تذكير العقلاء بأحوال الناس عند الابتلاء - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         ترجمة موجزة عن فضيلة العلامة الشيخ: محمد أمان بن علي الجامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          يجب احترام ولاة الأمر وتوقيرهــم وتحرم غيبتهم أو السخرية منهم أو تنــقّصهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 37 - عددالزوار : 1176 )           »          حوارات الآخرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          أساس الأسرة زوجان متحابان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          أين أنت من القرآن الكريم؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          من شبهات وأباطيل اليهود-أن اليهود حولوا القدس وفلسطين من صحراء إلى جنان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          الصراع مع اليهود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          تربية الطفل الاحتسابية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          زوجات يابانيات: الإسلام غيَّر حياتنا ومنحنا السعادة الحقيقية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-05-2023, 07:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,007
الدولة : Egypt
افتراضي تذكير العقلاء بأحوال الناس عند الابتلاء

تذكير العقلاء بأحوال الناس عند الابتلاء
الشيخ محمد عبدالتواب سويدان


نص الخطبة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، خلق الحياة ليبلونا وكتب علينا الممات، وأشهد أن لا إله إلا الله المتفرد بجلال الذات وكمال الصفات، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلاةً وسلامًا عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فيا عباد الله، أمرٌ لا بد منه، وسُنة أجراها الله على عباده لحكمة وغاية أرادها جل وعلا؛ ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 43]، فكان للأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم منه النصيب والقدر الأكبر، ثم الذين يلونهم من الأولياء والصالحين؛ ألا وهي سنة الابتلاء، وقد أكَّد المولى تبارك وتعالى في كتابه أن ابتلاء الناس لا محيص عنه؛ قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31]، وقال: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214].


وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صُلبًا، اشتد به بلاؤه، وإن كان في دينه رِقَّة، ابتُليَ على قدر دينه))؛ [أخرجه الإمام أحمد وغيره].


والابتلاء ليس فقط بالشر، بل قد يكون بالخير والأموال، والصحة والقوة والجمال؛ قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35]، وقال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر: 15، 16]، فقال سبحانه ردًّا على هذا الظن: ﴿ كَلَّا [الفجر: 17]؛ أي: ليس الأمر كذلك، وإنما الله تعالى يبتلي عباده بالغِنى والفقر.


أحبتي الكرام، الابتلاء سُنَّة الله في خلقه، إلا أننا إذا نظرنا إلى الناس وقت الابتلاء بالخير أو بالشر، لوجدنا أن أحوال الناس تختلف، فلا يستقبلون البأساء والضراء بصورة واحدة، بل بصور شتى؛ فلكل منهم حال، والناس في أحوالهم مع الابتلاء أصناف أربع مختلفة متباينة، فأنزلوا أنفسكم على هذه الأصناف لِتَرَوا حالكم، ومن أي الأصناف أنتم.


الصنف الأول: الساخطون الجازعون الذين يعترضون ويسخطون ويتألمون، والسخط على قدر الله يكون على ثلاثة أنواع؛ إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالجوارح.


فأما السخط بالقلب: أن يرى أن الله تعالى ظلمه، وأنه ليس أهلًا لأن يُصاب، وهذا على خطر عظيم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ [الحج: 11].


وأما السخط باللسان، فيكون بالصياح مثلًا، أو ذكر محاسن الميت، أو الدعاء بالويل والثبور، وما أشبه ذلك من الكلمات النابية التي تنبئ عن سخط العبد، وعدم رضاه بقضاء الله.


وأما السخط بالجوارح؛ فهو تسخُّط بالفعل؛ مثل: شق الجيوب، ولطم الخدود، وحَثْوِ التراب على الرؤوس، وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام، ومن كان هذا حاله، فهو آثِمٌ محروم من الخير؛ وقد تبرأ منه الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: ((ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية))، وعن أبي بردة بن أبي موسى رضي الله عنه، قال: ((وجع أبو موسى وجعًا شديدًا، فغُشِيَ عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله، فلم يستطع أن يردَّ عليها شيئًا، فلما أفاق، قال: أنا بريء ممن بَرِئ منه رسول الله؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة - التي ترفع صوتها بالنياحة والندب - والحالقة - التي تحلق رأسها عند المصيبة - والشاقة - التي تشق ثوبها))؛ [صحيح مسلم].


وفي الحديث: ((ومن سخط فله السخط))؛ أي: من سلك سبيل السخط على ربه فيما دبَّره، وقضى به، من شدة وعناء، فإن عاقبة ذلك السخط من الله؛ جزاءَ سوءِ ظنه بالله.


الصنف الثاني: الصابرون الذين صبروا، فلا يتأففون ولا يتسخطون، ومن كان هذا حاله، فهو يرى أن هذا الابتلاء ثقيل عليه، لكنه يحتمله، وهو يكره وقوعه، ولكن الصبر يحميه من السخط:
والصبر مثل اسمه مُرٌّ مذاقه
لكن عواقبه أحلى من العسل




والصبر واجب، ومعناه: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي والتسخط، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما.


ولقد ذكر الله الصبر في تسعين موضعًا من كتابه؛ آمرًا به، مرغبًا فيه، مبينًا عظم الأجر المترتب على هذا الخُلُق العظيم، وجعله من أسباب العون والمعية الإلهية؛ فقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153].


ثم أخبر مؤكدًا أن الحياة محل الابتلاء بالخوف والجوع، ونقص الأرزاق والأموال، والأنفس والثمرات، وأطلق البشرى للصابرين، وأخبر عن حالهم، وأثبت جزاءهم؛ فقال: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155 - 157].


وكما في الحديث: ((ما أُعْطِيَ أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر))، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الشيخان: ((ومن يتصبَّر يُصبِّره الله)).


ورُوي عن علي رضي الله عنه قوله: "اعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ألا وإنه لا إيمان لمن لا صبر له"، وقال الحسن رحمه الله: "ما تجرع عبدٌ جُرْعة أعظمَ من جُرعة حِلْمٍ عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة".


وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "ما أنعم الله على عبدٍ نعمةً فانتزعها منه، فعاضه مكانها الصبر، إلا كان ما عوضه خيرًا مما انتزعه".


وهؤلاء تأسَّوا بحال الرسول صلى الله عليه وسلم الأسوة لكل مسلم؛ كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21].


وفي تأمل حاله صلى الله عليه وسلم عِظَةٌ وسلوى وعزاء؛ فقد كانت حياته كلها صبرًا وجهادًا، وكان ابتلاؤه منذ نشأته صلى الله عليه وسلم، فقد لازمته الابتلاءات منذ صغره بأبي هو وأمي، فوُلِد يتيمًا، ونشأ فقيرًا، فُجِعَ بموت والدته طفلًا لم يتجاوز ست سنوات، ثم فُجع بوفاة جده عبدالمطلب وهو ابن ثماني سنوات، فأعاله عمه الفقير أبو طالب فضمه إلى بنيه، وحين بُعِث صبر صلى الله عليه وسلم على أذى المشركين في مكة، وعلى أذى اليهود والمنافقين في المدينة، وكل هذه الطوائف الثلاث حاولوا قتله غير مرة، وصبر على الابتلاءات العظيمة التي ابتُليَ بها في نفسه وأهله، وولده وقرابته؛ ففي فترة وجيزة مات عمه أبو طالب الذي كان يمنع المشركين من أذاه، وماتت زوجته الوفية الصابرة خديجة في عام واحد، ورُزق سبعة من الولد: القاسم، وعبدالله، وإبراهيم، ورقية، وأم كلثوم، وزينب، وفاطمة، ماتوا كلهم تِباعًا في حياته إلا فاطمة فماتت بعده، ومات الكثير من أصحابه الذين أحبهم وأحبوه؛ قُتِل عمه أسد الله ورسوله حمزة بن عبدالمطلب رضي الله تعالى عنه، الذي استُشهد بأُحُدٍ، ومُثِّل به أيما تمثيل، فما فتَّ ذلك في عَضُدِه، ولا قلَّل من صبره.


وصبر على شدة الفاقة، وقلة ذات اليد، وعانى شَظَفَ العيش، ووجد ألم الحرمان، وأحسَّ بقرص الجوع، أخبر عنه بذلك ألصق الناس به؛ فقالت زوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أُوقِدت في أبيات رسول الله نارٌ))، وقالت: ((ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر))، وقالت: ((وما شبع صلى الله عليه وسلم من خبز وزيت في يوم واحد مرتين))، يُبتلَى بالجوع، فيشُدُّ الحجر؛ كما في غزوة الخندق، وذات مرة أتته ابنته فاطمة رضي الله عنها بكسرة خبز فقال: ((ما هذه؟ قالت: قرص خبزته، فلم تَطِبْ نفسي حتى آتيك بهذه الكسرة، قال: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام))، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.


وكان مرضه صلى الله عليه وسلم أشد من مرض غيره، وحُمَّاه أحرَّ من حمى سواه، وصداعه ليس كصداع الناس، يُوعَك كما يوعك رجلان، وهو ساكن صابر، فإن أخبر بحاله، فليعلم الصبر، ثم يشدد عليه الموت، فيسلب روحه الشريفة، وهو مضطجع في كساء مُلبَّد، وإزار غليظ، وليس عندهم زيت يوقَد به المصباح لَيْلَتَئذٍ؛ فصار الصابرون على نهج إمام الصابرين صلى الله عليه وسلم، وتأسوا بحال السلف؛ فصنعوا كما صنعت أم سليم رضي الله عنها حين مات ابن لها، قالت لزوجها أبي طلحة رضي الله عنه: ((أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم، أَلَهُمْ أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، فلما علِم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بارك الله لكما في غابر ليلتكما))؛ [صحيح مسلم].


وصنعوا كما صنعت أم سلمة حين أخبـرت رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها، قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؛ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ [صحيح مسلم].


ومن تأمل أحوال السـلف الصـالـح، وجدهم رضي الله عنهم قد حازوا الصبر على خير وجوهه؛ وقد قال الله: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: 6].


وتذكر هؤلاء ما أعده الله للمبتلين الصابرين من الأجر والثواب؛ فأما الأجر والثواب، فلا أحسن ولا أعظم من الجنة جزاءً وثوابًا، وقد وُعِدَ بها كثير من الصابرين؛ فوُعِدت بها تلك المرأة التي كانت تُصرَع إذا ما صبرت؛ كما حدث بذلك عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ((ألَا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصْرَع، وإني أتكشَّف، فادعُ الله لي، قال: إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيكِ، فقالت: أصبرُ، وقالت: إني أتكشف، فادعً الله لي ألَّا أتكشف، فدعا لها))؛ [البخاري].


ووعد بها الذي فقد بصره؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله قال: إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه فصبر، عوَّضته منهما الجنة))؛ [البخاري].


ووُعد بها المؤمن الذي يصبر عند موت حبيب له؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة))؛ [البخاري].


وكان لمن فقد ولدًا نصيب كبير من البشارة بالجنة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((أيما مسلمَين مضى لهما ثلاثة من أولادهما، لم يبلغوا حِنْثًا، كانوا لهما حصنًا حصينًا من النار، فقال أبو ذر: مضى لي اثنان يا رسول الله؟ قال: واثنان، فقال أبي أبو المنذر سيد القـراء: مضـى لي واحـد يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وواحد، وذلك في الصدمة الأولى))؛ [المسند].


وعن محمود بن لبيد عن جـابر، قــال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من مات له ثلاثة من الولد فاحتسبهم دخل الجنة، قال: قلنا: يا رسول الله، واثنان؟ قال: واثنان، قال محمود: فقلت لجابر: أراكم لو قلتم: وواحد، لقال: وواحد، قال: وأنا - والله - أظن ذاك))؛ [المسند].


أما تكفير السيئات، ورفعة الدرجات؛ فقد جاء في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يصيبه أذًى؛ شوكةٌ فما فوقها، إلا كفَّر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها))؛ [صحيح البخاري].


وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: ((ما يصيب المسلم من نَصَبٍ، ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ، ولا حزن، ولا أذًى، ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه))؛ [صحيح البخاري].


وقال صلى الله عليه وسلم: ((وما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة))؛ [رواه الترمذي].


وجاء في مسند الإمام أحمد قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا سبقت للعبد من الله منزلة لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبَّره، حتى يُبلِّغه المنزلة التي سبقت له منه))؛ [مسند أحمد]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((وإن عِظَمَ الجزاء مع عظم البلاء))؛ [سنن الترمذي، وابن ماجه].


وقال بعض السلف: "لا تُكال الأجور للصابرين ولا تُوزَن، وإنما تُغرف لهم غرفًا".


الصنف الثالث: الراضون؛ فهؤلاء صبروا ثم رضوا بما قدر الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاق طعم الإيمان من رضِي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا))؛ [رواه مسلم]، وروى الإمام أحمد والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: ((وأسألك الرضا بعد القضاء))؛ قال ابن رجب: "وإنما قال الرضا بعد القضاء؛ لأن الرضا قبل القضاء عزم على الرضا، حتى إذا وقع القضاء، فقد تنفسخ العزائم".


والرضا أعلى من الصبر، وقد يوجد فرق يسير بينهما؛ وهو أن الصبر كفُّ النفس وحبسها عن التسخط مع وجود الألم، وتمني زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع؛ يمسك لسانه وجوارحه عن كل ما يدل على الجزع.


والرضا: هو سكون القلب إلى اختيار الرب سبحانه، وقبول حكم الله في السراء والضراء، وترك تمني زوال ذلك المؤلم اﻟﻤﻘﻀﻲ ﺑﻪ، وإن وُجِد الإحساس بالألم، لكن الرضا يخفف الإحساس بالألم؛ لِما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة.


لذا قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: "من اتَّكَلَ على حسن اختيار الله تعالى، لم يتمنَّ غير ما اختار الله له".


وقال ابن مسعود: "لأن أعَضَّ على جمرة أو أن أقبض عليها حتى تبرُدَ في يدي، أحب إليَّ من أن أقول لشيء قضاه الله: ليته لم يكن"؛ [طريق الهجرتين وباب السعادتين].


والرضاء بالقضاء واجب، والرضا بالمقضي مستحب؛ يقول القرافي: "اعلم أن السخط بالقضاء حرام إجماعًا، والرضا بالقضاء واجب إجماعًا، بخلاف المقضي به، فمستحبٌّ".


فالمسلم مطالب شرعًا بالرضا بالقضاء، بل هو واجب، والرضا بالمقضي مستحب؛ لأن كرهه للمقضي كالمرض والفقر، وأذى الخلق له، والحر والبرد، والآلام ونحو ذلك ليس بممنوع شرعًا، ومن أراد أن يعلم حقيقة الرضا عن الله، فليتفكر في أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما تكاملت معرفته بالخالق سبحانه، رأى أن الخالق مالك، وللمالك التصرف في مملوكه، ورآه حكيمًا لا يصنع شيئًا عبثًا، فسلَّم تسليم مملوكٍ لحكيمٍ.


((دخل صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، وهو ينازع الموت، فأخذه فقبَّله وشمَّه وضمَّه، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان؛ فقال له عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله تبكي؟ فقال: يا ابن عوف، إنها رحمة، ثم أتْبَعَها بأخرى، فقال عليه الصلاة والسلام: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون))، وكانت العجائب تجري عليه، ولا يوجد منه تغير، ولا من الطبع تأفُّف.


وعلى هذا صار السلف، فلما قدم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى مكة، وكان قد كُفَّ بصره، فجاءه الناس يُهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له؛ فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة؛ قال عبدالله بن السائب رحمه الله: فأتيته وأنا غلام، فتعرفت عليه فعرفني، وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم... فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس، فلو دعوت لنفسك، فردَّ الله عليك بصرك فتبسم، وقال: "يا بني، قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري".


وروى الطبراني في الكبير أن عمران بن حصين رضي الله عنه اشتكى، فدخل عليه جار له، فاستبطأه في العيادة، فقال له: يا أبا نجيد، إن بعض ما يمنعني من عيادتك ما أرى بك من الجهد، قال: "فلا تفعل، فإن أحبه إليَّ أحبه إلى الله، فلا تبتئس لي بما ترى".


وعن مطرف قال: زرت ابن الحصين وقد اشتد به البلاء، واستطلق بطنه – أي أُصيب بإسهال شديد - وثقبوا له السرير؛ لأنه لا يستطيع أن ينزل عنه، فذرفت عيناي، قال: ما يبكيك؟ قلت: حالك، قال: "لا تبك؛ لأني أُحِبُّ ما يحب، ويشير إلى السماء".


ويُروى عن عبدالرحمن بن غنم قال: دخلنا على معاذ رضي الله عنه، وهو قاعد عند رأس ابن له، وهو يجود بنفسه، فما ملكنا أنفسنا أن ذرفت أعيننا، وانتحب بعضنا، فزجره معاذ، وقال:" مه، فوالله لئن يعلم الله برضائي بهذا أحب إليَّ من كل غزاة غزوتها".


وعن البراء المازني رحمه الله قال: مات في الطاعون لصدقة بن عامر المازني سبعة بنين في يوم واحد، فدخل، فوجدهم قد سُجُّوا جميعًا؛ أي كُفِّنوا، فقال: "اللهم، إني مُسْلِم مُسلِّم".


أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:
فما زلنا مع أحوال الناس عند الابتلاء، وقلنا: إن الناس وقت الابتلاء أصناف؛ ساخط، وصابر، وراضٍ، أما الصنف الرابع، فإنهم أفضل عباد الله يوم القيامة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أفضل عباد الله يوم القيامة الحمَّادون))؛ [صحيح، رواه الطبراني في الكبير].


وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ولدٌ لعبدٍ، قال الله عز وجل لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حَمَدَك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد))؛ [مسند الإمام أحمد، والترمذي، وغيرهما].


والحمد عند نزول الابتلاء ليس بواجب وإنما هو مستحب، ولكن يسأل سائل فيقول: نحن جميعًا نحمد الله عند النعمة، فكيف نحمد الله على الابتلاء أو على المصيبة وهي مصيبة؟ والجواب:
من وجهين؛ الوجه الأول: أن ينظر إلى من أُصيب بما هو أعظم، فيحمد الله على أنه لم يصب مثله؛ وعلى هذا جاء الحديث: ((لا تنظروا إلى من هو فوقكم، وانظروا إلى من هو أسفلَ منكم؛ فإنه أجدر ألَّا تزدروا نعمة الله عليكم)).


قال سلام بن أبي مطيع: "دخلت على مريض أعوده، فإذا هو يئن؛ فقلت له: اذكر المطروحين على الطريق، اذكر الذين لا مأوى لهم ولا لهم من يخدمهم، قال: ثم دخلت عليه بعد ذلك، فسمعته يقول لنفسه: اذكري المطروحين في الطريق، اذكري من لا مأوى له ولا له من يخدمه"؛ [عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين].


فتذكر أحوال الأشد منك بلاءً، وتذكر لطف الله تعالى عليك؛ مات ابنٌ لعروة بن الزبير، وكان قد بُتِرت ساقه، فقال رضي الله عنه: "اللهم إن كنت ابتليت فقد عافيت، وإن كنت أخذت فقد أبقيت؛ أخذت عضوًا وأبقيت أعضاء، وأخذت ابنًا وأبقيت أبناء"؛ [الكبائر للذهبي].


الوجه الثاني: أن يعلم أنه يحصل له بهذه المصيبة تكفير السيئات، ورفعة الدرجات إذا صبر، فما في الآخرة خير مما في الدنيا، فيحمد الله، وأيضًا أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، فيرجو أن يكون بها صالحًا، فيحمد الله.


قال شريح بن الحارث قاضي الكوفة، ويُنسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "ما أصابتني مصيبة إلا كان لله عليَّ فيها أربع نِعَمٍ؛ أو قال: إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله على أربع: الأولى: أنها لم تكن في ديني، الثانية: أنها لم تكن أكبر من ذلك، الثالثة: أن الله منحني الصبر عليها، الرابعة: أن الله يعطي عليها الثواب العظيم والأجر الكبير؛ ثم تلا قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155 - 157]"؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي].


وكان الخليفة الوليد يجلس في مجلسه، فدخل عليه شيخ طاعن في السن، مهشم الوجه، أعمى البصر، فسأله عن قصته، فقال الشيخ: "إني بِتُّ ذات ليلة في وادٍ، وليس في ذلك الوادي أغنى مني، ولا أكثر مني مالًا وحلالًا وعيالًا، فأتانا السيل بالليل، فأخذ عيالي ومالي وحلالي، وطلعت الشمس وأنا لا أملك إلا طفلًا صغيرًا، وبعيرًا واحدًا، فهرب البعير، فأردت اللحاق به، فلم أبتعد كثيرًا حتى سمعت خلفي صراخ الطفل، فالتفت فإذا برأس الطفل في فم الذئب، فانطلقت لإنقاذه فلم أقدر على ذلك؛ فقد مزقه الذئب بأنيابه، فعدت لألحق بالبعير، فضربني بخفه على وجهي، فهشم وجهي وأعمى بصري، فأصبحت لا مال لي، ولا أهل، ولا ولد، ولا بصر، قال: وما تقول يا شيخ بعد هذا؟ فقال الشيخ: أقول الحمد لله الذي ترك لي قلبًا عامرًا، ولسانًا ذاكرًا، فقال الوليد لما سمع قصته: انطلقوا به إلى عروة؛ ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاءً"؛ [ابن عساكر، تاريخ دمشق، ابن سعد، الطبقات الكبرى].


وختامًا أخي الحبيب، فإن الناس عند نزول الابتلاء أصناف: صنف يسخط، وصنف يصبر، وصنف يرضى، وصنف يحمد الله وهو أعلاهم، فأي الناس أنت؟ ومن أي الأصناف أنت؟هل أنت من الساخطين، وأعيذك بالله أن تكون منهم، أم أنت من الصابرين، أم الراضين، أم الحامدين؟ أجب بنفسك لترى حالك، أسأل الله أن يجعلنا ممن يحبهم الله ويحبونه، وأقم الصلاة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 76.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 75.09 كيلو بايت... تم توفير 1.90 كيلو بايت...بمعدل (2.46%)]