«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - الصفحة 14 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          غربة الدين في ممالك المادة والهوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »          أهمية الوقت والتخطيط في حياة الشاب المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          الإسلام والغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          من أساليب تربية الأبناء: تعليمهم مراقبة الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          همسة في أذن الآباء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 39 )           »          تعظيم خطاب الله عزوجل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          رسـائـل الإصـلاح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 43 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #131  
قديم 08-10-2021, 09:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى:﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ.. ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61].


يذكِّر الله عز وجل بني إسرائيل بتعنت أسلافهم، وعدم صبرهم، واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، وما عوقبوا به من ضرب الذِّلة والمسكنة عليهم، ورجوعهم بغضب من الله؛ بسبب كفرهم بآيات الله، وقتلِهم النبيِّين، وعصيانهم واعتدائهم.

قوله: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى ﴾؛ أي: واذكروا حين قلتم: يا موسى ﴿ لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾؛ أي: لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد؛ يَعْنون بذلك ما مَنَّ الله به عليهم من المنِّ و"السلوى"، وهما نوعان من ألذِّ وأطيب الطعام.

وإنما قالوا: "واحد"؛ لأنه يتكرر كل يوم، فبدَلَ أن يشكروا الله على ما مَنَّ به عليهم من هذا الطعام، الذي هو من أفضل الأطعمة وألذِّها وأنفعها، ضجروا وملُّوا، وقالوا على وجه الاحتقار لذلك: ﴿ لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾، وهذا بلا شك من كفران النعم، وقد قال الله عز وجل لهم: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، وهذا لهم ولغيرهم.

﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا؛ أي: يخرج لنا أطعمة أخرى مما هو معروف.

وفي قولهم: ﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾بصيغة الأمر لموسى؛ دلالة على عظم ما في قلوبهم من التعاظم والاستكبار، كما أن في مقالتهم هذه دون أن يقولوا: "فادع لنا ربنا"، أو "فادع الله لنا" جفاءً منهم وسوءَ أدب في الخطاب، وكأنهم يَسْخرون بموسى وبربه، أو كأنَّ ربَّ موسى ليس ربًّا لهم - عياذًا بالله - وهذا كقولهم: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، وقولهم: ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [المائدة: 112].

﴿ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ﴾"من": تبعيضية، و"ما": موصولة؛ أي: من بعض الذي تنبته الأرض.

﴿ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا: ﴿ مِنْ ﴾: بيانية، و﴿ بَقْلِهَا: النبات الذي ليس له ساق كالكراث، ﴿ وَقِثَّائِهَا: صغار البطيخ "الخيار" ﴿ وَفُومِهَا ﴾: ثومها، وهو الثوم المعروف، فيقال: ثوم بالثاء، ويقال: "فوم" بالفاء. وقال طائفة من المفسرين: "الفوم": الحنطة.

﴿ وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ﴾ هما العدس والبصل المعروفان، وهذه الأطعمة مما عرفوه في مصر قبل ذلك، وكلها دون ما أنزل الله عليهم من "المن والسلوى".

﴿ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى ﴾الهمزة للاستفهام، وهو للإنكار والتوبيخ والتقريع والتعجب؛ أي: قال لهم موسى عليه السلام موبخًا لهم ومنكرًا عليهم ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى ﴾، والاستبدال أخذ شيء وجعل شيء مكانه.

أي: أتختارون الذي هو أقل قيمة وأوضع قدرًا، وهو ما طلبوا إخراجه لهم من الأطعمة.

﴿ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؛ أي: بالذي هو خير مما ذكرتم من حيث طعمه ولذته ونفعه وغير ذلك، وهو "المن" و"السلوى" الذي أنزله الله عليهم، فجمعوا بين كفر نعمة الله وما منَّ به عليهم مما هو أفضل الطعام، وبين سؤالهم ما هو أدنى منه قيمة وأقل قدرًا، مما يدل على تعنتهم وسفههم، ودنو هِمَمِهِم، وقد قيل:
يُقضـى على المرء في أيام محنتِه *** حتى يَرى حسنًا ما ليس بالحسَنِ[1]


﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا ﴾؛ أي: انزلوا مصرًا، والأمر للإباحة، وفيه ما يشعر بالتوبيخ لهم؛ أي: إن كان هذا همكم واختياركم ﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا ﴾، بقرينة قوله: ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾؛ أي: انزلوا أيَّ مصر من الأمصار؛ أي: أيَّ بلد من البلدان، وليس المراد مصر البلد المعروف؛ ولهذا صُرف، و"مصر" البلد المعروف ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، قال تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ﴾ [يونس: 87].

وقيل: المراد بمصر البلد المعروف؛ أي: انزلوا مصر التي خرجتم منها، وهذا ليس بإمكانهم، وإنما هو من باب التوبيخ أو التهديد لهم على اختيارهم ما كانوا عليه من العيش الحقير الذليل في مصر على الذي هو خير، والمعنى على هذا: إن لم تقدُروا نعمة الله قدرها فـ﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا ﴾.

﴿ فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ الفاء: للتعقيب؛ و"ما": موصولة؛ أي: فإن لكم الذي سألتموه من هذه الأطعمة؛ لأنها موجودة في كل مصر.

والمعنى: انزلوا أيَّ مصرٍ من الأمصار تجدوا الذي سألتموه، فليس ذلك مما يحتاج إلى دعاء، ولا مما يستحق الدعاء؛ لكثرته في الأمصار ودناءته.

قال ابن كثير[2]: "ولهذا لما كان سؤالهم من باب الأشر والبطر، لم يجابوا عليه".

﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ؛ أي: وضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، وبني الفعل لما لم يُسَمَّ فاعله؛ لأن الذي ضرَب عليهم الذلة والمسكنة معلومٌ، وهو الله عز وجل، تعليمًا للأدب مع الله؛ كما في قول الجن: ﴿ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴾ [الجن: 10].

أي: وفرضت عليهم الذلة وألزموها، وهي الذل والهوان والصغار قدرًا وشرعًا، ونُزعت من قلوبهم العزة والأنفة والشجاعة، فلا يواجِهون عدوًّا، كما قال تعالى: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ﴾ [آل عمران: 112]، وقال تعالى: ﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ [الحشر: 14]، وقال تعالى: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29].

هذه هي حالهم وحقيقة أمرهم، وهم اليوم أذلُّ وأجبن منهم بالأمس، ولكن كما قيل:
خلا لك الجوُّ فبِيضِـي واصفِرِي *** ونقِّرِي ما شئت أن تنقِّرِي[3]


و﴿ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾؛ أي: وضربت عليهم المسكنة، كما قال تعالى في آل عمران: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ﴾ [آل عمران: 112]؛ أي: وضربت عليهم المسكنة، وهي الفقر، بل وأشد ذلك وهو فقر القلوب؛ ولهذا صار البخل والشح والحرص والطمع سجيةً لهم حتى ولو كانوا أكثر الناس مالًا، وها هم اليوم يكادون يديرون دفة جميع الأموال في العالم مع ملازمة هذه الصفات الذميمة لهم، فهم أفقر الناس قلوبًا، وأقلهم بذلًا وعطاء، وأعظمهم شحًّا وبخلًا، وأمنعهم ذات يد، كما قال تعالى: ﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ [المائدة: 64].

قال ابن كثير[4]: "يقول تعالى: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾؛ أي: وضعت عليهم وألزموا بها شرعًا وقدرًا؛ أي: لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون".

﴿ وَبَاؤُوا؛ أي: رجعوا وانصرفوا، وأكثر ما يستعمل "باء" بالرجوع غير الحميد وبالخيبة والخسران ونحو ذلك.

﴿ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ﴾الباء للمصاحبة؛ أي: رجعوا مصاحبين غضب الله؛ أي: مستحقين ومستوجبين غضب الله، كما قال تعالى في وصفهم: ﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 60].

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الأعراف: 152]، وقال تعالى: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 7].

والغضب من الله يستوجب نقمته وعقوبته، كما قال عز وجل: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾ [الزخرف: 55].

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾، وفي سورة آل عمران: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 112].

﴿ ذَلِكَ ﴾الإشارة لأقرب مذكور، وهو قوله: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ﴾؛ أي: ذلك الذي جازيناهم به من ضرب الذلة عليهم والمسكنة ورجوعهم بغضب من الله.

﴿ بِأَنَّهُمْ ﴾ الباء للسببية؛ أي: بسبب أنهم.

﴿ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ؛ أي: كانوا يجحدون آياتِ الله الكونية والشرعية، ويكذِّبون بها، فلا يستدلون بآياته الكونية على كمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ووجوب عبادته وحده دون سواه، ولا يؤمنون بآياته الشرعية ويعملون بما جاء فيها.


﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ ﴾الواو: عاطفة، والجملة معطوفة على ما قبلها، قرأ بعضهم: "النبيئين" مأخوذ من النبأ وهو الخبر، وقرأ آخرون: "النبيين" مأخوذ من النبأ، أو من النبوة وهي المكان المرتفع؛ لأن الأنبياء عليهم السلام مخبَرون من الله، ومخبِرون لأقوامهم، كما أنهم ذوو مكانة عالية عند الله وعند المؤمنين.

﴿ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛ أي: قتلا بغير سبب يوجب قتلهم، بل بالباطل، والظلم المحض.

﴿ ذَلِكَ ﴾الإشارة لأقرب مذكور، وهو قوله: ﴿ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [البقرة: 61]؛ أي: إلى كفرهم بآيات الله وقتلهم النبيين بغير حق.

﴿ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾الباء للسببية، أي: يسبب عصيانهم بترك ما أوجبه الله عليهم، وارتكاب ما نهاهم الله عنه، وبسبب اعتدائهم ومجاوزتهم الحدَّ في حق الله بتجاوز ما أمر به، وفي حقوق عباده بالتعدي عليهم وأذيتهم ومنع حقوقهم صاروا إلى ما صاروا إليه من الكفر بآيات الله، وقتل النبيين بغير حق، كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5]، وقال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]، وقال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110]، فكفرهم بآيات الله سببه العصيان، وقتلهم النبيين بغير حق سببه الاعتداء.
يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #132  
قديم 08-10-2021, 09:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

ويحتمل أن تكون الإشارة في قوله: "ذلك" تعود إلى مرجع الإشارة الأولى، وهو ما جُوزُوا به من ضرب الذلة عليهم والمسكنة، ورجوعهم بغضب من الله، فيكون عصيانهم واعتداؤهم علة أخرى لمجازاتهم بما ذكر، وتأكيدًا لعظم جرمهم، ولاستحقاقهم ذلك العقاب.

الفوائد والأحكام:
1- إثبات القول والكلام لله عز وجل بحرفٍ وصوت، كما يليق بجلاله وعظمته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ ﴾ الآية [البقرة: 58].

2- تذكير بني إسرائيل بأمر الله لهم بدخول بيت المقدس وإباحة الأكل منها من حيث شاؤوا، وأمرهم بدخول الباب سجدًا، وطلب حطِّ ذنوبهم، ووعده تعالى لهم بمغفرة خطاياهم، وزيادة المحسنين منهم من فضله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 58].

3- أن مِن شكر نعمة الله تعالى لمن نصره الله وفتح له البلاد أن يدخُلَها على وجه الخضوع والتذلل والتواضع لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ﴾ [البقرة: 58].

4- الحث على الدعاء بطلب حط الذنوب ومغفرتها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقُولُوا حِطَّةٌ ﴾ [البقرة: 58].

5- وعد الله عز وجل الذي لا يتخلف بمغفرة الخطايا والذنوب لمن جاهد في سبيله وخضع له، ودعاه؛ لقوله تعالى: ﴿ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ﴾ [البقرة: 58].

6- كرمُ الله عز وجل وجوده بوعده بزيادة المحسنين من فضله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 58].

7- شدة عناد بني إسرائيل ولؤمهم؛ حيث بدَّلوا ما أمرهم الله بقوله وفعله، فبدَلَ أن يدخلوا الباب سجدًا، ويقولوا: حطة، دخلوا يزحفون على أدبارهم استهزاء، ويقولون: حبة من شعرة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ [البقرة: 59].

8- تحريم تبديل قول الله عز وجل، وأن ذلك من أشد الظلم والفسق؛ لقوله تعالى: ﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ [البقرة: 59]، وقوله تعالى: ﴿ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [البقرة: 59].

9- إثبات علو الله على خلقه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَنْزَلْنَا ﴾، والإنزال يكون من أعلى إلى أسفل.

10- في الإظهار مقام الإضمار في قوله: ﴿ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ تأكيدُ الحكم بالظلم على هؤلاء المبدلين، وأنه سبب عقوبتهم، وليشمل هذا الحكم كلَّ من يبدل، فهو ظالم مستحق للعقوبة.

11- أن من بدل قول الله تعالى فهو ظالم فاسق؛ لأن الله وصفهم بالظلم والفسق، وحكم عليهم بذلك.

12- إظهار عدل الله بربط العقوبة بسببها، والتحذير من الظلم والفسق، وأنهما سبب لعقاب الله وعذابه.

13- أن الاستسقاء عند الحاجة للمطر سنة من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾ [البقرة: 60]، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

14- حاجة الخلق وافتقارهم إلى الله عز وجل بما في ذلك الرسل وغيرهم، وأنه لا ملجأ لهم في الشدائد إلا إلى الله.

15- شفقة موسى عليه السلام ورأفته بقومه، حيث طلب لهم السقيا خوفًا عليهم من الهلاك.

16- إثبات السمع والكلام لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَقُلْنَا ﴾ [البقرة: 60]، والفاء للسببية، فسمع عز وجل استسقاء موسى ودعاءه، وقال له: ﴿ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ﴾ [البقرة: 60].

17- كرم الله عز وجل وجوده العظيم وعنايته بنبيِّه موسى عليه السلام حيث أجاب دعاءه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ﴾ [البقرة: 60]، وفي هذا دلالة على فضل موسى عليه السلام ومنزلته عند ربه.

18- قدرة الله تعالى التامة؛ حيث فجَّر هذه العيونَ من الحجَر؛ لقوله تعالى: ﴿ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ﴾ [البقرة: 60].

19- الآية العظيمة في عصا موسى عليه السلام؛ حيث ضرب بها بأمر الله الحجر فانفجرت منه العيون، وضرب بها البحر فانفلق، ويلقيها فتلقف إفكَ السحَرة، ويلقيها فتكون حيَّة، ثم يأخذها فتعود سيرتها الأولى.

20- إثبات الأسباب وربط المسببات بأسبابها؛ لقوله تعالى: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ ﴾ [البقرة: 60]، فالله قادر على تفجير هذه العيون دون ضرب موسى الحجر بعصاه.

21- أن السقيا قد تكون بالمطر النازل من السماء، وقد تكون بالماء النابع من الأرض؛ كهذه العيون، ونبع زمزم وغير ذلك.

22- حكمة الله تعالى وتمام نعمته على بني إسرائيل في جعل هذه العيون اثنتي عشرة عينًا؛ ليعرف كلُّ سبط منهم مشربه ولا يتزاحمون ويؤذي بعضهم بعضًا، وربما عادى بعضهم بعضًا؛ لقوله تعالى: ﴿ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ﴾ [البقرة: 60].

23- امتنان الله عز وجل على بني إسرائيل وتذكيرهم بما أنعم الله به عليهم، من مأكل ومشرب؛ ليشكروه؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 60]، والأمر للإباحة.

24- تحريم الإفساد في الأرض؛ لأن الله تعالى نهى عنه، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [البقرة: 60].

25- أن المطلوب والمشروع الإصلاح في الأرض.

26- كفران بني إسرائيل لما مَنَّ الله عليهم به من المأكل والمشرب والرزق ومَلَلُهم من ذلك؛ لقولهم: ﴿ لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾ الآية [البقرة: 61].

27- سوء أدب بني إسرائيل وجفاؤهم؛ لقولهم: ﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾ [البقرة: 61]، فكأنهم يَسْخرون بموسى وربه، وكأن رب موسى ليس ربًّا لهم، والعياذ بالله.

28- أن من كفر نعم الله تعالى ففيه شبهٌ من اليهود.

29- إثبات ربوبية الله عز وجل الخاصة لموسى عليه السلام وتشريفه بإضافة اسم الرب إلى ضميره؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّكَ ﴾.

30- أن المُخرج للنبات والجالب للأرزاق هو الله جل وعلا؛ لقوله تعالى: ﴿ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ﴾ الآية [البقرة: 61].

31- اختيار بني إسرائيل الأدنى من الطعام على الأعلى، وإنكار موسى ذلك عليهم؛ لقوله تعالى: ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 61].

32- لا بأس في اختيار الأطيب والأفضل من المأكل والمشرب والمسكن والمركب ونحو ذلك، ما لم يصل الأمر إلى حد الإسراف؛ لقوله تعالى: ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾.

33- حِلُّ البقول والقثاء والفوم والعدس والبصل؛ لقوله تعالى: ﴿ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ﴾ [البقرة: 61]، إلى قوله تعالى: ﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ [البقرة: 61].

34- جواز إسناد الشيء إلى مكانه أو سببه؛ لقوله تعالى: ﴿ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ﴾، والمنبِت حقًّا هو الله عز وجل.

35- التقليل من شأن مطلب بني إسرائيل في قولهم: ﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا ﴾ الآية [البقرة: 61]، وتوبيخهم؛ لأن ما سألوه لا يحتاج إلى دعاء؛ لكثرته في الأمصار ودناءته؛ لقوله تعالى: ﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾.

36- ضرب الذلة والهوان والصغار على بني إسرائيل، ولزوم ذلك لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ﴾ [البقرة: 61]، وكما قال تعالى: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 112]؛ أي: بحبل من الله وهو الإسلام الذي به العزة لمن اعتنقه، ﴿ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ﴾ بعهد أو أمان من المسلمين لهم، أو مناصرة ومظاهرة غيرهم من أهل الكفر لهم، كما هو الحال في مناصرة نصارى العالم لهم اليوم.

وهم مع ذلك ومع ما يملكون من أنواع الأسلحة النووية وغيرها - أذلاء جبناء، ويعيشون حياة الذل والخوف والقلق، مصداق قوله عز وجل: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ﴾، هذه حالهم وصفتهم اللازمة لهم.

ولا تسأل لماذا لم ينتصر المسلمون عليهم؟ فالجواب يعرفه كل مسلم، وهو ضعف المسلمين وبعدهم عن دينهم، واختلافهم وتناحرهم فيما بينهم وتفرُّقُ كلمتهم، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46].

وكما قال الموصي لأبنائه عند وفاته:
كونوا جميعًا يا بنيَّ إذا اعترى
خطبٌ ولا تتفرَّقوا آحادَا
تأبى الرماحُ إذا اجتمعنَ تكسُّرًا
وإذا افترقنَ تكسَّرتْ آحادَا[5]




37- ضرب المسكنة والفقر على بني إسرائيل، بل أشد ذلك وأعظمه هو فقر القلوب، حتى صاروا أفقر الخلق قلوبًا، وأشدهم بخلًا وشحًّا، وحرصا وطمعًا، حتى ولو ملكوا الأموال الكثيرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ [البقرة: 61].

38- غضب الله تعالى على بني إسرائيل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 61]، وفي هذا إثبات صفة الغضب لله عز وجل، كما يليق بجلاله، وإثبات ضده وهو الرضا عمن هم أهل لذلك، وهم المؤمنون.

39- أن ما حصل لبني إسرائيل من ضرب الذلة والمسكنة عليهم ورجوعهم بغضب الله إنما هو بسبب كفرهم بآيات الله، وقتلِهم النبيِّين وعصيانهم واعتدائهم؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61].

40- إثبات الحكمة لله تعالى، وربط العقوبات بموجباتها، وبيان عدل الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ﴾، وقوله: ﴿ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا ﴾ [البقرة: 61].

41- التحذير من الكفر بآيات الله، ومن العصيان والاعتداء.

42- أن قتل النبيين لا يكون إلا بغير حق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [البقرة: 61]، فقوله: ﴿ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ لبيان الواقع.

43- أن المعاصيَ يجرُّ بعضها بعضًا؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾.


[1] البيت ينسب ليحيى بن علي باشا الأحسائي. انظر: "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر" (4/475-476).

[2] في "تفسيره" (1/ 146).

[3] البيت لطرفة بن العبد. انظر: "ديوانه" ص46.

[4] في "تفسيره" (1/ 146).

[5] انظر: "موسوعة الشعر الإسلامي" 1 /162، والبيتان ينسبان لمعن بن زائدة، وقيل: للمهلب بن أبي صفرة.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #133  
قديم 08-10-2021, 09:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله


كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم












تفسير قوله تعالى﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ... ﴾






قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 62 - 66].







قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 62].







وقال تعالى في سورة المائدة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [المائدة: 69].







عن سلمان رضي الله عنه قال: "سألت النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن أهل دِين كنت معهم، فذكرتُ من صلاتهم وعبادتهم، فنزلت: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ إلى آخر الآية"[1].







ذكر الله عز وجل في الآية السابقة ما عاقَب به بني إسرائيل بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم النبيين بغير حق؛ مِن ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وغضب الله عليهم، ثم أتبع ذلك بذكر ما أعَدَّه للذين آمنوا من هذه الأمة، ومن الذين هادوا والنصارى والصابئين، من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، من الأجر عنده، والسلامة من الخوف والحزن، وأنه لا يضيع أجر من آمَنَ وعمل صالحًا أيًّا كان.







وفيه احتراز وتنبيه إلى أن من بني إسرائيل من آمن وعمل صالحًا، فليسوا كلهم ممن كفر وقتَل النبيين وغضب الله عليهم، كما أن فيها إشارة إلى أن باب التوبة مفتوح لمن تاب وآمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا من أي طائفة كان.







قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ "إنَّ" للتوكيد وتحقيق الخبر، والمراد بـ "الذين آمنوا" أمَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما خصَّهم الله بهذا الوصف؛ لأنهم هم الذين يستحقون اسم ووصف الإيمان المطلق، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وكل ما أوجب الله الإيمان به، كما قال تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ [البقرة: 285].







وابتدأ بذكر الذين آمنوا من هذه الأمَّة؛ اهتمامًا بشأنهم؛ لفضلهم وكونهم القدوة لغيرهم.







﴿ وَالَّذِينَ هَادُوا ﴾؛ أي: اليهود، وهم المنتسبون إلى شريعة موسى عليه السلام "شريعة التوراة"، ومعنى "هادوا": تابوا، كما قال موسى عليه السلام: ﴿ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 156]؛ أي: تُبْنا إليك.







﴿ وَالنَّصَارَى ﴾: الذين ينتسبون إلى النصرانية دين عيسى عليه السلام، سموا نصارى لتناصرهم فيما بينهم، ويقال لهم: أنصار، كما قال عليه السلام: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾ [الصف: 14].







﴿ وَالصَّابِئِينَ ﴾: قرأ نافع بياء ساكنة بعد الباء "والصابين" على أنه جمع "صابٍ" منقوصًا، وقرأ الباقون بهمزة بعد الباء ﴿ وَالصَّابِئِينَ ﴾ جمع "صابئ" بهمزة في آخره، وهم من لا دِين لهم، وقيل: هم من جملة فرق النصارى، وقيل: هم الذين لم تبلغهم دعوة نبيٍّ، وقيل غير ذلك.







قال ابن كثير[2] بعدما ذكر عددًا من الأقوال في المراد بالصابئين: "وأظهر الأقوال والله أعلم قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى، ولا المجوس والمشركين، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين لهم مقرَّر يتبعونه ويقتفونه؛ ولهذا كان المشركون ينبزون من آمن بالصابئ، أي: أنه قد خرج عن سائر أديانِ أهل الأرض".







﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ "من": اسم موصول في محل نصب بدل من قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ إلى قوله: ﴿ وَالصَّابِئِينَ ﴾؛ أي: من آمن من الطوائف المذكورة، ولم يقل: "من آمن منهم"؛ ليشمل الوعد كلَّ من آمن بالله واليوم الآخر، منهم ومن غيرهم.







أي: من آمن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن اليهود والنصارى والصابئين بالله؛ أي: بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وشرعه.







﴿ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾؛ أي: وآمن باليوم الآخر، يوم القيامة وما فيه من البعث والحساب والجزاء على الأعمال.







وكثيرًا ما يقرن الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالله دون بقية أركان الإيمان؛ لأن الإيمان باليوم الآخر من أعظم أركان الإيمان، وهو الذي يحمل الناس على العمل؛ لما فيه من الحساب والجزاء على الأعمال.







﴿ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾؛ أي: وعمل عملًا صالحًا، وحذف الموصوف وهو "عملًا" لأن المهم كون العمل صالحًا، والعمل إنما يكون صالحًا بالإخلاص لله عز وجل، وموافقة شرعه كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ [النساء: 125]؛ أي: أخلص العمل لله، وهو محسن متبع للشرع.







﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ الجملة خبر "إن" في قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، وقُرن بالفاء؛ لمشابهة الموصول وهو المبتدأ للشرط.







وقدم المبتدأ وهو قوله: "لهم"، على الخبر وهو "أجرهم"، وسمى ثوابهم أجرًا؛ لتأكيد تحقيق ذلك لهم؛ أي: فلهم ثواب إيمانهم وعملهم الصالح مؤكدًا محققًا.







وإنما سمى الله عز وجل ثوابهم أجرًا؛ لأنه عز وجل أوجبه على نفسه تفضُّلًا منه وكرمًا، كما أوجب أجرة الأجير على المستأجر، قال تعالى: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]، وقال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156].







قال صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه: ((أتدري ما حقُّ الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله: ألا يعذِّب من لا يشرك به شيئًا))[3].







وهو سبحانه وتعالى إنما أوجب ذلك وأحَقَّه على نفسه تفضلًا منه وكرمًا؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيءٌ لخلقه، بل هو صاحب الفضل والإنعام عليهم، قال ابن القيم[4]:






ما للعباد عليه حقٌّ واجب

هو أوجَبَ الأجر العظيم الشانِ


كلا ولا عملٌ لديه ضائعٌ

إن كان بالإخلاص والإحسانِ


إن عذِّبوا فبعدله أو نعِّموا

فبفضله والفضلُ للمنانِ







﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾؛ أي: عند خالقهم ومالكهم ومربِّيهم بنعمه العظيمة، فهو عنده ومنه سبحانه وتعالى، وفي هذا تعظيم لأجرهم، وبيان ضمانِه عز وجل وتكفله لهم بذلك.








﴿ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾؛ أي: ولا خوف عليهم فيما يستقبلون، و"خوف" نكرة في سياق النفي، فيعم نفي أيِّ خوف.







﴿ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾؛ أي: ولا هم يحزنون على ما فاتهم، ولا على ما يخلفون بعد مماتهم، كما قال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 62، 63]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30].








[1] أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 126).




[2] في "تفسيره" (1/ 149).





[3] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2856)، ومسلم في الإيمان (30)، والترمذي في الإيمان (2643)، وابن ماجه في الزهد (4296).




[4] في "النونية" (ص149، 150).










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #134  
قديم 08-10-2021, 09:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله


كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى:﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ.. ﴾



قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [البقرة: 63، 64].


وعد الله عز وجل في الآية السابقة كلَّ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا من سائر الأمم بالأجر العظيم، مع انتفاء الخوف والحزن عنهم، ثم عاد الكلام في الآيات إلى تذكير بني إسرائيل بأخذ ميثاقهم ورفع الطور فوقهم؛ تخويفًا لهم؛ ليؤمنوا، وتولِّيهم بعد ذلك، وتفضُّل الله عليهم ورحمته لهم بتوبته عليهم بعد ذلك.

ووجه الخطاب لبني إسرائيل الموجودين وقت نزول القرآن؛ لأن الميثاق الذي أُخِذ على أسلافهم هو ميثاق عليهم.

وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 93].

قوله: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ﴾ الواو: عاطفة، و"إذ" ظرف بمعنى حين. والميثاق: العهد المؤكد الغليظ الثقيل؛ أي: واذكروا حين أخذنا عهدكم الموثق المؤكد المغلظ بواسطة موسى عليه السلام، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ إلى قوله: ﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 83- 85].

﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ؛ أي: ورفعنا فوق رؤوسكم الطور، كما قال تعالى في سورة النساء: ﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ﴾ [النساء: 154].

والطور الجبل المعروف الذي نادى الله موسى من جانبه، كما قال تعالى: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴾ [مريم: 52].

عن ابن جريج قال: قال لي ابن عباس: "الطور: الجبل الذي أنزلت عليه - يعني: على موسى - التوراة، وكانت بنو إسرائيل أسفل منه"[1].

رفعه الله عز وجل فوق بني إسرائيل؛ تهديدًا وتخويفًا لهم، كما قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 171].

وهذا من أعظم آيات الله الكونية الدالة على تمام قدرته عز وجل.

﴿ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ؛ أي: قائلين لهم: ﴿ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ﴾، "ما" موصولة تفيد العموم؛ أي: خذوا واقبلوا جميع الذي أعطيناكم من الكتاب والتوراة؛ أي: آمنوا به واعملوا بمقتضاه.

﴿ بِقُوَّةٍ ﴾ الباء للمصاحبة؛ أي: مصحوبًا بقوة، أي: بحزم وعزم ونشاط وجد واجتهاد في الامتثال والعمل، دون ضعف أو تهاون أو توانٍ، كما قال تعالى: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ [مريم: 12].


﴿ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ ﴾"ما": اسم موصول يفيد العموم؛ أي: واذكروا الذي فيه من الأحكام والأوامر والنواهي، والأخبار والوعد والوعيد والمواعظ وغير ذلك، واتلُوه وتعلموه واعملوا به.

﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ؛ أي: لأجل أن تتقوا الله، أو لتكونوا من أهل التقوى.

فأخذ الله عز وجل ميثاقهم، ورفع فوقهم الطور؛ تخويفًا لهم، وأمرهم بأخذ الكتاب بقوة، وذكر ما فيه؛ لأجل أن يتقوا الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].

وهذا يدل على شدة عتوِّهم وعنادهم وتكبُّرهم وتجبرهم حيث لم يؤمنوا إلا حين رفع فوقهم الطور، كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم، فحينها آمَنوا، كما قال موسى عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88].

فهم دُعوا إلى السجود ولكنهم مالوا في سجودهم ينظرون إلى الجبل خائفين منه، ويقال: إن هذا ما زال هو سجودهم إلى اليوم، فإيمانهم وسجودهم أشبه بإيمان وسجود المكره؛ ولهذا سرعان ما تَولَّوا، كما قال تعالى:
﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ [البقرة: 64]؛ أي: ثم توليتم بأبدانكم، وأعرضتم بقلوبكم عن طاعة الله تعالى وتقواه.

﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة: 64]؛ أي: من بعد أخذ ميثاقكم ورفع الطور فوقكم وإنابتكم وقت ذلك، فنقضتم العهد والميثاق.


﴿ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [البقرة: 64] "لولا": حرف امتناع لوجود، واللام واقعة في جواب "لولا"؛ أي: فلولا فضل الله عليكم موجود لكنتم من الخاسرين؛ أي: فلولا تفضُّل الله عليكم ورحمته لكم بعفوه عنكم وتوبته عليكم بعد توليكم ونقضكم الميثاق، لكنتم من الخاسرين الخسارة العظمى؛ خسارة الدين والدنيا والآخرة، خسارة النفس والأهل والولد، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15]، وقال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].



[1] أخرجه الطبري في "جامع البيان" (20/5).








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #135  
قديم 08-10-2021, 09:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم






قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ... ﴾


قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 65، 66].

هذا مما يُذَكِّر الله به بني إسرائيل، مما يَعلَمونه ومما تقرر عندهم من أمرِ الذين اعتدوا منهم في السبت، ومسَخهم الله قردة خاسئين؛ ليأخذوا من ذلك العظة والعبرة، ويحذروا من المخالفة والعصيان.

قوله: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ الواو: عاطفة، واللام موطِّئة للقسَم، وقد للتحقيق، فالجملة مؤكَّدة بثلاثة مؤكِّدات: القسم، ولام القسم، و"قد". والخطاب لبني إسرائيل الموجودين وقت نزول القرآن.

أي: والله لقد علمتم يا بني إسرائيل الذين تجاوزوا منكم حدَّ الله، وارتكبوا ما نهاهم عنه يوم السبت، وما حل بهم، وفي هذا توبيخٌ لهم على عدم الإيمان مع علمهم بما حل بأسلافهم، وتحذير لهم من عقاب الله عز وجل.

و"السبت" في الأصل: القطع والراحة، والمراد بـ"السبت" أحد أيام الأسبوع، وسمي بالسبت؛ قيل: لأنهم كانوا ينقطعون فيه عن العمل.

ومعنى ﴿ فِي السَّبْتِ ﴾؛ أي: في حكم السبت؛ أي: فيما حكم الله به عليهم يوم السبت من تحريم العمل والصيد فيه ليتفرغوا للعبادة، وقد ابتلاهم الله بإتيان الحيتان شُرَّعًا؛ أي: بكثرة في هذا اليوم دون غيره من أيام الأسبوع، كما قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [الأعراف: 163].

فاحتالوا بوضع الشباك لها يوم الجمعة وأخذِها يوم الأحد، فجمعوا بين التحايل على فعل المحرَّم، وبين ارتكاب المحرَّم، وهذا أشد اعتداءً وأعظم جرمًا من فعل المحرَّمِ على وجه صريح؛ لما فيه المخادعة وإظهار المحرم بصورة المباح؛ ولهذا المسلك - وهو الخداع والتحايل - كان المنافقون أشدَّ الناسِ جرمًا، وأشدهم عذابًا، لأنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.

﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ؛ أي: صيروا قردة خاسئين، و"القردة" هي الحيوانات المعروفة التي هي من أخس الحيوانات؛ ولهذا قال: "خاسئين"؛ أي: أذلة صاغرين، فمُسخوا قردة خاسئين مسخًا حقيقيًّا لصورهم، ومعنويًّا لقلوبهم بأمر الله تعالى؛ عقوبة لهم؛ بسبب استخفافهم بحكم الله تعالى وتحايلهم عليه، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ﴾ [المائدة: 60].

فعوقبوا بجنس عملهم؛ لأن الذي ارتكبوه بهذه الحيلة قد يبدو بأن صورته صورة المباح، وهو في الحقيقة محرَّم غير مباح، وكذلك عوقبوا بمسخهم على صورة القردة التي هي أشبه شيء بصورة الآدمي، وليست بآدمي، والجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40]، وقال تعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ﴾ [العنكبوت: 40].

قال ابن كثير[1]: "فلما فعلوا ذلك مسَخَهم الله إلى صورة القرود، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر، وليست بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلهم، لما كانت مشابهة للحق في الظاهر، ومخالفة له في الباطن؛ كان جزاؤهم من جنس عملهم".


[1] في "تفسيره" (1 /150).








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #136  
قديم 08-10-2021, 10:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله


كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم







تفسير قوله تعالى:﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾[البقرة: 66].





قوله تعالى: ﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ[البقرة: 66].







الضمير في "فجعلناها" مفعول أول لـ "جعل" يعود للعقوبة المذكورة، و"نكالًا" مفعول ثانٍ؛ أي: فصيَّرنا عقوبتهم بمسخهم قردة خاسئين نكالًا.







ويحتمل عود الضمير في "جعلناها" إلى القرية؛ بدليل قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ﴾ [الأعراف: 163].







والنكال: العقوبة التي يعاقَب بها مرتكب المعصية، فتكون نكالًا له من العود إلى المعصية مرة أخرى، ونكالًا لغيره من فعلِها؛ أي: ما يرتدع به وينزجر ويمتنع عن مثل ذلك الفعل هو وغيره، كما قال تعالى عن فرعون: ﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ﴾ [النازعات: 25]، وقال تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 38]، والنكل والنكال: القيد، قال تعالى: ﴿ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا ﴾ [المزمل: 12]؛ أي: لدينا قيودًا.







﴿ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا: "ما": موصولة؛ أي: للذي بين يدَيِ القرية، أي: للذي أمامها وحولها وقريبًا منها من القرى وأهلها، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأحقاف: 27]، ﴿ وَمَا خَلْفَهَا ﴾ أي: والذي خلفها؛ أي: بعيدًا منها من القرى وأهلها.







ويحتمل أن المعنى ﴿ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ﴾من القرى الحاضرة آنذاك وأهلها، ﴿ وَمَا خَلْفَهَا ﴾ من يأتي بعدهم، ويكون ﴿ خَلْفَهَا ﴾ هنا بمعنى: أمامها، كما في قوله تعالى: ﴿ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾ [الكهف: 79]؛ أي: أمامهم.







وعلى احتمال أن الضمير يعود إلى العقوبة يكون معنى ﴿ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ﴾أي: ما كان حاضرًا وقت العقوبة، ﴿ وَمَا خَلْفَهَا ﴾: من يأتي بعد ذلك.







وقيل: المعنى: وجعلنا هذه العقوبة ﴿ نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ﴾؛ أي: لما قارنها من معاصيهم، ﴿ وَمَا خَلْفَهَا ﴾؛ أي: وما سبقها.







﴿ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ؛ أي: عظة وعبرة كونية قدَريَّة، وتذكرة للذين يتقون الله. وإنما خصهم بالموعظة؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بالآيات دون من عداهم، فهم كما قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ﴾ [الطور: 44].







والسعيد من وُعظ بغيره، فالحِيَل لا تجعل من الحرام حلالًا، بل تضاعِف الجرمَ والإثم والعقوبة، وإذا كان الله عز وجل عاقب بني إسرائيل بهذه العقوبة المشينة بسبب احتيالهم في السبت، فليحذر الذين يتحايلون من المسلمين اليوم بأنواع الِحيَل على فعل الحرام وأخذه من الربا وغيره من التعاملات المحرمة والمشبوهة، مما قد يفوق ما فعَله بنو إسرائيل من الاعتداء في السبت، وفي الحديث: ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل))[1].







الفوائد الأحكام:



1- كمال عدل الله عز وجل وأنه لا يظلم أحدًا، بل يجازي كلًّا بعمله؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 62].







2- الاحتراز في القرآن الكريم؛ لأن الله عز وجل بعد أن ذكَرَ ما عاقب به بني إسرائيل من ضرب الذِّلة والمسكنة عليهم، وغضبه عليهم بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم النبيين وعصيانهم واعتدائهم، أَتْبع ذلك بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا ﴾ الآية؛ لبيان أن مَن آمَن منهم ومن غيرهم من الأمم بالله واليوم الآخر فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن باب التوبة مفتوح لهم ولغيرهم.







3- فضل هذه الأمَّة على سائر الأمم؛ لأن الله قدَّمهم في الذكر في الآية، وخصهم باسم "الذين آمنوا".







4- أن الإيمان بالله هو أصل الإيمان وأعظم أركانه؛ لأن الله قدَّمه على الإيمان باليوم الآخر؛ لقوله تعالى: ﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 62].








5- أن الإيمان باليوم الآخر من أعظم أركان الإيمان؛ لأن الله عز وجل قرنه بالإيمان به سبحانه وتعالى، وخصهما بالذكر من بين أركان الإيمان به؛ وذلك لأن الإيمان باليوم الآخر من أعظم ما يحمل على العمل.







6- لا بد من الجمع بين الإيمان بالقلب وعمل الجوارح، بين إيمان الباطن والظاهر؛ لقوله تعالى بعد أن ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر: ﴿ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ [البقرة: 62]، وفي هذا الرد على المرجئة الذين يقولون: يكفي مجرد الإيمان.







7- أن من شرط قبول العمل كونَه صالحًا؛ خالصًا لله تعالى وفق شرعه.







8- عِظَم ما أُعِدَّ من الأجر والثواب لمن آمن بالله واليوم الآخر؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 62]، ومما يزيد في عظمة هذا الأجر كونه عند ربهم سبحانه، وفي هذا كله ترغيب بالإيمان بالله واليوم الآخر.







9- إثبات ربوبية الله الخاصة لمن آمَن بالله واليوم الآخر؛ لقوله تعالى: ﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 62].







10- أن جزاء المؤمنين منه ما هو جلبُ محبوب، ومنه ما هو دفع مكروه؛ لقوله تعالى:﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، وإذا جُلِبَ المحبوب وهو: الأجر وأنواع النعيم، ودُفِعَ المكروه وهو: الخوف والحزن، كملت السعادة.







11- تذكير الله لبني إسرائيل بما أخذ عليهم من الميثاق، ورفع الطور فوقهم؛ تخويفًا لهم، وأمرهم بالأخذ والعمل بالتوراة بقوة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ﴾ [البقرة: 63].








12- شدة عتوِّ بني إسرائيل، حيث لم يؤمنوا إلا حين رفع فوقهم الطور كأنه ظُلَّة، أشبه بإيمان المكره.







13- في رفع الطور فوقهم آيةٌ عظيمة من آيات الله عز وجل، وتدل على كمال قوته وتمام قدرته سبحانه.







14- أن الهدف من أخذ الميثاق على بني إسرائيل، وأمرهم بالأخذ بالتوراة: أن يتقوا الله؛ لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 63].








15- تولِّي بني إسرائيل عن الإيمان بعد أخذ الميثاق عليهم، وزوال تخويفهم برفع الجبل فوقهم، مما يدل على عنادهم، وعدم استقرار الإيمان في قلوبهم؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ [البقرة: 64].







16- فضل الله عز وجل ورحمته لبني إسرائيل بما آتاهم من الآيات، وبعفوه عنهم وتوبته عليهم بعد نقضهم الميثاق، وتوليهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [البقرة: 64].







17- إثبات الفضل والرحمة لله عز وجل وأن التوفيق بيده، وإثبات الأسباب وتأثيرها بمسبباتها؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾.







18- توبيخ بني إسرائيل في عهده صلى الله عليه وسلم، على عدم الإيمان به، وتحذيرهم من الاعتداء والمخالفة والعصيان، بتذكيرهم بما يعلمون من حال أسلافهم الذين اعتدوا في السبت بالتحايل على أخذ الصيد فيه، وعقوبة الله تعالى لهم بمسخهم قردةً وإذلالهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [البقرة: 65].







19- السعيد من وُعظ بغيره.







20- تحايل اليهود على محارم الله عز وجل، فقد حرَّم الله عليهم صيد السمك في السبت، فوضعوا لها الشباك يوم الجمعة وأخذوها يوم الأحد.



21- شدة تحريم التحيُّل لتحليل الحرام؛ لأن الله سمى فعل بني إسرائيل اعتداءً ومسخهم بسببه قردة خاسئين؛ لأن فيه جمعًا بين فعل المحرَّم والخداع.







22- أن التحيُّل لا يجعل من الحرام حلالًا.







23- أن الجزاء من جنس العمل، فحيث ارتكب اليهود المحرم، وصوروه بالحيلة بصورة الحلال، عاقَبهم الله بمسخهم قردة تشبه الآدميَّ وليست بآدمي.







24- تمام قدرة الله تعالى، وأنه إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون؛ لقوله تعالى: ﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ.








25- إثبات القول والكلام لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ ﴾ الآية.







26- حقارة القردة، وأنها أخس الحيوانات.







27- جعل الله عز وجل هذه العقوبة التي عاقب بها بني إسرائيل، وهي مسخهم قردة خاسئين، نكالًا لغيرهم من ارتكاب مثل ما ارتكبوه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ﴾ [البقرة: 66].








28- أن العقوبات والتعزيرات والحدود الشرعية نكالٌ وزجر للفاعل، ونكال وزجر لغيره من ارتكاب فعله.







29- أن فيما عاقب الله به بني إسرائيل عظةً وعبرة لمن اتقى الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 66].








30- فضل التقوى؛ لأن أهلها هم الذين يتعظون ويعتبرون وينتفعون بالمواعظ؛ ولهذا خصهم بها.







31- أن العبر والعظات والآيات منها ما هو شرعي كآيات القرآن الكريم، ومنها ما هو كوني كمسخ الذين اعتدوا في السبت قردة، وكالطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم وغير ذلك.








[1] ذكره ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1 /513). وذكر إسناده، وقال: "هذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذي" وانظر "عون المعبود" مع شرح ابن القيم (9 /340)، وكذا جوَّد إسناده ابن كثير، انظر "تفسير ابن كثير" (1 /154).















__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #137  
قديم 08-10-2021, 10:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله


كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾





قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 67 - 74].








في هذه القصة يُذَكِّر الله بني إسرائيل بما حصل منهم من المكابرة والعناد والتعنت، والتشديد على أنفسهم مما كان سببًا لتشديد الله عليهم.







قال ابن القيم[1] في ذكر العبر من هذه القصة: "إن بني إسرائيل فُتنوا بالبقرة مرتين من بين سائر الدواب، ففُتنوا بعبادة العجل، وفُتنوا بالأمر بذبح البقرة، والبقر من أبلد الحيوان حتى ليضرب به المثل. والظاهر أن هذه القصة كانت بعد قصة العجل، ففي الأمر بذبح البقرة تنبيهٌ على أن هذا النوعَ من الحيوان الذي لا يمتنع من الذبح والحرث والسقي لا يصلح أن يكون إلهًا معبودًا من دون الله تعالى، وإنما يصلح للذبح والحرث والسقي والعمل".







قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [البقرة: 67].








قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل حين قال موسى لقومه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾.







وذلك أن بني إسرائيل قُتِل منهم قتيل، قيل: كان ذا مال كثير، فقتَله ابنُ أخيه؛ ليرثه، واختلفوا في قاتله وتخاصموا في ذلك، واتهمت كلُّ قبيلة منهم الأخرى، وكادت تثور بينهم فتنة وقتال بسبب ذلك، فرأوا أن يأتوا إلى نبي الله موسى عليه السلام؛ ليخبرهم من القاتل، كما يدل على هذا قوله تعالى في أثناء القصة: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 72]، فقال لهم موسى عليه السلام: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾، وقد أكَّد لهم ذلك بـ"إِنَّ"، وعظَّمهُ ببيان أن الآمر بذلك هو الله عز وجل، ولم يقل: آمركم أو اذبحوا.







وجملة ﴿ أَنْ تَذْبَحُوا ﴾ في محل جر؛ أي: بأن تذبحوا بقرة؛ أي: بذبح بقرة، أيّ بقرة كانت، ولو فعلوا لأجزأهم ذلك، وحصل المقصود، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، لكنهم شدَّدوا فشدَّد الله عليهم"[2].







أي: لكنهم اعترضوا وأنكروا على موسى ما قاله، فقالوا:



﴿ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ﴾ قرأ حفص بإبدال الهمزة واوًا "هزوًا"، وقرأ حمزة وخلف: "هُزْءًا" بإسكان الزاي، وقرأ الباقون بالهمز "هُزُؤًا". والاستفهام للإنكار.







أي: أتجعلنا هزوًا؛ أي: مهزوءًا بنا؛ أي: محل استهزاء، والهُزءُ: السُّخْرية، وإنما قالوا هذا - والله أعلم - لاستبعادهم أن يكون ذبح البقرة سببًا لمعرفة القاتل وزوال ما بينهم من المدارأة، وعدم معرفتهم وجه الحكمة في أمرهم بذلك، وكان الواجب عليهم التسليمَ لأمر الله وأمرِ رسوله.







قال ابن القيم[3] في ذكر العبر من هذه القصة: "ومنها أنه لا يجوز مقابلة أمرِ الله الذي لا يعلم المأمورُ به وجهَ الحكمة فيه بالإنكار، وذلك نوع من الكفر، فإن القوم لما قال لهم نبيُّهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [البقرة: 67]، قابَلوا الأمر بقولهم: ﴿ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا، فلما لم يعلموا وجه الحكمة في ارتباط هذا الأمر بما سألوا عنه قالوا: ﴿ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ﴾، وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله، فإنه أخبرهم عن أمر الله لهم بذلك، ولم يكن هو الآمرَ به، ولو كان هو الآمر به لم يجُزْ لمن آمن بالرسول أن يقابِل أمره بذلك".







﴿ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ؛ أي: أعتصم بالله أن أكون من أولي الجهل والسَّفَهِ وعدم العلم الذين يستهزئون بعباد الله، فالجهل: السَّفه؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ﴾ [النساء: 17]؛ أي: بسفه، والجهل: ضد الحلم، قال عمرو بن كلثوم[4]:



ألا يجهلنْ أحدٌ علينا *** فنجهلَ فوق جهلِ الجاهلينَا





والجهل ضد العلم، كما قال النابغة:



وليس جاهلُ شيءٍ مثلَ مَن عَلِمَا







وقال السموءل[5]:



سَلِي إنْ جَهِلْتِ الناسَ عنا وعنهمُ *** فليس سواءً عالِمٌ وجَهولُ





ولما علموا صدق موسى فيما قال لهم من أمر الله لهم بذبح بقرة، سألوه عن سنِّها تشددًا وتعنتًا منهم، قال تعالى:




﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴾ [البقرة: 68].







[1] انظر "بدائع التفسير" (1/ 319- 320).





[2] أخرجه الطبري في "جامع البيان" (2/ 98، 100).




[3] انظر "بدائع التفسير" (1/ 318).




[4] انظر: "ديوانه" (ص78).




[5] انظر: "ديوانه" (ص92).










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #138  
قديم 09-12-2021, 02:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى:﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ..... ﴾











قال تعالى: ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة: 68].







قوله: ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾ بهذا اللفظ خاطَبوا موسى عليه السلام ثلاث مرات في هذه القصة، وفي هذا من الاستكبار والجفاء والسخرية وسوء الأدب ما لا يخفى، كما سبق بيان ذلك في الكلام على قولهم: ﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ﴾ [البقرة: 61].







﴿ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ﴾"ما": استفهامية في محل رفع مبتدأ، و"هي": ضمير في محل رفع خبر، والتقدير: أيُّ شيء هي من حيث السن، بدليل قوله في جوابه لهم: ﴿ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾.







وهذا سؤال لا وجهَ له؛ لأنهم إنما أُمروا بذبح بقرة، فلو ذبحوا أيَّ بقرة لأجزأهم ذلك، وحصل المقصود، لكنهم تعنَّتوا وتشددوا، فشدَّد الله عليهم بقوله:



﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ ﴾؛ أي: قال لهم موسى: ﴿ إِنَّهُ يَقُولُ ﴾ أي: إن ربي يقول: ﴿ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ ﴾؛ أي: لا مسنَّة كبيرة هرمة، بدليل مقابلتها بقوله: ﴿ وَلَا بِكْرٌ ﴾.







وسميت "فارض"؛ لأنها فرضت سنها؛ أي: قطعته، والفرض: القطع.







﴿ وَلَا بِكْرٌ ﴾؛ أي: ولا صغيرة، لم يقرعها الفحل ولم تلد، وهي الفتيَّة، مشتقة من البُكرة، وهي أول النهار؛ لأن البكر في أول السنوات من عمرها.







﴿ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ؛ أي: وسط ونَصَف بين الفارض والبكر؛ أي: متوسطة السن، وهي أنفس وأحسن ما يكون، وأقوى وأشد ما يكون من البقر والدواب.







﴿ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴾ هذا من قول موسى لهم حثًّا على الامتثال؛ أي: فافعلوا الذي تؤمرون؛ أي: امتثَلوا الذي أمركم الله به، من ذبح بقرة تكون وسطًا بين الفارض والبكر، فحصروا في سن معيَّن؛ تشديدًا عليهم؛ لتشدُّدهم في السؤال عن سنها، ولو ذبحوا بقرة بهذه السن، لأجزأهم ذلك وحصل المقصود، ولكنهم تعنَّتوا وتشددوا مرة ثانية بالسؤال عن لونها، فشدَّد الله عليهم.







﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا ﴾[البقرة: 69] قوله: ﴿ مَا لَوْنُهَا ﴾ كقوله: ﴿ مَا هِيَ ﴾ [البقرة: 68]، والتقدير: أي شيء لونها؛ أهي بيضاء، أو سوداء، أو صفراء، أو غير ذلك؟







وهذا سؤال أقلُّ وجاهةً من سابقه؛ إذ ما الفائدة في معرفة اللون؟ وما أثر ذلك إلا العناد والتعنت والتشديد على أنفسهم.







﴿ قَالَ ﴾؛ أي: قال لهم موسى: ﴿ إِنَّهُ يَقُولُ ﴾؛ أي: إن ربي يقول: ﴿ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ ﴾؛ أي: لونها أصفر.







﴿ فَاقِعٌ لَوْنُهَا؛ أي: صافٍ لونها، شديد الصفرة، ليس فيه ما يشوبه ويخرجه عن الصفرة.







﴿ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ؛ أي: تسر الناظرين إليها؛ أي: تعجبهم من حسن لونها ومنظرها، أي: تُدخِل السرور عليهم، وليست صفرتها صفرةً مستكرهة تسوء الناظرين وتجلب الغم.







فكان في تعنتهم وتشديدهم مرة أخرى بالسؤال عن لونها أنْ شدَّد الله وضيق عليهم من ثلاثة أوجه:



الأول: أن تكون صفراء اللون، فلا يجزئ ما عدا الأصفر من الألوان، وهذا تضييق في الألوان.







الثاني: أن يكون لونها فاقعًا؛ أي: صافٍ الصفرةُ شديدها، ليس فيه ما يشوبه ويخرجه عن الصفرة، وهذا تشديد وتضييق عليهم في صفة وماهية صفرتها.







الثالث: أن تكون صفرتها صفرة تسر الناظرين، من حسن لونها ومنظرها، وهذا تشديد وتضييق عليهم في حسن اللون والمنظر.







ولو ذبحوا بقرة بالسن المذكورة واللون المذكور، أجزأهم ذلك، وحصل المقصود، ولكنهم تعنتوا، وتشددوا مرة ثالثة بالسؤال عن عملها، فشدد الله عليهم في ذلك.







﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ﴾[البقرة: 70]؛ أي: أيُّ شيء هي من حيث العمل، أي: ميِّزها وصِفْها لنا من حيث العمل، بدليل قوله تعالى في جوابه لهم: ﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ ﴾ [البقرة: 71].







﴿ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ﴾[البقرة: 70]؛ أي: إن البقر تشابه والتبس علينا لكثرته، فلا ندري ما شبه البقرة المطلوب ذبحها، أو أي بقرة تذبح، وكأن هذا اعتذار منهم عن سبب تكرير وإعادة السؤال.







وهذا إنما هو تعنُّت منهم وتشديد ثالث على أنفسهم، وإلا فأين التشابه، وقد بيَّن لهم أنها بقرة، وبيَّن لهم سنها وأنها ﴿ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾ [البقرة: 68]، وبيَّن لهم لونها وأنها ﴿ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ [البقرة: 69]؟







﴿ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾[البقرة: 70] أكدوا مقالتهم هذه بثلاثة مؤكدات: "إنَّ"، ولام التوكيد في قوله: ﴿ لَمُهْتَدُونَ ﴾، وكون الجملة اسمية.







وقولهم: ﴿ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾يحتمل أن هذا منهم من تفويض الأمر إلى الله عز وجل؛ ولهذا قال بعض السلف: "لو لم يقولوا: "إن شاء الله" لم يهتدوا إليها أبدًا"[1].







وفي هذا ما يشعر بالوعد منهم والطَّمأنة لموسى عليه السلام.







ويحتمل أن قصدهم أنهم لو لم يهتدوا لاحتَجوا بالمشيئة، وقالوا: إن الله لم يشأ أن نهتدي، كما قال تعالى: ﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [الأنعام: 148]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 35]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ﴾ [الزخرف: 20].







﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ ﴾[البقرة: 71]؛ أي: قال لهم موسى عليه السلام مجيبًا لهم: ﴿ إِنَّهُ يَقُولُ ﴾؛ أي: إن ربي يقول: ﴿ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ﴾ [البقرة: 71].







وفي هذا ما فيه من التشديد والتضييق عليهم.







ومعنى قوله: ﴿ لَا ذَلُولٌ ﴾؛ أي: لا هي مذللة بالعمل ﴿ تُثِيرُ الْأَرْضَ ﴾ تحرثها وتقلبها للنبات، ﴿ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ ﴾؛ أي: ولا هي بسانية يستخرج عليها الماء لسقي الحرث.







والمعنى: لا هي مذللة بالعمل بإثارة الأرض وحرثها، ولا باستخراج الماء وسقي الحرث عليها، بل هي مكرمة مدلَّلة لا مذللة.







﴿ مُسَلَّمَةٌ ﴾: صحيحة لا نقص فيها ولا عيب.







﴿ لَا شِيَةَ فِيهَا؛ أي: ليس فيها لون يخالف لونها، فهي صفراء خالصة الصفرة، لا يخالط صفرتَها لونٌ آخر من سواد أو بياض أو غير ذلك.







وفي هذا تشديد وتضييق عليهم أيضًا من أربعة أوجه:



الأول: ألا تكون مذللة بإثارة الأرض وحرثها.



الثاني: ألا تكون مذللة بسقي الحرث واستخراج الماء.



الثالث: أن تكون صحيحة لا نقص فيها ولا عيب.



الرابع: أن تكون خالصة الصفرة لا يخالط صفرتَها لونٌ آخر.







فشدَّدوا فشدَّد الله عليهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الدين يسرٌ، ولن يشادَّ هذا الدينَ أحدٌ إلا غلبه))[2].







﴿ قَالُوا ﴾؛ أي: قالوا بعد هذا التعنت والتشديد على أنفسهم، وبعد أن شدد الله عليهم.







﴿ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾ "الآن": اسم زمان، يشار به للوقت الحاضر؛ أي: هذا الوقت وهذه الساعة، ﴿ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾؛ أي: أتيت بالقول الحق؛ أي: الآن يا موسى أتيت بالقول والأمر الثابت، ومفهومُ كلامهم هذا أنك لم تأتِ بالحق قبل ذلك، بل جئت بالباطل، يدل على هذا قولهم في أول الأمر: ﴿ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ﴾ [البقرة: 67]، قال ابن القيم: "فإن أرادوا بذلك: أنك لم تأتِ بالحق قبل ذلك في أمر البقرة، فتلك ردة وكفر ظاهر".







وقيل: معنى قولهم: ﴿ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾؛ أي: الآن بيَّنت لنا البيان التام في أمر البقرة وأوصافها فعرفناها، وهذا من جهلهم؛ لأنه قد جاءهم بالحق أول مرة.







قال ابن القيم[3]: "فإن البيان قد حصل بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [البقرة: 67]؛ فإنه لا إجمال في الأمر، ولا في الفعل، ولا في المذبوح، فقد جاء رسول الله بالحق أول مرة".







وقال أيضًا في ذكر العبر المأخوذة من القصة: "ومنها أنه لا ينبغي مقابلة أمر الله بالتعنت وكثرة الأسئلة، بل كان الواجب عليهم أن يبادروا إلى الامتثال بذبح أيِّ بقرة اتفقت، فإن الأمر لا إجمال فيه ولا إشكال، بل هي بمنزلة قوله: "أعتق رقبة، وأطعم مسكينًا، وصم يومًا"، ونحو ذلك؛ فإن الآية غنية عن البيان المفصل، مبينة بنفسها، ولكن تعنَّتوا وشددوا، فشُدِّد عليهم".







﴿ فَذَبَحُوهَا ﴾[البقرة: 71]؛ أي: فذبحوا البقرة بعد العثور عليها بأوصافها السابقة بعد الجهد الجهيد المضني في طلبها، والمشقة الشديدة في البحث عنها، وذلك ثمرة تشديدهم على أنفسهم؛ ولهذا نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن كثرة السؤال، وقال: ((إنما أهلك من كان قبلكم كثرةُ سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم))[4].








وكما في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال))[5].







﴿ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾الواو: حالية؛ أي: والحال أنهم ما كادوا يفعلون، و"ما": نافية؛ أي: وما قاربوا أن يفعلوا لشدة تعنتهم وعنادهم وتشديدهم على أنفسهم، بالسؤال عن سنها، ثم عن لونها، ثم عن عملها، وتباطُئهم وتأخُّرهم عن الفعل، لكنهم في النهاية فعلوا؛ لقوله: ﴿ فَذَبَحُوهَا؛ أي: فذبحوها مكرهين، أو كالمكرهين؛ لما أظهروا من المماطلة.







و"كاد" كغيرها من الأفعال، نفيها نفي، وإثباتها إثبات، يقال: كاد المطر أن ينزل؛ أي: قارب وأوشك أن ينزل، ويقال: ما كاد المطر أن ينزل؛ أي: ما قارب وما أوشك أن ينزل.







وقوله في الآية: ﴿ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾لا شك أنه نفي؛ أي: وما قاربوا أن يفعلوا، وإنما استفدنا أنهم فعلوا من قوله قبل ذلك ﴿ فَذَبَحُوهَا ﴾.







فيكون المعنى: ﴿ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ؛ أي: وما قاربوا أن يفعلوا لشدة تعنتهم وعنادهم، لكنهم في النهاية فعلوا بدليل ﴿ فَذَبَحُوهَا ﴾.







[1] روي هذا عن جمع من السلف؛ انظر "جامع البيان" (2/ 98- 100)، "تفسير ابن أبي حاتم" (1/ 141)، "تفسير ابن كثير" (1/ 159).




[2] أخرجه البخاري في الإيمان- الدين يسر (39)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5034)- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.




[3] انظر "بدائع التفسير" (1/ 317- 319).




[4] أخرجه البخاري في الاعتصام (7288)، ومسلم في الحج (1337)، والنسائي في مناسك الحج (2619)، والترمذي في العلم (2679)، وابن ماجه في المقدمة (2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.




[5] أخرجه البخاري في الزكاة (1477)، ومسلم في الأقضية (593).









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #139  
قديم 09-12-2021, 02:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله


كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:
﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾







قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 72، 73].







ذكر الله عز وجل في هاتين الآيتين السببَ في أمر الله لهم بذبح البقرة، وجاء ذكره - والله أعلم - في نهاية القصة؛ للمبادرة بذكر النعمة قبل بيان سببها.







قوله: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا؛ أي: واذكروا حين قتَلتم نفسًا ﴿ فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾؛ أي: فتدافعتم فيها واختلفتم، كل قبيلة تتهم الأخرى بقتلِها، وتنفي التهمة عن نفسها، وكاد يكون بينهم قتالٌ وفتنة بسبب ذلك، فأتوا موسى لعله يخبرهم، فقال لهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [البقرة: 67].







وقد ذكر في القصة أن نفرًا من اليهود قتَلوا ابن عمهم الوحيد؛ ليرثوا عمَّهم، وطرحوه في محلة قوم، وجاؤوا إلى موسى يطالبون بدم ابن عمهم بهتانًا، وأنكَر المتهمون، فأنزل الله هذه الآيات.







﴿ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ: الواو: اعتراضية، و"ما": موصولة؛ أي: والله مظهر للناس الذي كنتم تُخفونه في أنفسكم من معرفة القاتل.







وهذه الجملة اعتراض بين قوله: ﴿ فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾ وقوله: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾؛ لتقرير وبيان أنهم مهما حاولوا كتمان الحقيقة، وإخفاء القاتل، فإن الله مُظهِرُه للناس؛ لأن الله عز وجل لا تخفى عليه خافية، والسر والعلانية عنده سواء، قال تعالى: ﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ [الرعد: 10].







وقال تعالى: ﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [النمل: 25]؛ أي: يظهره.







وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع، فقال: ((يا معشر من آمَنَ بلسانه، ولم يدخُلِ الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتَّبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف رحله))[1].







وفي الأثر: "وما أسرَّ أحد سريرة إلا أظهَرَها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه"، وكما قيل:






ومهما تكن عند امرئ مِن خليقةٍ


وإن خالَها تَخفى على الناس تُعلَمِ[2]















المصدر: « عون الرحمن في تفسير القرآن »












[1] أخرجه الترمذي في البر والصلة (2032)، وقال: "حديث غريب".




[2] البيت لزهير بن أبي سلمى. انظر: "ديوانه" (ص15).










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #140  
قديم 16-12-2021, 04:46 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى... ﴾




قوله تعالى: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 73]



﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾: القائل هو الله عز وجل؛ أي: فقلنا لهم بما أوحيناه إلى نبينا موسى: ﴿ اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾.



والضمير في قوله: ﴿ اضْرِبُوهُ ﴾ يعود إلى القتيل المذكور في قوله: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 72]، والضمير في قوله: ﴿ بِبَعْضِهَا ﴾ يعود إلى ما عاد إليه الضمير في قوله: ﴿ فَذَبَحُوهَا ﴾ [البقرة: 71]، وهي البقرة المأمور بذبحها في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [البقرة: 67].



أي: اضربوا هذا القتيلَ ببعض هذه البقرة؛ أي: بجزء منها، أو بعضو منها، فضربوه ببعضها فأحياه الله، وأخرَج ما كانوا يكتمون، فأخبَر بقاتله.



﴿ كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى ﴾ الكاف: للتشبيه، والإشارة إلى محذوف للإيجاز؛ أي: فضربوه ببعضها فأحياه الله؛ أي: مثل إحياء الله تعالى هذا القتيلَ يُحيي الله عز وجل الموتى، كما قال عز وجل: ﴿ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾ [يس: 53].



﴿ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾؛ أي: وكذلك يظهر الله لكم آياتِه الكونية والشرعية، الدالة على عظمته عز وجل، فإحياء القتيل بضربه بجزء من البقرة آيةٌ من آيات الله الكونية.



وأمرُ الله عز وجل لموسى بأمرهم بذبح بقرة، وضرب القتيل ببعضها، وحياته بذلك وإخباره بقاتله - إظهارٌ وبيان لصدق ما جاءهم به موسى من هذه الآيات، ومعجزة وكرامة له.



وقد ذكر الله عز وجل ما خلَقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع من هذه السورة:

في قوله: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾ [البقرة: 56]، وهذه القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ﴾ [البقرة: 243]، وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها في قوله تعالى: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [البقرة: 259]، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾ [البقرة: 260].



﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾؛ أي: لأجل أن تعقلوا عن الله عز وجل آياتِه وتتفهموها، وتتأملوا فيها وتتدبروها، وتنتفعوا بما منَحَكم الله من عقول.



وفي الإخبار بهذه القصة عَلَمٌ من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلالة على نبوة موسى عليه الصلاة والسلام، وعلى قدرة الله تعالى التامة على إحياء الموتى، وإثبات المعاد، وتحذير من التشدد في الدين وعواقبه الوخيمة، ومقابلة الظالم الباغي بنقيض قصده شرعًا وقدرًا، فإن القاتل قصدُه ميراث المقتول، ودفع القتل عن نفسه، ففضَحَه الله وهتكه، وحرَمَه ميراث المقتول[1].



المصدر: « عون الرحمن في تفسير القرآن »





[1] انظر "بدائع التفسير" (1/ 319).













__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 241.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 235.35 كيلو بايت... تم توفير 6.06 كيلو بايت...بمعدل (2.51%)]