المنهج النقدي في تراثنا حاضر أو غائب؟ - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         أبو بكر الصديق رضي الله عنه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 14 )           »          لماذا يصمت العالم عن المجاعة في غزة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          أعمال تعدل أجر الصدقات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          البلاء في حقك: نعمةٌ أو نقمة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          شرح النووي لحديث: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          شرح النووي لحديث: ارم فداك أبي وأمي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          شرح النووي لحديث: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          أنسيت بأنك في غزة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25-04-2021, 01:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي المنهج النقدي في تراثنا حاضر أو غائب؟

المنهج النقدي في تراثنا حاضر أو غائب؟


أحمد سمير المرسي



في أزمنة الانفتاح على "الآخر" ومناهِجه في نقد الشعر، تتباين ردود الفعل تجاه موروثاتنا ومناهجنا، وتفرز السَّاحة ثنائيَّات تتَّخذ الصبغة المعهودة: "معي وضدي"، وتتشكَّل حينئذ بيئة خصبة تتنامى بها المقاربات السالكة سبيل المقارنة، والتي غالبًا ما تكون محصّلة عمليَّاتها حالة الضدِّية مرهونة بالمقدار الذي يبلغه الانبِهار بالمناهج الغيريَّة، فبِازْدياده يتضاءل الإحساس بِجدوى مناهجِنا وصلاحيتها للبقاء والعطاء، حتَّى ليصل أحيانًا إلى حدود التَّلاشي، وساعتَها لا تظْهر أمارات للانزِعاج أو المفاجأة إذا ما بوغت دارس بالسُّؤال الآتي:

هل خلف لنا أسلافُنا من النقَّاد والأُدَباء في بحث الشِّعْر والشُّعراء شيئًا يمكن أن يدفعنا إلى القوْل بوجود "منهج"؟
وسواء أكانت الإجابة إثباتًا أم نفيًا، سيظل السؤال ملحًّا قائمًا؛ لأنَّ الفريق الَّذي يمهِّد للتدابر مع التراث والتَّرويج لمناهج حديثة أو وافدة سيجد في النفي مبرِّرًا مقنعًا لموقفه، أمَّا المثبِتون فإنَّهم سيضطرُّون - ربَّما رغمًا عنْهم - للانشِغال برحلة البَحْث عن الإجابة من حيثُ هي رحلة للبَحْث عن الذَّات، مدْفوعة بغاية الكشْف عن موقفِ النَّقْد العربي من هذا السُّؤال، خاصَّة في جيل ما بعد الهزَّات العنيفة النَّاشئة عن استقبال الوافد، تتأسَّس صفحات البحث الحالي باتِّخاذها من نموذج شوقي ضيف (1910 - 2005م) الناقد "مرتكزًا إرشاديًّا".

والحقُّ أنَّ ذلك السؤال الملحّ لم يتبوَّأ مكانة لديْه تتلاءم وخطورته، فليست هناك أبحاث مستقلَّة، وليست هناك نصوص مستوعبة تُعْنى بالإجابة عليه، على نحو يحتِّم عليْنا - إذا ما أردنا أن نكوِّن تصوُّرًا مرضيًا عن موقفه إزاء تراث النقَّاد العرب القدماء ومدى اتِّصاله بالمنهج - أن نلتقط بعض النصوص التي تأتي عرَضًا في سياق بحوثه المختلفة، وربَّما كان أهمُّها نصَّين، يقول ضيف في الأوَّل منهما، بعد حديث مفصَّل عن المناهج الغربيَّة الحديثة: "وما دمنا نتحدَّث عن المناهج المختلِفة في تحليل الأدَب وتقويمه، فلا بدَّ أن نقِف عند منهج لا يعمد إلى الدِّراسة العامَّة في الأدب والأدباء، وإنَّما يقف عند شرْح الشعر وتفسيره وبيان معاني ألفاظه ودلالاتها"[1]، ويقول في الآخر عن نقَّادنا في القرون الوسطى: "قلَّما وجدوا بيْننا من يُعنى بهم وبأعمالهم، كأنَّهم كانوا يعيشون في تيه من الأدب والفنِّ، ليس له حدود مرسومة ولا مناهج موضوعة!"[2]، مسجِّلاً بذلك نعْيَه على الذين يهجرونهم وأبحاثهم.

في النَّصَّين الفائتين تتَّضح لنا ملامح الموقف المتَّخذ إزاء التراث النقدي والمنهج الذي يحتذيه، وهي ملامح تكرِّس الإقرار والإكبار في آنٍ؛ لأنَّ أسلافنا - كما هو مشتهر - قد تركوا تراثًا هائلاً في باب شروح الشِّعْر، فأن يسمَّى هذا الطَّريق الذي سلكه أسلافنا منهجًا، وأن يوضع في مصافِّ المناهج الغربيَّة الحديثة، بل ويُنْعَى على مَن يهجره - هو دليل بيِّن، في رأي البحث، على أنَّ النَّاقد كان مِن الذين يتبنون إجابة الإثبات على السؤال؛ لكن تبقى رغم هذا بعض الجوانب المتَّصلة بموقفه، لا بد أن تتَّسع الحدقة لها لنَخبره على نحو أتمَّ وأشمل، ستتحمل العناصر الآتية إجمالها:
لم ينشغل ضيف بالتَّأصيل النظري لهذه القضية، ولا نكاد بعد هذين النصين نظفر بأي إشارة إلى المنهج في العربيَّة، اللَّهُمَّ إلاَّ ما قد يفهم من حديثِه عن تأْثِير العرب في الغربيين المهاجمين للمنطق الأرسطي وطريقته في القياس؛ نظرًا لقيام أبحاثهم على الاستِقْراء والملاحظة والتجْربة[3].

وليس في أيدينا ما يؤكِّد تفسيرًا بعيْنِه لصنيع ناقدنا، فربَّما رأى أنَّ الانشغال بهذه المسألة على هذا النَّحو لن يولِّد قناعات بجدْواه ولا حتَّى إقرارًا بوجوده، وأنَّ المنهج الأصيل، بإمكاناتِه وما يمتلك من أدوات وآليات - كفيلٌ بإثبات ذاتِه والحفاظ عليْها، رغْم تحدِّيات طوفان المناهج الغامر للسَّاحة الأدبيَّة، أو ربَّما رأى أنَّ في بعض ممارساته من حيث اتِّكاؤها على أسس نظريَّة، ما يحمل عنه هذا العبء، وأظهر ما يساق هنا تلك المقارنات التي كان يعقِدُها بين مقولات نقَّادنا العرب القدماء، وما تنادي به المناهج النقديَّة الغربيَّة الحديثة أثناء التَّعريف بها، فعبدالقاهر الجرجاني (ت: 471هـ) تقترب نظراته النقدية من مقولات "المنهج الجمالي"[4]، وابن سعيد الأندلسي (ت: 685هـ) يلتقي مع أصحاب "المنهج الطبيعي"، الذي يرى أن الأديب ثمرة من ثمرات البيئة الزمنيَّة والمكانيَّة[5]، وابن خلدون (ت: 808هـ) يسبق الناقد الفرنسي هيبوليت تين (ت: 1893م) في الإقرار بالقوانين التي تتحكَّم في أدباء كل أمَّة؛ لكن دون أن يعطيها حتميَّة ولا جبريَّة[6]، من ناحيةٍ أُخْرى أكثر اتِّساعًا، يمكن إلْصاق حديثه عن استواء المنهج العربي في توثيق النُّصوص الشِّعْريَّة أو إحياء التُّراث وتحقيقه بِمسألتِنا هنا، إذا كنَّا سننظُر إلى "التَّحقيق" بوصْفِه ضرْبًا من ضروب نقد النصوص[7].

يبْدو أن مفهوم المنهج عند ضيف - وكذلك عند كلِّ مَن أقرَّ بوجوده في المباحث التي خلفها أسلافنا - كان يتَّسم بغير قليل من "المرونة"، فالاختلاف وحْده ليس سبيلاً للافتِراق في الوصف كما أنَّ الاجتماع ليس دائمًا سبيل الاتِّحاد، إنَّ استحضار ضيف لما عند العرب من مقولات ورؤًى أثناء الحديث عن المناهج الأُخْرى، لم يكن معناه فصْمها عن المناخ الَّذي نشأتْ فيه، ولم يتغيَّ قراءتَها في معْزل عن السِّياق الَّذي أنتجت عبره، ولم يكن عبثًا بالمُفْردات ليصير المنْهج شيئًا آخَر غير سيرته الأولى؛ ولِذا كان الحِرْص على إثبات الفروق الكائِنة بين الأطراف المختلفة حالَ اجتماعها، ونحن نلمح هذا هنا في ملاحظته أنَّ طريقة الأبحاث العربيَّة في تناوُل الأدب تغاير طريقة المناهج النقديَّة الحديثة، من حيث كونُها لا تعمد إلى الدراسة العامَّة في الأدب والأدباء، على أنَّ ذلك من وجهة نظرِه لم يكن دافعًا للقول بغياب المنهج عنها.

نلمحه أيضًا حين يضع النَّاقد بعض قامات نقديَّة عربية إزاء نظيراتها الغربية، إذ يمكن للمتأمل أن يلتقي بإشارات، بعضها صريح وبعضها ضمني، إلى عناصر الاختلاف، تتجلى حينما نتساءل هل نستطيع التسوية مثلاً بين ابن سعيد وأصحاب المنهج الطبيعي؛ من أجل إدْراكه المبكِّر لدور البيئة الجغرافيَّة والزمنيَّة في إنبات الشَّاعر بصورة معينة؟ إنَّنا لا نجادل في أنَّ "الحسَّ التاريخي" بوصْفِه أساسًا لهذا المنهج قد كان حاضِرًا، لا أقول: في عقل ابن سعيد وحْدَه، بل في العقليَّة العربيَّة النَّاقدة، يتَّضح هذا في اعتِمادها جُملة من المعْطيات التاريخيَّة لمعالجة قضايا وظواهر ذات صلة بالأدب[8]، غير أنَّ الَّذي ينبغي الانتِباه إليْه هو أنَّ هذا الحسَّ لم يعتمد على "تصوُّر نظري" مستتبّ، ولَم يكن مرتكزًا على "خلفيَّات فلسفيَّة"؛ ولذلك ظلَّ تعامُلهم مع النُّصوص عبر هذا الحس "تلقائيًّا" في أغلب الأحيان، وهذا الَّذي يشير البحْث إليْه هو فحوى نصوص ناقدِنا، وهنا تبرز المرونة بوصْفِها استيعابًا لطرَفين رغْم الإقرار بوجود الاختِلاف بينَهُما.

فيما رأيْنا لقد كان ضيف واضحًا في الإبانة عن موقفِه إزاء ما خلَّفه نقَّادنا العرب، غير أنَّ هذا الوضوح لم ينسحِب على المدْخَل الَّذي اتَّخذه لتبرير هذا الموقف، لكن يغلب على الظَّنِّ أنَّه قد اتَّخذ لذلك ثلاثةَ طرُق، طالما التقيْنا بها عند غيرِه من المفكِّرين:
الطريق الأول: قوامه مقاربة مصطلح المنهج في حضوره المعجمي، ولما كانت المعاجم العربية في عرضها لهذه اللفظة تطرح دلالات تكاد تدور حول السبيل والوضوح والبيان[9]، وهي دلالات تتحقَّق على نحو من الأنْحاء في الأبْحاث النقديَّة العربيَّة القديمة، فإنَّه من المنطقي أن نقرِّر أنَّ المنهج كان موجودًا في هذا الَّذي خلَّفوه.

أمَّا الطَّريق الثَّاني، فيظهر فيه استِدْعاء المصطلح بِمفهومه التُّراثي داخل حقول المعرفة المختلِفة؛ إذ شاع في هذه السِّياقات لا بِمعنى خاص يعرقل اتِّساعه؛ وإنَّما بمعنى عام يبدو متكئًا على دلالته المعجميَّة الأوَّليَّة دون كثير انحراف[10].

أمَّا الطَّريق الثَّالث، فتبرز فيه "أداة السبر"[11] لما عساه أهَّلَ المناهج النقديَّة لتظفر بهذا الوصف، وهي العمليَّة التي نرى أنَّ الكشْف عن نتيجتها قد تمثّل في إخبار ناقدنا أنَّ المناهج التي وضعت للأدَب، قديمها وحديثها، لا تعدو غايتها التوضيح والتقويم[12]، فيكون من المقبول حينئذ أن تعد الطريقة التي استشرف بها نقَّادنا القدماء الشِّعْر والشعراء منهجًا من المناهج؛ لأنها تعاملت معها منفعلة بنفس الغايات؛ لتوضيحها أو لتقويمها أو لكليهما.

بالرَّغم من أنَّ هذه الطرُق لم يسْلُكْها ناقِدُنا كتابيًّا؛ فإنَّ الَّذي دفع إلى الظَّنِّ في تحقُّق السبر وفقًا لِمعالمها على المستوى الذهني أمران:
الأوَّل: المعرفة بعزوف ضيف عن اتِّباع طريقة التَّعريف فيما يعرض له من مصطَلحات، وميْله إلى التَّحليل والكشْف عن العناصر[13]، وهو إذْ يعدل هنا عن التَّعريف والتَّحليل كلَيْهما أثْناء العرْض للمصطلح؛ فلا يتوقَّع أن يكون ذلك قد تمَّ دون أن يتَّصل بحضوره المعجمي أو العرفي أو التُّراثي.

أمَّا الأمر الآخر، فهو استِحْضارنا لما ينطوي عليْه الخطاب من تَمييز، حين يستدعي ناقدًا عربيًّا قديمًا أثناء التَّعريف بمنهج غربي حديث؛ إذْ تفرض حينَها هذه الطرق نفسَها سدًّا لهذه الفجْوة المتولِّدة عن تجاور المنتجات التي تنتمي إلى سياقات غير متجانسة.

والحقُّ أنَّ النَّاقد باعتمادها قد تجنَّب فشلاً محقَّقًا كان ينتظره هناك، إذا ما حاول التَّنقيب عن منهج عربي قديم، يتلاقى مع المناهج الحديثة في خصائصها الشَّكليَّة والموضوعيَّة، ولم يتورَّط في محاكمة الموروث النقدي العربي إليْها، بتحاشيه عن تثبيت المشْهد النهائي لها وهو يفتِّش عن معيار ما يصح أن يكون منهجًا؛ باختِصار لقد وجد فيها "بديلاً منهجيًّا" مُريحًا يرتَكِن إليْه، ليتَّخِذ من الشَّراكة المتحقِّقة فيها مسوِّغًا للقوْل بالشَّراكة في منح الوصف.

يبقى معوِّقان لتوصيفنا الفائت لموقف الناقد من الموروث العربي النقدي وعلاقته بالمنهج:
الأول: يتولد عن الوقوف عند قوله بانشغال المباحث العربيَّة بالنظرة الجزئيَّة وعدم تخليفها "نظريَّة" أو ما يشبه النظريَّة[14]، إذ قد يظن أنَّ هذا يصطدم مع القول بحضور "المنهج" في مباحثهم، والحقّ أنَّ هذا الظَّنَّ لا يجد سبيلاً إلى الأذْهان إلاَّ إذا تعاملتْ مع ماهيَّة المنهج على أنَّها لا تخضع لفكرة الأصْل والفرْع، بالمعنى الَّذي يترادف به ذهاب البعض وذهاب الكل، وإلاَّ إذا غفلت عن طبيعة المدخَل الموضح آنفًا ومرونة المفهوم لدى النَّاقد، وإمكانيَّة أن نعد السَّبر تأسيسًا عليْهما منهجًا من حيث هو، حتى إذا افترضنا - في أسوأ الأحوال - أنه خالٍ من الترابط العضوي الظاهر بين خطواته.

والآخر: يتولَّد عن نفيه الصَّريح لوجود منهج في بعض الكتب النقدية القديمة، مثل قوله عن كتاب العمدة لابن رشيق (ت: 456هـ): "ليس في كتاب العُمْدة منهج في دراسة الشعر العربي"[15]، على أنَّ ذلك يجب أن يفهم في سياقه الخاص، وما تقتضيه عملية تقييم كتاب نقدي في ضوء موازنات بينه وبين كتُب سابقة زعم أنَّه يقع دونَها، إذ يدفعنا هذا إلى الظَّنِّ بتحقُّق المنهج فيها هي على الأقل بصورة ما، أو أن يفهم من نفي المنهج نفْي النظرة العامَّة الكلية للفن، وربَّما يدل على ذلك قوله: "لم ينظر في صناعة الشعر ونقده نظرة عامة شاملة، وإنَّما هي نظرات جزئية"[16]، وساعتها نستدعي معالجتنا للإشكاليَّة السابقة؛ نظرًا للتَّداخل الحادث بينهما في هذه الحالة، وجدير بالذِّكْر أنَّ ناقِدَنا قد عاد بأَخَرةٍ فأجْرى تعديلاً على حكمِه الفائت؛ ذلك حين سجَّل رأْيَه في أسباب ذيوع كتاب العُمْدة وانتشاره في الآفاق، فكان منها بِحسب ما ذكر: دقة المنهج الذي اتَّبعه ابن رشيق في تأليفه لهذا الكتاب[17].

أكبر الظَّنِّ أنَّ تصورنا عن موقف النقد العربي من ذلك السؤال، أو بالأحرى موقفه كما ينهض به بعضٌ - قد اكتملت مفرداته، وهو موقف يحلو لدارسين أن يشملوه بوصف "الاستعلائي الاستعادي"؛ من حيث كونُه يحاول قراءة الآخر من منظور يصطبغ بنزعات تدفع للمساوقة معه في الوقت الذي تستعيذ بموروثاتنا ضدَّ الذوبان، وبعيدًا عن كون هذا الوصف ينطوي على بعد قيمي أو لا؛ فإنه قد صار غنيًّا عن البيان أنه ليس وحْدَه مستطيعًا أن يشق لنا بين المناهج النقدية الحديثة طريقًا؛ لأنَّ الإجابة البرَّاقة عليه قد فتقت بدوْرِها سؤالاً أكثر تعقيدًا، يتَّجه هذه المرة صوْب الأين، فالشَّأن لم يعد مرتهنًا بالوجود من حيث هو، وإنَّما بدور هذا الوجود في التعاطي والتوصيف والتقييم والتقويم والتوجيه، وهي الدَّوائر المتداخلة التي نلقاها في الممارسة النقدية.

إنَّ كثرة الدِّراسات التي عُنيت بتجْلِية هذه الحقيقة لم تشعر إزاءَها بعلاقة التبنِّي التَّامّ، فراحت أثناء مباشرتِها للنُّصوص الأدبيَّة تصطنِع كلَّ طريقة سوى أن تكون هي تلك التي يُمكِن أن تنتمي إليْنا أصالة، بالمعنى الذي حدا بها أن تكون في غالب الأحيان مجرَّد قناعات متولِّدة عن نصوص مستقرَّة في ذاكرة الأمَّة، وهي ظاهرة تختزل أزْمة الهويَّة لا أزْمة حقل معرفي، فبيْنما تؤكد خطاباتُنا مقدرتنا على تَحْقيق ما يطمح إليه الجِنْس البشري من غايات نبيلة فوق هذه المعْمورة، تعوزنا المقوِّمات الرئيسة التي بها تتراءى نَماذج متحرِّكة حيَّة، الأمر الذي يُلْقِي بتبعات ثقيلة على أصْحاب هذا الاتجاه تتزاوج فيها صياغة المبادئ وتفعيل الإجراءات، حينئذ فحسب يسعنا الزَّعم أنَّنا قد فقهنا السؤال.


ــــــــــــــــــــــــ
[1] شوقي ضيف: في النقد الأدبي، دار المعارف، القاهرة، 1962م، ص56.
[2] شوقي ضيف: في الأدب والنقد، دار المعارف، القاهرة، 1999م، ص116.
[3] انظر: شوقي ضيف: البحث الأدبي، دار المعارف، القاهرة، 1972م، ص83.
والحقُّ أنَّ عبارات الباحثين في هذا الصَّدد تكاد تتواطأ على أنَّ "روح العلم التجريبي" كانت سارية في التراث العربي، في شقَّيه النظري والتطبيقي، من هؤلاء مصطفى عبدالرازق، وينبغي ألاَّ يغيب عنَّا أنَّه كان أستاذًا لضيف في كلية الآداب، فقد واجه بشدَّة مزاعم المستشْرقين العائدة بتأخر الحركة الفلسفية عند العرب إلى أسباب تنتمي إلى طبيعة العقل المتأثر بالأوهام، مؤكِّدًا أنَّ النَّظر العقلي بدأ في مرحلة مبكِّرة جدًّا في تاريخ المسلمين بتحْريض من نصوص الكتاب والسنَّة، ومعضدًا لرأي مَن قال: إنَّ ميول العرب لأرسطو أكثر من أفلاطون إنَّما كان لما للأوَّل من منهج تجريبي يبتعد عن مثاليَّة الآخر، ثم ينفذ بعد إلى مباحث أصول الفقه وعلم الكلام متَّخذًا منها مُجليات لسبق العرب في توظيف أدوات الاستدلال، انظر: مصطفي عبدالرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميَّة، مكتبة الأسرة (مصورة عن طبعة الثقافة الدينية)، 2007م، ص7 - 34، 226 - 301، وشوقي ضيف: معي، دار المعارف، القاهرة، 1980م، 1/ 112، 113، ومن هؤلاء أيضًا علي سامي النشَّار، وقد تلْمذ أيضًا لمصطفى عبدالرازق، إذ راح في أوَّل كتاب له يؤكِّد هذا القول ببيان نقْد المسلمين للأُسُس التي قامت عليها الفلسفة اليونانية، وما كان من رفضهم للمنطق الأرسطي، عاقدًا بابًا ختاميًّا يتتبع فيه النماذج التي تجلَّى فيها المنهج التجريبي، خاصَّة في علوم الرياضة والطبيعة والكيمياء، بشهادات من الغربيين أنفسهم، انظر: علي سامي النشار: مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتِشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت، ط3، 1984م، 329 - 358، انظر أيضًا: مصطفى النشار، نظرية العلم الأرسطيَّة؛ دراسة في منطق المعرفة العلمية عند أرسطو، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1995م، ص172 - 174، وعلي جمعان الشكيل: الكيمياء في الحضارة الإسلاميَّة، دار الشروق، 1989م، 7 - 18، وإن كان ينبغي التَّنبُّه إلى أنَّ مصطفى النشَّار يعرض لجهود العرب في سياق أنَّهم يشكِّلون مجرَّد دورة جديدة للتطوُّر العلمي، بلفظ آخر بوصفهم امتدادًا لا انقِطاعًا لأُسُس أرسطو، ليتساوق ذلك ودفاعه عن منهج أرسطو التجريبي الاستقرائي، ومن الطَّريف في هذا القضية أن نجد بعض المستشرقين، من مثل جب، يقرون بتجريبيَّة المنهج الذي اعتمده العرب، لا لشيء إلاَّ ليدلِّلوا على طبيعة "بنية العقل العربي الحسي التجزيئي الذري"؛ بحيث يدرك الحالات المفردة ويعجز عن إدراك الكلِّيَّات، ويميل إلى التعامُل مع المحسوس ويعزف عن التجريد، انظر: جب (H.A.R.Gibb): الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ترجمة: هاشم الحسيني، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1966م، ص13 - 15، الأمر الَّذي يعني أنَّ ما يعدُّه بعض الباحثين مفخرة للعرب صار على يديه منطويًا على قصور؛ ولذا تصدَّى له غيرُ واحد يبيِّن مغالطاته، من مثل مالك بن نبي الَّذي أكَّد - رغم ثنائه على كتاب جب وتصريحه بالتقائِه بِه كثيرًا - على أنَّ صفة الذريَّة هذه ليست فطريَّة في الفكر العربي، متَّخذًا أوربا نفسها قبل ديكارت نموذجًا لحضانة هذه الصفة أثناء تفكيرها ونشاطاتها، انظر: مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي، ترجمة: عبدالصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، 2002م، ص17، 18، وإدوارد سعيد الذي وصف هذه النَّزعة بالعجز أثناء تفسيرها للنتاج الهائل الذي تمخَّض عن الحضارة الإسلاميَّة، مقيمًا بينها وبين نظرة الغرب المتحيِّز ضد الشرق علاقة بنوَّة، فالمسألة لا ترتهن بحسبه بمقاييس ومعايير موضوعية بقدْر ارتهانها بقرار معد سلفًا، لدى جماعة من هؤلاء المستشرقين، مفاده أنَّ الشرق لا بدَّ أن يكون مختلفًا، انظر: إدوارد سعيد: الاستشراق؛ المعرفة السلطة الإنشاء، ترجمة: كمال أبو ديب، مؤسَّسة الأبحاث العربية، بيروت، ط7، 2005م، ص128 - 131، 276 - 285، ومحمَّد قطب الذي ألمح إلى ازدواجيَّة المكيال الذي يلجأ إليه أثناء الحكم على العقل العربي المسلم؛ فبينما يذمُّه لِعجْزه عن التَّجريد واستِخْلاص الكلِّيَّات يذمُّه أيضًا لأنَّه تصور الله في صورة فوقيَّة سامية تجريديَّة، انظر: محمد قطب: المستشرقون والإسلام، مكتبة وهبة، القاهرة، 1999م، ص181.
[4] انظر: شوقي ضيف: في النقد الأدبي، ص165، 166، والبحث الأدبي، ص125.
[5] انظر: شوقي ضيف: البحث الأدبي، ص20، 92، وراجع أيضا له: في التراث والشعر واللغة، دار المعارف، القاهرة، 1987م، ص59.
[6] انظر: شوقي ضيف: البحث الأدبي، ص88- 92.
[7] انظر: شوقي ضيف: في التراث والشعر واللغة، ص48، وراجع أيضا له: البحث الأدبي، ص146- 211؛ وهي صفحات الفصل الذي عقده بعنوان الأصول، وعني أثناءه ببيان جهود أسلافنا العرب في مجال توثيق الدواوين الشعرية وكذا في تحقيق النسخ المختلفة لها ونشرها، وغني عن البيان أن النقد؛ بالنظر إلى دلالته المعجمية، تتقاطع مهمَّته في مستوى من مستوياتها مع هذه المجالات، إذ تحيل على الكشف والتَّمييز للصَّحيح وللزَّائف، ولعلَّه لا يغيب عن أذْهانِنَا أنَّ فنَّ التَّحقيق قد شاع حديثًا حامِلاً اسم نقد النصوص، وبه عنون المستشرق الألماني برجستراسر لمؤلفه الرائد في العربية، راجع: برجستراسر: أصول نقد النصوص ونشر الكتب، أعده: محمد حمدي البكري، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2، 1995م، ص5 - 13.
[8] يمكن هنا الإشارة إلى نموذجين من النَّماذج التراثيَّة التي يتجلَّى فيها "الحس التاريخي"، الأوَّل: نموذج ابن سلاَّم الجمحي (ت: 231هـ) في كتابه الشَّهير "طبقات فحول الشُّعَراء"، حين يلْجأ إلى العامل البيئي أثناء تفسيره لقلَّة الشِّعْر أو كثرته، ولوعورته أو ليونته، فهو - على سبيل التمثيل - يرى أنَّ قلَّة الحروب التي خاضتها قريش كانت هي السببَ في قلة نتاجهم الشعري، وأنَّ جهاد المسلمين في صدر الإسلام هو الذي أدى إلى انشغالهم عن الشعر، ومن ثم ضياعه لشفاهية روايته وقتئذ، وأيضًا حين يعرض إلى الشُّعراء معتمِدًا على "التحقيب الزمني"؛ فهناك الجاهليون والمخضرمون والإسلاميون، وربَّما بدا الأمر جليًّا إذا ما تأمَّلنا لفظة المخضرمين، فهم مسلمون لا شكَّ، لكنَّهم ليْسوا كالإسلاميين في تكوينهم من وجهة نظَر النَّاقد ذي الحس التاريخي؛ لأنَّهم - بحسب توصيفه - "الذين كانوا في الجاهليَّة وأدركوا الإسلام"، وحين ينضوي بعض هؤلاء تحت عنوان طبقة شعراء القرى العربيَّة يتأكَّد لنا أنَّ نظر النَّاقد لم يكن يغفل أثناء توْزيعه تأثير البيئة المكانيَّة في الشُّعراء وشعرِهم، انظر: ابن سلام الجُمَحي: طبقات فحول الشعراء، تحقيق: محمود شاكر، دار المدني، جدة، د.ت، 1/ 25، 46، 215، 247، والنموذج الآخر: نموذج الثعالبي (ت: 429هـ) في كتابه "يتيمة الدَّهر أو تتمَّتها"، إذ ينطلق في دراسة الأدباء لعصره؛ القرن الرَّابع الهجري وأوائل الخامس، من أسس تعتمِد "التوزيع الإقليمي الجغرافي" لهم، فهناك جزء للشام ومصر والموصل، وجزء للعراق، وجزء لأهل الجبال وفارس وجرجان وطبرستان، وجزء لخراسان وبلاد ما وراء النهر، وهكذا؛ الأمر الذي يعكس الوعي المبكر بالصِّلة الوطيدة التي تجمع بين الفنان والوسط الذي ينشأ فيه، انظر: الثعالبي: يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، تحقيق: محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، القاهرة، 1956م، 1/ 21، 22.
[9] راجع: ابن منظور المصري: لسان العرب، تحقيق: عبدالله علي الكبير ومحمد أحمد حسب الله وهاشم محمد الشاذلي، دار المعارف، القاهرة، د. ت، ص4554، 4555.
[10] يمكن هنا - على سبيل التمثيل - أن نتوقَّف عند نصَّين ينتميان إلى سياقات مختلفة وأزمنة متغايرة، في حين يكشف التعامل مع اللفظة أنه لم ينحرف بها دلاليًّا أو يضفي عليها صبغة اصطلاحية معيَّنة، الأوَّل نص لعلي بن عبدالعزيز الجرجاني (ت: 392هـ) أثناء دفاعه عن بعض تعْقيدات المتنبي (ت: 354هـ)، يقول فيه: "ومتى وجدتك تحتمل للفرزدق قوله.. ولا تسلك بأبي الطيِّب هذا المسلك، وتحمله على هذا المنهج، علِمت أنَّك متعصِّب مائل، ومتحامل جائر"، انظر: الجرجاني: الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، المكتبة العصرية، بيروت، 2006م، ص345؛ باختِصار، وهي هُنا بحسب فهْم البحث توجه إلى أحد احتمالين، كل منهما يؤكد الزعم، فإمَّا أنَّها - وهو أرجح نظرًا للأبيات التي حذفْناها اختِصارًا - تقصِد إلى طريقة الفرزدق في القول وتصرفه في التعبير، وكأنَّها حينها تترادف مع المذهب أو الاتجاه، وإمَّا أن تكون قاصدة إلى طريقة الخصم في التَّعاطي مع تعْقيد كل من الشاعرين بميزان ليس مستتبَّ الوتيرة، والنَّصّ الآخر لابنِ الأزرق ( ت: 896هـ) في ميدان السياسة الشرعيَّة، أو بالأحْرى "علم الاجتماع السياسي"، يقول فيه: "الركن التَّاسع: رعاية السياسة، وللنَّظر فيها منهجان، أحدهما بحسب المعتمد منها عقلاً، والآخر من جهة المعتبر منها شرعًا"، انظر: ابن الأزرق: بدائع السلك في طبائع الملك، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2007م، ص140، وهي هنا لا تعدو أن تكون بمعنى الجهة أو الطريقة.
[11] "السبر": مصطلح يُشير إلى عمليَّة تتلو عمليَّة التقسيم، أو حصْر الجهات التي قد تعود إليها العلَّة في الحكم والوصف، وقوامه الاختِبار لهذه الجهات واحدة تلْو الأخرى، فإذا انتقض بعضها تعين وانحصر في الباقية، وقد جعله الغزالي أحدَ الموازين الخمسة للعقليَّات التي بها يتوصَّل أثناء المناظرة إلى إثبات حكم أو إبطال دعوى، وربَّما عرض له تحت اسم "التعاند"، وهو يكافئ عند المناطقة ما يعرف باسم "القياس الشَّرطي المنفصل"، المتكوِّن من مقدِّمة تحتوي على قضيَّتين متنافِرَتين، أو ربَّما أكثر، على نَحْو يلزم منه نفْي إحْداهما إثبات الأخرى، وهذا هو دور المقدِّمة الثانية، لتنتج من ثم النتيجة، انظر: أبو حامد الغزالي: أساس القياس، تحقيق: فهد محمد السدحان، مكتبة العبيكان، الرياض، 1993م، ص20- 24، 31.
[12] انظر: شوقي ضيف: البحث الأدبي، ص145، وفي النقد الأدبي، ص9، 46.

[13] لا بدَّ هنا من استحضار انتقاد ضيف للعقلية التي تركن في بحثها إلى "آلية التعريف"، إذ وصف ذلك بأنَّه انشِغال بفلسفة الحقائق قبل الانشغال بالحقائق نفسها، وأكَّد على أنَّ الجانب الذي يمكننا الاطمِئْنان إليه في البحث، حتَّى لو كان في المعنويَّات، إنَّما هو الجانب التجريبي، الذي يقوم على التَّحليل وردّ الأمور إلى عناصرها وموادِّها التي يتألَّف منها، وبهذه الطريقة يتمُّ الاقتراب من ماهيَّة الأشياء والتَّعليل والربط بين الأفكار، انظر: شوقي ضيف: في الأدب والنقد، ص29، 30، 50، 76.
انظر: شوقي ضيف: في النقد الأدبي، ص31. وربَّما يذكرنا طرح ضيف لمسألة النَّظرة الجزئية، التي تمتع بها العرب في أبحاثهم، ما مرَّ بنا من حديث عن زعْم المستشرق جب حول عجز العقلية العربية عن إدراك الكليات، بيد أنَّ ضيف هنا لا يرتب على حديثه ما يفهم منه هذا أو شيء منه، بدليل أنَّه يقرر في نفس الصفحة أنَّ العرب خلفوا تراثا ضخمًا في خصائص الكلِمات والعبارات الأدبيَّة، غير أنَّه يسجل عليْه اتِّصاله بالبلاغة أكثر من النقد، وكذلك تركوا كثيرًا من الأحكام العامَّة، غير أنَّها بحسبه تجري في جمل مركَّزة قلَّما تحلل، ويستثني عبدالقاهر الجرجاني من سياق حكمِه الفائت على طبيعة الملاحظات، وإن كان يصنف جهوده هو الآخر في ميْدان البلاغة لا النقد الخالص، فالمسألة عند ضيف لم تكن مسألة جنس شرقي أو عقل شرقي كما هي عند جب، وإنَّما كانت فيما يظهر مجرَّد ملاحظة مفادها أنَّ هذه الممارسات قد تشكَّلت في مناخ لم يتواءم والروح الفلسفيَّة، تلك الروح المسلّطة على بعث النظريَّات من كمونِها.
[14] انظر: شوقي ضيف: في النقد الأدبي، ص31. وربَّما يذكرنا طرح ضيف لمسألة النَّظرة الجزئية، التي تمتع بها العرب في أبحاثهم، ما مرَّ بنا من حديث عن زعْم المستشرق جب حول عجز العقلية العربية عن إدراك الكليات، بيد أنَّ ضيف هنا لا يرتب على حديثه ما يفهم منه هذا أو شيء منه، بدليل أنَّه يقرر في نفس الصفحة أنَّ العرب خلفوا تراثا ضخمًا في خصائص الكلِمات والعبارات الأدبيَّة، غير أنَّه يسجل عليْه اتِّصاله بالبلاغة أكثر من النقد، وكذلك تركوا كثيرًا من الأحكام العامَّة، غير أنَّها بحسبه تجري في جمل مركَّزة قلَّما تحلل، ويستثني عبدالقاهر الجرجاني من سياق حكمِه الفائت على طبيعة الملاحظات، وإن كان يصنف جهوده هو الآخر في ميْدان البلاغة لا النقد الخالص، فالمسألة عند ضيف لم تكن مسألة جنس شرقي أو عقل شرقي كما هي عند جب، وإنَّما كانت فيما يظهر مجرَّد ملاحظة مفادها أنَّ هذه الممارسات قد تشكَّلت في مناخ لم يتواءم والروح الفلسفيَّة، تلك الروح المسلّطة على بعث النظريَّات من كمونِها.
[15] شوقي ضيف: في الأدب والنقد، ص123.
[16] شوقي ضيف: النقد، ص118، وانظر: في الأدب النقد، ص122.
[17] انظر: شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي، دار المعارف، القاهرة، 1992م، 9/ 187.
وقد توقفت عند حالة ابن رشيق القيرواني في بحث سابق منشور، موضحًا أنَّ ابن رشيق ليست له صورة واحدة في نتاج ناقدنا بل صورتان: الأولى: هي صورة النَّاقد الذي لا يطيل النظر في آرائه ولا يتعمق في أفكاره، وبالطبع ليس بمقدوره تحسس الفروق الدقيقة بين الاتجاهات الفنية، ويزيد من مأزقه أنَّه لم يحسن تبويب كتابه العمدة، والأخرى: هي صورة النَّاقد الممتع المحسن في ترتيب كتابه البديع والمتبع منهجًا دقيقًا في العرض، وبينما تقوم سلسلة تاريخ الأدب بعرض هذه الصورة المشرقة، فإن جميع كتابات الناقد الأخرى كانت تكرس للصورة القاتمة، وقد حاولت في هذا البحث أن أحدِّد العوامل التي أدَّت إلى هذا التغيُّر الحادث في التفاريق والمكونات؛ بمراعاة تأخر تاريخ نشر هذا الجزء الخاص به في السلسلة، فعدت بها حينها إلى ثلاثة عوامل؛ هي عامل الزمن: وما ينطوي عليه من نشر تراث كان في تعداد المخطوطات لابن رشيق، أخص بالذكر كتاب أنموذج الزمان، ومن إتاحة الفرصة لضيف حتى يرى ابن رشيق في سياق موازنة بينه وبين نقاد العربية الذين عرف بهم في السلسلة نفسها، وعامل المادة العلمية: إذ بدأت تتوطد صلة الناقد بكتب ابن رشيق بصورة أعمق، نظرًا لانشغاله في هذه المدة بالأدب في المغرب العربي الإسلامي، وعامل المنهج: إذ بدا ضيف عازفًا عن الاعتماد على المناهج التي تقارب النقاد بوصفهم ثمرة للإقليم الذي نشؤوا فيه أو أسرى لظرفهم التاريخي، وهو الأمر الذي كان متوفِّرًا فيما كتب قبلاً، انظر: أحمد سمير المرسي: شوقي ضيف ومشروع التعريف بنقاد العرب القدماء، ضمن كتاب المؤتمر العاشر لدار العلوم بالفيوم، جامعة الفيوم، 2008م، 2/ 1329، 1335، والمصادر المثبتة في هذه الصفحات، ويعنينا هنا التأكيد على أنَّ هذا الموقف المستهجن كان خاصًّا بابن رشيق، وهذا وحده يؤكد - بمفهوم المخالفة - اطراد نظرة ناقدنا المُجِلَّة للمنهج الذي خلفه الأسلاف، فكيف إذا كان هذا الموقف نفسه قد تبدل وآل إلى استحسان وقبول؟!

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 74.57 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 72.68 كيلو بايت... تم توفير 1.89 كيلو بايت...بمعدل (2.53%)]