الرحلة والحلقة المفقودة (2) (قصة) - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3952 - عددالزوار : 390947 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4419 - عددالزوار : 856369 )           »          حق الجار والضيف وفضل الصمت.محاضرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          حبل الله قبل كلّ سبب وفوقه .! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          اضربوا لي معكم بسهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          ونَزَعْنا ما في صدورهم من غِلٍّ إخواناً على سُرُر متقابلين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          أنت وصديقاتك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          التشجيع القوة الدافعة إلى الإمام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          شجاعة السلطان عبد الحميد الثاني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          نظرات في مشكلات الشباب ومحاولة الحل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر

ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 17-01-2022, 10:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي الرحلة والحلقة المفقودة (2) (قصة)

الرحلة والحلقة المفقودة (2) (قصة)


زوزان صالح اليوسفي






(الجزء الثاني)




مرَّتِ الأيام وتغيَّرت حياتي رأسًا على عقبٍ بعدما مررتُ بتلك الحادثة الغريبة في الحافلة، ومع تلك السيدة التي تُدعى: "ست ليلى"، لم أُفشِ بسرِّي لكائن مَن يكون، رغم ملاحظة زوجي وأطفالي ما جرى لي من هذا التغيُّر المفاجئ في طبيعتي الشاردة في المدة الأخيرة، من الصمتِ والتفكير والهدوء على غير عادتي، ومن حالات الشُّرود والأرَقِ، وعدم الشهيَّة للطعام، أو الرغبة في الخروج، أو مجرد التفكير في أي شيء!

وأصبحت الكوابيسُ تداهمني في أحلامي، لأرى نفسي - أحيانًا - في نفس الحافلة التي أقلَّتني في زيارة والدتي الأخيرة، وأن المقعد الذي بجانبي فارغ، وأحيانًا أرى تلك السيدة بجانبي وهي تقرأ في كتابها، وأحيانًا أرى عشرات القصاصات من البطاقات مكتوبًا عليها رقم سبعة، وجملة: (الحلقة المفقودة)!

وأحيانًا أرى تلك السيدةَ وهي واقفةٌ في المقبرة، تنظر نحوي، وتُودِّعني، مشيرةً بيدها وأنا في الحافلة وهي تمضي، وفي كل مرة أنهضُ من نومي مذعورةً، والعرق يتصبَّب مني، وبالكاد أتنفَّس!

لم يَرتَحْ لي بال ليلًا أو نهارًا، ولا أستطيع البَوْح عما في داخلي؛ خوفًا من الردود العكسيَّة والسلبية التي سوف تنهال عليَّ لا شكَّ!
فحتى لو لم أكن أنا التي مرَّت عليها هذه الحادثة، أو أن غيري ادَّعت هذه القصة أمامي، فبالتأكيد كنت سوف أعتبر أن هذا نوعٌ من الجنون أو الهَلْوسة!

أخذتُ أتذرعُ بعشرات الحجج حينما كان الأطفال يرغبون في زيارة جدَّتِهم، كنت أدَّعي شتَّى الادِّعاءات؛ لكي أفرَّ من هذه الزيارة، بالرغم من أن هذا التذرع بالحججِ كان يحزن أولادي المشتاقين لجدَّتهم، بينما كان يُسعد زوجي بعضَ الشيء بالتخفيف من القيام بهذا الواجب.

أصبح ذلك الطريقُ بالنسبة لي مثلَ الكابوس لمجرد التفكير فيه، ولكن إلى متى؟ سألت نفسي، وما هو الحلُّ لأستعيد حياتي السابقة مرة أخرى؟
أخذتُ أفكِّر، وأبحث بنفسي عن الحل، أخيرًا قرَّرت أن أستعين بإحدى العرَّافات اللَّاتي يتحدَّث عنهن زميلاتي كلما مرَرْن بمشكلة، بالرغم من أنني كنت الوحيدةَ بينهن التي لم تؤمن لا بالعرَّافات، ولا بأيِّ أمر يتعلَّق بالغيب؛ فأنا على ثقة بأن الغيبَ لا يعلم به غيرُ الخالق، وهذه القناعة في داخلي لا شكَّ فيها إطلاقًا، إلا أنني وفي هذا الموقف الغريب شعرتُ أنه لا بأسَ أن أستعين بإحدى العرَّافات؛ لعلِّي وعسى أن أصل إلى نتيجةٍ، أو خيط ينجدُني في حلِّ هذا اللُّغز والحدث الغريب؛ لأعيدَ حياتي الطبيعية مرة أخرى!

اتَّصلت ببعض زميلاتي لأستفسرَ منهن عما يَعرفْنَ عن هؤلاء العرَّافات وعناوينهن، رغم أنهن يُدركِنْ جيدًا بأنني لم أكن أؤمِنُ بهذه المُعتقدات قطعًا، ولكن ما مررتُ به فرض عليَّ ذلك، سواءٌ كان حقيقةً، وهذا ما أنا واثقةٌ منه مائة بالمائة، أو أنه مجردُ أوهامٍ بسبب خللٍ ما قد أصاب ذاكرتي، ولِمَ لا؟ فكلُّ شيء جائزٌ، رغم أنني أشكُّ في ذلك، ولست مقتنعةً بغير الحقيقة التي رأيتُها بعيني وأنا في كامل وعيي، ولكن مع هذا لا بأسَ، قلت مع نفسي:
أقسمتُ ألَّا أُفشيَ بسرِّي هذا لكائن مَن يكون؛ فهي مشكلتي، ويجب أن أصلَ إلى الحقيقة الغامضة، وأحلَّ شفرةَ هذه الحلقة المفقودة؛ لأضعها في مكانها المناسب.

يا لخباثةِ بعض النساء! فجميعُ مَن اتصلتُ بهنَّ من زميلاتي توقَّعْنَ أن هناك شيئًا بيني وبين زوجي، وأنني أحاول الاستعانةَ بالعرَّافات لحل مشكلتي الزوجية، وأخذَتْ كل واحدة منهن تنصحُني بما لديها من تجارب في معالجة هذه الأمور، ومن كثرة تردُّدِهنَّ على العرَّافات والعرَّافين أصبحت لكل واحدة منهن خبرةٌ تفوق حتى العرَّافات، وكل واحدة منهن أصبحت تنصحني بطريقتها الغريبة عن كيفية كسب مودة الزوج!

أدركتُ حينها تفاهةَ أفكار المرأة الشرقية عن كيفية الاحتفاظ بمحبة زوجها، واتِّباع أخسِّ الطرق إلى ذلك على حِساب كرامتها!
المهم استطعتُ أن آخذَ بعض العناوين منهنَّ، حاولت الاستعانة بعرَّافتَيْنِ إحداهن تقرأ الفنجانَ، والأخرى تفتح بالرمل، لم أقتنع بأيِّ واحدة منهن؛ فكلامُهن كان ساذجًا ومملًّا، ولا يبحث عن شيء غامضٍ وغريب، ولا تقلُّ أفكارُهن سذاجةً عن أفكار زميلاتي! واكتشفت أن الاستعانةَ بالعرَّافين شيءٌ مقرفٌ، وعديمُ الفائدة!

عدتُ أدراجي، وأخذت أفكِّر بنفسي: ما الذي يجب أن أفعلَه أنا؛ لأحلَّ هذا اللغز الذي نكَّد حياتي دون الاستعانة بأحدٍ؟! فمحاولتي نسيانَ هذا الحدَث لم تفلح مع أفكاري وأحلامي وكوابيسي! لذا قرَّرْتُ أن أفكَّ شفرة اللُّغز بنفسي، وأيقنْتُ في داخلي بأن هناك شيئًا بيني وبين تلك السيدة "ست ليلى"، شيئًا أجهله تمامًا!

أخذت أحاول أن أتذكَّر الحوار الذي جرى بيننا في ذلك اللقاء الغريب في الحافلة، حاولت التفكير في أدقِّ التفاصيل في ذلك اليوم لحظة بلحظة، تذكرت حين أعطتْني تلك السيدة ذلك الكتابَ، وأخبرتني أنني بإمكاني الاحتفاظ به - إن رغبتُ - أو أرده إليها ثانيةً، وأخبرتني أنها معلمة في مَدرسة الزهور، وأن أسأل هناك عن "ست ليلى" في تلك المدرسة.

إذًا فهناك علاقة بينها وبين المدرسة، وإلا لما أخبرتني عن ذلك! لغزٌ مُبهم ومُحير!
ماذا أفعل؟ قرَّرْتُ أن أكتشف ذلك بنفسي.

وبعد تفكير طويل قرَّرْتُ أن أذهب يوميًّا صباحًا إلى المدرسة؛ أراقب دخول الطلبة والمعلمات إلى المدرسة، شيئًا غامضًا استلهمتُه من حاسَّتي السادسة، كنت أجهلُ سرَّه، وهو الذي كان يقودني إلى هذا التفكير في مراقبة المدرسة!

في صباح يومين متتاليَيْنِ وبعد إيصال أطفالي إلى مدارسهم، أخذتُ طريقي وتوجَّهْتُ إلى مدرسة الزهور، وأخذتُ أراقبُ المدرسة من بُعد خطوات عن المدرسة، من الساعة السابعة والنصف إلى الثامنة، حينها تقفلُ بوابة المدرسة معلنةً بداية الدوام الدراسي، يَئستُ من هذه المراقبة ليومين متتالين دون جدوى، ولكني استمرَرْتُ لليوم الثالث أيضًا وقررتُ أن يكون آخر يوم لي من هذه المراقبة العديمة الجدوى، واكتشفتُ مدى فشلي وسخافة قراري في تقمُّص شخصية (شارلوك هولمز)!

وقبل أن أعود أدراجي كانت الساعةُ تشير إلى الثامنة وعشرين دقيقة، انتابني شعورٌ غريب، ووخز في رأسي، وغشاوة أمام عينيَّ، وشعرت بالبرد، وكأنَّ أطرافي قد تجمَّدت رغم أن الجوَّ كان حارًّا في ذلك اليوم! فركتُ عينيَّ، وقبل أن أباشر بالعودة، صعقت؛ لِما رأيت أمامي! لا لا يا إلهي لا! فهذا حقًّا أكبر من طاقتي، أو من أن يصدِّقَه عقلي! هذه المرة لم تُشلَّ قدماي بل بالعكس تصلَّبَتْ كالحجر الكونكريت في محلِّها، وتصلَّبْتُ أنا الأخرى كالتمثال وأنا أرى "ست ليلى" وهي قادمة سيرًا من على بُعد متوجهةً نحو المدرسة، يا إلهي إنها تقترب إلى حيث بوابة المدرسة! يا ترى هل ستعرفُني؟! هل هي حقيقيَّة أم هذا شبحُها؟! سبحان الله إنها هي بنفس الملابس، ونفس التسريحة، ونفس الحقيبة!

إنها تقترب لتمرَّ من أمامي نحو المدرسة، لولا تصلُّب قدميَّ، لفرَرْتُ بأقصى سرعتي، حتى الصراخ ما عاد يخرج من فمي! تسمَّرتُ في مكاني، وكلُّ جزء من جسدي يَرتجِفُ دون هوادةٍ، وأنا أنظر إلى "ست ليلى" وكأنني في عالم الأشباح!

مرَّتْ من أمامي دون أن تنظرَ نحوي، وكأنها لم تعرفْني أبدًا، وأنا أنظر إليها كالبلهاءِ الملدوغة من الصدمة التي أصبتُ بها من رأسي إلى أخمص قدميَّ!

أخذت أتبعها بنظري فقط إلى أن دخلَتِ المدرسة، بقيت هكذا مشدوهةً مثل التمثال لا أعرف كم استمرَّ معي هذا الرقود والتصلُّب من الوقت.

وأخيرًا استفقتُ على صوت سائق إحدى السيارات التي كادت تدعسَني وهو يطالبني بالتنحِّي من المكان؛ ليُوقف سيارته في مكاني، أفقتُ من هذا الموقف الراعب الغريب! وعدتُ إلى بيتي شاردةَ البال، مشتَّتةَ الأفكار وفي حال يُرثى لها!

أصبحت أشكُّ في حالي وفي نفسي، وحتى في هذه الحياة وما فيها من الغرائب التي نجهلُها، أو بالأحرى التي أجهلُها أنا وليس غيري!

مرَّ يومان على هذا الحدث، ولم أجرُأْ على العودة مرة أخرى إلى المدرسة، ولكنني لا أنكر بأنني كنتُ في حالة من الرغبة إلى معرفة المزيد عما يجري أمامي، أو أمام مخيِّلتي، وأصبحت أكثر صبرًا وجرأة وتحدِّيًا بأن أعرف ما يجري معي دون استشارة كائنٍ من يكون؛ فلا شكَّ بأنني لو صرَّحْتُ بربعِ ما أواجهُه، فإنني سوف أُتَّهم بالجنون والهلوسة، وهذا شيءٌ يقينٌ؛ لأنني بدأتُ أشكُّ في حالي، فكيف إذًا سيكون شعورُ الناس إن أخبرتهم، صمَّمْتُ أن أعود مرة أخرى إلى المدرسة، وأراقب "ست ليلى" وقرَّرْتُ أن أسلِّم عليها هذه المرة، وليحصل ما يحصل!

حقيقةً زال الخوف من صدري وفكري تمامًا بعد هذا القرار، ولا بدَّ أن أواجه مشكلتي قبل أن تدمِّرَ حياتي وصحتي ونفسيتي المرهقة.

نمتُ في تلك الليلة ملء جفوني، بعد أن أخذت قراري في المتابعة، نهضتُ في الصباح الباكر، لا أقول: إنني كنتُ سعيدة، ولكنني كنت مرتاحةً نفسيًّا لهذا القرار؛ لكي أتخلَّص من هذه الهواجس وأعرف الحقيقة، ففي كل الأحوال لا أقبلُ الهزيمة مهما كانت النتائج!

توجهتُ مرة ثانيةً، وفي نفس الوقت والمكان أترقَّب الـ"ست ليلى"، تلك السيدة التي غيَّرت حياتي رأسًا على عقب، وأنا أجهل سرَّ دخولها في حياتي هكذا! ومن هذه الحقائق الغامضة التي تواجهني كنتُ مسيطرة على القرار والوضع تمامًا، وقفت في مكاني أترقَّب وكأنني (شارلوك هولمز) فلطالما قرأت مغامراته في صِغري، أو (آجاثا كريستي) التي كنت مولعةً بقصصها الغريبة في فترة المراهقة، ربما من خلال تذكُّري لتلك الروايات أصبحت لديَّ الجرأة في أن أقف في موقف غريبٍ، يتطلَّب الكثير من الشجاعة والجرأة!

مرة أخرى داهمني نفس الشعور السابق الغريب من الوَخْزِ في الرأس، وغشاوة أمام عينيَّ، وشعوري بالبَرد، حاولتُ استعادة توازني، وأنا أنظر إلى طريقها، رأيتُها من بعيد قادمةً نحو المدرسة بنفس الملابس والهِندام، تخطو بخطواتها الوقورة المتَّزنة، وما أن اقتربَتْ مني بدأ الخوف يدبُّ في عروقي، وكأن الدماء تفور وتغلي، ثم تتجمَّد لثوانٍ في داخلي، وشلت قدمايَ، وبالكاد سيطرت على وضعي، كانت تسير دون أن تنظرَ نحوي، استغربت! كان يبدو واضحًا أنها لا تعرفني، رغم أنني تقصَّدت أن أرتديَ نفس الملابس التي التقيت بها في الحافلة؛ لعلَّها تميزني وتتعرف عليَّ، وحين مرَّت من أمامي حاولتُ أن أسلِّم عليها، ولكن شعرتُ وكأن لساني قد شلَّ تمامًا، وأن وزنَه قد أصبح أرطالًا، وهي تواصل سيرَها نحو بوابة المدرسة، أخذْتُ أستعيد وعيي بكلِّ قوة، ونادَيْتُها بكل ما أستطيعُ من قوة وشجاعة، وبرهبة وتلعثم قائلة: سسسست للللليلى ...

بالكادِ خرجت الكلمتان من بين شَفتَيَّ المتجمدتَيْنِ والمتصلِّبتَيْنِ تمامًا!
توقَّفَتْ بصمت واستغراب وهي ترمقُني بنظرات هادئة ومفاجأة، وكأنها تلتقي بي لأول مرة، وأجابَتْ قائلةً: هل من خدمة؟
تسمَّرتُ في مكاني كالتمثال، وقد جحظت عينايَ من هَوْل الصدمة التي شعرت بها من خلال نظراتها! يا إلهي إنها لا تعرفني! يبدو من قَسَمات وجهها وكأنها تراني لأول مرة، لا يا إلهي لا، هذا حقًّا أكثر من طاقتي!
فقد أصبح لديَّ يقينٌ، وأدركتُ في هذه اللحظة بأنني لستُ أمام شبح "ست ليلى" فقط؛ وإنما أعيشُ أيضًا بين زمنين، لا شك في ذلك، ويا هولَ أمري!

♦♦♦♦
تسمَّرتُ في مكاني، ولم أستطع الردَّ، وشُلَّ لساني تمامًا، وكدتُ أفقد الوعي! أخذَت "ست ليلى" تَرمقني بنظرات مستغربة، ثم أخذت تنظر إلى ساعة يَدِها وبادرَت بالرد على عجل وكأنها سئمَت من صمتي قائلة:
عفوًا سيدتي، لا أستطيع خدمتك؛ فلديَّ حصَّة الآن ويجب أن ألحق بها.
تركَتني على حالي بعد أن يئسَت من جوابي، ثمَّ دخلَت المدرسة!


عدتُ إلى بيتي في حالٍ يرثى لها من القلق والتوتر والذهول، وأنا واثقة وعلى يقين بأنَّني لا أرى شبحًا فقط؛ وإنما أصبحتُ أعيش بين زمنين: زمن الحاضر، وهو وفاة ست ليلى، وزمن ما قبل الحادثة التي حصلَت لها قبل ثلاث سنوات! وهذا التغيُّر في الزمن يَحدث معي فقط حينما أراقِب ست ليلى، وحين أعود إلى البيت كل شيء يصبح أمامي شيئًا عاديًّا وطبيعيًّا كما هو الحاضر!


هذا الحدَث والإحساس قد أصبح أكثر من طاقتي، وقد يقودني إلى نتائج لا يُحمد عليها صحيًّا ونفسيًّا! ولكن ماذا أفعل؟ فهذا القدر يواجهني شئتُ أم أبيت كحقيقة تتجلَّى أمامي دون معرفة الأسباب إلى الآن! وما زلتُ أجهل مضمون هذه الرسالة!


ماذا أفعل يا إلهي؟! ولماذا أنا خاصة أتعرَّض لهذه المواقف؟! هل هناك شيء يربطني بهذه السيدة؟! هل هناك لِقاء آخر كان بيني وبينها ولم أعلم به أو أتذكَّره؟!


هكذا تراودَت عشرات الأسئلة والأفكار في مخيلتي المرهقة من التفكير في لُغز وموقف مُبهم ومُحير، وكأنَّه بالفعل هناك حلقة أو شفرةٌ ما مَفقودة بيني وبين تلك السيدة المتوفاة في حادث منذ ثلاث سنوات!


وبمرور الأيام أصبحَت هذه الهواجس والمواقف شيئًا عاديًّا بالنسبة لي! وما بتُّ أخشى من التفكير فيها أو من المجابهة مرَّة أخرى لمعرفة الحقيقة، فقرَّرتُ أن أعود مرة أخرى لأتعرَّف على الست ليلى أكثر طالما حصل بيننا لقاء وكلام قبل أيام، ولا يهمني أن كنت أرى شبحًا، أو أعيش بين زمنين، أو حتى على كوكب آخر! المهم لديَّ أن أعرِف حقيقة هذا الأمر واللغز المُحير! والهزيمة من المواقف مهما كانت ليست من طباعي، فكيف إذا كان الموقف غريبًا إلى هذا الحد؟!


في صباح أحد الأيام عدتُ مرَّة أخرى للمراقبة، وفي نفس الوقت! ولكن لم أر ست ليلى وكرَّرتُها ثانية وثالثة ورابعة وأسبوعًا كاملًا دون جدوى، ولم أجدها أبدًا وكأنني لم أعد أعيش بين زمنين!
إذًا، ماذا كانت مراقباتي الماضية ورؤيتي الواضحة لست ليلى، وحتى ذلك الحديث واللِّقاء القصير بيننا قبل أيام؟!


اكتفيتُ بهذا الموقف وأنا في حالة من الانهيار النَّفسي والعصبي، وقرَّرتُ الانسحاب من كل القرارات القادمة، وإلَّا سأنهار تمامًا إن بقيتُ على هذا الحال! ولا داعي أن أكرِّر وأسأل المدرسة عن ست ليلى مرَّة أخرى، وإلَّا ستحوم حولي علامات الاستفهام من قِبل إدارة المدرسة، وربَّما تواجهني عواقب لا يحمد عليها أكثر مما أنا فيه!


بعد مرور أيام قليلة أخرى نهضتُ في إحدى الصباحات وقد راودني الحنين لزيارة أمِّي، فقرَّرتُ أن أزورها! حاول زوجي أن يقنعني بالعدول عن قراري ليأخذني هو خلال إجازته، ولكنني رجوتُه أن يسمح لي بهذه الزِّيارة التي أنا بحاجة إليها، وأنني لن أتأخَّر، وسأعود عصرًا بإذن الله.. فلم يمانِع.


توكَّلتُ على الله في ذلك الصباح وأنا أغادر نحو المحطة، كان هناك شعور غريب يداهِمني منذ الصَّباح أجهل حقيقته، وكأنَّ حاستي السادسة بدأَت بمفعولها مرة أخرى! وصلتُ المحطة وهذا الشعور الغريب أخذ يزداد شيئًا فشيئًا وازداد توتري وقلقي!


كانت المحطة مزدحمة بالمسافرين معظمهم من الذكور، تراءى لي في هذه اللحظة وكأنني قد مررتُ سابقًا بهذا الموقف من الازدحام وصخب المسافرين في المحطة! لكنني لم أتعمَّق في حدسي وتوجَّهتُ نحو الحافلة.


كانت الحافلة المتوجهة إلى مدينة والدتي مكتملة، إلَّا من مقعد واحد، أسرعتُ لأشغله حتى لا يسبقني شخص آخر، جلستُ في مكاني تفاجأتُ أن مقعدي يحمل الرقم سبعة ويأتي مباشرة بعد مقعد السائق بالقرب من الشبَّاك!


ولو أنني أحبُّ الرقم سبعة، فإنَّني لم أرتَح على ذلك المقعد من خلال إحساس غريب أجهل حقيقته! وشعور غريب بأنَّني فعلًا مررتُ بهذا الموقف سابقًا! لكنني أجهل تفاصيلَه وتوقيتَه!


مرة أخرى داهمَتني تلك الحالة السابقة؛ من وخز في الرأس، وغشاوة في عيني لثوانٍ، والشعور بالبرد! التزمت بالهدوء وفي داخلي قلق رَهيب وهواجس متضاربة!


وعيت على صوت سائق الحافِلة قبل المبادرة بالمغادرة طالبًا من المسافرين إن كان هناك مقعد فارغ؛ لأن هناك سيدة تود السفرَ معنا!


أخبره المسافرون بأن كلَّ المقاعد مشغولة، فلم يكن هناك مقعد فارغ، وفي هذه الأثناء رنَّ هاتفي! كان زوجي على الهاتف مرتبكًا، ويترجى مني العودة لأمرٍ طارئ لم يخبرني به! أخبرتُه أنَّ الحافلة سوف تغادر خلال ثوانٍ.. فهل الأمر يتطلَّب أن ألغي سفري؟! فردَّ:
أجل!
وأصرَّ على عودتي، وأنَّ الأمر يتعلَّق بأحد أطفالنا، ثمَّ أقفل الخط! ساورني الخوف والقلق والشك...


وفي هذه الأثناء وبينما كان السَّائق يبادر بقيادة الحافلة، ناديتُ عليه أن يتوقَّف لألغي سفرتي، فتوقَّف السائق! فأسرعتُ لأترجَّل من السيارة وقبل نزولي أعطيته بطاقتي وأخبرتهُ إن أراد أن يمنحها لمُسافر آخر، ولأنني كنت مستعجلة فلم أسترد ثمَنها، وحين حاولتُ النزول من الحافلة أخذ السائق ينادي بأعلى صوته على تلك السيدة التي كانت تريد قبل لحظات أن تَحصل على مقعد فارغ لتسافر معنا، ولم تر مكانًا شاغرًا في الحافلة.. فصاح السائق ليخبِرها قائلًا:
أيتها السيدة، تعالي فهناك مقعد شاغر؟!


بادرتُ بالنزول بسرعة.. وبينما كنتُ أحاول أن أترك المحطَّةَ ناداني السائق من خلال شباك حافلته ليُعيد لي ثمنَ بطاقتي.. وأخبرني:
إنَّ سيدة أشترَت بطاقتك وهذه نقودك.
فشكرتُه.. ولمحتُ المقعد الذي خلفه والذي كان مقعدي! وإذا بي أرى الست ليلى وقد حلَّت مكاني في المقعد!


ذهلتُ من رؤيتها! وكأن صاعقة قد ضرَبتني حين رأيتُها جالسة بهدوء على مقعدي، وأنا أنظر إليها كالشاردة! ابتسمَت لي ابتسامة هادئة وكأنها تَشكرني على المقعد والبطاقة! شعرتُ وكأن جسمي كله قد شلَّ تمامًا ولا أستطيع حتى التنفُّس! وأنا في ظل ذهولي انطلَق السائق بأقصى سرعة!


عدت إلى بيتي في حالة شرود وصَدمة لا يُحسد عليها لأرى البيت فارغًا؛ فزوجي في وظيفته، وأطفالي في امتحانات نهاية العام، وليس هناك ما يدعو إلى القلق!


اتصلت بزوجي لأفهم منه سبب اتصاله بي للعودة إلى البيت في أمرٍ طارئ! فإذا بي أراه متفاجئًا من اتصالي ووجودي في البيت وهو يخبرني باستغراب قائلًا:
خيرًا.. ألم تزوري والدتك؟!
أدركت أنَّني في مِحنة أخرى! ولم أعرف بماذا أرد عليه! وكأنني أدركتُ بتداخل الزمن معي مرَّة أخرى!


فحاولتُ مدى الإمكان أن لا أثير شكوكه، فتذرعتُ بالمرض! وما أن انتهيتُ من المكالمة نظرتُ بخوف ووجَل وتردُّد على هاتفي لأتأكَّد إن كان قد اتَّصل بي زوجي فعلًا وأنا في الحافلة! ويداي وجسمي كله يرتجف!


ويا للصدمة عندما أرى أنَّه لم يتَّصل بي اليوم إطلاقًا! أسرعتُ وبحاستي السادسة إلى دفتر مذكراتي التي أدوِّن فيها يومياتي، ومن حسن حظي رأيتُ فيها ما كتبتُ حينها قبل ثلاث سنوات! أخذتُ أبحث عن مثل نفس هذا الشهر ونفس هذا اليوم! وإذا بي أرى أنه نفس يوم موعد سفري إلى والدتي قبل ثلاث سنوات من الآن!



وأنني حينها ألغيتُ سفرتي لإصابة أحد أطفالي بالحمَّى في ذلك الوقت، إثر اتصال زوجي بي حينها لأعود إلى البيت، ورأيتُ أيضًا أنَّني كنت قد كتبتُ في صفحة نفس ذلك اليوم والشهر:
(اليوم يوم محزن؛ حيث اصطدمت حافلة ركَّاب بسيارة حمل ثقيلة على الطريق الخارجي، ومات فيها جميع ركَّاب الحافلة!).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 72.55 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 70.66 كيلو بايت... تم توفير 1.89 كيلو بايت...بمعدل (2.61%)]