ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وما أدراك ما ناشئة الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          كف الأذى عن المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          انشراح الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          فضل آية الكرسي وتفسيرها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          المسارعة في الخيرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          أمة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          الصحبة وآدابها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          البلاغة والفصاحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          مختارات من كتاب " الكامل في التاريخ " لابن الأثير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          ماذا لو حضرت الأخلاق؟ وماذا لو غابت ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي
التسجيل التعليمـــات التقويم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #11  
قديم 23-02-2022, 08:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب

ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب(9/10)
د. عيد محمد شبايك







التفاعل التاريخي وتعدُّد القراءات:









إن تلقِّي النص الفني عند ياوس قراءة ممتدَّة عبر التاريخ البشري، ومعنى ذلك عنده: أن النص لا يرتبط بصاحبه أو الجمهور الأوَّل الذي نوجِّه إليه النص فقط، ثم لا يرتبط كذلك بعملية القراءة على أساس أنها حدثٌ يسعى عبره المتلقِّي إلى بناء فهمه للنص أو التعبير عن الوقع الجمالي الذي أحدث فيه؛ وإنما له علاقة بذلك وبما يمكن أن نسميه (تاريخ القراءة)، أو (تاريخ التلقي).







"إن القارئ ليس عنصرًا سلبيًّا ذا نتائج متوالدة ضمن الثالوث الذي يشكِّله مع المؤلف والأثر الأدبي، وإنما هو قارئ يعمل بدوره على تطوير طاقة تشارك في صنع التاريخ؛ ولذلك فإن حياة العمل الأدبي ضمن هذا التاريخ لا يمكن أن تدرك دون المشاركة الفعَّالة التي يُبدِيها هؤلاء الذين وُجِّه إليهم ذلك العمل، إن مشاركتهم هاته هي التي تُدخل الأثرَ في الاستمرارية المتحركة للتجربة الأدبية، حيث لا يفتأ أفقها يتغيَّر، وحيث يحدث باستمرارٍ الانتقال من التلقِّي السلبي إلى التلقِّي الإيجابي؛ أي: من مجرَّد القراءة الأوَّلية (البسيطة) إلى الفهم النقدي المؤصل، أو من المأثور الجمالي المتواضَع عليه إلى مجاوزة ذلك عبر إنتاج جديد.







إن تاريخية الأدب وطبيعته التواصلية تستتبعان علاقة تبادلية وتطوُّرية بين الأثر الموروث والجمهور والأثر الجديد، وهي علاقة يُمكِن أن ندركها في ضوء مقولات من مثل: (رسالة ومتلقٍّ)، (سؤال وجواب)، (مشكل وحل)، إن هذا التيار المنغلق الذي يقتصر على دراسة جمالية الإنتاج، وتقديمه إلى القراء؛ حيث ظل منهج البحث الأدبي في أساسه منحصرًا إلى الآن، يجب أن ينفتح على جمالية للتلقِّي والوقع الذي يحدثه (الأثر الأدبي في قارئه)؛ حتى ندرك فعلاً كيفية تواتر الأعمال (الفنية) ضمن تاريخ أدبي متلاحم"[1].







إن العلاقة التفاعلية بين الأثر والمتلقِّي تتميَّز بمظهرين اثنين؛ أولهما يسمِّيه ياوس (المظهر الجمالي)؛ ويتحدَّد في أن تلقِّي الأثر من طرف قرَّائه الأوائل يتضمَّن بالضرورة حكم قيمة جمالي يستند إلى آثار مقروءة سلفًا؛ أي: إلى تقاليد أدبية وتراث فني تتكوَّن منهما المرجعية الضمنية أو الصريحة للنص والمتلقِّي على حدٍّ سواء؛ وهو ما يحيلنا على مفهوم (الذخيرة) عند إيزر.







والمظهر الثاني ذو بعد تاريخي يتمثَّل في أن الاستيعاب المبدئي للأثر "يستطيع أن يتطوَّر ويغتني من جيل إلى جيل، ليكوِّن سلسلة من أنواع التلقِّي هي التي تحدِّد الأهمية التاريخية للأثر، وتبيِّن مكانته ضمن التراتب الجمالي الذي يشكِّله مع غيره من الآثار الفنية"[2].







ومعنى هذا: أن الأثر الأدبي لا يمكن أن يمارس وجوده إلا من خلال عملية التفاعل بينه وبين المتلقِّي، إن خلوده متوقِّف على مدى تفاعله مع أوساط مختلفة من القراء والمستهلكين، وهو قادر على ذلك بحكم أن محاولة استيعابه ليست هي هي لدى كلِّ جيل أو فئة من القرَّاء، ويتوقَّف أمر قدرته هاته على ما يتضمَّنه من فعالية يمارسها في مستوى أفق انتظار قرَّائه".







إن (أفق الانتظار)، أو (أفق التوقُّعات) عند ياوس ناتج عن ثلاثة عوامل أساسية تشترك في تكوينه:



1- التجربة المسبقة التي يتوفَّر عليها المتلقِّين في مجال الجنس الذي ينتمي إليه الأثر.







2- أشكال الآثار السابقة وموضوعاتها، وهي آثار يفترض في العمل الجديد أن يكون مُلِمًّا بها وواعيًا لمكوِّناتها.







3- التعارض بين الشعر والكلام اليومي؛ أي: بين المتخيَّل والواقع[3].







وتتحدَّد الطبيعة الجمالية للأثر بمدى انزياحه عن أفق انتظار القارئ؛ إذ يكتسب الأثر بحكم درجة ابتعاده عمَّا تعوَّده المتلقِّي من هذه العوامل الثلاثة، قيمة فنية يعبِّر عنها مبدئيًّا بالدهشة الأوَّلية التي يحسُّ بها القارئ حين وقوعه تحت تأثير الوقع الجمالي الذي ينطوي عليه العمل الفني، وهي دهشة يصحُّ اعتبارها منبعًا للذة أو المتعة التي تتحقَّق في كلِّ تواصل فني.







إن كلَّ عمل أدبي ذي قيمة فنية كبيرة، إنما هو عمل منفتح على أفق انتظار متعدِّد الجوانب؛ أي: إنه يتضمَّن فعالية تزيحنا عن الحياة اليومية باستمرار، وتتجاوَز التجربة التي اكتسبناها بحكم تعرفنا المتواتر على الجنس الذي ينتمي إليه هذا العمل، ولأنه يظلُّ بموضوعه وشكله منبعًا للدهشة واللذَّة الفنيتين، كما يظلُّ مثارًا لمحاولة الفهم والتأويل، فنُعِيد قراءته على هذا الأساس، لا على أساس أنه قد اندمج في أفق انتظارنا بحكم اندماجه ضمن تراثنا الفني.







وقد حدَّد ياوس مسار التلقِّي الذي يواجه به القارئ هذا النص بثلاثة أزمنة موازية لثلاثة أنواع من القرَّاء:



1- زمن التلقي الجمالي، وتوازيه القراءة الفنية المقترنة إلى الدهشة.







2- زمن التأويل الإرجاعي، ويتحقق عن طريق تبرير الدهشة بقراءةٍ تسعى إلى الفهم والتأويل.







3- زمن يعيد تكوين أفق الانتظار، وهو زمن القراءة التاريخية المتنوِّعة والمتعاقبة[4].







ولكن ما يجب التأكيد عليه من جديد هو أن الزمن التاريخي زمن منفتح، ينطوي بالضرورة على إمكانيات متعدِّدة إعادة بناء آفاق الانتظار السابقة، واستحضار أنواع السياق الذي تَمَّ في كلِّ قراءة منتمية إلى الماضي، وهو ما يؤول إلى أن فعالية النص الفني الحق فعالية دائمة ومتجدِّدة ومسيطرة على الزمن[5].







يرى ياوس أن العلاقة بين الأثر الفني وقارئه علاقة تتميَّز بمظهر مضاعف، جانب منه جمالي صميم، وجانب تاريخي متسلسل؛ وذلك لأن تلقِّي الأثر من طرف قرَّائه الأوائل يتضمَّن من جهة حكم قيمة جمالي، يستند مرجعيًّا إلى آثار مقروءة في السابق، ثم إن هذا التلقِّي المبدئي يستطيع من جهة أخرى أن يتطوَّر ويغتني من جيل إلى جيل، ليكوِّن عبر التاريخ سلسلة من التلقِّيات هي التي تحدِّد الأهمية التاريخية وتبيِّن مكانته ضمن التراتب الجمالي أو الفني"[6].







يُفهَم من قول ياوس أن الدلالة الجمالية الضمنية - للنصوص الحية - تتمثَّل في حقيقة أنَّ أولَ استقبالٍ من القارئ لعملٍ ما يشتمل على اختيارٍ لقيمته الجمالية، مقارنًا بالأعمال التي قُرِئت من قبل، والدلالة التاريخية الواضحة لهذا هي أن فهم القارئ الأوَّل سيُؤخَذ به وسينمى في سلسلة من عمليات التلقِّي من جيل إلى جيل، وبهذه الطريقة سوف تتقرَّر الأهمية التاريخية للعمل، وينمُّ عن إيضاح قيمته الجمالية.







وفيما يلي نقدِّم شاهدًا تطبيقيًّا على ما سبق من تنظير، وهو أبيات كثير[7] التي يقول فيها:





وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًي كُلَّ حَاجَةٍ

وَمَسَّحَ بِالأَرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ




وَشُدَّتْ عَلَى حُدْبِ المَهَارَى رِحَالُنَا

وَلاَ يَنْظُرُ الغَادِي الَّذِي هُوَ رَائِحُ




أَخَذْنَا بِأَطْرَافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَا

وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ المَطِيِّ الأَبَاطِحُ












عرض ابن قتيبة لهذه الأبيات في كتابه "الشعر والشعراء" في أثناء تقسيمه للشعر وفقًا لعلاقته باللفظ والمعنى، فبعد أن تحدَّث عن الشعر الذي يجمع بين حسن اللفظ وجودة المعنى - وضرب لذلك أمثلة من أبيات متفرِّقة، لشعراء مختلفين، في مواقف مختلفة - ينتقل إلى الحديث عن الصنف الثاني فيقول: "وضرب منه حَسُنَ لفظه وحلاَ، فإذا أنت فتَّشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، كقول القائل:..."، وذكر الأبيات، ثم علَّق عليها بقوله: "هذه الألفاظ أحسنُ شيءٍ مخارجَ ومطالعَ ومقاطعَ، وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قطعنا أيام منًى، واستلمنا الأركان، وعاليْنا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح، ابتدأنا في الحديث، وسارت المطيُّ في الأبطح"[8].







ويدلُّنا هذا التعليق منذ الوَهْلَة الأولى على انقسام عملية التلقِّي إلى مستويَين مختلفَين يستقلُّ أحدهما عن الآخر؛ أحدهما يتمثَّل في ألفاظ النص، والثاني فيما سماه (ما تحت الألفاظ)، والمقصود به هو المعنى، وفيما يتعلَّق بالألفاظ يبدي ابن قتيبة ارتياحه لها؛ فهي أحسن ما تكون في مطالعها ومخارجها ومقاطعها؛ وهذا معناه: أن الأذن ترتاح إليها من حيث هي أصوات منسَّقة على نحوٍ بعينه، وكأن هذه الألفاظ - مفردة ومركبة - في وادٍ، والمعاني التي تدلُّ عليها في وادٍ آخر، فهي ألفاظ وتراكيب لا طائل وراءها - كما يقول - ولذلك فإنه عندما راح يشرحها لم يَزِدْ على إعادة صياغة النص بألفاظه نفسها صياغة نثرية، مع اختزال هذه الألفاظ إلى الحد الأدنى.







ولأبيات كثير هذه وضعٌ خاص في تاريخ الشعر العربي قديمًا؛ فقد عرض لها معظم النقاد العرب الذين جاؤوا بعد ابن قتيبة؛ كابن طباطبا، وقدامة بن جعفر، وأبو هلال العسكري، وابن جني، والباقلاني، وعبدالقاهر الجرجاني، وابن الأثير، وهؤلاء يختلفون من حيث اهتماماتهم المعرفية الأصلية اختلافًا واضحًا؛ فابن قتيبة فقيه، والعسكري بلاغي، وابن جني لغوي، والباقلاني أساسًا متكلِّم (أشعري)، وابن الأثير بياني، والذي يعنينا كيف تلقَّى هؤلاء هذا النص؟ وإلى أيِّ مدًى اتَّفقت هذه القراءات أو اختلفت؟







والطريف هنا أن كلاًّ من هؤلاء كان إذ يتلقَّى النص الشعري في ذاته يتلقَّى معه قراءة مَن سبقه، ومن ثَمَّ كان ما يقدِّمه كلٌّ منهم بمثابة قراءة للقراءة، فعلى أيِّ نحوٍ كان هذا؟







اعتنى ابن قتيبة بالقيمة اللفظية في المخارج والمطالع والمقاطع، وأن المعنى كان دون اللفظ[9]، فلم يلتفت إلى ما في الأبيات من استعارة ومجاز واستخدام فريد للغة، مما يمنحها بُعدًا جماليًّا مؤثرًا.







وكان ابن طباطبا أكثر رفقًا بالشعر، وأكثر توفيقًا من ابن قتيبة، فقد توجَّه إلى المعنى دون اللفظ، وشرح البيت شرحًا متقدِّمًا على سابقيه، وتوصَّل إلى أن المعنى على قدر المراد، وهي ميزة حسنة التفت إليها، وتحسب من الجديد الذي قدَّمه في قراءته، وإن لم يصل إلى قيمتها الجمالية ومزاياها الفنية الكامنة[10].







يقول ابن طباطبا: "هذا الشعر هو استشعار قائله لفرحة قُفُوله إلى بلده، وسروره بالحاجة التي وصفها؛ من قضاء حجِّه وأُنْسه برفقائه ومحادثتهم، ووصفه سيل الأباطح بأعناق المطيِّ كما تسيل بالمياه، فهو معنى مستوفًى على قدر مراد الشاعر"[11].







أمَّا قدامة بن جعفر والباقلاني، فقد اقتفيا أثر ابن قتيبة في العناية باللفظ، ووصفا الأبيات بأنها من الشعر الذي يحلو لفظه وتقل فوائده[12].







أمَّا أبو هلال (ت390هـ)، فقد وقف مع ابن قتيبة - كما أشار إلى ذلك ابن الأثير - إذ استشهد به لدعم فكرته في أن "الكلام إذا كان لفظه حلوًا عذبًا، وسلسًا سهلاً، ومعناه وسطًا - دخل في جملة الجيِّد، وجرى مع الرائع النادر"[13]، ثم ذكر الأبيات وعلَّق عليها بقوله: "وليس تحت هذه الألفاظ كبيرُ معنى، وهي رائقة معجبة..." ونثَر الأبيات كما فعل ابن قتيبة، وهو بذلك لم يُضِف جديدًا.







ونكتفي - بعد أن أوردنا قراءات النقَّاد السابقين - بقراءتين مهمَّتين في معاينة مستوى التطوُّر في قراءات الشعر لدى نقَّادنا القدامى، وهما قراءة ابن جني، وقراءة عبدالقاهر الجرجاني؛ أمَّا ابن جني فقد وضع رؤية شاملة لقراءته قبل المباشرة بها، وأساسًا يبني عليه هيكل هذه القراءة، يقول ابن جني: "فقد ترَى إلى عُلوِّ هذا اللفظ ومائه، وصقاله وتلاقح أنحائه، ومعناه مع هذا ما تحسُّه وتراه، إنما هو: لما فرغنا من الحج، ركبنا الطريق راجعين، وتحدثنا على ظهور الإبل"[14].







ونلحظ في هذا القول لابن جني كأنَّه تكرار لما قاله سابقوه من النقَّاد، وأكبر الظن أنه ما قدَّم ذلك إلا ليُعلِن قراءة أدق وأشمل، لولاها لما كشفت براعته وفطنته، فهو يُردِف كلامه السابق بالقول: "قيل: هذا الموضع قد سبق إلى التعلُّق به مَن لم ينعم النظر فيه، ولا رأى ممَّا رآه القوم منه؛ وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر، وخفاء غرض الناطق، وذلك أن في قوله: "كل حاجة" ما يفيد منه أهلُ النسيب والرقَّة، وذوو الأهواء والمِقة، ما لا يفيده غيرُهم، ولا يشاركهم فيه مَن ليس منهم، ألا ترى أن من حوائج (منى) أشياء كثيرة غير ما الظاهرُ عليه، والمعتاد فيه سواها؛ لأن منها (التلاقي)، ومنها (التشاكي)، ومنها (التخلي)، إلى غير ذلك مما هو تالٍ له، ومعقود الكون به، وكأنه صانع عن هذا الموضع الذي أومأ إليه، وعقد غرضه عليه، بقوله في آخر البيت: "ومسح بالأركان مَن هو ماسح"؛ أي: إنما كانت حوائجنا التي قضيناها، وآرابنا التي أنضيناها، من هذا النحو الذي هو مسح الأركان، وما هو لاحِق به، وجارٍ في القربة من الله مجراه"[15].







وأمَّا البيت الثاني، فإن فيه: "أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا"، وفي هذا ما أذكره، لتراه فتعجَب ممَّن عجب منه ووَضَعَ من معناه، وذلك أنه لو قال: أخذنا في أحاديثنا، ونحو ذلك - لكان فيه معنى يُكبِرُه أهلُ النسيب... وذلك أنهم قد شاع عنهم، واتَّسع في محاوراتهم، علوُّ قدر الحديث بين الإلْفَين، والفكاهة بجمع شمل المتواصلين، ألا ترى إلى قول الهذلي:





وَإِنَّ حَدِيثًا مِنْكِ لَوْ تَعْلَمِينَهُ

جَنَى النَّحْلِ فِي أَلْبَانِ عُوذٍ مَطَافِلِ












وقول آخر:





وَحَدِيثُهَا كَالْغَيْثِ يَسْمَعُهُ

رَاعِي سِنِينَ تَتَابَعَتْ جَدْبَا




فَأَصَاخَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ حَيًا

وَيَقُولُ مِنْ فَرَحٍ هَيَا رَبَّا












وقول الآخر:





وَحَدَّثْتَنِي يَا سَعْدُ عَنْهَا فَزِدْتَنِي

جُنُونًا، فَزِدْنِي مِنْ حَدِيثِكَ يَا سَعْدُ












واختلاف ابن جني مع ابن قتيبة في موقفه من معنى الكلام وفي انفعاله به، غاية في الوضوح، بل إنه ليوشك أن يكون ردًّا مباشرًا عليه، وإذ يعزو ابن جني الموقف القديم من هذه الأبيات - وهو أساسًا موقف ابن قتيبة - إلى (جفاء طبع الناظر) فيها؛ أي: إلى عيب وقصور في المتلقِّي وليس في النص، فإنما يلحظ (خفاء غرض الشاعر) فيها، أو لنقُل: خفاء المعنى الشعري، فالأبيات ليست تافهة المعنى أو خالية منه، ولا يمكن أن تكون صياغتها اللغوية - التي ظفرت بالإجماع على حسنها - مجانبة على مستوى المعنى، وإنما اقتضَى الأمر شيئًا من التأمُّل فيها، وقراءتها في الأفق المعنوي الذي تنتمي إليه، حيث تتكشَّف عندئذٍ الدلالات النفسية المجاوزة للمدلول الحرفي للكلمات، على نحو ما استنبطها ابن جني، وعند ذاك يتأكَّد أن الصياغة لم تكن منفصلة مطلقًا عن أبعاد النص الدلالية، ودعمًا من ابن جني لما أدركه من تلك الدلالات كانت قراءته للنص (في صحبة) نصوص شعرية أخرى، تتواصَل معه في نفسه، صانعة له الأفق الدلالي الذي تحرك فيه[16].







وينبغي ملاحظة محاولة ابن جني في تأويل النص وقدرته على توجيهه، لكنه في قراءاته هذه لم يُفصِح إفصاحًا كاملاً عن العلاقة بين النسيب الذي بنى كلا البيتين عليه تقريبًا وبين الحج؛ إذ إنَّه أراد أن يوحي بأن المعاني يجب أن تقدَّم في الشعر هذا التقديم، فلقد أراد الشاعر بواسطة موضوع معين - انتهاء الحج - أن يصوِّر ما يلقاه الحجيج من السرور والأنس ساعة قفولهم ورجوعهم، وقد انتبه ابن جني لهذا على خلاف سابقيه، وفصله في قراءة دقيقة، بَيْدَ أن هذه القراءة ليست نهائية، فالنص ما زال يُغرِي بقراءات أخرى تكمِّل قراءة ابن جني وتُضِيف إليها.







ويبدو أن الذي تحمَّل عبء هذه القراءة عبدالقاهر الجرجاني، فقد توقَّف عند هذه الأبيات في كتابيه: "دلائل الإعجاز"، و"أسرار البلاغة"، واستقرأ ما قاله سابقوه، مشيرًا إشارة واضحة إلى القراءات الإيجابية التي توصَّلت إلى فهم مغزى النص وكشف دلالاته الجمالية، وعُمْق الاستعارة فيه، وكأنه قصَد بذلك قراءة ابن جني، ولا يخفى أن قراءات النقَّاد السابقين تشكِّل إحدى المرتَكَزات الفنية والمعرفية التي تُتِيح للناقد قراءة وافية مستكمَلة الجوانب، فبيَّن للمتلقِّي كيف يحسن الكلام أو يسوء وفقًا للترتيب الذي يسوق فيه المتكلِّم عبارته، وقد أوردها في البداية كما لو كان ذلك بطريقة عَرَضَيَّة؛ ليمثل بها للقارئ الأشعار التي أثنى عليها الناس "من جهة الألفاظ، ووصفوها بالسلاسة، ونسبوها إلى الدماثة"[17]، ثم طلب إلى المتلقِّي أن يراجع فكرته، ويشحذ بصيرته، ويحسن التأمُّل في هذا الكلام؛ ليعرف أن سرَّ استحسان الناس إياه، وثنائهم عليه، راجع "إلى استعارة وقعت موقعها، وأصابت غرضها، أو حسن ترتيب تكامل معه البيان حتى وصل المعنى إلى القلب مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقرَّ في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن..."[18].







وواضح هنا أن عبدالقاهر لا يفصل في عملية التلقِّي بين اللفظ والمعنى في النص المُتلقَّى، كما أنه لا يفصل في جهاز التلقِّي لدى المتلقِّي بين القلب والسمع، أو بين الفهم والأذن؛ فكما يتَّحد اللفظ والمعنى، يتزامَن السمع والفهم؛ ومعنى هذا: أن المتلقِّي لا يمكن أن يرتاح لكلامٍ استمع إليه دون أن يكون قد وقَع من قلبه واستقرَّ في فهمه، وتلك الأبيات الثلاثة التي لقيت القبول لدى عامة المتلقِّين على مستوى الأداء اللغوي، لا بُدَّ إذًا أن تكون قد خاطبت قلوبهم وعقولهم وحرَّكتها بقدرِ ما أطربت أسماعهم، ومن ثَمَّ يتطلَّب الأمر الوقوفَ على سرِّ إعجاب المتلقِّين لهذه الأبيات على مستوى المعاني كذلك، مرتبطة بأدائها اللغوي، ومن ثَمَّ يمضي الجرجاني في استبطان المعاني التي انطوَتْ عليها عبارات النص، فإذا به - أي: النص - ينفتح أمامه على أفق رحب من الدلالات والمشاعر الإنسانية التي تلابس المشهد كما تُصَوِّره الأبيات، والتي تتعلَّق بالممارسة أو التجربة الخاصة، كما تُوحِي بها أو تومئ إليها شخوص هذا المشهد، ومن ثَمَّ اتَّجه الجرجاني إلى الكشف عن السرِّ في استحسان المتلقِّين لتلك الأبيات بالربط بين الأداء اللغوي فيها والأفق المعنوي الذي تفتحه[19]، قال: "أوَّل ما يتلقَّاك من محاسن هذا الشعر أنه قال: "ولما قضينا من منى كل حاجة" فعبَّر عن قضاء المناسك بأجمعها، والخروج من فروضها وسننها من طريقٍ أمكنه أن يقصر معه اللفظ، وهو طريقة العموم، ثم نبَّه بقوله: "ومسَّح بالأركان من هو ماسح" على طواف الوداع الذي هو آخِر الأمر، ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر، ثم قال: "أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا"، فوصل بذكر مسح الأركان، ما وَلِيَه من زَمِّ الرِّكابِ وركوبِ الرُّكبَان، ثم دلَّ بلفظة "الأطراف" على الصفة التي يختصُّ بها الرفاق في السفر من التصرُّف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتطوِّفين من الإشارة والتلويح والرمز والإيماء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس وقوَّة النشاط، وفضل الاغتباط، كما توجبه أُلفَة الأصحاب وأُنسَة الأحباب، وكما يليق بحال مَن وُفِّق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حُسْنَ الإيَاب، وتنسَّم روائح الأحبَة والأوطان، واستماع التهاني والتحايَا من الخِلاَّن والإخوان، ثم زان ذلك كله باستعارة لطيفة طبق فيها مفصل التشبيه، وأفاد كثيرًا من الشواهد بلطف الوحي والتنبيه، فصرَّح أولاً بما أومأ إليه في الأخذ بأطراف الحديث من أنهم تنازعوا أحاديثهم على ظهور الرواحل، وفي حال التوجُّه إلى المنازل، وأخبر بعد بسرعة السير، ووطاءة الظهر؛ إذ جعل سلاسة سيرها بهم كالماء تسيل به الأباطح، وكان في ذلك ما يؤكِّد ما قبله؛ لأن الظهور إذا كانت وطيئة وكان سيرها السير السهل السريع، زاد ذلك في نشاط الركبان، ومع زيادة النشاط يزداد الحديث طيبًا، ثم قال: "بأعناق المطي" ولم يقل: "بالمطي"؛ لأن السرعة والبطء يظهران غالبًا في أعناقها، ويبين أمرهما من هواديها وصدورها، وسائر أجزائها تستند إليها في الحركة، وتتبعها في الثقل والخفة"[20].







فقد أوضح أن السبب الكامن وراء هذا اللطف هو الاستخدام البارع للاستعارة، إذا وقعت موقعها، وأصابت غرضها؛ إذ ليس كلُّ استعارة تملك هذا الشأن من الجمال، وإذا كان الجرجاني لم يوضح تشخيص مواطن الجمال في الاستعارة، فإنه قد فصَّل القول وركَّز على الشطر الثاني "وسالت بأعناق..."، والاستعارة مفتاح التأويل، وطريق تفسير النص الشعري، يقول: "اعلم أن من شأن هذه الأجناس أن تجري فيها الفضيلة، وأن تتفاوَت التفاوُت الشديد، أفلا ترى أنك تجد في الاستعارة العامي المبتَذَل... والخاص النادر الذي لا تجده إلا في كلام الفحول، ولا يقوى عليه إلا أفراد الرجال، كقوله: "وسالت بأعناق..."، أراد أنها سارت سيرًا حثيثًا في غاية السرعة، وكانت سرعة في لينٍ وسلاسة، حتى كأنها كانت سيولاً وقعت في تلك الأباطح فجَرَتْ بها[21].







وقراءة عبدالقاهر قائمة على تفسير القصد عن طريق دلالة الكلمة في السياق، ويلاحظ نوع العلاقة التي افترضتها القراءة بين السرعة واللين والسلاسة، فهذا التناقض يؤكِّد قول الجرجاني على البحث عن العلاقات المكوِّنة للنص ومعرفة الجديد منها؛ إذ إنَّه بنى رؤيته للنص على كلمة "سالت" والسيول لا تجري عادة بلطف ولين، بل إن بعضها مثلٌ للاضطراب والفوضى، وبعض منها مدمِّر... فكيف استطاع الجرجاني أن يتوقَّف عند هذا التفسير دون غيره؟







الحق أن سياق الأبيات كلها كان يشير إلى هذه السلاسة والليونة؛ إذ إنَّ محور الكلام الشعري هو إظهار الفرح والغبطة والسعادة بالعودة والقفول من الحج، وصنعت الأبيات الثلاثة مُناخًا مفعمًا بالإيحاء، حتى إذا وصلنا إلى نهايتها في الاستعارة الفريدة التي أشار إليها عبدالقاهر، كانت الصورة الشعرية قد أخذت مداها الجمالي في ذهن القارئ المتلقِّي للنص، وربط الجرجاني بين السرعة والسلاسة واللين؛ إذ إنَّ تبادل أطراف الحديث لا يكون إلا بالسلاسة واللين، وقد بنى رؤيته الشعرية على وحدة النص، وليس البيت منفردًا، وواضح أن الاستعارة وإن جاءت في موضعها الصريح، بَيْدَ أن إدراك أبعادها الجمالية لا يكون إلا من خلال وحدة المقطع الشعري، يقول: "وليست الغرابة في قوله: "وسالت بأعناق المطي الأباطح" على هذه الجملة؛ وذلك أنه لم يُغرِب؛ لأن جعل المطي في سرعة سيرها وسهولته كالماء يجري في الأبطح، فإن هذا شبه معروف؛ ولكن الدقَّة واللطف في خصوصية أفادَها بأن جعل (سال) فعلاً للأباطح، ثم عدَّاه بالباء بأن أدخل الأعناق في البيت فقال: "بأعناق المطي"، ولم يقل: بالمطي، ولو قال: سالت المطي بالأباطح، لم يكن شيئًا"[22].







ويبقى الآن أن ننظر في موقف ابن الأثير من تلك الأبيات فقد أخذ من كلام ابن جني كثيرًا، واستظهر كثيرًا من كلام عبدالقاهر، ولكنه استقلَّ عنهما في تعليقه على قول الشاعر:





...........................

وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ المَطِيِّ الأَبَاطِحُ












حيث يقرِّر أن به "من لطافة المعنى وحسنه ما لا خفاء به"، ثم يقول: "إن هؤلاء القوم لما تحدثوا وهم سائرون على المطايا شغلتْهم لذة الحديث عن إمساك الأزمَّة، فاسترخت عن أيديهم، وكذلك شأن مَن يَشْرَه وتغلبه الشهوة في أمرٍ من الأمور، ولمَّا كان الأمر كذلك، وارتخت الأزمَّة عن الأيدي، أسرعت المطايا في المسير، فشبهت أعناقها بمرور السيل على وجه الأرض في سرعته، وهذا موضع كريم حسَن لا مزيد على حسنه، والذي لا ينعم نظره فيه لا يعلم ما اشتمل عليه من المعنى، فالعرب إنما تحسن ألفاظها وتزخرفها عناية منها بالمعاني التي تحتها، فالألفاظ إذًا خدم المعاني، والمخدوم لا شكَّ أشرف من الخادم، فاعرف ذلك وقِس عليه"[23].





يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 444.44 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 442.68 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.40%)]