تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 23 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4416 - عددالزوار : 852294 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3947 - عددالزوار : 387586 )           »          هل لليهود تراث عريق في القدس وفلسطين؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 33 - عددالزوار : 1049 )           »          أوليــاء اللــه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          المشكلات النفسية عند الأطفال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          هل المديرون بحاجة للحب؟هل تحب وظيفتك ومكان عملك؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          وأنت راكع وساجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          لماذا تصاب المرأة بالقولون العصبي بــعد الــزواج؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          لطائف تأخير إجابة الدعاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #221  
قديم 05-08-2022, 12:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1275 الى صـ 1282
الحلقة (221)


القول في تأويل قوله تعالى:

ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل [44]

ألم تر من رؤية القلب، وضمن معنى الانتهاء، أي: ألم ينته علمك إليهم، أو من رؤية البصر، أي: ألم تنظر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب أي: حظا من علم التوراة، وهم أحبار اليهود، قال العلامة أبو السعود : المراد بالذي أوتوه ما بين لهم فيها من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وحقية الإسلام، والتعبير عنه بالنصيب [ ص: 1275 ] المنبئ عن كونه حقا من حقوقهم التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بكمال ركاكة آرائهم حيث ضيعوه تضييعا.

وتنوينه تفخيمي مؤيد للتشنيع عليهم، والتعجيب من حالهم، فالتعبير عنهم بالموصول للتنبيه بما في حيز الصلة على كمال شناعتهم، والإشعار بمكان ما طوي ذكره في المعاملة المحكية عنهم من الهدى الذي هو أحد العوضين: يشترون الضلالة وهو البقاء على اليهودية، بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل، أي: يأخذون الضلالة ويتركون ما أوتوه من الهدى ليشتروا ثمنا قليلا من حطام الدنيا.

وإنما طوي ذكر المتروك لغاية ظهور الأمر، لا سيما بعد الإشعار المذكور، والتعبير عن ذلك بالاشتراء - الذي هو عبارة عن استبدال السلعة بالثمن، أي: أخذها بدلا منه أخذا ناشئا عن الرغبة فيها والإعراض عنه - للإيذان بكمال رغبتهم في الضلالة، التي حقها أن يعرض عنها كل الإعراض، وإعراضهم عن الهداية التي يتنافس فيها المتنافسون، وفيه من التسجيل على نهاية سخافة عقولهم، وغاية ركاكة آرائهم ما لا يخفى، حيث صورت حالهم بصورة ما لا يكاد يتعاطاه أحد ممن له أدنى تمييز، قاله أبو السعود .

ويريدون أن تضلوا السبيل أي: لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا من كتمان نعوته - صلى الله عليه وسلم - أن تضلوا أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوا، ويودون لو تكفرون بما أنزل عليكم من الهدى والعلم النافع.
القول في تأويل قوله تعالى:

والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا [45]

والله أعلم أي: منكم بأعدائكم أي: وقد أخبركم بعداوتهم لكم، وما يريدون بكم، فاحذروهم، ولا تستنصحوهم في أموركم ولا تستشيروهم وكفى بالله وليا يلي أموركم وكفى بالله نصيرا ينصركم، أي: فثقوا بولايته ونصرته دونهم، [ ص: 1276 ] ولا تتولوا غيره، أو: ولا تبالوا بهم وبما يسومونكم من السوء، فإنه تعالى يكفيكم مكرهم وشرهم، ففيه وعد ووعيد.
القول في تأويل قوله تعالى:

من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا [46]

من الذين هادوا بيان للموصول وهو: الذين أوتوا نصيبا من الكتاب فإنه متناول لأهل الكتابين، وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين منهم، وتحذيرهم عن مخالطتهم، والاهتمام بحملهم على الثقة بالله عز وجل، والاكتفاء بولايته ونصرته.

وقوله تعالى: يحرفون الكلم عن مواضعه هو وما عطف عليه بيان لاشترائهم المذكور، وتفصيل لفنون ضلالهم، فقد روعيت في النظم الكريم طريقة التفسير بعد الإبهام، والتفصيل إثر الإجمال روما لزيادة تقرير يقتضيه الحال، أفاده أبو السعود .

قال الإمام ابن كثير : قوله: يحرفون الكلم عن مواضعه أي: يتناولونه على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل قصدا منهم وافتراء.

وقال العلامة الرازي : في كيفية التحريف وجوه:

أحدها: إنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر.

ثم قال:

والثاني: أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ من معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا، بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وهذا هو الأصح.

والثالث: أنهم كانوا يدخلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به، فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه. انتهى.

[ ص: 1277 ] وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في "إغاثة اللهفان": قد اختلف في التوراة التي بأيديهم، هل هي مبدلة أم التبديل وقع في التأويل دون التنزيل؟ على ثلاثة أقوال:

قالت طائفة: كلها أو أكثرها مبدل، وغلا بعضهم حتى قال: يجوز الاستجمار بها.

وقالت طائفة من أئمة الحديث والفقه والكلام: إنما وقع التبديل في التأويل.

قال البخاري في "صحيحه": يحرفون يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله ولكنهم يتأولونه على غير تأويله، وهو اختيار الرازي أيضا.

وسمعت شيخنا يقول: وقع النزاع بين الفضلاء، فأجاز هذا المذهب ووهى غيره، فأنكر عليه، فأظهر خمسة عشر نقلا به، ومن حجة هؤلاء أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، وانتشرت جنوبا وشمالا، ولا يعلم عدد نسخها إلا الله، فيمتنع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ، حتى لا تبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة، وهذا مما يحيله العقل، قالوا: وقد قال الله لنبيه: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين [آل عمران: من الآية 93] قالوا: وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم، ولم يمكنهم تغييرها من التوراة، ولذا لما قرؤوها على النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع القارئ يده على آية الرجم، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفعها فإذا هي تلوح تحتها.

وتوسطت طائفة فقالوا: قد زيد فيها وغير أشياء يسيرة جدا، واختاره شيخنا في "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" قال: وهذا كما في التوراة عندهم: إن الله سبحانه قال لإبراهيم: اذبح ابنك بكرك أو وحيدك إسحاق، ثم قال: قلت: والزيادة باطلة من وجوه عشرة، ثم ساقها فارجع إليه، وقد نقلها عنه هنا الإمام صديق خان، فانظره في تفسيره "فتح الرحمن".

[ ص: 1278 ] لطيفة:

قال الزمخشري : فإن قلت: كيف قيل ههنا: عن مواضعه وفي المائدة: من بعد مواضعه ؟ قلت: أما: عن مواضعه فعلى ما فسرنا من إزالته عن موضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه، وأما: من بعد مواضعه فالمعنى أنه كانت له مواضع، هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره، والمعنيان متقاربان.

وقال الرازي : ذكر الله تعالى ههنا: عن مواضعه وفي المائدة: من بعد مواضعه والفرق: أنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة فههنا قوله: يحرفون الكلم من بعد مواضعه معناه أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب، وأما الآية المذكورة في سورة المائدة فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يخرجون اللفظ أيضا من الكتاب، فقوله: يحرفون الكلم إشارة إلى التأويل الباطل، وقوله: من بعد مواضعه إشارة إلى إخراجه عن الكتاب.

وقال الناصر في "الانتصاف": الظاهر أن الكلم المحرف إنما أريد به - في هذه الصورة - مثل: غير مسمع و: راعنا ولم يقصد ههنا تبديل الأحكام، وتوسطها بين الكلمتين بين قوله: يحرفون وبين قوله: ليا بألسنتهم والمراد أيضا تحريف مشاهد بين على أن المحرف هما وأمثالهما، وأما في سورة المائدة فالظاهر - والله أعلم - أن المراد فيها بـ: " الكلم " الأحكام، وتحريفها وتبديلها كتبديلهم الرجم بالجلد، ألا تراه عقبه بقوله: يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا [المائدة: من الآية 41]؟ ولاختلاف المراد بالكلم في السورتين قيل في سورة المائدة: (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) أي: ينقلونه عن الموضع الذي وضعه الله فيه، فصار وطنه ومستقره، إلى غير الموضع، فبقي كالغريب المتأسف عليه الذي يقال فيه: هذا غريب من بعد مواضعه ومقاره، ولا يوجد هذا المعنى في مثل: راعنا و: غير مسمع وإن وجد [ ص: 1279 ] على بعد فليس الوضع اللغوي مما يعبأ بانتقاله عن موضعه كالوضع الشرعي، ولولا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم أمره، فلذلك جاء هنا: يحرفون الكلم عن مواضعه غير مقرون بما قرن به الأول من صورة التأسف، والله أعلم. انتهى.

وقال العلامة أبو السعود : والمراد بالتحريف ههنا إما ما في التوراة خاصة وإما ما هو أعم منه، ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودة الصادرة عنهم في أثناء المحاورة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا مساغ لإرادة تلك الكلمات خاصة بأن يجعل عطف قوله تعالى: ويقولون سمعنا وعصينا وما بعده على ما قبله عطفا تفسيريا، لأنه يستدعي اختصاص حكم الشرطية الآتية وما بعدها بهن من غير تعرض لتحريفهم التوراة، مع أنه معظم جناياتهم المعدودة فقولهم: سمعنا وعصينا ينبغي أن يجري على إطلاقه من غير تقييد بزمان أو مكان ولا تخصيص بمادة دون مادة، بل وأن يحمل على ما هو أعم من القول الحقيقي ومما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم، أي: يقولون في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لا بلسان المقال أو الحال: سمعنا وعصينا عنادا أو تحقيقا للمخالفة. انتهى.

قال ابن كثير : ويقولون: سمعنا أي: سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه، هكذا فسره مجاهد وابن زيد وهو المراد، وهذا أبلغ في كفرهم وعنادهم وأنهم يتولون عن كتاب الله بعدما عقلوه وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة.

واسمع غير مسمع عطف على: سمعنا وعصينا داخل تحت القول أي: ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته - عليه الصلاة والسلام - خاصة، وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر، بأن يحمل على معنى: " اسمع " حال كونك غير مسمع كلاما أصلا، بصمم أو موت، أي: مدعوا عليك بـ(لا سمعت) أو غير مسمع كلاما ترضاه، وللخير بأن يحمل على: اسمع منا غير مسمع مكروها، كانوا يخاطبون به النبي - صلى الله عليه وسلم - استهزاء به (عليهم اللعنة) مظهرين له إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون المعنى الأول مطمئنون به.

وراعنا عطف على ما قبله، أي: ويقولون في أثناء خطابهم له - صلى الله عليه وسلم - هذا أيضا، وهي كلمة ذات وجهين أيضا محتملة للخير [ ص: 1280 ] بحملها على معنى ارقبنا وانظرنا نكلمك، وللشر بحملها على شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها، أو على السب بالرعونة أي: الحمق، وبالجملة فكانوا - سخرية بالدين وهزؤا برسول الله صلى الله عليه وسلم - يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام.

ليا بألسنتهم أي: فتلا بها وصرفا للكلام من وجه إلى وجه وتحريفا، أي: يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون: راعنا موضع: انظرنا و: غير مسمع موضع (لا أسمعت مكروها) أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرون من التوقير نفاقا.

فإن قلت: كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعدما صرحوا وقالوا: سمعنا وعصينا ؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به، كذا في الكشاف.

وأصل: ليا لويا لأنه من لويت أدغمت الواو في الياء لسبقها بالسكون، ومثله (الطي).

وطعنا في الدين أي: قدحا فيه بالاستهزاء والسخرية وانتصابهما على العلية لـ: " يقولون " باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين، أي: يقولون ذلك لصرف الكلام عن وجهه إلى السب والطعن في الدين، أو على الحالية، أي: لاوين وطاعنين في الدين، أفاده أبو السعود .

ولو أنهم قالوا أي: عندما سمعوا ما يتلى عليهم من أوامره تعالى: سمعنا وأطعنا أي: بدل قولهم: سمعنا وعصينا والقول هنا كسابقه أعم من أن يكون بلسان المقال أو بلسان الحال واسمع أي: لو قالوا عند مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدل قولهم: " اسمع "فقط بلا زيادة غير مسمع المحتمل للشر: وانظرنا يعني بدل قولهم: راعنا المحتمل للمعنى الفاسد كما سلف: لكان خيرا لهم وأقوم في الدنيا بحقن دمائهم وعلو رتبتهم بإحاطة الكتب السماوية، وفي الآخرة بضعف الثواب، أفاده المهايمي .

قال أبو السعود : وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفضل في المفضل عليه بناء على اعتقادهم، أو بطريق التهكم، وإما بمعنى اسم الفاعل ولكن لعنهم الله بكفرهم [ ص: 1281 ] أي: ولكن لم يقولوا ذلك واستمروا على كفرهم فطردهم الله عن رحمته وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم: فلا يؤمنون إلا قليلا منصوب على الاستثناء من " لعنهم " أي: ولكن لعنهم الله إلا فريقا قليلا منهم، آمنوا فلم يلعنوا، أو على الوصفية لمصدر محذوف، أي: إلا إيمانا قليلا أي: ضعيفا ركيكا لا يعبأ به، فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى ، ويكفرون ببقية المرسلين وكتبهم المنزلة.

ورجح أبو علي الفارسي هذا، قال: لأن: " قليلا " لفظ مفرد، ولو أريد به (ناس) لجمع نحو قوله: إن هؤلاء لشرذمة قليلون [الشعراء: 54] ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا، والمراد به الجمع قال تعالى: وحسن أولئك رفيقا [النساء: من الآية 69] وقال: ولا يسأل حميم حميما [المعارج: 10] (يبصرونهم) أفاده الرازي ، وقد جوز على هذا أن يراد بالقلة العدم بالكلية، كقوله:


قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك


[ ص: 1282 ] أي هو كثير الهم مختلف الوجوه والطرق لا يقف أمله على فن واحد بل يتجاوزه إلى فنون مختلفة، صبور على النوائب لا يكاد يتشكى منها، فاستعمل لفظ (قليل) وأراد به نفي الكل.

أو منصوب على الاستثناء من فاعل (لا يؤمنون) أي: فلا يؤمن منهم إلا نفر قليل، وأما قول الخفاجي: كان الوجه فيه الرفع على البدل؛ لأنه من كلام غير موجب، وأبي السعود: بأن فيه نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختار - فمردود بأن النصب عربي جيد، وقد قرئ به في السبع في (قليل) من قوله تعالى: ما فعلوه إلا قليل منهم [النساء: من الآية 66]وفي (امرأتك) من قوله تعالى: ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك [هود: من الآية 81] كما قاله ابن هشام في التوضيح.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #222  
قديم 05-08-2022, 12:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1283 الى صـ 1290
الحلقة (222)

القول في تأويل قوله تعالى:

يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نـزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا [47]

يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نـزلنا يعني القرآن: مصدقا لما معكم [ ص: 1283 ] أي: موافقا للتوراة: من قبل أن نطمس وجوها أي: نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم، وقال العوفي عن ابن عباس : طمسها أن تعمى.

فنردها على أدبارها أي: فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها جزاء على الكفر، فالفاء للتسبيب، أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع الأقفاء والأقفاء إلى موضعها، وقد اكتفي بذكر أشدهما، فالفاء للتعقيب.

قال الرازي : وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة؛ لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة.

أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت أي: أو نفعل بهم أبلغ من ذلك، وهو أن نطردهم عن الإنسانية بالمسخ الكلي جزاء على اعتدائهم بترك الإيمان، كما أخزينا به أوائلهم أصحاب السبت جزاء على اعتدائهم على السبت بالحيلة على الاصطياد، فمسخناهم قردة.

وكان أمر الله أي: ما أمر به مفعولا أي: نافذا كائنا لا محالة، هذا وفي الآية تأويل آخر وهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه، وهو صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة، يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم.

قال ابن كثير : وهذا كما قال بعضهم في قوله تعالى: إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون [يس: 8 - 9]: أي: هذا مثل سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى.

قال مجاهد : من قبل أن نطمس وجوها يقول: عن صراط الحق فنردها على أدبارها أي: في الضلال.

قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس والحسن نحو هذا.

قال السدي : فنردها على أدبارها فنمنعها عن الحق، نرجعها كفارا.

قال الرازي : المقصود على هذا بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات، ونظيره قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون [الأنفال: 24] [ ص: 1284 ] تحقيق القول فيه أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس، ثم إنه عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات، فقدامه عالم المعقولات، ووراءه عالم المحسوسات، فالمخذول هو الذي يرد عن قدامه إلى خلفه، كما قال تعالى في صفتهم: ناكسو رءوسهم [السجدة: 12].

ثم قال الرازي : قال عبد الرحمن بن زيد : هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى، وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام ، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام ، كما جاءوا منها و(طمس الوجوه) على هذا التأويل يحتمل معنيين:

أحدهما: تقبيح صورتهم، يقال: طمس الله صورته، كقوله: قبح الله وجهه.

والثاني: إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها، وثمة تأويل آخر، وهو: أن المراد بالوجوه الوجهاء، على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير، أي: من قبل أن نغير أحوال وجهائهم، فنسلب إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغارا وإدبارا.

وقال بعضهم: الأظهر حمل قوله: أو نلعنهم إلخ على اللعن المتعارف، قال: ألا ترى إلى قوله تعالى: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير [المائدة: 60]، ففصل تعالى بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير.

وأقول: لا يخفى أن جميع ما ذكر من التأويلات - غير الأول - لا يساعده مقام تشديد [ ص: 1285 ] الوعيد، وتعميم التهديد، فإن المتبادر من اللفظ الحقيقة، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر إرادتها، ولا تعذر هنا، كما أن المتبادر من اللعن - المشبه بلعن أصحاب السبت - هو المسخ، وهو الذي تقتضيه بلاغة التنزيل، إذ فيه الترقي إلى الوعيد الأفظع، ولا ننكر أن تكون هذه التأويلات مما يشمله لفظ الآية، وإنما البحث في دعوى إرادتها دون سابقها، فالحق أن المتبادر من النظم الكريم هو الأول؛ لأنه أدخل في الزجر.

ويؤيده ما روي أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، ولفظه بعد إسناده: عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني قال : كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فبعثه إليه ينظر أهو هو؟ قال كعب: فركبت حتى أتيت المدينة ، فإذا تال يقرأ القرآن يقول: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نـزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها فاغتسلت، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس، ثم أسلمت.

وروي من غير طريق نحوه أيضا.

فإن قيل: قرينة المجاز عدم وقوع المتوعد به، فالجواب: أن عدم وقوعه لا يعين إرادة المجاز، إذ ليس في الآية دلالة على تحتم وقوعه إن لم يؤمنوا، ولو فهم منها هذا فهما أوليا لكان إيمانهم بعدها إيمان إلجاء واضطرار، وهو ينافي التكليف الشرعي، إذ لم تجر سنته تعالى بهذا، بل النظم الكريم في هذا المقام محتمل ابتداء للقطع بوقوعه المتوعد به، ولوقوعه معلقا بأمره تعالى ومشيئته بذلك، وهو المراد، كما ينبئ عنه قوله تعالى: وكان أمر الله مفعولا [الأحزاب: من الآية 37] أي: ما يأمر به، ويريد وقوعه، وإذا كان الوعيد منوطا بأمره سبحانه فله أن [ ص: 1286 ] يمضيه على حقيقته، وله أن يصرفه لما هو أعلم به، إلا أن ورود نظم الآية بهذا الخطاب المتبادر في الوقوع غير المعلق؛ ليكون أدخل في الترهيب، ومزجرة عن مخالفة الأمر، هكذا ظهر لنا الآن، وهو أقرب مما نحاه المفسرون هنا من أن العقاب منتظر، أو أنه مشروط بعدم الإيمان، إلى غير ذلك، فقد زيفها جميعها العلامة أبو السعود ، ثم اختار أن المراد من الوعيد الأخروي، قال: لأنه لم يتضح وقوعه، وهذا فيه بعد أيضا لنبو مثل هذا الخطاب عن إرادة الوعيد الأخروي، لا سيما والجملة الثانية التي هددوا بها - أعني لعنهم كأصحاب السبت - كان عقابها دنيويا، فالوجه ما قررناه، وما أشبه هذه الآية في وعيدها بآية يس، أعني قوله تعالى: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون [يس: 66 - 67] بل هذه عندي تفسير لتلك، والقرآن يفسر بعضه بعضا، فبرح الخفاء، والحمد لله.

لطيفة:

الضمير في (نلعنهم) لأصحاب الوجوه، أو (للذين) على طريقة الالتفات أو (للوجوه) إن أريد بها الوجهاء.
القول في تأويل قوله تعالى:

إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما [48]

إن الله لا يغفر أن يشرك به قال أبو السعود : كلام مستأنف مسوق لتقرير [ ص: 1287 ] ما قبله من الوعيد، وتأكيد وجوب الامتثال بالأمر من الإيمان - ببيان استحالة المغفرة بدونه، فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف ويطمعون في المغفرة، كما في قوله تعالى: فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب [الأعراف: من الآية 169]: يأخذون عرض هذا الأدنى أي: على التحريف ويقولون سيغفر لنا والمراد بالشرك مطلق الكفر المنتظم لكفر اليهود انتظاما أوليا؛ فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة، وقضى بخلود أصناف الكفرة في النار، ونزوله في حق اليهود - كما قال مقاتل - هو الأنسب بسياق النظم الكريم، وسياقه لا يقتضي اختصاصه بكفرهم، بل يكفي اندراجه فيه قطعا، بل لا وجه له أصلا؛ لاقتضائه جواز مغفرة ما دون كفرهم في الشدة من أنواع الكفر، أي: لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان؛ لأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر، وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه، ولأن ظلمات الكفر والمعاصي إنما يسترها نور الإيمان، فمن لم يكن له إيمان لم يغفر له شيء من الكفر والمعاصي. انتهى.

قال الشهاب : الشك يكون بمعنى اعتقاد أن لله شريكا، وبمعنى الكفر مطلقا، وهو المراد هنا، وقد صرح به في قوله تعالى في سورة (البينة) بقوله: إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها [البينة: من الآية 6]، فلا يبقى شبهة في عمومه. انتهى.

وقال الرازي : هذه الآية دالة على أن اليهودي يسمى مشركا، في عرف الشرع، ويدل عليه وجهان:

الأول: أن الآية دالة على أن ما سوى الشرك مغفور، فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية، وبالإجماع هي غير مغفورة، فدل على أنها داخلة [ ص: 1288 ] تحت اسم الشرك.

الثاني: إن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود، فلولا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك وإلا لم يكن الأمر كذلك، فإن قيل: قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا إلى قوله: والذين أشركوا [المائدة: من الآية 82] فعطف المشرك على اليهودي، وذلك يقتضي المغايرة، قلنا: المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغوي، والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعي، ولا بد من المصير إلا ما ذكرناه؛ دفعا للتناقض. انتهى.

لطيفة:

قال أبو البقاء : الشرك أنواع:

شرك الاستقلال وهو إثبات إلهين مستقلين، كشرك المجوس.

وشرك التبعيض، وهو تركيب الإله من آلهة كشرك النصارى.

وشرك التقريب، وهو عبادة غير الله ليقرب إلى الله زلفى، كشرك متقدمي الجاهلية.

وشرك التقليد، وهو عبادة غير الله تبعا للغير، كشرك متأخري الجاهلية.

وشرك الأسباب، وهو إسناد التأثير للأسباب العادية، كشرك الفلاسفة والطبائعيين ومن تبعهم على ذلك.

وشرك الأغراض، وهو العمل لغير الله.

فحكم الأربعة الأولى الكفر بإجماع، وحكم السادس المعصية من غير كفر بإجماع، وحكم الخامس التفصيل، فمن قال في الأسباب العادية أنها تؤثر بطبعها فقد حكي الإجماع على كفره، ومن قال إنها تؤثر بقوة أودعها الله فيها فهو فاسق. انتهى.

ويغفر ما دون ذلك أي: ما دون الشرك من المعاصي، صغيرة أو كبيرة لمن يشاء تفضلا منه وإحسانا.

قال ابن جرير : وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل، إن شاء [ ص: 1289 ] عفا عنه وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن شركا بالله عز وجل، وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ورحمة، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة، وقد تقدم قوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [النساء: من الآية 31]، وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر، فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته، ولذا قال الرازي : هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر، ثم جود وجوه الاستدلال، ومنها: أن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة، ومنها أن غفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة مقطوع به وغير معلق على المشيئة، فوجب أن يكون الغفران المذكور في هذه الآية هو غفران الكبيرة قبل التوبة، وهو المطلوب.

وأول الزمخشري هذه الآية على مذهبه: بأن الفعل المنفي والمثبت جميعا موجهان إلى قوله تعالى: لمن يشاء على قاعدة التنازع، كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك، على أن المراد بالأول من لم يتب وبالثاني من تاب، قال: ونظيره قولك: إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء، تريد لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله، ويبذل القنطار لمن يستأهله. انتهى.

قال ناصر الدين في "الانتصاف": عقيدة أهل السنة أن الشرك غير مغفور البتة ، وما دونه من الكبائر مغفور لمن يشاء الله أن يغفره له، هذا مع عدم التوبة، وأما مع التوبة فكلاهما مغفور، والآية إنما وردت فيمن لم يتب ولم يذكر فيها توبة كما ترى، فلذلك أطلق الله تعالى نفي مغفرة الشرك وأثبت مغفرة ما دونه مقرونة بالمشيئة كما ترى، فهذا وجه انطباق الآية على عقيدة أهل السنة، وأما القدرية فإنهم يظنون التسوية بين الشرك وبين ما دونه من الكبائر، في أن كل واحد من النوعين لا يغفر بدون التوبة، ولا شاء الله أن يغفرهما إلا للتائبين، فإذا [ ص: 1290 ] عرض الزمخشري هذا المعتقد على هذه الآية ردته ونبت عنه؛ إذ المغفرة منفية فيها عن الشرك وثابتة لما دونه مقرونة بالمشيئة، فأما أن يكون المراد فيهما من لم يتب فلا وجه للتفضيل بينهما بتعليق المغفرة في أحدهما بالمشيئة وتعليقها بالآخر مطلقا، إذ هما سيان في استحالة المغفرة، وأما أن يكون المراد فيهما التائب فقد قال في الشرك " إنه لا يغفر " والتائب من الشرك مغفور له، وعند ذلك أخذ الزمخشري يقطع أحدهما عن الآخر، فيجعل المراد مع الشرك عدم التوبة ومع الكبائر التوبة، حتى تنزل الآية على وفق معتقده فيحملها أمرين لا تحمل واحدا منهما:

أحدهما: إضافة التوبة إلى المشيئة وهي غير مذكورة ولا دليل عليها فيما ذكر، وأيضا لو كانت مرادة لكانت هي السبب الموجب للمغفرة على زعمهم عقلا، ولا يمكن تعلق المشيئة بخلافها على ظنهم في العقل، فكيف يليق السكوت عن ذكر ما هو العمدة والموجب، وذكر ما لا مدخل له على هذا المعتقد الرديء؟

الثاني: أنه بعد تقريره التوبة احتكم فقدرها على أحد القسمين دون الآخر، وما هذا إلا من جعل القرآن تبعا للرأي، نعوذ بالله من ذلك.

وأما القدرية فهم بهذا المعتقد يقع عليه بهم المثل السائر (السيد يعطي والعبد يمنع) لأن الله تعالى يصرح كرمه بالمغفرة للمصر على الكبائر، إن شاء، وهم يدفعون في وجه هذا التصريح ويحيلون المغفرة بناء على قاعدة الأصلح والصلاح، التي هي بالفساد أجدر وأحق. انتهى.

فائدة:

وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة:

الأول: عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #223  
قديم 05-08-2022, 12:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1291 الى صـ 1298
الحلقة (223)


فأما الديوان [ ص: 1291 ] الذي لا يغفره الله فالشرك بالله قال الله عز وجل: إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية، وقال: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة [المائدة: من الآية 72].

وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء.

وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا، فظلم العباد بعضهم بعضا، القصاص لا محالة
رواه الإمام أحمد ، وقد تفرد به.

الثاني: عن أنس بن مالك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يترك الله منه شيئا.

فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، وقال: إن الشرك لظلم عظيم [لقمان: من الآية 13].

وأما الظلم الذي يغفره الله: فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم.

وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض
رواه أبو بكر البزار في مسنده.

الثالث: عن معاوية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا رواه الإمام أحمد والنسائي .

الرابع: عن أبي ذر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله، [ ص: 1292 ] ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق - ثلاثا - ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر .

قال فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر .

وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر.


أخرجه الإمام أحمد والشيخان.

وفي رواية لهما عن أبي ذر : قال صلى الله عليه وسلم: قال لي جبريل: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: يا جبريل ! وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم، قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم، وإن شرب الخمر .

الخامس: عن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ما الموجبتان؟ قال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. ومن مات يشرك به دخل النار أخرجه مسلم ، وعبد بن حميد في مسنده.

السادس: عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة رواه الإمام أحمد .

السابع: عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله عز وجل: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي رواه الطبراني .

الثامن: عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له، ومن توعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار رواه البزار وأبو يعلى .

التاسع: عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس، [ ص: 1293 ] وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فأمسكنا عن الشهادة ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .

وفي رواية لابن أبي حاتم : فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله عز وجل.

العاشر: عن علي بن أبي طالب - عليه السلام - قال: ما في القرآن أحب إلي من هذه الآية: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.

الحادي عشر: عن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي.

يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي.

يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة
رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وروى نحوه الإمام أحمد عن أبي ذر ، ولفظه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله عز وجل يقول: يا عبدي! ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك، ويا عبدي! إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي لقيتك بقرابها مغفرة .

والأحاديث في ذلك متوافرة، ويكفي هذا المقدار.

[ ص: 1294 ] ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما أي: افترى واختلق، مرتكبا إثما لا يقادر قدره، ويستحقر دونه جميع الآثام، فلا تتعلق به المغفرة قطعا.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "الجواب الكافي": الشرك بالرب تعالى نوعان: شرك به في أسمائه وصفاته، وجعل آلهة أخرى معه، وشرك به في معاملته، وهذا الثاني قد لا يوجب دخول النار، وإن أحبط العمل الذي أشرك فيه مع الله غيره، وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب، ويدخل فيه القول على الله بلا علم في خلقه وأمره، فمن كان من أهل هذه الذنوب فقد نازع الله سبحانه وتعالى ربوبيته وملكه، وجعل له ندا، وهذا أعظم الذنوب عند الله، ولا ينفع معه عمل.

وقال بعد ذلك: وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال: إن الله عز وجل أرسل رسله وأنزل كتبه وخلق السماوات والأرض؛ ليعرف ويعبد ويوحد ويكون الدين كله له، والطاعة كلها له، والدعوة له، كما قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات: 56] وقال تعالى: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [الحجر: من الآية 85] وقال تعالى: الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنـزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [الطلاق: 12] وقال تعالى: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم [المائدة: 97] فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر أن يعرف بأسمائه وصفاته، ويعبد وحده لا يشرك به، [ ص: 1295 ] وأن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، كما قال تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنـزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [الحديد: من الآية 25] فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل، ومن أعظم القسط التوحيد، بل هو رأس العدل وقوامه، وإن الشرك ظلم عظيم، كما قال تعالى: إن الشرك لظلم عظيم [لقمان: من الآية 13]، فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل، فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر، وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له، وما كان أشد موافقة لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات.

فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر به تفاصيله تعرف به أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، فيما فرض على عباده وحرمه عليهم، وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي، فلما كان الشرك بالله منافيا بالذات لهذا المقصود، وكان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرم الله الجنة على كل مشرك، وأباح دمه وماله لأهل التوحيد، وأن يتخذوهم عبيدا لهم لما تركوا القيام بعبوديته، وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملا، أو يقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقيل له فيها عثرة - فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله حيث جعل له من خلقه ندا، وذلك غاية الجهل به، كما أنه غاية الظلم منه، وإن كان المشرك لم يظلم ربه وإنما ظلم نفسه.

ووقعت مسألة: وهي أن المشرك إنما قصده تعظيم جناب الرب تبارك وتعالى، وأنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء، كحال الملوك، فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية وإنما قصد تعظيمه.

وقال: إنما أعبد هذه الوسائط لتقربني وتدخلني عليه، فهو المقصود، وهذه وسائل وشفعاء، [ ص: 1296 ] فلم كان هذا القدر موجبا لسخطه وغضبه تبارك وتعالى ومخلدا في النار وموجبا لسفك دماء أصحابه واستباحة حريمهم وأموالهم؟ وترتب على هذا سؤال آخر: وهو أنه هل يجوز أن يشرع الله سبحانه لعباده التقريب إليه بالشفعاء والوسائط؟ فيكون تحريم هذا إنما استفيد من الشرع، أم ذلك قبيح في الفطر والعقول، يمتنع أن تأتي به شريعة، بل جاءت بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح؟ وما السبب في كونه لا يغفره من دون سائر الذنوب؟ كما قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فتأمل هذا السؤال، واجمع قلبك وذهنك على جوابه، ولا تستهونه فإن به يحصل الفرق بين المشركين والموحدين، والعالمين بالله والجاهلين به، وأهل الجنة وأهل النار.

فنقول (وبالله التوفيق والتأييد، ومنه نستمد المعونة والتسديد، فإنه من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع):

الشرك شركان: شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، والشرك الأول نوعان:

أحدهما: شرك التعطيل: وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: وما رب العالمين [الشعراء: من الآية 23]؟ وقال تعالى مخبرا عنه أنه قال: وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا [غافر: من الآية 37] فالشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل وكل معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل بل قد يكون المشرك مقرا بالخالق سبحانه وصفاته، ولكن عطل حق التوحيد، وأصل الشرك وقاعدته التي ترجع إليها هو التعطيل، وهو ثلاثة أقسام:

تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه، وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله، [ ص: 1297 ] وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد.

ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود، الذين يقولون: ما ثم خالق ومخلوق، ولا ههنا شيئان، بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه، ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وإنه لم يكن معدوما أصلا، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها، يسمونها العقول والنفوس.

ومن هنا أشرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة، فلم يثبتوا له اسما ولا صفة، بل جعلوا المخلوق أكمل منه، إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها.
فصل

النوع الثاني: شرك من جعل معه إلها آخر ولم يعطل أسمائه وربوبيته وصفاته، كشرك النصارى الذي جعلوه ثالث ثلاثة، فجعلوا المسيح إلها وأمه إلها.

ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة.

ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، وإنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته وإرادته، ولهذا كانوا من أشباه المجوس.

ومن هذا شرك الذي حاج إبراهيم في ربه: إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت [البقرة: من الآية 258] فهذا جعل نفسه ندا لله، يحيي ويميت بزعمه، كما يحيي الله ويميت، فألزمه إبراهيم - عليه السلام ورحمة الله وبركاته - أن طرد قولك أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها، وليس هذا [ ص: 1298 ] انتقالا كما زعم بعض أهل الجدل بل إلزاما على طرد الدليل إن كان حقا.

ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات ويجعلها أربابا مدبرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم.

ومن هذا شرك عباد الشمس وعباد النار وغيرهم.

ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة. ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة. ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الآلهة، وأنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه والانقطاع إليه أقبل إليه واعتنى به.

ومنهم من يزعم أنه معبودهم الأدنى يقربه إلى المعبود الذي هو فوقه، والفوقاني يقربه إلى من هو فوقه، حتى تقربه تلك الآلهة إلى الله سبحانه، فتارة تكثر الوساطة وتارة تقل.
فصل

وأما الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا وأخف أمرا، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه تارة وطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة، فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب، هذا حال أكثر الناس، وهو الشرك الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن حبان في صحيحه: الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، قالوا: وكيف ننجو منه يا رسول الله؟ قال: قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #224  
قديم 05-08-2022, 12:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1299 الى صـ 1306
الحلقة (224)

فالرياء كله شرك ، قال تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [الكهف: 110].

[ ص: 1299 ] أي كما أنه إله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية، فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء، المقيد بالسنة، وكان من دعاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا، وهذا الشرك في العبادة يبطل العمل، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبا، فإنه ينزله منزلة من لم يعمله، فيعاقب على ترك الأمر، فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادته خالصة قال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء [البينة: من الآية 5].

فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير المأمور به، فلا يصح ولا يقبل منه، ويقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه .

وهذا الشرك ينقسم إلى مغفور وغير مغفور، وأكبر وأصغر، والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفورا.

فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم بأن يحب المخلوق كما يحب الله، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا [البقرة: من الآية 165] الآية.

وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعتهم الجحيم: تالله إن كنا لفي ضلال مبين [الشعراء: 97]: إذ نسويكم برب العالمين [الشعراء: 97 - 98] ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والزرق والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل، وهذا غاية الجهل والظلم، فكيف يسوى من خلق من التراب برب الأرباب؟ وكيف يسوى [ ص: 1300 ] العبيد بمالك الرقاب؟ وكيف يسوى الفقير بالذات، الضعيف بالذات، العاجز بالذات، المحتاج بالذات، الذي ليس له من ذاته إلا العدم - بالغني بالذات، القادر بالذات، الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته، وكماله المطلق التام من لوازم ذاته؟! فأي ظلم أقبح من هذا؟ وأي حكم أشد جورا منه؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه، كما قال تعالى: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [الأنعام: 1] فعدل المشرك من خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، فيا لك من عدل تضمن أكبر الظلم وأقبحه!!!
فصل

ويتبع هذا الشرك الشرك به سبحانه في الأقوال والأفعال والإرادات والنيات ، فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره، وتقبيل الأحجار - غير الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض - أو تقبيل القبور واستلامها والسجود لها، وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي فيها، فكيف بمن اتخذ القبور أوثانا يعبدها من دون الله، وفي الصحيحين عنه أنه قال: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

وفي الصحيح عنه: [ ص: 1301 ] إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد .

وفي الصحيح أيضا عنه: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك .

وفي مسند الإمام أحمد - رضي الله عنه - وصحيح ابن حبان عنه - صلى الله عليه وسلم -: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج .

وقال: اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

وقال: إن من كان قبلكم إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة .

فهذا حال من سجد لله في مسجد على قبر، فكيف حال من سجد للقبر بنفسه؟! وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم! لا تجعل قبري وثنا يعبد وقد حمى النبي جانب التوحيد [ ص: 1302 ] أعظم حماية حتى نهى عن صلاة التطوع لله سبحانه عند طلوع الشمس وعند غروبها ؛ لئلا يكون ذريعة إلى التشبيه بعباد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين، وسد الذريعة بأن منع الصلاة بعد العصر والصبح؛ لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجد المشركون فيهما للشمس.

وأما السجود لغير الله فقال: لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله .

و (لا ينبغي) في كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - - للذي هو في غاية الامتناع شرعا، كقوله تعالى: وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [مريم: 92] وقوله: وما علمناه الشعر وما ينبغي له [يس: من الآية 69] وقوله: وما تنـزلت به الشياطين [الشعراء: 210]: وما ينبغي لهم [الشعراء: من الآية 211] وقوله عن الملائكة: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء [الفرقان: من الآية 18].
[ ص: 1303 ] فصل

ومن الشرك به سبحانه الشرك به في اللفظ، كالحلف بغيره، كما رواه أحمد وأبو داود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من حلف بشيء دون الله فقد أشرك وصححه الحاكم وابن حبان .

ومن ذلك قول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئت ، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده وهذا، مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة، كقوله: لمن شاء منكم أن يستقيم [التكوير: 28] - فكيف من يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك؟ وما لي إلا الله وأنت؟ وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك؟ والله لي في السماء وأنت لي في الأرض؟ أو يقول: والله! وحياة فلان، أو يقول: نذرا لله ولفلان، وأنا تائب لله ولفلان، وأرجو الله وفلانا ونحو ذلك، فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول القائل: ما شاء الله وشئت، ثم انظر أيهما أفحش؟ يتبين لك أن قائلها أولى لجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لقائل تلك الكلمة، وأنه إذا كان قد جعله ندا لله بها فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من الأشياء - بل لعله أن يكون من أعدائه - ندا لرب العالمين.

فالسجود والعبادة، والتوكل والإنابة، والتقوى والخشية، والتحسب والتوبة، والنذر والحلف، والتسبيح والتكبير، والتهليل والتحميد، والاستغفار [ ص: 1304 ] وحلق الرأس خضوعا وتعبدا، والطواف بالبيت، والدعاء - كل ذلك محض حق الله، لا يصلح ولا ينبغي لسواه، من ملك مقرب ولا نبي مرسل.

وفي مسند الإمام أحمد أن رجلا أتي به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أذنب ذنبا، فلما وقف بين يديه قال: اللهم إني أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد . فقال: قد عرف الحق لأهله .
فصل

وأما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقل من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، ونوى شيئا غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته.

والإخلاص: أن يخلص لله في أقواله وأفعاله وإراداته ونيته، وهذه هي الحنيفية، ملة إبراهيم، التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [آل عمران: 85] وهي ملة إبراهيم عليه السلام، التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء.
فصل

وإذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك باب الجواب عن السؤال المذكور، فنقول (ومن الله وحده نستمد الصواب): حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به، وهذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ووصف بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعكس من نكس الله قلبه وأعمى عين بصيرته وأركسه بلبسه الأمر وجعل التوحيد تشبيها والتشبيه تعظيما وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء [ ص: 1305 ] والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا أفضل من غيره؛ تشبيها بمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيده، ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد، فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات.

ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون له وحده، ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره، فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة.

ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذل: هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين، فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم، وأفسدتها عليهم، واجتالتهم عنها، ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى، فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرتهم وعقولهم، فازدادوا بذلك نورا على نور، يهدي الله لنوره من يشاء.

إذا عرف هذا، فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به، ومنها التوكل فمن توكل على غيره فقد شبهه به، ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به، ومنها الحلف باسمه تعظيما وإجلالا، فمن حلف بغيره فقد شبهه به، هذا في جانب التشبيه.

وأما [ ص: 1306 ] في جانب التشبه به فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم، والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفا ورجاء، والتجاء واستعانة - فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، ويذله غاية الذل ويجعله تحت أقدام خلقه.

وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله عز وجل: العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذبته وإذا كان المصور - الذي يصنع الصورة بيده - من أشد الناس عذابا يوم القيامة؛ لتشبهه بالله في مجرد الصنعة، فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والإلهية؟! كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #225  
قديم 05-08-2022, 12:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1307 الى صـ 1314
الحلقة (225)


وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: [ ص: 1307 ] قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منهما وأكبر، والمقصود أن هذا حال من تشبه به في صنعة صورة، فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلهيته؟! وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده، كملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه.

وقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن أخنع الأسماء عند الله رجل يتسمى بشاهان شاه ملك الملوك، ولا ملك إلا الله .

وفي لفظ: أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له، فهو سبحانه ملك الملوك وحده، وهو حاكم الحكام وحده، فهو الذي يحكم على الحكام كلهم، ويقضي عليهم كلهم، لا غيره.
تنبيه:

حيثما وقع في حديث: من فعل كذا فقد أشرك، أو فقد كفر - لا يراد به الكفر المخرج من الملة، والشرك الأكبر المخرج عن الإسلام الذي تجري عليه أحكام الردة، والعياذ بالله تعالى، وقد قال البخاري : باب كفران العشير وكفر دون كفر.

قال القاضي أبو بكر ابن العربي في "شرحه": مراده أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد عليه الكفر المخرج عن الملة، فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة - ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون [ ص: 1308 ] مشركا أو كافرا - فإنه يعذر بالجهل والخطأ، حتى تتبين له الحجة، الذي يكفر تاركها بيانا واضحا ما يلتبس على مثله، وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام مما أجمعوا عليه إجماعا جليا قطعيا، يعرفه كل من المسلمين من غير نظر وتأمل، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع.

قال الشيخ تقي الدين في " كتاب الإيمان": لم يكفر الإمام أحمد الخوارج ولا المرجئة ولا القدرية، وإنما المنقول عنه وعن أمثاله تكفير الجهمية، مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية، ولا كل من قال: أنا جهمي - كفره، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، ولم يكفرهم أحمد وأمثاله بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعو لهم ويرى لهم الائتمام بالصلاة خلفهم، والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم بما يراه لأمثالهم من الأئمة، وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموا هم أنه كفر، كان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان، فيجمع بين طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة وإن كانوا جهالا مبتدعين، وظلمة فاسقين. انتهى كلام الشيخ، فتأمله تأملا خاليا عن الميل والحيف.

وقال الشيخ تقي الدين أيضا: من كان في قلبه الإيمان بالرسول وبما جاء به، وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع ولو دعا إليها، فهذا ليس بكافر أصلا، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالا للأمة وتكفيرا لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم، لا علي ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين، كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع، وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة، من كان منهم منافقا فهو كافر في الباطن، ومن كان مؤمنا بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافرا في الباطن، وإن كان أخطأ في التأويل كائنا ما كان خطؤه، وقد يكون في بعضهم شعبة من النفاق، ولا يكون فيه [ ص: 1309 ] النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار.

ومن قال: إن الثنتين والسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفرا ينقل عن الملة - فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفر كل واحد من الثنتين والسبعين فرقة. انتهى.

وقال ابن القيم في طرق أهل البدع: الموافقون على أصل الإسلام ولكنهم مختلفون في بعض الأصول كالخوارج والمعتزلة والقدرية والرافضة والجهمية وغلاة المرجئة:

فهؤلاء أقسام:

أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يكفر ولا يفسق ولا ترد شهادته إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان.

القسم الثاني: متمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورياسته ولذاته ومعاشه، فهذا مفرط مستحق للوعيد، آثم بترك ما أوجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا إن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى على ما فيه من البدعة والهوى قبلت شهادته.

الثالث: أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى ويترك؛ تعصبا أو معاداة لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقا، وتكفيره محل اجتهاد. انتهى كلامه، فانظره وتأمله، فقد ذكر هذا التفصيل في غالب كتبه، وذكر أن الأئمة وأهل السنة لا يكفرونهم، هذا مع ما وصفهم به من الشرك الأكبر، والكفر الأكبر، وبين في غالب كتبه مخازيهم.

ولنذكر من كلامه طرفا تصديقا لما ذكرنا عنه، قال رحمه الله في "المدارج": المثبتون للصانع نوعان:

أحدهما: أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته، كالمجوس ومن ضاهاهم من القدرية، فإنهم يثبتون مع الله إلها آخر، والمجوسية القدرية تثبت مع الله خالقا للأفعال، ليست أفعالهم مخلوقة لله ولا مقدورة له، وهي صادرة بغير مشيئته تعالى وقدرته، ولا قدرة له عليها، بل هم الذين جعلوا أنفسهم فاعلين مريدين شيائين، وحقيقة قول هؤلاء: إن الله ليس ربا خالقا لأفعال الحيوان. انتهى كلامه.

وقد ذكرهم بهذا الشرك في سائر كتبه، وشبههم [ ص: 1310 ] بالمجوس الذين يقولون: إن للعالم خالقين، وانظر لما تكلم على التكفير هو وشيخه كيف حكيا عدم تكفيرهم عن جميع أهل السنة، حتى مع معرفة الحق والمعاندة، قال: كفره محل اجتهاد، كما تقدم كلامه قريبا.

وقال ابن تيمية - وقد سئل عن رجلين تكلما في مسألة التكفير - فأجاب وأطال، وقال في آخر الجواب: لو فرض أن رجلا دفع التكفير عمن يعتقد أنه ليس بكافر؛ حماية له ونصرا لأخيه المسلم، لكان هذا غرضا شرعيا حسنا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصابه فله أجران، وإن اجتهد فاخطأ فله أجر.

وقال رحمه الله: التكفير إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة المجتمع عليها.

وسئل أيضا - قدس الله روحه - عن التكفير الواقع في هذه الأمة، من أول من أحدثه وابتدعه؟ فأجاب: أول من أحدثه في الإسلام المعتزلة، وعنهم تلقاه من تلقاه، وكذلك الخوارج هم أول من أظهره، واضطرب الناس في ذلك، فمن الناس من يحكي عن مالك فيه قولين، وعن الشافعي كذلك، وعن أحمد روايتان، وأبو الحسن الأشعري وأصحابه لهم قولان، وحقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفرا، فيطلق القول بتكفير قائله، ويقال: من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، من تعريف الحكم الشرعي، من سلطان أو أمير مطاع، كما هو المنصوص عليه في كتب الأحكام، فإذا عرفه الحكم وزالت عنه الجهالة قامت عليه الحجة، وهذا كما هو في نصوص الوعيد من الكتاب والسنة، وهي كثيرة جدا، والقول بموجبها واجب على وجه العموم والإطلاق، من غير أن يعين شخص من الأشخاص، فيقال: هذا كافر أو فاسق أو ملعون أو مغضوب عليه أو مستحق للنار، لا سيما إن كان للشخص فضائل وحسنات - فإن ما سوى الأنبياء يجوز عليهم الصغائر والكبائر مع إمكان أن يكون ذلك الشخص صديقا أو شهيدا أو صالحا، كما قد بسط في غير هذا الموضع من أن موجب الذنوب تتخلف عنه بتوبة أو باستغفار، أو حسنات ماحية [ ص: 1311 ] أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، أو لمحض مشيئة الله ورحمته، فإذا قلنا بموجب قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا [النساء: من الآية 93] الآية، وقوله: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا [النساء: 10] وقوله: ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [النساء: 14] الآية، وقوله: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلى قوله -: ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما [النساء: من الآية 30] الآية، إلى غير ذلك من آيات الوعيد، وقلنا بموجب قوله - صلى الله عليه وسلم -: لعن الله من شرب الخمر أو من عق والديه أو من غير منار الأرض أو من ذبح لغير الله أو لعن الله السارق أو لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهده وكاتبه [ ص: 1312 ] أو لعن الله لاوي الصدقة والمتعدي فيها أو من أحدث في المدينة حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين إلى غير ذلك من أحاديث الوعيد - لم يجز أن تعين شخصا ممن فعل بعض هذه الأفعال، وتقول: هذا المعين قد أصاب هذا الوعيد؛ لإمكان التوبة وغيرها من مسقطات العقوبة، إلى أن قال: ففعل هذه الأمور ممن يحسب أنها مباحة باجتهاد أو تقليد ونحو ذلك، وغايته أنه معذور من لحوق الوعيد به لمانع، كما امتنع لحوق الوعيد بهم لتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو غير ذلك، وهذه السبيل هي التي يجب اتباعها، فإن ما سواها طريقان خبيثان:

أحدهما: القول بلحوق الوعيد بكل فرد من الأفراد بعينه، ودعوى أنها عمل بموجب النصوص، وهذا أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب، [ ص: 1313 ] والمعتزلة وغيرهم، وفساده معلوم بالاضطرار، وأدلته معلومة في غير هذا الموضع، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين الذي فعله لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار؛ لفوات شرط أو لحصول مانع، وهكذا الأقوال الذي يكفر قائلها، قد يكون القائل لها لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من معرفتها وفهمها، أو قد عرضت له شبهات يعذره الله بها.

فمن كان مؤمنا بالله وبرسوله، مظهرا للإسلام، محبا لله ورسوله، فإن الله يغفر له لو قارف بعض الذنوب القولية أو العملية، سواء أطلق عليه لفظ الشرك أو لفظ المعاصي، هذا الذي عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجماهير أئمة الإسلام، لكن المقصود أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل، بالفرق بين النوع والعين، بل لا يختلف القول عن الإمام أحمد وسائر أئمة الإسلام كمالك وأبي حنيفة والشافعي أنهم لا يكفرون المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، ونصوصهم صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم، وإنما كان الإمام أحمد يطلق القول بتكفير الجهمية؛ لأنه ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم، وأنه يدور على التعطيل، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، لكن ما كانوا يكفرون أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقوله ولا يدعو إليه، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقب، ومع هذا فالذين من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن ظاهر القرآن لا يحتج به في معرفة الله، ولا الأحاديث الصحيحة، وإن الدين لا يتم إلا بما زخرفوه من الآراء والخيالات الباطلة والعقول الفاسدة، وإن خيالاتهم وجهالاتهم أحكم في دين الله من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإن أقوال الجهمية والمعطلة من النفي والإثبات أحكم في دين الله، بسبب ذلك امتحنوا المسلمين وسجنوا الإمام أحمد وجلدوه، وقتلوا جماعة، وصلبوا آخرين، ومع ذلك لا يطلقون أسيرا ولا يعطون من بيت [ ص: 1314 ] المال إلا من وافقهم ويقر بقولهم، وجرى على الإسلام منهم أمور مبسوطة في غير هذا الموضع، ومع هذا التعطيل - الذي هو شر من الشرك - فالإمام أحمد ترحم عليهم واستغفر لهم، وقال: ما علمت أنهم مكذبون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا جاحدون لما جاء به، لكنهم تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال ذلك.

والإمام الشافعي لما ناظر حفص الفرد - من أئمة المعطلة - في مسألة (القرآن مخلوق) قال له الإمام الشافعي : كفرت بالله العظيم، فكفره ولم يحكم بردته بمجرد ذلك، ولو اعتقد ردته وكفره لسعى في قتله.

وأفتى العلماء بقتل دعاتهم مثل غيلان القدري ، والجعد بن درهم، وجهم بن صفوان إمام الجهمية وغيرهم، وصلى الناس عليهم ودفنوهم مع المسلمين، وصار قتلهم من باب قتل الصائل؛ لكف ضررهم، لا لردتهم، ولو كانوا كفارا لرآهم المسلمون كغيرهم، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #226  
قديم 05-08-2022, 12:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1315 الى صـ 1322
الحلقة (226)



وقال ابن القيم في "شرح المنازل": أهل السنة متفقون على أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعداوة من وجهين مختلفين، ويكون محبوبا لله ومبغوضا من وجهين، بل يكون فيه إيمان ونفاق، وإيمان وكفر، ويكون إلى أحدهما أقرب من الآخر، فيكون إلى أهله كما قال تعالى: هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان [آل عمران: من الآية 167] وقال: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون فأثبت لهم - تبارك وتعالى - الإيمان مع مقارفة الشرك، فإن كان مع هذا الشرك تكذيب لرسله لم ينفعهم ما معهم من الإيمان، وإن كان تصديق برسله وهم يرتكبون لأنواع من الشرك لا تخرجهم عن الإيمان بالرسل واليوم الآخر - فهم مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أهل الكبائر، وبهذا الأصل أثبت أهل السنة دخول أهل الكبائر النار ثم خروجهم منها [ ص: 1315 ] ودخولهم الجنة؛ لما قام بهم من السببين.

قال: وقال ابن عباس في قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة: من الآية 44] قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس بكفر ينقل عن الملة، إذا فعله فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر، وكذلك قال طاوس وعطاء . انتهى كلامه.

وقال الشيخ تقي الدين : كان الصحابة والسلف يقولون: إنه يكون في العبد إيمان ونفاق، وهذا يدل عليه قوله عز وجل: هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان [آل عمران: من الآية 167] وهذا كثير في كلام السلف، يبينون أن القلب يكون فيه إيمان ونفاق، والكتاب والسنة يدل على ذلك.

ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان .

فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل قليل لم يخلد في النار ، وإن كان معه كثير من النفاق، فهذا يعذب في النار على قدر ما معه ثم يخرج، إلى أن قال: وتمام هذا أن الإنسان قد يكون فيه [ ص: 1316 ] شعبة من شعب الإيمان، وشعبة من شعب الكفر، وشعبة من شعب النفاق، وقد يكون مسلما وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية، كما قال الصحابة، ابن عباس وغيره: كفر دون كفر، وهذا عامة قول السلف. انتهى.

فتأمل هذا الفصل وانظر حكايتهم الإجماع من السلف، ولا تظن أن هذا في المخطئ، فإن ذلك مرفوع عنه إثم خطئه كما تقدم مرارا عديدة.

وقال الشيخ تقي الدين في كتاب "الإيمان": الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن، وإن المنافقين الذين قالوا: آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين [البقرة: من الآية 8] هم في الظاهر مؤمنون، يصلون مع المسلمين، ويناكحونهم ويوارثونهم، كما كان المنافقون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم بحكم الكفار المظهرين الكفر لا في مناكحتهم ولا في موارثتهم ولا نحو ذلك، بل لما مات عبد الله بن أبي - وهو من أشهر الناس في النفاق - ورثه عبد الله ابنه، وهو من خيار المؤمنين، وكذلك سائر من يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون، وإذا مات لهم وارث ورثوه مع المسلمين وإن علم أنه منافق في الباطن، وكذلك كانوا في الحدود والحقوق كسائر المسلمين، وكانوا يغزون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من هم بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، ومع هذا - ففي الظاهر - تجري عليهم أحكام أهل الإيمان، إلى أن قال: ودماؤهم وأموالهم معصومة ولا يستحل منهم ما يستحل من الكفار.

والذين يظهرون أنهم مؤمنون، بل يظهرون الكفر دون الإيمان، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: أمرت أن أقاتل الناس [ ص: 1317 ] حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله .

وكما قال لأسامة: أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ قال: فقلت: إنما قالها تعوذا، قال: هل شققت عن قلبه ؟ وقال: إني لم أؤمر أن أنقب [ ص: 1318 ] عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم .

وكان إذا استؤذن في قتل رجل يقول: أليس يصلي؟ أليس يشهد؟ فإذا قيل له: إنه منافق، قال ذلك.

فكان حكمه في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم ولا يستحل منها شيئا مع أنه يعلم نفاق كثير منهم. انتهى كلام الشيخ.

وقد أوضح حجة الإسلام الغزالي - رضي الله عنه - في "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" الكفر المخرج عن الملة - والعياذ بالله تعالى - بعد مقدمته المدهشة بقوله: لعلك تشتهي أن تعرف حد الكفر بعد أن تتناقض عليك حدود أصناف المقلدين، فاعلم أن شرح ذلك طويل ومدركه غامض، ولكني أعطيك علامة صحيحة فتطردها وتعكسها لتتخذها مطمح نظرك وترعوي بسببها عن تكفير الفرق وتطويل اللسان في أهل الإسلام، وإن اختلفت طرقهم ما داموا متمسكين بقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صادقين بها غير مناقضين لها، فأقول: الكفر هو تكذيب الرسول - عليه السلام - في شيء مما جاء به، والإيمان تصديقه في جميع ما جاء به. فاليهودي والنصراني كافران لتكذيبهما للرسول عليه السلام. والبرهمي كافر بالطريق الأولى؛ لأنه أنكر مع رسولنا سائر المرسلين. والدهري كافر بالطريق الأولى؛ لأنه أنكر مع رسولنا المرسل سائر الرسل، وهذا لأن الكفر حكم شرعي كالرق والحرية مثلا.

[ ص: 1319 ] إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار، ومدركه شرعي فيدرك إما بنص وإما بقياس على منصوص، وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى، والتحق بهم بالطريق الأولى البراهمة والثنوية والزنادقة والدهرية، وكلهم مشركون، فإنهم مكذبون للرسول، فكل كافر مكذب للرسول، وكل مكذب فهو كافر، فهذه هي العلامة المطردة المنعكسة.

وتتمة هذا البحث في هذا الكتاب الذي لا يستغني عنه فاضل، فارجع إليه، وعض بنواجذك عليه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
القول في تأويل قوله تعالى:

ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا [49]

ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم تعجيب من تمادحهم بالتزكية التي هي التطهير والتبرئة من القبيح فعلا وقولا، المنافية لما هم عليه من الطغيان والشرك الذي قصه تعالى عنهم قبل، فالمراد بهم اليهود، وقد حكى تعالى عنهم أنهم يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه [المائدة: من الآية 18] وحكى عنهم أيضا أنهم قالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة [البقرة: من الآية 80] وأنهم قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى [البقرة: من الآية 111].

وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس [ ص: 1320 ] قال: كان اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب، وكذبوا، قال الله: إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له، وأنزل الله: ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم أي: انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم فيه من الكفر والإثم العظيم، أو من ادعائهم تكفير ذنوبهم مع استحالة أن يغفر للكافر شيء من كفره أو معاصيه.

وقوله تعالى: بل الله يزكي من يشاء تنبيه على أن تزكيته هي المعتد بها دون تزكية غيره، فإنه العالم بما ينطوي عليه الإنسان من حسن وقبيح، وقد ذمهم وزكى المرتضين من عباده المؤمنين.
تنبيه:

قال الزمخشري : يدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله، فإن قلت: أما قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: والله! إني لأمين في السماء، أمين في الأرض؟ قلت: إنما قال ذلك حين قال له المنافقون: اعدل في القسمة؛ إكذابا لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه، وشتان من شهد الله له بالتزكية ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم.

وقد ورد في ذم التمادح والتزكية أحاديث كثيرة، منها:

عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يثني على رجل ويطريه في المدح فقال: أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل متفق عليه.

وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - أن رجلا ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأثنى عليه رجل خيرا، [ ص: 1321 ] فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويحك! قطعت عنق صاحبك - يقوله مرارا - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكي على الله أحدا متفق عليه.

وعن همام بن الحارث، عن المقداد - رضي الله عنه - أن رجلا جعل يمدح عثمان - رضي الله عنه - فعمد المقداد فجثا على ركبتيه، فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان : ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب رواه مسلم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا معتمر ، عن أبيه، عن نعيم بن أبي هند قال: قال عمر بن الخطاب : من قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: هو عالم فهو جاهل، ومن قال: هو في الجنة فهو في النار.

ورواه ابن مردويه من طريق موسى بن عبيدة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز ، عن عمر أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه، فمن قال إنه مؤمن فهو كافر، ومن قال هو عالم فهو جاهل، ومن قال هو في الجنة فهو في النار.

وروى الإمام أحمد ، عن معبد الجهني قال: كان معاوية قلما كان يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وكان قلما يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح .

وروى ابن ماجه عنه: إياكم والتمادح فإنه الذبح .

وروى ابن جرير بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: إن الرجل ليغدو بدينه، ثم [ ص: 1322 ] يرجع وما معه منه شيء، يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرا فيقول له: والله! إنك لذيت وذيت فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء، وقد أسخط الله عليه، ثم قرأ: ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم الآية.

ولا يظلمون فتيلا عطف على جملة قد حذفت؛ تعويلا على دلالة الحال عليها، وإيذانا بأنها غنية عن الذكر، أي: يعاقبون بتلك الفعلة القبيحة ولا يظلمون في ذلك العقاب فتيلا، أي: أدنى ظلم وأصغره، والفتيل الخيط الذي في شق النواة، أو ما يفتل بين الأصابع من الوسخ، يضرب به المثل في القلة والحقارة، وقيل: التقدير: يثاب المزكون ولا ينقص من ثوابهم شيء أصلا، ولا يساعده مقام الوعيد، قاله أبو السعود .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #227  
قديم 05-08-2022, 12:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1323 الى صـ 1330
الحلقة (227)


القول في تأويل قوله تعالى:

انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا [50]

انظر كيف يفترون على الله الكذب أي: في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقولهم: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى [البقرة: من الآية 111] وقولهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة [البقرة: من الآية 80] واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة، وقد حكم الله أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئا في قوله: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم [البقرة: من الآية 134] الآية.

[ ص: 1323 ] قال العلامة أبو السعود : (كيف) نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال، والعامل (يفترون) وبه تتعلق (على) أي: في حال أو على أي حال يفترون عليه تعالى الكذب، والمراد بيان شناعة تلك الحال وكمال فظاعتها، والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض و(النظر) متعلق بهما، وهو تعجيب إثر تعجيب، وتنبيه على أن ما ارتكبوه متضمن لأمرين عظيمين موجبين للتعجيب: ادعاؤهم الاتصاف بما هم متصفون بنقيضه، وافتراؤهم على الله سبحانه، فإن ادعاءهم الزكاء عنده تعالى متضمن لادعائهم قرب الله وارتضاءه إياهم، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولكون هذا أشنع من الأول جرما، وأعظم قبحا لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية من قول الكفر وارتضائه لعباده، ومغفرة كفر الكافر وسائر معاصيه - وجه النظر إلى كيفيته تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب، والتصريح بالكذب - مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا - للمبالغة في تقبيح حالهم.

وكفى به أي: بافترائهم هذا من حيث هو افتراء عليه تعالى مع قطع النظر عن مقارنته لتزكية أنفسهم وسائر آثامهم العظام إثما مبينا ظاهرا بينا كونه إثما، والمعنى: كفى ذلك وحده في كونهم أشد إثما من كل كفار أثيم، أو في استحقاقهم لأشد العقوبات، ثم حكى تعالى عن اليهود نوعا آخر من المكر، وهو أنهم كانوا يفضلون عبدة الأصنام على المؤمنين؛ تعصبا وعنادا بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا [51]

ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب أي: علما بالتوراة الداعية إلى التوحيد وترجيح أهله، والكفر بالجبت والطاغوت، ووصفهم بما ذكر من إيتاء النصيب لما مر من منافاته [ ص: 1324 ] لما صدر عنهم من القبائح.

يؤمنون بالجبت والطاغوت الجبت يطلق لغة على الصنم والكاهن والساحر والسحر، والذي لا خير فيه، وكل ما عبد من دون الله تعالى، وكذا الطاغوت، فيطلق على الكاهن والشيطان وكل رأس ضلال، والأصنام، وكل ما عبد من دون الله، ومردة أهل الكتاب، كما في القاموس.

ويقولون للذين كفروا أي: أشركوا بالله، وهم كفار مكة، أي: لأجلهم وفي حقهم: هؤلاء يعنونهم أهدى من الذين آمنوا بالله وحده: سبيلا أي: أرشد طريقة، وإيرادهم بعنوان الإيمان ليس من قبل القائلين، بل من جهة الله تعالى؛ تعريفا لهم بالوصف الجميل، وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح القبائح.
القول في تأويل قوله تعالى:

أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا [52]

أولئك الذين لعنهم الله أي: أبعدهم عن رحمته وطردهم ومن يلعن الله أي: يبعده عن رحمته فلن تجد له نصيرا يدفع عنه العذاب دنيويا كان أو أخرويا، لا بشفاعة ولا بغيرها.

قال الرازي : إنما استحقوا هذا اللعن الشديد لأن الذي ذكروه من تفضيل عبدة الأوثان على الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - يجري مجرى المكابرة، فمن يعبد غير الله كيف يكون أفضل حالا ممن لا يرضى بمعبود غير الله؟!! ومن كان دينه الإقبال بالكلية على خدمة الخالق والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة كيف يكون أقل حالا ممن كان بالضد في كل هذه الأحوال؟!!

وقد روى الإمام أحمد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية، قال: أنتم خير، قال فنزلت فيهم: إن شانئك هو الأبتر [الكوثر: 3] [ ص: 1325 ] ونزل: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى: نصيرا

وقال الإمام ابن إسحاق - رضي الله عنه -: حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو رافع ، والربيع بن أبي الحقيق، وأبو عامر، ووحوح بن عامر، وهودة بن قيس.

فأما وحوح وأبو عامر وهودة فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير ، فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتاب الأول، فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم فقالوا: دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه، فأنزل الله عز وجل: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى قوله عز وجل: وآتيناهم ملكا عظيما وهذا لعن لهم، وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم وجاؤوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حول المدينة الخندق فكفى الله شرهم ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا [الأحزاب: من الآية 25].
القول في تأويل قوله تعالى:

أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا [53]

أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا لما ذم سبحانه اليهود بتزكيتهم أنفسهم وتفضيل المشركين على الموحدين - شرع في تفصيل بعض آخر من مثالبهم، وهو وصفهم بالبخل والحسد اللذين هما شر خصلتين.

و(أم) منقطعة، والهمزة لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك، والفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف، أي: لو كان لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون أحدا مقدار نقير لفرط بخلهم.

و(النقير) النقرة في ظهر النواة [ ص: 1326 ] وهو مثل في القلة والحقارة، كالفتيل والقطمير، والمراد بالملك إما ملك أهل الدنيا وإما ملك الله، كقوله تعالى: قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق [الإسراء: من الآية 100].

وقال أبو السعود : وهذا هو البيان الكاشف عن كنه حالهم، وإذا كان شأنهم كذلك وهم ملوك فما ظنك بهم وهم أذلاء متنافرون؟

ويجوز أن لا تكون الهمزة لإنكار الوقوع بل لإنكار الواقع والتوبيخ عليه، أي: لعده منكرا غير لائق بالوقوع، على أن الفاء للعطف، والإنكار متوجه إلى مجموع المعطوفين على معنى: ألهم نصيب وافر من الملك حيث كانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك فلا يؤتون الناس مع ذلك نقيرا؟ كما تقول لغني لا يراعي أباه: ألك هذا القدر من المال فلا تنفق على أبيك شيئا؟

وفائدة (إذن) تأكيد الإنكار والتوبيخ، حيث يجعلون ثبوت النصيب سببا للمنع مع كونه سببا للإعطاء، وهي ملغاة عن العمل، كأنه قيل: فلا يؤتون الناس إذن، وقرئ: (فإذن لا يؤتوا) بالنصب على إعمالها.
القول في تأويل قوله تعالى:

أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما [54]

أم يحسدون الناس منقطعة أيضا مفيدة للانتقال من توبيخهم بما سبق - أعني البخل - إلى توبيخهم بالحسد، وهما شر الرذائل كما قدمنا، وكأن بينهما تلازما وتجاذبا، واللام في (الناس) للعهد والإشارة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين.

وروى الطبراني بسنده، عن ابن عباس في هذه الآية قال: نحن الناس دون الناس، والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه.

[ ص: 1327 ] قال الرازي : وإنما حسن ذكر الناس لإرادة طائفة معينة من الناس؛ لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية كما قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات: 56] فلما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ومن كان على دينه - كان هو وأصحابه كأنهم كل الناس، فلهذا حسن إطلاق لفظ (الناس) وإرادتهم على التعيين على ما آتاهم الله من فضله وهو النبوة والكتاب والرشد وازدياد العز والنصر يوما فيوما، وقوله تعالى: فقد آتينا تعليل للإنكار والاستقباح، وإلزام لهم بما هو مسلم عندهم، وحسم لمادة حسدهم واستبعادهم المبنيين على توهم عدم استحقاق المحسود لما أوتي من الفضل ببيان استحقاقه له بطريق الوراثة كابرا عن كابر، وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر، والمعنى: إن حسدهم المذكور في غاية القبح والبطلان؛ فإنا قد آتينا من قبل هذا: آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد - صلى الله عليه وسلم - وأبناء أعمامه: الكتاب والحكمة النبوة: وآتيناهم ملكا عظيما لا يقادر قدره، فكيف يستبعدون نبوته ويحسدونه على إيتائها؟! أفاده أبو السعود .

قال الرازي : إن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة ، فكلما كانت فضيلة الإنسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم، ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين ، ثم إنه تعالى أعطاها لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وضم إليها أنه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصارا وأعوانا، فلما كانت هذه النعم سببا لحسد هؤلاء بين تعالى ما يدفع ذلك فقال: فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما والمعنى: أنه حصل في أولاد إبراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدونهم، فلم تتعجبون من حال محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم تحسدونه؟!!
القول في تأويل قوله تعالى:

[ ص: 1328 ] فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا [55]

فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه حكاية لما صدر عن أسلافهم، أي: فمن جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم من آمن بما أوتي آل إبراهيم، ومنهم من كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه، وهو منهم ومن جنسهم، أي: من بني إسرائيل، وقد اختلفوا عليه، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل؟ فالكفرة منهم أشد تكذيبا لك وأبعد عما جئتهم به من الهدى والحق المبين، وفيه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك ديدنهم المستمر.

وكفى بجهنم سعيرا أي: نارا مسعرة يعذبون بها على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله، ثم أخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما [56]

إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا أي: عظيمة هائلة كلما نضجت جلودهم أي احترقت احتراقا تاما بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب أي: ليدوم لهم، وذلك أبلغ في العذاب للشخص؛ لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في المحترق.
تنبيه:

لهم في التبديل وجهان:

الأول: أنه تبديل حقيقي مادي، فيخلق مكانها جلود أخر جديدة مغايرة للمحترقة.

الثاني: أنه تبديل وصفي: أي: أعدنا الجلود جديدة مغايرة للمحترقة [ ص: 1329 ] صورة، وإن كانت عينها مادة، بأن يزال عنها الاحتراق ليعود إحساسها للعذاب، فلم تبدل إلا صفتها، لا مادتها الأصلية، وفيه بعد؛ إذ يأباه معنى التبديل.

وقال الرازي : يمكن أن يقال: هذه استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع، كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام: كلما انتهى فقد ابتدأ، وكلما وصل إلى آخره فقد ابتدأ من أوله، فكذا قوله: كلما نضجت جلودهم الآية، يعني: كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة، بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه. انتهى.

وهذا أبعد مما قبله، إذ ليس لنا أن نعدل في كلام الله تعالى عن الحقيقة إلى المجاز، إلا عند الضرورة، لا سيما وقد روي عن السلف - صحابة وتابعين - أنهم يبدلون في اليوم أو الساعة مرات عديدة، كما رواه ابن جرير وغيره مفصلا.

إن الله كان عزيزا لا يمتنع عليه ما يريد حكيما فيما يقضيه، ومنه هذا التبديل، إذ لا يتم تخليد العذاب الموعود على الكفر الذي لا ينزجرون عنه بالعذاب المنقطع وعدا لا بد من إيفائه، ثم بين مآل أهل السعادة فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا [57]

والذين آمنوا أي: بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن وجملة الكتب والرسل وعملوا الصالحات أي: الطاعات فيما بينهم وبين ربهم بالإخلاص سندخلهم أي: في الآخرة جنات أي: بساتين تجري من تحتها أي: من تحت شجرها وصورها الأنهار [ ص: 1330 ] أي: أنهار الخمر واللبن والعسل والماء.

خالدين فيها أبدا أي: مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها لهم فيها أي: الجنة أزواج مطهرة أي: من الحيض والنفاس والأذى والأخلاق الرذيلة والصفات الناقصة وندخلهم ظلا ظليلا أي: كنا كنينا لا تنسخه الشمس، ولا حر فيه ولا برد، و(ظليلا) صفة مشتقة من لفظ (الظل) لتأكيد معناه، كما يقال: ليل أليل، ويوم أيوم.

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها .

وفيهما أيضا من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: يسير الراكب في ظلها مائة سنة ما يقطعها .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #228  
قديم 05-08-2022, 12:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1331 الى صـ 1338
الحلقة (228)


القول في تأويل قوله تعالى:

إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا [58]

إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع.

[ ص: 1331 ] قال أبو السعود : في تصدير الكلام بكلمة التحقيق، وإظهار الاسم الجليل، وإيراد الأمر على صورة الإخبار - من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال به والدلالة على الاعتناء بشأنه ما لا مزيد عليه، وهو خطاب يعم حكمه المكلفين قاطبة، كما أن الأمانات تعم جميع الحقوق المتعلقة بذممهم: من حقوق الله تعالى وحقوق العباد، سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية، وإن ورد في شأن عثمان بن طلحة . انتهى.

أي لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر في الأصول، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار، كما قال ابن المنذر.

وفي حديث سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك رواه الإمام أحمد وأهل السنن.

قال الحافظ ابن كثير : وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري حاجب الكعبة المعظمة، وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم.

أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة ، هو وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص ، وأما عمه عثمان بن طلحة بن أبي طلحة فكان معه لواء المشركين يوم أحد، وقتل يومئذ كافرا.

وإنما نبهنا على هذا النسب؛ لأن كثيرا من المفسرين قد يشتبه عليه هذا بهذا.

وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة يوم [ ص: 1332 ] الفتح ثم رده عليه.

وقال محمد بن إسحاق في غزوة الفتح: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء إلى البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له، فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس في المسجد.

قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج .

وذكر بقية الحديث في خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ، إلى أن قال: ثم جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال [له]: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء .

وروى ابن جرير ، عن ابن جريج في الآية قال: نزلت في عثمان بن أبي طلحة، قبض منه النبي - صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة، ودخل به البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فدعا عثمان إليه، فدفع إليه المفتاح.

قال: وقال عمر بن الخطاب (لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكعبة وهو يتلو هذه الآية: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) فداه أبي وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك.

قال السيوطي : ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة. انتهى.

[ ص: 1333 ] وعن محمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وشهر بن حوشب أن هذه الآية نزلت في الأمراء، يعني الحكام بين الناس.

وقال السيوطي في "الإكليل": في هذه الآية وجوب رد كل أمانة من وديعة وقراض وقرض وغير ذلك، واستدل المالكية بعموم الآية على أن الحربي إذا دخل دارنا بأمان فأودع وديعة ثم مات أو قتل أنه يجب رد وديعته إلى أهله، وأن المسلم إذا استدان من الحربي بدار الحرب ثم خرج يجب وفاؤه، وأن الأسير إذا ائتمنه الحربي على شيء لا يجوز له أن يخونه، وعلى أن من أودع مالا وكان المودع خانه قبل ذلك فليس له أن يجحده كما جحده، ويوافق هذه المسألة حديث: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في هذه الآية قال: مبهمة للبر والفاجر، يعني عامة.

وقد أخرج ابن جرير وغيره أنها نزلت في شأن مفتاح الكعبة، لما أخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - من عثمان بن طلحة ، واختار ما رواه علي وغيره أنها خطاب لولاة المسلمين، أمروا بأداء الأمانة لمن ولوا عليه، فيستدل بالآية على أن على الحكام والأئمة ونظار الأوقاف أداء الحقوق المتعلقة بذممهم من تولية المناصب وغيرها إلى من يستحقها، كما أن قوله تعالى: وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل أمر لهم بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها، وحيث كان المأمور به ههنا مختصا بوقت المرافعة قيد به، بخلاف المأمور به أولا، فإنه لما لم يتعلق بوقت دون وقت أطلق إطلاقا، وأصل العدل هو المساواة في الأشياء، فكل ما خرج من الظلم والاعتداء سمي عدلا.

روى الإمام مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا .

[ ص: 1334 ] وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم عنده مجلسا: إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر .

وروى الحاكم والبيهقي بسند صحيح، عن ابن أبي أوفى ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تبرأ الله منه وألزمه الشيطان .

قال الإمام ابن تيمية - رضي الله عنه - في رسالته "السياسة الشرعية" بعد الخطبة: هذه الرسالة مبنية على آية الأمراء في كتاب الله تعالى، وهي قوله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها الآية.

قال العلماء: نزلت في ولاة الأمور عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ثم قال: وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة، ثم قال: أما أداء الأمانات ففيه نوعان:

أحدهما: الولايات وهو كان سبب نزول الآية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة وطلبها العباس ليجمع له بين سقاية الحاج وسدانة البيت فأنزل الله هذه الآية، فرد مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة، فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل.

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين رواه الحاكم في صحيحه.

وفي رواية: من قلد رجلا عملا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين .

وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين ، فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار، من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاء، ومن أمراء الأجناد ومقدمي [ ص: 1335 ] العساكر الكبار والصغار وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات، وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده، وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين والمقرئين والمعلمين وأمراء الحاج والبرد وخزان الأموال ونقباء العساكر الكبار والصغار، وعرفاء القبائل والأسواق.

على كل من ولي شيئا من أمور المسلمين من الأمراء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده - في كل موضع - أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب أو سبق في الطلب، بل ذلك سبب المنع، فإن في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن قوما دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه .

وقال لعبد الرحمن بن سمرة : يا عبد الرحمن ! لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها من مسألة وكلت إليها أخرجاه في الصحيحين.

[ ص: 1336 ] وقال: من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه، ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله إليه ملكا يسدده رواه أهل السنن.

فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما، أو ولاه عتاقة أو صداقة أو موافقة في مذهب أو بلد أو طريقة أو جنس، كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من ماله أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما - فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون [الأنفال: 27].

ثم قال الله تعالى: واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم [الأنفال: 28] فإن الرجل لحبه لولده أو عتيقه قد يؤثره في بعض الولايات أو يعطيه ما لا يستحقه فيكون قد خان أمانته، وكذلك قد يؤثر زيادة حفظه أو ماله بأخذ ما لا يستحقه أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته، ثم إن المؤدي الأمانة - مع مخالفة هواه - يثيبه الله فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه بنقيض قصده، فيذل أهله ويذهب ماله، وفي ذلك الحكاية المشهورة: إن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدث بما أدرك، فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز فقيل له: يا أمير المؤمنين! أفقرت أفواه بنيك من هذا المال وتركتهم فقراء لا شيء لهم - وكان في مرض موته - فقال: أدخلوهم علي، فأدخلوهم وهم بضعة عشر ذكرا، ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه ثم قال: والله يا بني ما منعتكم حقا هو لكم، ولم أكن بالذي [ ص: 1337 ] آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فلا أخلف له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني.

قال: ولقد رأيت بعض ولده حمل على مائة في سبيل الله، يعني أعطاها لمن يغزو عليها.

قلت: هذا وقد كان خليفة المسلمين من أقصى المشرق ببلاد الترك إلى أقصى المغرب بالأندلس وغيرها من جزيرة قبرص وثغور الشام والعواصم كطرسوس ونحوها إلى أقصى اليمن ، وإنما أخص كل واحد من أولاده من تركته شيئا يسيرا، يقال: أقل من عشرين درهما.

قال: وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه، فأخذ كل واحد ستمائة ألف دينار، ولقد رأيت بعضهم يتكفف الناس، أي: يسألهم بكفه، وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان والمسموعة عما قبله عبرة لكل ذي لب.

وقد دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن الولاية أمانة يجب أداؤها في موضع مثل ما تقدم، ومثل قوله لأبي ذر - رضي الله عنه - في الإمارة: إنها أمانة، وإنها يوم القيامة حسرة وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيما رواه مسلم .

وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا [ ص: 1338 ] ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قيل: يا رسول الله! وما إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة .

وقد أجمع المسلمون على هذا.

ثم قال ابن تيمية رحمه الله:

القسم الثاني: أمانات الأموال كما قال تعالى في الديون: فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه [البقرة: من الآية 283] ويدخل في هذا القسم الأعيان والديون الخاصة والعامة، مثل رد الودائع ومال الشريك والموكل والمضارب ومال المولى من اليتيم وأهل الوقف ونحو ذلك، وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات وبدل القرض وصدقات النساء وأجور المنافع ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى: إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم - إلى قوله -: والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون [المعارج: 32] وقال تعالى: إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما [النساء: 105] أي: لا تخاصم عنهم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #229  
قديم 05-08-2022, 12:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1339 الى صـ 1346
الحلقة (229)


[ ص: 1339 ] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله وهو حديث صحيح، بعضه في الصحيحين وبعضه في سنن الترمذي .

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله رواه البخاري .

[ ص: 1340 ] وإذا كان الله تعالى قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق ففيه تنبيه على وجوب أداء الغصب والسرقة والخيانة ونحو ذلك من المظالم، وكذلك أداء العارية، ولينظر تتمة هذا البحث في الرسالة المذكورة، فإن الوقوف عليها من المهمات.

إن الله نعما يعظكم به أي: نعم ما يأمركم به من أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة، و(ما) إما منصوبة موصوفة بـ (يعظكم) أو مرفوعة موصولة، كأنه قيل نعم شيئا يعظكم به، أو نعم الشيء الذي يعظكم به، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها متضمنة لمزيد لطف بالمخاطبين وحسن استدعائهم إلى الامتثال بالأمر.

إن الله كان سميعا لأقوالكم في الأمانات والأحكام بصيرا بأفعالكم فيها، فإن سمع ورأى خيرا جازاكم عليه خير الجزاء، وإن سمع ورأى شرا جازاكم عليه، فهو وعد ووعيد.

وروى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي يونس قال: سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها إلى قوله: سميعا بصيرا ويضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه ويقول: هكذا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها ويضع إصبعه.

وقال أبو زكريا : وصفه لنا المقري ووضع أبو زكريا إبهامه الأيمن على عينه اليمنى، والتي تليها على الأذن اليمنى، وأرانا، فقال: هكذا، وهكذا، رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وابن مردويه في تفسيره.

وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة ، واسمه سليم بن جبير ، أفاده ابن كثير .
القول في تأويل قوله تعالى:

يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [59]

يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ ص: 1341 ] اعلم أنه تعالى لما أمر الرعاة والولاة بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل أمر الرعية من الجيوش وغيرهم بطاعة أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

قال الرازي : قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا، وقد روى الطبري بسند صحيح عن أبي هريرة : إن أولي الأمر هم الأمراء.

واحتج له الشافعي بأن قريشا ومن يليها من العرب كانوا لا يعرفون الإمارة ولا ينقادون إلى أمير، فأمروا بالطاعة لمن ولي الأمر، والانقياد له إذا بعثهم في السرايا، وإذا ولاهم البلاد فلا يخرجوا عليهم ولا يمتنعوا عليهم؛ لئلا تفترق الكلمة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: من أطاع أميري فقد أطاعني متفق عليه.

وفي البخاري عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سرية.

قال ابن كثير : وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه ، وقال الترمذي : حديث حسن غريب، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج .

[ ص: 1342 ] وروى الطبري عن السدي أنها نزلت في قصة جرت لعمار بن ياسر مع خالد بن الوليد، وكان خالد أميرا، فأجاز عمار رجلا بغير أمره، فتخاصما وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجبر الثانية على أمير.

قال ابن كثير : وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من طريق عن السدي مرسلا، ورواه ابن مردويه عن السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس ، فذكره بنحوه، اهـ.

ولا تنافي بين الروايتين لما أسلفناه في مقدمة التفسير في بحث سبب النزول، فتذكر.

[ ص: 1343 ] وقال الزمخشري : المراد بأولي الأمر منكم أمراء الحق؛ لأن أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما والنهي عن أضدادهما، كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان، وكان الخلفاء يقولون: أطيعوني ما عدلت فيكم فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم.

وفي الصحيحين عن علي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما الطاعة في المعروف .

وروى الإمام أحمد ، عن عمران بن حصين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا طاعة في معصية الله .

لطيفة:

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": النكتة في إعادة العامل في الرسول دون أولي الأمر - مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى - كون الذي يعرف به ما يقع به التكليف هما القرآن والسنة، فكان التقدير: وأطيعوا الله فيما قضى عليكم في القرآن، وأطيعوا الرسول فيما بين لكم من القرآن وما ينصه عليكم من السنة، والمعنى: أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن.

[ ص: 1344 ] ومن بديع الجواب قول بعض التابعين لبعض الأمراء من بني أمية - لما قال له: أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله: وأولي الأمر منكم ؟ - فقال له: أليس قد نزعت عنكم - يعني الطاعة - إذا خالفتم الحق بقوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله ؟!

قال الطيبي: أعاد الفعل في قوله: وأطيعوا الرسول إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة، ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته، ثم بين ذلك بقوله: فإن تنازعتم في شيء كأنه قيل: فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعونهم وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله. انتهى. (ج13 ص99).
تنبيه:

يشمل عموم قوله: وأولي الأمر العلماء، كما روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه يعني أهل الفقه والدين، وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية، وهذا ليس قولا ثانيا في الآية بل هو مما يشمله لفظها، فهي عامة في أولي الأمر من الأمراء والعلماء وإن نزلت على سبب خاص، وقد كثرت الأوامر بطاعة العلماء كالأمراء ، قال تعالى: لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت [المائدة: من الآية 63] وقال تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [النحل: من الآية 43] وقال تعالى: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [النساء: من الآية 83].

وفي الحديث [ ص: 1345 ] الصحيح المتفق على صحته عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني .

وروى أبو داود، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة .

وروى البخاري، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة والأحاديث في هذا كثيرة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - تعالى في كتابه "الحسبة في الإسلام": وقد أمر الله تعالى في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر من المؤمنين، وأولو الأمر أصحاب الأمر وذووه وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين:

العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه (للأحمسية لما سألته ما بقاؤنا [ ص: 1346 ] على هذا الأمر) قال: ما استقامت لكم أئمتكم، ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان، وكل من كان متبوعا فإنه من أولي الأمر، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى عنه، وعلى كل واحد ممن له عليه طاعة أن يطيعه في طاعة الله ولا يطيعه في معصية الله، كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - حين تولى أمر المسلمين وخطبهم، فقال في خطبته: أيها الناس! القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #230  
قديم 05-08-2022, 12:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1347 الى صـ 1354
الحلقة (230)


فإن تنازعتم أي: اختلفتم أنتم وأولو الأمر في شيء من الأحكام فردوه إلى الله أي: فارجعوا فيه إلى كتابه: والرسول بالسؤال منه في زمانه - صلى الله عليه وسلم - والرجوع إلى سننه بعده لا إلى ما تهوون ولا إلى ما يهواه الحكام إن كنتم تؤمنون بالله الواضع لشرائع العدل واليوم الآخر الذي يجازى فيه الموافق والمخالف لتلك الشرائع ذلك أي: الرد إلى كتاب الله وسنة الرسول والرجوع إليهما في فصل النزاع [ ص: 1347 ] خير أي: لكم ولحكامكم وأصلح وأحسن تأويلا أي: عاقبة ومآلا، كما قاله السدي وغير واحد، وقال مجاهد: وأحسن جزاء، وهو قريب.

قال الحافظ ابن كثير : هذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [الشورى: من الآية 10] فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك - فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر. انتهى.
تنبيهات:

الأول: قال البيضاوي : إن قوله تعالى: فإن تنازعتم يؤيد أن المراد بأولي الأمر الأمراء لا العلماء، قال: إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه بخلاف المرؤوس، ثم قال: إلا أن يقال: الخطاب لأولي الأمر على طريقة الالتفات، وتابعه أبو السعود .

قال الخفاجي: وجه التأييد أن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء، إذ المراد بهم المجتهدون، والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم، والمراد بالمرؤوس (على وزن المفعول) العامة التابعة للرائس والرئيس، فإذا كان الخطاب في (تنازعتم) لأولي الأمر على الالتفات صح إرادة العلماء؛ لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضا مجادلة ومحاجة، فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل. انتهى.

وفي قوله: (إذ ليس للمقلد إلخ) ما ستراه.

[ ص: 1348 ] الثاني: فهم كثير من الناس والمفسرين أيضا أن طاعة أولي الأمر العلماء تقليدهم فيما يفتون به، وهو غلط، قال الإمام ابن القيم في "أعلام الموقعين" في:

فصل

في عقد مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة منقاد للحق حيث كان

قال المقلد: وقد أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر - وهم العلماء، أو العلماء والأمراء - وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به، فإنه لولا التقليد لم يكن هناك طاعة تختص بهم، قال: وجوابه أن أولي الأمر قيل: هم الأمراء، وقيل: هم العلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد، والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين، وطاعتهم من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن خفي على المقلدين أنهم يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيثار التقليد عليها؟!

ثم قال ابن القيم: إن هذه الآية من أكبر الحجج عليهم وأعظمها إبطالا للتقليد، وذلك من وجوه:

أحدها: الأمر بطاعة الله التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه.

الثاني: طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون العبد مطيعا لله ولرسوله حتى يكون عالما بأمر الله تعالى ورسوله، وأما من هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - البتة.

الثالث: أن أولي الأمر قد نهوا عن تقليدهم، كما صح ذلك عن معاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وغيرهم من الصحابة، وذكرناه عن الأئمة الأربعة وغيرهم، وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة بطل التقليد، وإن لم تكن واجبة بطل الاستدلال.

الرابع: أنه سبحانه وتعالى قال في الآية نفسها: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وهذا صريح في إبطال التقليد والمنع من رد المتنازع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد، فإن قيل: فما هي طاعتهم المختصة بهم؟

[ ص: 1349 ] فإن كانت الطاعة فيما يخبرون به عن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كانت الطاعة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا لهم، قيل: هذا هو الحق، وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال، ولهذا قرنها بطاعة الرسول، وأعاد العامل لئلا يتوهم أنه إنما يطاع تبعا كما يطاع أولو الأمر تبعا، وليس كذلك، بل طاعته واجبة استقلالا، كان ما أمر به أو نهى عنه في القرآن أو لم يكن. انتهى.

وقال رحمه الله تعالى قبل ذلك: إن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله تعالى وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم، وسلكوا ضد طريق أهل العلم، أما أمر الله تعالى فإنه أمر أن يرد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله، والمقلدون قالوا: إنما نرده إلى من قلدناه.

وأما أمر رسوله فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين، وأمر أن يتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ، وقال المقلدون: بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلدناه ونقدمه على كل ما عداه.

وأما هدي الصحابة - رضي الله عنهم - فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن شخص واحد يقلد رجلا في جميع أقواله ويخالف من عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئا ولا يقبل من أقوالهم شيئا، وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث.

وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه، كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال خلفائه الراشدين، فما وافق ذلك منها قبلوه ودانوا الله تعالى به، وقبضوا به وأفتوا به، وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه، وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع لا واجبة الاتباع، من غير أن يلزموا بها أحدا ولا يقولوا إنها الحق دون ما خالفها، هذه طريقة أهل العلم سلفا وخلفا، وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع الدين، فزيفوا كتاب الله سبحانه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال خلفائه وجميع أصحابه، وعرضوها على أقوال من قلدوه فما وافقها منها قالوا: لنا، وانقادوا له مذعنين، وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا: احتج الخصم [ ص: 1350 ] بكذا وكذا، ولم يقبلوه ولم يدينوا به، واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن، وتطلبوا لها وجوه الحيل التي يرونها، حتى إذا كانت موافقة لمذهبهم، وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها، شنعوا على منازعهم وأنكروا عليهم ردها بمثل تلك الوجوه بعينها، وقالوا: لا ترد النصوص بهذا، ومن له همة تسمو إلى الله ومرضاته، ونصر الحق الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم - أين كان ومع من كان - لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخلق الذميم. انتهى.

الثالث: إن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: فردوه إلى الله والرسول أي: فوضوا علمه إلى الله واسكتوا عنه ولا تتعرضوا له؟ وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد فردوا هذه الأحكام إلى البراءة الأصلية؟

قلنا: أما الأول فمدفوع، وذلك لأن هذه الآية دلت على أنه تعالى جعل الوقائع قسمين:

منها ما يكون حكمها منصوصا عليه، ومنها ما لا يكون كذلك، ثم أمر في القسم الأول بالطاعة والانقياد، وأمر في القسم الثاني بالاجتهاد فيه، وهو الرد إلى الله وإلى الرسول ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الرد السكوت؛ لأن الواقعة بما كانت لا تحتمل ذلك، بل لا بد من قطع للشغب والخصومة فيها، بنفي أو إثبات، وإذا كان كذلك امتنع حمل الرد إلى الله على السكوت عن تلك الواقعة.

وأما السؤال الثاني: فجوابه أن البراءة الأصلية معلومة بحكم العقل، فلا يكون رد الواقعة إليها ردا إلى الله بوجه من الوجوه، أما إذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها كان هذا ردا للواقعة على أحكام الله تعالى، فكان حمل اللفظ على هذا الوجه أولى: أفاده الرازي .

الرابع: استدل مثبتو القياس بقوله تعالى: فردوه إلى الله إلخ قالوا: معنى الآية: فإن تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة، فردوا حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له، وذلك هو القياس، قالوا: ولو كان المراد من قوله تعالى: فردوه إلى الله والرسول طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة - لكان داخلا تحت [ ص: 1351 ] قوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وهو إعادة لعين ماضي (كذا) وهو غير جائز.

وقد توسع الرازي في تقرير ذلك ههنا، كما توسع في أن قوله تعالى (وأولي الأمر) إشارة إلى الإجماع، فتكون الآية -بزعمه - دلت على الأصول الأربع، ولا يخفى ما في هذا التعمق من دقيق الاستنباط.

الخامس: قدمنا رواية البخاري في سبب نزول هذه الآية، وأن ابن عباس قال: نزلت في عبد الله بن حذافة.

قال الداودي (شارح الصحيح): هذا وهم على ابن عباس ، فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب عليهم، فأمرهم أن يوقدوا نارا ويقتحموها، فامتنع بعضهم وهم بعض أن يفعل.

قال: فإن كانت الآية نزلت قبل فكيف يخص عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره؟ وإن كانت نزلت بعد فإنما قيل لهم: إنما الطاعة في المعروف ، وما قيل لهم: لم لم تطيعوه؟ انتهى.

وأجاب الحافظ ابن حجر: أي: المقصود في قصته قوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لأنهم تنازعوا في امتثال ما أمرهم به، وسببه أن الذين هموا أن يعطوه وقفوا عند امتثال الأمر بالطاعة، والذين امتنعوا عارضه عندهم الفرار من النار، فناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع، وهو الرد إلى الله وإلى رسوله، أي: إن تنازعتم في جواز الشيء وعدم جوازه فارجعوا إلى الكتاب والسنة، والله أعلم.

ولما أوجب تعالى على جميع المكلفين أن يطيعوا الله ورسوله آثرها بأن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه، وإنما يريدون حكم غيره، فقال:
[ ص: 1352 ] القول في تأويل قوله تعالى:

ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [60]

ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك يعني القرآن وما أنـزل من قبلك يعني التوراة، ووصفهم بادعاء الإيمان بالقرآن وبما أنزل من قبله لتأكيد التعجيب من حالهم وتشديد التوبيخ والاستقباح، ببيان كمال المباينة بين دعواهم المقتضية - حتما - للتحاكم إلى الرسول وبين ما صدر عنهم من مخالفة الأمر المحتوم.

يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت الداعي إلى الطغيان بالحكم على خلاف المنزل إليك والمنزل على من قبلك، وتقدم قريبا معاني الطاغوت، والمراد به هاهنا ما سوى كتاب الله وسنة رسوله من الباطل.

وقد أمروا في جميع تلك الكتب أن يكفروا به أي: يتبرؤوا منه؛ لأنه تحاكم على خلاف ما أنزل الله في كتبه فيعصونه ويطيعون الشيطان ويريد الشيطان أي: من الجن والإنس أن يضلهم ضلالا بعيدا عن الحق والهدى.

وقوله: ويريد إلخ عطف على (يريدون) داخل في حكم التعجيب، فإن اتباعهم لمن يريد إضلالهم وإعراضهم عمن يريد هدايتهم أعجب من كل عجيب.
القول في تأويل قوله تعالى:

وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنـزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا [61]

وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنـزل الله أي: إلى حكم ما أنزل الله في القرآن الذي تدعون الإيمان به وإلى الرسول أي: حكمه رأيت المنافقين يصدون أي: يمنعون [ ص: 1353 ] خصومهم فيبعدونهم عنك صدودا بليغا؛ ليتمكنوا مما يريدونه بالرشوة.

وقوله تعالى: وإذا قيل إلخ تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم صريحا عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسوله إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت، وإظهار (المنافقين) في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق، وذمهم به، والإشعار بعلة الحكم.
تنبيه: في سبب نزولها

أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح، عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا إلى قوله: إلا إحسانا وتوفيقا

أقول: ثم أسلم أبو برزة وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - واسمه نضلة بن عبيد.

قال الحافظ ابن حجر في التقريب: صحابي مشهور بكنيته، أسلم قبل الفتح، وغزا سبع غزوات، ثم نزل البصرة ، وغزا خراسان ومات بها سنة خمس وستين على الصحيح. انتهى.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة، أو سعيد، عن ابن عباس قال: كان الجلاس بن الصامت، ومعتب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشر - يدعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية، فأنزل الله فيهم: ألم تر إلى الذين يزعمون الآية.

وأخرج ابن جرير ، عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك، أو قال: إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه قد علم أنه لا يأخذ الرشوة في الحكم، فاختلفا، واتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة، فنزلت، ولا تعارض لما أسلفناه في المقدمة في بحث سبب النزول، فتذكر.

[ ص: 1354 ] قال أبو مسلم الأصفهاني : ظاهر الآية يدل على أنه كان منافقا من أهل الكتاب، مثل: إنه كان يهوديا فأظهر الإسلام على سبيل النفاق؛ لأن قوله تعالى: يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك إنما يليق بمثل هذا المنافق. انتهى.

أقول: ما استظهره مناف لما أسلفناه مما روي في نزولها، على أن توصيفهم بالإيمان بـ(ما أنزل من قبل) لا يؤيد ما ذكره؛ لأن هذا كثيرا ما يذكر تنويها به وتثبيتا لركنيته في الإيمان، وتذكيرا له، كما لا يخفى على من سبر قاعدة التنزيل في أمثاله، فاعرفه.

مباحث

الأول: قال الحافظ ابن كثير : هذه الآية إنكار من الله - عز وجل - على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية، ثم ساق ما قدمناه وقال: الآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بـ(الطاغوت) ههنا، وأعرضوا كالمستكبرين كما قال تعالى عن المشركين: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنـزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا [البقرة: من الآية 170] وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا [النور: من الآية 51] الآية.

الثاني: قال القاضي: يجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر، وعدم الرضا بحكم محمد - صلى الله عليه وسلم - كفر، ويدل عليه وجوه:




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 342.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 336.69 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (1.77%)]