«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - الصفحة 11 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          خطورة الإشاعات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          من الخذلان الجهل بالأعداء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          الليبراليون الجدد.. عمالة تحت الطلب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 100 )           »          فتنة التفرق والاختلاف المذموم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          رغبة المؤمنين ورهبتهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          رسالة إلى الأبناء – مدرستك هي مجتمعك الصغير.. فمن أنت في المجتمع؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #101  
قديم 13-07-2021, 04:09 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,601
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم


تفسير قال الله تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾



قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 30 - 33].

قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةًالآية.

قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِالواو استئنافية، و"إذ" ظرف بمعنى "حين"، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: واذكر يا محمد حين قال ربُّك للملائكة مخبرًا لهم، وذكِّر به قومك.

و"الملائكة" جمع "مَلك"، وهم عالم غيبيٌّ خلقهم الله تعالى من نور، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((خُلِقت الملائكة من نور، وخُلِق الجانُّ من مارج من نار، وخُلِق آدم مما وُصِف لكم))[1].

والإيمان بالملائكة ركنٌ من أركان الإيمان الستة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه))[2].

فيجب الإيمان بهم على وجه الإجمال، كما يجب الإيمان بما ذكر في الكتاب والسنة من أسمائهم وأوصافهم وأعمالهم، وبما منحهم الله من قوة وقدرة على القيام بما كلِّفوا به من أعمال على جهة التفصيل، كما قال تعالى في وصفهم: ﴿ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ﴾ [فاطر: 1]، وقال تعالى في وصف خزنة النار: ﴿ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ ﴾ [التحريم: 6]، وقال تعالى في وصف طاعتهم وعملهم: ﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، وقال تعالى: ﴿ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 27].

فمنهم الموكَّل بالوحي كجبريل عليه السلام.

كما قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 97]، وهو الروح الأمين كما قال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ [الشعراء: 193].

ومنهم الموكَّل بالقَطْر والنبات كميكائيل عليه السلام.

ومنهم الموكَّل بقبض أرواح بني آدم، وهو ملَك الموت وأعوانه من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب كما قال تعالى: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ [السجدة: 11]، وقال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61].

وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بِيضُ الوجوهِ.. وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة سُودُ الوجوه..))[3].

ومنهم الموكَّل بالنفخ بالصور، وهو إسرافيل عليه السلام.

ومنهم حملة العرش، كما قال تعالى: ﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 17].

ومنهم الموكلون على العباد بحفظهم وحفظ أعمالهم، كما قال تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12].

ومنهم الموكلون بالرحم والنطف كما في الحديث: ((فيرسل إليه الملَك، فينفخ فيه الروح))[4].

ومنهم الموكَّلون بالسؤال في القبر، كما في حديث البراء: ((ويأتيه ملَكانِ فيُجلِسانه فيقولان له: من ربُّك؟ وما دينك؟ وما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟))[5].

ومنهم الموكلون بالشمس والقمر والأفلاك، ومنهم الموكلون بالجنة والنار.

ومنهم الموكلون بعمارة السموات بالعبادة والصلاة والتسبيح والتقديس، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ [الأعراف: 206]، وقال تعالى: ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 20]، وقال تعالى حكاية عنهم: ﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ﴾ [الصافات: 165، 166].

﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً؛ أي: إني مصير ومستخلف في الأرض خليفة.


وفي هذا إثبات الأفعال لله عز وجل، وأنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، كما قال تعالى: ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 16].

والخليفة: من يخلف غيره وينوب عنه.

أي: إني جاعل في الأرض خليفة يقيم شرع الله في أرض الله، ويخلفه من بعده قرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيل، كما قال تعالى: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [ص: 26].

وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: 14]، وقال تعالى: ﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ﴾ [النمل: 62]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 129]، وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [النور: 55].

وقيل: خليفة لمن سبقه؛ لأن الأرض كانت معمورة بطائفة من المخلوقات الجن أو غيرهم، أفسَدوا في الأرض وسفَكوا الدماء؛ ولهذا قالت الملائكة: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ [البقرة: 30].

وفي الآية امتنان على آدم وذريته بالتنويه بذِكرِهم في الملأ الأعلى قبل خلقهم.

﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾؛ أي: قالت الملائكة: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ والاستفهام هنا ليس اعتراضًا على الله، ولا حسدًا لبني آدم، وإنما هو استعلام واستجلاء لوجه الحكمة في جعل هذا الخليفة، مشوبًا بالتعجب؛ وذلك لعلمِهم أنه عز وجل لا يفعل إلا لحكمة، وأن المقصود من جعل الخليفة في الأرض هو إصلاحها وعمارتها.

و"مَن" موصولة؛ أي: أتجعل في الأرض الذي يُفسِد فيها بالكفر والمعاصي ﴿ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾؛ أي: إن من هذا الجنس من يفعل ذلك.

ومعنى ﴿ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾؛ أي: ويريق الدماء، وهذا من أعظم الفساد في الأرض، فعطفه على ما قبله أشبه بعطف الخاص على العام.

وهذه المقالة من الملائكة بحسب ظنهم أن هذا الخليفة في الأرض سيحدُث منه ذلك؛ ولهذا قالوا بعده:
﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ: الواو: حالية، أي: والحال أننا نسبح بحمدك، أي: نجمع بين تسبيحك وحمدك، ونقرن بينهما.

والتسبيح: تنزيه الله عن النقائص والعيوب وعن مماثلة المخلوقين، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 38]، وقال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].

وأن كل كمال فهو أولى به، كما قال عز وجل: ﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الروم: 27].

ويطلق التسبيح على ما هو أعم من ذلك من أنواع العبادة كلِّها، كالذكر والصلاة وقول: "سبحانك ربنا وبحمدك"، و"سبحان الله وبحمده"، "سبحان الله العظيم" ونحو ذلك.

والباء في قولهم: ﴿ بِحَمْدِكَ ﴾ للمصاحبة، أي: نسبحك تسبيحًا مصحوبًا ومقرونًا بحمدك.

والحمد: وصف المحمود بصفات الكمال مع المحبة والتعظيم، فحمد الله وصفه بصفات الكمال مع محبته وتعظيمه.

﴿ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾التقديس: التعظيم والتطهير ومنه سميت الأرض المقدَّسة؛ أي: المطهَّرة، واللام في "لك" للاختصاص والإخلاص؛ أي: نعظِّمك ونمجدك ونكبِّرك ونصلِّي لك خاصة.

ويحتمل أن المعنى: ونحن نسبح بحمدك؛ أي: ننزهك ونثني عليك ونعظمك بالأقوال والأفعال، ونقدِّسك؛ أي: نعظمك ونطهرك بالاعتقاد في القلوب.

فجمعوا بين تنزيه الله عز وجل عن النقائص والعيوب وعبادته بالتسبيح، وإثبات الكمال له بالحمد، وتعظيمه وتطهيره بالتقديس، وعبَّروا بالجملة الاسمية في قولهم: ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: 30]؛ للدلالة على ثبوتهم واستمرارهم على ذلك، كما قال تعالى عنهم: ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 20]، وقال تعالى: ﴿ فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ﴾ [فصلت: 38].

بينما عبَّروا بالجملة الفعلية الدالة على التجدد والحدوث في قولهم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ [البقرة: 30]؛ أي: من يحصل منهم هذا الفعل تارة بعد أخرى.

وقول الملائكة: ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ ليس من باب التزكية لأنفسهم؛ لأن الله قد نهى عنها كما قال تعالى: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النجم: 32]، وإنما قولهم هذا من قبيل الإخبار بأنهم يقومون بعبادته عز وجل، ويسبِّحون بحمده ويعظمونه، وامتداح تنزيه الله وحمده وتقديسه.

﴿ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ هذا جواب لقول الملائكة: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ الآية؛ أي: قال الله مجيبًا للملائكة على قولهم هذا: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾من أمر هذا الخليفة، وما في خلقه من الحِكَمِ العظيمة من عمارة هذا الكون، وما في ذلك من المصالح الدينية والدنيوية والأخروية.

قال ابن كثير[6]: "إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم...".

وقال ابن القيم[7]: "رد على الملائكة لما سألوه كيف يجعل في الأرض من هم أطوعُ له منه؟ فقال: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، فأجاب سؤالهم بأنه يعلم من بواطن الأمور وحقائقها ما لا يعلمون، وهو العليم الحكيم، فظهر من هذا الخليفة من خيار خلقه ورسله وأنبيائه وصالحي عباده والشهداء والصديقين والعلماء وطبقات أهل العلم من هو خير من الملائكة، وظهر إبليس من هو شر العالمين، فأخرج سبحانه هذا وهذا، والملائكة لم يكن لهم علم لا بهذا ولا بهذا، ولا ما في خلق آدم وإسكانه الأرضَ من الحكم الباهرة".

وقال أيضًا: "فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا يعلمه الملائكة، فلما أمرهم بالسجود، ظهر ما في قلوب الملائكة من الطاعة والمحبة والخشية والانقياد، فبادروا إلى الامتثال، وظهر ما في قلب عدوِّه من الكبر والغش والحسد، فأبى واستكبر وكان من الكافرين.

ففي الآية إثبات الحكمة في أفعال الله عز وجل، سواء ظهرت للخلق أو لم تظهر لهم، والرد على من نفى الحكمة عن الله عز وجل في أفعاله، وقال: إنه يفعل لمجرد المشيئة بلا حكمة - كما تقول الأشاعرة.

وفيها الرد على المعتزلة القائلين بأنهم يحيطون بوجوه الحكمة في أفعال الله عز وجل، فينفون أمورًا كثيرة عن الله في عقولهم، ويدَّعون أن إثباتها ينافي حكمة الله، مثل نفيهم خلْقَه لأفعالِ العباد، بدعوى أنه لو خلقها كانوا مجبورين عليها، فكيف يعذِّبهم بما ليس فعلًا لهم؟ هذا لا يليق بالحكمة[8].


[1] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2996) - من حديث عائشة رضي الله عنها.

[2] سبق تخريجه.

[3] أخرجه أحمد (4/ 287- 288، 296) - من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.


[4] سبق تخريجه.

[5] أخرجه أبو داود في السنة (4753).

[6] في "تفسيره" ( 1 /100).

[7] انظر "بدائع التفسير" (1/ 299، 302).

[8] انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" (8/ 91) "إيثار الحق على الخلق" ص (201) وما بعدها.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #102  
قديم 15-07-2021, 06:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,601
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم







قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 31].

لما كان قول الملائكة: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: 30] فيه إشارةٌ منهم إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله الله في الأرض؛ أراد الله أن يُبيِّنَ لهم فضل آدم عليهم بالعلم، وكمال حكمة الله عز وجل وعلمه، فقال: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ ﴾ الآيات.

وقد جاء في بعض الآثار أنهم قالوا: "لن يخلق ربُّنا خلقًا هو أكرم عليه منا، أو إلا كنا أعلم منه"[1].

قوله: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾:
هذا بعد قوله: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]، يدلُّ على أن هذا الخليفةَ هو آدم عليه السلام، وهو أبو البشر، خلَقَه الله عز وجل بيده من أديم الأرض وطينها؛ ولهذا سمِّي آدم، وقيل: سمِّي آدم لأُدمتِه؛ فليس بالأبيض الباهق، ولا الأسود الحالك، لكنه بين ذلك.

و"ال" في "الأسماء" للاستغراق، و"كلها" للتوكيد.

أي: وعلَّم الله عز وجل آدمَ عليه السلام الأسماءَ كلَّها؛ أي: أسماءَ كلِّ شيء، ومنها أسماء الملائكة، وأسماء ذريته من الأنبياء وغيرهم.

كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يجمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربِّنا فيُريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدمَ، فيقولون له: أنت أبو البشر، خلَقَك الله بيده، وأسْجَدَ لك الملائكة، وعلَّمك أسماء كلِّ شيء، فاشفع لنا إلى ربِّنا حتى يريحنا))[2].

أي: علَّمه الأسماء كلَّها ومسمياتها؛ بدليل قوله تعالى بعده: ﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ ﴾ [البقرة: 31] بضمير وإشارة العقلاء.

واختلف هل المراد بذلك الأسماء والمسميات الحاضرة والمعروفة، وهي ما يحتاجه آدم وبنوه في ذلك الوقت، واستدل له بظاهر قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ﴾.

وقال بعضهم: المراد بذلك الأسماء والمسميات كلها مطلقًا؛ لظاهر الآية ﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ﴾؛ أي: ثم عرض عز وجل هذه المسمياتِ على الملائكة امتحانًا لهم هل يعرفونها أم لا؟

﴿ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَالنبأ: الخبر العظيم ذو الأهمية والفائدةِ الكبيرة، فهو أخص من الخبر، قال تعالى: ﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴾ [النبأ: 1، 2]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴾ [ص: 67].

أي: أَخبِروني بأسماء هؤلاء المسميات.

وعبَّر بضمير العقلاء في قوله: ﴿ عَرَضَهُمْ ﴾، وأشار بإشارة العقلاء ﴿ هَؤُلَاءِ ﴾؛ تغليبًا لجانب العقلاء من المسميات.

وفي الآية تقرير وتوكيد لقوله تعالى: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، وتحدٍّ وتعجيز لهم، وبيان لقلة عِلمِهم؛ ولهذا قال بعده: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 31].

أي: إن كنتم صادقين في قولكم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ الآية [البقرة: 30] في ظنكم أن هؤلاء الذين سأستخلفُهم في الأرض سيَعصونني، ويُفسِدون في الأرض، ويسفكون الدماء، وأني لم أخلُق خلقًا إلا كنتم أفضلَ وأعلمَ منهم.


[1] انظر "جامع البيان" (1/ 523، 532- 533).


[2] أخرجه البخاري في التوحيد (6/ 75)، ومسلم في الإيمان (193)، وابن ماجه في الزهد (2/ 43).








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #103  
قديم 15-07-2021, 06:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,601
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم







تفسير قوله تعالى:


﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32]


بهذا أجاب الملائكة عن قوله تعالى: ﴿ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 31]، فنزَّهوا الله عز وجل وأقَرُّوا واعترفوا بالعجز والجهل، وأنه لا علم لهم إلا ما علَّمهم الله العليم الحكيم، وأن آدم أعلمُ منهم.

وقولهم: ﴿ سُبْحَانَكَ ﴾؛ أي: نُنزِّهك عما لا يليق بك، وأن نقول ما لا نعلم.

﴿ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ﴾ "لا": نافية للجنس، و﴿ عِلْمَ ﴾ اسم "لا" مبني على الفتح في محل نصب، وهي نكرة في سياق النفي فتعُم أيَّ علم مهما قلَّ؛ مِن علم أسماء ما ذكر، أو من علمِ أمر الخليفة، أو غير ذلك.

"إلا" أداة حصر، و"ما" موصولة؛ أي: الذي علَّمتَنا.

أي: لا علم لنا بأي شيء إلا الذي علَّمتَنا، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ [البقرة: 255].

﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُتفويض من الملائكة أنه عز وجل وحده العليم الحكيم، وتأكيد وتعليل لقولهم: ﴿ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا.

﴿ أَنْتَ ضمير منفصل يفيد التوكيد والحصر؛ أي: إنك أنت وحدك العليم الحكيم.


و﴿ الْعَلِيمُ اسم من أسماء الله عز وجل مشتق من العلم يدل على إثبات صفة العلم الواسع لله عز وجل المحيط بكل شيء، كما قال تعالى: ﴿ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الأنعام: 80]، وقال تعالى: ﴿ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الأعراف: 89]، وقال تعالى: ﴿ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98].

فهو عز وجل ذو العلم الواسع، الذي أحاط بالأشياء كلِّها في أطوارها الثلاثة: قبل الوجود، وبعد الوجود، وبعد العدم، يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، قال موسى عليه السلام لما سئل: ﴿ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ﴾ [طه: 51]؟ قال: ﴿ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾ [طه: 52].

والعلم في الأصل إدراكُ الأشياء على ما هي عليه حقيقة إدراكًا جازمًا، فمن قال: عدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، فهو عالم، يدري ويدري أنه يدري.

ومن قال: لا أدري، فهو جاهل جهلًا بسيطًا، لا يدري ويدري أنه لا يدري.

ومن قال: بل هي مائة وعشرون سورة، فهذا جاهل جهلًا مركًبا، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.

و﴿ الْحَكِيمُ ﴾ اسم من أسماء الله عز وجل مشتقٌّ من الحكم والحكمة، يدل على أنه عز وجل ذو الحكم التام بأقسامه الثلاثة:
الحكم الكوني، كما قال تعالى فيما حكاه عن أحد إخوة يوسف أنه قال: ﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يوسف: 80].

والحكم الشرعي، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ﴾ [الممتحنة: 10].

والحكم الجزائي للناس على قدر أعمالهم خيرِها وشرِّها، كما قال تعالى: ﴿ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ﴾ [غافر: 48]؛ أي: بحكمه الجزائي.

فهو عز وجل الحَكَمُ وإليه الحُكمُ، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو الحَكَمُ وإليه الحُكمُ))[1].

وذو الحكمة البالغة بقسميها: الحكمة الغائية، والحكمة الصورية، فيما خلَقَ وقدَّر، وشرع وجازى به عباده.

فكل حُكمٍ من أفراد الأحكام الكونية أو الشرعية أو الجزائية له حكمتان: حكمة غائية وهي الغاية منه، وحكمة صورية، وهي الحكمة من مجيئه على صورة معيَّنة.

فهو عز وجل الحكيم، الحاكم المحكم في خلقه وقدره وشرعه، وفي تعليم من شاء دون من شاء.
وباجتماع العلم الواسع، والحكم التام، والحكمة البالغة في حقِّه عز وجل، يزداد كماله إلى كمال.


[1] أخرجه أبو داود في الأدب (4955)، والنسائي في آداب القضاة (5387) - من حديث شريح بن هانئ عن أبيه رضي الله عنه.










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #104  
قديم 24-07-2021, 01:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,601
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم


تفسير قوله تعالى: ﴿ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ﴾


قوله تعالى: ﴿ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 33].

لما أقَرَّ الملائكة واعترفوا بالجهل، وأنه لا عِلمَ لهم إلا ما علَّمهم الله، أمر الله عز وجل آدم أن ينبئ الملائكة بأسماء المسميات التي عرَضها عليهم؛ ليظهر لهم فضل آدم عليهم بما ميَّزه الله وخصَّه به من العلم.

قوله: ﴿ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ﴾؛ أي: أَخبِرِ الملائكة بأسماء المسميات التي علَّمتُك إياها؛ ليظهر لهم ما فضَّلك الله وميزك به عليهم من العلم، وفي هذا مع ندائه عز وجل لآدم تشريفٌ وتكريم له.

﴿ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ؛ أي: فلما أخبَرَ آدم الملائكة بأسماء تلك المسميات - طاعة لله ومسارعة في تنفيذ أمره - وتبيَّن للملائكة كمالُ حكمة الله عز وجل وعِلمه في استخلافه، وفضْلُه عليهم بما ميزه الله به عليهم من العلم.

﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؛ أي: قال الله عز وجل مخاطبًا الملائكة ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ ﴾ الآية، والاستفهام للتقرير لمجيء النفي بعده؛ أي: قد قلت لكم، كقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1]؛ أي: قد شرحنا لك صدرك.

أي: قد قلت لكم: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾، كما قال تعالى في الآيات السابقة: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، وقال تعالى: ﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السماوات وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ [النمل: 25]، وقال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ [التغابن: 4]، ﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السماوات وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [النمل: 65]، وقال تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ﴾ [الأنعام: 59].

و﴿ غَيْبَ السماوات وَالْأَرْضِ ﴾ ما غاب فيهما عن الناس، فلا يشاهدونه، ولا يدركونه بحواسهم، ولا يعلمون عنه شيئًا، فكل ذلك معلوم لله عز وجل لا تخفى عليه منه خافية، كما قال تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5]، وقال تعالى: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].

وإذا كان عز وجل يعلم غيب السماوات والأرض، فعلمه بما يشاهد ويظهر من ذلك من باب أولى؛ ولهذا قال:
﴿ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ معطوف على ما قبله، أشبَهَ بعطف الخاص على العام، و"ما" موصولة في الموضعين؛ أي: وأعلم الذي تبدون والذي تكتمون، وصيغة المضارع في قوله: "تبدون" و"تكتمون" للدلالة على استمرار علمِه عز وجل بما يحصل منهم في المستقبل، كما علم ما حصل منهم في الماضي.

أي: وأعلم الذي تظهرون من الأقوال والأعمال وغير ذلك، والذي كنتم تُخفُونَ في قلوبكم من المعتقدات والأسرار والمكنونات والمضمرات وغير ذلك، كما قال تعالى: ﴿ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ [النمل: 25]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ [المائدة: 99، النور: 29].

ومما أبدَوه قولهم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: 30]، ومما أخفَوه أنه لن يخلُقَ الله خلقًا إلا كانوا أعلم منهم وأكرم على الله منهم، ومن ذلك ما انطوى عليه إبليس من الكِبْر والمخالفة والكفر.

الفوائد والأحكام:
1) إثبات القول والكلام لله عز وجل، وأنه سبحانه يتكلم بحرف وصوت مسموع، متى شاء وكيف شاء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30] والآيات بعدها.

2) إثبات ربوبية الله الخاصة لنبيِّه صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبُّكَ ﴾، وتشريفه بخطاب الله عز وجل، إضافة اسم الرب إلى ضميره.

3) إثبات وجود الملائكة ووجوب الإيمان بهم، وأنهم ذوو عقول ويسمعون ويتكلمون، وذوو شرف عند الله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ الآية [البقرة: 30]، ووجه الدلالة أن الله عز وجل خاطَبَهم وأجابوه.

4) إثبات الأفعال لله عز وجل، وأنه يفعل ما شاء متى شاء؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30].

5) التنويه بذكر آدم عليه السلام وذريته في الملأ الأعلى قبل خلقهم.

6) الحاجة إلى خليفة يقيم شرع الله في أرض الله، ويخلفه من بعده؛ لإصلاح الأرض وعمارتها.

7) جواز الاستعلام لاستجلاء وجه الحكمة؛ لأن الله عز وجل لم ينكِر على الملائكة قولهم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ [البقرة: 30]، بل أجابهم بقوله: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30].

8) ذم الفساد، وكراهة الملائكة للإفساد في الأرض وسفك الدماء؛ لقولهم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ [البقرة: 30].

9) تسبيح الملائكة بحمد الله عز وجل وتعظيمهم له، وقيامهم بعبادته؛ لقولهم: ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: 30]، وفي هذا امتداح تسبيح الله وحمده وتقديسه وعبادته.

10) في قول الملائكة: ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ دلالة على جواز الإخبار عما يفعله الإنسان من العبادة والخير، إذا كان ذلك على سبيل الإخبار فقط، لا لقصد الفخر وتزكية النفس؛ فإن ذلك لا يجوز؛ قال تعالى: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32].

11) علم الله عز وجل التامُّ بما في جعل هذا الخليفة من الحكمة والمصالح الدينية والدنيوية مما لا علم بالملائكة به؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30].

12) في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ ﴾ [البقرة: 31] بعد قوله: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30] دلالةٌ على أن هذا الخليفة هو آدم عليه السلام.

13) فضل الله عز وجل ومنَّتُه على آدم عليه السلام بتعليمه الأسماء كلَّها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: 31].

14) وقد استدل بهذا بعض أهل العلم على أن اللغات توقيفية علَّمها الله عز وجل آدمَ وذريته، وقيل: إنها تجريبية كوَّنها الناس من هذه الحروف والأصوات بالتجارب. والأظهر أن مبدأ اللغات توقيفي، وكثير منها كسبي تجريبي.

15) عرض الله عز وجل هذه الأسماء التي عَلَّمها آدم ومسمياتها على الملائكة، في تحدٍّ وتعجيز لهم لإنبائه بأسمائهم؛ ليظهر لهم قلة علمهم، وعدم صدق ظنهم في أن هذا الخليفة سيعصي الله، ويُفسِد في الأرض، ويسفك الدماء؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 31]، وفي هذا تقرير وتوكيد لقوله: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30].

16) تنزيه الملائكة لله عز وجل، واعترافهم أنه لا علم لهم إلا ما علَّمهم الله، وأن آدم أعلم منهم؛ لقوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ﴾ [البقرة: 32].

17) يجب على الإنسان معرفة قدر نفسه، فلا يدَّعي علم ما لم يعلم، وينبغي أن يفطن لهذا كثيرٌ ممن يتصدرون للفتوى بلا علم.

18) أن العلم إنما يكون بتعليم الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ﴾، كما قال تعالى: ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 5].

19) إثبات اسم الله "العليم" وما يدل عليه من إثبات صفة العلم الواسع لله عز وجل المحيط بكل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 32].

20) إثبات اسم الله "الحكيم" وما يدل عليه من إثبات صفة الحكم التام لله عز وجل بأقسامه الثلاثة: الحكم الكوني، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي، وإثبات صفة الحكمة البالغة لله عز وجل بقسميها: الحكمة الغائية، والحكمة الصورية؛ لقوله تعالى: ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32].

21) تشريف الله عز وجل لآدم بندائه له؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ يَا آدَمُ ﴾ [البقرة: 33].

22) أمر الله عز وجل آدم بإنباء الملائكة بأسماء المسميات التي علَّمها عز وجل له؛ ليُظهر لهم فضل آدم عليهم بما ميَّزه الله وخصَّه به من العلم؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ﴾ [البقرة: 33].

23) مسارعة آدم عليه السلام إلى إنباء الملائكة بهذه الأسماء طاعة وامتثالًا لأمر الله له؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ ﴾ [البقرة: 33]؛ ولهذا طوى ذكر قوله: ﴿ أَنْبَأَهُمْ ﴾ إشارة إلى مبادرته بذلك.

24) تقرير وإثبات عِلمِ الله عز وجل غيبَ السماوات والأرض، وما يبدي الملائكة وغيرُهم من الخلق وما يكتمون؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 33]، وفي هذا تأكيد وتقرير لقوله قبل هذا: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30].

25) إذا كان عز وجل يعلم غيب السماوات والأرض، فعلمُه بالمشاهد فيهما من باب أولى.


26) وجوب مراقبة الله تعالى؛ لأنه لا يخفى عليه شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 33].


27) في الآيات توجيه إلى أن العبد إذا خفيت عليه الحكمة في بعض ما خلقه الله وقدَّره وشرعه، فالواجب عليه التسليم، واتهامُ عقله، والإقرار بالحكمة لله عز وجل في ذلك كله.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #105  
قديم 28-07-2021, 10:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,601
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى:


﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ.. ﴾


قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 34 - 39].

قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34].

بيَّن عز وجل للملائكة فضلَ آدم عليهم بالعلم، ثم أمرهم بالسجود له؛ إكرامًا له واحترامًا، وعبودية لله عز وجل.

قوله: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ﴾؛ أي: واذكر يا محمد حين قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم، اذكر ذلك بنفسك واذكُرْه وذكِّر به قومَك، وهو صلى الله عليه وسلم إنما يذكر ذلك بتذكير الله عز وجل له بوحيه إليه.

وتكلَّم عز وجل عن نفسه بضمير العظمة "نا" في هذه الآية وما بعدها؛ لأنه العظيم سبحانه وتعالى.

﴿ اسْجُدُوا لِآدَمَ ﴾ أمر منه عز وجل للملائكة بالسجود لآدم؛ أي: اسجدوا لآدم إكرامًا واحترامًا له، وإظهارًا لفضله، وعبودية وطاعة لله عز وجل.

وذلك بعد أنْ خلَقَه الله تعالى وصوَّره ونفخ فيه من روحه، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ﴾ [الأعراف: 11]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾ [الحجر: 28 - 30]، وقال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾ [ص: 71 - 73].

وهذه منَّة عظيمة مِنَ الله عز وجل على آدم وذريته؛ ولهذا ذكَّر الله عز وجل بها محمدًا وأمَّتَه، كما في حديث أنس رضي الله عنه: ((أنت آدم الذي خلَقَك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجَدَ لك ملائكته))[1].

والسجود في اللغة: الذلُّ والخضوع لله عز وجل.

وفي الشرع: السجود على الأعضاء السبعة تذلُّلًا وخضوعًا وتعظيمًا لله عز وجل، وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان وأطراف القدمين.

وقد يطلق السجود على الصلاة كلِّها، كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ ﴾ [النساء: 102]؛ أي: إذا صلَّوا فليكونوا من ورائكم، بل قد يطلق السجود على ما هو أعم من ذلك، وهو الطاعة والانقياد لله عز وجل.

﴿ فَسَجَدُوا ﴾ الفاء للترتيب والتعقيب؛ أي: فبادَروا كلُّهم بالسجود امتثالًا لأمر الله عز وجل ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34]، كما قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الأعراف: 11]، وقال تعالى في سورة الحجر: ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 31]، وقال تعالى في سورة الإسراء: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ﴾ [الإسراء: 61]، وقال تعالى في سورة الكهف: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ [الكهف: 50]، وقال تعالى في سورة طه: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ﴾ [طه: 116]، وقال تعالى في سورة ص: ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ص: 74].

وقوله: ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ﴾ "إلا" أداة استثناء بمعنى "لكن"؛ أي: لكن إبليس أبى واستكبر، وعلى هذا فالاستثناء منقطع، ويجوز كون الاستثناء متصلًا.

وإبليس هو الشيطان، وهو أبو الجن، سمي بهذا الاسم؛ لأنه أبلس من رحمة الله؛ أي: أيس منها يأسًا لا رجاء بعده.

وبناءً على الاختلاف في كون الاستثناء متصلًا أو منقطعًا، اختلف أهل العلم هل إبليس من الملائكة أم لا؟ على قولين:
فذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه من الملائكة؛ لأن الله استثناه منهم في هذه الآيات.

وذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه من الجن، وليس من الملائكة؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ [الكهف: 50]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((خُلِق إبليس من نار، وخُلِق الملائكة من نور، وخُلِق آدم مما ذُكِرَ لكم))[2].

واعتبروا الاستثناء منقطعًا، قال الحسن: "ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصَلُ الجن، كما أن آدم أصل الإنس"[3].

قال ابن القيم: "والصواب التفصيل في هذه المسألة، وأن القولين في الحقيقة قول واحد، فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته، وليس منهم بمادته وأصله، كان أصله من نار، وأصل الملائكة من نور، فالنافي كونه من الملائكة والمثبِت لم يتواردا على محلٍّ واحد"[4].

وقال ابن كثير[5]: "والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم، دخل إبليس في خطابهم؛ لأنه - وإن لم يكن من عنصرهم - إلا أنه كان قد تشبَّه بهم، وتوسم بأفعالهم؛ فلهذا دخل في الخطاب لهم، وذم في مخالفة الأمر".

وعلى هذا؛ فيجوز كون الاستثناء متصلًا أو منقطعًا.

﴿ أَبَى ﴾؛ أي: امتنع من السجود ﴿ وَاسْتَكْبَرَ ﴾ "استكبر" أبلغ من "تكبَّر"؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى غالبًا، فالاستكبار: شدة الكِبر وغايته؛ أي استكبر عن الانقياد لأمر الله، وتكبَّر على آدم، فاستنكف عن اتباع الحق، وتعاَظَم على الخلق، كما قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [الأعراف: 12، 13]، وقال تعالى في سورة الحجر: ﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الحجر: 32 - 35].

وقال تعالى في سورة الإسراء: ﴿ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 61، 62].

وقال تعالى في سورة ص: ﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [ص: 75 - 78].

وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((الكِبرُ بطَرُ الحق، وغَمْطُ الناس))[6].

﴿ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾"كان" مسلوبة الزمان، تفيد تحقيق اتِّصاف إبليس بالكفر، فجمَعَ إبليس لعنه الله بين عدم الانقياد لفعل ما أمَر الله به من السجود لآدم، والاستكبارِ عن قَبول الحق واتباعه، والتعاظم على آدم وعلى الخلق، والكفر.

قال السعدي[7]: "وهذا الإباء والاستكبار نتيجة الكفر الذي هو منطوٍ عليه، فتبيَّنت حينئذٍ عداوته لله ولآدم، وكفرُه واستكباره".


[1] سبق تخريجه.


[2] سبق تخريجه.

[3] أخرجه الطبري في "جامع البيان" (1/ 539- 540).


[4] انظر "محاسن التأويل" (1/ 291).

[5] في "تفسيره" (1/ 110).

[6] أخرجه مسلم في الإيمان (9) والترمذي في البر والصلة (1999)- من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

[7] في "تيسير الكريم الرحمن" (1/ 73).









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #106  
قديم 28-07-2021, 10:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,601
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى:


﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾

قوله تعالى: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 35].

هذا مما أخبر الله به مما أكرَمَ الله به آدم عليه السلام، وهو إسكانه وزوجِه الجنةَ، بعد إكرامه بأمر الملائكة بالسجود له، كما قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 19]، وقال تعالى في سورة طه: ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 117 - 119].

قوله: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ ﴾ "يا" حرف نداء، و"آدم" منادى، وفي نداء الله عز وجل لآدم تكريمٌ وتشريف له.

﴿ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ "أنت" ضمير منفصل مؤكِّد لفاعلِ "اسكن" وهو الضمير المستتر فيه، ﴿ وَزَوْجُكَ ﴾ معطوف على فاعل "اسكن"، وزوج آدم هي حواء عليها السلام.

﴿ الْجَنَّةَ ﴾ "أل" للعهد؛ أي: الجنة المعهودة، جنة الخلد، التي أعَدَّها الله لأوليائه المتقين، وحزبه المفلحين.

وقيل: إن هذه الجنة التي أسكنها آدم وزوجه في الأرض، والصحيح أنها جنة الخُلد كما وصفها الله عز وجل في قوله في سورة طه: ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 118، 119].

وقد استدل ابن القيم[1] بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 118، 119]، ثم قال: "وهذا لا يكون في الدنيا أصلًا، فإن الرجل ولو كان في أطيب منازلها لا بد أن يَعرِض له شيءٌ من ذلك، وقابَلَ سبحانه بين الجوع والظمأ، والعري والضحى، فإن الجوع ذلُّ الباطن، والعري ذل الظاهر، والظمأ حرُّ الباطن، والضحى حر الظاهر، فنفى عن سكانها ذلَّ الظاهر والباطن، وحرَّ الظاهر والباطن، وذلك أحسن من المقابلة بين الجوع والعطش، والعري والضحى، وهذا شأن ساكن جنة الخلد. قالوا: وأيضًا فلو كانت تلك الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب إبليس في قوله: ﴿ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ﴾ [طه: 120]، فإن آدم كان يعلم أن الدنيا منقضية فانية، وأن مُلكها يبلى".


ففي هذه الجنة نزل الأبوانِ آدم وحواء عليهما السلام، ومنها أُخرِجا بسبب المعصية، وإليها مأواهما ومَن آمَنَ من ذريتها، وفيها خلودهم.

قال ابن القيم[2]:
فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنها ♦♦♦ منازلُك الأولى وفيها المخيَّمُ


﴿ وَكُلَا ﴾أمر إباحة ﴿ مِنْهَا؛ أي: من الجنة.

﴿ رَغَدًا ﴾ صفة لمصدر محذوف؛ أي: أكلًا رغدًا؛ أي: أكلًا هنيئًا واسعًا طيبًا، مريئًا لا عناء فيه، ولا تنغيص ولا كدر.

﴿ حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾؛ أي: في أي مكان شئتما من هذه الجنة، ومن أي مأكول شئتما، ومتى شئتما، وفي هذا إكرام من الله عز وجل لآدم وزوجه، وامتنان عليهما، بإسكانهما الجنة، وإباحته لهما ما فيها من النعيم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 118، 119].

﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ في هذا امتحان من الله عز وجل لآدم وزوجه، وحكمة الله أعلم بها؛ أي: ولا تأكلا من هذه الشجرة، والنهي عن قربها أبلغ من النهي عن الأكل منها؛ لأن من حام حول الحِمى يوشك أن يرتع فيه، كما جاء في الحديث[3]، فالنهي عن قربها نهيٌ عن الأكل منها من باب أولى.

و"أل" في الشجرة للعهد الحضوري؛ لأن الله أشار إليها بإشارة القريب "هذه" من أشجار الجنة، والله أعلم أي شجرة هي.

﴿ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ جواب النهي، والفاء للسببية؛ أي: فيتسبب عن قربكما لها كونُكما من الظالمين المعتدين؛ لفعلكما ما نهاكما الله عنه وحرَّمه.

والظلم: النقص، كما قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾ [الكهف: 33]؛ أي: ولم تنقص منه شيئًا، وهو وضع الشيء في غير موضعه على سبيل التعدي.


أي: فإن قربتما هذه الشجرة التي نهيتُكما عنها، كنتما من الظالمين لأنفسهم، المعتدِين على حُرمات الله تعالى.

[1] انظر "بدائع التفسير" (1/ 309).

[2] انظر "حادي الأرواح" ص (31).

[3] أخرجه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه البخاري في الإيمان (52) ومسلم في المساقاة (15999) وأبو داود في البيوع (3329) والنسائي في البيوع (4453)، والترمذي في البيوع (1205)، وابن ماجه في الفتن (3984).









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #107  
قديم 03-08-2021, 02:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,601
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى:﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾






قوله تعالى:﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [البقرة: 36].







قوله:﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ قرأ حمزة: "فأزالهما" بمعنى: فنحاهما الشيطان، ﴿ عَنْهَا ﴾؛ أي: عن الجنة.







وقرأ الباقون: ﴿ فَأَزَلَّهُمَا ﴾؛ أي: أوقعهما في الزلل وهو الخطأ، والضمير في "عنها" يعود إلى الشجرة؛ أي: فأوقعهما الشيطان في الزلل والخطأ والمعصية بسبب الأكل من الشجرة، كما قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 20 - 22]، وقال تعالى في سورة طه: ﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾ [طه: 120، 121].







﴿ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ: الفاء للسببية، و"ما" موصولة؛ أي: فتسبَّب في إخراجهما مِن الذي كانا فيه؛ من رغد العيش، وطيب المسكن، وسَعة الرزق، والراحة والأمن، وقرة العين، إلى دار التعب والنصب، والمكابدة والمجاهدة.







﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ: كقوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [الأعراف: 24].







والهبوط: النزول من أعلى إلى أسفل؛ أي: انزلوا من الجنة إلى الأرض، كما قال تعالى: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 38].







والخطاب في قوله: ﴿ اهْبِطُوا ﴾لآدم وزوجه وإبليس - وقد تقدم ذكرهم - ولهذا قال: ﴿ اهْبِطُوا ﴾بواو الجمع، ويؤكد هذا قوله: ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾؛ أي: إبليس وذريته أعداء لآدم وحواء وذريتهما، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ﴾ [طه: 117]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]، وقال تعالى: ﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾ [الكهف: 50]، وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يس: 60].







وقيل: الخطاب لآدم وحواء وذريتهما؛ بدليل قوله تعالى بعد هذا: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 38، 39]، وقوله تعالى في سورة طه: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123، 124].







وقيل: الخطاب في قوله: ﴿ اهْبِطُوا ﴾لآدم وحواء، وخوطبا بالجمع؛ لأن أقل الجمع اثنان، كما قال تعالى بعد أن ذكر حكم داود وسليمان - عليهما السلام - قال: ﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 78] بضمير الجميع، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة طه: ﴿ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ﴾ [طه: 123] بالتثنية.







والأظهر أن الخطاب في قوله: ﴿ اهْبِطُوا ﴾لآدم وحواء وإبليس، والخطاب في قوله: ﴿ اهْبِطَا ﴾ بالتثنية لآدم وإبليس، وحواءُ تبعٌ لآدم فيما خوطب به، كما أن ذرية آدم تابعة له فيما خوطب به من التكليف والاتِّباع.







ويقوِّي كونَ خطابِ الجمع ﴿ اهْبِطُوا ﴾لآدم وحواء وإبليس، وخطابِ التثنية لآدم وإبليس - قولُه تعالى: ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾؛ لأن المراد بالعداوة عداوة إبليس لآدم وزوجه وذريتهما، كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 22]، وقال تعالى: ﴿ يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ﴾ [طه: 117]، وهي العداوة التي أكَّدها القرآن الكريم في مواضع عدة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168، 208، الأنعام: 142].







قال ابن القيم[1] في معرض ترجيح أن المراد بقوله: ﴿ اهْبِطُوا ﴾آدم وزوجه وإبليس، قال: "وأما قوله تعالى في سورة طه: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ [طه: 123]، فهذا خطاب لآدم وحواء، وقد جعل بعضهم لبعض عدوًّا، فالضمير في قوله: ﴿ اهْبِطَا مِنْهَا ﴾ إما أن يرجع لآدم وزوجته، وإما أن يرجع إلى آدم وإبليس، ولم يذكر الزوجة لأنها تبعٌ له، وعلى هذا فالعداوة المذكورة للمخاطبين بالإهباط، وهما آدم وإبليس، فالأمر ظاهر.







وأما على الأول - وهو رجوعه إلى آدم وزوجه - فتكون قد اشتملت على أمرين: أحدهما: أمره تعالى لآدم وزوجه بالهبوط، والثاني: إخباره بالعداوة بين آدم وزوجه وبين إبليس؛ ولهذا أتى بضمير الجمع في الثاني دون الأول، ولا بد أن يكون إبليس داخلًا في حكم هذه العداوة قطعًا، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ﴾ [طه: 117]، وقال لذريته: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6].







وتأمل كيف اتفقت المواضع التي فيها ذكر العداوة على ضمير الجمع، دون التثنية. وأما الإهباط فتارة يُذكَر بلفظ الجمع، وتارة بلفظ التثنية، وتارة بلفظ الإفراد؛ كقوله في سورة الأعراف: ﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا ﴾ [الأعراف: 13]، وكذلك في سورة ص[2]، وهذا لإبليس وحده، وحيث ورَدَ بصيغة الجمع فهو لآدم وزوجه وإبليس؛ إذ مدار القصة عليهم، وحيث ورد بلفظ التثنية فإما أن يكون لآدم وزوجه؛ إذ هما اللذان باشَرَا الأكل من الشجرة، وأقدَما على المعصية، وإما أن يكون لآدم وإبليس؛ إذ هما أبوا الثقلين، وأصلا الذرية، فذكر حالهما ومآل أمرهما؛ ليكون عظة وعبرة لأولادهما. والذي يوضح أن الضمير في قوله: ﴿ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ﴾ لآدم وإبليس أن الله سبحانه لما ذكر المعصية أفرَدَ بها آدم دون زوجه، فقال: ﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ﴾ [طه: 121 - 123]، وهذا يدل على أن المخاطب بالإهباط هو آدم وإبليس الذي زيَّن له المعصية، ودخلت الزوجة تبعًا، فإن المقصود إخبار الله تعالى الثقلين بما جرى على أبويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر، فذِكْرُ أبويهما أبلغ في حصول هذا المعنى من ذِكرِ أبوَي الإنسان فقط، وقد أخبر سبحانه عن الزوجة بأنها أكلت مع آدم، وأخبر أنه أهبطه وأخرجه من الجنة بتلك الأكلة، فعلم أن حكم الزوجة كذلك، وأنها صارت إلى ما صار إليه آدم، وكان تجريد العناية إلى ذكر حال أبوَي الثقلين أولى من تجريدها إلى ذكر حال أبي الإنس وأمِّهم، فتأمَّله، وبالجملة فقوله: ﴿ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ ظاهر في الجمع، فلا يسوغ حمله على الاثنين في قوله: ﴿ اهْبِطَا ﴾من غير موجب".







﴿ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ؛ أي: ولكم في الأرض مسكن وموضع استقرار، وهذا بعد قوله: ﴿ اهْبِطُوا ﴾ يدلُّ على أنهم قبل ذلك لم يكونوا في الأرض، وأن منتهى إهباطهم إليها، كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا ﴾ [غافر: 64]، وعليه يدل قوله تعالى: ﴿ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 25].







﴿ وَمَتَاعٌ؛ أي: ولكم في الأرض متاع تتمتعون به، والمتاع: ما يُتمتَّعُ به من رزق؛ من مأكل ومشرب، وملبس ومركب، وفرش، وغير ذلك.







﴿ إِلَى حِينٍ؛ أي: إلى وقت معيَّن وأجل محدَّد، وهو انقضاء آجالكم وقيام الساعة، وانتقالكم إلى الدار الآخرة التي هي دار الحياة حقًّا، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].







وهو متاع قليل، كما قال تعالى: ﴿ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾ [الرعد: 26].







وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما لي وللدنيا؟! إنما كراكبٍ استظَلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها))[3].







ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تَزِنُ عند الله جَناحَ بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء))[4].







وفي الآية ما يوجب الحذرَ من الشيطان؛ فإنه كما أخرج الأبوين من الجنة، فإنه ساعٍ سعيًا حثيثًا بخَيْلِه ورَجِلِه إلى حرمان ذريتهما من دخولها، وإلى زجِّهم معه في نار جهنم؛ وذلك بتزيين الكفر والبدع والمعاصي لهم، كما قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾ [الأعراف: 27]، وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يس: 60]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].







[1] انظر "بدائع التفسير" (1/ 311- 312).





[2] يعني قوله تعالى: ﴿ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾ [ص: 77].




[3] أخرجه الترمذي في الزهد (2377)، وابن ماجه في الزهد (3109)- من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".





[4] أخرجه الترمذي في الزهد (2320)، وابن ماجه في الزهد (4110)- من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #108  
قديم 03-08-2021, 02:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,601
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم






تفسير قوله تعالى











﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾





قوله تعالى:﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 37].







قوله: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍقرأ ابن كثير بنصب "آدمَ" ورفع "كلماتٌ"، وقرأ الباقون برفع ﴿ آدَمُ ﴾ ونصب ﴿ كَلِمَاتٍ بكسر التاء.







أي: فتلقَّن آدم وأُلهِمَ من ربه كلماتٍ ألقاهن الله إليه ووفَّقه لقولهن، بفضل ربوبيته عز وجل الخاصة له وامتنانه عليه، قالها آدم وزوجه وتوسَّلا إلى الله بها، وهذه الكلمات ما جاء في قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23].







وفي هذه الكلمات توسل آدم وحواء عليهما السلام بربوبية الله عز وجل، واعترافهما بأنهما ظلَما أنفسهما بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، وتضرعهما إلى الله عز وجل بأن يغفر لهما ويرحمهما، وإعلانهما تحقُّق وتأكد كونهما من الخاسرين إن لم يغفر الله لهما ويَرحَمْهما.







وهذه الكلمات من جوامع الدعاء، ومن أعظم أسباب قَبول التوبة؛ لما فيها من التوسل بربوبيته عز وجل، والاعتراف بالذنب وظلم النفس، والتضرع إلى الله بطلب المغفرة والرحمة، وإيقان الخسران والهلَكة إن لم يعفُ الله عز وجل عن العبد ويغفر له ويرحمه.







﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ؛ أي: فتاب ربُّه عليه، بأن وفَّقه للتوبة بهذه الكلمات، ثم قَبِلَ توبته فعفا وتجاوز عنه، كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: 122].







كما تاب على زوجه حواء، ولم تُذكَر هنا - والله أعلم - لظهور أنها تبعٌ له في سائر أحواله؛ بدليل قوله: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ﴾ [الأعراف: 23].







وصار حال آدم وحواء بعد توبة الله عز وجل عليهما أفضَلَ من حالهما قبل المعصية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد قال الله عز وجل: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].







فجمع الله عز وجل لمن تاب وآمن وعَمِل عملًا صالحًا بين ما له من حسنات هذه الأعمال وغيرها وبين الحسنات التي أُعطيتْ له بدل السيئات، وبهذا صار حاله بعد التوبة الصادقة النصوح أفضَلَ من حاله قبل المعصية.







﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ هذه الجملة تعليل لقوله تعالى: ﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾؛ أي: فتاب عز وجل على آدم؛ لأنه سبحانه هو التواب الرحيم.







وضمير الفصل "هو" للتوكيد والحصر؛ أي: هو التواب الرحيم وحده لا غيره.







و"التواب" اسم من أسماء الله عز وجل مشتق من التوبة، يدل على أنه عز وجل ذو التوبة الواسعة.







و"التواب" على وزن "فعَّال" صفة مشبَّهة أو صيغة مبالغة، يدل على كثرة توبته عز وجل على العبد، وكثرة من يتوب عليهم من عباده.







وتوبة الله على العبد الرجوعُ به من المعصية والمخالفة إلى الطاعة والموافقة، وهي تنقسم إلى قسمين: توفيقه العبدَ للتوبة، كما قال تعالى في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118]؛ أي: وفَّقهم للتوبة ليتوبوا.







والقسم الثاني: قبول توبة عبده، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 25]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82]، وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [التوبة: 104].







و"الرحيم" اسم من أسماء الله عز وجل مشتق من الرحمة، على وزن "فعيل" صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، يدل على إثبات صفة الرحمة الواسعة لله عز وجل: رحمة هي صفة ذاتية ثابتة لله عز وجل، كما قال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ [الكهف: 58].







ورحمة فعلية يوصِّلها من شاء مِن خلقه، كما قال تعالى: ﴿ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [العنكبوت: 21].







رحمة عامة لجميع الخلق؛ مؤمنهم وكافرهم، ناطقهم وبهيمهم، في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143، الحج: 65].







ورحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43].







فرحمته عز وجل للكافرين وغيرهم من البهائم في الدنيا ما يتمتعون به من نِعَمِ الله عز وجل التي لا تحصى، ورحمتُه لهم في الآخرة: العدلُ في حسابهم حتى إنه ليقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، كما جاء في الحديث[1].







ورحمتُه عز وجل للمؤمنين في الدنيا: هدايتهم وتوفيقهم للطريق المستقيم، إضافة إلى ما يتمتعون به من النعم مما هو دون ذلك، ورحمتُه لهم في الآخرة: هدايتُهم إلى طريق الجنة، وإدخالهم جناتِ النعيم.








[1] أخرجه مسلم في البر والصلة (2582)، والترمذي في صفة القيامة (2420) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.















__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #109  
قديم 12-08-2021, 04:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,601
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله


كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا.. ﴾



قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، كما قال تعالى في سورة طه: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123].

قوله: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ﴾ كرَّر قوله: ﴿ اهْبِطُوا ﴾ توكيدًا، وليرتب عليه ما بعده، وهو قوله: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى، {مِنْهَا} ﴾؛ أي: من الجنة.

وقال ابن القيم[1]: "﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ والظاهر أن هذا الإهباط الثاني غير الأول، وهو إهباط من السماء إلى الأرض، الأول: إهباط من الجنة، وحينئذٍ فتكون الجنة التي أُهبِط منها أولًا فوق السماء وجنة الخلد".

﴿ جَمِيعًا ﴾ حال؛ أي: حال كونكم جميعًا، والمراد بذلك آدم وحواء وإبليس.

﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى ﴾: الفاء استئنافية، و"إما" مكونة من "إن" الشرطية، و"ما" الزائدة من حيث الإعراب، المؤكِّدة من حيث المعنى؛ أي: فأيَّ وقت وزمان جاءكم مني هدى.

و﴿ يَأْتِيَنَّكُمْ ﴾: فعل الشرط بُني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد، والتي فيها توكيد إتيان الهدى.

﴿ مِنِّي هُدًى ﴾: الهدى: البيان والإرشاد والعلم؛ أي: فإما يأتينكم مني هدى مما أوحيه إلى رسلي وأنبيائي، وأنزله في كتبي من العلم والبيان، كما قال تعالى في وصف القرآن: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]، وقال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، وقال تعالى في وصف التوراة والإنجيل: ﴿ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 3، 4]، وقال تعالى وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ﴾ [التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9].

وليس في قوله: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ ما يدل على احتمال عدم إتيان الهدى، بل إن في تأكيد الفعل ﴿ يَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ دلالةً بل تأكيدًا على مجيء الهدى، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾ [الليل: 12]، وقال تعالى بعد أن ذكر خلق الإنسان وإيجاده بعد أن كان عدمًا: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3].

وهذا مقتضى حكمة الله عز وجل في خلق الثقلين لعبادته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [فاطر: 24].

وفي قوله: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى ﴾ دليل على عدم المؤاخذة إلا بعد إقامة الحجة بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، والهدى والبيان، كما قال عز وجل: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15].

كما أن فيه دلالة على أن الهدى حقًّا هو ما كان من الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنِّي هُدًى ﴾، ولأن الله عز وجل أضافه إليه فقال: ﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ ﴾ [البقرة: 38]، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 73]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ [البقرة: 120].

ولهذا لا يجوز أن يتعبد لله إلا بهداه الذي شرعه في كتبه وعلى ألسنة أنبيائه ورسله، ومن تعبَّد لله بغير ذلك فهو على ضلال.

﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ ﴾ جواب الشرط "إن"، والفاء رابطة لجواب الشرط؛ لأنه جملة اسمية، و"من" شرطية، و"تَبِعَ" فعل للشرط.

وأظهر في مقام الإضمار فقال: ﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ ﴾ ولم يقل: "فمن تبعه"، ولم يقل: "الهدى" بالتعريف بـ "أل"، بل أضافه إليه فقال: ﴿ هُدَايَ ﴾؛ تعظيمًا لهداه عز وجل، وترغيبًا في اتِّباعه، وبهذا الإظهار والإضافة صارت هذه الجملة مستقلة بنفسها.

وأضاف عز وجل الهدى إليه؛ لأنه هو الذي شرعه، ويوصل إليه سبحانه، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ﴾ [الأنعام: 153].

والمعنى: فمن اتبع هداي الذي أرسلتُ به الرسل، وأنزلتُ به الكتب، بأنْ آمَنَ بذلك فصدَّق بما أخبرتُ به، وامتثل ما أمَرتُ به، واجتنَب ما نهيتُ عنه.

﴿ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾: وفي سورة طه: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123]، قرأ يعقوب ﴿ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ حيث وقعت بفتح الفاء: "فلا خوفَ"، وقرأ الباقون بالرفع والتنوين: ﴿ فَلَا خَوْفٌ ﴾.

وقوله: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} جواب الشرط "مَنْ"، و"لا": نافية، والخوف: الهم مما يستقبل؛ أي: فلا خوف عليهم فيما يستقبلون في حياتهم؛ لإيمانهم واعتمادهم على ربهم ورضاهم بقدره، وثقتهم بكونه معهم يسدِّدهم ويعينهم ويحفظهم ويدافع عنهم، ولا خوف عليهم فيما يستقبلون بعد مماتهم من عذاب القبر وأهوال القيامة وعذاب النار، بل هم آمنون، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].

فلهم الأمن التام يوم القيامة في جنات النعيم، كما قال تعالى: ﴿ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [سبأ: 37]، ولهم أيضًا: الأمن والاطمئنان النفسي والاجتماعي في الدنيا بحسب إيمانهم؛ لأنهم محفوظون بحفظ الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: ((احفظ الله يحفظك))[2].

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمرَه كلَّه خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إنْ أصابتْه سراءُ شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابتْه ضراءُ صبَرَ فكان خيرًا له))[3].

﴿ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ معطوف على ما قبله، والحزن هو الغم والتحسر على ما مضى وفات.

وقد يطلَق الحزن على الخوف مما يستقبل كما في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ((لا تحزن إن الله معنا))؛ أي: لا تخف.

والمعنى: ولا هم يحزنون على ما مضى وفاتهم من أمور الدنيا، ولا على ما خلَّفوا فيها بعد موتهم من أهل ومال وولد؛ لإيمانهم بانتقالهم إلى ما هو خير من ذلك، كما قال تعالى: ﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 17]، وقال تعالى: ﴿ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 32].

وهذا بخلاف حال المكذِّبين، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 54 - 56].

والحزن على ما مضى مما أقضَّ مضاجعَ كثير من المحتضَرين؛ فقد رُوي أن تميم بن جميل[4] لما جيء به ليُقتَل وقال له الخليفة: إن كان لك من حجة فأدلِ بها، أنشأ يقول:

أرى الموتَ بين السيف والنطع كامنًا
يلاحظني من حيثما أتلفَّتُ
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي
وأيُّ امرئ عما قضى الله يفلتُ
ومن ذا الذي يُدلي بعُذرٍ وحُجة
وسيفُ المنايا بين عينيه مصلتُ
يسل عليَّ السيف فيه وأسكُتُ



إلى أن قال:
وما جزعي من أن أموتَ وإنني
لأعلمُ أن الموت شيء مؤقتُ
ولكن خلفي صِبْية إن تركتُهم
وأكبادهم من حسرة تتفتتُ
فإن عشتُ عاشوا سالمينَ بغبطة
أذودُ الأذى عنهم وإن متُّ موتوا



فرقَّ له الخليفة وخلى سبيله، وقال: اذهب فقد تركتك للصبية، وعفوتُ عنك من أجل الصبية.

وكما قال مصطفى السباعي من قصيدة له بعنوان "وداع راحل"[5]:
وإنما حزني في صبيةٍ درجوا
غفلٍ عن الشرِّ لم توقد لهم نارُ
قد كنتُ أرجو زمانًا أن أقودهم
للمكرمات فلا ظلمٌ ولا عارُ
واليومَ قد سارعت دربي إلى كفن
يومًا سيلبسه برٌّ وفجارُ
بالله يا صبيتي لا تهلكوا جزعًا
على أبيكم طريقُ الموت أقدارُ
وأنتم يا أُهيلَ الحي صبيتُكم
أمانةٌ عندكم هل يهمل الجارُ



ومن سَلِمَ من الخوف في المستقبل، ومن الحزن على ما فات ومضى، فإنه يكون في غاية السعادة والطمأنينة والأمن، وقد صوَّر هذا المعنى الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز رحمه الله عندما دخل عليه أناس وهو في مرض موته، فقالوا له: أفغرت أفواه بنيك من هذا المال وتركتهم فقراء، لا شيء لهم، فقال: أَدخِلوهم عليَّ، فأدخلوهم وهم بضعة عشر ذكرًا ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال: يا بَنِيَّ، ما منَعتُكم حقًّا هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح، فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح، فلا أخلف له ما يستعين به على معصية الله، وقرأ قول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [الأعراف: 196]، ثم قال: قوموا عني، أو قوموا مغفورًا لكم[6].

وصدق الله العظيم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأحقاف: 13].


[1] انظر "بدائع التفسير" (1/ 310).


[2] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516)، وأحمد (1: 293، 303) وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".

[3] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2999) من حديث صهيب رضي الله عنه.

[4] انظر "ديوان تميم بن جميل" ص (35)، "الفرج بعد الشدة" (4/ 89- 90)، "المستجاد من فعلات الأجواد" ص (117- 119)، وكان من قصة تميم أنه أحدث حدثًا، وفر هاربًا، فأرسل الخليفة بطلبه، فجيء به، وأُدخل على الخليفة، وإذا السيف معلَّق، والنطع الذي يقتل عليه الرجال أمامه، وقال له الخليفة: أدل بحجتك.


[5] انظر: "شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث" (2/ 46).

[6] انظر: "العقد الفريد" (5/ 174- 175)، "سير أعلام النبلاء" (5/ 140- 141).








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #110  
قديم 12-08-2021, 04:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,601
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله


كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 39]

قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 39].




ذكر عز وجل جزاءَ من اتبَع هداه، وهو عدم الخوف وعدم الحزن، ثم أَتْبَعَ ذلك بذكر جزاء الكافرين المكذِّبين بآيات الله، وهو ملازمة النار والخلود فيها، على طريقة القرآن الكريم في الجمع بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد؛ ليجمع العبد في طريقه إلى الله بين الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة طه: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 124 - 127].

قوله: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ﴾؛ أي: والذين كفروا بالله، واستكبَروا عن طاعته، وأبَوا الانقياد لشرعه، وامتثال أمره، واجتنابَ نهيه.

﴿ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا؛ أي: كذبوا بآيات الله الشرعية المنزلة على رسله، وأعظمُها القرآن الكريم، فلم يصدِّقوا ما دلت عليه من أخبار، وجحدوا ما دلت عليه من أحكام، ولم يستدلوا بآياته الكونية على وجوب توحيده وإخلاص العبادة له.

و"آيات" جمع "آية"، وهي لغةً: العلامة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 248]، وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الشعراء: 197].

وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ﴾ [الأعراف: 203]، وقال تعالى في معجزات موسى: ﴿ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ﴾ [النمل: 12].

قال النابغة الذبياني[1]:
توهَّمتُ آياتٍ لها فعرَفتُها ♦♦♦ لستةِ أعوام وذا العام سابعُ


أي: توهمت علامات لها.

وأُطلِقت على القطعة من كلام الله ذات بداية ونهاية معلومة، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ﴾ [آل عمران: 7].

وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء: ﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ﴾ [النساء: 176]؟))"[2].

وآيات الله تنقسم إلى قسمين: آيات شرعية، وهي ما أنزَلَ الله من الوحي على أنبيائه ورسله، وأعظمُ ذلك القرآن الكريم.

وسمِّي القرآن آياتٍ؛ لما فيه من الهدى والإعجاز في ألفاظه ومعانيه، وأحكامه وأخباره، وكونه صالحًا لكل زمان ولكل مكان ولكل أمَّة، دالًّا على أنه من عند الله عز وجل الذي له الكمال في ذاته وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، المستحق للعبادة وحده دون من سواه، كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].

ولما فيه أيضًا من الدلالة على صدق من جاء به من عند الله، وهو محمد صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من الأنبياء من نبيٍّ إلا قد أُعطيَ من الآيات ما مِثلُه آمَنَ عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحيًا أوحى الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة))[3].

والقسم الثاني: آيات كونية، وهي كل ما بثَّه الله وخلَقَه في هذا الكون عُلويِّه وسُفليِّه من المخلوقات، من السموات والأرض، والملائكة والإنس والجن، والحيوان والنبات، وسائر المخلوقات، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]، وقال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [فصلت: 37].

فكلُّ ما في هذا الكون من المخلوقات هو من آيات الله الدالَّةِ على وجوده وعظَمتِه، وكماله في ذاته وأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته، واستحقاقه العبادةَ وحده دون من سواه.

وقد أحسن القائل:
فواعجبًا كيف يُعصى الإل
هُ أم كيف يجحدُه الجاحدُ
وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ
تدلُّ على أنه واحدُ[4]


قوله: ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾: الإشارة للذين كفروا وكذَّبوا بآيات الله، وأشار إليهم بإشارة البعيد تحقيرًا لهم.

﴿ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾؛ أي: ساكنوها وملازموها أشدَّ من ملازمة الصاحب لصاحبه والغريمِ لغريمه.

﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾: الجملة حالية؛ أي: حال كونهم خالدين فيها خلودًا أبديًّا، كما قال تعالى في سورة النساء: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [النساء: 168، 169]، وقال تعالى في سورة الأحزاب: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [الأحزاب: 64، 65]، وقال تعالى في سورة الجن: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [الجن: 23]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [المائدة: 37]، وقال تعالى: ﴿ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ [الزخرف: 75].


الفوائد والأحكام:
1- إثبات القول لله عز وجل، وإثبات عظَمتِه، وإثبات وجود الملائكة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ﴾ [البقرة: 34] وفي الآيات بعدها.

2- فضل آدم عليه الصلاة والسلام على الملائكة؛ لأن الله أمَرَهم بالسجود له، إكرامًا واحترامًا؛ وإظهارًا لفضله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ﴾.

3- أن سجود الملائكة لآدم بأمر الله تعالى إنما هو عبادة لله تعالى؛ لأن الله هو الذي أمر بذلك - لإظهار فضل آدم - ولهذا لما امتنع إبليس عن السجود وكان من الكافرين، وليس سجودهم عبادة لآدم؛ لأن السجود لغير الله لا يجوز.

4- مبادرة الملائكة بالسجود لآدم طاعة لله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ فَسَجَدُوا ﴾ [البقرة: 34].

5- امتناع إبليس عن السجود لآدم إباءً ومعصية لأمر الله، واستكبارًا عن الحق، وعلى الخلق، وكفرًا بالله؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34].

6- تشريف الله تعالى لآدم عليه السلام بندائه له؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ ﴾ [البقرة: 35].

7- فضل الله عز وجل ومنَّتُه على آدم وزوجه "حواء" في إسكانهما الجنةَ، وإباحته لهما الأكل منها رغدًا حيث شاءا، ومتى شاءا؛ لقوله تعالى: ﴿ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾ [البقرة: 35].

8- أن النكاح سنة من سنن الأنبياء والمرسلين منذ خلَقَ الله تعالى آدم عليه السلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَزَوْجُكَ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ [الرعد: 38].

9- ظاهر الآية ﴿ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ [البقرة: 35]: أن حواء خُلقت قبل دخول الجنة، وقيل: خُلقت بعد دخول الجنة.

10- نهي الله عز وجل آدم وزوجه عن الأكل من شجرة معيَّنة في الجنة امتحانًا لهما، ولحكمة يعلمها عز وجل، وتحذيرهما من الظلم بالأكل منها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 35].

11- أن ارتكاب ما نهى الله عنه ظلمٌ من وجهين: الأول أنه مخالفة لنهي الله عز وجل، والثاني: أنه ظلم للنفس لتعريضها لعقاب الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾.

12- سَعة فضل الله تعالى ورحمته ورفعُه الحرجَ عن العباد، فقد أباح لآدم الأكل من الجنة مما شاء أو حيث شاء أو متى شاء، ولم يحظر عليهما إلا الأكلَ من شجرة واحدة، فإذا منَع من شيء أباح أشياء، وإذا سدَّ بابًا فتَح عدة أبواب.

13- إيقاع الشيطان آدم وزوجه في معصية الله، والأكل من الشجرة بوسوسته وتزيينه لهما ذلك، وإخراجهما مما كانا فيه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ [البقرة: 36].

14- إخراج آدم وزوجه من الجنة، وإهباطهما وإبليس إلى الأرض؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [البقرة: 36].

15- وجوب الحذر من الشيطان ووسوسته وفتنته وتزيينه المعاصي، كما قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾ [الأعراف: 27].

16- الإشارة لعلوِّ وعظم ما كان فيه آدم وزوجه في الجنة من المسكن الطيب والعيش الرغيد؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ [البقرة: 36].

17- أن الجنة في مكان مرتفع عالٍ؛ لقوله تعالى: ﴿ اهْبِطُوا ﴾ [البقرة: 36، و38] في الموضعين من الآيات.

18- أن الشيطان عدوٌّ لآدم وزوجه وذريتهما؛ لقوله تعالى: ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ [البقرة: 36].

19- أن مستقر بني آدم ومتاعَهم هو هذه الأرض إلى نهاية الحياة الدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [البقرة: 36].

20- نعمة الله على بني آدم في جعل الأرض وتهيئتها لاستقرارهم وتمتُّعهم فيها وعيشهم عليها.

21- منة الله تعالى على آدم عليه السلام حيث وفَّقه للتوبة، ولقَّنه كلمات كانت بها توبته؛ لقوله تعالى: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ﴾ [البقرة: 37].

22- تشريف آدم وتكريمه بإضافة اسم الرب إلى ضميره، وربوبيته الخاصة له؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبِّهِ ﴾ [البقرة: 37].

23- نعمة الله تعالى على آدم في قَبول توبته بعد أن وفَّقه إليها؛ لقوله تعالى: ﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: 37].

24- فضل الدعاء بهذه الكلمات التي دعا بها أبونا آدمُ عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]، وأن الدعاء بها سبب لقبول التوبة والمغفرة والرحمة.

25- إثبات اسم الله عز وجل "التواب"، وصفة التوبة على عباده بتوفيقه العبد للتوبة، وقبولها منه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ ﴾ [البقرة: 37].

26- إثبات اسم الله عز وجل "الرحيم"، وصفة الرحمة له عز وجل: رحمة ذاتية ثابتة له عز وجل، ورحمة فعلية، يوصلها من شاء من خلقه: رحمة خاصة وعامة؛ لقوله تعالى: ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 37].

27- إهباط آدم وزوجه للابتلاء والتكليف لهما ولذريتهما؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى ﴾ الآية [البقرة: 38].

28- أن الهدى هدى الله ومِن الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى ﴾ [البقرة: 38]، فمن تعبَّد لله بغير هداه وشرعِه، فليس بمهتدٍ، بل هو ضال.

29- الترغيب في اتباع هدى الله، والوعد لمن اتبع هدى الله بكمال الأمن والسرور، وانتفاء الخوف والحزن؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38].

30- جمع القرآن الكريم بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، فبعد أن ذكر جزاء من اتبع هدى الله وثوابه، ذكَرَ عقاب من كفر وكذَّب بآيات الله.

31- التحذير من الكفر بالله والاستكبار عن طاعته، والتكذيب بآياته، والوعيد الشديد المؤكَّد للكفار والمكذِّبين بملازمة النار والخلود فيها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 39].

32- تحقير وانحطاط رتبة من اتصَفوا بالكفر بالله والتكذيب بآياته؛ لأن الله أشار إليهم بإشارة البعيد "أولئك" تحقيرًا لهم.


[1] انظر: "ديوانه" ص31.

[2] أخرجه مسلم في الفرائض (1617)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (2726)، وأحمد (1 /26، 38)، من حديث عمر رضي الله عنه.

[3]أخرجه البخاري في فضائل القرآن (4981)، ومسلم في الإيمان (152).

[4] البيتان لأبي العتاهية. انظر: "ديوانه" ص104.








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 7 ( الأعضاء 0 والزوار 7)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 246.55 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 240.45 كيلو بايت... تم توفير 6.10 كيلو بايت...بمعدل (2.48%)]