الإمام عبد الحميد الفراهي وكتابه جمهرة البلاغة - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12495 - عددالزوار : 213403 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          متعة الإجازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          التقوى وأركانها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى الإنشاء

ملتقى الإنشاء ملتقى يختص بتلخيص الكتب الاسلامية للحث على القراءة بصورة محببة سهلة ومختصرة بالإضافة الى عرض سير واحداث تاريخية عربية وعالمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 27-10-2022, 09:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي الإمام عبد الحميد الفراهي وكتابه جمهرة البلاغة

الإمام عبد الحميد الفراهي وكتابه جمهرة البلاغة
د. أورنك زيب الأعظمي




الإمام عبد الحميد الفراهي

وكتابه "جمهرة البلاغة"

د. أورنك زيب الأعظمي [1]


ملخص البحث
لقد عني العلماء والباحثون بالبلاغة العربية في كل عصر من عصور التاريخ الإسلامي، فبدءًا بسيبويه وأبي عبيدة والفراء، ومرورًا بثعلب وابن المعتز وقدامة وأبي هلال وابن رشيق والجرجاني، نجد عددًا هائلًا من علماء الإسلام وأدبائه الذين كتبوا في البلاغة العربية وألّفوا عددًا لا يحصى من الكتب والرسائل في هذا الفن فنقد الشعر والصناعتين والعمدة ودلائل الإعجاز والمثل السائر ومفتاح العلوم والتلخيص والإيضاح كتب مشهورة في فن البلاغة العربية. ولقد بدؤوا ببلاغة الألفاظ ونظم الكلمات والجمل وركزوا على الأساليب وقسموها في علم المعاني والبيان والبديع وحاولوا وضعها في قوالب الأسلوبية والفلسلفة. وكل هذه المحاولات كانت خارج الهند والسند.

ولم يتخلف وطننا الهند في هذا المجال فبرزت فيه محاولات عديدة لفهم البلاغة العربية مثل "بحر المعاني" و"بدائع البيان" و"عين المعاني" و"فتح المعاني" و"شرح ميزان البلاغة"، وأما بلاغة القرآن الكريم فقد حظيت بعنايتهم، فنجد من الكتب "إعزاز قرآن" و"وجوه إعجاز القرآن" و"جمهرة البلاغة" و"البلاغة القرآنية" وهذه علاوة على الشروح والحواشي والتلخيصات التي لا عدّ لها ولا حصر.

وكتاب "جمهرة البلاغة" من مؤلفات الإمام عبد الحميد الفراهي (ت 1932م) الذي انقطع إلى تدبر القرآن وسبر غوره والتفكير في معاني آياته ونظم سوره. وحاول التجديد في كل فن وتدوينه من جديد في ضوء القرآن الكريم فألّف الكتب والرسائل في التفسير والحديث والفقه والنحو والفلسفة ومبادئ الدين حتى نجد في مؤلفاته محاولات المقارنة بين أديان العالم وذلك لأنه كان متضلعًا من العربية والفارسية والإنجليزية والسريانية والسنسكريتية وغيرها من شتى لغات العالم. وكان باحثًا ومفكّرًا وشاعرًا فانطلق يكتب أكثر من سبعين رسالة في آن واحد وترك إشارات وذكريات عنها إلا أنه لم يوفّق إتمامها سوى العدد القليل منها، وهي تفسير بعض سور القرآن وإمعان في أقسام القرآن، والرأي الصحيح فيمن هو الذبيح، وأسباق النحو وزمزمه دري وغيرها من مؤلفاته ورسائله التي سيطول بذكرها الملخص.

من خلال محاولته لتجديد الفنون وتطهير العلوم قام الإمام الفراهي بتأليف رسالة صغيرة للغاية باسم "جمهرة البلاغة" صدرت في حياته وتوجد إحدى نسخها في مكتبتنا المركزية ولكنه شعر فيما بعد بأنها تحتاج إلى إعادة النظر فيها وإضافة المواد الأخرى إليها فبدأ بتأليفها من جديد ولكن عاجلته المنية قبل أن يقوم بإتمامها.

هذه الرسالة غير التامة صدرت بعد وفاته في 1360ه من مطبعة "معارف" بأعظم كره (أوترابراديش) في 86 صفحة. تنقسم الرسالة إلى ثلاثة أقسام؛ القسم العمومي، والقسم الخصوصي، ومباحث متفرقة. فالقسم العمومي يتناول معنى البلاغة والنقد على النظريات المختلفة عنها بجانب الإشارة إلى أصول البلاغة العامة، بينما القسم الخصوصي يتحدث عن مختلف الأساليب البلاغية بما فيها دلالة الوصل والفصل والحذف والمقابلة والاستثناء، ومن هنا تخلّص إلى بلاغة القرآن التي هي غاية هذه الرسالة وهدفها الرئيس، والقسم الثالث (مباحث متفرقة) ينطق عن الجملة المعترضة وروح البلاغة وسرّها وكمالها ومحاسن كلام العرب ومذهب العرب في نقد الكلام وغيرها من المباحث المهمة. حاول الإمام الفراهي من خلال رسالته هذه أن يكشف القناع عن بلاغة القرآن في ضوء كلام العرب القح وكلام الرب تعالى ذاته، فلم يحوّلها إلى بلاغة العجم التي لا صلة لها ببلاغة العرب ولاسيما ببلاغة القرآن الكريم. هذه محاولة بديعة وناجحة.

والبحث القادم، وهو تفصيل هذا الموجز، ينقسم في مبحثين بعد المدخل أولهما يقدّم ترجمة موجزة للإمام الفراهي وثانيهما دراسة تحليلية لكتابه جمهرة البلاغة. فنبدأ بسم الله الرحمن الرحيم.

مدخل إلى الموضوع
مما أنجبت محافظة أعظم كره من الشخصيات ذات الشهرة الدولية في مختلف المجالات العلمية والأدبية شخصية العلامة الإمام عبد الحميد الفراهي (1863-1930م). كان الإمام الفراهي شخصية ذات أبعاد شتى فكان متضلعًا في العربية والفارسية والإنجليزية وكان ماهرًا في الكلام والفلسفة والتعليم إلا أنّ مجاله الحبيب كان هو القرآن وعلومه. فقال فيه العلامة السيد سليمان الندوي:
"وبعدما قضى وطره من طلب العلم، واستقى من حياضه، ورتع من رياضه انقطع إلى تدبر القرآن ودرسه، والنظر فيه من كل جهة، وجمع علومه من كل مكان، فقضى فيه أكثر عمره، ومات وهو مكبّ على أخذ ما فات من العلماء، ولفّ ما نشروه ولمّ ما شتّتوه، وتحقيق ما لم يحقّقوه. فكان لسانه ينبع علمًا بالقرآن وصدره يتدفق بحثًا عن مشكلاته وقلمه يجري كشفًا عن معضلاته".[2]
وفيما يلي موجز عن حياة هذه الشخصية القرآنية وأعماله الخالدة، ودراسة تحليلية لأبرز مؤلفاته في النقد والبلاغة ألا وهو كتاب "جمهرة البلاغة".

المبحث الأول: موجز عن حياة وأعمال الإمام عبد الحميد الفراهي:
ولد الإمام الفراهي في 18/ نوفمبر سنة 1863م بقرية "فريها" (أعظم كره، أوترابراديش)، وكان أبوه من أشراف الديار ومثقفًا بثقافة غربية ومالك مكتبة غنية كعادة أسلافه. بدأ الفراهي دراسته بقراءة القرآن الكريم فحفظه عن ظهر القلب ثم تلمذ لأمهر دياره في الفارسية وشاعرها الشيخ محمد مهدي الشتاروي وتعلّم عليه اللغة الفارسية كما تعلّمها على ابن خاله العلامة المؤرخ شبلي النعماني. ثم شرع يتعلّم اللغة العربية وعلومها على ابن خاله المذكور وقد وفّق الاستفادة من العلامة محمد فاروق الشرياكوتي أستاذ العلامة شبلي. وكان العلامة الشرياكوتي ماهرًا في الفارسية والعربية وشاعرهما وكانت له اليد الطولى في علم الكلام. وبعدما نهل من هذه المناهل ارتحل إلى لكناؤ حيث استفاض من علامتها الجليل عبد الحي الفرنغي محلي في مجال الفقه الإسلامي. ولقد أنهى تعليم العلوم العربية والإسلامية على علامة الشرق فيض الحسن السهارنبوري الذي كان فاقد النظير في التبحر في الأدب العربي وأنساب العرب. كان العلامة السهارنبوري شاعرًا للفارسية والعربية والأردوية وناقدًا كبيرًا وماهرًا في علوم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. كتبه ومؤلفاته دليل بيّن على تبحره هذا. أنهى الإمام الفراهي هذه السلسلة التعليمية في 1883م.

وبعد الفراغ من نيل هذه العلوم والفنون رغب في الحصول على العلوم الجديدة فتعلّم أولًا اللغة الإنجليزية وبعدما شدا منها اجتاز اختبار الثانوية من كلية الله آباد، وفي عام 1891م توجّه نحو علي كره والتحق بكليتها الشرقية في البكالوريوس واجتازها في 1895م فاستفاد من علمائها وباحثيها لاسيما البروفيسور أرنولد وحاول أن يجتاز ماجستير ولكنه لم يوفّق لها وكذا حاول أن يجتاز اختبار القانون ولكنه لم يقدّر له وهكذا انتهت سلسلة تعلمّه الديني والعصري في 1897م.

بدأ الفراهي يفكّر ويكتب منذ إقامته بعلي كره فقام في رحابها بترجمة كتابين إلى الفارسية تمّ تقريرهما في المقرّرات الدراسية في كلية علي كره وكذا كتب قصيدته العربية التي هنّأ فيها أستاذه العلامة شبلي على تكرّمه بشرف "شمس العلماء" وجعل يتفكرّ في القرآن الكريم كما يبدو من مقدمة كتابه الجليل "تفسير نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان".

بدأ الفراهي حياته العملية من مدرسة الإسلام بكراتشي حيث تم تعيينه كمدرّس للعربية في 1897م. قضى بها عشر سنوات معلّمًا ومؤلفًا ثم رجع إلى علي كره حيث تعيّن أستاذًا مساعدًا للعربية في 1907م وقضى بها سنة واحدة ثم تعيّن أستاذًا للعربية في كلية ميور التابعة لجامعة الله آباد في 1908م. وفي 1914م ارتحل إلى حيدراباد حيث تعيّن كعميد دارها للعلوم وأقام بها حتى 1919م فاستقال عنها في شهر أغسطس لنفس السنة راجعًا إلى دياره لخدمة مدرسة الإصلاح التي ساعد في تأسيسها ابن خاله العلامة شبلي النعماني ولقد دعاه لذلك العلامة النعماني ذاته. ومنذ هذه الفترة بقي يخدم تلك المدرسة حتى وافاه الأجل في 11/ نوفمبر سنة 1930م. فكتب العلامة السيد سليمان الندوي على وفاته:
"الصلوة على ترجمان القرآن نداء رفع للصلاة على جنازة ابن تيمية من مصر والشام حتى جدران الصين قبل الآن بستة قرون ونصف قرن، ومن الواقع أن يعاد هذا النداء مرة ثانية وأن يبلغ، على الأقل، مصر والشام من بلاد الهند بأن توفي ابن تيمية هذا العصر في 19 جمادى الثاني 1349ه الموافق لـ11 نوفمبر 1930م ولا نتوقع في هذه الأوضاع الراهنة أن يبرز نظيره في العالم الإسلامي فقد كان العلامة كآية ربانية لتبحره في العلوم الشرقية والغربية وكان فاقد النظير في التضلع بالعربية ومثقفًا للإنجليزية وصورة حية للتقوى وتمثالًا ناطقًا للفضل والكمال وحافظًا للفارسية ونابغة للعربية فلو كان شخصية واحدة ولكنه قد جمع في فرديته عالمًا للحكمة، ودنيًا للمعرفة، وكونًا للعلم، فلو كان في عزلة عن الناس إلا أنه كان مجمعًا لأبحر العلم والفضل وكان مضرب المثل في غناه عن الناس مع ثروته العلمية. كان فريدًا في الإلمام بالعلوم الأدبية وذخرًا للعلوم العربية، وناقدًا للعلوم العقلية، وماهرًا للعلوم الدينية، وبارعًا لعلوم القرآن، وفوق تلك أنه كان في غنى عن متاع الدنيا وبعيدًا عن مدح الناس ومعتكفًا في زاوية لخدمة العلم فكان وحده ملكًا في دنياه ذاته. إنه أنفق ثلاثين سنة كاملة في التفكير على القرآن وسبر غوره بعيدًا عن ضجيج العالم وغوغائه ---- ولد فقضى عمره في تدبر القرآن ومضى لسبيله، ولكن الأسف أن العالم لم يسعه تقدير أهميته وفضله".[3]

ألّف الفراهي ودوّن أكثر من سبعين كتابًا ومجموعة ومن أبرزها "تفسير نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان" و"الرأي الصحيح في من هو الذبيح" و"إمعان في أقسام القرآن" و"أسباق النحو" و"مفردات القرآن" و"التكميل في أصول التأويل" و"في ملكوت الله" و"أساليب القرآن" و"القائد إلى عيون العقائد" و"ديوان حميد" و"زمزمه درى" و"ديوان فيض الحسن السهارنبوري" و"جمهرة البلاغة". ونودّ أن نقوم بالدراسة التحليلية للكتاب الأخير الذي طبع في 1360ه من الدائرة الحميدية بمدرسة الإصلاح بسراي مير، أعظم كره والذي موضوعه بلاغة العرب لاسيما بلاغة القرآن الكريم.

المبحث الثاني: دراسة تحليلية لكتاب "جمهرة البلاغة":
أولًا: السبب في تأليف هذا الكتاب: أراد الإمام الفراهي بتأليف هذا الكتاب الكشف عن بلاغة الوحي الرباني لاسيما القرآن الكريم كما يقول في خطبته لهذا الكتاب:
"فوجب علينا أن نعرف أسرار البيان وفضائله كما وجب علينا أن نعرف إعجاز القرآن ودلائله لنستكمل من فطرتنا عنصرها ونستسقي من عيون الوحي كوثرها".[4]

ويقول في مكان آخر من كتابه:
"اعلم أن البيان كالظل والأثر للنطق الذي هو مقوم للإنسان كما أن النطق ظل من الوحي الأعلى وكلمة الله العليا فالبحث عن أوليات علم البيان يجلبنا إلى الحكمة الإلهية ولكنا الآن في الجدول فلا نغوص في البحر غير أنا لا ننساه ونعلم أن إليه منتهاه وهل المصير لشيء إلا الله وقدّمنا هذه الكلمات ليتبيّن لك الفرق بين تعاطينا العلوم لاسيما هذا العلم وبين تعرض الأمم الأخر له فإنهم نظروا إليه من نظر دني دنياوي فغالتهم غوائلها وأبعدهم عن الحق".[5]
وهذا من ميزة الفراهي أنه يشير في خطبة كل كتاب له إلى ما هو الهدف في تأليفه. ولقد تناولنا بالبحث خطبه العربية في مقالة منشورة في مجلة "ترجمان دار العلوم جديد".[6]
وإنه بنى هذا الفن على كلام العرب الأقحاح الذين كانوا فرسان الكلام وكانوا أعرف ببلاغة كلامهم من غيرهم فيقول مشيرًا إلى هذا الجانب:
"كما أن علماء الإسلام أقبلوا على هذا الفن لأجل الكشف عن إعجاز القرآن فلو أنهم استقصوا كلام العرب واقتفوا آثار المحاسن فيه وقيّدوها بالحدود ونظموها في ترتيب حتى يصير لهم ميزان ومحك لمعرفة محاسن الكلام ثم نظروا في براعة القرآن ونظمه المعجز لكانوا أقرب إلى معرفته ولكنهم لم يأخذوا من العرب ولا من كلامهم فإنهم أثرت فيهم علوم العجم كما خالطتهم سجاياهم إلا الأولين كالجاحظ فإنه لا يبعد عن سنن العرب كبعد صاحب دلائل الإعجاز ولم يبعد إلا لقلة ممارسته بكلام العرب الخالص فلو تيسّر له ذلك عرف منزلتهم في هذه الصناعة واعترف بفضلهم على المولدين".[7]

ويقول في موضع آخر من كتابه:
"فاعلم أنه ليس أن العرب أعطوا البلاغة ولم يعطوا تمييزًا بين محاسن الكلام ومساويه وانتباهًا لمواضع الجودة والرداءة فيه فإنهم كانوا يباهون ببراعة الكلام ويحكّمون بينهم من كان أبصرهم بنقده. والأخبار في ذلك كثيرة حتى بلغ أمر البلاغة فيهم منزلة نظام المعاشرة. فكان خطيبهم يأخذ بزمام القوم فيقودهم إلى حيث شاء ويقوم شاعرهم فيرفع قومه من الأرض إلى السماء فأجدر بقوم هذا شأنهم أن يجري ذوقهم في هذه الصناعة على سنة وأصول معلومة وإلا كيف يقضي فيهم حكمهم أم كيف يذعن لحكمه أرباب العقل فيهم وإن رأيت في كتب الأدب نقدهم وبيانهم وجوه المزية لكلام على كلام علمت باليقين صدقَ هذه الدعوى وذكرنا نبذًا منه في باب اختيار اللفظ. ثم علمت أن سبيلهم في نقد الكلام لم يكن كسبيل صاحب أسرار البلاغة وهو القدوة للذين جاءوا من بعده فاتبعوا خطواته فكان سبيله سدًا بينهم وبين العرب فلو التزموا كلام العرب ولم يلتفتوا إلى أصول مهّدها المبعدون لكان خيرًا لهم وكانوا أقرب إلى معرفة إعجاز القرآن من طريق الذوق وإن لم يكونوا من طريق الصناعة".[8]

وثانيًا: رأي العلماء والباحثين عن هذا الكتاب: ولو أن الكتب كثرت وتعدّدت في هذا الموضوع إلا أن هذا الكتاب فريد من نوعه فقد أشاد الكتاب والعلماء والباحثون بهذا الكتاب ومن بينهم عدد ملموس من العلماء العرب كما رطبت ألسنة العلماء الهنود بذكره وننقل فيما يلي طرفًا من آرائهم:
1- العلامة شبلي النعماني: ".... هذه هي مباحث الكتاب والكاتب يعرف جيدًا ما كُتِبَ عن بلاغة القرآن ولكنه يظن أن كلها غير تامة في الموضوع. وما قام به القدامى من ترتيب فن البلاغة ناقص كذلك، ولذا فقد اعتنى الكاتب بهذا الفن ورتّبه في نطاق واسع ووضع أصولًا عديدة لم يكن بها عهد لفن البلاغة وهكذا فألّف كتابًا مستقلًا سمّاه "جمهرة البلاغة".[9]

2- الشيخ أمين أحسن الإصلاحي: ".... قام الأستاذ الفراهي بتأليف كتاب جديد في فن البلاغة فغيّر ترتيب هذا الفن وجاء بالعديد من الأصول الجديدة التي يمكن أن تثبت مستوًى صادقًا لتقدير بلاغة القرآن".[10]
ويقول في موضع آخر: "جمهرة البلاغة كتاب فاقد النظير للفراهي في فن بلاغة القرآن".[11]

3- العلامة أبو الحسن الندوي: "لما فرض إليّ مهمة تدريس القرآن الكريم في دار العلوم بندوة العلماء قرأت مؤلفات الشيخ عبد الحميد الفراهي بإمعان وجدية وجهد بالغ واستفدت منها قدر المستطاع، ولما وُجِّهَتْ إليّ الدعوة من قبل جامعة دمشق في 1956م حملت معي كتب الشيخ الفراهي لاسيما "جمهرة البلاغة" الذي تأثرت به كثيرًا كطالب الأدب العربي وتاريخه، وكباحث لهما ومفكّر فيهما".[12]
ويقول في مكان من خطابه هذا: "من أعماله الجليلة "جمهرة البلاغة" لو قام أحد بتحقيقه وتقديمه بأسلوب علمي جديد لثبت تفرّد الشيخ الفراهي في هذا المجال فلقد قام الشيخ بإعداده لذوقه السليم للأدب العربي والقرآن الكريم".[13]

4- الدكتور شرف الدين الإصلاحي: "لو أتمّ العلامة الفراهي هذا الكتاب على المستوى الذي بدأ به لكان كتابه هذا من كتب العالم العظيمة لسبب أفكاره ونظرياته البديعة".[14]
ويستطرد قائلًا: "إن هذاالكتاب يحتوي على مجموعة كبيرة للمسائل الدقيقة والنكت اللطيفة".[15]

5- البروفيسور محمد راشد الندوي: "كان العلامة الفراهي ولعًا كلفًا بالقرآن الكريم، ألّف عديدًا من الرسائل في علوم القرآن يضمنها إعجاز القرآن الحكيم. كتابه "جمهرة البلاغة" مثال رائع لجهده في هذا الفن. ولقد مارس العلامة الفراهي كلام العرب الجاهلي كما أمعن النظر فيما ألّف من كتب النقد والبلاغة حتى عصره. كان العلامة يشعر تمامًا بفصاحة القرآن وبلاغته لتضلعه من اللغة العربية، ولقد درس جيدًا كلام العرب الجاهلي والقرآن الكريم ومؤلفات علماء النقد والبلاغة".[16]
ويمضي قائلًا: "ما ذكره العلامة من أصول النقد والبلاغة في كتابه الموجز هذا هي عصارة نظرياته الأدبية والنقدية، أسلوبه موجز للغاية بل لو كان هناك كلمة أخرى لما هو أوجز من الإيجاز للتعبير عن إيجاز كتاباته لاستخدمناها فربما يكتفي العلامة بالإشارة إلى قضية مهمة للغاية والحال أنها تقتضي التوضيح. لعله ظنّ حين تأليف كتبه أن قارئها أحدّ عقلًا كمثله".[17]
ويقول كذلك: "وفي رأيي المتواضع أن هذا الكتاب فريد من نوعه في الموضوع باللغة العربية وهو ليس مفخرة للعلامة الفراهي فحسب بل لعلماء شبه القارة أجمعين".[18]

6- الدكتور أحمد مطلوب بعد دراسة هذا الكتاب في أكثر من عشرين صفحة: "هذه جولة في كتاب فريد من نوعه ألّفه مسلم في الشرق الإسلامي، ولم يصل إلى البلاد العربية ليكون صورة من صور الدرس البلاغي في القرن العشرين للميلاد".[19]

7- الدكتور صالح سعيد الزهراني في مقالته الطويلة عن هذا الكتاب: "كتاب جمهرة البلاغة يمثّل رافدًا من روافد التفكير البلاغي الحديث".[20]
ويقول في نهاية دراسته لهذا الكتاب: "كتاب جمهرة البلاغة يمثل إضافة نوعية للتفكير البلاغي في العصر الحديث لكونه رؤية خاصة للبلاغة العربية في الإبداع وسياسة القول، وقراءة واعية لأصول البلاغة العربية كما تجلّت في البيان المعجز وكلام سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وأدب العرب الخلّص، ورؤية ناقدة لتحولات البلاغة العربية إبداعًا وسياسة للنص عقب مثاقفتها مع الفلسفة اليونانية، وبخاصة فلسفة أرسطو، التي كان لها أكبر الأثر في رؤي البلاغيين والشعراء المجددين في العصر العباسي".[21]

8- الدكتور أجمل أيوب الإصلاحي: "جمهرة البلاغة الذي نقض فيه الأساس الذي يقوم عليه فن البلاغة عند أرساطاليس، وهو نظرية المحاكاة، ويرى الفراهي أن فن البلاغة العربية تأثر بهذه النظرية فجار عن قصد السبيل، وانتقد في ذلك الإمام عبد القاهر الجرجاني مع اعترافه بجلالته، ودعا إلى تأسيس فن البلاغة على أسس منبثقة من القرآن الكريم وكلام العرب الأقحاح".[22]

وثالثًا: هل تمّ الكتاب أم لم يتمّ؟ كل من يلقي نظرة خاطفة على هذا الكتاب يعرف بأول وهلة أن هذا الكتاب غير تام وأن الفراهي لم يوفّق إتمامه فيكثر فيه "بياض في الأصل" فقرة كتبها من قام بجمع وتدوين مؤلفات الفراهي وهذه تعني أن الفراهي ترك هذا المكان فارغًا ليملأه في المستقبل ولكنه لم يوفّق ملأه. وهذا كما يدلّ على شيء فكذلك يدلّ على أن الفراهي ليس كمثل الكتّاب الآخرين الذين يدرسون بعض الكتب فيشرعون في تأليف كتاب ما وينهون تأليفه في مدة قليلة أو طويلة، إنما يفكّر الفراهي في الموضوع فيدرس الكتب فيه كما يستفيد من المصادر والمراجع ولا يكتب شيئًا إلا بعد دراسة طويلة وإمعان النظر فلقد ذكر لي أستاذي الشيخ نجم الدين الإصلاحي الذي كان تلميذًا من تلامذة الفراهي وكان يلازمه ليل نهار أن الفراهي لم يكن يكتب شيئًا في النهار بل كان يدرس ويدرس وكان يستيقظ في السحر فيغسل ثم يصلّي الفجر ثم يقوم بكتابة شيء ما عن الموضوع وكان يكتب على أوراق فيجمعها في صندوق له موضوع في حجرته وعندما وجد في موضوع تحريرًا ظنه كافيًا لموضوع فقام بجمعه وتأليفه في صورة كتاب.

ومثله حدث مع هذا الكتاب فقد شرع الفراهي في تأليف هذا الكتاب في 1905م وأرسل بعض ما كتب إلى أخيه العلامة شبلي النعماني وواصل كتابته حتى خمس عشرة سنة ولم يكمل فتوفي في 1930م.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 27-10-2022, 09:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الإمام عبد الحميد الفراهي وكتابه جمهرة البلاغة

الإمام عبد الحميد الفراهي وكتابه جمهرة البلاغة
د. أورنك زيب الأعظمي





ورابعًا: طريقة تأليف الكتاب: هذا الكتاب المشتمل على 88 صفحة ليس مما أنهاه الفراهي وأتمّه، إنما بدأ بتأليفه حين إقامته بمدرسة العلوم بكراتشي (باكستان) وكتب بعض المباحث التي رأى البعض منها أخوه العلامة شبلي النعماني فأشاد به في مجلته "الندوة"، ومن عادة الفراهي أنه كان يدرس فيدرس ليل نهار ولم يكن يكتب إلا في وقت السحر وكان يكتب إذا وجد شيئًا جديدًا فكل ما كتبه مما جاء به من عنده وهو جديد تمامًا فكان الفراهي كاتبًا مفكّرًا. ونجد أمثلة تفكيره المتواصل في كتابه هذا فقد كتب من قام بجمعه "بياض في الأصل" حيث ترك الفراهي ولم يكتب فيه شيئًا ليكتبه في المستقبل. وعلى كل حال فما نجده بين أيدينا نستخلص منه عادة الفراهي حين التأليف ولاسيما تأليف هذا الكتاب.

فالشيء الأول أن الفراهي يفضّل الإيجاز في حديثه ولا يحبّ الإسهاب والتفصيل فما نجده في رسالته الوجيزة للغاية يمكن لنا أن ننشره في مجلدات كبار فلقد قمت بتحقيق إحدى رسائله "أساليب القرآن" في ثلاثة مجلدات ضخام بينما هذه الرسالة لا يتجاوز رقم صفحاتها سبعين صفحة. ومن هنا يمكن لكم تقدير مدى حبّه للإيجاز. وكذا نجده في هذا الكتاب فلقد اعتبره كاتب ترجمته المسهبة في 800 صفحة دررًا منثورة.[23] والواقع كذلك فهي مثل درر منثورة تطلب منا أن نقوم بنظمها في سلك جميل، الأمر الذي عجزت عنه الأمة ولو بعد مئة سنة مضت على تأليفها. يشير الشيخ أبو الحسن الندوي إلى صفة الفراهي هذه ولو بطريقة سلبية:
"نجد في كتابات العلامة عبد الحميد الفراهي إيجازًا على عادة كثير من المحققين والمتقدمين والمجتهدين مما يجعل تحقيق أعماله صعبًا على الآخرين".[24]

ويقول البروفيسور محمد راشد الندوي:
".... أسلوبه موجز للغاية بل لو كان هناك كلمة أخرى لما هو أوجز من الإيجاز للتعبير عن إيجاز كتاباته لاستخدمناها فربما يكتفي العلامة بالإشارة إلى قضية مهمة للغاية والحال أنها تقتضي التوضيح. لعله ظنّ حين تأليف كتبه أن قارئها أحدّ عقلًا كمثله".[25]

والفراهي يعدّ الإيجاز من مميزات تأليفه فهو يقول في موضع من هذا الكتاب الجليل:
"وفيما قلنا ليس إلا إشارة إلى جملة الأمر فأما طرقهم إلى تصوير المعاني الخاصة فلا أدري كيف أكشف عنها دون أن نورد نبذة من الأمثلة من غير إطالة الكلام فيها. فصمّم إلى الأمثلة الآتية تأملك وألمم بها بل خيّم عليها حتى يتبيّن لك، فإني لا أحبّ الإسهاب ونحن نحسن الظن بعقلك فإن هذا حديث تصوير الشيء ذو أفانين لا نستطيع استقصاءها فليكفنا منه قدر صالح يبيّن لك ما نريد ويصوّر لك ما أشرنا إليه".[26]
ولو أنه يوجز الكلام عن الموضوع إلا أنه لا يغفل عن قدر الدلائل والأمثلة فهو كثيرًا ما يستدل بكلام العرب القديم كما يعضّده بآيات القرآن الكريم وآيات الصحف القديمة لاسيما التوراة وشيء قليل للغاية بالحديث النبوي وكلام غير العرب والاستدلالان الأخيران جاء كتعضيد لكلام الله تعالى. ونورد لكم بعض الأمثلة التي تدعّم ما قلنا آنفًا فيقول الفراهي في مطابقة الكلام بالمعنى:
"ليكن التعبير مطابقًا بالمعنى لينًا وخشونة وحلاوة ومرارة حسبما أردت من المدح والذم كما قال حاتم الطائي:
فإذاما مررت في مسبطر ♦♦♦ فاجمح الخيل مثل جمح الكعاب

ومنه ما قال امرؤ القيس:
وشحم كهدّاب الدمقس المفتّل
أو كما قال:
كمشي العذارى في الملاء المهدّب

وهذا اختيار المناسب يكون من عدة جهات: من الصوت، من الذم، من التشبيه. أما من التشبيه فقد علمت. أما من الصوت فكما قال لبيد:
غلب تشذر بالذحول كأنهم ♦♦♦ جن البدى رواسيا أقدامها
المراد من البيت الصدر في أمر الصوت والعجز في أمر التشبيه. فاجتمعت خشونة المعنى والصوت والتشبيه وفي القرآن ﴿ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ ﴾ ولم أر قومًا راعى مطابقة الصوت بالمعنى كما أرى العرب فإنهم براء من التكلف مولعون بالصدق متجنبون من السفاسف".[27]
ويكتب في ذكر تصوير الشيء بالتشبيه والاستعارة والتمثيل والمجاز ويستدل بأكثر من أربعين بيتًا فيقول بعد نقل أبيات نصيب التالية:
كأن القلب ليلة قيل يغدى
بليلى العامرية أو يراح

قطاة عزّها شرك فباتت
تجاذبه وقد علق الجناح

لها فرخان قد تركا بوكر
فعشهما تصفقه الرياح

إذا سمعا هبوب الريح نصّا
وقد أودى به القدر المتاح

فلا في الليل نالت ما ترجّي
ولا في الصبح كان لها براح

"وقرنت بين المصوّرات المحض وبين التشبيهات لترى المناسبة بينهما وقرب أمرهما. وبعد ذلك من التشبيهات ما لا يرى كالتشبيه بادئ بدء ولكنه ليس إلا التشبيه وإذ التفنن يذهب بالملال فينبغي أن تعلم أنحاء التصوير فيه لكيلا تذهب مذهبًا واحدًا. فمنه قول المهلهل يرثي أخاه:
ولست بخالع درعي وسيفي ♦♦♦ إلى أن يخلع الليلَ النهار
فشبّه الليل باللباس على النهار وشبّه الدرع بالليل وشبّه لزوم السلاح بجسمه بلزوم الليل بالنهار وشبّه جسمه بالنهار لبياضه. والأسلوب ليس باسلوب التشبيه الظاهر بل هو مما سمّوه المجاز ومن ذلك ما مرّ من قول عبيد بن الأبرص:
القائل القول الذي مثله ♦♦♦ يمرع منه البلد الماحل
فشبّه القول بالغيث بركة بطريق الكناية وهذا تشبيه عام في التوراة وجاء في القرآن تشبيهًا واستدلالًا".[28]

ويقول في مبحث المقابلة:
"الشيء يذكر مقابلة فالطبع أقرب له قبولًا ثم يتبيّن الضد بالضد ويزداد حسنًا ويذهب بالملال. أما الأول فهو أمر طبعي للإنسان حتى أن بعض العلماء زعم أن في الأول كل لفظ كان للضدين وأما حسن الأشياء واستبانة محاسنها من التقابل فكان مصور الخلق تعالى شأنه أظهر المحاسن بها فأخرج الأزهار الحمر والصفر والبيض من بين أوراق خضر وأبرز النجوم البيضاء من صفحة سوداء والقمر الفضي في الصحن الزبرجدي. فهكذا الأمر في الكلام وتصاويره ولا يخلو منه لسان فأما العرب فكما قال المهلهل:
يزهزهون من الخطي مدمجة ♦♦♦ كمتًا أنابيبها زرقًا عواليها

وما أحسن ما قال قيس بن عاصم المنقري في مدح قومه:
لا يفطنون لعيب جارهم ♦♦♦ وهم لحسن جوارهم فطن
وهذا كما قال حاتم:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويًا ♦♦♦ وما فيّ إلا تلك من شيمة العبد
وأحسن المقابلة دريد بن الصمة:
ويبقى بعد حلم القوم حلمي ♦♦♦ ويفنى قبل زاد القوم زادي
وحسن هذه المقابلات في جمع الحسنتين ثم في وصفهما بالمقابلة ليزداد وضوءهما وليبيّن حدّهما. فجمع الإغماض والفطانة، والتواضع والأنفة، والعقل والسخاء وقال معد بن علقمة:
وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ♦♦♦ ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
وقال تأبط شرًا:
يابس الجنبين من غير بؤس ♦♦♦ وندي الكفين شهم مدل
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في مدح الأنصار "يقلّون عند الطمع ويكثرون عند الفزع" ويضمحل قول أوس بن حجر في جنب هذا السهل الممتنع حيث قال:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي
يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا

ولكنه النائي إذا كنت آمنًا
وصاحبك الأدنى إذ الأمر أعضلا


والبلاغة القصوى التي يحسر دونها الوصف ويضيق العقل عن إحاطتها في قوله تعالى ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا ﴾ (أرادوا الفرار) ﴿ فَلَا فَوْتَ (أي لم يمكنهم أن يفلتوا) ﴿ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [سبأ: 51 - 53] فمن فهم معنى الآيتين صوّرت بين يديه جماعة أولًا فزعوا فأرادوا الفرار فلم يمكنهم الإفلات بل أخذوا على مكانهم فلما يئسوا قالوا آمنّا ولات حين الإيمان فإن وقت الإيمان كان بالغيب في حياتهم الأولى وقد فاتهم الآن وبعد عنهم مكانًا فيمدّون إليه أيديهم كالمتناوش لما بعد عنه فأنى له ذاك".[29]

ومن خلال حديثه عن موضوع ما، ينتقد الكتّاب والباحثين الذين يجد رأيهم خاطئًا أو غير صحيح فانتقد أرسطو وجان مل والجرجاني وأبا جعفر قدامة والأصمعي والباقلاني والحريري والزمخشري والرازي وغيرهم من العلماء وأصحاب الفن.

وليس هذا فحسب بل يمدح من الكتّاب والباحثين من يجد رأيهم صحيحًا وصائبًا فبجانب الإطراء للجاحظ فقد أشار إلى ما أصاب فيه أرسطو والجرجاني وغيرهما ممن قام بتوجيه النقد إليهم. وأما مدحه للعرب فنفردً له مبحثًا إن شاء الله تعالى.

ومن ميزة هذا الكتاب أن الفراهي، خلال حديثه عن أصول البلاغة، يذكر لنا نكتًا بلاغية يخرجها من القرآن والشعر وهكذا فهو يعلّمنا كيف نقوم بالكشف عن بلاغة نص أو بيت أو جملة من الكلام فيستخرج النكت من بعض آيات سورة هود حين البحث عن الفصل والوصل بالخيال:
".... في سورة هود في ذكر جدال قوم عاد ببنيه هود ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 56] فهذه ثلاث كلمات جئن بعد إعلان اليأس والحرب من هود فقوله "إني توكلت على الله ربي وربكم" ينطوي على أني لا أبالي بمكائدهم فإن الله الذي هو ربي وربكم مولائي فإذا توكلت عليه فما خوفي من أحد، فاتصال الجزء الأول بالثاني ظاهر. ثم قوله "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها" مع اتصاله بالأول ينطوي على أنه ما من دابة إلا سبيلها إلى الله تعالى فترجعون إليه وعلى أنه من يعاجزه قاسى جذبات العنف والهون ومن سلك إلى ربه هان عليه السلوك ويسّر له السبيل. فقرب إلى الجزء الثالث لأن من بيده نواصي العباد قائم على الصراط المستقيم فمن أخذ هذا الصراط وجده سهلًا وفاز فظهر أن الجملة الوسطى ذات جهتين والفصل يعطي الخيال مجالًا للتأمل في أطراف القول وتوسيعه حتى يبصر بجهتي الربط".[30]
ويكشف الغطاء عن بلاغة بيت عربي تالٍ حين الكلام عن انتهاز الفرصة:
إن الحمول التي راحت مهجرة ♦♦♦ يتبعن كل سفيه الرأي مغيار
لم تكن له حاجة بادية إلى أن يزيد على المغيار كلمة سفيه الرأي وإني أتعجب من النابغة هذه الكلمة الواحدة مثلما أتعجب منه إيراد هذا حديث المغيار فإني رأيت الشعراء لهجوا بذكر البأس والمنعة دون معشوقهم أو عداوة الحماة وحنقهم ولكن النابغة ترك تلك الأمور المبتذلة وأخذ ما هو ملاك الأمر ثم زاد عليه سفاهة الرأي لتأكيد سوء الظن ثم لم يقل إن ذا رحم لها مغيار وسفيه الرأي فتظن أن ذلك أمر واقع من الاتفاق بل جعل هذا المغيار أمير الرفقة فوصفه بسفاهة الرأي ليس إلا مجازًا لما هو لا يرضى من غيرته وشدة الغيرة يفصح عن الحسن فالبيت حقيقة في شكاية الحرس وكناية عن الحسن. وكانت العرب منتبهين لهذا الإدراج فلهجت به فصحاءهم وطربت له أذهانهم وكان النابغة هذا أسبقهم في هذه الصنعة حتى أنك ترى من قدّمه على سائر الشعراء قدّمه بأبيات ليس في أكثرها إلا تلك الصنعة".[31]
فكأن كتابه هذا يثبت سفرًا مفيدًا لدارسي البلاغة بأسلوب نسمّيه "ما قلّ ودلّ".

وخامسًا: محتويات الكتاب: هذا الكتاب الذي أثنى عليه العلماء والباحثون واعتبروه فريدًا من نوعه في الموضوع ينقسم في خطبة وثلاثة أقسام فالقسم الأول يسمّى بالقسم العمومي والقسم الثاني يعنون بالقسم الخصوصي وأما القسم الثالث الأخير فهو يسمّى "مباحث متفرقة".

ففي الخطبة أشار إلى الهدف وراء تأليف هذا الكتاب ويتلوه القسم الأول العمومي فلو أن هذا القسم عمومي إلا أنه يحتوي على مباحث هامة عن هذا الفن ففي البداية ذكر ما هو البيان وكيف يهدي هذا البيان إلى الله جل جلاله ومن ثم دلّ على بلاغة الوحي وكيف كانت حالة الأمم السابقة بالنسبة لهذا الفن ولم لم يهتدوا إلى سواء السبيل في هذا الشأن ثم ذكر صعوبة معرفة محاسن الكلام وأشار إلى مختلف الجوانب والجهات لحسن شيء ثم أشار إلى بلاغة العجم وكيف هي أضلّت العلماء والباحثين في معرفة بلاغة القرآن وما هي الطريقة التي تهدينا إلى معرفته الصحيحة، ألا وهو معرفة محاسن كلام العرب لأن لكل لغة خصائص وميزات كما للغة العربية. وبعد ذلك ذكر حظوة العرب بالقوة لفهم الكلام ولتمييز الجيد من الخبيث وهكذا ذكر كيف كانوا يميزون الكلام وما هي الأصول التي وضعوها أو اختاروها ومن ثم انتقد نظرية أرسطو للبلاغة ودحّض أن الكلام نوع من المحاكاة وأثبت أنه مفطور على النطق والبيان وما نراه من المحاكاة إنما هي محاولة منه للإعراب عما في ضميره. وبما أن النطق والبيان من مواهب الله فكذلك أن الوحي قمة عليا للبيان وذلك ظاهر من قول الله تعالى "الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان".[32] وبعد ذلك تحدّث عن الشعر وأثبت أنه نوع من البيان، والتصوير يقوّيه وكلما صدقت الصورة ارتفع الكلام فالعرب اعتبروا الكلام الصادق حسنًا كما عدّوا الكاذب منه غير حسن فقد قال العرب:
وإن أحسن بيت أنت قائله ♦♦♦ بيت يقال إذا أنشدته صدقا
فالكذب، لديهم، عيب في الكلام.

بعد هذه المباحث عرّف الشعر والخطبة وبيّن الفرق بينهما كما ذكر أن الخطبة أقوى تأثيرًا من الشعر إلا أن الأول أسرعهما تأثرًا، ومن خلال هذا الحديث ذكر الفرق بين الشعر والنثر وميزاتهما. ثم ذكر طريق البلاغة فذكر فيها مطابقة الكلام بالأصل ومطابقة الكلام بالذي في خيال المتكلم وبكونه واضح الدلالة وصائب الإشارة وبكونه مؤثرًا حسب حال المستمع ثم ذكر طرق التوضيح من جهة استعمال الألفاظ، ومن جهة الصوت، ومن جهة اختيار المعاني، وبعد ذلك عقد فصلًا في تصوير الشيء بالتشبيه والاستعارة والتمثيل والمجاز كما أشار إلى دلالة التشبيه والمذاهب الباطلة في التشبيه.

وبعد ذلك بيّن أصولًا عامة للبلاغة فذكر عشرة أصول بما فيها الاعتدال ومطابقة الكلام بالمعنى وسذاجة الكلام والترتيب والمقابلة وتمييز المعاني وفرق درجاتها وتنقيح الألفاظ والإيجاز وادخار الألفاظ والأساليب ومنبع الكلام. وينتهي على هذا، القسم العمومي.

والقسم الثاني هو القسم الخصوصي فقد تناول فيه دلالة الوصل والفصل والوصل والفصل بالخيال وحظ السامع ودلالة الحذف وحسن الترتيب والمقابلة والاستثناء وانتهاز الفرصة في كلام العرب والقرآن والمجاز والكناية والتشبيه ودلالة المجاز في الأزمنة ولسان الغيب والإشارة والكناية والتعريض وهذه كلها بأسلوب جديد وجاء في غضون هذه المباحث بأشياء لم تكتب من قبل مثل حظ السامع.

وأما القسم الثالث وهو يشتمل على مباحث متفرقة حيث ذكر صرف الكلام عن سنته والجملة المعترضة ووجوه الخفاء في التمييز بين حسن الكلام وقبيحه وروح البلاغة وسرها وكمال البلاغة والإعجاز ومناط محاسن الكلام وأخلاق العرب بما فيها قوى العرب العقلية والكلامية وارتجالهم وصوت الخطيب ومذهب العرب في نقد الكلام والفواصل والقوافي. ولقد جاء في هذه المباحث بأشياء مفيدة للغاية وأبدع في مناقشة الموضوع فمثلًا حديثه عن الجملة المعترضة وكلامه عن أخلاق العرب ودفاعه عن سجيتهم للارتجال مباحث قيّمة بديعة.

وسادسًا: أمور لم يسبق إليها: ولقد كتب الفراهي من خلال مباحث هذا الكتاب ما لا يوجد لدى الآخرين من البلاغيين والنحويين وهي بديعة نادرة ونودّ أن نشير إلى البعض منها على سبيل المثال لا الحصر فإن هذه المقالة الوجيزة لا تتحملها.
1- تقسيم البلاغة: أول ما نجده من روائع الفراهي بالنسبة للبلاغة هو تقسيمها إلى قسم عمومي وخصوصي فهذه قسمة جديدة لم يسبقه فيها أحد من المتقدمين فيقول الدكتور أحمد مطلوب في مقالته عن هذا الكتاب:
"تقسيم مباحث البلاغة إلى قسمين: القسم العمومي والقسم الخصوصي، وهو تقسيم جديد لم تألفه البلاغة العربية في تاريخها الطويل".[33]

2- ربط البلاغة بالنقد: والشيء الجديد الثاني الذي نشهده لدى الإمام الفراهي بالنسبة لفن البلاغة هو ربطه إياها بالنقد مما لم يقم به المتقدمون.[34]

3- وضوح النزعة الأدبية في العرض والتحليل: والشيء الجديد الثالث الذي نراه لدى الإمام الفراهي ولو نجد لمحة عنه لدى غيره من المتقدمين هو أنه لا يربط البلاغة بالسياسة أو الفلسفة أو بشيء آخر بل يربطها بالأدب وينظر إليها بهذا المنظار.[35]

4- التمييز بين بلاغة العرب والعجم: والشيء المهم بالنسبة للبلاغة لدى الإمام الفراهي أنه لا يرضى أن ننظر في بلاغة العرب في ضوء أصول وضعها العجم فإن للعجم ميزات كما للعرب ولغتهم وأدبهم فينبغي لنا أن نبنيها على أساس الأدب العربي ولاسيما الأدب الجاهلي لا على الأدب اليوناني أو الفارسي. وهذا أقرب إلى فهم بلاغة العرب وروعتهم.[36]

5- نقد نظرية المحاكاة: ولقد انتقد الفراهي بشدة ما أدلى به أرسطو من أن الإنسان محاكٍ من فطرته فهو يتعلم من حوله عن طريق المحاكاة. ومن هنا تطرق إلى أن الكلام الجيد ما كان كاذبًا لا صادقًا فقال:
"... فلو قال: إن الشعر بل كل كلام ونغم جنسه الأعلى تصوير لكان أقرب، إذ ليس بين المحاكاة والتصوير إلا فرق يسير، ولكنه أبعده عن الصواب خطؤه في غاية الشعر ومادته ومبدئه. وكان مثار خطئه كلام قومه واستعمالهم إياه. ولو بحث عن أمر الشعر على طريق الفلسفة، ونظر فيه على الحكماء الأقدمين لم يخف عليه الصواب بعد الاقتراب ولم يلتبس عليه غاية الشعر".[37]
وقد أثبت أن الإنسان ناطق من فطرته لا محاكٍ فقال: "الإنسان في فطريته ناطق" وقال: "إن النطق هو الفصل المقوّم له لا المحاكاة كما زعم أرسطو".[38]
وكذا أثبت الفراهي في ضوء كلام العرب أن الشعر حسنه احتواؤه على الصدق لا على الكذب. وهذا بحث طويل فنكتفي بهذا القدر من الإشارة.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 27-10-2022, 10:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الإمام عبد الحميد الفراهي وكتابه جمهرة البلاغة

الإمام عبد الحميد الفراهي وكتابه جمهرة البلاغة
د. أورنك زيب الأعظمي





6- الفصل والوصل بالخيال: ولقد قرأنا كثيرًا عن الفصل والفصل في كتب البلاغة ولكننا لم نجد ربطه بالخيال وذلك بكلمات الإمام الفراهي:

"الفصل يجعل الخيال جسرًا بين معنيين فإن وصلتها لم يكن للخيال أخفيت من الخيال وجعلت بين الجزئين اتصالًا ذهبت بلينة الجزء الثاني فلم يكن وصله بالثالث إلا أن يكون بخط مستقيم مع الأولين ومثال الوشاح يبين لك هذا الأمر كما أظهر الأمر الأول فإن شئت أن لا يكون فصل زدت بين كل فصل أمرين بل ربما أمورًا الأمر الأول لبيان اتصال الجزئين والأمر الثاني لبيان اتصال الثالث وجملة القول أن الكلام إذا لم يكن على خط مستقيم لا بد له من واصلات والفصل ربما هو أحسن الواصلات".[39]



7- حظّ السامع: هذا أيضًا مبحث جديد في فن البلاغة وذلك كما يقول الفراهي:

"اعلم أن الكلام تنازع الحديث وإن سكت السامع ويُرَى منصتًا فإنهما يجريان معًا قائدًا ومقودًا فإذا وقف السامع والمتكلم جار على رسله ذهب كلامه ضائعًا كأنه لم يتكلم فإذا علمت ذلك تبيّن لك شدة الحاجة إلى رعاية جانب السامع وهديت إلى حكمة أساليب لم تكن للكلام لولا هذا الأصل الراسخ والآن نذكر منها عيونها. فمنها الاستفهام لينبه السامع ومنها السكوت ليستريح ومنها بعض الحذف ليصير السامع متكلمًا في نفسه فيعمل عقله ومنها منبهات الرغبة والنفرة ومنها الالتفات لينبه بما أحسّ من جديد ومنها التمثيل ليشاهد محسوسًا فينتبه من رقدته ومنها تبدل الحركات والالتفات ومهيجات الضحك والحزن فهذه الأمور مع فوائدها الأخر أسباب لانتباه السامع ... ".[40]



8- انتهاز الفرصة: وكذا انتهاز الفرصة وهو شيء غير الجملة المعترضة فيقول الفراهي:

"اعلم أن للفظ، مثل سائر التدابير، محلًا وموقعًا إن فاته ذهب مضيعًا ولو أتقن كل الإتقان وهذا باب وسيع ولكني ههنا أريد موقع اللفظ في الكلام فإنك تجد بين أجزاء حديث جار ألقي كلام بل لفظة لا يكاد يلقيه كل متكلم. وهذا الجزء المدرج هو الذي يسمّونه جملة معترضة ولكنك ستعلم أنه ربما لا يزيد على كلمة واحدة. فشأن هذه المعترضة ليس بهيّن فإن لها مواقع خفية لا يفطن لها إلا الذكي المتوقد فمتى ما وجد لها فرصة انتهز لها حتى أنه إن فاتته الفرصة ثم تذكّرها ندم على فواتها ولكي يتبيّن ما قلت لك أورد ههنا أمثلة. قال نابغة بني ذبيان:

نبّئت نعمًا على الهجران عاتبة ♦♦♦ سقيًا ورعيًا لذاك العاتب الزاري

فلو ترك المصراع الثاني ومرّ في الكلام يصفها أو يشكيها لم يرتفع من الدرجة الوسطى ثم أضاف كلمة الرازي فأكّد بها المقابلة بين الدعاء والعتاب فهي مثال لما قلت لك إن المعترضة ربما تكون كلمة واحدة وخذ مثالًا آخر من كلامه:

إن الحمول التي راحت مهجرة ♦♦♦ يتبعن كل سفيه الرأي مغيار



لم تكن له حاجة بادية إلى أن يزيد على المغيار كلمة سفيه الرأي وإني أتعجب من النابغة هذه الكلمة الواحدة مثلما أتعجب منه إيراد هذا حديث المغيار فإني رأيت الشعراء لهجوا بذكر البأس والمنعة دون معشوقهم أو عداوة الحماة وحنقهم ولكن النابغة ترك تلك الأمور المبتذلة وأخذ ما هو ملاك الأمر ثم زاد عليه سفاهة الرأي لتأكيد سوء الظن ثم لم يقل إن ذا رحم لها مغيار وسفيه الرأي فتظن أن ذلك أمر واقع من الاتفاق بل جعل هذا المغيار أمير الرفقة فوصفه بسفاهة الرأي ليس إلا مجازًا لما هو لا يرضى من غيرته وشدة الغيرة يفصح عن الحسن فالبيت حقيقة في شكاية الحرس وكناية عن الحسن. وكانت العرب منتبهين لهذا الإدراج فلهجت به فصحاءهم وطربت له أذهانهم وكان النابغة هذا أسبقهم في هذه الصنعة حتى أنك ترى من قدّمه على سائر الشعراء قدّمه بأبيات ليس في أكثرها إلا تلك الصنعة".[41]



وكذا تفريقه بين الشعر والخطابة من حيث الهيجان والعلوّ، وجعله العروض والنغمة والرقص في سلك واحد، ولسان الغيب وقضية الارتجال والاعتزاز بالعرب لأنهم أزكى الأمم والاهتمام باللغة العربية ذات الخصائص التي تميزها عن اللغات الأخرى، والتمسك ببلاغة العرب والعزوف عن بلاغة العجم، والعناية بالأسلوب العربي البليغ أشياء لا نراها لدى الآخرين.



وليس هذا فقط بل إنه يأتي بالجديد في كل بحث يتناوله فمثلًا قضية الجملة المعترضة فقد جاء الفراهي بالجديد فقال:

"الجملة لا بد من وضعها في محلها الذي توضع فيه لوجوه خاصة فلا بد من قطع الكلام ولكن هذا القطع لا بد أن يكون غير مذهل عن مجرى الكلام ولذلك يلتمس أحيانًا ما يرجع إلى المجرى إما بتكرار كلمة أو إعراب حسب إعراب ما قطع عنده الكلام. أما الوجوه الخاصة للاعتراض ففرصة الكلام المفيد ليكون أوقع عند القربة منه ودفع دخل لا بد من دفعه".[42]



وسابعًا: الفراهي يمدح العرب وقواهم وسجاياهم: ولقد وجدنا الفراهي يمدح العرب كثيرًا في معظم مؤلفاته لاسيما هذا الكتاب الوجيز فيقول وهو يشير إلى براعتهم وحذاقتهم في تسمية الشيء:

"... ونوجّهك إلى اسميهما (الشاعر والخطيب) عند العرب فإنهم أحذق الأمم في التسمية فنعما فعلوا حين سمّوا الشاعر شاعرًا والخطيب خطيبًا. فإن الشاعر يشعر بأمر فيهتاج للقول فيقول كما أن الضحك والبكاء والتثاؤب والسرقة والعطسة أفعال غالبة على النفس فكذلك الشعر وليس هيجانه للقول إلا لأنه أكثر الناس شعورًا (أي إحساسًا نفسانيًا) فكما أن الجسم من جهة إحساس قاهر جسماني يصدر عنه التثاؤب والعطسة فكذلك النفس تشعر بباعث ما من السرور والحزن والرضى والسخط والعجب واليأس وأمثالها فينطق. وليس المراد بأكثر الناس شعورًا أنه يحزن مثلًا بأكثر من سائر الناس بل إن شعوره يعمل فيه فينبه متخيله ونطقه وغناءه فتيقظ فيه هذه القوى وأما غيره فشعوره جامد خامد فكأن الشاعر نبات حي إذا سقيت أصله ذهب الماء في كل عرق منه فاهتز فكذلك الشاعر يدب الإحساس في جميع مشاعره فيفيض منه الكلام كما قال عبد الله ابن عمرو بن عثمان حين قيل له كيف تقول الشعر مع النسك والفقه فقال "إن الصدور لا يملك أن ينفث" وقيل لصحار العبدي ما هذا الكلام الذي يظهر منك قال "شيء تجيش به صدورنا فنقذفه على ألسنتنا" فأما الخطيب فليس هو بأقل شعورًا من الشاعر ولكنه فارق الشاعر في أنه غالب على شعوره فليس حاله كالمصدور والمتثاوب المقهور ولكنه قاهر على نفسه ومنغمس في المخاطبين فهمّه التأثير في غيره كما أن الشاعر لا هم له إلا الانقياد لقوى تعمل فيه. فالخطيب لا يفارق الشاعر في الهيجان ولا قلة الشعور ولكنه بزيادة صفة عالية استحق هذا الاسم فالشاعر ملتفت إلى الماضي والخطيب ينظر إلى المستقبل. فالخطيب أرفع منزلة لغرضه الأعلى وأقوى عقلًا وأشدّ قوة وأذكى نفسًا كما أن الشاعر أغنّ طبعًا وأرقّ فطرة ولذلك من نظر في كلام الخطيب وهيجان قلبه ولم يؤمن بعلو غرضه وطهارة نفسه وصحة رأيه لم يفرقه من الشاعر بل لتصويره البعيد المنتظر الذي لا يراه غيره يظنه مجنونًا. ولذلك ترى العرب وصفوا الخطبة بالحكمة والبيان والفصل كما أنهم وصفوا الشعر بالسحر".[43]



ويشير إلى طول باعهم في اختيار الخاص في محل العام المبهم فيقول:

"... ثم مع هذه الثلاث اختيار الخاص في محل العام المبهم مثلًا لفظ زيد أشدّ تصويرًا من لفظ رجل. وهذه الوسيلة فيها العرب أطول باعًا فإن لهم ألفاظًا خاصة تحت كل جنس عام أكثر من سائر اللغات. فيصوّرون الشيء ويمثلونه مشخصًا بين يديك من غير ضم صفة وفي ذلك لهم طرق كثيرة. الأول وجود الأسماء الدالة على أنواع جنس واحد. والثاني وجود الأفعال مثل ذلك كما ترى في كسر حطم فتق فلق ولهذين الأمرين نحولك إلى كتب هذا الفن. والثالث من جهة الاشتقاق للدلالة على التأنيث والتثنية وجمع القلة وعلى الشدة مثل كسر وكسّر وقتل قتّل وحطم حطّم ومثل سقط وتساقط وعلا وتعالى ومثل كسب واكتسب وجهد واجتهد ومثل خشن واخشوشن وحدب واحدودب ومثل بعث وبعثر وعلى هيئة الشدة في الأسماء مثل خضم وعفرناه وكذلك هيآت الشدة في الصفة والمصدر مثل فاعل وفعال وخلافة وخليفي وللدلالة على هيأة الاشتراك ثم فرق المتعدي من اللازم في الاشتراك مثل شتم وشاتم وتشاتم ومع ذلك جعل الأفعال من الأسماء مثل تأبط وحملق ومن الجملة مثل بلل وحوقل وجعل المجهول من المعروف من غير زيادة. ومن جهة الاشتقاق للدلالة على حالة مع الفعل من التطلب له كاستعان واستفهم أو التكلف فيه مثل تستّر ثم التعدي في مثل تمارض".[44]

ويمدحهم في مطابقة الصوت بالمعنى مستدلًا بالأبيات ومنها بيت لبيد التالي:

غلب تشذّر بالذحول كأنهم ♦♦♦ جن البدى رواسيا أقدامها



فيقول:

"المراد من البيت الصدر في أمر الصوت والعجز في أمر التشبيه فاجتمعت خشونة المعنى والصوت والتشبيه وفي القرآن ﴿ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ ﴾ [إبراهيم: 26] ولم أر قومًا راعى مطابقة الصوت بالمعنى كما أرى العرب فإنهم براء من التكلف مولعون بالصدق متجنبون من السفاسف".[45]



ويشير إلى قضية الإيجاز وعادة العرب فيها:

"ثم أهم الأمور في تأدية المعاني أن تصطفي من أحوال الشيء قليلًا يخبر عن كثير لم يذكر فإن التخييل يكون جملة كما أن إحساس الأشياء يكون بنظرة ووهلة فإن طال الكلام خالف سنة الطبع وإن صوّرت شيئًا بتفاصيلها كان ذلك من التاريخ والأخبار ويبعد عن البلاغة التي للكلام المحرك فإن ذكرت بعض الأحوال الذي أغنى غناء الكل فقد أبلغت ضميرك وإن تركت هذا البعض وجئت بكل تفصيل فذلك هو العيّ. وهذا القليل الكثير ضالة البلغاء يحومون حولها ولا يجدونها فإذا هي وجدت قال كلهم هي هي. هذه التي كنت أبغي وكانت هي تجول في قلبي وكنت ألمسها ولا أجد. فأعجبوا بها لا لبعدها بل لشدة قربها فما كان منها أقرب كان أحسن. وهذه نقطة الافتراق بين العرب والعجم وبين رؤساء الكلام في الغرب والمشرق كهومروس وشاكسفير وفردوسي وعامتهم الذين طلبوا كل نادرة بعيدة من القافية والتشبيه والبديع. فكان تعجبهم لتصنع المتكلم لا لحسن الكلام فاجتمع لهم من محاسن الكلام أسماء سمّوها وفازت العرب منها بشيء واحد لا اسم له عند العجم وهو الصدق والتأثير وإن هذا لهو الذي يبلغ القلب".[46]



خاتمة البحث

بدا من هذا الحديث الموجز أن الإمام عبد الحميد الفراهي كان عالمًا كبيرًا للقرآن وعلومه ومتضلعًا من اللغات العديدة ومنها العربية. إنه ألّف كتبًا ورسائل عديدة تم البعض منها بينما الكثير منها لم تتم، وكل هذه الرسائل مليئة بالقضايا الدقيقة من علمية وأدبية وفنية، إنها تزخر بالأفكار البديعة والنكت اللطيفة والمعارف النادرة. وكل كتاب بدأ بتأليفه أو أتمّ تأليفه بديع من نوعه، فريد من جنسه. وأما كتابه الوجيز "جمهرة البلاغة" الذي لم يوفّق إتمامه فهو أيضًا فاقد النظير في ترتيبه ومحتوياته، وفي تناوله للمباحث والقضايا البلاغية. إن الفراهي قدّم فيه أصولًا جديدة لم يألفها البلاغة العربية من قبلُ. وعلى هذا فصدق البلاغي الشهير الدكتور أحمد مطلوب حيث قال: "إنه كتاب فريد من نوعه، ألّفه مسلم في الشرق الإسلامي، ولم يصل إلى البلاد العربية ليكون صورة من صور الدرس البلاغي في القرن العشرين للميلاد".[47]



المصادر والمراجع

أولًا: الكتب والرسائل:

1- البروفيسور ظفر الإسلام الإصلاحي، كتابيات فراهي، إداره علوم القرآن، علي كره، الهند، 1991م.

2- البروفيسور عبيد الله الفراهي (جمع وتدوين)، علامه حميد الدين فراهي- حيات وأفكار، منظمة طلاب مدرسة الإصلاح الأقدمين، سرائ مير، أعظم كره، 1992م.

3- الدكتور شرف الدين الإصلاحي، ذكر فراهي، الدائرة الحميدية، مدرسة الإصلاح، سراي مير، أعظم كره، 2001م.

4- السيد سليمان الندوي، ياد رفتگاں، دار المصنفين، أعظم كره، الهند، 1999م.

5- المعلم عبد الحميد الفراهي، الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح، الدائرة الحميدية، سرائ مير، أعظم كره، 1994م.

6- المعلم عبد الحميد الفراهي، جمهرة البلاغة، الدائرة الحميدية، سراي مير، أعظم كره، 1360ه.

7- المعلم عبد الحميد الفراهي، مفردات القرآن (تحقيق: الدكتور محمد أجمل أيوب الإصلاحي)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2002م.



وثانيًا: المجلات والجرائد:

1- مجلة "الإصلاح" الشهرية الصادرة عن مدرسة الإصلاح، سراي مير، أعظم كره، الهند.

2- مجلة "الندوة" الشهرية الصادرة عن دار العلوم بندوة العلماء، لكناؤ، الهند.

3- مجلة "ترجمان دار العلوم جديد" الشهرية الصادرة عن منظمة طلاب دار العلوم بديوبند الأقدمين، نيو دلهي.



وثالثًا: المواقع والشبكات:

1- الدكتور أحمد مطلوب، جمهرة البلاغة

2- الدكتور صالح سعيد الزهراني، سياسة البلاغة عند عبد الحميد الفراهي

3- www.alukah.net الدكتور أورنك زيب الأعظمي، الدائرة الحميدية، تاريخها ومساهمتها في تطوير العلوم والآداب.






[1] أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية وآدابها، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دلهي..




[2] الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح، ص 4.




[3] ياد رفتگاں، ص 124-125.




[4] جمهرة البلاغة، ص 1.




[5] المصدر نفسه، ص 1.




[6] مجلة "ترجمان دار العلوم جديد" الشهرية، 11/2/49-55.




[7] جمهرة البلاغة، ص 3.




[8] المصدر نفسه، ص 4.




[9] مجلة "الندوة" الشهرية، شهر ديسمبر 1905م، ص 4.




[10] مجلة "الإصلاح" الشهرية، شهر أكتوبر 1937م، ص 607-608.




[11] المصدر نفسه، شهر أبريل 1938م، ص 199.




[12] علامه حميد الدين فراهي- حيات وأفكار، ص 21.




[13] المصدر نفسه، 28.




[14] ذكر فراهي، ص 575.




[15] المصدر نفسه والصفحة ذاتها.




[16] المصدر نفسه، ص 538.




[17] المصدر نفسه، ص 542.




[18] المصدر نفسه، ص 546.




[19] www.ust.edu ، مقالة الدكتور أحمد مطلوب، جمهرة البلاغة.




[20] aruc.org، مقالة الزهراني، سياسة البلاغة عند عبد الحميد الفراهي.




[21] المصدر نفسه.




[22] مفردات القرآن، ص 26.




[23] ذكر فراهي، ص 575.




[24] علامة حميد الدين فراهي، حيات وأفكار، ص 28.




[25] المصدر نفسه، ص 542.




[26] جمهرة البلاغة، ص 34.




[27] المصدر نفسه، ص 49.




[28] المصدر نفسه، ص 44-45.




[29] المصدر نفسه، 53-55.




[30] المصدر نفسه، ص 67.




[31] المصدر نفسه، ص 72.




[32] سورة الرحمن: 1-4.




[33] جمهرة البلاغة للدكتور أحمد مطلوب، ص 21.




[34] المصدر نفسه، ص 21.




[35] المصدر نفسه، ص 21.




[36] المصدر نفسه، ص 21.




[37] المصدر نفسه، ص 4-5.




[38] المصدر نفسه، ص 8.




[39] المصدر نفسه، ص 66.




[40] المصدر نفسه، ص 67-68.




[41] المصدر نفسه، ص 71-72.




[42] المصدر نفسه، ص 79.




[43] المصدر نفسه، ص 14-15.




[44] المصدر نفسه، ص 24-25.




[45] المصدر نفسه، ص 49.




[46] المصدر نفسه، ص 57.




[47] جمهرة البلاغة للدكتور أحمد مطلوب، ص 21.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 115.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 113.17 كيلو بايت... تم توفير 2.82 كيلو بايت...بمعدل (2.43%)]