خاتم النبيين - الصفحة 3 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11942 - عددالزوار : 191049 )           »          سحور يوم 19 رمضان.. ساندوتشات فول مخبوزة خفيفة ولذيذة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          واتس اب بلس الذهبي (اخر مشاركة : whatsapp Girl - عددالردود : 2 - عددالزوار : 2649 )           »          الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 656 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 929 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1089 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 851 )           »          صحتك فى شهر رمضان ...........يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 835 )           »          اعظم شخصيات التاريخ الاسلامي ____ يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 918 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 564 - عددالزوار : 92797 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 10-10-2022, 05:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (21)
الشيخ خالد بن علي الجريش





الحلقة الواحد والعشرون من برنامج: خاتم النبيين

بعض الأحداث بين أحد والخندق (1)


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
فقد ذكرنا في الحلقة الماضية - إخواني الأفاضل - شيئًا من الحِكَم والأحكام في غزوة أحد، وبعض الأحداث التي حدثت في تلك الغزوة، وأيضًا تعرضنا للدروس المستفادة من ذلك، وفي تلك الحلقة نستعرض بعض الغزوات التي حدثت بين غزوة أحد والخندق، فمن ذلك غزوة بني النضير فقد حدثت في السنة الرابعة للهجرة، وقيل قبل ذلك، وكان سببها أن قريشًا كتبت لبني النضير بأنكم أنتم أهل الحلقة والحصون والسلاح، فقاتلوا محمدًا، أو لنفعلنَّ كذا وكذا، إلى آخر ما كتبوا لهم، فلما بلغ ذلك الكتابُ يهود بني النضير أجمعوا على الغدر فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنِ اخْرُج إلينا في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك، ففعل، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر والسلاح ليغدروا، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار قد أسلم تخبره بأمر بني النضير، وتخبره بغدرهم، فأخبر أخوها هذا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليهم، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم صبَّحهم بالكتائب فحاصرهم من يومه، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم محمد بن مسلمة؛ قائلًا لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنِ اخرجوا من المدينة، فلا تساكنوني فيها وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، فمن رُئِيَ بعد ذلك ضربت عنقه))، فتجهز بنو النضير للخروج من المدينة خائفين صاغرين، فلما سمع المنافقون ذلك أرسل إليهم عبدالله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، وقال لهم: لا تخرجوا من دياركم، لئن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم، فمن ذلك قوِيَتْ نفوس بني النضير فأرسل زعيمهم حُيَيُّ بن أخطب كتابًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيهِ: إنا لن نخرج من ديارنا، وإن قاتلتنا قاتلناك؛ فنزل قول الله تبارك وتعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الحشر: 11]؛ الآيات.

فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة قادمين، تحصنوا في حصونهم وبدؤوا ينبلون المسلمين بالنبل والحجارة، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بقطع نخيلهم وتحريقها؛ وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الحشر: 5]، واللِّينة هي النخلة، وقد فعل ذلك؛ إهانة لهم وإرعابًا لقلوبهم، وذلك لغدرهم المستديم، فلما كانوا في تلك الحال تخلَّى عنهم المنافقون كالمعتاد، فقذف الله في قلوبهم الرعب، واشتد عليهم الحصار، فعند ذلك صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجلاء؛ وهو الخروج من المدينة، وأنه ليس لهم من أموالهم إلا ما حملته الإبل من الأمتعة فقط، إلا السلاح فلا يحملوه أيضًا معهم؛ وأخرج البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ((أجلى بني النضير وأقرَّ بني قريظة؛ حيث منَّ عليهم بالبقاء، فلما غدروا وقاتلوا، قتل رجالهم، وقسم نساءهم سبايا على المسلمين))؛ [رواه البخاري]، وكان بنو النضير لديهم ستمائة من الإبل، فاحتملوا عليها ما احتملت من الأمتعة، وكانوا قبل خروجهم من بيوتهم يهدمونها؛ ليخربوها على المسلمين، وليحملوا أيضًا ما يرونه نافعًا لهم، ثم خرجوا من المدينة إلى خيبر، وهم في حال من الصَّغار والذل، وسار بعضهم إلى الشام، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركوه من السلاح، فكان عداده خمسين درعًا، وثلاثمائة وأربعين سيفًا، وخمسين قطعة من السلاح، وكانت أموالهم وأرضهم خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء؛ لأنها فيء، وليست غنيمة؛ فالفيءُ ما حصل بدون قتال، والغنيمة ما حصل بقتال، ووضعهم مع بني النضير هو بدون قتال فصار فيئًا، فصار خالصًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين؛ نظرًا لحاجتهم المادية، وجعل بعضها في السلاح في سبيل الله، وأنزل الله عز وجل في بني النضير سورة الحشر فهي عرضت حالهم؛ فذكر الله تعالى ما أصابهم الله به من الهزيمة، وما سلط عليهم من الرعب، ثم ذكر حكم الفيء، وذكر أيضًا المنافقين ذامًّا لهم؛ لإخلافهم الوعد، وهذا من صفات المنافقين البارزة، ثم ضرب لهم مثلًا قبيحًا شنيعًا؛ حيث شبههم بالشيطان.

وأخرج البخاري عن سعيد بن جبير رضي الله عنه، قال: ((قلت لابن عباس عن سورة الحشر، قال: نزلت في بني النضير))، وفي رواية أخرى في البخاري؛ قال ابن عباس: ((قُلْ سورة النضير))؛ قال الحافظ في الفتح: "كأنه كره تسميتها بالحشر؛ لئلا يظن أن المراد به يوم القيامة، وإنما المراد بالحشر إخراج بني النضير وحشرهم وإجلاؤهم، وبإجلائهم ارتاح المسلمون من شرورهم، ومن الغزوات أيضًا التي حدثت بعد أحد ما يسمى بغزوة بدر الأخرى، وكانت في شعبان من السنة الرابعة؛ حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ألف وخمسمائة رجل من الصحابة إلى بدر لموعده الذي كان واعد به أبا سفيان يوم أحد، واستخلف على المدينة عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول، وكانت بدر مجتمعًا يجتمع فيه العرب، وسوقًا من أسواقهم، وخرج أبو سفيان من مكة في ألفي رجل من قريش متجهًا إلى بدر، ومعهم خمسون فارسًا؛ للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحربه، وكان أبو سفيان كارهًا للخروج، حتى إذا وصلوا إلى عسفان، ثم ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب، فرأى أبو سفيان أن يرجع بهم، فقال لهم معتذرًا: "يا معشر قريش، إن هذا العام عام جدبٍ، ولا يصلحكم إلا عام خصب ترعَون به الشجر، وتشربون اللبن، وإني راجع فارجعوا"، فرجع الناس، وكان المسلمون قد أخذوا معهم بعض التجارات لموسم بدر، فأرسل أبو سفيان رجلًا ليخذِّل المسلمين عن الخروج، ووعده بعشرين بعيرًا، فقدم هذا الرجل المدينة فبدأ يخذل المسلمين ولكن لم ينخذل له أحد، فخرجوا حتى أقاموا في بدر ثمانية أيام، وباعوا تجارتهم في موسم بدر، وربحوا؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ﴾ [آل عمران: 174]، على حين أن بعض أهل العلم قالوا بأن هذه الآية ليست هنا، وإنما هي نزلت في خروجهم لحمراء الأسد.

ثم بعد ذلك رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر إلى المدينة، وسمعت قريش بخروجه إلى بدر فأصابهم من الرعب ما أصابهم، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، وأيضًا كذلك مما حدث في تلك الفترة بين أحد والخندق زواجُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة رضي الله عنها؛ فقد تزوجها في شوال من السنة الرابعة للهجرة؛ وهي هند بنت أبي أمية، وذلك بعد انقضاء عِدتها من أبي سلمة وهو ابن عمها، وكانت تقول بعد وفاة أبي سلمة: ومن خير من أبي سلمة؟ فلما أن استرجعت، وقالت ما يُشرع للمصاب أن يقوله؛ وهو: ((اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها)) ففعلًا استجاب الله دعاءها، وأخلف عليها خيرًا من أبي سلمة؛ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها النبي عليه الصلاة والسلام، زوجها ابنها عمر، وقيل: سلمة، وفي ذات يوم جاءت أم سلمة بصَحْفَةٍ فيها طعام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة رضي الله عنها ملتفة بكساء، ومعها حجر، فكسرت الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة، وقال: ((غارت أمكم، غارت أمكم))، ثم أخذ صحفة من عائشة وبعثها إلى أم سلمة، وأعطى عائشة صحفة أم سلمة المكسورة، ومما حدث أيضًا كذلك بين أحد والخندق غزوة دُومة الجندل، وهي بضم الدال لا بفتحها؛ وهي موضع بين المدينة والشام، وقد كانت في ربيع الأول من السنة الخامسة، وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بدومة الجندل عددًا من القبائل، وكانوا يظلمون من مرَّ بهم، وينهبون ما معهم من أموال، وأنهم أيضًا يريدون مهاجمة المدينة، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، وخرج ومعه ألف من المسلمين، فكانوا يسيرون بالليل، ويستترون بالنهار، ومعه دليل يُقال له: مذكور، فلما قربوا من دُومة الجندل، هجموا على ماشيتهم ورُعاتهم، فأصابوا ما أصابوا، وهرب من هرب، فلما علِم أهل دُومة الجندل بذلك، تفرقوا وخرجوا، فنزل بساحتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأقام أيامًا وأسر منهم رجل فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فأسلم، ثم رجع النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة إلى المدينة، ولم يلقوا حربًا.

وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أعاد للأمة هيبتها بين الأمم والشعوب، بعد أن ضعفت من خلال ما وقع في غزوة أحد، وهذا كله من نصر الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين، فهو معهم أينما كانوا ينصرهم ويؤازرهم، ويكبت عدوهم، والله عز وجل متم نوره، ولو كره الكافرون.

إخواني الكرام، إن الحديث عن السيرة حديث لا يُمل، وفيه دروس وعِبر، وفيه حكم وأحكام، وفيه مفاهيم ومقاصد جليلة رائعة، فلعلنا نتطرق لشيء من الدروس والعبر مما سبق، ونستكمل الحديث عن السيرة في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى؛ فمن هذه الدروس ما يلي:
الدرس الأول: بيان شؤم النفاق والمنافقين، وذلك من خلال مواقف كثيرة؛ ومنها: رجوع عبدالله بن أبي بن سلول بثلث الجيش في غزوة أحد، وكذلك وعودهم المتتالية لبني النضير أن ينصروهم ويقاتلوا معهم، ولكنهم تخلَّوا عنهم في الساعة الحرجة، وأيضًا قد ذمهم القرآن، وإن كان فيهم بلاغة وفصاحة، وقد تعجبك أجسامهم إلا أنهم - كما وصفهم القرآن - كالخُشُب المُسَنَّدة، فهم لا يقومون بأنفسهم، كما أن هذه الخشب لا تقوم إلا بالجُدُر، وكذلك المنافقون لا يقومون إلا على أكتاف الآخرين، فمن النفاق العملي الكذبُ، وقد كذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم في شهادتهم؛ وقد قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1]، وقد كذبوا حتى على من يوالونهم، وهم بنو النضير، فاحذر صفاتهم؛ فمن صفاتهم الكذب، والغدر، والخيانة، والخلف في الوعد، والفجور في الخصومة، فكلها صفات سوداء ليس فيها بياض، فمن كان فيه خَصلة منها، كان فيه خصلة من النفاق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة المنافقون في يوم الجمعة؛ قال أهل العلم في حكمة ذلك: ليحذر المؤمنون النفاق، ولعله أن يرجع المنافقون عن نفاقهم، فهم أتعبوا أنفسهم في العمل، ولكن ليس لهم منه مثقال ذرة، فعندما تسمع عنهم أو تقرأ، فإنك ضرورة تحمد الله تبارك وتعالى أن عافاك وتسأله الثبات.

وعقوبة المنافقين قال الله عنها: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾ [النساء: 145]، فكيف يقر للمنافق قرارٌ، وهو يقرأ ويَعْلَم مثل ذلك؟ نسأل الله تعالى العافية والسلامة والثبات على الحق.


الدرس الثاني: كانت القوة عند المسلمين عزيزة وعارمة؛ وذلك لأنهم على الفطرة الربانية، ولقد وعد الله تعالى أن ينصر من ينصره؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ﴾ [الحج: 40]، بخلاف من خالف أمره واتبع هواه، فإن الله تعالى يضعفه؛ وذلك أن الأمر كله لله، فهو يمد أولياءه بنصره لهم، وتسديده، وتيسيره، ويمنع ذلك لأعدائه، وأما إن حصل خلاف ذلك، فهو ابتلاء للفريقين أو لخللٍ عند الأمة المسلمة، فأفعاله عز وجل كلها حكمة، ومن شواهد إمداد الله تعالى لعباده المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته يتوجه إلى ربه بالدعاء؛ كما حصل ذلك في غزوة بدر وغيرها، فيمدهم الله عز وجل بالملائكة، أو بالسكينة، أو بالثبات، أو بالنصر المبين؛ كما حصل في حمراء الأسد ودومة الجندل وغيرهما، وإن كان هذا على مستوى الجماعة والأمة، فإن ذلك أيضًا يحصل لعباده على مستوى الأفراد؛ فقد ورد في الحديث القدسي: ((وأنا معه إذا ذكرني))؛ [رواه البخاري]، وإذا كان الله تعالى معه، فإنه ييسر أموره وينصره ويوفقه ويسدده، فهذه المعية هي بهذا المعنى؛ بالنصر والتسديد، والتيسير والتوفيق لهذا الذاكر؛ فلْنُكْثِرْ من ذكر الله تعالى عند قضاء حوائجنا وشؤوننا؛ ليكون الله عز وجل معنا على مقتضى هذا الحديث الصحيح، وهذا الذكر أيضًا هو مما يمنعنا أن نظلم الناس أو نغشهم أو نأخذ ما ليس لنا، إن كان في القلب تقوى وخوف من الله تعالى، فما أجمل أن يذهب أهل البيت، ويخرجوا كلهم ذاكرين لله تعالى؛ فالأب يذهب إلى عمله وهو يلهج بذكر الله عز وجل، والابن يذهب إلى مدرسته وهو يتلفظ بهذا الذكر، والبنت كذلك تذهب إلى مدرستها وهي تحرك لسانها بالذكر! فما أجملها من حال وأسعدها من لحظات، فسيكون الله تعالى معهم جميعًا يطمئنهم وييسر أمورهم، فلنكن - معاشر الآباء والأمهات - كذلك نحن وأولادنا، ولنقم بتذكيرهم دائمًا بهذا الحديث وهذه الصفة.


الدرس الثالث:موقف أسري حكيم من خلال ما حصل من عائشة في إناء أم سلمة رضي الله عنهما، وهما زوجتان لهذا النبي الكريم، فلما جاءت أم سلمة بصحفة فيها طعام، كسرتها عائشة بحجر، فلما حصلت تلك المشكلة في بيت النبوة لم يزد النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: ((غارت أمكم))؛ قالها مرتين، فتلك العبارة على قصرها أوضحت السبب، وذكرت الاعتذار، وهدَّأت الموقف، وأنهت الخصومة، ثم أبدلها بصحفة أخرى من عائشة، إن المشاكل الأسرية لا تنتهي، ولو وقف الزوجان مع كل مشكلة لتعبا وأتعبا، واختلفا ولم يتفقا، فهذه الحادثة هي تقدير من رب العالمين؛ لتكون بيانًا للعباد في التعامل، فيا أخي الكريم عندما تحصل أي مشكلة أسرية مع الزوجة أو غيرها، فلا تستعجل بما تريد فعله، بل أولًا اضبط انفعالك وتعرَّف على المآلات والعواقب، ادرأ المفسدة الكبرى بتحمُّل المفسدة الصغرى؛ فإن التربويين يقولون لا تصدر قرارك خلال بداية حصول الموقف، فإن تلك اللحظة هي حرجة وغير متفاهمة في الغالب، ويؤزُّها الشيطان أزًّا فتعرف على السبب، وحاول الهدوء وعدم الانفعال؛ لأننا حين نوصيك بهذا نعلم أن الأسرة هي المستقر والمقر المتين لذويها، فإذا تشتت لحصول مشكلة بسبب أنه لم يفهم بعضهم مقصود الآخر، أو استعجل أحدهم بتصرف غير مدروس، ولم يعذره الآخر، فإن هذا التشتت له أبعاده السلبية؛ فالتعامل مع الأسرة يختلف في الجملة عن التعامل مع الآخرين، فالأقربون أولى بالمعروف، ويا ليتنا في كلام بعضنا مع بعض حول مشكلة ما نأخذ بهذه القاعدة، وهي قاعدة رائعة جميلة ذهبية، تُروى عن الشافعي رحمه الله حيث يقول: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"، لكن البعض - هداهم الله - يتعامل بقاعدة أخرى سلبية؛ وهي: رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب، ففرقٌ بين القاعدتين؛ فالأولى تحملك على التفاهم والتأمل والتأني، وأما الثانية، فهي تغلق عليك تلك الصفات الجميلة؛ فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((غارت أمكم))، هما كلمتان فقط، لكنهما أنهيا مشكلة بين بيتين من بيوت أزواجه عليه الصلاة والسلام، فما أجمل التفاهم والاعتذار، والتقبل والاعتراف، فلو كنا كذلك لزالت كثير من المشاكل الأسرية، وحصل الاطمئنان والسكون، فقد تفرقت أسرٌ بأسباب تافهة، من خلال أرشيف المحاكم، وجهات الإصلاح والمصلحين، وتم لمُّ الشمل بحمد الله تعالى لكثير منها عندما ساد الهدوء والتفاهم، وعرف كل منهم فضل الآخر، وعرفت مآلات الأمور في الأولاد والأحفاد، فاللهم لك الحمد كثيرًا على ذلك.

وإن مما يستحق الإشارة إليه في الجو الأسري أن نربي أنفسنا على ثقافة الحوار الجيد، وأيضًا على التغافل الإيجابي، وكذلك على التشجيع والتحفيز عند الإنجاز، وأيضًا على استدامة الدعاء بعضنا من بعض، وأيضًا ألَّا ننسى الفضل بيننا، وأن نعلم أن خيرنا هو خيرنا لأهله، وكذلك أن نقوم بتحميل أولادنا للمسؤوليات ليتعلموها، وأن يكون الشكر سائدًا بيننا أكثر من العتاب، مع استحداث جلسات تجمعنا، نتجاذب فيها أطراف الحديث، إن الاهتمام بهذه وأمثالها يبني الأسرة ويعززها، وأيضًا كذلك يزيل مشاكلها، ويجمع شملها، وقد تمثلت هذه الصفات في أسر، فنجحت وسعدت، وقد فقدتها بعض الأسر، فاختلفت، وربما فشلت، اللهم أجمع شملنا على الهدى والتقى، وأصلح نياتنا وذرياتنا، وبارك لنا وعلينا يا رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #22  
قديم 10-10-2022, 05:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (22)
الشيخ خالد بن علي الجريش




الحلقة الثانية والعشرون من برنامج: خاتم النبيين

بعض الأحداث بين أحد والخندق (2)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
فقد سبق معنا - إخواني الأكارم - في الحلقة الماضية ذكر بعض الأحداث التي حصلت بين غزوتي أُحُد والخندق، فقد ذكرنا يهود بني النضير وبني قريظة، وأيضًا غدرهم وكيف أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة، وذكرنا ما أفاءه الله على رسوله عليه الصلاة والسلام من سلاحهم وأموالهم، وذكرنا أيضًا غزوة دُومة الجندل، وغزوة بدر الآخرة، إلى غير ذلك مما سبق ذكره، ونحن في حلقتنا هذه بإذن الله نتابع ذكر تلك الأحداث، سواء كانت في بيت النبوة أم خارجها.

فمن ذلك قدوم وفد مُزَينة؛ ففي رجب من السنة الخامسة قدم وفد من مزينةَ، وعددهم أربعمائة رجل، فبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأمرهم بأمره، وأوضح لهم، وزودهم ببعض الطعام، وهذا الوفد هو أحد الوفود التي قدمت المدينة، فتُبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وذلك مما يغيظ المنافقين والكفار آنذاك؛ لأنه بإسلام مثل هذا الوفد ورجوعه إلى قومه سيسلم الكثيرون ممن وراءهم، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام، ومن نصره له، وتسديده إياه، ومن الأحداث أيضًا في تلك المرحلة غزوة بني المصطلق أو المُرَيْسِيع، والمريسيع هو موقع ماء لخزاعة، وهو الآن في وادي ستارة، تبعد عن المدينة قرابة مائتين وخمسين كيلومترًا إلى جهة مكة قريبًا من قديد، وكانت تلك الغزوة في الثاني من شهر شعبان من السنة الخامسة، وكان سببها أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق جمع قومه لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله عليه الصلاة والسلام بريدة بن الحصيب؛ ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وكأنه رجل من العرب يريد إعانتهم، فأتى إلى الحارث وكلَّمه فيما يريدونه، وعلِم خططهم ومآربهم وما هم عليه من خلال كلامه معه، فقال بريدة للحارث: دعني أذهب إلى قومي لكي أجمع منهم رجالًا، فسُرُّوا بذلك، ورجع هو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بخبرهم، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إليهم، فأسرعوا الخروج وكانوا سبعمائة مقاتل وثلاثين فرسة، وخرج معهم عدد كبير من المنافقين، ومعهم رأسهم عبدالله بن أبي بن سلول، وكان الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق قد أرسل عينًا له يأتيه بخبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلقيَهُ النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه، فسأله عنهم، فلم يذكر عنهم شيئًا، وكتم أخبارهم، فعرض النبي عليه الصلاة والسلام عليه الإسلام، فأبى أن يسلم، واتضح لهم أنه عين لبني المصطلق، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرَ بن الخطاب فضرب عنقه، فلما علم بذلك الحارث، ساءهم وَوَلَجَ في قلوبهم الرعب، وتفرق عنه مَن كان معه من غير قومه.

فوصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المريسيع، فأغار عليهم وهم غافلون، فقتل بعض مقاتلتهم، وسبى من ذراريهم، وكان منهم جويرية رضي الله عنها؛ [رواه البخاري]، ثم جُمعت الغنائم بعد ذلك، وغنموا من الإبل الشيء الكثير، فقد غنموا ألفين من الإبل، ومن الشاء خمسة آلاف شاة، ومن السبي والأسرى الشيء الكثير؛ لأنهم أتَوهم على غفلة، ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كله في موضعه الذي غنمه فيه، فأخرج الخمس، ثم قسم الباقي بين الناس، وفرق السبيَ، فصار بأيدي الرجال، وقسم الإبل والشياه، وكانت جويرية رضي الله عنها من السبي فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكانت أمًّا للمؤمنين؛ وهي بنت الحارث رئيس بني المصطلق.

وكان زواجه عليه الصلاة والسلام بها سببًا في إسلام الكثير من بني المصطلق، حتى أسلم أبوها الحارث بن ضرار، ثم خرج الحارث إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم كثير منهم، وبزواجه أيضًا عليه الصلاة والسلام من جويرية أعتق كثير من الرقيق؛ لأنهم صاروا أصهارًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها: ((ما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها))، وكانت جويرية رضي الله عنها عابدة ذاكرة، وهي التي كانت سببًا في ورود ذلك الذكر العظيم المضاعف الذي رواه مسلم في صحيحه؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن جويرية رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها؛ أي: في موضع صلاتها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال لها: ما زلتِ على الحال التي فارقتكِ عليها؟ قالت: نعم، أذكر الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلتُ بعدكِ أربع كلمات؛ ثلاث مرات، لو وُزنت بما قلتِ منذ اليوم، لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته))؛ [رواه مسلم].

فهذا ذكر عظيم جليل ينبغي لنا حفظه، والمحافظة عليه، وتحفيظه لأولادنا، ولم يُقتَل أحد من المسلمين في تلك الغزوة إلا رجل واحد، وهو هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار، وهو يظنه من العدو فقتله خطأ، فلما علم أخوه مقياس بن صبابة وهو في مكة، جاء إلى المدينة وأشهر إسلامه، ومكث أيامًا، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "أطلب دية أخي"، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفع دية أخيه، فأخذها، واستلمها، ثم بعد أن أقام أيامًا عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدًّا، والعياذ بالله، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه وإن كان متعلقًا بأستار الكعبة؛ فقُتل في فتح مكة.

وقد خرج في تلك الغزوة غزوة المريسيع عدد من المنافقين؛ ومنهم عبدالله بن أُبي، رئيس المنافقين، وقد خرجوا باسم الجهاد، ولكنهم يقصدون إثارة الفتنة بين المسلمين، وقد حدث حدثان عظيمان بسببهم:
الحدث الأول: إنه ازدحم رجلان؛ أحدهما من المهاجرين، والآخر من الأنصار، فاختلفا فكسع المهاجري الأنصاري؛ أي: ضربه، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوها؛ فإنها مُنتنة، لينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا؛ فإن كان ظالمًا، فلْيَنْهَهُ، فإنه له نصرة، وإن كان مظلومًا فلينصره))؛ [رواه مسلم]، وفي رواية قال: ((ما بال دعوى الجاهلية؟ فبلغ ذلك عبدالله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، فغضب، وعنده رهط من قومه، وفيهم زيد بن أرقم رضي الله عنه وأرضاه، وكان غلامًا يافعًا، فقال ابن أبي: أو قد فعلوها؟ يعني: المهاجرين جاؤوا إلى المدينة، وكاثرونا في ديارنا، والله ما أعُدُّنا وجلابيب قريش إلا كقول القائل: سمِّن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وقال أيضًا: لا تنفقوا على مَن عند رسول الله؛ حتى ينفضوا من حوله))؛ [أخرجه البخاري ومسلم].

فذهب زيد بن أرقم ذلك الغلام وكان حاضرًا معهم، فذكر ذلك لعمه سعد بن عبادة، فذكر سعد ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق ذلك المنافق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دَعْهُ؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي يسأله عن ذلك، فحلف أنه ما قال ذلك، واجتهد في يمينه، وقال هو ومن معه: كذب زيد، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد؛ أي مستنكرًا ذلك الخبر، فقال سعد: إنما أخبرنيه ذلك الغلام؛ يعني: زيدًا، فأخذ عبدالله بن أبي يزجر زيدًا على ذلك زجرًا شديدًا، يقول زيد: فأجهشت بالبكاء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت: والذي أنزل عليك النبوة، لقد قالها، يقول زيد: فأصابني همٌّ وغمٌّ لم يصبني مثله قط، وجلست وحيدًا، فلما حصل ذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرف الناس عن دعوى الجاهلية، وإلا تتسع دائرة المشكلة، فأمر بسير الجيش في ساعة لا يرتحل فيها عادة، فسأله أسيد بن الحضير عن هذا الارتحال على غير العادة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بمقالة ابن أبي، فقال أسيد رضي الله عنه: أنت يا رسول الله العزيز، وهو وحزبه الذليل، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به؛ فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لَينْظِمون له الخرز ليُتوِّجوه؛ فإنه يرى أنك قد سلبته ملكه.

ثم سار بهم النبي صلى الله عليه وسلم مسارًا طويلًا حتى تعبوا ثم ناموا، قال زيد: فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خفقت برأسي من الهم والغم، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك بأُذني، وضحك في وجهي، فما يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا، فلقيني أبو بكر، فقال: ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: ما قال شيئًا، وإنما ضحك في وجهي، وسررت لذلك، ولحقني عمر، وقال لي مثل ذلك، فقلت له مثل ذلك، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقون؛ وكان مما قرأ قوله تعالى: ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ﴾ [المنافقون: 7]؛ الآية، وقوله: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ﴾ [المنافقون: 8]؛ الآية.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد صدقك))؛ [رواه البخاري]، ثم أكملوا مسيرهم فنزلوا في مكان، فهبت عليهم ريح شديدة وتخوَّفوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تخافوها؛ هذه الريح لموت منافق))، قال جابر: فلما قدمنا المدينة، فإذا رفاعة بن زيد قد مات، وهو من عظماء اليهود، وكان كهفًا للمنافقين، وعندما علم عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول وهو أحد الصحابة الأجلاء، عندما علم ما قاله والده المنافق، أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي عبد الله بن أبي، فإن كنت فاعلًا، فمُرْني به، فإني أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمتِ الخزرج ما كان لها من رجل أبرَّ بوالده مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقِيَ معنا))، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من المريسيع، وقف الصحابي الجليل عبدالله بن عبدالله بن أبي على باب المدينة، فلما جاء أبوه أناخ ناقته عند بابها، وقال لأبيه: والله لا تجوز من هذا الباب، حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أذِن له فخلى سبيله، وكانت تلك الغزوة في اليوم الثاني من شهر شعبان، وقدموا المدينة في هلال رمضان.

إخواني الكرام، فيما سبق عرضه في تلك الحلقة دروس وعِبر، فلعلنا نتطرق لبعضها، ونستكمل حديثنا في الحلقة القادمة إن شاء الله؛ فمن الدروس ما يلي:
الدرس الأول: في هذه الغزوة ظهرت بركات متعددة لجويرية رضي الله عنها وأرضاها، وهي أم المؤمنين، وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كانت في السبي صارت من نصيب أحد الصحابة، فعرضت على سيدها المكاتبة، فكاتبها، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعينها، فأعانها، وتزوجها، فزواجه منها صار سببًا في عتق عدد من الصحابة لمماليكهم من بني المصطلق؛ حيث كانوا بعد هذا الزواج أصهارًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بركتها أنها بزواجها من الرسول عليه الصلاة والسلام أسلم أبوها، ومن بركتها أيضًا أنه بإسلام أبيها ذهب يدعو قومه فأسلموا، وأيضًا من بركتها رضي الله عنها أنها كانت سببًا في هذا الذكر المضاعف؛ وهو ((سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته))؛ والحديث مشهور في صحيح مسلم، فهو ذكر عظيم جليل ينبغي لنا حفظه والمحافظة عليه، وتحفيظه لأولادنا صغارًا وكبارًا، وأن ندل عليه كل من نحب، فهو يُقال في كل وقت، لكنه يتأكد في الصباح، وهو ذكر عظيم ويسير أيضًا؛ فهو لا يستغرق أكثر من ربع دقيقة، لكنه يحوي من الأجور أكثر من ملء الأرض والسماء، فحافظوا عليه يا رعاكم الله، فإنكم على خير عظيم، وأُعيده لأهميته: ((سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته؛ ثلاث مرات)).

الدرس الثاني: قد يكون أحيانًا ظاهرُ الأمر قتلًا وفتكًا، لكنه في باطنه الخير العظيم؛ فغزوة بني المصطلق كانت لقتال وجهاد الكفار، ولكنه حصل في تلك الغزوة خير عظيم، ويتمثل ذلك بإسلام الأسرى، وبركات جويرية رضي الله عنها، وإسلام الحارث زعيم بني المصطلق، وإسلام كثير من قومه لما دعاهم، فحصل هذا الخير العظيم، مع أن ظاهر الأمر لهم شرٌّ كبير، فعندما يحصل أمر قد نكرهه في حياتنا، فلننظر إلى النقطة الإيجابية فيه، وننطلق منها في التفاؤل وحسن الظن؛ فإن ذلك أشْرَحُ لصدورنا، وأكثر طمأنينة لنفوسنا، وأضيق لدائرة المشكلة، وأوسع في دائرة الحل، بينما لو تشاءمنا ولم نتفاءل، لانقلبت تلك الإيجابيات المذكورة إلى سلبيات، فتبدأ المشاكل بالاتساع والتكاثر.

الدرس الثالث: في تلك الغزوة عندما تشاجر المهاجري والأنصاري يُستفاد أن النفوس ليست معصومة من الخطأ، حتى ولو كانوا صحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولكنهم يرجعون سريعًا للحق رضي الله عنهم، ويُستفاد من تلك الحادثة تلكم القاعدة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي نهيه عن أمور الجاهلية؛ حيث قال: ((دعوها فإنها منتنة))، فهو نهي عن أعمال أهل الجاهلية وأسس المحبة والتعاون، والتكاتف والتفاهم، وحسن الظن، وغير ذلك من تعاليم الإسلام، فإذا أسلم الكافر أو اهتدى العاصي، فليترك ما كان عليه قبل ذلك من جاهلية، وليستبدلها بنور الإسلام وتعاليمه.

الدرس الرابع: على المسلمين أن ينصر بعضهم بعضًا، سواء كانوا ظالمين أو مظلومين، فنصرُ الظالم بإبعاده عن الظلم ونهيه عنه، ونصر المظلوم بأخذ حقه من الظالم، والمقياس في هذا كله هو الإسلام، وليس حظوظ النفس أو القرابة أو العشيرة ونحو ذلك؛ فالعدل هو الأساس، والله عز وجل يعلم الخفايا وما تخفيه الصدور، ونهيُ الظالم عن ظلمه هو حجز له عن عذاب الله، وحفاظ على حسناته وأعماله، وكم نحن بحاجة ماسة في واقعنا المعاصر إلى ذلك، سواء في البيع والشراء، أو في الغيبة والنميمة، أو في القضايا الزوجية، أو في التعاملات الأخرى، فيتعين علينا جميعًا أن نعدل في هذا، وننصف المظلوم من الظالم، وهذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك إذا طلب منك شهادة على شيء من الأشياء، فعليك بالعدل، واحذر الحيف، ولا يمنعك من العدل، حتى ولو كان صاحبك أو قريبك، بل ولو على نفسك؛ لأنك إن نجوت الآن، فأمامك الآخرة، وسيتضح فيها كل شيء، وستظهر فيها النتائج على حقيقتها، فكلما وقع سمعك أو نظرك على ظلم، فكن إيجابيًّا مع الظالم والمظلوم، وذلك بإحلال العدل بينهما؛ فالظلم يتنوع؛ فقد يكون بالأقوال، أو بالأعيان، أو بالأعراض، ويا ليت الظالم الذي يأخذ ما ليس له من مال أو عرض في الدنيا، يا ليته يعلم أنه سيرده يوم القيامة من حسناته، فوقفة تأمل مع تلك النقطة قد تُوقِظ القلب إلى الأبد، إن كان في القلب تقوى وخوف.

الدرس الخامس: تأمل بُعد النظر عند هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وتأمل أيضًا النظر في مآلات الأمور، كم نحن بحاجة ماسة لهذه الصفة العظيمة؛ وهي بُعْدُ النظر في تصرفاتنا وقراراتنا! فكان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لأحد الصحابة بقتل رئيس المنافقين، وينتهي أمره، ويدرأ شره، لكنه عليه الصلاة والسلام نظر إلى أمر بعيد، وهو قوله: ((لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))، فإن هذا قد يرد بعض الناس عن الإسلام، وكذلك قد تقوم فتنة بذلك؛ ولذلك احتمل أدنى المفسدتين بدفع أعلاهما، فكذلك نحن في تربيتنا لأولادنا وتصرفاتنا وتعاملنا مع الآخرين لا بد أن يكون ذلك مدروسًا ومنظورًا فيه عواقب الأمور؛ ففي الطلاق والهجر، والكلام السيئ، والظنون القبيحة آثار سلبية كبيرة، فلندرأها ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا.

الدرس السادس: في موقف عبدالله بن عبدالله بن أُبيٍّ رضي الله عنه عندما أراد أبوه دخول المدينة فقال: "لا تتجاوز حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم"، في هذا الموقف العظيم تقديم أمر الرسول عليه الصلاة والسلام على أمر الوالدين، مع أنه كان بارًّا بأبيه أشد البر، ومع ذلك قال له: "لا تدخل المدينة حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فمهما كانت محبة الوالدين أو البر بهما، فلا يُقدَّمان على أمر الله ورسوله، وفي ذلك قوة إيمان بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، مع عِظم حق الوالدين، ووجوب البر بهما، فإن تلك المحبة وذلك البر إذا تعارض مع أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يُنظر إليه، بل ليس برًّا.

الدرس السابع: يظهر في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن أُبيِّ بن سلول، الخلق الحسن في التعامل حتى ولو كان الآخر فيه عداوة؛ فالخلق الحسن مفتاح لكل خير، وجالب لكل برٍّ، وهذا يرسم لنا منهجًا في التعامل الأمثل فيما بيننا في كلامنا وتصرفاتنا أن تكون مدروسة، ويُراعَى فيها نفوس الآخرين؛ فالخلق الحسن والتعامل الأمثل هو دعوة إلى الدين، وموضع قدوة للآخرين، فإذا رآك أحد على خلق حسن أحبك وارتاح إليك، واقتدى بك، فنِلْتَ مثل أجره، فاحرص على اقتناص ذلك الخلق الحسن من خلال تصرفات الآخرين، فما كان من حسن فخُذْهُ، واحرص عليه، وما كان من سيئ، فاتركه وابتعد عنه، وبذلك تجتمع فيك المحاسن، وتزول عنك المساوئ، فهذه قاعدة عظيمة في حسن الأخلاق، وذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، اللهم أصلحنا وأصلح لنا، وأصلح بنا، واغفر لنا، وارحمنا ووالدينا والمسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #23  
قديم 27-10-2022, 09:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (23)
الشيخ خالد بن علي الجريش




الحلقة الثالثة والعشرون من برنامج خاتم المرسلين

حادثة الإفك


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فمرحبًا بكم أيها المستمعون والمستمعات الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، فقد تعرضنا مستمعي الأكارم في الحلقة الماضية إلى غزوة بني المصطلق وهي المريسيع، وذكرنا وفودَ وفدٍ من مُزينة على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا شيئًا من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وكذلك ذكرنا الخير العظيم الذي كان في تلك الغزوة، وأيضًا ذكرنا فضائل جويرية رضي الله عنها على قومها، بل على الأمة جمعاء!

وذكرنا شيئًا من أحداث المنافقين في تلك الغزوة، ويتواصل الحديث في تلك الحلقة عن حدث في آخر غزوة المريسيع، وهو حادثة الإفك التاريخية التي كانت أعظم فتنة حاكها المنافقون، وقد استباح عبدالله بن أبي ابن سلول لنفسه أن يرمي الطاهرة المطهرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بالفحشاء، وهذه الحادثة أخرجها البخاري في صحيحه؛ حيث ترويها عائشة رضي الله عنها، فتقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الخروج أقرع بين نسائه؛ أي جعل بينهن قرعة، فمن خرج سهمها خرجت معه، فلما كان غزوة بني المصطلق، فعل كما كان يفعل، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نزل وجوب الحجاب، فكنت أُحمل في الهودج وانزل فيه، حتى إذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من غزوته، رجعنا إلى المدينة فنزلنا وبتنا بعض الليل قرب المدينة، فلما أذنوا بالرحيل، ذهبت لقضاء حاجتي، فلما قضيت حاجتي ورجعت، فلمست صدري فلم أجد عقدي، فرجعت أطلبه وألتمسه، فلما رجعت فإذا الجيش قد حملوا هودجي، وظنوا أني فيه، فحملوه على بعيري، وكنت خفيفة اللحم إذ ذاك، فبعثوا الجمل وسار الجيش، ووجدت عقدي بعد مسيرهم، فجئت إلى مكانهم فلم أجدهم، فمكثت في مكاني لأجل أنهم إذا فقدوني رجعوا إليه، فبينما أنا جالسة ومتحجبة بجلبابي، فنمت وكان صفوان بن معطل السلمي رضي الله عنه من وراء الجيش، فرأى سواد إنسان، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان قد رآني قبل وجوب الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي، فوالله ما سمعت منه كلمة غير الاسترجاع، فأناخ راحلته فركبتها، فسار حتى أتينا الجيش وهم نازلون في طريقهم، فلما رأى الناس ذلك قالوا ما قالوا من السوء، وهلك من هلك، وقد تولى الإفك عبدالله بن أبي ابن سلول، ثم قدمنا المدينة والناس يتحدثون بالإفك ولم أشعر به، وكنت مشتكية من المرض بعد قدوم إلى المدينة، فلما زال عني بعض مرضي خرجت أنا وأم مسطح لبعض الحاجة، فلما رجعنا إلى بيتي، قالت أم مسطح: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلًا شهد بدرًا? فقالت: أو لم تسمعي ما قال، قلت: وما قال? فأخبرتني بقول أهل الإفك، فرجع إليَّ مرضي، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فسأل عن الحال، فقال: كيف تيكم? فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي، فأذن لي وأنا أريد أن استوثق الخبر منهما، فقالت عائشة رضي الله عنها لأمها: بماذا يتحدث الناس? فأخبرتها، قالت أمها: ويا بنية هوِّني عليك من الأمر، فقلت: وهل علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي? قالت نعم، فبكيت حتى سمعني أبي، فقال: ما شأنها? فذكرت له حادثة الإفك، فقال أقسمت عليك يا بنية أن ترجعي إلى بيتك فرجعت؛ رواه البخاري.

وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة فبرَّؤوها، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين، مَن يعذِرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه وكان سعد سيد الأوس، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا ذلك، قالت عائشة: فمكثت أبكي يومًا وليلتين ولا أكتحل بنوم، مما أصابني من الهم والغم وكان عندي أبواي، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبث شهرًا لا يوحى إليه شيء في شأني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرِّئك الله، وإن كنت ألممتِ بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله، تاب الله عليه، فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما عندي ما أجيب به رسول الله عليه الصلاة والسلام. وقلت لأمي أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما أدري ما أقول لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فقلت: والله لقد علمت ما سمعت، واني والله إن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة، فإنكم لا تصدقوني، وإن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة، فإنكم مصدقي، ولكن لا أقول إلا كما قال يعقوب: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]، ثم تحولت واضطجعت على فراشي، وكنت أرجو أن يوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء في هذا، فوالله ما خرج أحد من البيت حتى بدأ الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفناه. فإنه ليتحدَّر منه العرق ونحن في يوم شاتي، وذلك من ثقل القول عليه، فأما أنا فعلمت أنها براءتي.

وأما أبواي فأخذهما الغم والهم خشيةَ أن يكون صدق الناس فيما قالوا، فلما سُري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يضحك ويقول: يا عائشة، أما الله عز وجل فقد برأك، فحمدت الله عز وجل، فأنزل الله تبارك وتعالى قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 11 - 20]، فلما نزلت البراءة خرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس في المسجد، ثم تلا تلك الآيات، ثم أمر برجلين وامرأة - وهما مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش - فضُربوا ثمانين حدَّ القذف.

ثم اعتذر حسان من عائشة رضي الله عنها ومدحها بأبيات من الشعر في طهارتها وعفافها، وفي أثناء الإفك سأل النبي صلى الله عليه وسلم زوجته زينب بنت جحش عما سمعت أو رأت من الحال، فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عنها إلا خيرًا، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق على مسطح بن أثاثة؛ حيث كان ابن خالته، فلما نزلت براءة عائشة، أمسك أبو بكر تلك النفقة ردةَ فعل لما اتَّهم عائشة، فأنزل الله تعالى قوله ) ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى والله أحب أن يغفر الله لي، فأرجع على مسطح النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، وقد قيل: إن آية التيمم نزلت في تلك الغزوة، وقال آخرون: إنها في موقف آخر، ولعله هو الراجح كما ذكره ابن القيم وغيره، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله فوائد عظيمة مما اشتملت عليه حادثة الإفك، فقد ذكر سبعين فائدة، وأذكر منها في هذا المقام عشرًا وهي كما يلي:
أولًا: مشروعية القرعة حين الاختلاف، فقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم القرعة بين نسائه حينما أراد أن يخرج بإحداهن.

ثانيًا: وجوب تغطية المرأة وجهها عن الرجال الذين ليسوا من محارمها، فقد احتجبت عائشة رضي الله عن صفوان رضي الله عنه.

ثالثًا: مشروعية رد عرض المسلم كما ذكرت زينب وأبو أيوب وغيرهما؛ حيث قالوا لا نعلم إلا خيرًا.

رابعًا: مشروعية التسبيح عندما يسمع المسلم شيئًا كذبًا، فيقول: سبحان الله.

خامسًا عدم خروج المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها.

سادسًا: فيه تثبت أبي بكر في الموقف، فلم يلفظ بكلمة واحدة حميَّة، فهو ينتظر الحقيقة من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال أبو بكر: ما قيل عنا هذا في الجاهلية، فكيف يقال عنا بعد أن أعزنا الله بالإسلام؟

سابعًا: فيه الحث على البشارة لمن تجدَّدت له نعمة أو اندفعت عنه نقمة، والمسارعة بها؛ لأنها سرور على مسلم، وهو عمل صالح.

ثامنًا: فيه أن الشدة كلما زادت فإن الفرج قريب.

تاسعًا: فيه الحث على العفو والصفح كما حصل من أبي بكر لمسطح.

عاشرًا: فيه مساعدة من حصل له بلية أن يشاركه شعوره مع محاولة تأنيسه والتوسعة عليه، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى تلك الفوائد السبعين كلها في كتابه فتح الباري في الجزء التاسع منه، وهكذا وبعد شهر من حصول هذه التهمة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، تقشعت سُحب الشك والارتياب والاضطراب، وافتُضح رأس المنافقين ومن شاكلهم بنزول تلك الآيات العظيمة التي تتلى إلى يوم القيامة.

أيها المستمعون الكرام، نختم حلقتنا تلك ببعض الدروس والعبر من تلك الحادثة، على أننا سنكمل بإذن الله عز وجل الكلام عن السيرة في الحلقة القادمة بذكر غزوة الخندق بإذن الله تبارك وتعالى، فمن دروس حادثة الإفك ما يلي:
الأول: بيان الحكمة الإلهية العظيمة في حصول تلك الأحداث ولو كانت سيئة على أصحابها؛ ليحصل من خلالها حكمٌ عظيمة يطول ذكرها، لكن منها التشريعات الفقهية المستفادة مما يحصل، بحيث يكون تشريعًا للعباد، وتكون تلك الأحداث أيضًا بيانًا للمخلص من غيره، وتكون تكفيرًا لمن قدرت عليه تلك الأحداث، ويرتفع بها أقوام، وينخفض بها آخرون حسب الواقع الذي يعيشونه، وهذه الأحداث بأفراحها وأتراحها، فإن للمؤمن منها موقفًا شرعيًّا يجب عليه التمسك به، وهو الصبر عند الأتراح مع الحمد والتسليم، وكذلك الشكر عند الأفراح مع الثناء على الله عز وجل، وإمساك اللسان عن حوادث الفتن، ولا يقول ما لا يعلم، وليستحضر أنه مسؤول عن كل كلمة أو فعل يصدُر منه، فهو مسؤول عنه في الدنيا والآخرة، وليتأمل ماذا يترتب على ذلك، وليكن بعيدَ النظر، والسلامة لا يعدلها شيء؛ فاجعل موقفك إيجابيًّا في أفراحك وأتراحك، فالشكر والحمد والثناء والامتثال عند حصول أفراحك، وكذلك استرجاعك وحمدك وصبرك وتسليمك الأمر لله عند حصول أتراحك، وبهذا تكون صابرًا شاكرًا، وحينها ينطبق عليك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمر المؤمن كله له خير، إن أصابته سراءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن).

فاستحضِر هذا جيدًا عند حصول ذلك، وأتْبِع العلم بالعمل.

الدرس الثاني: في ذهاب عائشة رضي الله عنها لالتماس عقدها لم يعلموا عنها، ولذلك حملوا الهودج ظنًّا منهم أنها فيه، فهي لم تخبرهم، وهذا يعطينا أدبا من الآداب في الرحلات والسفريات ونحوهما، أنه إذا أراد أحدنا أمرًا من الأمور كقضاء حاجة أو شراء شيء ما، أو نحو ذلك - أن يخبر رُفقته عن ذلك، خصوصًا إذا كان قرب الرحيل من المكان؛ حتى لا يحصل ما لا تُحمد عقباه، فعائشة رضي الله عنها لم تخبرهم ولو أخبرتهم لانتظروها، ولكن لَما لم يعلموا ساروا على أنها معهم، فلنعلِّم صغارنا وأولادنا ذلك الأدب حتى لا يحصل ما لا يُحمد.

الدرس الثالث: في قول عائشة رضي الله عنها عن صفوان رضي الله عنه وقد رآني قبل نزول الحجاب، فيه دلالة صريحة صحيحة على وجوب الحجاب للمرأة بأن تغطي وجهها وسائر بدنها عن غير محارمها، أما المحارم فيكشف لهم الوجه والقدمان والرأس ونحو ذلك، والله عز وجل يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ﴾ [الأحزاب: 59]، ويقول الله تبارك: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 31]، فالخمار على الرأس ويضرب على الجيب، فيغطي الوجه، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ﴾ [الأحزاب: 53]، وتقول عائشة رضي الله عنها حين الإحرام إذا حاذانا الرجال أسدلت إحدانا جلبابها، وإذا جاوزونا كشفناه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الخاطب أن ينظر إلى مخطوبته، كل هذه الأدلة وما في معناها تدل على وجوب حجاب المرأة عن الرجال غير المحارم، وهو أكثر صيانة لها، وأيضًا هو عبادة تتعبد بها وتؤجر عليها، وهو أبعد عن الفتنة وأقرب إلى الطهر والتزكية، فصفوان رضي الله عنه قد رأى عائشة قبل نزول آيات الحجاب، وفي آيات الحجاب جاء القرآن موافقًا لرأي عمر رضي الله عنه؛ حيث قال عمر للنبي عليه الصلاة والسلام: لو احتجبت نساؤك يا رسول الله، فنزل القرآن موافقًا لرأي عمر، فعلينا تربية بناتنا على ذلك، فهو أكثر مروءة وطهرًا وعفافًا وتزكية للنفس، وبُعدًا عن مواطن الفتنة.

الدرس الرابع: في قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها عندما سألها عن الحقيقة في تلك الحادثة قال: إن كنت ألممتِ بذنبٍ، فاستغفري الله وتوبي إليه، يستفاد من ذلك أن العبد المسلم إذا فعل ذنبًا أو قصر في عبادة، فعليه بالاستغفار، وهذا الاستغفار هو نعمة من الله تبارك وتعالى على عباده؛ حيث يغفر ذنوبهم باستغفارهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار في يومه وليلته، وربما استغفر سبعين مرة في المجلس الواحد، فهو الأسوة والقدوة لنا جميعًا، فما منهجيتنا مع الاستغفار? لعلك أخي المستمع الكريم تضع لك منهجية في الاستغفار فتربطه بأوقات الصلاة، أو بساعات اليوم، أو في أوقات فراغك وذَهابك وإيابك، أو كما تراه مناسبًا، فكن مكثرًا من الاستغفار في يومك وليلتك، لتحصل لك طوبى، ففي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: طوبى لمن وجَد في صحيفته استغفارًا كثيرًا، والاستغفار علاج لكثير من المشاكل المعنوية والحسية، وسبب لحصول كثير من البركات العامة والخاصة.

الدرس الخامس: في حادثة الإفك درس عظيم في التثبت في مجريات الأخبار، وعدم الشهادة بشيء لم يتضح، فالأعراض مصونة والأنفس محترمة، والألسن محاسبة عما تقول، ولا تقل شيئًا لا تعلمه؛ لأن فلانًا قال به، فعليه حسابه وعليك حسابك، فالخصوم ستجتمع عند الله تبارك وتعالى يحكم بينهم، فالإشاعات يجب ألا تنطلي على العاقل الحصيف، فإنه يصطحب الأصل حتى يحصل خلافه، فإن كان أحدٌ ألَمَّ بشيء من ذلك على أحد، فليتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، وإنما هي الحسنات والسيئات، ومن أهم الأشياء ما يعرف بالشهادة من دون علم، كشهادة الزور ونحوها، وذلك مقابل مال حقير سيذهب ويتركه لغيره، وليستحضر المتحدث والمتصرف بهذه الأشياء أهوال يوم القيامة والحساب وما فيه، فإن ذلك حاجز له عن السوء بالآخرين، ومبرئٌ لذمته بإذن الله عز وجل بأن يكون صادقًا أمينًا في قوله وفعله.

الدرس السادس: قاعدة عظيمة في تربية اللسان على الخير وتحصينه عن الشر، وهي تتمثل في قول زينب بنت جحش رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، عندما سألها عن الإفك، قالت رضي الله عنها: أحمي سمعي وبصري، ما علمت عنها إلا خيرًا، فعلى المسلم أن يحفظ جوارحه عن التُّهَم بالآخرين، فهو أذكى له وأطهر، ولا يقول: سمعت ورأيت إلا إذا كان سمع ورأى حقائقَ، أما سماع الإشاعة والظنون ورؤيتها، فهذا يترفع عنه العاقل الحصيف في مقام الشهادة والحكم، ومجالس الناس؛ لأنه قد يُبنى عليها أحكام وظنون وزيادات كلها ملفقة على مسلم هو منها براء، فلينتبه لهذا.

الدرس السابع: في موقف أبي بكر في إرجاع النفقة لمسطح؛ حيث إن مسطحًا كان من المتهمين لعائشة، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه، ثم منع النفقة فلما سمع قول الله تعالى: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [النور: 22]، عفا عنه وصفح، وأرجع النفقة إليه، وهكذا النفوس الزكية الطاهرة تتطلع لواسع فضل الله تعالى ومغفرته، مع أن أبا بكر رضي الله عنه تجرع مرارة الإفك، ولكن أمر الله تعالى ومغفرته أعظم، بل قال: لا أنزعها عنه أبدًا، فلنكن كذلك إذا أخطأ علينا أحد وجاء يطلب العفو، فلنعلم أن الجزاء من جنس العمل، فعفو الله عز وجل أعظم وأجل، ولنا بالصحب الكرام أسوة وقدوة، ولا نكن حريصين على أخذ حقوقنا من حسنات الآخرين يوم القيامة، بل إذا عفونا فإنما يأتينا من فضل الله تعالى ما هو أعظم من ذلك، حيث يقول الله تعالى: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40]، والله عز وجل يعطي بغير حساب اللهم ارزقنا قلوبًا سليمة والسنة صادقة، وبارك لنا في أعمارنا وأعمالنا، وأصلح لنا نياتنا وذرياتنا، ووفِّقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #24  
قديم 27-10-2022, 10:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (24)
الشيخ خالد بن علي الجريش




الحلقة الرابعة والعشرون من برنامج خاتم المرسلين

غزوة الخندق


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فمرحبًا بكم أيها المستمعون والمستمعات الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، وقد تعرضنا مستمعي الأكارم في الحلقة الماضية إلى حادثة الإفك التي أشاعها المنافقون، وهي في غزوة بني المصطلق، وكيف نزل القرآن مبينًا الحق من الباطل، وكيف كان ذلك خيرًا لبيت النبوة? وذكرنا الدروس المستفادة من تلك الواقعة العظيمة، ونستأنف في هذه الحلقة غزوة الخندق التي صاحبتها المخاوف والظروف من كل جهة، وضاقت على المؤمنين، ولكن الله عز وجل أعانهم بنصره وتأييده، وقد حدثت هذه الغزوة في السنة الخامسة من الهجرة، وتسمى أيضًا غزوة الأحزاب، فسُميت بالخندق لأجل الخندق الذي حُفر الذي أشار إليه سلمان الفارسي رضي الله عنه، وأمَر به النبي صلى الله عليه وسلم، وسُميت أيضًا بالأحزاب؛ لأن طوائف المشركين تحزَّبوا على المسلمين كغَطَفان وقريش واليهود وغيرهم، وسبب تلك الغزوة أن نفرًا من كبار اليهود من بني النضير الذين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر، ومنهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع وغيرهم، خرج هؤلاء إلى مكة واجتمعوا بأشراف قريش، وحرَّضوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فوعدوهم أولئك من أنفسهم الإعانة والنصرة، ثم خرج هؤلاء النفر من اليهود إلى بقية قبائل اليهود، فاستجابوا لدعوتهم، فحصلت تلك الغزوة وهي غزوة الخندق، وقد خرجت قريش بعد أن تشاوروا في دار الأرقم، وعقدوا اللواء فيه، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس وألفًا وخمسمائة بعير، وخرجوا يقودهم أبو سفيان، وكان في طريقهم بنو سليم، فخرجوا معهم وهم سبعمائة رجل، وأيضًا خرج معهم أيضًا بنو فزارة وهم ألف رجل، وكذلك خرج معهم بنو مرة وهم أربعمائة رجل، وخرج معهم أيضًا أشجع وهم أربعمائة رجل، وخرج معهم أيضًا آخرون، فكان جميع من خرج يصل إلى عشرة آلاف مقاتل، فاتجه هؤلاء جميعًا نحو المدينة على ميعاد تعاهدوا عليه مع قبائل اليهود هناك، وقبل خروج الأحزاب من مكة، قدم ركب من خزاعة إلى المدينة، وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الأحزاب وخروجهم، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم، واستشارهم في ذلك، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، وقال: كنا بفارس إذا حصرنا خندقنا علينا، فأعجب بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بحفر الخندق، وكانت المدينة محاطة من كل نواحيها إلا الناحية الشمالية، فحفر الخندق منها، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم لكل عشرة رجال أربعين ذراعًا يحفروه، وشرع المسلمون في حفر الخندق في جو بارد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشاركهم في ذلك، ويحمل التراب بنفسه عليه الصلاة والسلام، وقد رأى ما بهم من الجوع والتعب، فقال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة، فقالوا هم: نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا؛ متفق عليه. وواصل المسلمون حفرهم للخندق، فهم يحفرون طول النهار، ثم يعودون في ليلهم إلى أهليهم ليرتاحوا ويطعموا.

وقد ربطوا على بطونهم الحجارة من الجوع، وأما المنافقون فكانوا يتأخرون في العمل ويثبِّطون عزائم المسلمين، ويتسللون عن العمل بلا إذنٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذهبون إلى أهليهم، وفي هذه الغزوة حصلت معجزات عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن هذه المعجزات ما رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كنا نحفر الخندق، فعرضت لنا كدية؛ أي حجر كبير، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم عجزوا عنه، فقال عليه الصلاة والسلام: إني نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب الحجر على ضخامته، فما كان من الحجر إلا أن كان كثيبًا؛ أي رملًا لينًا، فحفروه، فسبحان من قدرته عمَّت كل شيء.

والمعجزة الثانية تكثير الطعام، ففي البخاري ومسلم أن جابرًا رضي الله عنه لما حفر الخندق، قال: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جوعًا شديدًا، فذهبت إلى امرأتي، فقلت: هل عندك شيء? فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم جوعًا شديدًا، فأخرجت قليلًا من الشعير ولنا بهيمة صغيرة، فذبحتها ثم وضعناها في البرمة، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وساررته، فقلت: يا رسول الله، لقد صنعت طعامًا قليلًا، فتعالَ أنت ونفر قليل معك، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الخندق جميعًا، وقال: يا أهل الخندق، إن جابرًا قد صنع سؤرًا؛ أي: طعامًا، فحيَّ هلًا بكم، وكان عددهم ألف رجل، فقال جابر: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تُنزلنَّ برمتكم، ولا تَخبزن عجينكم حتى أجيء، قال جابر: فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الخندق وكان عددهم ألف رجل، فقلت لامرأتي في ذلك، فعاتبتني وقالت بك وبك، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فبصق في العجين وفي البرمة، وبارك فزاد الطعام حتى فاض.

قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى شبعوا وتركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط باللحم والخبز، فهذا شيء من معجزاته عليه الصلاة والسلام يقرأها المسلم، فيزداد ثباتًا وإيمانًا ويقينًا.

واستمروا على حفر الخندق مدة اختلف فيها أهل السير، فبعضهم قال ستة أيام وبعضهم قال أكثر من ذلك، وبعضهم قال: إن الخندق استغرق شهرًا لحفره.

ويجمع بين تلك الروايات بأن بعض المجموعات فرغت بستة أيام من نصيبها، وأخرى استمرت إلى شهر، وتكامل حفر الخندق قبل وصول جيش المشركين إلى المدينة، وبعد حفر الخندق وصل جيش المشركين الذي يصل تعداده إلى عشرة آلاف مقاتل، فنزل بعضهم وهم أربعة آلاف في أعلى المدينة، ونزل ستة آلاف في أسفلها إلى جهة أحد، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ﴾ [الأحزاب: 10].

وخرج إليهم المسلمون بجيش تعداده ثلاثة آلاف مقاتل، فمكثوا قرب جبل سلع، وجعلوا وجوههم إلى العدو والخندق بينهم وبين عدوِّهم، فضربت للنبي صلى الله عليه وسلم قبة، وكان على حراستها عدد من الأنصار، وقدم المشركون بجيشهم ورآهم المؤمنون، فقال الله تعالى عن ذلك: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22] ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22]، ولما رأى المشركون الخندق دهشوا وتعجبوا، وقالوا: إن هذا ليس معروفًا عند العرب، فأخذوا يتجولون عند الخندق ليدخلوا فعجزوا، والصحابة رضي الله عنهم يقذفونهم بالنبل، وأقاموا على ذلك بضعًا وعشرين ليلة لم يحصل حرب إلا الضرب بالنبل، وفي هذه الأثناء أمر أبو سفيان وهو زعيم المشركين حيي بن أخطب أن يذهب إلى زعيم بني قريظة وهو كعب بن أسد، ليأمره بنقض العهد مع محمد، فأبى عليه كعب إضافته وأبى عليه النقض، فَأَلَحَّ عليه حيي حتى تكلم معه، فذكر له نقض العهد مع وانضمامه إلى جيش الأحزاب، فقال زعيم بني قريظة: ما أنا بناقض العهد مع محمد، فلم أجد منه إلا وفاءً وصدقًا وعدلًا، فما زال به يُلح عليه ويعرض عليه المغريات حتى نقض العهد بنو قريظة، ودخلوا مع المشركين، فلما بلغ ذلك الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الزبير بن العوام ليتأكد من الخبر، فجاءه بخبرهم وأنهم نقضوا العهد، وكان حصل للمسلمين في تلك الغزوة موقف عصيب وشديد؛ حيث تكالبت عليهم الأحزاب من كل جهة مع خوف شديد وجوع كذلك، وأجواء باردة شديدة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11].

فالموقف عصيب وشديد، ويزيد ذلك شدةً أن المنافقين من الداخل يخلخلون الصف قائلين: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا، وبعضهم يشجع على الفرار، فمنهم من يستأذن ومنهم من لا يستأذن مع عهودهم السابقة ألا يرجعوا.

ومما زاد الخوف شدةً نقض بني قريظة للعهد، فقد خاف المسلمون على المدينة من هذا النقض الذي حصل في هذا الموقف العصيب، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجيش ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة من بني قريظة أن يُغيروا عليهم، ولكن مع تلك الشدة العصيبة والموقف الشديد كان المسلمون موقنين بأن الأمر بيد الله، وأنه سينصرهم ويفرِّج كربهم ويعينهم، ولهذا قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يبشِّرهم بقوله: والذي نفسي بيده، ليفرجنَّ عنكم ما ترونه من الشدة، واني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنًا، وأن يدفع الله إليَّ مفاتيح كسرى وقيصر، ولتُنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله، فيا تُرى ما الذي حصل بعد تلك الشدة العصيبة والمواقف الشديدة والخوف، والجوع والبرد وقلة عدد المسلمين، وكثرة عدد المشركين، وتكالُب المشركين على المسلمين من كل جانب، ما الذي حصل بعد هذا? هذا ما سنعرفه إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة، ونختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعبر مما سبق عرضه، فمن ذلك ما يلي:
الدرس الأول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق يشاركهم في إعداده وحفره، فلم يكن موقفه موقف المتفرج، وإنما كأنه واحد منهم، فهو بذلك يشجعهم ويحفزهم، ويكون مكان القدوة لهم، فما أحوجنا في أوامرنا لأولادنا أو لغيرهم أن نكون ممتثلين لما نأمرهم به، ويرونه عيانًا فينا؛ ليتشجعوا على التنفيذ، فإن من أهم العوامل في التربية الأسرية هو التربية بالقدوة، وهي ترجمة الأقوال والتوجيهات إلى واقع أسري إيجابي يراه الأولاد، فيقتدون، وهو وقاية وعلاج في آن واحد، لذا أعتب على بعض أحبابنا من الآباء والأمهات والمربين الذين يأمرون مَن تحت أيديهم بعمل حسن، ثم يرى هؤلاء المتربون عملًا مخالفًا، فإن التربية حينئذ تكون هزيلة وضعيفة، وذلك كمن ينهى عن الكذب ويسمعونه يكذب، أو ينهى عن السب ويسمعونه يسب، ونحو ذلك من الأقوال والأفعال، فالنبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق عندما أمرهم ووجَّههم، وبدؤوا العمل، وكان عليه الصلاة والسلام واحدًا منهم، والبعض من الآباء وهو موضع القدوة، قد يعمل عملًا مشينًا أمام الأبناء كالتدخين وسماع ما لا يحل سماعه، أو يتحدث مع أحد بكلام سيئ، فهؤلاء سيقتدون به؛ لأنه أمامهم موضع القدوة، فلينتبه لذلك وُفِّقتم وبوركتم.

الدرس الثاني: إن النتائج الطيبة والمخرجات المتميزة تحتاج إلى الجهود الجبارة والتعب وتحمُّل المشاق بعد توفيق الله تعالى، أما من يطلب ذلك بدون جهود تُذكَر، فهو في الغالب قد لا يتحصل عليها، فالصحابة رضي الله عنهم بذلوا جهودًا عظيمة في حفر الخندق، فحماهم الله عز وجل، فشبابنا وأولادنا الكرام الأفاضل يتطلعون إلى معالي الأمور في دينهم ودنياهم، ولكن نَهمس في أذانهم بأن هذا يحتاج منكم وفَّقكم الله إلى جهدٍ وصبرٍ، وعدم استعجال، ويحتاج أيضًا إلى نظر في العواقب، وتخطيط واهتمام وتفاؤل، أما من يريد تلك المعالي وهو لم يقدِّم ما يوازيها، فقد لا يحصل له ذلك، فالبداية المحرقة تكون لها بإذن الله تعالى النهاية المشرقة، وعلى الآباء والأمهات الكرام تثقيف أولادهم في ذلك مما مارسه الوالدان في سابق عملهم، وأيضًا مما اكتسبوه من معرفتهم وتجاربهم.

الدرس الثالث: في هذه الغزوة حدث عددٌ من المعجزات لنبينا عليه الصلاة والسلام، وهذه المعجزات هي من دلائل النبوة وأدلتها، وإذا قرأها المسلم زاده إيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أسلفنا في ثنايا تلك الحلقة بذكر بعض المعجزات؛ كزيادة الطعام، وقصة الحجر في الخندق وغير ذلك، فعلى المسلم أن يكون له اطلاع على تلك المعجزات، فإذا علمها وتأمَّلها زاد إيمانه، والعلم بها من أسباب الثبات على دين الله؛ لأنها خارقة للعادة، وهي أدلة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكم هو جميل أن يطلع عليها الأولاد ليقوى إيمانُهم? وهي أسلوب قصصي مرغوب، وفيها مظاهر عديدة من مظاهر قدرة الله تبارك وتعالى؛ حيث أجرى تلك الخوارق على يد نبيه صلى الله عليه وسلم نصرًا له وتأييدًا وتسديدًا.

الدرس الرابع: يظهر من خلال تلك الغزوة قوة إيمان الصحابة رضي الله عنهم؛ حيث أَلَمَّت بهم المخاوف من كل وجه، فالتحزب من المشركين واليهود، وأيضًا كثرة العدد في العدو، وأيضًا قلة المعيشة، وكذلك الأجواء الباردة، وكذلك نقض بني قريظة للعهد، وأيضًا إتيان المشركين للمسلمين من فوقهم ومن أسفل منهم، فالوضع حرج جدًّا، ولكن هذه المخاوف والمظاهر هي ضئيلة مقابل ما امتلأت به قلوب المسلمين من الإيمان، وحب الله تعالى ورسوله، واستشعارهم أن الله عز وجل معهم ينصرهم ويسدِّدهم، وييسِّر أمورهم، ولذلك ما زادهم هذا إلا إيمانًا وتسليمًا، وهكذا المؤمن الحق إذا حصل له مخاوف، فيتجه إلى تعالى ويكثر من ذكره وعبادته، ويعلم أن الله عز وجل معه، ويستشعر ذلك ويتفاءل، فتنقلب تلك المخاوف إلى أقل درجاتها، ولربما تزول هذه المخاوف، وهذا الاستشعار وذلك التفاؤل يعطي العقل الباطن إيجابية وتحفيزًا واطمئنانًا وَسَعة، وذلك بخلاف من اشغل عقله وفكره بالتشاؤم، فهو قد ملأ داخله بالرسائل السلبية التي لا منتهى لها، فإذا حصل لك موقف تكرهه فلا تستدرج معه، بل انظر النقطة الإيجابية فيه، وانطلق منها بالتفاؤل، فسيخف كثيرًا، ولا فرق بين التفاؤل والتشاؤم من حيث العمل، إلا ما يقع في العقل من التأمل، فاجعله إيجابيًّا لا سلبيًّا، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم حصل لهم تلك المواقف الحرجة، فانطلقوا بالتفاؤل مبتدئين بمعيَّة الله تعالى لهم، وأنه لن يتخلى عنهم، ومسترشدين بتوجيه هذا النبي الكريم لهم.

إن التفاؤل مسكن فعَّال لكثير من المشاكل الحاضرة والمستقبلية، فإذا صحبه الدعاء كان أكثر فاعلية، فلنتعلم أيها المستمعون الكرام خلقَ التفاعل من خلال مواقفنا، كيف لا? والله عز وجل يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، فأوكِل الأمر إلى الله تعالى، وقل: لعله خير لا أعلمه، فستطمئن وترتاح، وتسكن نفس عن الأفكار السلبية.

الدرس الخامس: إن الحق ما شهدت به الأعداء كما يقال، فبنو قريظة قبل نقضهم للعهد، شهدوا للنبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء والصدق والعدل، وهكذا المسلم يكون متصفًا بهذه الصفات الطيبة، فهو وفي وصادق وعادل، وتلك الصفات الثلاث هي من مقومات نجاح المجتمع أُسوةً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا المجتمع يتصف بضدها من الغدر والكذب والظلم، فهو مجتمع مخفق فاشل، فلنستمسك معاشر المستمعين الأفاضل بتلك الصفات الطيبة مع أنفسنا ومع الآخرين من ذوي القربى وغيرهم، وهي من جملة العمل الصالح، ومن جملة الخلق الحسن الذي هو من أعظم أسباب دخول الجنة.

وحينما يتمثل المسلم تلك الأخلاق، فإن الأخلاق الأخرى الحسنة تأتي تبعًا لها، حتى تجتمع فيه المحاسن من الأخلاق، فيا بشراه بذلك، فلنكن جميعًا كذلك، فهو أكثرُ انشراحًا لنفوسنا، وأكثر سكنًا لقلوبنا، وأصفى وأنقى لصدورنا، وها هي سنة نبينا عليه الصلاة والسلام بين أيدينا، فلنَمْتثلها في أفعالنا وأقوالنا؛ لنُفلح في دنيانا وأخرانا، فاقضوا مع أولادكم رحمكم الله الجلسات التربوية في الخلق الحسن؛ ليتعلموه منكم وينشؤوا عليه، وذلك بالأسلوب المناسب لهم، مع الاستشهاد بالقصص والمواقف، فسيزيد برُّهم بكم من خلال تلك الجلسات الطيبة، اللهم أصلحنا، وأصلِح لنا، وأصلح بنا.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #25  
قديم 03-11-2022, 08:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (25)
الشيخ خالد بن علي الجريش





الحلقة الخامسة والعشرون من برنامج خاتم المرسلين

دروس من غزوة الخندق


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خير النبيين وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فمرحبًا بكم أيها المستمعون والمستمعات الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، فيما سبق مستمعي الأكارم في حلقتنا الماضية ذكرنا غزوة الأحزاب، وكيف تحزَّب المشركون على المسلمين، وماذا كان مستوى تلك الشدة، وكيف تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، وأيضا ذكرنا عددًا من المعجزات في تلك الغزوة، وأزلفنا أيضًا وصفًا لواقع للمشركين والمسلمين، وذكرنا عددًا من المبشرات إلى غير ذلك.

وفي حلقتنا هذه نستكمل تلك الغزوة، مواقفها ودروسها، فهي اشتداد في الحال وظهور في النفاق والمنافقين، فإن هذا لم يفتَّ من عَضُد المؤمنين، بل سلموا الأمر لله تعالى تسليمًا، وعلموا أن النصر من عند الله تبارك وتعالى وأنه قريبٌ، فكانوا يعيشون ذلك التفاؤل والاطمئنان داخل نفوسهم، وإن كان الواقع مخيفًا، لكن الله عز وجل ربط على قلوبهم، وبدأت المعركة بالنبال حتى خرجت فوارس من قريشإلى الخندق، فرأوا مكانًا ضيقًا، فاقتحموه فدخلوا على المسلمين، فأسرع إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين، فأغلقوا تلك الثغرة عن دخول آخرين، وممن دخل مع هذه الفتحة عمرو بن ود، فأخذ يدعو إلى المبارزة، وهو ابن تسعين سنة، فبارزه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حتى قتله فهرَب أصحابه راجعين، واستمرت المناوشات بين المسلمين والكفار، فأصاب رجل من الكفار سعد بن معاذ، أصابه إصابة شديدة وسالت منه الدماء، فقال سعد رضي الله عنه: اللهم لا تُخرج نفسي حتى تقرَّ عيني من بني قريظة، فاستمسك الدم عن السيلان، فاستجاب الله عز جل دعوته، وحكم سعد على بني قريظة بأن تُقتل مقاتلتهم، وتُسبى ذراريهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، فحمل رضي عنه إلى المسجد، ليتطبب فيه وليعوده من يعوده، وحيث مكث المشركون قريبًا من شهر، ولم يستطيعوا أن يعبروا الخندق في الجهة الشمالية من المدينة، فقد طال المقام عليهم، فاتَّعدوا أن يُغيروا جميعًا ولا يتخلف منهم أحد، فهيؤُوا أنفسهم ورتبوا صفوفهم ليعبروا الخندق عبرًا واحدًا، ويقاتلوا المسلمين، فجاؤوا إلى الخندق قبل طلوع الشمس، فتجهزوا للقتال، وكذلك تجهز المسلمون لمجابهة عدوهم، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف أصحابه رضي الله عنهم ويرتِّبهم، ووعدهم بالنصر بإذن الله تعالى إن هم صبَروا، فحصل التراشق بالنبل وبالرمي، وكان المسلمون يدافعون ضربات عدوِّهم، ودام ذلك التراشق مع محاولة عبور الخندق يومهم هذا كله، حتى غربت الشمس، فلم يستطع المسلمون أن يُصلوا صلواتهم لانشغالهم بعدوِّهم، وذلك قبل نزول صلاة الخوف، فلما غربت الشمس تفرَّق المشركون ولم يحصل بعد ذلك اليوم قتال، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصلوات الفائتة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارًا؛ رواه مسلم.

وفي هذه الشدة العصيبة واجتماع الأحزاب جميعًا على المسلمين، أسلم نُعيم بن مسعود رضي الله عنه، فجاء خُفية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد شهادة الحق، وقال: يا رسول الله، مُرني بما شئت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: خذِّل عنا ما استطعتَ، فإن الحرب خَدعة، فذهب نعيم رضي الله عنه وأخذ يقابل بعض سادات بني قريظة، فقال لهم كلامًا ثم ذهب إلى أشراف قريش من الأحزاب، فقال لهم كلامًا آخر مغايرًا، وذهب إلى غطفان وقال لهم كلامًا مغايرًا عن السابق، حتى اضطرب القوم، وكل منهم يقول لأصحابه: صدق نعيم بما قاله، فتباعد كل فريق عن الآخر، ووقعت بينهم الوقيعةُ، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ﴾ [الأحزاب: 25]، وقد حصل النصر للمسلمين على عدوهم من خلال عوامل عديدة بإذن الله تعالى، من أهمها ما يلي:
أولًا: حفر الخندق الذي حال بين المسلمين والكفار، وهو تجربة فارسية.

الثاني: الريح التي أرسلها الله تعالى؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [الأحزاب: 9]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: نُصرت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدَّبور؛ متفق عليه.

العامل الثالث في نصر المسلمين في الأحزاب: موقف نعيم بن مسعود رضي الله عنه، فعندما أسلم ذهب ليخذِّل الأحزاب ويخالف بينهم.

العامل الرابع: الدعاء، فهو سلاح كبير وعظيم، فقد دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اهزِم الأحزاب، اللهم اهزِمهم وزلزِلهم؛ متفق عليه، وفي رواية صحيحة: وانصُرنا عليهم، ومن أعظم نتائج غزوة الأحزاب أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه رضي الله عنهم متفائلًا ومستشعرًا نصرَ الله عز وجل حين انصرف الأحزاب أذلاءَ صاغرين، فقد قال لهم: الآن نغزوهم ولا يَغزوننا، نحن نسير إليهم؛ رواه البخاري، وفي رواية أخرى حسنة قال: لا يغزونكم بعد هذا أبدًا، ولكن أنتم تغزونهم.

وفعلًا بعد تلك الغزوة سار المسلمون إلى الكفار يغزونهم، فقد سار المسلمون إلى مكة معتمرين بعد الأحزاب، وتوالت الفتوح بدءًا بفتح مكة في السنة الثامنة، ثم حنين، وهكذا حتى دخل الناس في دين الله تعالى أفواجًا، وأما الأحزاب فلم يغزو المدينة بعد ذلك، وفي هذا علم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، وقد ظهرت مظاهر القدرة الإلهية في غزوة الأحزاب، فأرسل الله تعالى تلك الريح الباردة في الليالي الشاتية، فأكفأت قدورَهم وأطفأت نيرانهم، وهدمت خيامهم، وأرسل الله تعالى مع الريح ملائكة تُزلزلهم، وتلقي الرعب في قلوبهم، فامتلأت قلوبهم رعبًا وخوفًا؛ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ولولا أن جعل الله رسوله رحمة للعالمين؛ حيث قال تعالى: وما الله ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ [الأنفال: 33]، لولا ذلك وذاك، لكانت هذه الريح كالريح العقيم على عاد، ويلتمس أيضًا الإمام ابن كثير رحمه الله حكمة وملحة، فيقول: حيث اجتمعوا بسبب الرأي والهوى، فقد سلط الله عليهم الهواء الذي فرَّقهم، فكما جمعهم هوى فقد فرَّقهم أيضًا هواء، ولما حصلت تلك الريح وساءت حالهم، سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من رجل يقوم، فينظُر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع، أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة، قال حذيفة: فما قام أحد من شدة الجوع والبرد والخوف، فلما لم يقم أحد دعاني عليه الصلاة والسلام، فقال: اذهَب فادخل في القوم، فانظُر ماذا يفعلون، ولا تحدثن شيئًا حتى تأتينا، قال حذيفة فذهبت وتسلَّلت حتى دخلت في القوم، فرأيت الريح وجنود الله تعالى تفعل بهم الأفاعيل، فكأنهم توجسوا أن أحدًا دخل عليهم، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، ليَنظر كل امرئ من جليسه، قال حذيفة رضي الله عنه، فبادرت مَن عن يميني وعن يساري، فقلت من أنت? فلما انتهيت رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي، فلما سلَّم، أخبرته خبرهم، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني أن أُحدث شيئًا لقتلت أبا سفيان زعيمهم، وبعد ذلك أَذِنَ الرسول عليه الصلاة والسلام للمسلمين في الانصراف إلى المدينة وهم يقولون: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، وكان انصرافهم في أواخر ذي القعدة، وهكذا تكالب الأحزاب والقبائل، ورجعوا خاسئين خاسرين خائبين، أذلاءَ صاغرين، وهي سنة الله تعالى في نصر أوليائه، وكبت أعدائه إلى قيام الساعة، فلله الحمد أولًا وآخرًا.

ونختتم حلقتنا هذه أيها المستمعون والمستمعات الكرام ببعض الدروس والعبر المستفادة مما سبق عرضه، فمن ذلك ما يلي:
أولًا: في هذه الغزوة سنة إلهية وحكمة ربانية تستحق التأمل؛ لأن فيها فرجًا ومخرجًا للنفوس، واطمئنانًا لِما في الصدور، وهي أنه كلما زادت الشدة، فإن الفرج على أثرها، ويَتبعها، وتلك الغزوة مثال ونموذج على هذا، وقد قال الله تعالى: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لن يغلب عسرٌ يسرين، ففي تلك الآية العسر جاء معرفًا، فالأول هو الثاني نفسه، لكن اليسر جاء منكرًا، ومن ثم يختلف الثاني عن الأول، ففي الآية عسر واحد ويسران، فإن من ابتُلي بشدة وعسر، وتأمَّل مثل هذه القواعد، فإنه يحسن الظن بربه عز وجل، وينتظر الفرج ويتفاءل بحصوله، وإذا كان كذلك، فسيحصل عنده الاطمئنان والراحة بقدر ما عنده من التفاؤل وحسن الظن، فليستقل أو ليستكثر، أما من تخلف عن فكره تلك القاعدة العظيمة، فقد يعيش في أوهام ومخاوف قد تتجدد وتتكاثر، وتفتح باب الشيطان، ففي تلك الغزوة ومع شدتهم وضيقهم، قالوا: ﴿ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22]، فتفاءلوا وأحسنوا ظنَّكم بربكم رحمكم الله.

الدرس الثاني في تلك الغزوة: أنهم انشغلوا بالقتال ومدافعة العدو عن صلاتهم، وذلك أنهم لم يستطيعوا أن يجمعوا بين الصلاة والمدافعة، وذلك قبل نزول صلاة الخوف، فكان تأسُّفهم رضي الله عنهم على فوات صلاتهم، وهم بذلك معذورون ومعهم نبيهم عليه الصلاة والسلام، فتأسفوا كل الأسف وندموا كل الندم على فواتها عن وقتها، انشغالًا بمدافعة ذلك العدو الذي لو انشغلوا عنه لاستأصلهم، فأين الذين يؤخرون صلواتهم عن أوقاتها بلا عذر أو بنومٍ لا يُعذرون فيه، فإن جملة كبيرة من أهل العلم قالوا: إذا أخَّر المسلم الصلاة عن وقتها عمدًا بلا عذرٍ فلا تصح منه ولو صلاها مرارًا؛ لأنها ليست في وقتها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ؛ أي مردود على صاحبه، ومثلوا لذلك بمن أخَّر صيام رمضان إلى غيره من الشهور بلا عذرٍ، أو أخر الحج إلى غيره من الشهور، فإنه لا يُقبل منه صيام ولا حج، قالوا: والصلاة أعظم من الصيام والحج، فليتقِ الله تعالى أولئك الذين هم عن صلاتهم ساهون، فيجمعون الصلاة مع الأخرى بغير عذرٍ، فهم على خطر عظيم من الكفر، كما قاله جمع من السلف، فعليهم أن يتوبوا ويرجعوا.

ألا يخشى أولئك أن تُقبض أرواحُهم وهم لم يُصلوا؟ فبماذا يقابلون ربهم عز وجل? وهم لاهون غير معذورين، فليس كل نوم عذرًا مبيحًا لتأخير الصلاة، فاتقوا الله تعالى تفلحوا في الدارين.

الدرس الثالث: في موقف نعيم بن مسعود رضي الله عنه درس في أن الحرب خَدعة، فهو قال كلامًا، ونقله بين الأحزاب وهو ليس حقيقيًّا، لكنه فيه مصلحة للمسلمين وتفريق للكافرين، وقد أَذِنَ له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فحصل به فرج للمسلمين بتوفيق الله تعالى، ويشبه هذا ما يكون للإصلاح بين المتخاصمين، فالمصلح له أن ينقل كلامًا بين المتشاحنين ليصلح بينهما، وليحرص أن يكون ذلك من المعاريض إن أمكَن، فيقصد به وجهًا ويفهمون هم وجهًا آخر للكلام، فالإصلاح بين المتخاصمين عمل صالح كبير وثوابه جزيل، وما يقال في سبيل الإصلاح لعله مغفور مقابل تلك المصلحة العظيمة، وهو الصلح بين المتخاصمين.

الدرس الرابع: في الأحزاب أرسل الله تعالى الريح وهي جندٌ من جند الله، يرسلها على من خالف أمره واتَّبع هواه، فجنود الله تعالى عظيمة وكثيرة، وليخشَ العصاة المجاهرون أن يقع عليهم شيءٌ من جنود الله تعالى من مرض أو وباء، أو فقر مُدقعٍ، أو تسلُّط عدوٍّ، أو نقصٍ في المعيشة، أو غير ذلك، ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾ [المدثر: 31]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: كل أمتي معافى إلا المجاهرون.

فإن المعصية إذا خَفيت فهي على صاحبها، أما إذا جهر بها ولم تُنكر، فتعم، فلنتقِ الله تعالى في أفعالنا وأقوالنا، ولنعلَم أن الله عز وجل أنعم علينا بنعم قد صرَفها عن غيرنا، أما نخشى أن يَصرفها عنا.

الدرس الخامس: الدعاء سلاح عظيم وجسيم، وهو طريق لتفريج الكربات والمضايق، سلكه الأنبياء والصالحون، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا في الأحزاب على العدو، فاستجاب الله عز وجل دعوته، فكن أخي المستمع الكريم في جميع أحوالك ملازمًا للدعاء، وعندما تدعو فافتتحه بالحمد والثناء على الله وحسن الظن به، وتوسل بقولك: يا ألله يا حي يا قيوم، وأظهر حاجتك وعجزك، فالله عز وجل قريب مجيب، والبعض منا قد يسلك الأسباب المادية وينسى الدعاء، بقضاء حاجاته وتفريجها، واعلم أنك إذا دعوت فلك بدعائك إحدى ثلاث؛ إما أن تُعطى ما سألت، أو يُدَّخر لك ذلك حسنات يوم القيامة، أو أن يُدفع عنك بلاءٌ سيقع عليك، فيدفعه الله عنك، فأنت رابح في جميع أحوالك، فإذا كنت تدعو الله تعالى لقضاء حاجاتك وتحمده أيضًا بعد قضائها، فستدعو وتحمد خلال حياتك بملايين المرات، فيا بشراك بذلك، فاجعل ذلك سجية لك أنك في جميع حاجاتك تدعو، وإذا قضيت تلك الحاجة تحمد، فما أحوجنا إلى تلك اللمسات أن تكون واقعًا لنا.

الدرس السادس: في غزوة الأحزاب شيء من دلائل النبوة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأن الأحزاب لن يغزوَهم، وقد حصل ذلك فعلًا، فلم يغزوهم في المدينة بعد غزوة الأحزاب، وكل معجزاته عليه الصلاة والسلام هي دلائل على صحة نبوته عليه الصلاة والسلام، فإذا تأمَّلها المسلم زاد علمًا ويقينًا وإيمانًا وثباتًا، وزالت عنه الشُّبه واتَّضح له الحق.

الدرس السابع: أهمية التفاؤل في حياة المسلم، فما أضيقَ الحالة التي مرت بالمسلمين في الأحزاب? ومع ذلك كانوا متفائلين ومحسنين الظن بالله عز وجل، ففي جميع أحوالك - وخصوصًا ما ضاق منها - كن متفائلًا؛ لأنك إن تفاءلت كان هذا التفاؤل رسائل إيجابية للضمير، فيرتاح ولو نسبيًّا، ويخف عليه وطأة المشكلة، وذلك الضيق، أما لو لم يتفاءل وبَقِيَ على ضيقه وتشاؤمه، فسيفتح على نفسه باب الوساوس والتفكير، وسيرسل من خلال ذلك رسائل سلبية للضمير، فيزيد الضيق ضيقًا والإشكال إشكالًا، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التفاؤل؛ لأنه شرح للنفس وطُمأنينة لها، وسلامة للقلب، وطريق للحل والوصول إليه، وعلى أقل أحواله هو علاج مناعي عن زيادة الأمراض المزمنة، فلنتفاءل حتى ولو بلغت القلوب الحناجر.

الدرس الثامن: أن الصلاة إذا فاتت بعذرٍ، وأراد المسلم تأديتها، فليُصلها كما كان، يُصليها كل يوم، فالجهرية يَجهر بها ولو قُضيت في وقت سرٍّ، كالفجر في وقت الضحى، والسرية تُصلى سرًّا، ولو قضيت في الليل، فالقضاء يحكي الأداء، أما من أخرها عن وقتها بلا عذرٍ كمن يضع المنبه لصلاة الفجر في وقت الضحى، فيستيقظ ويصلي، ثم يذهب إلى عمله، فإني أهمس في أذنه ما يلي:
أولًا: إن هذا الفعل مخالفة للفطرة والشريعة، فهي صلاة في غير وقتها، فقد افتقدت شرطًا مهمًّا من شروط الصلاة وهو الوقت؛ لأنها بغير عذرٍ، ولأن النوم والحالة هذه ليس عذرًا شرعيًّا.

ثانيًا: ماذا لو ختمت حياته قبل استيقاظه، وقد تعمَّد تأخير الصلاة عن وقتها، فما جوابه لربه عز وجل؟

ثالثًا: إن المنافقين لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، ويؤخرون الصلاة، ويصلون في بيوتهم، وهذا تشبُّه بهم.

رابعًا: إن هذا وأمثاله كيف يكونون في ذمة الله تعالى وهم لم يطيعوا الله عز وجل في تأدية الصلاة في وقتها.

خامسًا: إن هذا الفعل فيه رضا للشيطان، فهو يريد ذلك الفعل؛ ليفسد على المسلم دينه.

سادسًا: إن هذا وأمثاله لو تاب توبة صادقة، فإن له أربعًا من البشارة، الأولى تمحى عنه سيئاته التي كُتبت عليه، والثانية أنها تقلب إلى حسنات، والثالثة أن الله عز وجل يفرح بتوبته فرحًا شديدًا، والرابعة أن الملائكة تستغفر له وتدعو له، فحَيهلًا أيها المستمعون والمستمعات الكرام على التوبة وتحصيل تلك البشريات، فهي خير عظيم في الدارين.

إن دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي منهج يسير عليه المسلم؛ تزكيةً لنفسه وسلامة لقلبه، وشرحًا لصدره، وتصحيحًا لمفاهيمه، فماذا لو قرأت في كل يوم ولو عشر دقائق أو صفحة من كتاب، فستدرك بذلك شيئًا كثيرًا وجليلًا وجميلًا من السيرة النبوية في وقت يسير، فابدأ أخي المستمع الكريم، واستمر فأنت تقرأ سيرة أعظم رجل في التاريخ، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وما تقرأه أيضًا اذكره في مجالسك لتفيد وتستفيد، وهذا من طلب العلم ونشره، فسيُيسر الله عز وجل لك طريقًا إلى الجنة؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة)، فما أحوجك أخي المستمع الكريم أن تجعل لك في دنياك هذه طرقًا توصلك إلى الجنة، ومن هذه الطرق أن تبدأ بقراءة سيرة النبي صلى الله وسلم، مستخرجًا منها الدروس والعبر، ولتكون منهجًا لك ولأولادك ولأقربائك ولجلسائك، وكل مَن عَلِمَ علمًا من تلك السيرة عن طريقك، فإن لك مثل أجره.

أسال الله تبارك وتعالى أن يَجعلنا من عباده المفلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

اللهم ارزُقنا قلوبًا صادقة، وعقولًا زاكية راشدة، ووفِّقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #26  
قديم 03-11-2022, 08:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (26)
الشيخ خالد بن علي الجريش






الحلقة السادسة والعشرون من برنامج خاتم المرسلين

غزوة بني قريظة


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فمرحبًا بكم مستمعي الأكارم في برنامجكم خاتم النبيين، وقد سبق معنا أيها المستمعون الأفاضل أن استكمَلنا في حلقة ماضية غزوة الأحزاب، وكيف تعامل الصحابة رضي الله عنهم مع ضيق الحال والشدة والخوف? تعاملوا بالتفاؤل وحسن الظن بالله تبارك وتعالى، وكيف أيضًا حاول المشركون القتال، فخيَّبهم الله، وذكرنا أيضًا المبارزة ونتيجتها، وذكرنا أيضًا العوامل التي سخَّرها الله تعالى لعباده المؤمنين، فكانت سببًا لنصرهم بتوفيق الله عز وجل، وذكرنا أيضًا انصراف المؤمنين منتصرين، وانصراف المشركين خاسئين مهزومين، وختمنا ذلك بالدروس والعبر، ونزدلف في حلقتنا هذه إلى الحديث عن غزوة بني قريظة، يقول ابن القيم رحمه الله: وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن كثير رحمه الله: أحلَّ الله على بني قريظة البأس الشديد في الدنيا، مع ما أعدَّه لهم في الآخرة من العذاب الأليم، وذلك لكفرهم ونقْضهم للعهود ومشاركتهم الأحزاب، فباؤوا بغضب الله، وأخرج البخاري أنه لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه السلام، فقال: وضعت السلاح والله ما وضعناه، فاخرُج إليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين? قال: ها هنا وأشار إلى بني قريظة، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ رواه البخاري، وقد جاء جبريل على هيئة دحية الكلب رضي الله عنه، وقد كان دحية حسن الصورة، وكان جبريل كثيرًا ما يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة دحية، ثم بعد ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس ألا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد أخرج البخاري عن أنس أنه قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعًا في طرق الخزرج وهو موكب جبريل، حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى بني قريظة، حاصرهم خمسًا وعشرين ليلة، فلما اشتد عليهم الحصار، أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تعاملنا معاملة بني النضير، بحيث يرحلون ولهم ما حملت الإبل من المتاع إلا السلاح، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا أن ينزلوا على حكمه، ثم أرسلوا إليه مرة أخرى، فقالوا: لنرحل ولا حاجة لنا في الأموال كلها، فأبى عليهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكمه، فلما رأوا ذلك طلبوا أن يستشيروا حلفاءهم من الأوس: ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه، فطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم أبا لبابة رضي الله عنه، وكان حليفًا لهم، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه أجهشوا بالبكاء، وقاموا إليه وسألوه ماذا سيفعل بهم محمد إذا نزلوا على حكمه? فأشار بيده إلى حلقه يعني الذبح وكان أبو لبابة بإشارته تلك، رأى أنه افشى سرًّا وخان الله ورسوله، فقال رضي الله عنه: والله لا أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتوب مما فعلت، ويتوب الله تعالى عليَّ، فذهب إلى المسجد وربط نفسه، وقال: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله عليَّ مما صنعت، فنزل قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون ﴾ [الأنفال: 27].

فلما استبطأه الرسول صلى الله عليه وسلم، وعَلِم خبره قال: أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذا فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، وقام أبو لبابة مربوطًا في المسجد ست ليال، فلا يحل رباطه إلا امرأته لوقت الصلاة فقط، حتى نزلت توبته رضي الله عنه في قول الله تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 102]، ولما اشتد عليهم الحصار، نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قذف الله في قلوب بني قريظة الرعب والخوف، وانهارت معنوياتهم، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكُتفوا وكانوا أربعمائة، وقيل سبعمائة، وتَم عزل الرجال عن النساء والذراري، فجاء الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا يا رسول الله، إن بني قريظة حلفاؤنا وموالينا، وقد التمسوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عليهم العقوبة والحكم، فقال عليه الصلاة والسلام ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجلٌ منكم، قالوا: بلى يا رسول الله، فقال فذاك إلى سعد بن معاذ، وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه في المسجد في خيمة له وهو مريض يعوده من يعوده، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأُتي به محمولًا على حمار ليحكم فيهم، فلما كان في طريقه إليهم، استقبلوه وكلموه في الرفق، وقالوا هم مواليك وحلفاؤك، وأكثروا عليه من طلب الرفق بهم، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فلما وصل قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: قوموا إلى سيدكم أو خيركم فأنزلوه، فقاموا إليه فأنزلوه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء نزلوا على حكمك، فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتُسبى ذراريهم، وتُقسم أموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه بالأسرى فجُمعوا، ثم أمر بحفر الخنادق لهم، فجيء بهم إرسالًا ومجموعات، ثم تضرب أعناقهم في تلك الخنادق، ويلقون فيها، وكانوا أربعمائة وقيل سبعمائة، وكان من جملتهم حيي بن أخطب؛ لأنه دخل مع بني قريظة في حصنهم، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، وقد تم توزيع غنائم بني قريظة، فجمعوا من حصونهم ألفًا وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع وألف رمح وجمالًا وماشية كثيرة، وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، وأقر بني قريظة ومنَّ عليهم، حتى حاربت قريظة بعد ذلك ونقضوا العهد، فقتل رجالهم وقسَّم نساءهم وأولادهم، وقد قال الله في بني قريظة: ﴿ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ ﴾ [الأحزاب: 26]؛ أي حصونهم: ﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [الأحزاب: 26، 27]، ولم يستشهد من المسلمين في مقابلة بني قريظة إلا ثلاثة فقط، وفي نهاية الحدث مع بني قريظة ذلت اليهود وذل المنافقون، ودخلهم الرعب والخوف، ولم يكن لهم بعد ذلك شوكة، ولم يفكروا في غزو المسلمين، ولما حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه على بني قريظة، وشفى الله تعالى صدره منهم، انفجر جرحه، فمات رضي الله عنه وقد سأل الله تعالى ألا يُميته حتى يشفي صدره من بني قريظة في حكمه عليهم؛ لأنهم نقضوا العهود والمواثيق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اهتز العرش لوفاة سعد رضي الله عنه، وهبطت الملائكة لتشييعه، وأخرج النسائي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن سعد: لقد ضُمَّ ضمة ثم فرِّج عنه، وقد حملوا سعدًا لدفنه وكان جسمه طويلًا وضخمًا، ووجدوا له خفة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تحمله معهم، وكان عمره رضي الله عنه سبعًا وثلاثين سنة، وفي ذلك العام الخامس من الهجرة، قدم وفد من أشجع وكانوا مائة رجل، فأسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعبدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس والطاعة، ولا يسألون الناس شيئًا، قال عوف: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوت أحدهم فلا يسأل أحدًا يناوله إياه، وبعد أن قويت شوكة المسلمين بدؤوا يغزون غيرهم من المشركين، ففتحوا الفتوح وكثر إرسال السرايا والبعوث لدعوة غير المسلمين أو قتالهم، وهذا مصداق ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أنهم بعد الخندق يغزون الكفار فبدؤوا بفتح مكة والطائف وحنين، وغيرها من الفتوحات.

ونختم أيها المستمعون والمستمعات الكرام حلقتنا تلك في بعض الدروس والعبر مما سبق عرضه، ومن هذه الدروس ما يلي:
الدرس الأول: يظهر في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة العزة والقوة والشجاعة والبسالة، فقد طلب بنو قريظة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاملوه معاملة بني النظير، ولكنه أبى عليهم لأن بني قريظة قد عاهدوا وغدروا بعد عهدهم وقاتلوا مع الأحزاب، فأظهر النبي صلى الله عليه وسلم عزة الإسلام وقوته، فلم يُطعهم فيما طلبوا، مع أنهم استكانوا وخضعوا وذلوا في طلبهم هذا، ولكن العزة لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين، فحكم عليهم بما أصدره سعد بن معاذ من قتلهم وسبيهم، وأقرَّه على ذلك وأوضح أن هذا هو حكم الله تعالى فيهم، وبذلك استردت الأمة قوتها وشجاعتها بين الأمم، وخافها القاصي والداني، وبدأ المسلمون بعد ذلك يغزون الكفار في بلادهم كفتح مكة وحنين والطائف؛ حيث بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنكم تغزونهم ولا يغزونكم.

الدرس الثاني: أن المسلم إذا فعل ذنبًا أو معصية، فإنه يشعر بألم تلك الخطيئة، ولا تكن عادة أو أمرًا يسيرًا، وذلك أنه معصية لله تبارك وتعالى، وهو العظيم القوي العزيز، فهذا أبو لبابة رضي الله عنه عندما ذهب إلى بني قريظة يستشيرونه في نزولهم على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم أبو لبابة: نعم انزلوا على حكمه، وهذا لا جناح عليه، لكنه زاد على ذلك أنه وضَّح لهم العقوبة وهي القتل، عندما أشار إلى حلقه أنه الذبح، فاعتبر نفسه بتلك الإشارة إلى حلقه وأنه الذبح أنه قد خان الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فماذا فعل أبو لبابة رضي الله عنه بعد ذلك? ذهب وربط نفسه في المسجد حتى يتوب الله تعالى عليه، وذلك إظهار للندم على تلك المعصية حتى تاب الله تعالى عليه، فنحن يا كرام عندما نخطئ في جنب الله تعالى بتسويل من الشيطان، فنرتكب معصية من المعاصي، فيتعيَّن علينا أن يكون لهذه المعصية وقعٌ شديد في أنفسنا وهمٌّ في الخلاص منها؛ لأنها إذا تكررت المعصية على النفس، ولم يكن لها وقعٌ شديد، فإن دخول الشيطان إلى قلب الإنسان يكون سهلًا، فيكثر دخوله عليه، فيخشى عليه من الران وهو متابعة الذنب على الذنب، وقد يختم له بشيءٍ من هذه المعاصي، فإذا سول لك الشيطان المعصية، ففعلتها فاندم وتبْ واستغفر، وعوِّضها من صالح العمل لعل الحسنة تكفر السيئة وتَمحوها، فأبو لبابة رضي الله عنه يعرف أن باب التوبة مفتوح، ولكنه يريد تأديب نفسه؛ حتى لا تتكرر تلك المعصية أو غيرها، أو حتى يطهِّر نفسه أيضًا من أضرارها، وهذا يدل على قوة الإيمان ويقظة الضمير، والله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].

الدرس الثالث: في قصة أبي لبابة أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستغفار، ومعنى الاستغفار هو طلب المغفرة والعفو والمحو للذنب عنه، فهو ذكر من أهم الأذكار وأخفها على اللسان، فما أجمل كلمة أستغفر الله، فهي اعتراف بالذنب وطلب لمغفرة هذا الخطأ، فإذا استشعر المستغفر ذلك، واستشعر أن الله تعالى غفور غفار، وأحسن الظن بربه، فليُبشر بالخير العظيم، فقد وعد الله تعالى عباده بالإجابة، وليكن لنا أيها المستمعون الكرام منهجية واضحة مع الاستغفار، سواء عند الذنب، أو عند الانتهاء من الطاعة، أو في المجالس، أو على عموم الأحوال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر أكثر من سبعين مرة، وربما كان ذلك في المجلس الواحد، فاجعل الاستغفار سجية لك، فاستغفر في مجلسك، وبعد صلاتك وفي سجودك، وعند خطئك وعلى عموم أحوالك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: طُوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا، واحرص على الأعمال التي من خلالها تُغفر الذنوب، وذلك مثل قولك: سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، فقد ورد في البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر، ففي خلال دقيقتين تغفر ذنوبك بهذا، فما أعظم عفو الله تعالى وسعة فضله على عباده.

الدرس الرابع: فضيلة سعد بن معاذ رضي الله عنه، فإنه قد دعا الله تعالى ألا يُميته حتى يحكم في بني قريظة، وقد استجاب الله دعاءه، فحكم عليهم بحكم الله تعالى، ومن فضائله أنه اهتز لموته عرش الرحمن، ومن فضائله أن الملائكة هبطت من السماء لتشييع جنازة سعد، ولذلك وجدوا لحمله خفة مع أنه رجل طويل ضخم، وهذه الفضائل وغيرها كثير مع أنه لم يعمر كثيرًا، فهو رضي الله عنه لم يتجاوز السابعة والثلاثين، وهكذا هم القدوات من الصحابة والأئمة والصالحين، تَكثُر أعمالهم تزكيةً لنفوسهم، وليكونوا قدوة لمن خلفهم، فلنستمسك بما استمسكوا به من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم علمًا وعملًا، ولنربي أولادنا على ذلك المسلك القويم، لنحيا حياة السعداء، فما أجمل أن يكون في داخل الأسرة كلام عن سيرة الصالحين في السابق واللاحق؛ ليكونوا محل القدوة والأسوة، فإن ذلك سيكون سببًا في تصحيح المفاهيم وتحسين الأخلاق وكثرة الأعمال الصالحة.

الدرس الخامس: إن سعد بن معاذ على فضائله الجمة والجليلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه ضمه القبر ضمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للقبر ضغطة ولو كان أحد ناجيًا منها لنجا منها سعد بن معاذ)؛ صححه الألباني ووافقه الذهبي وغيره، وهي ضمة تكون على المؤمن الصالح يسيرة، ثم يفرج عنه، وتشتد على الفاسق وتطول عليه، وهي من المكفرات للذنوب، فهم يتفاوتون في ذلك حسب أعمالهم الحسنة والسيئة، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام، فلنُكثر من الصالحات ولنجتنب السيئات، فمن فعل ذلك، فهو على خير في دينه ودنياه وفي قبره وأخراه بإذن الله تعالى، وليعلم العبد أن أمامه أهوالًا وعليه استحضارها عندما يفعل الطاعة ليزيد منها، وعندما يهمُّ بفعل المعصية لينزع منها، فما أحرانا بذلك معاشر المستمعين كرام.

الدرس السادس: عندما وفد قوم من أشجع بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أمور أربعة هي من عظائم الأمور، وهي أولًا: العبادة الخالصة من الشرك والرياء والنفاق، فلا ينفعك عند ربك إلا ما أخلصت فيه لله تعالى، وأما غير ذلك فهو وبال على صاحبه، ومردود عليه فلا يتعب نفسه فيه.

الأمر الثاني الذي بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلوات الخمس، وإتقانها كما أمر الله تعالى بأوقاتها وأذكارها، فلا تأخير ولا نسيان، ولا جمعَ لها بغير عذرٍ، فهي - أي الصلاة - ستخاطب صاحبها يوم القيامة، فتقول له إن كان محافظًا عليها: حفِظك الله كما حفظتني وإن كان مضيعًا لها فهي ستقول له: ضيَّعك الله كما ضيعتني، فلنحضر أيها المستمعون والمستمعات قلوبنا في صلواتنا، ولنحافظ عليها في أوقاتها، ولنؤدِّيها كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باطمئنان وتأنٍّ وتُؤدة، ولا نستعجل في أدائها، ولا ننقص من أذكارها وأقوالها حتى تقول لنا يوم القيامة حفِظكم الله كما حفظتموني.

الأمر الثالث: الطاعة لله ورسوله بالفعل في الأوامر والترك في النواهي، فهذه هي العبادة الحقة، فلو حرصنا أيها المستمعون الكرام مع أولادنا على أن ننظر في أوامر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ثم نَمتثلها، وننظر إلى النواهي ثم نتركها، لكنا على خيرٍ عظيم، وإن قصَّرنا في الأوامر استغفرنا، وإن قصرنا في ترك النواهي استغفرنا، فصار هذا المنهج سجيةً لنا ومع أولادنا، وبهذا نلحق لركب المفلحين والصالحين والمصلحين.

الأمر الرابع: عدم سؤال الناس، وهذه هي التي تجعل الناس معك ويحبونك ويجالسونك، فإن سؤال الناس هو إظهار لِمِنَّتهم عليك، وكسل تجلبه إلى نفسك، وزهد من الناس فيك، إذا استغنيت عن الناس واستعنت بالله تعالى، وقضيت حوائجك بنفسك، فإنك ستغتني عن الناس بفضل الله تعالى وعونه لك، وهذا لا يمنع أن يشفع الناس بعضهم لبعض، أو يعينوا بعضهم بعضًا، فإن هذا باب من الخير عظيم وهو من الإحسان الذي يؤجر عليه الإنسان، ولكن الذي تستطيع فعله افعَله، ولا تحتج إلى الناس، وأما سوى ذلك فلا مانع من الاستعانة بالناس بعد الله تعالى فيما يقدِر عليه الناس، ولكن لا يكن ذلك عادة دائمة فيَملَّ الناس منك، ولهذا بعض الناس كثيرًا ما يجعل الناس يخدمونه حتى في أمور هو يستطيع فعلها، وهذا لا شك أنه من الكسل، ومن ثم ربما ملَّ الناس من هذا الذي يحتاج إليهم، أما حاجة الإنسان لأخيه فيما لا يستطيعه هذا المحتاج، وهو في مقدور ذلك المستعان به بعد الله تعالى، فهذا لا مانع، وهو من الإحسان الذي أمر الله تعالى به، ويؤجَر عليه الناسُ، وفي الأثر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ازهد فيما عند الناس يُحبك الناس).

أسأل الله تبارك وتعالى أن يُعيننا على ذكره وشكره وحُسن عبادته، كما أسأله تبارك وتعالى أن يوصلنا دار السلام بسلام، وأن يرزقنا قلوبًا سليمة وعقولًا زاكية راشدة وألسنةً صادقةً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #27  
قديم 27-11-2022, 12:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (27)
الشيخ خالد بن علي الجريش



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الكِرام في برنامجكم خاتم النبيِّين، ففيما سبق أيها الأكارم ذكرنا غزوة بني قريظة، وكيف شاركت الملائكة الكرام في بثِّ الرعب في قلوب اليهود؟ وكيف تعامل معهم النبي صلى الله عليه وسلم؟ وبماذا أيضًا حكم فيهم؟ وما آثار ذلك الحكم العادل، وذكرنا أيضًا فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه.

وأيضًا ذكرنا قدوم وَفْد من أشجع على النبي عليه الصلاة والسلام، وإسلامهم، ووصايا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لهم، وذكرنا أيضًا غير ذلك مع ما هو مستفاد من الدروس والعِبَر، وفي حلقتنا هذا الأسبوع نتعرَّض لعددٍ من السرايا والبعوث التي حدثت بعد غزوة الخندق؛ حيث كانت تلك السرايا في العام السادس من الهجرة، فقد قويَتْ شوكةُ المسلمين، وعزَّ شأنُهم، وخافهم القاصي والداني، فحيث فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحزاب وبني قريظة، انكسرت شوكة اليهود وقريش، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الحملات الدعويَّة للقبائل، وأيضًا هي كذلك تأديبية لبعض القبائل التي كانت قد عزمت على غزو المدينة والإغارة عليها، فمن ذلك سرية محمد بن مسلمة في ثلاثين رجلًا بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى القرطاء، وهم بطن من بني بكر، فخرجوا إليهم وقد آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلمَّا وصلوا إليهم أغاروا عليهم خفيةً، فما كان من هذا البطن إلا أن هربوا وقُتِل منهم عددٌ من الرجال، وأخَذَ الصحابةُ الإبلَ والغنم والشياه غنيمةً، وكان عددُها مائة وخمسين بعيرًا وثلاثة آلاف شاة، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المقاتلين، فإن الله عز وجل سدَّدهم وسلمهم في غزوتهم من أن يُقتَل منهم أحد أو يُؤسَر.

ومن ذلك أيضًا تلك السرية العجيبة وهي قد حدثت في جُمادى الأولى من السنة السادسة؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد زوَّج ابنته زينب زوجها أبا العاص بن الربيع، وذلك في مكة قبل البعثة، وكان أبو العاص آنذاك مشركًا؛ حيث كان في مبدأ الأمر جواز نكاح المشركة للمسلم؛ كما ذكر ذلك ابن كثير، فهاجرت زينب إلى المدينة وتركت زوجها المشرك؛ وهو أبو العاص بن الربيع، فلما كان في السنة السادسة بعث النبي صلى الله عليه وسلم سريَّةً تعدادها مائة وسبعون رجلًا، وهدفها اعتراض عِيْر لقريش يقودُها أبو العاص بن الربيع، وكان حينها على شركه، فأدركوها وأخذوها وما فيها من أموال، وكانت تلك الأموال لأُناسٍ من قريش، وهرب بعضُهم وأسروا آخرين، ومنهم قائد العير أبو العاص بن الربيع، وكان أبو العاص من التجار المعدودين، ومن المعروفين بالأمانة، فلما أتوا بأبي العاص إلى المدينة مأسورًا وقد سلب ما معه من المال، ومكث في المدينة ذهب إلى زوجته السابقة؛ وهي زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب منها الإجارة، فاستجار بها، وطلب أن تجيره فأجارته، وسألها أن تطلب من أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليه ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الصبح صرخت زينب رضي الله عنها قائلةً: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فلما سَلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح، قال: ((أيُّها الناس، هل سمعتم ما سمعتُ؟))، قالوا: نعم، قال: ((أما والذي نفسي بيده، ما علمتُ بشيءٍ من ذلك حتى سمعتُ ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم))، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته زينب رضي الله عنها، فقالت له: "إن أبا العاص ابن عم وأبو ولد- تعني: ابن عمها وأبًا لأولادها- فإني أجرته" وطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرُدَّ إليه أمواله التي سُلِبَتْ منه، فقَبِل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استشار السريَّة في ردِّ المال عليه، فقَبِلوا ذلك، فرَدُّوا عليه كل ما أخذوا منه، ثم رجع أبو العاص إلى مكة، وأدَّى إلى كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحدٍ منكم عندي شيء؟ قالوا: لا، فقد وجدناك وفيًّا كريمًا، ثم قال بعد ذلك: أمَّا أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرًا في المحرم من سنة سبع من الهجرة، ثم رد إليه النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صَداقًا، فقد ورد ذلك عند الإمام أحمد بسند حسن.

وقد كانت زينب رضي الله عنها أسلمت قبله بستِّ سنوات، فإذا أسلم الكافر رجع إلى زوجته بلا عقدٍ ولا صَداق ما دام النكاح صحيحًا بحيث لم يكن بينهما محرمية؛ كالأخت، أو الخالة، أو العَمَّة، ونحو ذلك، وقد أسلم الجَمُّ الغفير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهم بتجديد عقودهم، وقد ذكر ابن عبد البرِّ رحمه الله الإجماعَ على ذلك، وقال ابن القيِّم: ولا نعلم أحدًا جدَّد للإسلام نكاحه البتة، وقد ولدت زينب رضي الله عنها من أبي العاص عليًّا وأمامة فقط.

ومن السرايا التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم سرية عبدالله بن عتيك رضي الله عنه لقتل سلام بن أبي الحقيق؛ وهو أبو رافع، وقد رواها البخاري في صحيحه، وذلك في شهر رمضان من السنة السادسة من الهجرة، وكان سلام ممَّن أعان الأحزاب على المسلمين في الخندق بالمال والعتاد، وكان يُؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغوا من الأحزاب استأذن الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق؛ لشدة إيذائه للإسلام وأهله؛ لا سيما وأن الأوس قد قتلوا سيدًا من سادات اليهود؛ وهو كعب بن الأشرف، فأرادت الخزرج أن يفعلوا مثلهم في قتل أحد ساداتهم؛ وهو سلام بن أبي الحقيق أبو رافع، فأذِنَ لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فخرج ستة رجال من الخزرج لتنفيذ تلك المهمة، وكان أميرهم عبدالله بن عتيك رضي الله عنه، فخرجوا إلى خيبر حيث حصن أبي رافع سلام بن أبي الحقيق، فلما قربوا من الحصن وقد غربت الشمس، قال عبدالله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم؛ فإني منطلق إلى بوَّاب الحصن، ومتلطِّف له، لعلي أدخل، فجلسوا وذهب هو إلى الحصن، فلما أقبل على الحصن ودنا منه جلس متنكِّرًا كأنه يقضي حاجته، وقد أظلمت الدنيا قليلًا، وقد دخل الناس إلى الحصن ولم يعلم به البوَّاب، فظنَّه رجلًا منهم، فقال: هيَّا ادخل؛ فإني سأغلق الباب، يقول عبدالله: فتنكَّرتُ ودخلتُ الحصن، ثم اختفيت في مكان الدوابِّ، فلما تكامل الناس داخلين أغلق الباب ووضع مغاليق الأبواب على الحائط، قال عبدالله: فلما نام القوم بعدما سمروا، أخذت المغاليق وهي المفاتيح، وكلما دخلت من باب من أبواب الحصن أغلقتُه؛ حتى لا يتبعني أحد، فمشيت على تلك الحال في الحصن حتى وصلت إلى مكان نوم أبي رافع سلام بن أبي الحقيق، فإذا هو في غرفة مظلمة قد أُطفئ سراجُها، وفيها هو وزوجته، وحيث كان المكان مظلمًا؛ فإني لا أعلم أين مكانه من مكان امرأته، فقلت مُغيِّرًا صوتي: يا أبا رافع، فقال: من هذا؟ فأهويت بسيفي نحو الصوت، فضربتُه ضربةً؛ ولكنها لم تقتله، فصاح صيحةً شديدةً، ثم خرجت قليلًا، ورجعتُ مُغيِّرًا صوتي وكأني من الجند، فقلتُ: ما بك يا أبا رافع؟ فذكر لي أن رجلًا ضربه بسيف، وحينها فلما علمتُ مكانَه من خلال صوته ضربتُه ضربةً أثخنته وقتلته، ثم خرجت مسرعًا مع درج له، فوقعت قدمي فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة معي، ثم خرجتُ فانتظرتُ حتى أسمع الناعي ينعى قتله وموته، فلما علمتُ ذلك انطلقتُ إلى أصحابي، فقلت لهم: أسرعوا في السير؛ فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثْتُه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ابسط رِجْلَكَ))، فبسطت رجلي، فمسحها، فكأنها لم تُصَبْ قبل ذلك؛ أخرج القصة البخاري في صحيحه.

أيها الأكارم لعلنا نستنبط مما سبق شيئًا من الدروس والعِبَر، فمن ذلك:
الدرس الأول: كان النبي صلى الله عليه وسلم مهتمًّا بدعوة الخَلْق إلى دين الله تبارك وتعالى، فكان يبعث السرايا لأجل ذلك، ولنا به أسوة وقدوة في دعوة الآخرين إلى الله تعالى أمرًا ونهيًا وبيانًا لمحاسن هذا الدين، واعلم أخي الكريم أن كل مَن دعوته إلى خير فلك مثل أجره؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ دَلَّ على خيرٍ فله مِثْلُ أجْرِهِ))؛ رواه مسلم، فهذا أبو بكر رضي الله عنه دعا الكثيرين إلى الإسلام ومنهم عددٌ من العشرة المبشَّرين بالجنة، فله مثل ما يعملون.

فاجعل لك منهجًا في دعوة الآخرين إلى دين الله عز وجل بقولك وفعلك، ولا تحقرنَّ شيئًا؛ فالداعي والمدعو كل منهم محتاجٌ إلى الآخر، وممَّا يجب أن يتحلَّى به الداعية العلم والحلم والصبر والرفق، فما رأيت من خلل عند أخيك فأتِهِ بالتي هي أحسن، مُوضِّحًا هذا الخَلَل، وذلك في الزمان والمكان المناسبين، فإن استجاب المدعوُّ للداعي فخيرٌ لهما جميعًا، وإن لم يستجِبْ فما على الداعي إلا البلاغ.

وابدأ بدعوتك أسرتك الكريمة مُصحِّحًا مفاهيمهم ناشرًا للخير بينهم، وذلك عبر الوسائل المتاحة؛ وذلك مثل الدرس البيتي مع العائلة، فكم له من الأرباح العظيمة التي يجنيها الأولاد! حيث غشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وحفَّتْهم الملائكة، وزاد علمهم، وزال جهلهم.

وأيضًا كذلك من الوسائل المتاحة وسائل التواصُل الاجتماعي، فالمدعو يتناولها متى شاء وكيف شاء، وهي تدخل إلى البيوت، وتصِل إلى الأشخاص بلا إذنٍ منهم، فما أيسرَها! وأعظمَ أثرَها! وكذلك من الوسائل المتاحة الأحاديث الثنائية بين الداعية والمدعو، فما أجملَ أثرَها إذا اصطحبها الكلام الطيب والابتسامة والتحية.

وكذلك من الوسائل المتاحة إمامة المسجد؛ فللإمام دورٌ كبيرٌ في توعية المأمومين، فكم من الأجور والحسنات يجنيها! من حيث لا يشعر.

ومن الوسائل المتاحة التي لا تُكلِّف شيئًا الدعاء للمسلمين بصلاحهم وإصلاحهم، إلى غير ذلك من الوسائل الدعوية المتاحة، فلنستثمر ذلك في خلال حياتنا اليومية؛ لنكون مجتمعًا واعيًا وداعيًا.

الدرس الثاني: في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي العاص بن الربيع عندما أجارته زينب مثالٌ كبيرٌ لحسن التعامل مع الآخر؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم عرَف قدْرَه، وقَبِل شفاعة ابنته فيه، وردَّ إليه ما أُخِذ منه؛ ولذلك كان له الأثر الكبير على نفس أبي العاص.

الدرس الثالث: أن زينب رضي الله عنها لم تَنْسَ الفضل بينها وبين أبي العاص؛ حيث كان أبو العاص هو زوجها قبل أن تسلم، فعندما أسلمت وهاجرت فارقته، فعندما جاء إليها وطلب منها الإجارة أجارَتْه، وهذا درس عظيم لنا جميعًا؛ ألَّا ننسى فضل الآخرين علينا حتى ولو أخطأوا، والله عز وجل يقول: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237] فنسيان الفضل نوع من الجهل، فإذا أخطأ أحد في حقِّك يومًا ما فلا تنْسَ فضائله الأخرى السابقة، فتعامله من خلال ذلك الخطأ فقط؛ وإنما له عليك فضائل كثيرة، وأعمال جليلة جميلة في السابق، فخذها بعين الاعتبار، ولعلها أن تغطي ذلك الخطأ، أما أن بعض الناس قد يعامل هذا المخطئ من خلال هذا الخطأ الأخير وينسى الفضائل السابقة؛ فهذا نوع من الجهل.

الدرس الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبِلَ إجارة زينب وهي ابنته، فلم ينهرها، ولم يعاتِبْها، وهذا من محاسن الإسلام، فالتعامل الحسن بين الناس هو عنوان النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة بإذن الله عز وجل.

الدرس الخامس: أنَّ أبا العاص لما رأى تلك المعاملة الحسنة من النبي صلى الله عليه وسلم وابنته زينب رضي الله عنها التي هي زوجته قبل إسلامها؛ دعاه ذلك إلى الإسلام، فأسلم رضي الله عنه، وهاجر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة، ورد النبي عليه الصلاة والسلام زوجتَه عليه، وما أكثر المواقف في السابق واللاحق التي يسلم من خلالها كُفَّار عندما رأوا تلك التصرُّفات الجميلة والجليلة! ولعَلَّ موقف أبي العاص نموذج لها.

ومن نماذج ذلك في الوقت الحاضر هذا الموقف التالي؛ وهو أن شخصًا كان يتاجر في الخضار، وكان في طريقه وهو على سيارته أحدُ المارَّة، فطلب هذا الشخص مِن صاحب السيارة أن يُوصِلَه إلى مكانه الذي يريد، فركب معه، وبدأ يتجاذب معه أطراف الحديث، وأشعره صاحب السيارة أنه مستعجل جدًّا، وأن الوقت عنده ضيق؛ ولكنه ذكر له أنه سيُوصِله إلى مكانه احتسابًا للأجر عند الله تبارك وتعالى، فلما وصل إلى مكانه، سأله هذا الرجل- سأل صاحب السيارة-: كم أُجْرتُك على عملك هذا؟ فقال صاحب السيارة: أنا فعلت ذلك؛ لأنَّ ديننا يأمرنا بالإحسان إلى الآخرين، فأعجب هذا الرجل بهذا التعامل، ثم أبدى استعداده لمعرفة الإسلام، وكيف الطريق إليه؟ فذهب به صاحب السيارة إلى إحدى جمعيات الدعوة وتوعية الجاليات في مملكتنا الحبيبة علمًا أن الطريق مزدحم، والوقت ضيق، ومع ذلك أحسن إليه كل هذا الإحسان، فدخل هذا الشخص على تلك الجمعية، فأخذوا معه بالحديث عن الإسلام وقتًا يسيرًا، وأخذ بعض الكتيبات وانصرف إلى بيته، فلما كان من الغد رجع ذلك الرجل إلى تلك الجمعية ليُشهِر إسلامَه لديهم، وكان يحضر دروس الجمعية، ويقوم بزيارتهم بين الفينة والأخرى، ونقل هو أيضًا بدوره فكرةَ الإسلام إلى أصحابه؛ حتى أسلم مِن بعده سبعةٌ من أصحابه، واستمرَّ على نقله الإسلام للآخرين مع ارتباطه بالجمعية عن طريق وسائل التواصل، وانتقل ذلك الرجل المسلم الجديد إلى بلد آخر، فصار داعيةً فيه، وأسلم على يديه خَلْقٌ كثيرٌ، وكل ذلك وثوابه وأجره في موازين هؤلاء الذين كانوا سببًا في إسلامه، وأولهم ذلك التاجر الذي تعامل معه تلك المعاملة الحسنة، فهذا نموذج مُشرِّف في الوقت الحاضر، وعلينا جميعًا أن نحذو ذلك الحذو في التعامل، فالأفعال لا تقل عن مستوى الأقوال في الدعوة إلى الله عز وجل، وهو ما يعرف بالدعوة بالقدوة، وربما اهتدى أو أسلم أحد بسبب عمل مُشرِّف عملته أنت ورآك ذلك المهتدي من حيث لا تشعر، فَلْنُحاسِبْ أنفسنا في تصرُّفاتنا مع الآخرين، وإذا كان هذا النموذج مع غير المسلمين قد أثر هذا التأثير البالغ، فكيف به مع المسلمين؟! فاستثمروا أفعالَكم وتصرُّفاتكم في دعوة الآخرين إلى ذلك الدين القويم، لتحوزوا مثل أجورهم- يارعاكم الله- ولا يلزم أن يكون هذا مع غير المسلمين؛ بل إن تعديل الأخطاء وتصحيح المفاهيم حتى مع المسلمين هذا هو مطلب كبير، وهو سَهْمٌ كبيرٌ من أسْهُم الدعوة إلى الله عز وجل.

الدرس السادس: أنَّ الكُفَّار إذا أسلموا فلا حاجة لتجديد عقود زواجهم؛ وإنما تبقى على عقدها الأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُجدِّد عقد أبي العاص لزينب رضي الله عنها، وكثيرٌ من الذين أسلموا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يرِدْ أنه جَدَّد عقودهم، ويقول ابن قدامة رحمه الله: أنكِحةُ الكُفَّار صحيحةٌ، يُقَرُّون عليها إذا أسلموا، ولا ينظر في صفة عقدهم وكيفيته.

وقال ابن عبدالبَرِّ: أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما أن لهما المقام على نكاحهما ما لم يكن بينهما نسبٌ يُحرِّم أو رضاع، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنهم إذا أسلموا فلا يستأنفوا في عقودهم وأنكحتهم؛ وإنما تبقى على مقامها الأول.

وهذا مِن يُسْر الإسلام وسماحته؛ حيث إنه دين مُيسَّر، وهذه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي لنا أن نتدارسَها، وأن نتناقش فيها، وأن نعقد لها الجلسات مع أهلنا وزملائنا وخلائنا ورحلاتنا، وأن نقرأ في كتب أهل العلم عن هذه السيرة العطرة، وأن يكون لنا معها منهجٌ؛ حيث إنها تشتمل على الكثير من الأمور التوعويَّة والتربوية والفقهية حتى في الآداب والأخلاق، ونفعل ذلك تصحيحًا للمفاهيم، وأيضًا لو جعلت أخي الكريم منهجًا لك في قراءة تلك السيرة النبوية العطرة، فماذا لو قرأت في كل يوم ولو مدة عشر دقائق أو صفحة من كتاب؛ فستدرك بذلك شيئًا كثيرًا وجليلًا وجميلًا من هذه السيرة النبوية في وقت يسير، وعلمًا أن هذا العمل الذي تقدمه مهما كان يسيرًا فإنه طلب للعلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سَلَكَ طريقًا يلتمِسُ فيه عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ له به طريقًا إلى الجنَّةِ))، وماذا لو جمعتَ الأسرة المباركة الكريمة، وجعلت لهم مجلسًا أو مجلسين في الأسبوع؟ تتحدثون فيه أو فيهما عن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وتأخذون تلك الأحكام والأخلاق والآداب وما إلى ذلك، وأيضًا تفيدون الآخرين من خلالها، فإن هذا لا شَكَّ أنه عمل تربوي كبير، ينبغي لنا الحرص عليه والتقيُّد به، والحث أيضًا عليه؛ لأنه يُصحِّح أخلاقنا، ويُصحِّح مفاهيمنا، وأيضًا يُصحِّح عباداتنا التي نتقرَّب بها إلى الله تبارك وتعالى، فكم من شخص قد يُصلِّي وفي صلاته خطأ؟ وكم من شخص يتعامل مع أبيه أو أب يتعامل مع أولاده وهذا التعامل خطأ؟ ولو أننا قرأنا وتناقشنا وتحدَّثْنا عن هذه السيرة لتصحَّحَتْ هذه الأعمال، وتناقشنا بما هو فيه خيرنا في الدنيا والآخرة.

اللهُمَّ وفِّقْنا لهُداك، واجعل عملنا في رِضاك، ووفِّقْنا لما تحبُّه وترضاه، وصلَّى الله وسلِّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #28  
قديم 27-11-2022, 12:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (28)
الشيخ خالد بن علي الجريش


الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الكِرام في برنامجكم خاتم النبيِّين، أيها الأفاضل فيما سبق ذكرنا شيئًا من السرايا والبعوث التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض الجهات والقبائل، فذكرنا أحداثها ودروسَها المستفادة منها، ونستكمل في حلقتنا تلك شيئًا من السرايا والبعوث الأخرى، مستذكرين بعض الدروس والعِبَر، فمن ذلك ما يُسمَّى بسرية الخَبَط، وقد رواها البخاري ومسلم، فقد بعَثَ النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنه ومعه ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار؛ ليرصدوا عِيْرًا لقريشٍ، وقد زوَّدهم النبي صلى الله عليه وسلم جرابًا من تَمْر، لم يجد غيره، حتى إذا كانوا في أثناء الطريق نفد زادُهم، فأمر أبو عبيدة رضي الله عنه أن يأتوا بأزوادهم، فجمعها أبو عبيدة وصار يُعطيهم منه قليلًا قليلًا حتى كاد أن يفنى، فصار يُزوِّدهم تمرةً تمرةً، فلكُلِّ رجلٍ تمرة، فكانوا يمصُّونها كما يمصُّها الصبي، ثم يشربون عليها الماء، قال الراوي: فتكفينا تلك التمرة إلى الليل، وسُئل جابر رضي الله عنه: وما تُغني عنكم التمرة؟ قال: وجدنا فقدها حين فقدناها، فأصابهم الجوع والجهد حتى أكلوا الخَبَط، وهو أن يضرب الشجرة اليابسة فيتساقط ورقها، ثم يرطبه بالماء ويأكله، حتى تقرَّحت أشداقهم رضي الله عنهم وأرضاهم؛ ولهذا سميت تلك السريَّة سريَّة الخَبَط، وعندما وصلوا لساحل البحر أخرج الله تعالى لهم من البحر حوتًا يدعى العَنْبر، وهو كبير، قالوا بأنه كالجبل الصغير، فأقاموا يأكلون منه ثماني عشرة ليلة حتى سمنوا وصحَّت أجسامُهم حتى ذكر جابر رضي الله عنه شيئًا من صفات ذلك الحوت، فقال: كنا نغترف من عينه الدهن بالقلال، وهي الأواني الكبيرة، وقال أيضًا: كنا نقتطع منه اللحم بحجم الثور، وقال أيضًا: لقد جلس في مكان عينه ثلاثة عشر رجلًا، وقال أيضًا: أخذنا ضلعًا من أضلاعه فجئنا بأطول رجل على أكبر بعير فمَرَّ من تحته؛ فهذا يدل على ضخامة هذا الحوت، فسبحان الخالق العظيم! وفي تلك السريَّة لم يجدوا تلك العِيْر لقريش، فانصرفوا إلى المدينة فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الحوت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((هو رِزْقٌ أخرجَه اللهُ لكم، فهل معكم مِن لَحْمِه شيءٌ فتُطعمونا؟)) قال جابر: فأعطيناه منه فأكله؛ رواه البخاري ومسلم.

ومن السرايا أيضًا سريَّة كُرْز بن جابر الفِهْري في العُرَنِيِّين، وقد كانت في شوال من السنة السادسة؛ حيث إنه قدم إلى المدينة ثمانية نفر من عُكْل وعُرَيْنة، فأظهروا الإسلام، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وجلسوا في المدينة فأصابهم المرض، وسقمت أجسامُهم وهزلت، فاشتكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تخرجون مع راعينا في إبله؟ فتُصيبون من أبوالها وألبانها؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، فخرجوا إليها، فشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحُّوا وسمنُوا ورجعت إليهم عافيتُهم كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا الراعي، واسمه يسار، ومثَّلُوا به، وسمروا عينيه، وساقوا الإبل معهم، فجاء الراعي الآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صارخًا بأنهم قتلوا صاحبه، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم على أثرهم عشرين فارسًا بقيادة كُرْز بن جابر رضي الله عنه، وأرسل معهم بعض القافة؛ وهو الذي يتتبَّع الأثر ويعرفه، ودعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم أعم عليهم الطريق، واجعله عليهم أضيق من مسك جمل))؛ أي: جلد الجمل، فعمى الله عليهم الطريق، فما ارتفع النهار حتى أدركوهم وأسروهم وربطوهم وأردفوهم على الخيل، حتى أتوا بهم المدينة، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقُطِعَت أيديهم وأرْجُلُهم، وسمرت أعينهم- أي: كحل أعينهم بمسامير محمَّاة بالنار كما فعلوا بالراعي- وألقاهم بالحرة يستسقون فلا يُسْقَون حتى ماتوا، قال أبو قلابة: هؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا وحاربوا الله ورسوله، وأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء العُرَنِيِّين قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33]، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: بأن هذه الآية عامة فيهم وفي غيرهم من المفسدين والمحاربين لله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وهذه الآية هي أصل في حد الحرابة.

ومن السرايا أيضًا التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم سرية عبدالرحمن بن عوف إلى دومة الجندل، وكانت في شعبان من السنة السادسة، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن بن عوف، فقال له: ((تَجَهَّز فإني باعثك في سرية من يومك هذا أو من الغد إن شاء الله)).

فأصبح عبدالرحمن بن عوف، فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقعده بين يديه وعمَّمَه بيده، ثم عقد له اللواء ثم قال: ((خُذْه بسم الله وبركته))، ثم أمَرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام، فسار عبدالرحمن بأصحابه، وكانوا سبعمائة رجل، حتى قدم دومة الجندل، فمكث أيامًا يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم رئيسهم الأصبغ بن عمرو، وكان نصرانيًّا، وأسلم بإسلامه خَلْقٌ كثيرٌ، فبعث عبدالرحمن بشيرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُبشِّره بإسلامهم، وتزوَّج أيضًا عبدُالرحمن ابنةَ رئيسِهم، وقدم بها المدينة، فولدت له سلمة بن عبدالرحمن بن عوف.

أيها الأكارم، تلك من أهم السرايا والبعوث التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض الأقوام والقبائل من العرب، ولعلنا نختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبَر من تلك السرايا، فمن ذلك:
الدرس الأول: في سرية أبي عبيدة رضي الله عنه كان عددهم ثلاثمائة رجل ولم يزوِّدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بجرابٍ من تَمْر لم يجد غيره، ولنا في ذلك وقفة ودرس عظيم؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله تعالى، وهؤلاء الأصحاب هم أفضل القرون، ومع ذلك لم يجد إلا ذلك زادًا لهم، وهذا يفيدنا بأن الدنيا وما تحويه من مآكل ومشارب وملبس ومركب ونحو ذلك، ليست هي الأصل؛ بل إنها وسيلة للآخرة، وعمل الآخرة هو الذي يبقى ذخرًا للإنسان وسببًا لدخول الجنان برحمة الله تبارك وتعالى، وأن اللذائذ من النِّعَم أيًّا كانت وإن كانت حلالًا للمؤمنين؛ إلا أن الإكثار منها ليس ممدحة، وأن الإسراف منها فيه مذمَّة، فرسالة لأولئك الذين يُسرِفون في طعامهم وملابسهم ومراكبهم، وكأن ذلك هو الأصل، فيُقال لهم: رويدًا بأنفسكم، فلو كان ذلك فيما هو أنفع لكان أولى وأتم.

ويزيد الإشكال إشكالًا إذا كان هذا الإسراف من ورائه ديون بسبب هذا الإسراف، فهذه المصيبة الأكبر، فكيف يتحمَّل الديون مع عظم شأنها على نوافل يمكن التخلِّي عنها؟! وهي أيضًا رسالة أخرى لمن لا يحترمون النعمة فيفيضون بباقي أطعمتهم في أماكن لا تليق بها، فيضعها بعضهم مع النفايات العامة مع أنها صالحة للاستهلاك الآدمي، ولو أن هذا وأمثاله غلَّفَها ثم دفعها إلى مستحقِّيها وما أكثرهم! لكان خيرًا وبرًّا بدل أن يكون إثمًا وزُورًا، كيف لا وهناك أناس يتضوَّرُون جوعًا فيمرضون ويموتون ولا يجدون ما يطعمون؟! ألا يكون لنا في هؤلاء عبرة وعظة؟! وقد انتشر في مملكتنا الغالية جمعيات تُعنى بفائض الأطعمة، فيمكن التواصُل معهم لأخذه وإعداده، ويُقترَح أيضًا على تلك الجمعيات وضع وسيلة التواصل في قصور الأفراح وعموم الاستراحات؛ ليسهل التواصُل بهم عند الحاجة مشكورين.

الدرس الثاني: رحمة الله تبارك وتعالى بعباده وأوليائه؛ حيث رزقهم ذلك الحوت الكبير عندما جاعوا واحتاجوا، وفي هذا درس أن الله عز وجل لا يضيع أجْرَ المحسنين؛ بل هو معهم يكلؤهم ويرعاهم ويُسدِّدهم ويطعمهم، ومن يتوكَّل على الله فهو حسبه، ومن أسماء الله تعالى الرزَّاق، فهو يرزق عباده ما يحتاجون إليه في حياتهم، وإذا حصل لك أخي الكريم رِزْق من الله تبارك وتعالى أيًّا كان، فعليك بالإكثار من حمد الله تعالى وشكره، وقد وعدَك الله تعالى بأنك إذا شكرته زادك من عطائه ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]، فعوِّد نفسك اللهج بالشكر عند حصول النِّعَم وتجدُّدها وقضاء الحاجات، فالله تعالى علم حال هؤلاء الصحابة، فرحمهم ورزقهم.

الدرس الثالث: في حجم هذا الحوت الذي هو كالجبل مظهر عظيم من مظاهر قدرة الله تبارك وتعالى؛ حيث إن عظمة هذا المخلوق تدل على عظمة الخالق، وقد سبق وصف الصحابة رضي الله عنهم لبعض مظاهر وصفات هذا الحوت العظيم الكبير، فسبحان الخلَّاق العظيم! وعندما يتأمَّل المسلم تلك المخلوقات يقوى إيمانُه بالله تعالى، وتطمئن نفسه، ويقدر الله تعالى حقَّ قدْرَه، وذلك مِن تقوى القلوب، فما أحوجنا إذا رأينا أو سمعنا أو قرأنا شيئًا من ذلك أن نقف وقفة تأمُّل وتفكُّر ليقوى إيماننا! فهذه الشمس وهذا القمر وتلك السماء والأرض والنجوم وعموم الخلق، هي كلها مجال للتفكُّر والتأمُّل، فاجعل ذلك التفكُّر منهجًا لك؛ فهو من المثبتات على دين الله تبارك وتعالى.

الدرس الرابع: هؤلاء العُرْنِيُّون شكَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجدونه في أنفسهم من المرض، فأرشدهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى ما يكون فيه علاجهم بإذن الله تعالى، وهذا لا بأس به أن يذكر الإنسان حاله لمن قد يستفيد منه في ذلك؛ كالطبيب ونحوه؛ لكن المأخذ عند بعض الناس أنه إذا أصابه عِلَّةٌ أو مرض فقد يشكو ذلك لكلِّ الناس مُخبِرًا لهم بهذا المرض وتلك العلة، ولو أنه اقتصر على من يستفيد منه في ذلك، لكان خيرًا له في دينه ودنياه، فإن الناس فيهم من المشاكل ما يكفيهم، وقد لا يرغبون بذكر المزيد عليها، في حين أن هذا المريض عليه أن يشكو ذلك كثيرًا إلى الله تبارك وتعالى؛ لأنه هو القادر على كل شيء، وهو القريب المجيب، وهو المجازي على تلك الأمراض والعِلَل، وهو الذي قدرها، وهو الذي يزيلها، فاجعل شكواك إلى مولاك ولا تلتفت إلى الخلق إلا بمقدار ما يستطيعون نفعك به، مستعينًا بالله تعالى، معتقدًا أن ما عندهم هو من الله تبارك تعالى، ساقه لك على أيديهم، فهذا أوْلَى وأقْرَب وأصْوَب وأحْكَم بإذن الله تبارك وتعالى.

الدرس الخامس: في فعل العُرْنِيِّين صفة ذميمة يجب على المسلم أن يحذر منها، ويبتعد عنها؛ وهي مقابلة الإحسان بالإساءة، فهم عندما أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه علاجهم وصِحَّتهم، قابلوا هذا الإحسان بالسوء، وهذا من خُبْث الطويَّة وسوء النيَّة، والأصل أن تُحسِن إلى مَنْ أحْسَن إليك، وذلك بدعوة أو غيرها، والبعض من الناس يحسن إلى غيره؛ ولكِنَّ في إحسانه نوعًا من الخلل غير المقصود، فمثل هذا ينبغي أن يُغتفَر خَلَلُه لأجل نيَّته الحسنة، ولا يمنع هذا من إرشاده وتوجيهه ليزول خَلَلُه، واجعل أخي الكريم الإحسان إلى الآخرين سجيَّةً لك تكسب من خلالها محبَّة الله تعالى ورحمته ومعيَّته وعونه وجزاءه لك بالإحسان، فهل جزاءُ الإحسانِ إلَّا الإحسان؟!

الدرس السادس: إثبات العلاج بألبان وأبوال الإبل، وقد أكَّد ذلك عددٌ من الأطِبَّاء في القديم والحديث، وكذلك مراكز الأبحاث؛ ولهذا شواهد كثيرةٌ من الواقع في السابق واللاحق، على اختلاف في آلية التعامل في المسلك العلاجي لهما، إن التحاليل المخبريَّة تدل على أن أبوال الإبل وألبانها تحتوي على تركيز عالٍ من البوتاسيوم والبروتينات والصوديوم وغيرها، ذكر ذلك الدكتور محمد هاج في رسالته العلمية الماجستير، وعلى مَن أراد العلاج بهما استشارة المصادر الطبية ومراكز الأبحاث قبل تناولها ليتعرف على احتياطاتها قبل تناولها، فالأبحاث والنتائج تتجدَّد يومًا بعد يوم، ولا يتناولها اعتمادًا على التجربة، فإن التجارب تختلف من شخص إلى آخر.

الدرس السابع: في تلك الحادثة نزلت آية المائدة؛ وهي نصٌّ في حدِّ الحرابة، فجزاء هؤلاء المفسدين والمحاربين هو ما ذكره الله تعالى في قوله: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا... ﴾ الآية [المائدة: 33].

الدرس الثامن: إن عقوبة هؤلاء الجناة كانت مماثلة لما فعلوه بالراعي؛ كما في كتاب الله، وهذا يُعطينا قاعدةً أن الجزاء من جنس العمل؛ سواء في الخير أو في الشر، فكما يكون العمل فسيكون الجزاء مماثلًا له؛ ولهذا قال الله تعالى في الخير ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60]، فلنحرص على عمل الصالحات لنجد جزاءها تكريمًا ورحمةً وعطاءً وافرًا، ولنبتعد عن السيئات حتى لا نحظى بجزائها؛ وهو العقوبة في الآخرة، إن لم يعْفُ الله تبارك وتعالى.

الدرس التاسع: حُسْن الاستجابة من الصحابة الكرام، وذلك من خلال استعداد واستجابة عبدالرحمن بن عوف عندما أمره النبي صلى الله عليه وسلم في يومه أن يقود تلك السريَّة، فقد استجاب مباشرةً هو وصحبه الكِرام رضي الله عنهم، وهذا شأن المؤمن مع أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، تراه مستجيبًا، يقول: سمِعْنا وأطَعْنا.

فانظر أخي الكريم في أحوالك وتصرُّفاتك وأقوالك، هل هي فيها استجابة لأمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام؟ أم أنها تنحو ذات اليمين وذات الشمال؟ فالأمر الآن بيدك فاستثمر وقتك وحياتك لتصحيح مسارك قبل فوات الأوان.

الدرس العاشر: أهمية البشارة في حصول الخير، وهذا أبو عبيدة رضي الله عنه أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُخبره ويُبشِّره بإسلام رئيسهم، فالبشارة لها مذاقها الطيب لدى المبشِّر والمبشَّر، وفيها أيضًا أجْرٌ عظيمٌ، فهي إدخال للسرور على المسلم حيث يصحبها الابتسامة والاطمئنان والسكون والبهجة والفرح، كذلك الكلمة الطيبة، وأيضًا على مَن تُلقَى عليه البشارة أن يُكثِر من الحمد والشكر لله تبارك وتعالى، وأن يسجد سجود شكر لله عز وجل، فإن ذلك الفعل والقول هو سبب للزيادة من الخير، وكم تستجد نعمة أو تندفع نقمة عند بعض الناس فينسى سجود الشكر ويلهو بما بشَّره به الآخرون!

أيها الكِرام، السيرة كلها دروس وعِبَر تُصحِّح المفاهيم، وتُقوِّي الإيمان، وتزيد في العلم، فليكن لنا في قراءتها نصيبٌ وافرٌ، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي منهج يسير عليه المسلم تزكيةً لنفسه وسلامةً لقلبه وشرحًا لصدره وتصحيحًا لمفاهيمه، فماذا أخي الكريم لو قرأتَ في كل يوم ولو عشر دقائق أو صفحةً من كتاب، فستدرك بذلك شيئًا كثيرًا وجليلًا وجميلًا من السيرة النبوية في وقت يسير، فابدأ واستمر، فأنت تقرأ سيرةَ أعظم رجل في التاريخ وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وما تقرؤه اذكره في مجالسك لتفيد الآخرين وتستفيد أيضًا ثبات هذا العلم في ذهنك، وهذا من طلب العلم ونشره فسييسِّر الله تعالى لك طريقًا إلى الجنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن سَلَكَ طريقًا يلتمِسُ فيه عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لهُ به طريقًا إلى الجَنَّةِ))، فأنت إذا قرأت في هذه السيرة النبوية واستفدت منها الأحكام الفقهية والوقفات التربوية وتصحيح المفاهيم، فإنك بذلك تعرف الحكم والدليل؛ لأن هذا هو فعل النبي عليه الصلاة والسلام وفعل أصحابه ومجالسته عليه الصلاة والسلام لهم رضي الله عنهم، فأنت بهذا تعرف الوقائع الشرعية، فتستطيع أن تعبد الله تبارك وتعالى على ما شرعه لك، فاحرص أخي الكريم أن يكون لك جلسة مع أولادك، حتى يتفقَّه الجميع، وفي هذا خيرٌ عظيمٌ لا يُحصَى كثرةً، فتغشاكم الرحمة، وتنزل عليكم السكينة، ويذكركم الله تعالى فيمن عنده، وهذا لا شَكَّ أنه خيرٌ عظيمٌ، وتكون مجالِسُكم وبيوتُكم ومنازِلُكم هي مأوى هؤلاء الملائكة الكِرام الذين حفُّوكم، وجلسوا حولكم، فكنتم جلساء الملائكة مع ما يحصل من طمأنة النفوس وشَرْح الصدور، فهذا خيرٌ عظيمٌ لا سيَّما وأن فيه زوالًا لكثيرٍ من المشاكل؛ لأن المشاكل التي عند الأولاد أو المشاكل الزوجية سيأتي مثل هذه المجالس وسيكون حلًّا لها بإذن الله تبارك وتعالى.

أسأل الله عز وجل لنا جميعًا الهُدَى والتُّقَى والسَّداد والرشاد، اللهُمَّ أوصِلْنا دار السلام بسلامٍ، ووفِّقْنا لهُداك، واجعل عملنا في رِضاك، وارحمنا واغفر لنا ووالدينا والمسلمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #29  
قديم 27-11-2022, 12:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (29)
الشيخ خالد بن علي الجريش




الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الأفاضل في برنامجكم خاتم النبيِّين، وقد ذكرنا أيها الكِرام في الحلقة السابقة شيئًا من السرايا والبعوث التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم لأقوام وقبائل من العرب دعوةً لهم وأيضًا غزوًا لهؤلاء ونحو ذلك، وذيَّلْناها أيضًا بالدروس والعِبَر المستفادة منها، وفي حلقتنا هذه نتعرَّض لأحداث صُلْح الحديبية وما فيه من أحداث ووقائع ودروس وأحكام، والحديبية هي اسم لبئر تقع على بُعْدِ اثنين وعشرين كيلومترًا من الشمال الغربي لمكة، وتُعرَف اليوم بالشميسي، ففي شهر ذي القعدة من العام السادس الهجري أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه أنه يريد العمرة، وأنه رأى في منامه أنه دخل البيت هو وأصحابه رضي الله عنهم محلقين رؤوسهم ومقصرين، فما أنْ سَمِع الصحابة رضي الله عنهم بذلك حتى أسرعوا وتهيَّأوا للخروج معه، وفرحوا بذلك أشدَّ الفرح، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر معه العرب من البوادي ممن أسلموا ليخرجوا معه خشيةَ أن تتعرَّض له قريش ويصدُّونه عن البيت الحرام، فنفر بعضهم وتأخَّر كثيرٌ منهم، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [الفتح: 11]، وهم قد تخلَّفُوا عن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العمرة في عام الحديبية، وقد ظنُّوا أنه سيُهزَم، فاعتذروا بالأموال والأولاد عن الصُّحْبة، والقرآن في هذا العرض يعالج أمراض النفوس والقلوب، ويُعالِج الضعف والانحراف، ثم يُوضِّح القِيَم والحقائق الواقعة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة متوجِّهًا إلى مكة في يوم الاثنين من شهر ذي القعدة من العام السادس للهجرة، ومعه من أزواجه أُمُّ سلمة رضي الله عنها، وخرج معه من أصحابه ألف وأربعمائة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ومَنْ لحِقَ به أيضًا من الأعراب، ولم يكن معه سلاح إلَّا سلاح المسافر وهي السيوف، وساق معه الهَدْي وعددُها سبعون بدنةً، ومع هذا الهَدْي جَمَل لأبي جهل جاء به ليغيظ به المشركين، وبعث الهَدْي مع ناجية بن جندب الأسلمي، فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة صلَّى الظهر، ثم دعا بالهَدْي فقلَّده وأشعرَه- أي: جعل عليه شعارًا ليكون علامةً على أنه هدي- وأحرم بالعمرة ولبَّى، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه بشر بن سفيان عينًا له إلى قريش ليأتيه بخَبَرهم، وأكمل النبي صلى الله عليه وسلم طريقه ومساره إلى مكة حتى إذا كان قريبًا من عسفان أتاه الذي أرسلَه لينظر في خبر قريشٍ وهو عينه، فقال له: إنَّ قريشًا قد جمعوا لك جموعًا من الأحابيش وغيرهم، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن المسجد الحرام، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في ذلك وقال: ((أشيروا أيها الناس عليَّ))، فقال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدًا لهذا البيت، لا تريد قَتْلَ أحَدٍ ولا حَرْبَ أحدٍ، فتوجَّه له، فمَنْ صدَّنا عنه قاتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((امضوا على اسم الله))؛ أخرجه البخاري، فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى عسفان اقترب إليه خالد بن الوليد- وذلك قبل إسلامه- في مائتي فارس، فكانوا بين المسلمين وبين القبلة، وفي تلك الحال نزل الوحي بصلاة الخوف وبصفتها، فصلَّى المسلمون صلاةَ الظهر، فلمَّا قُضِيت الصلاة قال المشركون بعضُهم لبعضٍ: لو أصَبْناهم وهم في حال صلاتهم، لكان إتيانًا لهم على غِرَّة؛ ولكن ستأتي عليهم صلاةٌ أخرى- يعنون صلاة العصر- ولنفعل ذلك، فنزلت صفة صلاة الخوف بين الظهر والعصر، وهي قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ﴾ [النساء: 102]، فحضرت صلاة العصر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا السلاح في صلاتهم، وهذه هي الصفة المشهورة بحيث إن المأمومين في تلك الحال لا يكونون جميعًا في حال السجود، فيسجد الصَّفُّ الأوَّل ويقوم الصَّفُّ الثاني باتجاه العدوِّ، فهذه أوَّلُ صلاةِ خوفٍ صلَّاها المسلمون، كما ذكر ذلك ابن حجر في فتح الباري، وقد ورد في صلاة الخوف صفات مُتعدِّدة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تفادَى الاشتباك مع قريش، فذهب بأصحابه إلى الحديبية عند بئر هناك فيها شيء من الماء، فنزحوها حتى انتهى ماؤها، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شِدَّةَ العطش فيهم، وفي ركائبهم، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم سهمًا من كنانته، فأمرهم أن يجعلوه فيه، فما زال البئر يفور بالماء حتى رَوَوا وسقوا ركائبهم؛ رواه البخاري، وأيضًا معجزة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري في كتاب المغازي، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: "عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة- والركوة هي جلد صغير فيه ماء قليل- فتوضَّأ فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل الناس نحوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لكم?))، قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضَّأ منه ولا نشرب إلَّا ما في ركوتك هذه، فقال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يَدَه في الركوة، فجعل الماء يفور بين أصابعه كأمثال العيون، قال جابر رضي الله عنه: فشربنا وتوضَّأنا، فقيل لجابر: كم كنتم يومئذٍ? قال: كُنَّا ألفًا وخمسمائة، ولو كُنَّا مئة ألف لكفانا"؛ أخرجه البخاري، وفي الحديبية أصاب المسلمين مطرٌ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصلُّوا في رحالهم، وعندما صَلَّى بهم بعد ذلك أقبل عليهم بوجهه، وقال: ((أتدرون ماذا قال ربُّكم?))، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((قال الله: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي، وكافرٌ بي، فأمَّا مَن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأمَّا مَن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافرٌ بي مؤمِنٌ بالكوكب))؛ متفق عليه.

وفي مكث النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية جاء إليه بديل بن ورقاء وكان من خزاعة، وكانت خزاعة مسالمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بديل: إنَّ قريشًا صادُّوك عن البيت ومقاتلوك، فأخبره صلى الله عليه وسلم أنهم لم يجيئوا مقاتلين؛ وإنما جاءوا إلى البيت، فمَنْ قاتلنا قاتلناه، فانطلق بديل إلى قريش وأخبرَهم بما قال، فقالوا: والله، لا يدخلها قهرًا وغلبةً وتتحدَّث العرب بذلك، ثم بعد ذلك أرسلت قريش رُسَلَها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفاوُض، فأوَّل رسول لهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو مكرز بن حفص، فقد بعثَتْه قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل ورآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هذا رجل فاجر))، فلما تحدَّث مع النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما رَدَّ بديل بن ورقاء، ثم رجع إلى قريش، ثم بعثت قريش رسولًا آخر، وهو الحلس بن علقمة، فلمَّا رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هذا من قوم يُعظِّمون البُدْن، فابعثوها له))، فبعثوا الهَدْي، واستقبله الناس يُلبُّون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل رجع مباشرةً إلى قريش بعد رؤيته البدن وسماعه للتلبية، وقال لهم: رأيت البُدْن قد قُلِّدَتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت? فردُّوا عليه ردًّا سيئًا، فغضب عليهم وسبَّهم، ووعدهم أن ينفر بالأحابيش فلا يقاتلون معهم، ثم ذهب رسول ثالث لقريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عروة بن مسعود قبل أن يسلم، فقال عروة للنبي صلى الله عليه وسلم: أتجمع أوباش الناس وتستأصل بهم بيضتك وأمْر قومِك، ثم ردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يأتِ للحرب، ثم أخذ عروة ينظر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما بصق النبي صلى الله عليه وسلم بصاقًا إلَّا كان بيد أحدِهم فدَلَكَ به وجهه وجِلْده، وإذا أمرهم ابتدروا، وإذا توضَّأ اقتتلوا على فضل وضوئه، وإذا تكلَّموا خفضوا أصواتهم، وما كانوا يُحِدُّون النظر إليه؛ تعظيمًا له واجلالًا له، فلَمَّا رجع عروة إلى قريش ذكر لهم ما رأى من ذلك الواقع الجليل في مَحبَّة الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نردُّه عن البيت في عامِنا هذا، ويرجع من قابل فيدخُل مكة ويطوف بالبيت، أيها الأفاضل الكِرام للحديث بإذن الله تعالى بقية، ونختم حلقتنا هذه بشيءٍ من الدروس والعِبَر؛ لكننا بإذن الله تعالى سنستكمل الحديث عن صلح الحديبية في الحلقة القادمة إن شاء الله عز وجل، فمن الدروس والعِبَر ما يلي:
الدرس الأول: أن رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي نوع من أنواع الوحي؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل البيت هو وأصحابه، وإن كانت هذه الرؤى للأنبياء وَحْيًا فهي لغيرهم من المُبشِّرات، يراها المسلم أو تُرى له، وهذه الرُّؤى تنقسم إلى قسمين: الأول: رؤيا ظاهرها الصلاح والارتياح والاطمئنان والسكينة، فهي رؤيا صالحة يسأل عنها الرائي ويحمد الله تبارك وتعالى عليها، ويخبر بها مَنْ يُحِبُّ؛ ولكنه لا يغترُّ بتأويلها، ويسأل الله تعالى الإعانة والسداد ويحمده عليها، وتكون تلك الرؤيا الصالحة مقربةً إلى الله تبارك وتعالى.

النوع الثاني من الرؤى: رؤيا ظاهرها السوء والضيق، فهذه موقف المسلم منها ما يلي: لا يُحدِّث بها أحدًا، ويستعيذ بالله تعالى من الشيطان وشر تلك الرؤيا، وأيضًا كذلك لا يسأل عن تأويلها، ولا يُفكِّر بها، ولا تستولي عليه، فإنه إذا فعل ذلك، فإنها لا تضُرُّه بإذن الله عز وجل؛ حيث إنَّ أحد الصحابة شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرى الرؤيا السيئة فتُمرِضه أيامًا، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا يخبر بها أحدًا، ويستعيذ بالله من شرِّها والشيطان، فيقول ذلك الصحابي: فعلتُ ذلك، فأذهب الله عني أذاها في حين أن بعض الناس كُلَّما رأى تحدَّث للناس بما رأى، وسأل أيضًا عمَّا رأى سواء كان حسنًا أو سيئًا، وهذا لا شَكَّ أنه منهج جهل وحُمْق.

الدرس الثاني: عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى مكة عام الحديبية اعتذر أناس بأعذارٍ واهيةٍ يظنُّون أنهم سيسلمون بعدها من العتاب؛ لكن القرآن نزل بعتابهم وفضَحَهم، وهذا يُعطينا معنًى تربويًّا إيمانيًّا بأن المسلم إذا انتدب إلى ما فيه صلاح للإسلام والمسلمين وهو قادر عليه، فليمتثل ذلك الأمر، فهو خيرٌ له من بقائه بعُذْرٍ مكذوبٍ ولا حقيقة له، وهذا يجري مع الحاكم والوالد والصديق والقريب ودائرة العمل، وفي المجال الدعوي ونحوهم، وهذا يكسبه أجرًا وعملًا صالحًا وطاعةً وبرًّا، فإذا صدر من هؤلاء ونحوهم أمْرٌ فيه صلاحٌ، فليُبادر ذلك المأمور، ولا يختلق الأعذار الوهميَّة ما دام قادرًا ومؤثرًا، فليحتسب في ذلك الأجر والثواب عند الله تبارك وتعالى.

الدرس الثالث: رحمة الله تعالى بعباده وحفظه لهم من أعدائهم؛ حيث شرع لهم صلاة الخوف بهذه الصفة المذكورة؛ بحيث يجمعون بين صلاتهم ومراقبة عدوِّهم.

الدرس الرابع: في استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حَثٌّ على الشورى، والاستشارة تكون في جميع الأمور التي تشكل على الإنسان، فالاستشارة هي جَمْع خلاصة عقول الآخرين، وقد يتَّضِح بعد الاستشارة أمورٌ هي غائبةٌ قبل الاستشارة، وهي أيضًا مُهِمَّةٌ، ففي البيع والشراء والبناء وغيرها من شؤون الحياة تكون الاستشارة غايةً في الأهمية، فأنت قبل الاستشارة تعمل بعقل واحد، أما بعدها فتعمل بخلاصة عدد من العقول؛ مما يجعل المشروع أقرب إلى النجاح منه إلى الفشل، فالاستشارة والاستخارة أمرانِ مُهِمَّانِ في هذا الجانب.

الدرس الخامس: في مشروعية صلاة الخوف بيان واضح لأهمية الصلاة وإقامتها جماعة، فهم رضي الله عنهم وهم أمام عدوِّهم مأمورون بأداء الصلاة وأيضًا جماعة، وهذا يُعطينا درسًا أن نُعيدَ حساباتنا مع الصلاة، فهؤلاء صلَّوها وفي وقتها جماعةً وهم أمام العدوِّ، وفي المقابل أناس يُؤخِّرونها وأيضًا فُرادى مع الأمن دون خوف، فسبحان مَن وفَّق هؤلاء المصلِّين وحَرَمَ أولئك المؤخِّرين! وهل يظُنُّ هؤلاء المؤخِّرون لصلاتهم أو يصلُّونها فُرادى، هل يظنُّون أنهم حقَّقُوا بذلك فوزًا دنيويًّا أو أخرويًّا؛ إنما خالفوا نصوصًا كثيرةً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفاتهم من الأجور الشيء الكثير، فخسروا تلك الخُطَى إلى المساجد، وخسروا انتظار الصلاة، وخسروا الجماعة، وخسروا دعوات المسلمين باجتماعهم، وخالفوا نصوصًا من الكِتاب والسُّنَّة صريحةً في حضور الجماعة، وفي المقابل هل ينتظرون بذلك رشدًا في عقولهم أو زكاةً في نفوسِهم أو انسجامًا في حياتهم فلا تستقيم الحياة كما نريد إذا لم تستقِم الصلاة، ولو تأمَّلوا أيضًا أن تلك الصلاة هي أول ما يُحاسَبُون عليه لهرعوا إلى تحقيقها كما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن الله عز وجل يهدي مَنْ يشاء ويضل مَنْ يشاء، وربَّما تسلَّل هذا الخَلَل إلى أولادِهم، فباءوا به؛ حيث إنهم هم الذين ربَّوهم عليه.

الدرس السادس: في أحداث صلح الحديبية معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي من دلائل النبوة، فإن المسلم عندما يقرأ هذه المعجزات يقوى إيمانه، ويزداد ثباتًا على دينه، وكم هو جميل جِدًّا أن نضع لأنفسنا وأولادنا جلسات أسريَّة مع تلك المعجزات? تقويةً لهم وتصحيحًا لمفاهيمهم وتعريفًا بنبيِّهم، ونستخرج منها أيضًا الدروس والعِبَر ليعرفوا تلك الدلائل بوضوح.

الدرس السابع: عندما نزل المطر في صُلْح الحديبية أرشدَهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يقولوا: مطرنا بفضل الله ورحمته، وهذا هو المشروع عند نزول المطر مع حسر الرأس ليُصيبه المطر، كما فَعَل النبي صلى الله عليه وسلم، ويشرع أيضًا أن يقول المسلم: اللَّهُمَّ اجعله صَيِّبًا نافعًا، فهذا ممَّا يشرع عند نزول المطر كما يشرع أيضًا كثرة الدعاء، فهو موطِن من مواطِن استجابة الدعاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثنتانِ لا تردان: الدعاء عند النداء، وعند المطر))؛ حسَّنَه الألباني.

الدرس الثامن: يحسن مقابلة الناس بما يُناسبهم من المحاسن، فعندما أقبل عليهم الحلس رسولًا من قريش، وكان من قوم يحبون البُدْن، أقاموا له البُدْن، فأعجب بذلك، فلتكن مقابلتنا للناس وحديثنا معهم هو بما يناسبهم، وفيما هو من اهتمامهم وبما يعجبهم، إذا كان ذلك من المحاسن والمحامد؛ وذلك تأنيسًا لهم، واستفادة منهم، وتأليفًا لقلوبهم، وتقريبًا أيضًا لنفوسهم، ويظهر الفرق جليًّا واضحًا في فعل ما يضادُّ ذلك، فقد تخبو المجالس ويتسلَّل إليها المَلَل والكَلَل، وهذا مُشاهَد من الواقع.

الدرس التاسع: في تلك الأحداث يظهر حُبُّ الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أعجب رسول قريش بما يفعله الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمًا له وإجلالًا له، وإن كان هذا حال الصحابة الكِرام مع نبيِّهم في حياته، فلنا بهم أسوةٌ في محبَّتِنا لسُنَّتِه بعد مماته، وتطبيقها والحرص عليها، وتربية أبنائنا عليها، فهي منهجنا مع القرآن في جميع شؤون حياتنا؛ في ديننا ودُنْيانا، فمَنْ حادَ عنهما، فقد ضَلَّ بقدر ذلك الميل والحياد، ومَنْ تمسَّك بهما عاشَ حياةً سعيدةً ومطمئنَّةً؛ سواء مع النفس أو الأقربين أو شرائح المجتمع المختلفة، فلنتعلم تلك السُّنَّة، ومن ذلك حفظ أذكارها فيما يُعرَف بعمل اليوم والليلة لأنفسنا وأولادنا، فلو جعلنا في هذا منهجًا محررًا، لكان خيرًا عظيمًا لأولادنا وأحفادنا، ففي كل أسبوع نوعان من الأذكار يتم تعلُّمُها وتطبيقهما وحفظهما، فسنأتي على كثيرٍ من السُّنَّة في زمن يسير، فاعزم العقد أخي الكريم على تطبيق ذلك مع نفسك وأولادك، لعلَّ الله عز وجل أن يجعل في ذلك الخير العظيم، ثم إنَّ دراسة السيرة هي غاية في الأهمية، فهي اقتداء وعِلْم وعمل وخير عظيم وتعلُّم للشمائل والأحكام الشرعية والآداب والأخلاق وما إلى ذلك، كما أنَّ مَنْ سَلَك ذلك التعلُّم لهذه السيرة فقد سَلَك طريقًا يلتمِسُ فيه عِلْمًا، والحاصل أنَّ اللهَ عَزَّ وجلَّ سيُسَهِّل له طريقًا إلى الجنة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ سَلَكَ طريقًا يلتمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لهُ بِهِ طريقًا إلى الجنة))، ولو كانت قراءتُك في السيرة أو غيرها من العلوم قراءةً يسيرةً ومقتضبةً، وحتى لو كانت صفحةً في كل يوم، فإنك ستقرأ في السنة الكاملة ما لا يقل عن ثلاثمائة وستين صفحةً، وهذا لا شَكَّ أنه رِبْحٌ كبيرٌ، وعِلْمٌ غزيرٌ.

أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا الهُدَى والتُّقَى والسَّداد والرَّشاد، اللهُمَّ أوْصِلْنا دارَ السلام بسلام، وعافِنا واعْفُ عَنَّا، واغفر لنا وارحمنا ووالدينا والمسلمين، وصَلَّى الله وسلِّم على سيِّدنا محمدٍ، وعلى آلِهِ وصَحْبِه أجمعين.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #30  
قديم 16-12-2022, 08:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (30)
الشيخ خالد بن علي الجريش


الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على مَن أُرْسِل رحمةً للعالمين، وعلى آلِهِ وصَحْبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الكرام في برنامجكم خاتم النبيِّين، أيها الأكارم سبق معنا في الحلقة الماضية الحديث عن صلح الحديبية، وكيف خرج النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه يريدون العُمْرة لا غيرها؟ وكيف وقفت لهم قريش صادَّةً لهم عن البيت؟ وذكرنا أيضًا المراسلة بين قريش والنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إن قريشًا ردَّت النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول إلى مكة، فجاءت الرسل للمفاهمة حيال هذا الرد، وذكرنا أيضًا نزول آية الخوف وشيئًا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، وفي حلقتنا لهذا الأسبوع نذكر إكمالًا لهذا الصُّلْح في الحديبية؛ فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية إلى قريش ليخبرهم بأنه قد جاء زائرًا إلى البيت وليس للقتال، فذهب خراش إلى مكة ووصل إليهم فأساءوا إليه وأرادوا قتله، فمنعهم الأحابيش من ذلك فخلَّوا سبيله، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما لقي، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عثمان بن عفان إلى قريش، فلما دخل مكة لقِيَه أَبَانُ بن سعيد وقد أسلم أَبَانُ بعد الحديبية، فحمله على دابَّتِه وأجاره حتى يُبلِّغ ما كلَّفَه به النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وكِبار قريش، فبلَّغَهم رسالةَ النبي صلى الله عليه وسلم، فلمَّا فرغ عثمان من كلامه، قالوا له: إنْ شئت أن تطوف بالبيت فافعل، فقال عثمان رضي الله عنه: ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، واحتبست قريش عثمان عندهم ليتشاوروا في ردِّهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فطال هذا الاحتباس شيئًا من الوقت فشاعَ بين المسلمين أن عثمان قد قُتِل، فلما بلغت تلك الإشاعة النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نبرح حتى نُناجِز القوم))، ثم دعاهم إلى البيعة فبايعوه رضي الله عنهم، ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده اليُمْنى وقال: ((هذه يدُ عثمان))، فضرب بها على يده اليُسْرى، وقال: ((هذه لعثمان))، وكانت تلك البيعة على ألَّا يفرُّوا إذا حصل قتال مع قريش، وقد بايع الجميع النبي صلى الله عليه وسلم إلَّا رجلٌ واحدٌ وهو الجَدُّ بن قيس، وقد اختبأ خلف جَمَلِه الأحمر، وقد روى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّكم مغفورٌ له إلَّا صاحِبُ الجَمَل الأحْمَر))، فأتيناه فقلنا: تعالى يستغفر لك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله، لأنْ أجِدَ ضالَّتي أحبُّ إليَّ مِن أنْ يستغفِرَ لي صاحِبُكم، وكان ينشد ضالَّةً له.

وهذه البيعة هي بيعة الرضوان، وقد قال الله تعالى فيها: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخُل النارَ أحَدٌ بايَعَ تحتَ الشجرةِ))؛ رواه أحمد، ولم يُعرَف موضع الشجرة بعد ذلك، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: رجعنا من العام المُقْبِل فلم نعرف موضِعَ الشجرة التي حصلت عندها البيعة، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده؛ حتى لا يُفتتن بها.

ثم بعد أن تمت البيعة رجع عثمان رضي الله عنه إلى المسلمين، ولمَّا علمت قريش بالبيعة خافَ بعضُهم ورغبوا بالصلح، في حين رأى البعض الآخر اللجوء إلى الحرب، فقرَّرُوا التسلُّل إلى معسكر المسلمين ليشعلوا الحرب، فتسلَّل منهم ثمانون رجلًا على معسكر المسلمين، فتم أسْرُهم جميعًا، وأُحضِرُوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعد حديثه صلى الله عليه وسلم معهم عفا عنهم وأطلقهم؛ وذلك رغبة منه في الصلح، وأنه لم يأتِ للحرب، وفي ذلك نزل قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الفتح: 24]، ولما رأت قريش ذلك أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو ومَن معه، وقالوا له: ايتِ محمدًا فصالحه، ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع هذا العام ويعتمر من العام القادم، فلما أتاه سهيل ورآه النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((قد سهل الله لكم أمركم))، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فلما تحدَّث سهيل مع النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((تخلوا بيننا وبين البيت نطوف به))، فقال سهيل: والله لا تتحدَّث العرب إنكم دخلتم عَنوة- أي: قهرًا- ولكن لتطوفوا من العام القابل، ثم اتفقوا على شروط الصلح، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليكتب الكِتاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اكتب بسم الله الرحمن الرحيم))، فقال سهيل: أمَّا الرحمن فوالله ما أدري ما هي؟ ولكن اكتب "باسمك اللهم"، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اكتب باسمك اللهم))، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: ((هذا ما قاضى عليه محمدٌ رسولُ اللهِ سهيلَ بن عمرو))، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صدَدْناك عن البيت ولا قاتلناك؛ ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((واللهِ إني لرسول الله وإنْ كذبتموني))، ثم قال لعلي رضي الله عنه: ((امْحُها))، فقال عليٌّ: والله لا أمحوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أرني مكانها)) فمحاها بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم.

ولما كتب الصلح أشهد عليه النبي صلى الله عليه وسلم عددًا من الصحابة، ومنهم أبو بكر وعمر وعثمان، وشهد عليه من المشركين من كان مع سهيل في الصلح، ونسخت هذه الشروط لهذا الصلح، فكانت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومثلها مع قريش، وكانت بنود الصلح كما يلي:
أولًا: يرجع محمد عامَه هذا فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل أتَوا إلى مكة ليعتمروا.

ثانيًا: وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين.

ثالثًا: من أحب أن يدخل مع محمد دخل فيه، ومن أحَبَّ أن يدخل مع قريش دخل معهم.

رابعًا: مَنْ أتى من قريش إلى المسلمين فيردُّونه إلى قريش، ومَن أتى من المسلمين إلى قريش فلا يردُّونه إلى المسلمين، وكان هذا أشدَّ الشروط على المسلمين.

فكانت تلك هي شروط صلح الحديبية بين قريش والمسلمين، فتعاقدوا عليها، وفي هذه الأثناء جاء أبو جندل- وهو ابن سهيل بن عمرو كاتب الصلح- إلى المسلمين مسلمًا، فقال أبوه سهيل: أول ما أقاضيك به يا محمد ابني أبو جندل، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم إجازته أن يذهب إلى المسلمين فلم يُجِزْه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حينها لأبي جندل: ((يا أبا جندل، اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، فأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عليه عهدًا، وإنا لن نغدر بهم))، وقد حزن المسلمون على تلك الشروط وهم قد عزموا على أداء العمرة، وإنهم على الحق، وكان من أشدِّهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذهب عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ألست نبيَّ اللهِ حقًّا? قال: ((بلى))، قال عمر: ألسنا على الحق وهم على الباطل? فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بلى))، فقال عمر: فلمَ نعطي الدنيَّة في ديننا? فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني رسول الله، ولستُ أعصيه وهو ناصري))، وقال عمر مثل ذلك لأبي بكر، فرَدَّ عليه أبو بكر بقوله: إنه لرَسُول الله وليس يعصي ربَّه وهو ناصِرُه، فاستمسِكْ بغرزه، فوالله إنه على الحق؛ أخرجه البخاري، فلمَّا نزلت سورة الفتح بعد ذلك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عُمَر فقرأها عليه، فطابت نفسُ عمر، فكان عمر يقول: ما زلتُ أتصدَّق وأصلِّي وأعتق مما صنعت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخافة من عقوبة كلامي معه.

معاشر الأفاضل الكرام، لعلنا نختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبَر المستفادة على أمل بإذن الله تعالى أننا سنُكمِل في الحلقة القادمة بإذن الله عز وجل ما تبقَّى من أحداث صلح الحديبية، فمن الدروس ما يلي:
الدرس الأول: أن التفاهم بين كل طرفين هو من أهم الأخلاق والآداب بخلاف العنجهية والإقدام من غير تفكير، فهو له مفاسد عظيمة، فهؤلاء الرسل بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش.

كل ذلك فعله النبي صلى الله عليه وسلم لجلب المصلحة ودرء المفسدة، وإن كان ذلك التفاهم في الصلح؛ إلا أنه يمكن اعتباره في جميع شؤون الحياة، خصوصًا في الشؤون الأسرية، فالتفاهم بين الزوجين، وبين الأب وابنه، والقريب وقريبه، والجار وجاره، كل ذلك غاية في الأهمية، أمَّا مَنْ يستعجل في اتخاذ القرار دون تفاهُمٍ أو مناقشة، فإن هذا يحصل عليه من المفاسد الشيء الكثير، كما أنه سيخسر شيئًا من المصالح، وسيشعر بعد ذلك بالندم، فيا معاشر الأزواج والآباء، والأقارب والجيران، لا تستعجلوا في اتخاذ القرار بينكم؛ لأن القرار إذا تمَّ اتخاذه وحصلت عليه المفسدة يصعب إرجاع المياه إلى مجاريها، فتأمَّلوا أحوالكم، وليتحمَّل بعضُكم بعضًا مقابل المصالح المرجوَّة، فلو فكَّر الزوجان قبل الفِراق وتفاهما، ففي الغالب لم يفترقا؛ لأن الأسباب أحيانًا تكون في موازين العقول السليمة أوهنَ من بيت العنكبوت، ومثل ذلك أيضًا الاستعجال بلفظ الكلمات في أوقات الأزمات، فهي تحتاج إلى تأمُّل وتفكير حتى لا يحصل الندم، فهذا الصلح لما كان فيه هذا التفاهُم حصل على إثره خيرٌ كبيرٌ؛ وهو الفتح والاستقرار وغيرهما، والحمد لله.

الدرس الثاني: عندما ذهب عثمان إلى قريش للتفاهُم معهم أُشِيع أنه قُتِل، فالإشاعة لها سلبياتها، وأيضًا على مَنْ سَمِعَها أن يتثبت فيها؛ لأنه يترتب على الإشاعة أحيانًا فهومات سلبية ونظرات سيئة.

ومن المنهج السلبي عند بعض الناس أن يكون هو الأسبق في نشر الخبر بغض النظر عن التثبُّت فيه، وهذا ليس منهجًا سليمًا في استقبال المعلومات؛ بل اجعل الناس لا يعرفون عنك إلَّا الحقيقة، أمَّا ما خرج عن دائرة الحقيقة فلا تتبعه نفسك لا استقبالًا ولا إفادة للغير، والله عز وجل يقول في استقبال الأخبار: ﴿ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6]، فلا تكن درجة من درجات الكذب، ولا مرحلة من مراحل الوهم؛ بل كن مع الحقيقة فقط.

الدرس الثالث: عندما تسلَّل ثمانون رجلًا من قريش وأُسِروا، عفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان ذلك العفو هو لإدراك مصلحة كبرى؛ وهي الصلح، فكم هو جميل أن نعفو عمَّن أخطأ علينا لننال المصلحة الأكبر؛ وهي التآخي والتصافي، فالاستمساك بالحال الراهنة من دون نظر للمآلات والعواقب ليس من أخلاق الكبار؛ بل أخلاق الكبار تتجه حيث اتجهت المصالح الكبرى ولو خسروا بعض المصالح الدنيا، فلو كنا في شؤوننا ننظر للمآلات وعواقب الأمور والمصالح الكبرى لكانت حالنا أحسن وبكثير؛ بل لا أبالغ إن قلت: إن القضايا في الجهات الرسمية ستكون أقل عددًا وكمًّا، وسيرتاح الطرفان لو تفاهما ونظرا إلى المآلات والعواقب؛ ولكن كل مشكلة خلفها شيطان يؤزُّ عليها ويُحرِّكها، ويُعْمي عن المصالح المشتركة؛ ولكنها تحتاج إلى تأمُّل يسير.

الدرس الرابع: عندما قدم سهيل بن عمرو للصلح قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سهل أمركم)) وهذا جانب كبير من التفاؤل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التفاؤل، فإن النفس تنشرح وتبتهج إذا عاشت التفاؤل صفة لها وسجية من سجاياها، فلنجعل حياتنا تفاؤلًا بالخير حتى ولو ضاقت نسبيًّا، فلا تُفكِّر في هذا الضيق بقدر ما تفكر بالإيجابية الموجودة فيه ولو كانت يسيرة فانطلق منها، فالمرض مثلًا ضيق، والفقر أيضًا ضيق ونحو ذلك؛ ولكن فيهما زاوية إيجابية؛ وهي تكفير الذنوب في الأمراض، وربما أن الفقر كان حائلًا عن كثير من الشرور ونحو ذلك، فالله عز وجل حكيمٌ عليمٌ.

الدرس الخامس: في بداية الصلح لم ترض قريش أن يكتب "بسم الله الرحمن الرحيم"، ولم يرضوا أيضًا أن يكتب "محمد رسول الله"، وفي هذا ظهرت غيرة الصحابة رضي الله عنهم غيرة شديدة، وهكذا المسلم يغار على دينه أن ينتقص منه شيء، فالغيرة على محارم الله هي صفة جليلة للمسلم يزداد بها قُرْبًا من الله عز وجل، وثباتًا على دينه، وبراءةً لذمته، وأمرًا ونهيًا لمن انتقص بفعل أو قول، وأمَّا إذا زالت الغيرة فقد يختم على القلب فلا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا إلَّا ما أُشْرِب مِن هواه، فالغيرة على النفس وعلى المحارم وعلى المسلمين أمرٌ عظيمٌ حثَّ عليه الشرعُ وأمَرَ به.

الدرس السادس: أهمية صفة الوفاء بالعهد والعقد بأمانة وصدق، وذلك مقتبس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل عندما ذكر له أن هذا عقد تم مع قريش، وسيجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا، فصفة الأمانة صفة عظيمة يدخل فيها الوفاء بالعهود والعقود والوعود، ويدخل فيها أيضًا الصدق في التعامل؛ سواء كان له أو عليه، وليعلم المُخْلِف للعهد والعقد والناقض لهما، وليعلم أيضًا الخائن للأمانة، وليعلم أيضًا المتعامل بالكذب، ليعلم هؤلاء جميعًا أن من ورائهم يومًا ثقيلًا وهو يوم القيامة، فإن أفلتوا من أيدي البشر بما يسمُّونه ذكاءً وفطنةً، فإن الله تعالى سيسألهم في يوم أحوج ما يكونون فيه إلى الرحمة والمغفرة، فماذا هم قائلون يومئذٍ?! وقد نقضوا العهود والعقود، وتعاملوا بالكذب والغش ونحو ذلك، فليتدارك هؤلاء أمْرَهم، وليشكروا الله عز وجل أن أحياهم إلى أن يتوبوا ولم يأخذهم على غِرَّة من أمرهم، فإن الحياة الدنيا هي يوم أو بعض يوم، وأمَّا الآخرة فهي الحياة الخالدة الباقية.

الدرس السابع: في قول أبي بكر رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق، درس عظيم في قوَّة إيمان أبي بكر وثباته وقوَّته وتصديقه، فالاستجابةُ ظاهرةٌ، فقد أزال عن نفسه كل شكٍّ وريب، فلا تزعزعه الرياح، وهذا كقوله رضي الله عنه في قصة الإسراء: "إن كان قاله فقد صدق"- يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- فما أعظمَه من ثبات! وما أكملَه من إيمان! وما أبيضَه من قلب رضي الله عنه! فلنكن كذلك.

الدرس الثامن: محاورة عمر للرسول صلى الله عليه وسلم حصل بعدها عند عمر إحساس بالخطأ في أنه تجاسَر بالكلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فاعتبر ذلك خطأً كبيرًا وهو غيرة منه رضي الله عنه؛ ولكنه مع ذلك قال رضي الله عنه: ما زلت أتصدَّق وأصلِّي وأعتق؛ ليكون كفَّارةً لكلامي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف، فأين مَنْ يفعل المعاصي الظاهرة والباطنة?! وأيضًا ما لهؤلاء العصاة لماذا لا يُقدِمون على كثرة الأعمال الصالحة؛ لتكون كفَّارةً للسيئات ومنهاةً عنها؟! فإن الحسنة إذا زاحمت السيئة أزالتها بإذن الله عز وجل، فالمسلم الحق إذا فعل السيئة حاكت في نفسه أيامًا؛ لأنها مخالفة للخالق المنعم المتفضِّل الذي يقدر كل خير وشر لهذا العاصي، فجديرٌ بفاعل المعصية أن يخاف من شؤمها وأثرها ومن تتابعها، ويتأمَّل مستقبله الأخروي مُكثِرًا من الحسنات الماحية للسيئات، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وإذا تاب هذا العاصي من معصيته، فإنه يُبشِّر ببشائر عظيمة، فمن البشائر أن الله عز وجل يقلب سيئاته إلى حسنات، فيوفِّقْه لفعل حسنات يعملها بعد تلك التوبة، وأيضًا كذلك يُبشِّر بفرح الله تبارك وتعالى بتوبته تلك؛ لأنه عندما تاب فإن الله عز وجل يفرح فرحًا شديدًا بتوبة ذلك التائب، وأيضًا ممَّا يُبشِّر به هذا التائب من المعصية أن الملائكة تدعو له؛ بل وتدعو له ولوالديه ولزوجه وذريته؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى على لسان الملائكة: ﴿ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ [غافر:7- 8] إلى آخر الآيات، فهذه بشريات متعددة عظيمة لمن تاب وأناب إلى الله تبارك وتعالى، فأين المسرفون والعاصون عن هذه البشائر؟ لماذا لا يقدمون? ما دام أن الله عز وجل أعطاهم المهلة، وأنه أبقاهم ولم يأخذهم على غِرَّة، فحريٌّ بنا جميعًا أيها الأخوة الكِرام أن نطبق قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وهكذا السيرة هي كلها دروس وعِبَر وحِكَم وأحكام وشمائل وأخلاق نستفيد منها في حياتنا أخلاقًا وعِلْمًا وعملًا.

أسأل الله تبارك وتعالى للجميع الهُدْى والتُّقَى، والسَّداد والرشاد، والعفو والعافية، والصَّلاح والإصلاح في النية والذرية ولجميع المسلمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 252.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 246.34 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (2.40%)]