باعك شيئاً لا يملكه فإنه يكون حينئذٍ قد تصرف في شيء ليس من حقه أن يتصرف فيه، فيكون إيجابه وقبوله وجوده وعدمه على حد سواء؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، وقوله: (بِالْبَاطِلِ) أي: بدون وجه حق، والذي يبيع مال أخيه المسلم بدون إذنه وبدون إذن من الشرع، فإنه قد باع المال بالباطل، وإذا أخذ في مقابله مالاً فقد أخذه بالباطل؛ لأنه بغير وجه حق.
وقال الله عز وجل: {إِلَاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فاعتبر رضا المالك الحقيقي، فدلَّ على أنه إذا لم يرض ولم يكن البيع منه أو بإذنه فإنه لا يصحُّ البيع، ووجوده وعدمه على حد سواء، وترجع السلعة إلى مالكها الحقيقي، فلو أن شخصاً أخذ سيارتك ليذهب بها إلى مكان فباعها، أو أجرته دارك فباع الدار، أو بعته ثمرة المزرعة فباع المزرعة، فالبيع في جميع هذه الصور باطل، وهكذا لو اغتصب مال أخيه المسلم ثم باعه فإن المال سحت، وإذا اطلع القاضي على هذا فإنه ينقض البيع ويرد المال إلى صاحبه، ويرد الأرض أو غيرها إلى مالكها الحقيقي.
وقوله: [أو من يقوم مقامه]، أي: مقام المالك، ويشمل هذا من يقوم مقامه بالوكالة، فمثلاً: إذا أذنت لشخص أن يبيع سيارتك فهو وكيل.
والوكيل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: وكيل مطلق.
القسم الثاني: وكيل مقيد.
فالقسم الأول -وهو الوكيل المطلق- يكون مطلقاً إمّا في الثمن، وإما المثمن، وإما فيهما معاً، فمثلاً: إذا قلت لشخص: بع السيارة بمعرفتك أو بخبرتك، فقد جعلته وكيلاً مطلقاً يبيعها على حسب خبرته ونظره ومعرفته، فيكون مطلق التصرف لكن في حدود معرفته وخبرته، أو أن تقول له: بعها كيفما شئت، وبعها بما شئت، فقولك له: (بما شئت) هذا إطلاق في الثمن، أي: بأي ثمن شئت غالياً كان أو رخيصاً، وهذا يسمونه: الإذن بالثمن المطلق، أو الإذن بالبيع المطلق، وقولك له: بِعْ من مالي ما شئت، فلو باع السيارات لصحَّ البيع، ولو باع الأرض لصحَّ البيع، ولو باع الأقلام أو الكتب أو الملابس إلخ لصحَّ البيع؛ لأنك أطلقت له الإذن في المبيع، وأطلقت أيضاً في الصورة الأولى الإذن في الثمن، فإمّا أن تكون الوكالة مطلقة في الثمن، أو مطلقة في المثمن، أو فيهما معاً من البائع والمشتري.
القسم الثاني: أن تكون الوكالة مقيدة، فتقيد الثمن، كأن تقول له: بِعْ هذه السيارة بعشرة آلاف ريال، فإمّا أن تقيد بمبلغ معين، أو تقيد بعرف معين، كأن تقول: بعها بسعر اليوم، فإذا قلت: بعها بسعر اليوم، فإنه لو باعها دون سعر اليوم بطل البيع، وليس من حقه أن يبيعها دون سعر اليوم، وهكذا لو قلت له: بعها بالمعروف، أي: على حسب العرف، فباعها بأقل مما يباع به مثلها، فإنه لا يصحَّ البيع.
إذاً: هذا هو الوكيل المطلق والوكيل المقيد.
كذلك أيضاً الولي يكون وصياً على يتيم، فمثلاً: رجل مات وترك ليتيمه مائة ألف، فإن اليتيم ليس له حق التصرف في ماله؛ لكن القاضي يقيم شخصاً ينظر في مصلحة هذا اليتيم، ويسمى: الولي، أو: ولي اليتيم، أو أن يكون والده قبل موته كتب وصيته أو وصى أشخاصاً وقال: فلان وصي على أيتامي، فحينئذٍ له حق النظر في أموال هؤلاء اليتامى، فيبيع ويشتري في حدود المصلحة.
هذا بالنسبة للمأذون له بالتصرف في المال، ويدخل في هذا إذا أذن السيد لعبده، فإن العبد لا يملك، وكذلك إذا أذن الولي للصبي أن يبيع بمالٍ معين أو بطريقة معينة، المهم: أن يكون البائع والمشتري مالكاً، أو يكون مأذوناً له بالتصرف بولاية عامة كالقاضي، أو بولاية خاصة كولي الأيتام ومن يقوم عليهم، أو الوصي عليهم
‌‌حكم التصرف في ملك الغير بالبيع أو الشراء
قال رحمه الله: [فإن باع ملك غيره، أو اشترى بعين ماله بلا إذنه لم يصحّ].
قوله: (فإن باع) الفاء للتفريع، فإذا تقرر أنه يشترط أن يكون مالكاً فإنه يتفرع عليه إن باع ملك غيره لم يصحَّ البيع؛ لأن هذا المال لا يملكه، ومن هنا يكون قوله: (بعتك) لشيء لا يملكه، ولا يجوز بيع مال المسلم ولا استباحة مال المسلم بدون حق، ولذلك أجمع العلماء على أن من باع مال غيره بدون إذنه ولا رضاه ولم يرض المالك الحقيقي، فإن البيع لا يصح، وينتزع المال ويرد إلى صاحبه الأصلي، وهكذا من اغتصب أرضاً وباعها، أو اغتصب سيارة وباعها، فإن البيع فاسد، إلاّ إذا أجازه المالك الحقيقي -كما سيأتي-.
وقوله: (أو اشترى بعين ماله) ذكرنا أن البيع والشراء إمّا أن يقع على معين، أو على موصوف في الذمة.
فالمعين كأن يقول له: خذ هذه العشرة آلاف أمانة عندك إلى نهاية محرم، أو خذ هذه العشرة آلاف وأعطها إلى محمد، فحينئذٍ تكون العشرة آلاف معينة، وقد تكون في الذمة، فمثلاً: يقول له: خذ من الصندوق عشرة آلاف وأعطها محمداً، فحينئذٍ تكون موصوفة، فأي عشرة آلاف يصدق عليها؟ نقول: إذا قال له: خذ هذه العشرة، وحددها وعينها، فإن عين المال أمانة ووديعة عندك فلا يجوز أن تتصرف بعين المال هذا، بل تؤدي عين المال كما أمرت إلى صاحبه، فلو أنك تصرفت في عين هذا المال، فإنه يجب عليك أن ترجع عين المال، فلو طالبك بعين العشرة آلاف فإنك تذهب وتأخذ عين العشرة آلاف من البائع وتردها إليه، أو تعقد معه عقداً جديداً، على تفصيل عند العلماء في بيع الأعيان، ثم ترد عين المال؛ لأن عين المال لا تستحقه، وليس من حقك التصرف فيه إلاّ بإذن مالكه الحقيقي، ويدك يد أمانة فينبغي أن تحفظ المال كما هو، فلما تصرفت فيه ضمنت، وعليك أن ترد عين المضمون، ومن المعروف في قاعدة الضمان: أن من أتلف شيئاً وجب عليه ضمانه، فيضمن العين، فإذا تعذر عليه ضمان العين ذهب إلى المثل، فإذا تعذر المثل انتقل إلى القيمة، هذا هو الأصل في الضمانات، وسنتكلم عليه -إن شاء الله- في باب الضمان.
وهذا هو الذي جعل المصنف يقول: (بعين ماله)
‌‌بيع وشراء الفضولي صورته وحكمه
قال رحمه الله: [وإن اشترى له في ذمته بلا إذنه ولم يسمِّه في العقد صحَّ له بالإجازة، ولزم المشتري بعدهما ملكاً].
هذه مسألة بيع وشراء الفضولي، وهذا من دقة العلماء رحمهم الله أنهم ذكروا شرط الملكية، فهنا مسألة وهي: أن يأتي شخص ويتصرف في ملكك بدون إذنك، ثم تنظر في تصرفه فإذا به تصرف حميد وتصرف رشيد، فترضاه، فهذا يسمى بمسألة بيع الفضولي وشراء الفضولي، فمثلاً: قال لك رجل: أعطني سيارتك لأذهب بها إلى الجامعة، فلما خرج جاءه رجل وقال: بعني هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال: بعتكها بعشرة آلاف، وتم البيع بينهما بعشرة آلاف، ولما رجع قال لك: هذه عشرة آلاف قيمة السيارة، فقلت: قد رضيت، فهذا هو بيع الفضولي.
مثال آخر: أعطيته عشرة آلاف وقلت له: ضعها في البنك، أو احفظها لي، فأخذ العشرة آلاف واشترى لك بها سيارة، وعلم أن السيارة تستحق ذلك، ورأى أن من المصلحة أن تستثمرها في السيارة، فاشتراها لك وجاءك وقال: العشرة آلاف التي أعطيتنيها قد اشتريت لك بها سيارة، فهذا هو شراء الفضولي، إذاً: فما الحكم في هذه المسألة؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله، وهي بيع الفضولي وشراؤه، والفضولي: هو الذي يبيع ويشتري بدون إذن شرعي، وهذا تعريف لبعض العلماء، فخرج بقولهم: (بدون إذن شرعي) من وكّل وكالة شرعية، أو كان وصياً شرعياً، أو كان وليّاً، فإن هؤلاء لهم إذنٌ شرعي، ويدخل في الفضولي بقولهم: (بدون إذن شرعي) بيع الغاصب، وعلى هذا فإنه إذا باع الفضولي أو اشترى فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: صحة البيع وجوازه إذا رضيه المالك الحقيقي، أي: يتوقف الأمر على المالك الحقيقي، فإذا رضي بالبيع وأقره صحَّ البيع ونفذ، وهذا هو مذهب المالكية، والشافعية في القول القديم، وهو مذهب الحنابلة في رواية قيل: إنها هي المشهورة في المذهب، وعليه فيجعلونه مذهباً للجمهور.
القول الثاني: صحة البيع دون الشراء، أي: يصحُّ بيع الفضولي دون شرائه، وهو مذهب الحنفية.
القول الثالث: عدم صحة بيع وشراء الفضولي مطلقاً، وهذا هو مذهب الشافعية.
إذاً: في هذه المسألة ثلاثة أقوال فأين محل الخلاف؟ نقول: العلماء متفقون على عدم صحة البيع إذا لم يجزه المالك الحقيقي، وكلهم متفقون على أن البيع فاسد، ويبقى الخلاف فيما إذا أجازه المالك الحقيقي فهل يصحُّ، أم لا يصح؟ ثم ينحصر الخلاف بين قول التفصيل والقول بعدم الجواز وبالجواز مطلقاً في حدود الحالات التي ذكروا جوازها، أعني: صحة البيع دون الشراء.
أما الذين قالوا: إن بيع الفضولي وشراءه صحيح إذا أجازه المالك الحقيقي، فقد استدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أعطى عروة بن أبي الجعد البارقي ديناراً يوماً من الأيام وقال له: (اشتر لنا من هذا الجلب شاة، فذهب عروة فاشترى شاتين بدينار، ثم باع إحدى الشاتين بدينار، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة، فقال: يا رسول الله! هذه شاتكم وهذا ديناركم، فدعا له عليه الصلاة والسلام بالبركة، وقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه)، وهذا من باب المكافأة على المعروف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكافئ من أحسن إليه، فعندما قال له: (هذه شاتكم وهذا ديناركم)، عرف ماذا قصد، فرضي البيع وقال: (اللهم بارك له في صفقة يمينه)، فكان هذا الصحابي لو اشترى تراباً لربح فيه، لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالبركة في صفقة يمينه.
وموضع الشاهد: أن عروة رضي الله عنه باع بدون إذن واشترى بدون إذن، فاشترى الشاة الثانية بنصف الدينار، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يشتري شاة واحدة، فحينئذٍ وقع شراء فضولي، وباع الشاة الثانية التي هي بنصف دينار بدينار، فوقع بيع فضولي، فصار بيعاً وشراءً من فضولي، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم كلتا الصورتين، فدّل على صحة بيع الفضولي وشرائه إذا أقره المالك الحقيقي.
وأيضاً جاء في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه عندما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتري أضحية، فاشترى للنبي صلى الله عليه وسلم أضحية وباعها بضعف قيمتها، ثم اشترى بنصف القيمة أضحية أخرى مكان التي باعها، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأضحية مع المال، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا حديث رواه الترمذي، وحسنه غير واحدٍ من العلماء.
والذين قالوا بعدم صحة بيع الفضولي مطلقاً يستدلون أولاً: بالآية الكريمة: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، قالوا: الأصل عدم جواز بيع وشراء الإنسان لما لا يملك، وبيع الفضولي وشراؤه لما لا يملكه.
ثانياً: حديث حكيم بن حزام أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الرجل يسألني المتاع أو الشيء ليس عندي، فأبتاعه له ثم أبيعه، فقال صلى الله عليه وسلم له: لا تبع ما ليس عندك)، فنهاه أن يبيع ما ليس عنده، قالوا: والفضولي يبيع ما ليس له وما ليس عنده، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان لما لا يملك بهذا الحديث.
وأما الذين فرقوا وقالوا: يصحّ أن يبيع لك الفضولي إذا أقررته وأجزته، ولا يصحّ شراؤه مطلقاً، فاستدلوا بنفس حديث عروة البارقي.
وباختصار: حديث عروة البارقي يقول الإمام أبو حنيفة: لقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اشتر لنا)، فأذن له بالشراء، وكونه يشتري شاة أو شاتين فعنده إذن مسبق، لكن أين وقع الفضول؟ وقع في بيعه للشاة بعد شرائه، فصار الحديث حجة على جواز بيع الفضولي دون شراء الفضولي، إذاً يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اشتر لنا من هذه الجلب شاة)، فعند عروة إذن مسبق بالشراء كقاعدة عامة، ولكن ليس عنده إذن مطلق بالبيع، بل حتى إذن خاص بالبيع، فتصرفه الفضولي الذي لا أذن فيه وقع في البيع ولم يقع في الشراء؛ لأن الشراء له إذن مسبق، وقد صح بيعه فضولاً.
وعلى هذا قالوا: يصحّ بيع الفضولي دون شرائه، ثم قالوا: من جهة العقد حينما يبيع لك الشيء أفضل مما يشتري لك؛ لأنه إذا باع لك الشيء جاءك بالقيمة، والقيمة تستطيع أن تشتري بها نفس الشيء، وتستطيع أن تعوض بما هو أفضل منه، لكن حينما يشتري لك فإنه يأتي لك -مثلاً- بالسيارة وأنت لا تريدها، أو يأتي لك بأرض لا تريدها؛ إذاً حينما يبيع لك ويعطيك النقد فإن النقد يصلح لشراء الكل.
والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- من هذه الأقوال: القول بصحة بيع الفضولي وشرائه؛ لأن حديث عروة البارقي صحيح في هذا، وقول الإمام أبي حنيفة: أنه أذن له بالشراء، محل نظر؛ لأننا نقول: إنما أذن له بالشراء مقيداً، ووقع تصرف عروة البارقي خارج المقيد، فكان فضولاً من هذا الوجه.
ومن هنا يستقيم مذهب الجمهور: أن بيع الفضولي وشراءه موقوف على إجازة المالك الحقيقي، وأنه متى أجازه حكم بصحة البيع ونفوذه.
والله تعالى أعلم
‌‌الأسئلة
‌‌كيفية تطهير النجاسة الجامدة

‌‌السؤال
ذكرتم طريقة تطهير الزيت من النجاسة المائعة، فكيف يطهر من النجاسة الجامدة، أثابكم الله؟


‌‌الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالنجاسة الجامدة أهون من المائعة؛ وذلك لأن تحللها وذوبانها أيسر بكثير من المائع، والتصاقها بالغير أخف، والمائعات تنقسم إلى قسمين: فمنها ما يتجمد كالسمن، فإن السمن إذا وقعت فيه نجاسة جامدة تلقى النجاسة وما حولها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في السمن إذا وقعت فيه الفأرة وهو جامد أن تلقى وما حولها، فتأخذ ما لامس الفأرة أو ما لامس الجرم النجس الجامد وتحتاط ثم تلقيه، وبذلك يحصل التطهير؛ لأنها مستقرة في المكان ولا تتجاوزه، خاصة في حالة كون السمن جامداً.
وفي هذه الحالة يكون الجامد من الزيت ما جاور النجاسة الجامدة، فتنتزع ويصب الماء في موضعها، أو يصب في حال وجود النجاسة المائعة حتى يحاذي ما حولها، والأمر أخف بكثير من النجاسة المائعة؛ لأن الجامد يمكن نقله؛ ولكن المائع يصعب نقله إلَاّ في أحوال مخصوصة.
والله تعالى أعلم

‌‌حكم بيع وأكل النبات المسقى بماء نجس

‌‌السؤال
ما حكم شراء وأكل النباتات التي تسقى بماء نجس، أثابكم الله؟


‌‌الجواب
ذكرنا أن النبات المتغذي بالنجس سواءً كان سماداً أو كان ماءً نجساً يسقى به، فهذا الأصل عدم جوازه، ولا يجوز أكله؛ لأنه متنجس على أصح قولي العلماء، والأطباء يذكرون أن هذا يضر بالصحة كثيراً، وينقل العدوى في كثير من الأمراض، فلو لم يحرم من جهة النجاسات لحرم من جهة الضرر؛ لأن شرط صحة البيع ألا يكون مشتملاً على الضرر، ولذلك نص العلماء على أن السم لا يجوز بيعه؛ لأنه لا منفعة فيه؛ بل فيه ضرر، فإذا كان المبيع فيه ضرر على الصحة وقرر الأطباء ذلك فإنه لا يحوز بيعه.
والله تعالى أعلم

‌‌فضل طاعة الوالدين

‌‌السؤال
هل يجوز للوالد بيع سيارة ابنه من غير إذنه، أثابكم الله؟


‌‌الجواب
لو باع والدي لباركت بيعه ورضيته، ولا يستطيع الإنسان البار الموفق أن يقف في وجه والده، وأن يبلغ بالابن أن يسأل والده عن بيعه لسيارته، فالإنسان ينبغي عليه أن يتعاطى البر، وأن يعلم أن الخير كله بعد توحيد الله في بر الوالدين، وأنه إذا رضي الوالد ورضيت الوالدة فقد نعم عيشه وطابت حياته، وأنه يبلغ بالإنسان الخسة واللوم والدناءة ونسيان الفضل ونكران الجميل إذا أصبح يقف في وجه والده لعرض من الدنيا، والله تعالى قد يبتلى الإنسان بوالد يضيق عليه في الدنيا؛ ولكن الله يوسع عليه بهذا الضيق في الآخرة، والإنسان العاقل الحكيم يحفظ العهد، قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان)، ومن تذكر كم أنفق عليه والده، وكم تحمل من أجله، وكم أسدى إليه من الخير والمعروف؛ فإنه يحس أنه كالمملوك لوالده، وأنه لا يستطيع أن يجزي والده إلا بالدعاء، وأمور الدنيا أحقر وأهون من أن تقف بين الإنسان وبين رضوان الله عز وجل، وَمَنْ هذا الذي يستطيع أن يرفع وجهه في وجه أبيه ويقول له: لم بعت سيارتي؟! وقد ذكروا عن رجل أنه كان من أبر الناس بوالده، وفتح الله له من أموال الدنيا ما الله به عليم، وكان لا يشتري الصفقة بعض الأحيان بمئات الألوف إلا بإذنه، وقد يأتيه والده ويقول له: اكتب لي مزرعتك الفلانية، فلا يمكن أن يراجعه، بل يكتب له جميع ما يملك، وأصبح في رغد من العيش ونعمة ضافية، وخير كثير، مع ما حازه من رضا والده.
ومما ذكروا أن رجلاً جمع مالاً قرابة الاثني عشر ألفاً، وكان هذا المال يحتاجه لزواجه، وكان والده منهمكاً في بناء عمارة، فدخل على والده يوماً فإذا به حزيناً، فقال: ما بك يا والدي؟ فقال: فلان -الذي هو المقاول- يطالب بماله، فما كان منه إلا أن ساورته نفسه أن يعطي والده ما عنده مما يريد أن يعف به نفسه عن الحرام ويرتفق به في حياته، فتردد وتلكأ، قال: حتى وفق الله سبحانه وتعالى وشرح صدري، فقمت إلى المال وقلت: هو أهون من أن يحول بيني وبين رضوان الله عز وجل، فجاء بالمال فوضعه بين يدي والده، فحلف الوالد أن لا يأخذه، وحلف هو أن يأخذه، حتى أصر على والده وهو بنفس طيبة، فلما رأى الوالد منه ذلك بكى وسأل الله عز وجل أن يرضى عنه، وأن يفتح له أبواب الخير، قال: فقمت من عند والدي وأنا أشعر بسعادة عظيمة، ومكث قرابة أسبوع، فإذا برجل ثري في المدينة يدعو صديقه، يقول: فحضرت معه، قال: فلما جلسنا بعد أكل الطعام، اشتكى هذا الثري لصديقه وقال -وكانت عنده أموال كثيرة-: أحتاج إلى وكيل، أي: شخص أمين يتوكل عن ماله، فقال له: لا أعرف لك أكثر أمانة من هذا الرجل -الذي هو البار- فما كان منه إلا أن عينه وكيلاً على أراضيه، وكانت أيامه في بيع الأراضي والعقارات، يقول: فأول صفقة جاءتني ربحت فيها مائة وعشرين ألفاً!! فانظر (اثنا عشر ألفاً) أعطاها لوالده فردها الله عليه عشرة أضعاف! مع ما له من الرضا من الله سبحانه وتعالى، ومع ما ينتظره من حسن العاقبة؛ لأن البار يفتح الله له أبواب الخير، ومن رضوان الله على العبد أن يفتح له أبواب البر، ولا يعطى البر إلا من رضي الله عنه؛ لأن من رضي الله عنه فله الرضا، نسأل الله العظيم أن يرزقنا هذا الرضا للوالدين أحياءً وأمواتاً، فإن كمال البر لا يقتصر على الحياة، بل أصدق ما يكون البر بعد الموت؛ لأن بعض العلماء يقول: إن أصدق البر بعد الموت؛ لأنه لا أحد يعلم أنك تقدم لوالدك هذا الشيء إلا الله جل جلاله.
وقد جاء رجل إلى ابن عباس وهو يبكي فقال: لقد كنت أعق أبي عقوقاً كثيراً، فقال له: أكثر من الاستغفار له بعد موته والترحم عليه؛ فإن الله يبلغك بره بعد موته كما فاتك بره في حياته.
فالإنسان الذي يريد الخير عليه أن يبر والديه، وقد تأذن الله بالرضا لمن رضي عنه والداه، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رضي الله على من أرضى والديه)، فهو في سعادة وفي حسن عاقبة.
ولقد شهدت من العلماء والعقلاء والحكماء وأجد كلمتهم متفقة على أنهم ما وجدوا البار إلا في خير عيش، ولو كان فقيراً مرقع الثياب، فإنه يعيش في سعادة البر، وقال أحد من أثق به من العلماء رحمهم الله -وقد سمعتها من أحد كبار السن-: (والله ما رأيت باراً ساءت خاتمته).
وذلك إن كان عن إيمان وإخلاص لله جل جلاله، وإلا فالكافر قد يبر، لكن قصدنا المؤمن الذي يبر لوجه الله ومرضاته، وطاعةً لله سبحانه وتعالى.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرضى عن والدينا، وأن يرحمهم كما ربونا صغاراً، ونسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسبغ شآبيب الرحمات على أمواتهم.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم اجعلهم في روضة من رياض جناتك، وأحسن الخاتمة لأحيائهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #279  
قديم 19-03-2023, 05:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (274)

صـــــ(1) إلى صــ(16)




شرح زاد المستقنع -‌‌ كتاب البيع [6]

للبيع علامات تدل على صحته، منها: أن يكون للبائع والمشتري يدٌ على المبيع، أو يكون لهما إذن بالتصرف فيه بالبيع والشراء، ومنها: القدرة على تسليم المبيع، ومنها: بيع ما كان معلوماً سواء بالرؤية أو بالصفة، فإن لم تتحقق هذه الأمور في البيع صار بيع غرر، وبيع الغرر هو بيع الشيء المستور العاقبة، وهو مما نهى الشرع عنه، وما ذاك إلا لأنه طريق لأكل أموال الناس بالباطل، ويفضي كذلك إلى النزاع والخصومات، وبه تنعدم الثقة بين المسلمين
‌‌الأرض الخراجية وحكم بيعها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة: كأرض الشام ومصر والعراق بل تؤجر].
لا زال المصنف في معرض حديثه عن الشرط الرابع من شروط صحة البيع وهو شرط الملكية، وقد بيّنا أن البيع لا يصحُّ إلاّ إذا كان البائع والمشتري لهما يدٌ على المبيع، سواءً كان ثمناً أو مثمناً، أو يكون لهما إذن بالتصرف في البيع أو الشراء، وبيّنا دليل ذلك من الشرع، وموقف العلماء رحمهم الله من مسألة بيع الفضولي، ثم ختم المصنف رحمه الله بمسألة بيع المساكن في الأراضي التي تفتح في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد بيّنا هذه المسألة، وهي أن الأراضي التي تفتح في الجهاد في سبيل الله عز وجل يخيّر الإمام في أمرها، وهي إمّا أن تفتح صلحاً، وإمّا أن تفتح بالقوة، فإن كانت صلحاً فتارةً يبقيها ويكون الصلح بينه وبين أهلها على إبقائها بأيديهم على أن يدفعوا الجزية والخراج للمسلمين، وكذلك في حالة العكس فإنها تكون ملكاً للمسلمين، ويكون خراجها أيضاً للمسلمين، وإذا فتحت الأرض عنوة فإن النظر فيها يكون للإمام إن شاء أبقاها خراجية بمعنى: أن يضرب عليها الخراج، وهو فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فإنه لما فتح الأمصار ضرب على الأرض الخراج، وأبقاها ينتفع بها أهلها، وينفعون المسلمين، وهذا الفعل من السنن العمرية التي أجمع المسلمون على اعتبارها والعمل بها على مرِّ القرون والعصور، وفي هذه الحالة إذا كانت الأرض خراجية فمعناها أنها وقفٌ على المسلمين، ولا يكون من يتصرف فيها مالكاً لعين الأرض، فله أن يبني، وله أن يزرع، وله أن ينتفع؛ لكنه ليس بمالك للرقبة الأصلية، فالرقبة الأصلية ملكٌ لعموم المسلمين، وكذلك يؤخذ الخراج إلى بيت مال المسلمين، وقد بيّنا وجه تقسيمه ووجه صرفه في كتاب الجهاد.
فالمصنف رحمه الله يشير هنا إلى مسألة الملكية، فإذا كنت قد علمت أنه لا يصحُّ البيع ولا الشراء إلا بشيء يملك من البائع والمشتري، فيتفرع على ذلك

‌‌السؤال
ما الحكم إذا باع إنسان أرضاً خراجية؟ فتقول: الأرض الخراجية لا يقع البيع عليها؛ لأنها وقف، والوقف لا يباع ولا يوهب، وإنما يبقى إلى الأبد مسبلاً محبوساً؛ لكن لو أنه أراد أن يبيع المساكن التي على الأرض، أو يبيع الزرع الذي على الأرض ويخلي بين الغير وبينه لكي ينتفع به فلا بأس.
فمعنى العبارة: أنه إذا خلت يد البائع عن ملكية الأرض وكانت له يد يملك بها ما على الأرض من بناء أو زرع وأراد أن يبيع في الأراضي المحبسة والموقوفة على المسلمين عامة، فإن البيع يكون على رقاب المحدثات على الأرض لا على الأرض نفسها.
وبناءً على ذلك: كان من المناسب أن تذكر هذه المسألة في شرط الملكية، فالأرض الخراجية لا تملك، وإنما هي وقفٌ مسبّل على المسلمين، وحينئذٍ يباع ما عليها مما فيه المنافع ولا تباع العين.
ويتفرع على مسألة الأرض الخراجية أن المسجد لا يباع؛ لأن المسجد أيضاً مسبّلٌ وموقوف على عموم المسلمين؛ لكن لو أن مسجداً ضاق على المصلين، أو انتقل الناس من حوله فأصبح مكانه خراباً ليس فيه أحد، ونظر القاضي فوجد الناس قد انتقلوا إلى منطقة أخرى وهم بحاجة إلى مسجد في المكان الذي انتقلوا إليه، والمكان الذي خلي من الناس وتركوه ليس فيه مصلون، أو ليسوا بحاجة إلى هذا المسجد، فرأى القاضي أن يبيعه فحينئذٍ لا يباع إلاّ بحكم القاضي؛ لأن الوقفية والتسبيل لا يمكن أن يجري عليها البيع ولا الهبة؛ لأنها ملك لله عز وجل، وشرط البيع والهبة أن يكون البائع والواهب مالكاً لما يبيع ويهب، وقد قررنا هذا، وبناءً على ذلك فإنه لا يصحُّ بيعه للمسجد ولا هبته؛ ولكن -كما قلنا- إذا نظر القاضي أن من المصلحة استبدال هذا المسجد بمسجد آخر فإنه من حقه أن يحكم ببيعه على تفصيل عند العلماء سيأتي بيانه إن شاء الله في كتاب الوقف
‌‌حكم بيع آبار المياه وما ينبت على الأرض من الكلأ
[ولا يصحُّ بيع نقع البئر].
ليس المهم هنا أن تحفظ المثال أو تحفظ الصورة التي يذكرها المصنف، إنما المهم أن تطبق المثال على القاعدة، ولذلك في كتب الفقه حينما تطبق الأمثلة على القاعدة فإنك تفهم، حتى ولو جاءتك مسألة عصرية تستطيع أن تخرجها على هذا الأصل ولا تتقيد بالأمثلة الجامدة؛ لأن البعض قد يقرأ الفقه جامداً فيحفظ (نقع البئر)، ويحفظ (الأرض الخراجية)، دون أن يفقه السر أو العلة أو السبب الباعث على الحكم، وحينئذٍ لا يستفيد؛ لأنه إذا طرأت عليه مسألة عصرية لم يستطع تخريج ما جدَّ ونزل على ما ذكره العلماء والسلف، وعلى هذا فإن مسألة نقع البئر كمسألة الأرض الخراجية؛ والسبب في ذلك: أننا قررنا أن اليد خالية من الملكية، فمثّل رحمه الله بالأرض الخراجية؛ لأنها موقوفة على المسلمين.
فنقع البئر، والكلأ، والنار، هذه ثلاثة أشياء المسلمون فيها شركاء، للحديث الوارد في السنن: (المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء، والكلأ، والنار)، فجعلهم يشتركون في هذه الثلاثة أشياء، فإذا كانوا شركاء في الماء وهو (نقع البئر) وما في حكمه، فمعنى ذلك أن من أراد بيع نقع البئر فقد باع ملك غيره، كما أن من أراد أن يبيع الأرض الخراجية فقد باع ملك غيره، ووقع البيع ووقعت المعاوضة على شيء لا يملكه.
وهذا وجه إدخال مسألة نقع البئر هنا، وأصل الآبار تأتي على صورتين: فتارةً تكون على عيون جارية في الأرض تنفجر ثم تنبع من هذه العيون التي تجري في الأرض، سواءً كانت عيوناً مالحة فآبار مالحة، أو عيوناً حلوة فآبار حلوة، أو جامعة بين الاثنين فيختلط فيها العذب بالمالح لكنهما يختلطان فوق ولا يختلطان في الأسفل، كما أخبر الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:53].
فالمقصود: أن الله سبحانه وتعالى جعل العيون الجارية تتفجر فتكون في الآبار.
وتارة يكون البئر بالجنة وهي جنة البئر، بمعنى: أن يحفر البئر بالطريقة القديمة، ويكون الماء الموجود فيه عن طريق التسرب الذي يكون في جنبات البئر لا عن طريق عين في ذات البئر، فيستوي الحكم في كلتا الحالتين، سواءً كان نقع البئر من عينٍ من الأرض فارت وصعدت، أو كان نقع البئر جنة مجموعة من أطراف البئر خاصةً في الأماكن الخصبة التي فيها ماء كثير، فإنه لا يحفر الإنسان إلى أمدٍ قريب إلاّ ويجد الماء بغزارة في الذي حفر، فسواء كانت البئر عادية منفجرة عن عين، أو كانت البئر مجتمعة من الجنة، وعلى هذا ففي كلتا الحالتين لا يصحُّ بيع نقع البئر.
ونقع البئر يكون فضلاً من الماء، فإذا كان عندك بستان وأردت أن تستقي من بئر أحدثته فأنت أحق وأولى؛ لكن لو زاد من هذا الماء زائد وفضل وجاء إنسان يريد أن يشرب منه أو يسقي دوابه أو يريد أن يأخذ منه للسفر كما يقع في الآبار التي تكون على السبل والطرق فالأمر أشد، فمنع هذا الفضل فيه وعيدٌ شديد، ولذلك أخليت الملكية عن هذا، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن بيع نقع البئر، وفي الحديث الصحيح: أن من فعل ذلك -بمعنى أنه منع فضل مائه- فإن الله لا يكلمه يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ويقول الله له -كما في الحديث القدسي الصحيح-: (كما منعت فضل مائك اليوم أمنعك من فضلي)، ومن منعه الله من فضله فهو على هلاك، ولذلك قال العلماء: منع فضل الماء عن المحتاج إليه وعن الناس كبيرة من كبائر الذنوب، ينبغي للمسلم أن يتقيها، وأن يمكن أخاه المسلم إن احتاج إلى هذا الماء، وهكذا العشب الذي ينبت في أرضه، إذا جاء إنسان يريد أن يحتش من هذا العشب لغنمه أو لدوابه فإنه يمكنه من ذلك، وهكذا لو كانت له أرض أو كان له حوش فنبت في هذا الحوش نبت ومرعى وأراد إنسان أن يأخذ منه لبهائمه فقال له: لا تدخل الحوش، فهذا لا يجوز؛ لأن هذا النبت مما يشترك فيه المسلمون، والله أنبته في أرضه وليس بيده ولا بوسعه أن ينبته، وكم من إنسان يلقي بذره ولا يجد منه شيئاً؛ لأن الله إن شاء أن تنبت الأرض أنبتت، وإن شاء ألا تنبت فإنها لا تنبت، فهي لا تنبت إلا بأمر الله وقدرته، فالله أخرج الماء وأخرج الكلأ، وكذلك الذي يحتطب من شجر الحطب فإنه يُمّكِّن الغير منه، ولو كان عند الإنسان أرض فنبت فيها السمر أو نبت فيها الشجر الذي تأكله الإبل ولو كان مما له شوك فإنه لا يجوز له أن يمنع من له إبل أن يرعى بإبله في هذا؛ لكن لو كان في هذا المكان عورة كأهله ونسائه ويخشى من دخول هذا الرجل عليه، ولا يمكنه التحفظ، فمن حقه أن يمنع مدة وجود العورة، لكن إذا وجد البديل بأن يُمَكنَه من أن يحتش بنفسه ويراقبه ويحفظ عورته فإنه يمكنه من ذلك.
والشاهد من هذا كله: أنه لا يصح بيع الإنسان لشيء لا يملكه، أو لشيء يشترك فيه معه غيره، ويأتي الغير لكي يأخذ حقه فيمنعه أو يأبى إلا أن يبيعه عليه أو يأخذ المعاوضة، فإنه لا يجوز له ذلك.
قال رحمه الله: [ولا ما ينبت في أرضه من كلأٍ وشوك].
من باب أولى إذا نبت في أرض الله الواسعة فالأمر أعظم، فإذا نبت في أرض الله الواسعة وجاء إنسان يريد أن يرعاه لغنمه أو يرعاه لإبله ودوابه أو يريد أن يحتش منه لبهائمه فإنه لا يجوز لأحد أن يمنعه؛ لأن هذا الحشيش مما يشترك فيه المسلمون بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: [ويملكه آخذه].
ويملك هذا الحشيش من احتشه، ويملك هذا النقع من الماء من استخرجه، فلو أنك استخرجت من البئر ماءً ثم أخذت هذا الماء وبعته، فلا حرج كما يجري الآن من بعض أصحاب السيارات الذين ينقلون المياه، فإنهم يتكبدون المشقة بالذهاب إلى الآبار، وكذلك استخراج المياه ودفع القيمة لمؤنة رفع هذا الماء ووضعه في خزاناتهم التي معهم، فحينئذٍ يجوز لهم البيع؛ لأنهم لما أخذوه وحازوه ملكوه، ولو أتيت إلى أرض فضاء ثم أخذت منها العشب فإنك تملكه بالحيازة، وهذا ما يسميه العلماء بملكية الحيازة، فهم مشتركون فيه، بمعنى: أن لكلٍ أن يأخذه، فإذا سبقت إليه وأخذته وحزته فإنك تملكه، لكن لو أن إنساناً سبق إليه ثم وضع سياجاً عليه وقال: أنا سبقت، وهذا لي، نقول: هذا ليس لك، إنما يكون لك إن حصلت الحيازة، فشرط الملكية الحيازة التي تكون بالحش في الحشيش، وكذلك أشجار الحطب إذا قطعها، وكذلك الماء إذا استنبطه واستخرجه، بأن أخذ الدلو فنزحه، فإذا نزحه واستنبطه واستخرجه من البئر فإنه يكون ملكاً له، فحينئذٍ يجوز له بيعه، لكن إن كان على سابلة وجاءه المحتاج الذي لا يستطيع أن يستخرج كما استخرج، والماء زائدٌ عنه فلا يجوز أن يبيعه؛ لأنه من فضل الماء في هذه الحالة، وعلى هذا فإنه يجوز للإنسان أن يبيع الماء إذا حازه، وتتخرج على هذا مسألة ماء زمزم إذا أُخذ وحازه الإنسان ملكه وجاز له أن يشربه لنفسه، وجاز أن يهبه للغير؛ لكن هل تجوز فيه المعاوضة وبيعه على الغير؟ هذا فيه تفصيل: الورع أن يبيعه بكلفة الإحضار بمعنى: أن يكون بمثابة الأجير، يقول: هذا الماء أحضره لك بعشرة ريالات على كلفة الإحضار، لا أن يبيع نفس الماء، وهذا من باب الورع؛ لأن لماء زمزم خصوصية دون غيره.
ولكن من أهل العلم من قال: إنه إذا حازه الإنسان، وكان الذين يبيعونه لا يضرون بالغير، بمعنى: أنه يمكن للغير أن يذهب بنفسه ويأخذ، وليس فيه مشاحة ولا أذية، فإنه يجوز البيع، وهذا له وجه؛ لأنهم قد ملكوه وحازوه، وتكبدوا مشقة استخراجه، ثم إن الغير يمكنه بنفسه أن يأخذ هذا الماء، فإن اختار أن يأخذه منهم فإنه له وجه أن يقال بجوازه، والورع ما ذكرناه
‌‌تعريف بيع الغرر وأدلة تحريمه
قال رحمه الله: [وأن يكون مقدوراً على تسليمه].
الآن سيشرع المصنف في الشرط الخامس والسادس، وقبل الدخول في الشرط الخامس والسادس لصحة البيع ننبه على أن كلاً من الشرط الخامس: وهو القدرة على التسليم، والشرط السادس: وهو العلم بالمبيع بالصفة أو الرؤية أو غير ذلك مما يعرف به المبيع، كلا الشرطين يتخرج على قاعدة في الشريعة، وهي نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وكل الذي سنتكلم عليه في الشرط الخامس والسادس مفرّع على قاعدة الغرر، وبناءً على ذلك نحتاج إلى معرفة: أولاً: ما هو الغرر لغة واصطلاحاً؟ ثانياً: ما هو الدليل على تحريم بيوع الغرر، أو ما هي الأحاديث والنصوص التي وردت في تحريم هذا النوع من البيوع؟ ثالثاً: ما هي الحكمة التي يمكن أن نستفيدها من تحريم هذا النوع من البيع، أو ما هي المقاصد والمصالح التي قصد الشرع تحقيقها من تحريم هذا النوع من البيع؟ ثم بعد ذلك نشرع في شرح ما ذكره المصنف رحمه الله في هذين الشرطين.

أمّا الغرر: فأصله مأخوذ من غرَّ فلانٌ فلاناً إذا خدعه أو خاطر به.

فالغرر فيه مخاطرة، ويوصف الإنسان بكونه غرّ غيره إذا لم يمحضه النصيحة، وعلى هذا فإن هذا البيع ليس فيه نصيحة، بمعنى: أن صور البيع في الشرط الخامس والسادس عند مخالفة الشرط كلها خداعٌ وختلٌ من البائع للمشتري، أو من المشتري للبائع، أو من كل منهما للآخر.
وأمّا في الاصطلاح فإن بيع الغرر اختلفت فيه تعاريف العلماء، ومن أنسبها قول بعضهم: بيع الغرر هو بيع مستور العاقبة.
أو هو بيع الشيء المستور العاقبة، بمعنى: أن يبيعك شيئاً لا تدري أيكون، أو لا يكون، كأن يقول لك: أبيعك ثمرة بستاني السنة القادمة، فإننا لا ندري هل يخرج البستان ثمرة في العام القادم، أو لا يخرج، فهو مستور العاقبة، ثم إذا أخرج فلا ندري أيخرج سالماً أم يخرج به مرض وآفة، ثم إذا خرج به المرض والآفة فلا ندري الآفة غالبة أو السلامة غالبة، وحينئذٍ كأن البيع في هذه الأحوال فيه مخاطرة، فكأن البائع يخاطر بالمشتري.
ومثل أن يقول له: أبيعك ما تحمله هذه الناقة السنة القادمة، أو أبيعك حمل هذه الشاة الآتي، كل هذا من بيع الغرر مستور العاقبة، وفي العصر الحديث يقع بيع المستور العاقبة مثل بيع الرقم (واليانصيب): وذلك بأن يعطيه عشرة ريالات لقاء رقم لا يدري أيجد فيه شيئاً أو لا يجد ثم إذا وجد شيئاً لا يدري أيجد شيئاً غالي الثمن، أو يجد شيئاً عكس ذلك، أو يجد شيئاً مساوياً للثمن الذي دفعه، فالعاقبة مستورة، فيحتمل أن يربح ويحتمل أن يخسر، فيجعل البائع المشتري متردداً بين الأمرين، وربما أيضاً يخدع المشتري البائع فيقول له: أشتري منك هذا الكتاب بما في يدي، فلا ندري ما الذي في يده، أهو مثل قيمة الكتاب، أو هو دون، أو هو أكثر؟ فيقع التغرير من المشتري للبائع، وقد يقع منهما الاثنين، كأن يقول له: بعني شيئاً بما في يدي، فقال له: أبيعك شيئاً من أشيائي أو شيئاً من ممتلكاتي، أو أبيعك كتاباً من كتبي، فلا ندري أهذا الكتاب هو الكتاب النفيس، أو هو الكتاب الرخيص؟ فهذا كله من بيع الغرر.
ومن حكمة الله سبحانه ولطفه بعباده أنه رحمهم بهذه الشريعة، وهي شريعة الإسلام، ومن أمثلة الرحمة في شريعة الإسلام أنها لم تقتصر على العبادة بل تناولت حتى المعاملة، فأنت إذا دخلت السوق تريد أن تشتري أو تريد أن تبيع فإن الشرع يريد أن يوقفك على ثمن معلوم وعلى مثمن معلوم، ويريدك إذا دفعت المال أن تدفعه لقاء شيء أنت مطمئن وراضٍ في نفسك أن تبذل مالك لقاءه، وكذلك العكس، تبذل سلعتك لقاء هذا المال الذي يدفع لك، ويكون المال معلوماً غير مجهول، منضبطاً بما يتحقق به الأصل الشرعي في الثمن أو شروط الثمن من العلم بجنسه وقدره وعدده -على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله-.
فالمقصود: أن تحريم بيع الغرر إنما هو مبني على الجهالة.
كذلك أيضاً في حكم الغرر أن يقول لك: أبيعك السمك الذي في الماء، أو أبيعك الحمام الذي في الهواء، فيقول: أرأيت هذه الثلاث الحمام؟ قال: نعم، قال: هذه كانت لي وفرّت عني، وأنا أبيعك كل واحدة بعشرة، فإن أمسكتها فهي لك، أو بعير شرد من عنده أو شاة شردت فقال له: أبيعك هذه الشاة أو هذا البعير بعشرة، فهذا كله من بيع الغرر؛ لأنه يحتمل أن يمسكه فيسلم، ويحتمل أن لا يمسكه فيخسر، ففي جميع هذه الصور يكون البيع مستور العاقبة، ولا يدري العاقد أهو يسلم أو يخسر؟ وقد حرّم الله عز وجل هذا النوع من البيوع، وثبتت النصوص والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمه.
فأول هذه النصوص ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)، هذا الحديث يدلُّ دلالةً واضحةً على أنه لا يجوز بيع الغرر، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (وإذا نهيتكم فانتهوا)، فقد نهانا عن بيع الغرر، فدلَّ على أنه لا يجوز للمسلم أن يتبايع ببيع الغرر، لا آخذاً ولا معطياً.
كذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (نهى عن بيع حَبَل الحَبَلَة)، وبيع حبل الحبلة يأتي على صور، منها: أن يبيعه ما في بطن الناقة، أي: حمل الناقة أو حمل الشاة؛ والسبب في هذا: أننا لا ندري هذا الانتفاخ أهو جنين، أو مرض؟ ولو كان جنيناً لا ندري أهو حيٌّ، أو ميت؟ ولو كنا نعلم عن طريق أجهزة وأمكن الآن أن يستطلع أو يستكشف أنه حي أو ميت فلا ندري أيبقى حياً إلى الولادة، أو يموت؟ ثم إنه لو بقي حياً إلى الولادة وخرج أيخرج كامل الخلقة، أو ناقص الخلقة؟ فإذاً: هذا النوع من البيوع حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حَبَل الَحَبَلَة).
كذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه: (نهى عن بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري)، وأنت إذا تأملت نهيه -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه- عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ما هو إلاّ خوف الغرر؛ لأن الثمرة قبل بدو الصلاح يحتمل أن تسلم فتغنم وتكون رابحاً، ويحتمل أن تتلف ولا تخرج فحينئذٍ تغرم وتكون خسراناً، وبناءً على ذلك حرّم النبي صلى الله عليه وسلم بيعها قبل بدو الصلاح، وأكد هذا بالعلة في حديث أنس الثابت في الصحيح: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك فبم تستحل أكل ماله؟!) انظر إلى هذه الجملة: (أرأيت) أي: أخبرني، (لو منع الله الثمرة عن أخيك) أي: لو بعت أخاك المسلم الثمرة قبل بدو الصلاح، فمنع الله الثمرة ولم تخرج (فبِمَ تستحل أكل ماله؟) فمعناه: أن المال سيدفع لقاء شيء غير مضمون، أو لقاء شيء لا تُعْلم عاقبته.
وثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين والمعاومة)، وبيع السنين هو الموجود عند بعض الناس اليوم، وهو أن يبيعه ثمرة البستان ثلاث سنوات أو سنتين، والمعاومة: أن يبيعه ثمرة البستان عاماً أو عامين، وبيع السنين والمعاومة بيع للمجهول، وبيع لمستور العاقبة، فدخل في بيع الغرر.
كذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه نهى عن بيع ما في الضرع)، وهذا النهي عن بيع ما في الضرع مبني على الجهالة بما فيه، فلا ندري أهو سالم أو ليس بسالم؟ ثم لو خرج اللبن لا ندري أهو قليل أو كثير؟ فهو مجهول.
وقد يقول لك قائل: هذا الضرع ما دام منتفخاً فالغالب السلامة، والغالب أن فيه لبناً، تقول له: لو سلّمت لك أنه سالم وأنه لبن فهل سيخرج لبناً صحيحاً، وكم قدره هل هو كثير أو قليل؟ فلو كان كثيراً فإنه قد غبن البائع، ولو كان قليلاً فقد غبن المشتري، فإمّا أن يغبن هذا وإمّا أن يغبن هذا، وبناءً على ذلك عدل الله عز وجل بينهما -بين العاقدين- والشريعة بتفصيلاتها وأحكامها المتعلقة بالمعاملات أنصفت البائع وأنصفت المشتري، فلم تظلم هذا ولا هذا، وهكذا الشأن في المعاملات المالية وغيرها، ولذلك قال الله عز وجل: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279].
وكما دلّت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم هذا النوع من البيع، سواء كان مجهول العاقبة فلا ندري أيسلم أو لا يسلم؟ أو كان مجهول القدر والصفة فلا ندري أهو كامل أو ناقص؟ جاء كذلك دليل الإجماع يؤكد هذا المعنى، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن بيوع الغرر لا تجوز
‌‌الحكم المستفادة من تحريم بيع الغرر
فإذا عرفنا أن دليل السنة والإجماع على تحريم هذا البيع.
يبقى السؤال الأخير: ماذا نستفيد من تحريم هذا البيع؟ أو ما هي الحكم التي يمكن أن نستفيدها من تحريم الشريعة لهذا النوع من البيوع؟
و
‌‌الجواب

إن الله عز وجل إذا أمر أو نهى فإنه الحكيم العليم الذي هو أعلم وأحكم بشرعه وأعلم بعباده، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] جل جلاله وتقدست أسماؤه وهو أحكم الحاكمين، فالله جلَّ وعلا قد ينهى عن الشيء في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وقد لا نُدرك الحِكَم؛ ولكن لا شك ولا ريب أن فيه حكمة، سواءً علم المسلم أو لم يعلم.
ومما ذكره العلماء من الحكم في سبب تحريم هذا البيع: أن بيع الغرر طريق لأكل أموال الناس بالباطل، والشريعة لا تأذن بأكل أموال الناس بالباطل؛ لأنه لو أذن للناس أن يبيعوا الأشياء المجهولة، فإن معنى ذلك أن الشريعة بإجازتها لهذا النوع من البيع تفتح الباب لأكل أموال الناس بالباطل، ولو كان الريال لا قيمة له عندي فله قيمة عند الغير، فالشريعة لا تفرق بين الغني والفقير، ووضعت هذه القاعدة أنه لابد من الإنصاف في الحقوق والأموال المدفوعة وأن تكون لقاء ما دفعت دون ظلم للمشتري، وكذلك أيضاً دون ظلم للبائع إذا ظهر الشيء أكثر مما يظن به.
ومن الحِكم: أن هذا النوع من البيوع مفضٍ إلى الخصومات والنزاعات، خاصة إذا كان المال له قيمة كبيرة، فإن الله عز وجل قال: {وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، فالنفوس مجبولة على شحها بالمال، وقال: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37]، فالأموال تعلقت بها النفوس، حتى إن الدماء سالت والأرحام قطعت والأعراض انتهكت بسبب الأموال -والعياذ بالله-، ففيها فتنة عظيمة، فإذا رأى الشخص أنه يدفع الألف والألفين والثلاثة والأربعة ثم لا يجد شيئاً فإنه ليس من السهولة أن يسكت، فلن يسكت عن هذا الذي أخذ منه، وسيقول مباشرة: قد أخذت مالي بدون حق، يقول له: بعتك، يقول: نعم اشتريت منك أظن أنه سيسلم، وتبين أنه لم يسلم، فحينئذٍ تقع بينهما الخصومة والنزاع، وإذا لم تقع الخصومة فإنه سيتربص لكي ينتقم منه كما أخذ ماله، ويبحث عن حيلة وعن طريقة لذلك، خاصة إذا كانوا تجاراً مع بعضهم فإنه ينتقم بعضهم من بعض، وتصبح أسواق المسلمين محلاً للشحناء والبغضاء، وكأن باب البيع أصبح هادماً لأصول الشريعة ومقاصدها العظيمة.
وانظر إلى حكمة الشريعة فإنها تبيح لنا الدنيا؛ ولكن بشرط ألا تفسد الدين، ومن هنا تجد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض)؛ لأنه إذا باع المسلم على بيع أخيه المسلم حصلت المنفعة الدنيوية، على حساب المفسدة الدينية، وهذا من أدق ما يكون في المنهج، وأحكم وأعدل ما يكون في حكم الله عز وجل وشرعه في المعاملات المالية، فإن هذا النوع من المعاملات يفضي إلى الخصومات، ويفضي إلى أكل الأموال بالباطل، ويفضي أيضاً إلى إضرار المسلمين بعضهم ببعض.
ومن الحِكم أيضاً: أنه لو فتح هذا النوع من المعاملات المالية وهو بيع الغرر فإن هذا يفضي إلى انعدام الثقة وسلبها من النفوس، فتدخل إلى السوق وأنت لا تأمن على مالك، وكذلك لو مكّن التجار أو مكّن بعض التجار من بعض هذه المعاملات المحرمة فرأى غيرهم أنهم يربحون يتجه التجار كلهم إلى هذا النوع من المعاملات، فتدخل إلى السوق وأنت تريد شيئاً فلا تستطيع أن تصل إليه إلا بالمخاطرة، فتنعدم الثقة في التاجر، وهذا ضرر اقتصادي، فهو من نظرة اقتصادية مفسدة تضر بمعاملات الناس والتجارة نفسها، فحرص الإسلام على وجود الثقة، فالإنسان إذا جاء يريد أن يشتري الشيء يشتريه وهو على ثقة وعلى أمانة ونصيحة من أخيه المسلم، وحينئذٍ يكون هذا أدعى إلى طمأنينة الناس، وكذلك ثقتهم بالتجار، ولذلك تجد في أسواق المسلمين من الثقة والمحبة والخير ما لا تجده في أسواق غيرهم، وإذا نظرت إلى الأسواق التي تنبني على المعاملات الواضحة الخالية من الغرر تجدها أسواقاً رابحة رائجة، والناس فيها في طمأنينة وفي سعادة وفي خير كثير؛ لأن الله تكفل بهذا الخير لمن اتبع دينه وشرعه، وجعل الخير لمن عمل بهذه الأحكام التي شرعها لعباده سبحانه وتعالى، فالحمد لله على فضله ورحمته، لا نحصي ثناءً عليه سبحانه وتعالى
‌‌من شروط صحة البيع: القدرة على تسليم المبيع
قال رحمه الله: [وأن يكون مقدوراً على تسليمه].
وهذا هو الشرط الخامس، أي: يشترط في صحة البيع أن تبيع الشيء المقدور على تسليمه، وهذا مبني على نفس الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)، فإذا باعه شيئاً لا يقدر على تسليمه، فإنه قد يعجز عن الإمساك به أو عن وجوده، فيكون أخذ المال حينئذٍ من أكل المال بالباطل، وقد قال الله عز وجل: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188]، وأيضاً: لو أنه باعه شيئاً غير مقدور على تسليمه فقد فوت مصلحة البيع؛ لأن مقصودك من شراء هذا الشيء أن تستفيد منه، فإذا باعك على وجه لا تتمكن من أخذه واستلامه فمعنى ذلك أنه فوت مقصودك من البيع بالكلية.
ويحرم بيع الشيء الذي لا يقدر على تسليمه بإجماع العلماء رحمهم الله، ولهذا أمثلة: فقال رحمه الله: [فلا يصحّ بيع آبقٍ وشارد].
الفاء للتفريع، وهذا مفرع على الشرط، فإذا ثبت أنه لا يصحُّ البيع لشيء لا يقدر على تسليمه، فلا يصح بيع الآبق، وهذا في العبيد والإماء فإذا شرد العبد أو شردت الأمة فإنه لا يصح بيعه وبيعها إلاّ لمن يقدر على إمساكه وإمساكها، فإذا كان قادراً على إمساكه أو الإمساك بها فإنه حينئذٍ تفوت علة التحريم، وأصبح كأنه مقدورٌ على تسليمه، لكن إذا كان الشيء لا يقدر على تسليمه فإنه لا يصح البيع ولا يجوز؛ لأنه من الغرر.
وأمّا (الشارد) فإنه يكون في الحيوانات مثل: أن يشرد البعير، أو الشاة، فإنه لا يصح بيعه؛ لأنه قد يعجز عن الإمساك به واللحوق به، وحينئذٍ يكون البائع قد أكل المال بالباطل، وهذا كمثال على الأشياء القديمة، وفي عصرنا الحاضر لو أن إنساناً باعك شيئاً لا تتمكن من إمساكه ولا تتمكن من أخذه والانتفاع به فإنه يعتبر في حكم بيع الآبق، وفي حكم بيع الشارد، ويكون أخذه للمال من باب أكل المال بالباطل، فمثلاً: لو كانت السيارة ضائعة، فقال له: يا فلان! سيارتك الضائعة أنا أشتريها منك بعشرة آلاف ريال، فإن وجدتها فأعطنيها، وإن لم تجدها فالعشرة آلاف ملك لك، فهذا لا يجوز.
وقد يقول قائل: المشتري رضي بذلك وقال: العشرة آلاف ملك لك، نقول: رضا المشتري لا عبرة به، ولذلك لو أن شخصاً استدان من شخص مائة ألف ريال وقال: أردها مائة وعشرة، وأنا راضٍ أن أدفع العشرة آلاف فوق المائة، نقول: رضاك وجوده وعدمه سواء؛ لأن هذا النوع حرمه الله عز وجل، فلو قال: أنا راضٍ بالسيارة وجدتها أو لم أجدها، نقول: هذا سفه، وإنما لم يقبل رضاه لأنه يخاطر، وإذا خاطر كأنه يتصرف في ماله تصرف غير الرشيد وهو السفيه، فيحجر عليه الشرع ويقول له: رضاك وجوده وعدمه سواء فلا عبرة به، ولا يوجب الحكم بِحلِّ هذا النوع من المعاملات المحرمة.
قال رحمه الله: [وطيرٍ في هواء].
كما قلنا أنه يقع في الحمام الذي يطير ويفر من الإنسان، فإنه لا يصح بيعه إذا كان طائراً في الهواء؛ لكن لو أمكنه أن يمسكه فإنه يصح البيع.
قال: [وسمكٍ في ماء].
فلو قال له: هذا السمك الذي في البحيرة ملكٌ لي، أبيعك منه سمكة بعشرة، لا يصح لأمرين:
الأمر الأول: الجهالة.
الأمر الثاني: عدم القدرة على الإمساك به.

لكن لو كان السمك في بركة، أو مستنقع محدود، أو كان في مكان يمكن الإمساك به وأخذه فلا بأس، فمثلاً: الآن بعض باعة السمك يجعل السمك في أحواض، حتى يكون طازجاً في متناول الإنسان، فيكون حديث العهد بحياته فيكون لحمه ألذ وأطيب، ويقول: إذا أردت -مثلاً- من نوع كذا فبعشرة أو من نوع كذا فبعشرين، فهذا جائز؛ لأنه يمكنك أن تمسك به، وإن لم تستطع إمساكه فبإمكانه هو أن يمسك به، فيجوز، لماذا؟ لأن العلة القدرة على التسليم، فلما كان الذي في الحوض مقدوراً على تسليمه واستلامه جاز بيعه وصح، ولما كان أصل العلة هي عدم القدرة فإنه لا يؤثر كونه في حوض مقدور على تسليمه أو مقدور على الإمساك به.
قال رحمه الله: [ولا مغصوب من غير غاصبه أو قادرٍ على أخذه].
المغصوب مثل الشيء الضائع، فإنه لو جاء شخص وأخذ سيارتك بالقوة وغصبها منك، أو أخذ أرضك بالقوة واغتصبها منك، أو أخذ كتابك أو قلمك أو شيئاً لك بالقوة، وأنت لا تستطيع أن تأخذ هذا الشيء منه ولا أن تسترده، فلا يحلُّ لك أن تبيعه؛ لأن الخسارة والبلاء نزل بك، فلا يجوز أن تكون أنانياً شحيحاً تلقي بالبلاء على غيرك، فحينئذٍ تصبر، كما لو نزل بالإنسان مرض أو سقم فإنه يصبر على هذا البلاء، فكما أنه يُبلى في نفسه يُبلى في ماله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:186] فيسعك الصبر، أمّا أن تحمل هذا البلاء على أخيك المسلم، ولو كان راضياً بسفهه، فإنه لا يصحُّ هذا، إلاّ إذا كان الشيء المغصوب يريد أن يشتريه مَنْ غَصبه، فلو قال الغاصب: هذه مائة ألف لقاء أرضك، فيصحّ البيع بشرط: أن تكون راضياً به، أمّا لو كنت غير راضٍ فحينئذٍ يعتبر من أكل المال بالباطل، ويعتبر ظالماً لك في أخذه وانتزاعه منك بالقوة، وأما إذا وجد شخص يقدر على أخذه من الغاصب فمثلاً: أخذ رجلٌ منك سيارة وأنت لا تستطيع أن تأخذها، وهناك رجلٌ قادر على أخذها منه، فقال لك: بعنيها وخلِّ بيني وبينه، فقلت له: أبيعكها بعشرة آلاف، صحَّ البيع وجاز؛ لأن العلة في المنع هي عدم القدرة وقد زالت، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #280  
قديم 19-03-2023, 05:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (275)

صـــــ(1) إلى صــ(16)


‌‌من شروط صحة البيع: أن يكون المبيع معلوماً بالرؤية أو الصفة
قال رحمه الله: [وأن يكون معلوماً برؤية أو صفة].

وهذا هو الشرط السادس: أن يكون المبيع معلوماً برؤية أو صفة، فإذا بعت شيئاً أو اشتريت شيئاً فلابد وأن يكون الثمن والمثمن معلوماً إمّا برؤية أو صفة، وبعبارة أوضح: ألا يكون المبيع مجهولاً جهالةً مؤثرة، فبعض الأحيان يقول لك: أبيعك شيئاً بعشرة آلاف أو بمائة، وهذه جهالةٌ كلية، فلا تدري ما هو هذا الشيء؟ أهو من الأحياء أم من الجمادات؟ أهو غالٍ أم رخيص؟ فهذه جهالة مستحكمة من جميع الوجوه، فلا تدري بجنسه، ولا نوعه، ولا صفته، ولا قدره، ولا عدده، ولا تدري ما هو هذا الشيء، فالبيع باطل ولا يجوز.
وفي حكم هذا البيع ما يوجد الآن من شراء الأرقام، فإنك تشتري رقماً لا تدري ما الذي فيه، ولربما دفعت العشرة أو المائة في رقم لا يخرج منه شيء، ففي هذه الحالة تكون الجهالة مستحكمة، وفي بعض الأحيان يكون المبيع معلوم الجنس لكن غير معلوم النوع، أو معلوم الجنس والنوع لكنه غير معلوم الصفة أو غير معلوم القدر أو غير معلوم العدد.
ومثال ما كان معلوم الجنس مجهول النوع، كأن يقول له: أبيعك بهيمة بألفٍ، فإن بهيمة الأنعام: إبل وبقر وغنم، فلا ندري أهي من الإبل أم من البقر أم من الغنم، فجهل النوع، والجهالة بعد ذلك مستتبعة، فلا ندري من أي الأنواع، ونفس النوع لا ندري أجيّدٌ هو أم رديء؟ فإذا قال له: أبيعك حيواناً، فهذه جهالة، ولو: حددّ النوع، فقال: أبيعك إبلاً بمائةٍ أو بألفٍ، لم يصح؛ لأنه وإن حددّ النوع فإن الصفة غير معلومة، والعدد غير معلوم، فهذه جهالة للصفة والعدد، ولو حدّد العدد فقال: أبيعك بعيراً واحداً، فقد علمنا الجنس وأنه من بهيمة الأنعام، وعلمنا النوع أنه إبل، وعلمنا العدد أنه بعير واحد؛ لكن جهلنا الصفة، فلا ندري ما هي صفاته؟ أهو كبير السن أم صغير السن؟ ثم أهو متصف بالصفات الجيدة أو الرديئة أو وسط بينهما؟ كذلك أيضاً قد تعلم الجنس وتعلم النوع؛ لكن لا تعلم العدد والقدر، فلو قال لك: أشتري منك بيتك بذهبٍ، فأنت هنا علمت جنس المال ونوعه الذي هو الذهب، لكنك لا تدري كم قدره؟ فلا ندري أهو مائة جنيه أو مائتين أو جنيهاً واحداً؟ فحينئذٍ لا تدري كم قدره وعدده، فهذه جهالة مؤثرة، وأياً ما كان فالجهالة مؤثرة وموجبة لفساد البيع بشرط: أن تكون جهالة موجبة للغرر؛ لأن هناك أنواعاً من الجهالات لا توجب الغرر، وقد تغتفر للضرورة، فمثلاً: حينما يقول لك: بعتك هذا البيت بعشرة آلاف ريال، وأنت تعرف كم عدد غرفه، وتعلم ما هي أوصافه، والحي الذي هو فيه، أو تكون قد دخلت البيت ورأيته؛ لكن هناك جهالة، وهي أنك لا تعلم هل أساس البيت جيد أم رديء؟ لأنه مغيب عنك، فيحتمل أن يكون الأساس منهاراً أو غير منهار، ثم إذا كان غير منهار قد يكون جيداً وقد يكون رديئاً لا يعيش ولا يبقى إلى سنوات عديدة، أو أنه يتلف بكثرة الأمطار أو بالسيول، فهذه جهالة مغتفرة للضرورة، لكن المشتري لو اكتشف أو تبيّن له أن الأساس فيه عيب، واطلع على هذا العيب فإن من حقه أن يرده، فهي تغتفر لإعمال العقد، ولكن إذا تبيّن وجود ما فيه ضرر فمن حقه أن يطالبه بضمان الأرش، أو يطالبه برد البيع وأخذ الثمن الذي دفعه.
قال رحمه الله: [فإن اشترى ما لم يره، أو رآه وجهله، أو وُصِف له بما لا يكفي سلماً لم يصح].
الجهالة ترتفع بالعلم بالشيء المبيع، وعليه فالأصل أن يكون المبيع معلوماً، ولذلك بعض العلماء يعبر عن هذا بعبارة أدق ويقول: أن يكون المبيع معلوماً، فلما يقول (معلوماً)، يحدد العلم الذي يشترط وجوده بالجنس والنوع والقدر أي: معلوم الصفات، وقصد المصنف رحمه الله أن يبين أن بيع المجهول لا يصح، فإذا اشترى ما يجهل فيه جهالة مؤثرة -ما لم يره ولم يعلم صفته- فإنه لا يصحُّ البيع، قال له مثلاً: أبيعك أرضاً في مخطط (20×20)، فإنّا لا ندري أهي في مخطط غالٍ أو رخيص؟ لا ندري أتكون في مكانٍ محمود ومرغوب أو في مكان غير محمود ولا مرغوب أو في مكان وسط بين ذلك؟ فحينئذٍ يبيعه شيئاً لم يره، ولم يوصف وصفاً تزول به الجهالة، فإذا باعه شيئاً رآه أو شيئاً وصفه له صفة تزول بها الجهالة صحَّ البيع، قال له: أبيعك أرضاً طولها كذا وعرضها كذا، في شارع كذا، تطل على كذا وكذا، حددّ أطوالها وجهاتها وصفاتها التي تزول بها الجهالة، فحينئذٍ يكون قد أزال الجهالة بالوصف، وكذلك إذا كنت تعرف أرضه أو بستانه ومزرعته، ولم يطل عهدك على وجه يتغير به البستان وقال لك: أبيعك بستاني الذي تعرفه بمائة ألف فقلت: قبلت، وأنت قد رأيت البستان من قبل صحَّ البيع؛ لأن الجهالة ارتفعت بالرؤية، وترتفع بالصفات -كما ذكرنا- فمثلاً: نمثل بأشياء موجودة الآن: كأن يقول له: أبيعك سيارة، فلا يصحُّ البيع؛ لأننا لا ندري ما نوع هذه السيارة، وكذلك لو حددّ نوعها فقال: من نوع كذا، هذا النوع من السيارات لابد أن يحدد -مثلاً- موديله والصفات التي عليه؛ لأن هذا شيء جرى العرف أن الجهالة ترتفع به، ولكنه قال: من نوع كذا، ولم يحدد صفاتها أو موديلها، فإنه لا يصحُّ البيع، ويعتبر هذا من الجهالة المفضية إلى الغرر؛ لأنك ربما ظننت أنها جديدة، فإذا به يبيعك ما كان قديماً، ولربما ظننت أنها من صنع هذه السنة، فإذا بها مصنوعة في العام الماضي أو الذي قبله، وكل ذلك من الجهالة المفضية للغرر، فلا يصح البيع، ولا يجوز على هذا الوجه الموجب للإضرار.
قال رحمه الله: [أو رآه وجهله].
(أو رآه وجهله) فإنه لا يصحُّ البيع؛ فمثلاً لو قلت له: أبيعك هذه السيارة، فرأى السيارة ولكنه لا يعلم ما بداخلها، وما هي صفاتها؟ وحتى لو يعرف نوعها فالنوع هذا ينقسم إلى أنواع فهناك الجيد وهناك الرديء، والذي له صفات عالية وصفات دون ذلك، فحينئذٍ إذا باعه على هذا الوجه لا يصحُّ؛ لكن لو باعه شيئاً يجهل المشتري حقيقته، ولم يستفصل عن حقيقته، واشترى هذا الشيء، كمن يدخل بقالة ويرى كيساً فيقول: بكم هذا الكيس؟ قال: بعشرة، قال: خذ العشرة، فإنه يلزم ويجب على المشتري إمضاء البيع؛ لأنه هو الذي قصّر وهو الذي غرّر بنفسه، فإذا كان ذلك المبيع في العرف يستحق العشرة صحَّ البيع ولزمه، لكن لو كان في العرف يستحق الخمسة وباعه عليه بعشرة حينئذٍ يكون خيار الغبن في الثمن -وسيأتي الكلام عليه-.
المقصود: أن من اشترى شيئاً يجهله، إذا كان هذا الشيء من باب التغرير -كما ذكرنا- كأن يبيعه الشيء في كيس أو يبيعه شيئاً ملفوفاً ولا يدري ما هو، فهذا قد رأى ولكنه جهل حقيقة المبيع، أو مثل (الكراتين) الموجودة الآن دون أن يكتب عليها الصفات ودون أن يبيّن ما هي نوعية هذا الصنف أو نوعية هذا المبيع، فإن البيع لا يصحُّ؛ لأن القاعدة عندنا الجهالة، وقد اشترى ما يجهله ولو أنه رآه، فكأن المصنف هنا يريد أن يقرر لك قاعدة: أن مجرد الرؤية ليس بكاف، وأن العبرة بزوال الغرر عنه، فلو قال له: أبيعك هذه السيارة وهو لا يعلم صفاتها الداخلية لم يصحّ البيع؛ لأنه وإن كان قد رأى المبيع لكنه لم يعلم حقيقته على وجه يزول به الغرر، فصار من البيوع المحرمة، لكن لو أنه باعه الشيء في كرتون أو كيس أو وعاء ومكتوب على الغلاف الصفات، أو أخرج عَيِّنَة من هذه الأشياء الموجودة في (القرطاس) أو في (الكرتون) وقال لك: من هذا النوع، ومن هذا الصنف، وهذه الصفات صحَّ البيع؛ لأنه وإن كان لم يكشف ما بداخل الكيس لكن الصفة الموجودة أمامه تتضمن ما فيه، فلو أخذه واختلف ما في الوعاء عما رآه كان له خيار الغبن؛ لأن هذا يعتبر خلاف المتفق عليه، وخلاف العقد المبرم بين الطرفين، ويعتبر من الغش إذا قصد البائع أن يغشه، وعلى هذا فإن بيع المجهول إذا أخرج له مثالاً أو أخرج صنفاً منه أو عينة -كما تسميه العامة- وقال: هذه عينته، صحَّ البيع وجاز.
قال رحمه الله: [أو وُصِف له بما لا يكفي سلماً لم يصح].
أي: إذا كان من جنس المعدودات يبين عدده، وأن يبين وزنه إن كان من جنس الموزونات، وأن يبين الكيل إذا كان من جنس المكيلات بعد بيان جنسه ونوعه وصفاته، فإذا ذكر المبيع ووصفه وصفاً معتبراً شرعاً ببيانه حتى يزول الغرر عن المشتري صحَّ البيع، وحينئذٍ يكون لك الخيار الذي يسمى بخيار الرؤية، إذاً: إذا اشتريت السلعة وقد رأيتها أمامك فلا إشكال؛ لكن لو باعك شيئاً موصوفاً في الذمة فقد التزم في ذمته أن تنطبق الصفات على الشيء الذي يعرضه عليك، فلو اختلفت الصفات عن الشيء الذي عرضه أو وصفه لك فحينئذٍ يكون من حقك أن ترد المبيع، وهذا يسميه العلماء: (خيار الرؤية)، وخيار الرؤية يقع في بيع يسمى بـ (بيع الغائب).
فقوله رحمه الله: [بما لا يكفي سلماً] هذا في بيع الأشياء الغائبة، والأشياء الغائبة هي التي ليست موجودة في مكان العقد، أو تكون موجودة في مكان العقد لكن لا يستطيع المشتري أن يعلم حقيقتها، فهذا كله من الغائب، حتى ولو كان حاضراً في مجلس العقد قد يكون غائباً؛ وذلك إذا كان مجهولاً، فعندنا مبيعٌ غائبٌ حقيقة، وعندنا مبيعٌ غائبٌ حكماً، فهو موجود لكنه في حكم الغائب، وهو الذي يكون مغلفاً أو محفوظاً في أوعية ولا تستطيع كشف ما بداخل هذه الأوعية، فحينئذٍ يكون غائباً حكماً، وحكمه أنه لا يصحُّ بيعه إلاّ أن يصفه وصفاً تزول به الجهالة وينتفي به الغرر
‌‌حكم بيع الحمل في البطن واللبن في الضرع منفردين
قال رحمه الله: [ولا يباع حملٌ في بطن].
هذا تطبيق للشرط الذي ذكرناه، وفيه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى عن بيع حبل الحبلة)، وفي السنن: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح)، و (المضامين): ما في بطون النوق، و (الملاقيح) قيل: إنها ما في أصلاب الفحول، وهذه السنة تدل على عدم جواز بيع الأجنة في البطون، سواء كانت في الإبل أو البقر أو الغنم، فلو قال له: أبيعك ما في بطن هذه الناقة، أو ما في بطن هذه البقرة أو ما في بطن هذه الشاة، أو أبيعك ما في بطن هذه الأمة فهذا كله من بيع المجهول، ولا يجوز، ويعتبر من بيع الغرر، ويجب في هذه الحالة رد الثمن إلى صاحبه، وإلغاء البيع، ويتوقف حتى ينتهي أمد الحمل، ثم تضع الناقة، وينظر في صفة الموضوع الذي تضعه، ويجرى العقد بعد وجوده وخروجه.
قال رحمه الله: [ولبن في ضرع، منفردين].
(ولبن في ضرع) أي: ولا يجوز بيع اللبن في الضرع، وقد جاء فيه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى عن بيع الصوف على الظهر، واللبن في الضرع)، وهذا الحديث رواه البيهقي في سننه وقد حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وفيه عمرو القتّاب وثقه غير واحد من العلماء، حتى قال بعض أهل العلم: حديثه مما يقبل التحسين؛ لأن البخاري ذكره وسكت عليه، ولم يضعفه، ولم يذكره بجرح، وبقية رجال الحديث ثقات.
وفي الحديث النهي عن بيع ما في الضرع؛ والسبب في هذا: أن الذي في ضرع الناقة أو الشاة أو البقرة أو حتى في ضرع الآدمية مجهول لكن المرأة يجوز أن تدفع لها المال أجرة من أجل أن ترضع الولد، فلو قالت: أنا أبيع ما في ثديي من الحليب بمائة، فلا يجوز؛ لأنه لا يُدرى أقليلٌ هو أو كثير؟ ثم لا يُدرى أيخرج جيداً أم رديئاً؟ ولذلك يقول العلماء: بيع ما في الضرع من بيع المجهول.
وندرك هنا دقة المصنف رحمه الله لما يأتي بأمثلة: تارةً الضرع، وتارةً الحمل، وهذا كله من باب تطبيق القاعدة التي ذكرها في الشرط وهي: وجود الجهالة، فإن الذي في الضرع مغيب وعلمه إلى الله عز وجل ولا ندري أقليل هو أو كثير؟ لكن لو أنه حلب ما في ضرع الناقة، أو ما في ضرع البقرة أو الشاة في إناء وعرضه للبيع جاز، إذا كان معلوم القدر؛ لأنه قد زالت الجهالة وانتفى الغرر، فالعلة الجهالة.
وأما مسألة بيع لبن الآدمية إذا حلب، ففيه خلاف مشهور بين العلماء رحمهم الله، وهو هل يجوز بيع لبن الآدمية، أو لا يجوز؟ والصحيح جوازه؛ وذلك لأن الأصل جواز البيع حتى يدلَّ الدليل على منعه، وليس هنا دليل؛ ولأنه جازت الإجارة عليه فجاز البيع؛ ولأن الذين قالوا بتحريمه قاسوه على لبن الأتان -أنثى الحمار أكرمكم الله- فقالوا: الأتان محرمة الأكل، والآدمية محرمة الأكل، فيحرم بيع لبن هذه كهذه، وهذا قياسٌ مع الفارق؛ لأنه معلوم أن الحُمر لما حرم النبي صلى الله عليه وسلم لحومها قال: (إنها رجس)، ثم إن لحوم الأتن مذهب طائفة من العلماء نجاستها، حتى إنهم قالوا: لا يجوز شرب لبن الأتان إلاّ عند الضرورة، وقد نظم بعض العلماء هذه المسألة بقوله في الضرورات المباحة لوجود الحاجة: وَلَبنُ الأُتنِ لِلسُّعَالِ وَالجلْدُ لِلرِئْمَانِ فِيْهِ جالي (ولبنُ الأتن للِسَّعالِ) أي: لعلاج من به سعال ديكي، إذا لم يوجد له دواء غيره فيجوز.
الشاهد: أن لبن الأتن محرم، لكن لبن الآدمية مباح، فحرم بيع لبن الأتان؛ لأنه محرم، وجاز بيع لبن الآدمية؛ لأنه مباح، فنقول: قياسه على لبن بهيمة الأنعام من الإبل والبقر أولى من قياسه على لبن الأتان.
وقد قاسوا قياساً آخر فقالوا: ما دمتم تقولون: إن لبن الأتان محرم نعطيكم قياساً من الآدمية نفسها، ونقول: يحرم بيع لبن المرأة كما يحرم بيع أعضائها، فكما أنه لا يجوز بيع يدها ورجلها فكذلك لا يجوز أن تبيع حليبها؛ لأن الكل من البدن.
ورُدَّ عليهم هذا القياس وقيل لهم: إن قطع الأعضاء مضرة وخروج اللبن مصلحة، فجاز بيع اللبن؛ لأن فيه المصلحة، وحرم بيع الأعضاء؛ لأن فيه مضرة، قالوا: نعطيكم شيئاً آخر، ونعطيكم سائلاً كاللبن، فإنه يحرم بيع لبن الآدمية كما يحرم بيع دموعها ورُدَّ عليهم: بأن الدموع لا منفعة فيها، واللبن فيه منفعة، فحرم بذل المال لما لا منفعة فيه؛ لأنه من أكل المال بالباطل، وجاز بيع اللبن؛ لأنه مما فيه منفعة ومصلحة للبدن.
فمن ناحية الأقيسة التي يذكرونها لم يستقم لهم قياس على تحريم بيع لبن الآدمية.
إذاً: الصحيح: أنه يجوز بيع لبن الآدمية كما تجوز الإجارة عليه، بل إن الحنفية أنفسهم الذين حرموا بيع لبن الآدمية يقيسون مسائل البيع على الإجارة، ويقيسون الإجارة على البيع؛ لأن كلاً منهما عقد معاوضة، والله تعالى يقول: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] فأمر الله عز وجل بكسوة المرضعة والإنفاق عليها وبذل المال لقاء الحليب الذي أخذ، فكما أنه تجوز الإجارة عليه كذلك أيضاً يجوز بيعه، وعلى هذا فإننا نفرق في مسألة اللبن التي ذكرها المصنف: وأنه إذا خرج من الضرع وعلم قدره جاز بيعه، ولا حرج ولا بأس بذلك.
وقوله: (منفردين).
أي: أن يبيعهما منفردين، وبشرط: ألَاّ يكونا قد خرجا وانفصلا عن البدن، أمّا لو خرجا وانفصلا وعلم قدرهما جاز، إذاً: عندنا شرطان: الشرط الأول: أن يبيع اللبن في ضرع الناقة أو الشاة أو البقرة منفصلاً عن الذات، أي: غير تابع للأم التي هي صاحبة اللبن.
الشرط الثاني: ألَاّ يكون قد علم قدره إذا بان وانفصل.
ففي كلتا الحالتين لا يجوز البيع.
يبقى

‌‌السؤال

لو أنه بيع اللبن مع الأم؟ فإنه يجوز؛ لأنه هنا تابع، ويجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل، ولذلك قالوا: التابع تابع، ألا ترى ثمرة البستان إذا لم يبدو صلاحها لو بعت الرقبة والذوات -وهي النخل- جاز لك أن تبيع الثمرة تابعةً للأصل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلاً قد أبِّرت فثمرتها للبائع، إلاّ أن يشترطها المبتاع)، فأجاز البيع ورخص فيه قبل بدو الصلاح؛ لأن مرحلة التأبير -كما سيأتي إن شاء الله في مسائل النخيل- إنما هي قبل بدو الصلاح، فدلَّ هذا على جواز بيع الشيء تبعاً.
وكذلك الحمل في البطن، فلو بعت ناقة وهي عشَراء جاز البيع، لكن أن تبيع الجنين منفصلاً لا يجوز؛ لأنك إذا بعت الرقبة بما فيها فهو تابع لها، فهذا نماءٌ متصلٌ بالمبيع كما لو بعته سميناً بلحم وافر ونعمة سابغة جاز البيع، كذلك إذا بعت الناقة وولدها في بطنها؛ لكن أن تبيع ولدها منفصلاً عنها لا يجوز؛ لأنك إذا بعته كذلك تحققت الجهالة، والأصل عندنا: أن بيوع الغرر لا تجوز، وهذا يؤكد سماحة الشرع، وأن الإسلام كما أنه رحمة في تخفيف التشريع، كذلك هو رحمة في الاحتياط للمشتري في حقه، فلا يجوز للمسلم أن يأخذ مال أخيه المسلم على شيء مجهول، وكذلك لا يجوز للمسلم أن يدفع ماله على وجه لا يضمن فيه حقه
‌‌حكم بيع المسك في فأرته
قال المصنف رحمه الله: [ولا مسك في فأرته] ذكر المصنف رحمه الله هنا مسألة المسك في الفأرة.
والفأرة: هي وعاء المسك، وتكون من الجلد نفسه، وذكر بعض أئمة اللغة: أنه سأل من يعرف المسك فقال: إن الغزال ينبت في جهة أضلاعه وعاء المسك، وهو أشبه بالثألول أو شيءٌ من هذا، فيكبر قليلاً قليلاً حتى يصل إلى حجم معين، فإذا صاد الصياد الغزال فإنه يربط هذا الموضع، ثم بعد ذلك يقصه فيجتمع ويتخثر فيه الدم، وإذا تخثر فيه الدم وضع في الشعير حتى يطيب ويزكو؛ لأنه إذا تخثر الدم يكون نتن الرائحة، فإذا وضع في الشعير استصلح على طريقة يعرفها أهل (العطارة) فبعد استصلاحه تفوح منه الرائحة الطيبة الزكية، حتى قال من وصفه بهذا الوصف: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تطيب به ما تطيبت به؛ لأن من عرف أصله وهو الدم فإنه لا يتطيب به بل ينفر منه؛ لكن (المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ) كما يقول الشاعر، فالله سبحانه وتعالى جعل في هذا الدم هذه الخاصية والرائحة، وقد تطيب به رسول الأمة صلى الله عليه وسلم.
(ولا مسكٌ) أي: أصل التقدير: (ولا يباع المسك في فأرته)، وهي وعاؤه الذي يكون فيه من جلد الغزال نفسه؛ والسبب في هذا أن المسك في الفأرة كاللبن في الضرع وكالحمل في البطن، وكأنك تنظر إلى هذه الثلاثة الأمثلة كلها تشتمل على بيع شيء مجهول داخل وعاء محفوظ، لا يمكن أن يُطّلع معه على حقيقة المبيع، فلو سألك سائل: هل يجوز بيع الأشياء داخل أوعيتها؟ تقول: فيه تفصيل: فإن كان يمكن أن يطّلع على حقيقة المبيع وهو بداخل الوعاء صحَّ البيع، كأن يباع في زجاج ويكون وصفه من داخل الزجاج ظاهراً، كأنه واضحٌ أمام المشتري، يعلم جودته ورداءته ويعلم حجمه وقدره فيصحُ البيع، أمّا لو كان داخل وعاء مصمت لا يمكن كشفه ولا معرفة حقيقته تقول: يحرم بيعه، كما يحرم بيع المسك في الفأرة، والحمل في البطن، واللبن في الضرع
‌‌حكم بيع النوى في التمر
قال رحمه الله: [ولا نوى في تمره].
هذا المثال الرابع، أي: لا يباع النوى وهو داخل التمر؛ والسبب في هذا أن النوى والذي يسمى (بالفصي) يطحن ويكون علفاً للدواب، ويدرُّ به حليب البهيمة ويستصلح به، فهذا النوى إذا قال شخص: أبيعك نوى هذا التمر، أي: آكل التمر ثم أبيعك نواه لم يصحّ؛ والسبب في هذا أن النوى يختلف حجمه، فقد يكون كبيراً وقد يكون صغيراً، وإذا كبر الحجم عظم القدر وكان وزنه وكيله كثيراً، وعلى هذا ربما اشتريت النوى في هذا التمر ظاناً أنه من النوى الجيد فيكون من الرديء، وتظنه من الحجم الكبير فإذا به من الصغير، أو تجده يجمع بين الصغير والكبير، فالمسألة كلها تدور حول جهالة المبيع، فلا يهم أن تحفظ مسألة النوى وغيرها، إنما يذكر العلماء لك هذه الأمثلة لشيء يسمى في الفقه (بالتخريج)، والتخريج: أن تطرأ مسألة جديدة في عصرنا الحاضر وتقول: هذا الشيء الذي في وعائه ولا تُدرى صفته بيعه كبيع النوى في داخل التمر، وبيعه كبيع اللبن داخل الضرع، وكبيع الحمل داخل البطن، أي: أنك تخرّج الحاضر على الماضي، وهو الذي يسمى بتخريج الفروع
‌‌حكم بيع الصوف على الظهر
قال رحمه الله: [ولا صوفٌ على ظهر].
بالنسبة للأمثلة السابقة تلاحظ أن الجهالة مستحكمة فانظر إلى دقة المصنف: فقد ابتدأ بالحمل فقال: (وبيع حمل في بطن)؛ لأن الجهالة هنا تجمع عدة وجوه: أولاً: تجهل هل الحمل حيٌّ أو ميت؟ ثانياً: تجهل هل هو كامل الخلقة أو ناقص الخلقة؟ ثالثاً: تجهل السلامة وهي العاقبة، فحتى ولو كان حياً الآن فلا ندري أيخرج سالماً أو غير سالم؟ فاستحكمت الجهالة من أكثر من وجه فقدّمه، وأتبعه باللبن في الضرع؛ لأنه يجهل القدر ويجهل الحال، فهذان نوعان من الجهالة، فالأول فيه ثلاثة أنواع من الجهالة، والثاني فيه نوعان من الجهالة، ثم أتبعه بالنوى داخل التمر، فإنك وإن علمت عدد النوى فإنك لا تعلم صفته: أجيّد هو أو رديء؟ فهذا نوعٌ من الجهالة، ثم جاءك بالمنكشف الذي تراه أمامك، ولكنك تجهل ما يكون من عاقبته وهو الصوف، فالصوف على ظهر البهيمة لا تدري قدره؛ لأنه إذا جُزّ تكون له حال غير حاله وهو على ظهر البهيمة، فحينئذٍ لا تدري أيجز فيكون جزه كاملاً أو جزه ناقصاً؟ ثم لا تدري أجيداً يكون أو رديئاً؛ لأنه على ظهر البهيمة ربما أطبق بعضه على بعض ولا تستطيع أن تكشفه، وهنا تكون الجهالة أيضاً من وجه، فكأن الأمثلة مرتب بعضها على بعض على حسب قوة الجهالة، والعلماء كأنهم ينبهونك على الأشياء التي اجتمعت فيها الجهالة من عدة أوجه، وما كانت الجهالة فيها من وجهين، وما كانت الجهالة فيها من وجه واحد؛ لأنه لو ذكر المصنف الأمثلة الأولى -وهي بيع اللبن في الضرع، والجنين في البطن، والنوى في التمر- وسكت ربما جاءك شخص وقال: يجوز بيع الصوف على الظهر؛ لأن المصنف إنما ذكر المغيب المجهول ولم يذكر الظاهر المجهول، فكأن المصنف من دقته يريد أن يقول لك: لا يقتصر الحال على المجهولات التي تكون في بطن الأشياء، بل إن المجهول قد يكون على ظهر الشيء ولا يجوز بيعه، كالصوف والشعر على ظهر البهيمة، كلّ ذلك مما يجهل حاله ولا يدرى عاقبته، وكما لو باعه جلدها يقول له: هذه البهيمة أبيعك جلدها بعشرة، فهذا جهل السلامة؛ لأن الجزار إذا أراد أن يفصل الجلد عن البهيمة قد يَقُدُّ الجلد، ولا ندري حتى ولو خرج الجلد سالماً أهو من الجلد الثخين فيصلح في حفظ الأشياء التي لابد أن يكون الجلد فيها ثخيناً، أو يكون من الجلد (الرهيف) والرقيق، وهذا يختلف من بهيمة إلى أخرى، فإذاً: الأمثلة مرتبة من المصنف لمعنى ومغزى
‌‌حكم بيع الفجل قبل قلعه
قال رحمه الله: [وفجل ونحوه قبلَ قلعه].
لا يختص الأمر بالبهائم فقد يقول قائل: إن الجهالة لا توجد إلا في البهائم، فقال لك: (وفجل)، فإن الفجل -كما تعلمون- يكون في باطن الأرض، ويكون ما نبت منه على وجه الأرض الورق، وحينئذٍ أنت تريد الفجل، وهذا الفجل مغيب في الأرض، فلو باعه فجلاً داخل الأرض فإنه لا يجوز؛ لأنه لا ندري أهو من الحجم الكبير أو من الحجم الصغير؟ ولا ندري إذا قلعه أيقتلعه كاملاً أو ناقصاً؟ وعلى هذا فإنه لا يباع وهو في باطن الأرض، أمّا لو كشف وخرج على وجه الأرض وأمكن تمييزه، ومعرفة جيده من رديئه، ومعرفة قدره جاز بيعه وصحَّ
‌‌الأسئلة
‌‌الخرص كيفيته وحكمه

‌‌السؤال
هل ما يسمى بالخرْص يُعد من الغرر، أثابكم الله؟


‌‌الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فأول ما يقال في هذا السؤال: ما معنى الخرْص؟ الخرْص: هو الحدس والتخمين، وقد يطلق على الكذب، ومنه قوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] أي: الكذابون، و (قتل) بمعنى: لُعن؛ لأن القتل يستعمل بمعنى اللعن، والخارص: هو الذي يقدّر الأشياء.
والسؤال المراد به: إذا كان عندك نخل وأراد شخص أن يشتريه منك فجاء بخارص يخرص كم في النخل لكي يشتريه ويقول لك: هذا إن اشتريته بمائة ألف فأنت رابح، وإن اشتريته بمائة وخمسين فأنت خسران، ففي هذه الحالة الخارص مهمته أن يخرص النخلة، وبناءً على الخبرة والمعرفة قد يطلع على النخلة ويقول: هذه النخلة فيها مائة صاع أو مائتين، فهذا مبني على الخبرة، والخرص له دليل شرعي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه إلى خيبر لكي يخرص النخل، كما ثبت في الصحيح في قصته مع يهود خيبر، فكان يخرص النخل، ويبين ما لليهود وما عليهم في نخل خيبر وتمر خيبر، فهذا يدل على مشروعية الخرص، وهذا من حكمة الله عز وجل ولطفه بعباده؛ لأن القاعدة: أنه (إذا تعذر اليقين يصار إلى ما يقارب اليقين)، فلما كان يتعذر أن تنزل النخلة وتحسب ما فيها أُعطي الخرص ونزل منزلة الوجود.
مثال ذلك في الزكاة: فإنه إذا بدا الصلاح في النخيل يبعث الخارص ويحدد كم في البستان من أردب أو كم فيه من أمداد أو من آصع، فيقول: هذا البستان -مثلاً- فيه مائة وسق، ففي هذه الحالة يقول لك: زكاتك كذا وكذا، فهذا التحديد يكون عند بدو الصلاح، وهو مبني على الخرص؛ لكن الشريعة أجازت ذلك؛ لوجود الحاجة، فلو قلنا لأصحاب الأموال وأصحاب البساتين الذين يحتاجون إلى الخرص لابد وأن يخرجوا التمر، فهذا فيه حرج وأنتم تعرفون أن النخل منه ما يؤكل بلحاً، ومنه ما يؤكل رطباً، ومنه ما يؤكل تمراً، ولا يمكن أن يقدر بالصاع إلا إذا كان تمراً، أما بالنسبة للبلح والرطب فهذا لا يوضع في الصاع ولا يكال عادة، إنما يكال التمر، فيعطى مجال لأهل التمر أن ينتفعوا به بسراً وزهواً الذي هو البلح، وكذلك ينتفعون به رطباً وينتفعون به تمراً، وقدم الخرص لوجود الحاجة، وهذا من عدل الله ولطفه بعباده أنه أعطى كل حالة من الحالات التي تقع فيها الحاجة والضرورة حكمها الخاص بها، فيعتبر الخرص خارجاً عن مسألة التقدير العيني؛ لأنه مبني على حالة الضرورة والحاجة.
لكن لو أن إنساناً أراد أن يبيع حباً على الأرض أو أراد أن يبيع تمراً على نخلة واحدة وهو يقول: أبيعك هذا التمر مائة صاع وقدّره بالخرص لا يصح، لكن لو قال: أبيعك ما على هذه النخلة، جاز، أما لو قال: مائة صاع أو خمسة آصع وحدد العدد بالخرص فلا يجوز؛ لأنه قد يزيد وقد ينقص، وبإمكانه أن يجني التمر ويعرف حقيقته، والقاعدة: (القدرة على اليقين تمنع من الشك)، ولهذا فرق العلماء في هذه الأحوال، إلا في مسألة المزابنة، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله في حديث زيد الثابت في الصحيح.
والله تعالى أعلم

‌‌الفرق بين الغبن والغرر

‌‌السؤال
ما الفرق بين الغرر والغبن، أثابكم الله؟


‌‌الجواب
بعض العلماء يرى أن الغبن يندرج تحت الغرر، والغرر أعم من الغبن؛ لأن الغبن يكون في شيء لا يستحق قيمته، وهذا غالباً ما يكون فيه نوع منفعة وهو نوع من أنواع الغرر، ولذلك تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر ولم ينه عن الغبن، أي: ما جاء الأسلوب بالغبن؛ لأنه أخف، وإنما جاء بالتعبير بالغرر؛ لأنه أعم.
ومن الغبن: تلقي الركبان، فإن من يجلب إلى البلد السلع إذا تلقاه التجار لا يدري كم قيمة السلعة في السوق فيغبن بالقيمة، فيقع البيع من حيث هو على ظاهره صحيحاً، لكن في الحقيقة فيه غبن، ولذلك يمثل العلماء لبيوع الغبن بهذا النوع، ويجعلونه نوعاً مستقلاً ويفصلونه عن الغرر، لورود النصوص الخاصة به، فهناك فرق بين الغبن وبين الغرر.
والله تعالى أعلم

‌‌حكم بيع ما كان غير معلوم القدر

‌‌السؤال
ما الحكم لو قال بائع السمك للمشتري: لك نصف ساعة بمائة ريال فما تصيده من السمك الموجود في الحوض فهو لك، أثابكم الله؟

‌‌الجواب
إذا قال هذا فإنه يعتبر من بيع المجهول؛ لأننا لا ندري هل يصيد الكل، فقد يصيد كل ما في الحوض خلال نصف ساعة فيغبن صاحب الحوض؛ لأنه كان يظن أنه لن يستطيع أن يصيد هذا كله، فيحس بنوع من الغبن، وأنه قد ظُلم بدفع ما هو زائد عن القيمة الأصلية، وإذا أخذ ما هو أقل من القيمة غبن المشتري، ولذلك لا يجوز هذا النوع، وهكذا لو قال له: تدخل المطعم وتأكل حتى تشبع، فهذا لا يجوز، وقد ذكر العلماء أن هذا من بيع المجهول، وهو من أكل المال بالباطل على هذا الوجه؛ لأنه يريد أن يجبر نقص طعام هذا بزيادة طعام هذا، وهذا من أكل المال بالباطل، والشريعة تريد بيعاً واضحاً، حيث تدفع المال لقاء شيء معلوم القدر مستحق القيمة، أما أن يقول: لك ما تصيده من هذا الحوض، وتجلس نصف ساعة تصيد، أو ادخل المطعم وهذه أربعة أنواع أو خمسة أصناف كُلْ منها ما شئت حتى تشبع، فإن هذا كله يعتبر من بيع المجهول.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 370.67 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 364.56 كيلو بايت... تم توفير 6.10 كيلو بايت...بمعدل (1.65%)]