شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 21 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4412 - عددالزوار : 849998 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3942 - عددالزوار : 386186 )           »          الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 53 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          غربة الدين في ممالك المادة والهوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          أهمية الوقت والتخطيط في حياة الشاب المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          الإسلام والغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          من أساليب تربية الأبناء: تعليمهم مراقبة الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          همسة في أذن الآباء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 50 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #201  
قديم 04-08-2022, 07:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي


شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصيام)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (196)

صـــــ(1) إلى صــ(20)



حكم صيام يوم الشك
[فإن لم يُرَ مع الصحو ليلة الثلاثين أصبحوا مفطرين]: وهذا بالإجماع؛ فإن هذا اليوم هو يوم الشك، وهو يوم يحرم صومه، ويوم الشك هو يوم الثلاثين، وسمي يوم الشك لأن ليلته تحتمل أن تكون من رمضان، وتحتمل أن تكون من شعبان، واليوم نفسه يحتمل أن يكون من رمضان فيصام، ويحتمل أن يكون من شعبان، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه ) وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه وعن أبيه أنه قال: ( من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ) وهذا يدل على أنه يحرم صيام يوم الشك.
والعلماء مجمعون من حيث الأصل على كراهة الصوم، واختلفوا في التحريم، فكانت أسماء و عائشة رضي الله عنهن يرين الجواز، وأنه لا حرج على الإنسان أن يصوم يوم الشك، ويُعتذر لهما بعدم علمهما بالحديث الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم فيه عن صوم يوم الشك، وقال بعض العلماء: يجوز صومه مع الكراهة، ولكن ظاهر الحديث أنه حرام وأنه لا يجوز أن يصام، بل قال بعض العلماء: إنه يأثم بدل أن يؤجر.
وهذا هو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين ) وهذا نهي، والأصل في النهي أنه يدل على التحريم.
قال العلماء: حرم النبي صلى الله عليه وسلم صيام يوم الشك؛ لأنه ذريعة للتنطع والغلو، ولما فيه من مشابهة أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب فرض عليهم صيام عدد معين من الأيام فزادوا فيها، فلما زادوا فيها ابتدعوا في دين الله ما ليس منه، وهذا على سبيل الشك والوسوسة.
وقال بعض العلماء: إنما حرم صيام يوم الشك لما فيه من إدخال الوسوسة على الناس، وبناء الشريعة على الوسوسة؛ لأنه ليس من رمضان فيصومه وهو يعتقد أنه من رمضان، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه ) فدل على أنه غير قاصد لرمضان، فكأنه يستثنيه إذا لم يقصد أنه من رمضان، وهذا هو الأولى.
فالصحيح: أنه لا يجوز صيام يوم الشك، وأن صومه حرام على ظاهر النهي، إلا إذا وافق صوم إنسان، كأن يكون ممن اعتاد صيام الإثنين والخميس، فوافق يوم الشك يوم الإثنين أو يوم الخميس فإنه يصوم ولا حرج، أو يكون من عادته أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فأفطر يوم التاسع والعشرين ووافق أن الثلاثين شك وثبت أنه ليس من رمضان فإذا أحب أن يصومه؛ فحينئذٍ لا حرج.
وعلى هذا فإن الإنسان إذا كان من عادته أن يصوم أو نذر نذراً فإنه يصوم ولا حرج عليه، وأما ما عدا ذلك فإنه باق على الأصل الموجب للحرمة والمنع.
قوله: [وإن حال دونه غيم أو قتر فظاهر المذهب يجب صومه]: قوله: [وإن حال]: الحائل: هو الذي يمنع من رؤية الشيء، فإن حال بينه وبين رؤيته غيم أو قتر أو دخان -كأن يكون هناك دخان حريق ونحو ذلك فتملأ سحب الدخان السماء فتحجب رؤية الهلال، وخاصة إذا كان في جهة المغرب، أو كان هناك عجاج من غبار أو نحوه -فهذا كله على ظاهر المذهب- مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه أنه يصام.
والصحيح: أنه لا يصام كما هو مذهب الجمهور لما ذكرناه من السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [وإن رئي نهاراً فهو لليلة مقبلة]: رؤية الهلال نهاراً إما أن تكون قبل الزوال أو بعد الزوال، وقد اختلف السلف رحمة الله عليهم في رؤية الهلال نهاراً، فمنهم من قال: إذا رئي الهلال نهاراً قبل الزوال وجب قضاء هذا اليوم، وإذا رُئي بعد الزوال فإنه يكون لليلة التالية.
ومنهم من قال: إذا رئي قبل الزوال أو بعد الزوال فهو لليلة التالية، وهذا هو الصحيح كما هو مذهب الحنابلة والشافعية وطائفة من أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع: أنه إذا رئي في النهار سواءً قبل الزوال أو بعد الزوال فإنه لليلة القادمة، وأنه لا يعد دليلاً على أن يوم الشك من رمضان، والأصل في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صوموا لرؤيته ) فجعل الصيام على الكمال، فمعنى ذلك: أن الرؤية قد وقعت بالليل؛ لأنه لو رئي في النهار فلا يمكن الصيام، وعلى هذا فيكون قوله: (صوموا لرؤيته) يدل على أن الرؤية إنما تكون بالليل؛ ولأنه إذا رئي نهاراً فلا شك أنه أقرب إلى الليلة التي تلي من الليلة التي مضت باحتساب البداية لا باحتساب النهاية.
لزوم أهل كل بلد برؤيتهم للهلال
قوله: [وإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم صومه].
إذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس في ذلك البلد أن يصوموا، فمثلاً: إذا رئي في مكة فيلزم جميع أهل مكة الصيام، وإذا رئي في المدينة فيلزم جميع أهل المدينة وهكذا بالنسبة لبقية البلدان، فإذا رئي في موضع لزم أهله، لكن السؤال إذا تعددت الأمصار كأن تكون رؤيته في المشرق، فهل يصوم أهل المغرب برؤية أهل المشرق أو لا؟ للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: كل أهل بلد يرجعون إلى رؤيتهم، فمثلاً: أهل الجزيرة يرجعون إلى رؤيتهم؛ فإن رأوه لزمتهم الرؤية في خاصتهم ولا تلزم أهل الشام ولا أهل المغرب، ولا أهل المشرق، والعبرة في كل مصر وقطر بحسبه، وهذا دليله: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قدم عليه كريب من الشام، فسأل كريباً : ( متى رأيتم الهلال؟ فأخبره: أنهم رأوه ليلة الجمعة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لكنا رأيناه ليلة السبت، فقال: ألا تعتدوا برؤيتنا؟ فقال: لا.
هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
، ففصل رؤية بلده عن رؤية غيرهم، فقالوا: فهذا يدل على أن كل قطر ومنطقة بحسبها، وهذا هو الذي تدل عليه الرواية الصحيحة في قول ابن عباس رضي الله عنهما ويدل عليه الأصل؛ لأن المطالع مختلفة، والمنازل متباعدة، بل قد يكون الفرق بين البلدين بقدر يومين؛ فحينئذٍ يصعب أن تلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب.
ولما وجد التفاوت دل على أنه لا يمكن جعلهم بمثابة المكان الواحد، إذ لو قلت: إن قوله عليه الصلاة والسلام: ( صوموا لرؤيته ) على العموم، فمعنى ذلك: أن يصوم أهل الأرض كلهم برؤية بلد واحد بل برؤية قرية واحدة، وهذا لا شك أنه غير مراد؛ لأنه قد يكون اليوم في بلد في المشرق ثمانية وعشرين، ويكون في بلد في المغرب يوم ثلاثين، فيكون الفارق يومين، ولا يمكن بحال أن نقول لأهل يوم الثمانية والعشرين أن يصوموا برؤية الذين هم من بعدهم، وعلى هذا قالوا: إن كل بلد يعتد برؤيته.
القول الثاني: أن رؤية البلد الواحد رؤية للجميع، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) قالوا: وهذا يدل على أن الجميع تكون رؤيتهم واحدة.
القول الثالث التفصيل قالوا: إذا تقاربت الأماكن وكانت المنزلة واحدة فإنه يصام برؤية البلد الواحد والعكس بالعكس، وقالوا: لأنهم إذا كانوا في منزلة واحدة أمكننا أن نلزمهم بقوله: ( صوموا لرؤيته ) أي: نلزمهم بالعموم.
والذي يترجح -والعلم عند الله- أن لكل أهل بلد رؤيتهم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد من قوله: ( صوموا لرؤيته ) أن رؤية الرجل الواحد في البلد الواحد رؤية للجميع، وليس المراد: أنها رؤية لجميع من في الأرض، ولا يختلف اثنان أن النهار عند غيرنا قد يكون ليلاً عندنا، والنهار عندنا قد يكون ليلاً عند غيرنا، وأن الأماكن تتفاوت يوماً ويومين؛ ولذلك لا يمكننا أن نقول: إن حديث: ( صوموا لرؤيته ) على العموم.
قال العلماء: إن العموم قد يخصص بدلالة الحس، ويمثل علماء الأصول لهذا بقوله تعالى: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [الأحقاف:25] قالوا: وهذا العموم مخصص بالحس؛ لأنها ما دمرت كل شيء، فهي ما دمرت الأرض لأنه قال: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } [الأحقاف:25] وهذا عام يشمل كل شيء في الأرض، ومع ذلك قالوا: هذا العام مخصص بدلالة الحس وبدليل الوجود.
وكذلك أيضاً دليل الحس عندنا هنا، فإنه لا يمكننا أن نقول: إن رؤية بلد رؤية للجميع، وهذه المسألة يقع فيها خطأ كثير وخلط كبير، ولذلك تجد المسلمين في مشرق الأرض ينقسمون قرابة ثلاث فرق: فرقة تقول: نصوم مع بلد كذا، وفرقة، ففرقه تقول: نصوم مع بلد كذا، وفرقة تقول: لا نصوم لا بكذا ولا بغيره، بل نصوم برؤيتنا.
والصحيح الذي يظهر -والله أعلم- من خلال النصوص وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي تقطع النزاع: أن كل أهل بلد ملزمون بالرؤية، فإذا رأوا الهلال فالحمد لله، وحينئذٍ يلزمهم ما يلزم الرائي من صيام ذلك الشهر، وأما إذا لم يروا الهلال فإنهم باقون على الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) فإن غم الهلال فنجعل لكل بلد رؤيتهم، فمثلاً: يتراءاه أهل المشرق وأهل المغرب كذلك، فإن ثبت عندهم جميعاً فبها ونعمت، وإن لم يثبت أكملوا العدة والكل على خير، أما لو قلنا: إن رؤية بلد هي رؤية لغيره، فإن ذلك سيكون سبباً في النزاع: هل نتبع هذا البلد، أو نتبع هذا البلد؟ وهل نعتد بهذه الرؤية أو بهذه الرؤية؟ فتقع فتن كثيرة بسبب جعل الرؤية الواحدة رؤية للجميع.
والذي يظهر من خلال السنة وخاصة حديث ابن عباس -الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل )- : (لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فصار تفسيراً لقوله: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) أي: صوموا -يا أهل الشام- لرؤيتكم، وصوموا -يا أهل الحجاز- لرؤيتكم، فجعل لكل أهل منطقة رؤيتهم، وهذا هو الذي يندفع به الإشكال ويزول به اللبس، وحينئذٍ إذا رأوا الهلال عملوا بالرؤية، وإذا لم يروه أكملوا العدة ثلاثين يوماً.
الأسئلة
حكم من مات وعليه صوم

السؤال
رجل مات وعليه صوم بعض أيام أفطرها في رمضان من غير عذر، فهل يجوز لورثته الصيام عنه ؟


الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فمن مات وعليه صوم سواء ترك ذلك متعمداً أو غير متعمد، فإنه يصوم عنه وليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صوم صام عنه وليه ) فهذا يدل على أنه يشرع أن يصوم الولي عن نيته، وهذا على العموم، سواءً كان الميت ترك الصيام ذلك متعمداً أو غير متعمد، والله تعالى أعلم.
حكم من أفطر أياماً من رمضان لا يعلم عددها

السؤال
رجل أفطر في رمضان سابق ولا يدري كم يوم أفطر فكيف يقضي؟

الجواب
من أفطر من رمضان أياماً لا يدري عددها، فإنه يبني على التقدير والخرص، نقول له: قدر، فلو قلنا: عشرة أيام؟ فقال: أكثر.
نقول: عشرين يوماً؟ قال: أكثر.
نقول: ثلاثين يوماً؟ قال: أكثر.
نقول: أربعين؟ قال: أكثر.
نقول: إذاً ستين؟ قال: لا أقل.
إذاً نقول: خمسين.
ولو قلنا: خمسين؟ فقال: كثير.
نقول: أربعين؟ قال: قليل.
إذاً: نقول: خمس وأربعون.
وهكذا حتى يصل إلى القدر الذي يغلب على ظنه أنه قد أصاب به القدر الواجب عليه، وهذا يسميه العلماء الرجوع إلى التقدير.
فإنه إذا تعذر علينا معرفة الحقيقة فإنه يرجع إلى التقدير، ويكلف الإنسان بالتقدير، والسبب في هذا: أن الشريعة تنزل التقدير منزلة اليقين عند تعذر الحساب، ولذلك شرع الخرص كما في النخل، وشرع في المزابنة لأنه يتعذر أن تنزل العرجون وتعلم ما بداخله، وهذا رفق من الله ويسر ورحمة بعباده، والله تعالى أعلم.

حكم من جامع زوجته وهو صائم تطوعاً


السؤال
ما حكم من جامع زوجته في النهار وهو صائم صوم تطوع؟


بالنسبة للجماع للعلماء رحمهم الله فيه وجهان: فبعضهم يقول: إن الصيام إذا وقع فيه الجماع تجب فيه الكفارة فرضاً كان أو نافلة، ومنهم من يقول: النافلة أمرها أخف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المتطوع أمير نفسه )، فإذا كان هذا المتنفل قبل أن يجامعها استشعر أنه يريد الفطر وأنه قد عزف عن صيامه وجامعها، فإنه لا شيء عليه، وهذا على ظاهر الحديث، كما لو أكل وشرب، والله تعالى أعلم.
حكم صيام ستٍ من شوال لمن عليه قضاء من رمضان

السؤال
هل يجوز لشخص عليه قضاء من رمضان أن يصوم ستاً من شوال قبل القضاء؟


الجواب
لا حرج أن يصوم الإنسان ستاً من شوال قبل أن يقضي رمضان، والسبب في ذلك: أن قضاء رمضان انتقل إلى الأيام الأخر لقوله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة:184] وبناءً على ذلك يكون قوله: ( من صام رمضان ) خرج مخرج الغالب، وعليه فإنه لو صام هذه الأيام الواجبة عليه بعد أن يصوم الست فإن صيامه صحيح؛ لأنه قد صام ستاً وثلاثين.
ولو قلنا: إنه يجب عليه القضاء أولاً وكان القضاء مثلاً عشرة أيام تقولون له: صم العشرة الأيام، ثم صم بعدها ستاً قلنا: لماذا؟ قالوا: حتى يصدق عليك أنك قد صمت رمضان، فإذا صام العشرة نقول لهم: هل تعتبرونه قد صام رمضان؟ قالوا: نعم، بعد أن يصوم العشرة يصوم الست، نقول: قد نزلتم العشرة التي هي من شوال منزلة رمضان بالقضاء.
قالوا: نعم.
نقول: إذاً لا فرق بين شوال وبين غيره، فهي في القضاء سيان كما أنكم تقولون: إذا صام العشرة من شوال فإنه يعتبر قد صام رمضان كاملاً، فكذلك إذا صامها من رجب أو صامها من جمادى أو صامها من غيره.
ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة : (إن كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان)، وقد كانت تصوم يوم عرفة -كما ثبت في الموطأ- وكانت تصوم الأيام الفاضلة، فدل هذا على أن قوله: ( من صام رمضان ) خرج مخرج الغالب، سواء قضاءً أو أداءً، ولو أخذ هذا على ظاهره، وهو أنه لابد وأن يصوم القضاء أولاً، ثم بعد ذلك يصوم الست فإن المرأة النفساء لا تنال هذا الفضل؛ لأن المرأة النفساء ربما تستغرق رمضان كله، فمتى تقضي؟ هل نقول: إنها لا تصوم الست لأنه لا يمكنها ذلك.
وبناءً على ذلك نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ( من صام رمضان ) المراد به أن يصوم رمضان أصلاً أو يصوم ما يقوم مقام رمضان من القضاء، ويستوي ذلك في جميع شهور السنة.
وغالب النساء عندهن نقص في رمضان، لمكان العادة إذا كانت تحيض، فإذا قلت: إذا صامت من شوال قضاءً لهذه الأيام تعتبر بمثابة الصائم لرمضان كاملاً، فنقول: شوال وغيره في ذلك على حد سواء، إضافة إلى ظاهر السنة في حديث عائشة رضي الله عنها.
ثم إننا إذا نظرنا إلى جهة المعنى -كما جاء في حديث زيد رضي الله عنه- وجدنا أن المعنى أن ثلاثين يوماً بثلاثمائة؛ لأن الحسنة بعشرة أمثالها، وستة أيام بستين فأصبح المجموع ثلاثمائة وستين يوماً، فإذا كان هذا هو المعنى فإنه يستوي في الست أن تكون قبل القضاء أو بعد القضاء.
والله تعالى أعلم.
حكم نزول المذي في نهار رمضان

السؤال
ما حكم نزول المذي في نهار رمضان؟

الجواب
المذي لا يخلو من حالتين: الأولى: إما أن يستدعيه الإنسان ويحرك شهوته ويتعاطى أسبابه بالنظر ونحو ذلك من الأمور التي تهيج شهوته حتى خرج منه المذي، فهذا ينقص الله به أجره، ويعتبر من اللغو الذي يؤثر في صوم الإنسان ثواباً، وأما بالنسبة لصيامه، فإن صومه صحيح حتى يخرج منه المني، فإن خرج منه المني فقد أفطر، سواءً أخرجه بمباشرة للمرأة، أو أخرجه باستمناء والعياذ بالله.
فإن أخرجه بالاستمناء كان له حكمان: أحدهما: بطلان صومه.
الثاني: حصول الإثم بمخالفة الشرع بالاستمناء.
أما بالنسبة لبطلان صومه بالاستمناء فلظاهر السنة كقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي عن الله عز وجل: ( يدع طعامه وشرابه وشهوته )، فقوله: (وشهوته) مطلق، وإن من الخطأ أن يقول بعضهم بجواز الاستمناء، وبجوازه في رمضان وأنه لا يؤثر في الصوم، ولا شك أن طالب العلم الذي يفتي بهذا: ليس عنده من الورع وخوف الله عز وجل ما يردعه عن أن يأمر الناس بأمر مشتبه؛ فإن طالب العلم إذا تقلد الفتوى وتوجيه الناس ينبغي أن يأخذهم بالورع، وأن يصونهم عن حدود الله عز وجل وأن يحفظهم وخاصة في المسائل التي يكون فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، وتفضي إلى ضرر في دين الناس، فكون الإنسان يتساهل في شهوته على هذا الوجه، ويتعاطاها فإن هذا أمر يفضي إلى استرسال الناس إلى ما فيه الحرمة، ولذلك قالوا في قوله عليه الصلاة والسلام: ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ) قالوا: وأقل درجاته الشبهة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) لأنه إذا لم يكن هناك ورع وخوف من الله عز وجل يردعه عن هذا المشتبه فلا يأمن أن يسترسل منه إلى الحرام.
ولذلك لا يجوز فتح الباب للناس في مثل هذا، كقول بعضهم بجواز الاستمناء؛ لأنه ليس بجماع حقيقي، وبجواز شرب الدخان؛ لأنه ليس بأكل وشرب حقيقي، وأن هذا لا يفطر، وكل ذلك -نسأل الله السلامة والعافية- تبعات ومسئوليات على صاحبه، فينبغي على طالب العلم أن يتنبه إلى قوله عليه الصلاة والسلام: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ) والتفقه: تفعل يحتاج إلى إمعان النظر في الأحكام ودقة النظر في مقاصد الشريعة ومعرفة مراميها، أما أن يأتي ويقول: لا أعلم نصاً، ولا أرى بأساً، وهذا يجوز، وليس فيه أمر ظاهر يدل على تحريمه، وهذا حسب علمه، ولكنه لو أمعن النظر كما أمعن من هو أعلم منه وأتقى لله منه وأورع لوجد الأمر جلياً، فإن الشهوة تحصل بالاستمناء ويجد به اللذة كما يجدها بالجماع، وإن كان في الجماع أشد وأكمل، لكنه يجدها في الاستمناء.
ولذلك تجده إذا استمنى فإنه لا ينصرف إلى الحرام، ومن هنا قالوا: بإباحته عند الضرورة لا على سبيل أنه مباح بذاته، ولكن من باب ارتكاب أخف الضررين، قالوا: إذا خاف على نفسه الزنا، هل يستمني؟ قالوا: يستمني، لكنه إذا استمنى يكون حينئذٍ آثماً إثماً أصغر من وقوعه في الزنا، ففهم البعض أن الإذن به في حال الزنا إذن به على الإطلاق، وهذا من عدم إمعان النظر في كلام العلماء الأجلاء رحمة الله عليهم، وهذا له أمثلة: لو أنه خير بين حرام قليل وحرام كثير، فإنه لا شك أنك ستصرفه إلى الحرام الأقل، لكن مع ذلك تقول: يأثم بهذا الحرام الأقل، فالمقصود: أن العلماء رحمة الله عليهم لما قالوا: من يخاف على نفسه الزنا يستمني، فإنما هذا من باب ارتكاب أخف الضررين لا أنه يشرع ويجوز ومباح في دين الله عز وجل.
وعلى هذا فإنه إذا خرج منه المني يعتبر مفطراً، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #202  
قديم 04-08-2022, 07:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصيام)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (197)

صـــــ(1) إلى صــ(13)





شرح زاد المستقنع - أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [2]
من الأحكام المتعلقة برمضان: معرفة دخوله وخروجه، وهذا يتعلق برؤية الهلال، لكن تحقق ذلك والعمل به يرتبط بصفات من قال برؤيته، من عدالة ونحوها، ويتفرع على ذلك أحكام مختلفة.
وقد وضح الشيخ هذه الأحكام في هذه المادة، ثم ذكر من يجب عليه الصوم، ومن يكون معذوراً يحق له الفطر، ومن لا يصح صومه من أهل الأعذار، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بأهل الأعذار.
صفة من يعتد برؤيته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويصام برؤية عدل ولو أنثى]: أي: يصام شهر رمضان إذا رآه شخص واحد، والعدل المراد به: من يجتنب الكبائر ويتقي في غالب حاله الصغائر.
العدل من يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا فإذا كان مجتنباً للكبائر وهي المعاصي الكبيرة كالقتل والزنا وشرب الخمر ونحوها فهو عدل.
وقلنا: ويجتنب في غالب حاله؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يسلم من الصغائر، وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى ذلك بقوله في الحديث: : ( إن تغفر اللهم تغفر جما، وأي عبد لك ما ألما؟ ) .
جماً: أي شيئاً كثيراً.
وأي عبد لك ما ألما: أي: أي عبد من عبادك لم يصب اللمم وهي صغائر الذنوب.
فلا يمكن لإنسان أن يسلم من صغائر الذنوب، وصغائر الذنوب لها أمثلة منها: مثل النظرة، وإن كان بعض العلماء يفاوتها بحسبها؛ فالنظر إلى العورة المغلظة ليس كالنظر إلى الوجه، ونحو ذلك.
فالمقصود أنه إذا اتقى في غالب حاله صغائر الذنوب فهو عدل، أما لو أصر على الصغيرة وداوم عليها فإنه لا يكون عدلاً، ولذلك قالوا: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
فإن صغائر الذنوب تهلك صاحبها، كما أن الجبال تكون من دقائق الحصى، فإن هلاك الإنسان قد يكون بصغائر الذنوب.
ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تنظر إلى معصيتك، ولكن انظر إلى من عصيت)، فإذا كان نظر الإنسان إلى عظمة الله سبحانه وتعالى فإن الصغيرة تصبح في عينه كبيرة؛ لكن إذا استخف بذلك ونظر إلى أنها شيء يسير فقد تهلكه وتوبقه، نسأل الله السلامة والعافية.
فالعدل هو الذي يتقي في غالب حاله صغائر الذنوب، ويمتنع من كبائر الذنوب، فإذا كان كذلك فهو العدل الذي تقبل شهادته، وهو الرضا الذي يعتد بشهادته، أشار الله إليهما بقوله: { وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ } [الطلاق:2] وقوله: { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } [البقرة:282] فلا يرضى إلا العدل.
وقوله: (شهد عدل) معناه: إذا شهد غير العدل لم تقبل شهادته، وغير العدل هو الذي يفعل كبائر الذنوب، سواء كانت قولية كأن يكون إنساناً نماماً، أو يكون كثير الاغتياب للناس، فهذا لا تقبل شهادته، وهذه من الكبائر القولية، وأما الفعلية فكشرب الخمر والزنا؛ ولهذا تسقط عدالته ويجب رد شهادته، والسبب ذلك كما يقول العلماء: أنه إذا كان جريئاً على هذه الكبيرة فمن باب أولى أن يجرؤ على الكذب، ومن هنا كان وجود هذه الكبيرة يعتبر دليلاً على أنه غير مأمون؛ لأنه إذا لم يؤتمن على حق الله فمن باب أولى ألا يكون أميناً على حقوق الناس.
أما الحنفية رحمة الله عليهم فعندهم تفصيل في الفاسق، فيقولون: إن الفاسق ينقسم إلى قسمين: الأول: فاسق تحصل بفسقه التهمة.
الثاني: وفاسق لا تحصل بفسقه التهمة.
فالفاسق التي تحصل بفسقه التهمة: كأن يكون معروفاً بالكذب ومعروفاً بارتكاب كبائر الذنوب.
والفاسق الذي لا تحصل التهمة بفسقه: كأن يكون إنسان يشرب الخمر ولكنه لا يكذب، وهذا موجود فإنك قد ترى بعض الناس على سمته أنه ليس بمطيع، وتجده من أبر الناس بوالديه، وتجده محافظاً على العهد لا يكذب ولا يغش، فتجد مظهره على أن عنده بعض الإخلال، لكن تجد في نفسه وفي قرارة قلبه مالا تجده عند من يوصف بكونه صالحاً، فقد تجد الإنسان على سمت ظاهره طيب لكنه كذاب أو غشاش أو خائن -والعياذ بالله- أو سارق أو شارب خمر في الخفية.
فالحنفية رحمة الله عليهم يقولون: العبرة بالأمانة، فإذا عرف بالصدق ولو كان يشرب الخمر أو يزني فإننا نقبل شهادته؛ لأنه لما عرف بالصدق غلب على الظن أنه صادق فيما يقول؛ قالوا: فلا تقوى التهمة في رد شهادته.
والذي يظهر أنه لا تقبل شهادة من طعن في عدالته، لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [الحجرات:6] فأمرنا بالتثبت والتبين والتروي في خبر هذا النوع، فدل على عدم قبوله؛ لأن التثبت والتروي نوع من الرد؛ لأنه لم يقبلها مباشرة، وعلى هذا فالصحيح مذهب الجمهور: أنه لا تقبل شهادته، سواء كان ممن يغلب على الظن صدقه أو لا يغلب على الظن صدقة.
حكم إكمال رمضان عند تبين خطأ الشهادة
يقول المصنف رحمه الله: [وإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم ير الهلال، أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا].
لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا الأحكام المتعلقة برؤية الهلال، فبعد أن بين الأحكام المتعلقة بثبوت شهر رمضان ودخوله، شرع في بيان ما يتعلق بالخروج من شهر رمضان، والأصل أن الخروج من شهر رمضان يكون بتمام الشهر ثلاثين يوماً، وذلك أنهم إذا صاموا ثلاثين يوماً فقد تم الشهر، وحينئذٍ يكون ما بعده من شوال قطعاً.
وأما العلامة الثانية: فهي أن يشهد العدلان لرؤية هلال شهر شوال، فإذا شهد العدلان أنهما رأيا هلال شهر شوال فإن الناس يفطرون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن شهد عدلان فصوموا، وإن شهد عدلان فأفطروا ) فجعل رؤية العدلين موجبة لثبوت دخول شهر شوال وانتهاء شهر رمضان.
لكن هنا مسألة، وهي: إذا شهد عدل واحد، ثم أكمل الناس العدة ثلاثين يوماً من رمضان ولم يروا الهلال، قال العلماء: هذه أمارة ودليل على خطأ الشاهد، ومن هنا فإنه يجب عليهم أن يتموا العدة لظهور خطأ الشهادة.
وهكذا الحال في المسألة التي ذكرناها: لو كان هناك غيم ليلة الثلاثين من شهر شعبان، ولم يتمكنوا من رؤية الهلال، فإن المذهب -على ما قرره المصنف- أن يصام ذلك اليوم، وإن كان الصحيح: أنه لا يصام، لكن على القول بصيامه لو صاموا ثم أتموا العدة ثلاثين، وتراءوا الهلال ليلة الواحد من شوال على تمام الشهر فلم يروه، قالوا: هذا يدل على أن الشهر -أعني: شهر شعبان- يعتبر كاملاً، وحينئذٍ عليهم أن يتموا عدة رمضان ثلاثين يوماً ولا يفطرون.
وعلى هذا هناك حالتان ذكرهما المصنف: الأولى: أن يشهد عدل واحد، ثم نحكم بدخول شهر رمضان، ثم بعد تمام العدة ثلاثين يوماً نتراءى الهلال ليلة شوال فلا نراه، وعلى هذا تبين لنا خطأ الشاهد الواحد؛ لأن الخطأ في الشاهد الواحد أكثر منه من الخطأ في الشاهدين، وحينئذٍ يلزمون بتمام شهر رمضان ثلاثين يوماً، وهذا على سبيل الاحتياط، وهذه قاعدة: أن بعض العلماء يحتاط في الخروج من شهر رمضان أكثر من احتياطه في دخول شهر رمضان، ولذلك يرون أنهم في هذه الحالة يتمون العدة ثلاثين يوماً حتى يخرجوا من الصوم بيقين.
الثانية في قوله: (أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا).
هذا على المذهب المرجوح، وإن كان الصحيح: أنه إذا كان هناك غيم ليلة الثلاثين من شعبان أنه يجب إتمام عدة شعبان ثلاثين يوماً.
حكم من رأى هلال رمضان أو شوال وحده
وقوله: [ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله، أو رأى هلال شوال، صام].
هذه مسألة مفرعة على الشاهد الواحد، فلو أن إنساناً رأى هلال شهر رمضان -أو رأى هلال شهر شوال، فجاء يشهد فلم تقبل شهادته وردت، وهو متأكد أنه قد رأى الهلال- فقد وقع في يقين نفسه أن رمضان قد دخل، ولكن في حكم الشرع الظاهر أن رمضان لم يدخل، فهل نوجب عليه في خاصة نفسه أن يصوم هذا اليوم أو لا يصوم؟ للعلماء مذاهب: منهم من يقول: نوجب عليه الصيام لأنه قد تحقق من دخول شهر رمضان؛ وهو متعبد لله عز وجل بما تحققه، وقد أوجب الله على من رأى الهلال أن يصوم، وهذا قد تحقق من رؤيته وأن هذه الليلة من رمضان، فلا وجه لإسقاط الصوم عنه، قالوا: فحينئذٍ يلزمه أن يصوم.
القول الثاني: أن العبرة بجماعة المسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) قالوا: كما لو أنهم تراءوا الهلال فلم يروه -مع أنه رمضان حقيقة- قالوا: فقد تعبدهم الله عز وجل بالدخول، فحينئذٍ لا نوجب عليه هذا اليوم؛ لأنه ليس من رمضان حكماً.
والقول الثالث يفصل فيقول: دخول رمضان يوجب عليه الصيام، وفي خروجه لا يفطر احتياطاً.
وهذا المذهب من أقوى المذاهب -أي: التفريق بين الدخول وبين الخروج- والسبب في هذا: أن الدخول تقبل فيه شهادة الواحد كما ذكرنا، وأنه من باب الخبر.
ولذلك نقول: من رأى هلال رمضان وحده -كما لو كان مسافراً فرآه وحده- فبالإجماع أنه يصوم، مع أنه في هذه الحالة لم يثبت شهر رمضان عند الجميع، فنقول: إذا رآه في الدخول وجب عليه أن يصوم؛ لأن الدخول تقبل فيه شهادة الواحد.
أما الخروج فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( فطركم يوم تفطرون ) فرد الأمر إلى جماعة المسلمين، ففي الخروج لا نقول له: إنه يفطر، وإنما يبقى مع جماعة المسلمين؛ لأن الفطر للجميع بخلاف دخول شهر رمضان، ولذلك نقول: إنه قد ثبت في ذمته صيام اليوم الأول من رمضان بيقين؛ لأنه قد استيقن برؤية الهلال بنفسه، وحينئذٍ نوجب عليه الصيام دخولاً، ولكننا لا نوجب عليه الفطر خروجاً؛ لأن الفطر مقيد بالجماعة، فيفطر إذا ثبتت رؤيته مع رؤية غيره وحكم بها، ولا يفطر إذا ردت شهادته أو كان شاهداً واحداً ولم تقبل شهادته.
وهناك مذهب يقول: يفطر سراً، ولكن القول بالتفصيل اعتماداً على السنة أقوى وأظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة ابن عمر وحده في دخول شهر رمضان، فألزم الجماعة بشهادة ابن عمر ، فلئن نلزم الشاهد نفسه والرائي نفسه من باب أولى وأحرى، ولكن في الخروج ردنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى جماعة المسلمين فقال: ( فطركم يوم تفطرون ) فجعل الفطر لجماعة المسلمين كلهم، كما لو رأى هلال ذي الحجة -مثلاً- ليلة الخميس والناس لم يروه، ثم بعد ذلك أصبح وقوف الناس متأخراً عن وقوفه؛ فإننا نقول: لا يصح وقوفه لوحده؛ لأن الوقوف بجماعة المسلمين، وعلى هذا فإنه يصح أن يصوم وحده ولا يصح أن يفطر لوحده.
وقد يشكل على هذا مسألة: كيف نحكم بالظاهر ونترك الباطن؟ و


الجواب
أن الشرع يحكم بالظاهر، ويلغي الحقيقة والباطن.
مثال ذلك: لو أن رجلاً -والعياذ بالله- رأى امرأة على الزنا، وقد رآها بعينه وشهد أنها زانية، أو شهد رجلان أو ثلاثة أنها زانية، فأتي بها إلى القاضي فلم تعترف وأنكرت، فإنه بالإجماع يجلد هؤلاء الثلاثة، ويعتبرون قذفه، والله تعالى يقول: { فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [النور:13] فوصفهم بالكذب بالنسبة للظاهر؛ لكنهم في الحقيقة والباطن صادقون، ولذلك يعطي الحكم للظاهر، والباطن مرده إلى الله عز وجل.
ومن أمثلته: قوله عليه الصلاة والسلام : ( إنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع ) فدل على أن حكم الظاهر لا يبيح الباطن، كما أن الباطن لا يبيح حكم الظاهر، وعلى هذا فرقت الشريعة، فما كان الشرع معتبراً فيه بشهادة الواحد -وهو دخول شهر رمضان- فنعتبره ملزماً بالصيام برؤيته، كما لو رآه وحده في الصحراء فإنهم كلهم يقولون: عليه أن يصوم.
أما بالنسبة لخروج رمضان فقد جاء النص باعتبار الشاهدين، ولم يأت استثناء كالدخول، فالدخول جاء فيه استثناء في حديث ابن عمر ، فقبلت فيه شهادة الواحد، وأما الخروج فلم يأت فيه استثناء، فبقينا على الأصل من كونه مطالباً بصيام هذا اليوم الذي هو يوم الثلاثين، والأصل أن الشهر كامل، وعلى هذا يقولون: إنه يقيد بجماعة المسلمين؛ لورود النص بتأكيد الجماعة.
ففي الخروج ورد النص بتأكيد الجماعة، وفي الدخول ورد النص بالاعتداد بشهادة الواحد، فخفف في الدخول ولم يخفف في الخروج، وهذا هو الذي يسميه العلماء مذهب الاحتياط.
والاحتياط ينقسم إلى قسمين: الأول: احتياط ينبني على دفع الشبهة والبعد عن الريبة، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) وقوله عليه الصلاة والسلام: ( دع ما يربيك إلى ما لا يريبك ).
الثاني: احتياط يكون مستنداً إلى النصوص، فلما جاء النص بقبول شهادة الواحد دخولاً؛ احتطنا وقلنا: يجب عليه الصوم، فكان الاحتياط أن يصوم، بخلاف ما لو قلنا له: أفطر؛ لأنه لو أفطر ربما أفطر يوماً من رمضان، ولكن في الخروج نقول له: يبقى على صيامه، فأصبح الاحتياط هنا مستنداً إلى أصل الشرع، فكان اعتباره أولى وأحرى مع الأصل الذي دل على أنه ينبغي للمسلم أن يخرج من الريبة والشبهة.
وجوب الصيام على كل مسلم مكلف قادر
[ويلزم الصوم لكل مسلم مكلف قادر].
يلزم: أي: يجب، وهو فريضة الله عز وجل على كل مسلم، فالكافر لا يلزمه صوم بالنسبة له، بمعنى أنه لا يخاطب ولا يصح منه صومه إلا بعد أن يحقق أصل الدين وهو التوحيد، فلو صام الدهر كله وهو لم يوحد الله فلا عبرة بصيامه، قال تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان:23] فالكافر لا يعتد بصومه ولا يعتد بطاعته حتى يسلم، فإن أسلم أثناء الشهر وجب عليه أن يصوم ما بقي، ولا يجب عليه قضاء ما مضى.
وإن أسلم أثناء اليوم وجب عليه الإمساك بعد إسلامه وقضاء ذلك اليوم، وهذا مبني على حديث يوم عاشوراء الذي رواه معاوية رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه لما كان يوم عاشوراء قال: إن الله فرض عليكم صيام هذا اليوم، فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه ) قالوا: فيجب على الكافر أن يمسك بقية اليوم، ثم يقضي هذا اليوم؛ لأنه لما أسلم ولو قبل غروب الشمس بلحظة فقد وجب عليه قضاء هذا اليوم، ولذلك يقولون: إنه يطالب بالقضاء، وأما بالنسبة للأيام التي مضت فإنه لا يطالب بقضائها لوجود الانفصال، وفرق بين المتصل والمنفصل، فإن إفطاره في اليوم نفسه متصل، وإلزامه بقضاء ما مضى من رمضان منفصل؛ فوجبت عليه العبادة المتصلة دون العبادة المنفصلة.
وقوله: (على كل مسلم مكلف) ويشترط بعد الإسلام أن يكون مكلفاً، والتكليف يكون بالعقل والبلوغ.
فإذا قيل: مكلف، تضمن ذلك كونه عاقلاً وكونه بالغاً، فلا يجب الصوم على صبي، ولا يجب الصوم على مجنون.
أما الصبي فالسنة إذا أطاق الصوم أن يعود عليه من الصغر، كما في حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه (أنهم كانوا يروضونهم على الصيام، ويعطونهم اللعب يلعبون بها وهم صبيان)، ولكن ينبغي أن يكون مطيقاً لذلك.
أما إذا كان صغير السن ويتضرر بالإمساك ولو بعض اليوم؛ فإنه لا يحمل فوق طاقته؛ لأن هذا يزعجه ولربما يجعله يكره هذه العبادة، فإنه إذا أطاقها ألفها وأحبها كما أمر الأولياء أن يأمروا صبيانهم بالصلاة لسبع؛ تعويداً لهم على هذه العبادة وترويضاً لهم عليها، فيعود الصبي الصيام من الصغر، كأن يكون ابن العاشرة أو الحادية عشرة، أو يكون دون ذلك إذا أحب هذه العبادة وألفها، وإذا صام فليشجعه وليه على ذلك ويعينه عليه؛ لما فيه من تحصيل مقصود الشرع من تحبيب العبادة لنفسه وتعويده عليها.
وأما المجنون فلا نطالبه بالصوم، سواء بلغ مجنوناً أو طرأ عليه الجنون.
وهكذا لو صار كبير السن فأصبح يضيع ويخلط، فإذا أصبح يضيع ويخلط أو كان مجنوناً وحصل له هذا التضييع والخلط أو الجنون أثناء الصوم، فإننا لا نلزمه بذلك اليوم، سواء كان جنونه مسترسلاً أو متقطعاً.
وإذا كان جنونه متقطعاً بأن طرأ عليه الجنون في نصف رمضان، فالنصف الذي جن فيه ليس عليه قضاؤه، والنصف الذي كان فيه عاقلاً صحيحاً فإنه يطالب بصيامه.
وإذا أفاق بعد ذلك فلا نطالبه بقضاء الشهر إن كان مجنوناً في الشهر كله؛ لأن المجنون حال جنونه غير مكلف.
وجوب الإمساك حال قيام البينة برؤية الهلال
وقوله: [وإذا قامت البينة في أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه].
البينة: مأخوذة من البيان، يقال: بان الصبح إذا اتضح ضوؤه، والشيء البين هو الواضح، والبينة: هي الدليل الذي يظهر صدق الدعوى ويكشف وجه الحق، فلو أن اثنين اختصما عند القاضي، فادعى أحدهما على الآخر شيئاً، كأن يقول: لي على فلان ألف ريال ديناً.
فقال فلان: ليس له عندي شيء، وأنكر.
فجاء المدعي بشاهدين عدلين، فنقول: هذه بينة أظهرت صدق الدعوى؛ لأنه لما قال: لي على فلان ألف ريال.
احتمل أن يكون صادقاً واحتمل أن يكون كاذباً، والأصل أن المدعى عليه بريء حتى يثبت أنه مدان بهذا الحق، فلما جاء بالبينة أظهرت صدق الدعوى.
والظهور الغلبة، كما قال تعالى: { فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } [الصف:14] أي: غالبين، فكأن صدق الدعوى وكذبها في منزلة واحدة عند الادعاء، فلما جاء بالبينة أظهرت صدق الدعوى وكشفت وجه الحق، لأنه لما قال: لي على فلان ألف.
فقال فلان: ليس له علي ألف ريال، التبس وجه الحق، فلما قام الشاهدان انكشف أن الحق مع من قال: لي على فلان ألف ريال.
فعلى هذا قالوا: إن البينة هي ما يظهر صدق الدعوى ويكشف الحق.
والأصل في البينة أن تكون بشهادة العدلين على الشروط المعتبرة، لكن قد تكون البينة امرأة واحدة كالشهادة على الرضاعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( كيف وقد قيل؟! ) فقد قبل شهادة المرأة الواحدة، فلو قالت امرأة: أرضعتك وفلانة، فإنه يثبت حينئذٍ أنها أخت لك، وهكذا لو أن امرأة قابلة -وهي التي تشرف على الولادة- شهدت بأن المولود استهل صارخاً، فإن المولود والجنين لا يرث إلا إذا تحققنا من حياته، ولا نتحقق من حياته إلا إذا عاش لحظة على الأقل بعد ولادته، فلو ولد ميتاً لم يكن له شيء، فنحتاج لكي نثبت الميراث له أن يستهل صارخاً، بمعنى: بأن يحدث منه الصوت أو الحركة التي تدل على الحياة حال ولادته على خلاف عند العلماء، فإذا شهدت امرأة واحدة أنه استهل صارخاً قبلت شهادتها في الاستهلال، لمكان الضرورة والحاجة، كما قبلنا شهادة المرضعة.
وهذه من المسائل التي تكون فيها البينة قاصرة وناقصة، وعلى هذا فالبينة هي: شاهدان عدلان قاما بالشهادة على وجهها بأنهما قد رأيا الهلال ليلة البارحة، وإذا لم ير الناس الهلال فأصبحوا مفطرين في يوم الثلاثين من شعبان، فجاءت البينة وشهدت عند القاضي أنها رأت الهلال ليلة البارحة، وأن هذا اليوم هو الأول من رمضان، فيأمر القاضي بالنداء في الناس أن يمسكوا.
والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله فرض عليكم صوم هذا اليوم -يعني: يوم عاشوراء- فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه ) فإن هؤلاء الذين أفطروا إنما أفطروا في أول الأمر وهم يظنون أن الصوم غير واجب، بل على يقين بأنهم يفطرون، وكان الصيام تخييراً لا إلزاماً، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك بقية اليوم، قالوا: فيعذر أهل البلدة إذا لم يروا الهلال أول اليوم؛ لمكان عدم العلم، فإذا علموا وتحققوا فقد تبين أن هذا اليوم يجب عليهم صيامه، فعذروا بالفطر بأوله ولا يعذرون بالفطر في باقيه، فيلزمهم الإمساك بقية اليوم على ظاهر حديث معاوية رضي الله عنه.
ثم يلزمهم قضاء هذا اليوم؛ لأن القاعدة في الشرع: أنه لا عبرة بالظن البين خطؤه، أي: لا عبرة بالظن الذي بان أنه خطأ، فهم قد بنوا على غلبة الظن بأن شعبان كامل، ثم تبين أن هذا الظن خاطئ، وقد تحقق أن هذا اليوم من رمضان، فنعذرهم لأن الشيء إذا جاء لعذر يقدر بقدره.
فجاز لهم أن يفطروا أول اليوم لأنهم معذورون بعدم العلم، فلما زال السبب الذي من أجله عذروا رجعوا إلى الأصل من كونهم مخاطبين بإتمام العدة، وعلى هذا قالوا: يلزمهم الصوم بقية اليوم، ويلزمهم قضاء هذا اليوم؛ لأن الله أوجب عليهم صيام رمضان كاملاً وقال: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة:185] فهؤلاء مطالبون بصيام رمضان كاملاً، وهذا اليوم من رمضان ولا وجه لإسقاطه.
وقال بعض العلماء: لا يجب عليهم قضاؤه، بل يمسكون بقية اليوم ولا يقضون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة بقضاء يوم عاشوراء.
وهذا مذهب مرجوح، والجمهور على أنهم يقضون، ووجه كونه مرجوحاً: أولاً: يجاب عن حديث معاوية من وجهين: الوجه الأول: أنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء ويحتمل أنه لم يأمرهم، والسكوت عن النقل لا يدل على عدم الوجوب كما هو معلوم في الأصول، وعلى هذا قالوا: إنه قد يكون سكت للعلم به بداهة بأنهم مطالبون بالقضاء.
الوجه الثاني: أن هناك فرقاً بين استئناف التشريع وبين ثبوته، فقالوا: إن التشريع استؤنف في أثناء اليوم بخلاف بقية الأمة، فإنهم مطالبون بصيام الشهر كاملاً لأن التشريع موجود، وإنما سقط عنهم القضاء لأن التشريع استؤنف؛ ففرق بين كون التشريع مستأنفاً وبين كونه ثابتاً.
فعلى هذا قالوا: إنه يجب عليهم قضاء هذا اليوم؛ لأن الأصل أنهم مطالبون بصيام ثلاثين يوماً بخلاف أهل يوم عاشوراء، فإنهم لم يطالبوا به في الأصل، وعلى هذا فرق بين الإلزام بصيام اليوم إذا قامت البينة، وبين عدم ورود أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء في حديث يوم عاشوراء.
وجوب القضاء على من نوى الصيام متردداً
وقوله: [والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه].
معنى ذلك: أنه لو أصبح إنسان صائماً يوم الشك، ثم تبين أن هذا اليوم من رمضان، قالوا: يلزمه أن يقضي؛ لأنه صام يوم الشك على نية مترددة، والنية المترددة لا تسقط الجزم؛ فإن الإنسان إذا قال: يحتمل أنه من رمضان، ويحتمل أن يكون من شعبان، فأنا أصومه إن كان من رمضان ففرض، وإن كان من شعبان فنفل، فأصبحت نيته ليست بمتمحضة للفرض، وقد نوى النفل أثناءها؛ لأنه قال: إن كان من شعبان فنفل.
فقد أدخل نية النفل عليه، ولا تصح نية الفريضة إلا متمحضة؛ فيلزمه القضاء.
وقد ألزم النبي صلى الله عليه وسلم بالنية في الصوم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ( من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له ) كما هو حديث ميمونة ، وهو حديث صحيح، فلما ألزمنا بتبييت النية فكانت النية للفريضة فريضة، ولا تكون مترددة، وهذا قد نوى على التردد فلم تقع نيته وفق النية المعتبرة شرعاً، فألزمه الجمهور بقضاء هذا اليوم، وهذا معنى قول العلماء: يلزم القضاء للجميع.
لكن لو أن إنساناً رأى الهلال وحده فأصبح ناوياً صيام رمضان، وقدم عليهم وهم مفطرون أول اليوم فأمسك، ثم ثبت بالبينة أنه من رمضان فإن صومه يجزيه، ولا يلزمه القضاء.
صيام أهل الأعذار بعد زوال الأعذار

وقوله: [وكذا حائض ونفساء طهرتا].
أي: وكذا المرأة الحائض والمرأة النفساء، فإنها إذا طهرت أثناء يوم رمضان فإنه يلزمها إمساك بقية اليوم وقضاؤه، وذلك أن المرأة الحائض سقط عنها الصوم أثناء تلبسها بالعذر، والقاعدة في الشرع: أن ما جاز لعذر بطل بزواله.
فمثلاً: جاز للإنسان أن يسأل الناس إذا أصابته حاجة، فإذا تبرع له الناس حتى سدت هذه الحاجة حرم عليه أن يسأل، لقوله عليه الصلاة والسلام : ( حتى يمسك قواماً من عيش ) فلما أمسك القوام من العيش رجع إلى الأصل من كون السؤال حرام عليه.
قالوا: كذلك ما جاز لحاجة وعذر، فإنه قد جاز للمرأة الحائض والنفساء أن تفطر لمكان العذر وهو الحيض والنفاس، فإذا زال العذر وطهرت رجعت إلى الأصل من كونها مطالبة بالإمساك، فيجب عليها أن تمسك بقية اليوم، ثم بعد ذلك تقضي هذا اليوم.
وهكذا المسافر إذا قدم من سفره، فإن الله قد أباح الفطر للمسافرين إذا كانوا على سفر؛ فإذا قدموا وزال عنهم وصف السفر بقوا على الأصل من كونهم مطالبين بالإمساك بقية اليوم، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الإمساك بقية يوم عاشوراء.
ولذلك فحكم المسافر والمرأة الحائض والنفساء حكم صيام يوم عاشوراء كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا وجه للتفريق بالتعليل والنظر، ولذلك يُبقى على الأصل الذي دل عليه حديث يوم عاشوراء، وهذا هو مذهب الجمهور، وهو أقوى المذاهب وأعدلها، إضافة إلى أنه يرجع إلى الأصل، ويكون أقوى الأقوال في الفقه هو ما يشهد الأصل باعتباره.
فالأصل أنه مطالب بالإمساك، وهذا شهر إمساك وصوم، ولذلك لا يفرق بين أجزاء النهار كاملة أو ناقصة، فإذا جاز أن يفطر أو يأكل في حالة معينة على صفة معينه، ثم زالت هذه الحالة والصفة؛ وجب عليه أن يرجع إلى الإمساك الذي هو أصل الشهر، فالشهر إنما سمي بشهر الإمساك لكون الصائم يمسك فيه، فإذا جاز له أن يأكل بسفر أو مرض، أو جاز للمرأة أن تأكل لحيض أو نفاس، ثم زال الحيض والنفاس والسفر والمرض؛ رجع إلى الأصل من كونه مطالباً بالإمساك.
وقوله: [ومسافر قدم مفطراً].
أي: وهكذا لو سافر إنسان وقدم من سفره أثناء اليوم؛ فإنه يلزمه أن يمسك بقية اليوم؛ لأنه جاز له الفطر أثناء السفر: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة:184] فجعل المريض والمسافر معذوراً أثناء السفر والمرض؛ فإذا زال السفر وزال المرض رجع إلى الأصل من كونه مطالباً بالإمساك في هذا اليوم.
حكم من أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه
وقوله: [ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، أطعم لكل يوم مسكيناً].
هذا النوع الثاني ممن يرخص له أن يفطر في شهر رمضان، وهو المريض الذي لا يرجى برؤه من المرض، والكبير أي: الشيخ الهرم الذي لا يطيق الصوم.
فبالنسبة للمريض الذي لا يرجى برؤه كمن به فشل في الكلى، أو معه مرض مزمن لا يمكنه أن يمسك عن الطعام والشراب، فهذا يلزمه أن يطعم؛ فيعدل من الصوم إلى الإطعام، لقوله تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [البقرة:184] وفي قراءة: (وعلى الذين يطَيّقونه) وفي قراءة: (وعلى الذين يَطوّقونه) والمراد بهذه القراءة أنهم يجدون المشقة والعناء، ويتكلفون ما في طاقتهم ووسعهم للصوم، فهؤلاء أوجب الله عليهم أنه يطعموا المسكين؛ فيعدلون من الصيام إلى الإطعام، ولا يكون الصوم واجباً عليهم لا أداءً ولا قضاءً، فيسقط عنهم الصوم بالكلية.
والمريض الذي لا يرجى برؤه؛ لأنه إذا أفطر لا يستطيع أن ينتقل إلى بدل، فالمرض معه والعذر مستديم معه، وهكذا الشيخ الهرم، فإنه يفطر ولا يلزمه أن يقضي، وإنما يعدل هذان النوعان إلى الفطر بدون قضاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب عليهم الإطعام ولم يوجب عليهم الصيام لظاهر آية البقرة التي ذكرناها.
وقوله: (أطعم لكل يوم مسكيناً): إطعام المساكين له صور: إن شاء في كل يوم أن يرتب طعامه ويعطيه للمسكين، وإن شاء جمع في آخر رمضان ثلاثين مسكيناً وأطعمهم، أو مر على الثلاثين وأطعمهم دفعة واحدة؛ لكن لو أنه من بداية رمضان أخذ طعام الثلاثين وفرقه على ثلاثين ناوياً به الشهر كاملاً لم يجزه؛ لأنه لا يجب عليه الإطعام إلا بالإخلال، وذلك بفطره في اليوم، فلا يطعم إلا بعد فطره، ولذلك قالوا: لو أراد أن يطعم عن كل يوم فإنما يطعم بعد طلوع الفجر؛ لأنه يفطر بعد طلوع الفجر، وحينئذٍ يكون متوجهاً عليه الخطاب بالإطعام، أما قبل الفطر فإنه لا يطعم ولو كان قبل تبين الفجر الصادق.
وإنما يطعم بعد طلوع الفجر؛ لأنه يتعين عليه حينئذٍ الإطعام، أما لو أطعم قبل فإنه يكون إطعامه حينئذ نافلة ولا يكون فريضة؛ لأن الله لم يوجب عليه الإطعام بعد، كما لو صلى قبل دخول الوقت، وبناء على ذلك قالوا: العبرة بوقت الصوم، فإذا دخل عليه وقت صوم هذا اليوم أطعم عن هذا اليوم، فلو أراد أن يقدم لم يصح ذلك منه، ووقع الإطعام نافلة لا فريضة.
وأما لو أخر وأطعم عن ثلاثين يوم دفعة واحدة فيأتي على وجهين: إما أن يجمع طعام ثلاثين يوماً ويعطيه لمسكين واحد.
وإما أن يجمع طعام الثلاثين ويفرقه على الثلاثين.
فإن فرق طعام الثلاثين على الثلاثين أجزأه، فأما إطعام مسكين طعام ثلاثين يوماً فلا يجزيه إلا عن يوم واحد؛ لأن كل يوم يخاطب فيه بحسبه، فعلى هذا يجب عليه أن يطعم ثلاثين مسكيناً إذا كان الشهر كاملاً، وتسعة وعشرين مسكيناً إذا كان الشهر ناقصاً، والأولى والأحرى والأفضل أن يطعم كل يوم مسكيناً في يومه، لكن لو أخر إلى آخر رمضان فإنه يجزيه الإطعام، لكن هل يأثم أو لا يأثم؟ قال بعض العلماء: يأثم بالتأخير، ويصح إطعامه.
وقال بعض العلماء: يجوز له التأخير، لكن القول بإثمه من الوجاهة والقوة بمكان، وبناءً على ذلك فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #203  
قديم 04-08-2022, 07:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصيام)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (198)

صـــــ(1) إلى صــ(18)



شرح زاد المستقنع - أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [3]
صيام رمضان واجب على كل مسلم مكلف قادر، ومن تعذر عليه الصيام فإنه يفطر ويقضي بعد رمضان، ومن أهل الأعذار في رمضان: الحائض، والنفساء، والمريض، والمسافر سفراً يقصر فيه، والحامل والمرضع إن خافتا على أنفسهما أو على ولدهما.
حكم فطر أهل الأعذار
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد
حكم من صام ثم جن أو أغمي عليه
ذكر المصنف رحمه الله مسألة جنون الصائم وإغمائه، وصورة ذلك: أن ينوي الإنسان الصوم لفريضة كرمضان أو نذر أو كفارة، ثم إذا أصبح وهو مغمى، واستمر إغماؤه النهار كله، وهكذا لو أصابه جنون ولم يفق من جنونه إلا بعد مغيب الشمس، فإنه يبطل صومه بهذا الإغماء وبهذا الجنون؛ والسبب في ذلك -كما ذكر العلماء رحمهم الله-: أن النية تزول ويزول منه القصد ولا يستصحب، وإن كانت هناك مسائل يقال فيها باستصحاب الحكم في المغمى عليه والمجنون كالإسلام والردة ونحو ذلك، ولكن هذه المسألة لا يحكم فيها بالاستصحاب، وحينئذٍ يسقط عنه هذا اليوم، فلا يصح صومه ولا يعتد به؛ لمكان فوات النية بزوال الإدراك والشعور.
وقوله: [لا إن نام جميع النهار].
اختلف العلماء في الصائم إذا نام جميع النهار: فمنهم من قال: إن النائم يصح صومه، وبناءً على ذلك فلو نام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فصومه صحيح، بخلاف المجنون وبخلاف المغمى عليه، وهذا التفريق مبني على الأصل؛ وذلك أن الصحابة كانوا ينامون؛ ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بانتقاض الصوم بالنوم، والإجماع قائم على أن النوم المعتبر -كالنوم بين الظهر والعصر، والنوم ضحوة، ونوم القيلولة- لا يبطل الصوم، ولكن الخلاف إذا نام أكثر النهار أو نام كل النهار.
وصحح جمع من العلماء رحمهم الله التفريق بين الجنون والإغماء والنوم، فقالوا: إن النوم لا يبطل، بخلاف الجنون والإغماء.
وقال بعض العلماء: إذا نام أغلب النهار أو كله بطل صومه؛ وذلك لأن المغتفر في النوم ما كان معتاداً، وما خرج عن العادة فإنه يرجع إلى الأصل، فيكون في حكم المجنون والمغمى عليه؛ فيبطل صومه.
وقوله: [ويلزم المغمى عليه القضاء فقط].
أما بالنسبة للمجنون فبالإجماع أنه لا يطالب بالقضاء، فلو أن إنساناً يصيبه الجنون متقطعاً، فجن من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس، فإن صومه لا يعتد به حتى ولو صام، ولا يلزمه قضاء هذا اليوم.
وأما بالنسبة للمغمى عليه فللعلماء فيه قولان: من أهل العلم من يقول: إن المغمى عليه يأخذ حكم المجنون، وبناءً على ذلك لا يلزمه قضاء ولا يصح صومه.
وقال بعض العلماء: المغمى عليه في حكم النائم، فصومه صحيح.
والصحيح الذي يترجح -والعلم عند الله-: أن المغمى عليه في حكم المجنون، وبناءً على ذلك يطالب بالقضاء ولا يصح صومه.
وعلى هذا فما اشتهر في هذه الأيام مما يسمى بموت السرير أو موت الدماغ، فيكون الإنسان قد زال شعوره وليس فيه إلا نبضات قلبه، وحكم الأطباء بموت دماغه، وقد يستمر في جهاز الإنعاش شهوراً وقد يستمر سنوات، فمثل هذا غير مكلف، ولا يلزم بالقضاء، ولا يلزم أهله بالقضاء ولا بالإطعام عنه، بل يسقط عنه التكليف بمجرد موت دماغه وتقرير الأطباء لذلك.
اشتراط النية في الصيام
وقوله: [ويجب تعيين النية من الليل لصوم كل يوم واجب].
شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان المسائل والأحكام المتعلقة بنية الصائم؛ والسبب في ذلك: أن الصوم عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية، وبيان أحكام العبادة التي لها نية يستلزم بيان حكم النية وحدودها وضوابطها.
وينقسم الصوم إلى قسمين: صوم فريضة، وصوم نافلة.
فكلا القسمين لا يصح إلا بنية، فلو أن إنساناً أضرب عن الطعام واستمر إضرابه يوماً كاملاً، فإننا لا نقول: إنه صائم، ولا يحكم بصومه لا نافلة ولا فريضة؛ لأنه لم يقصد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الامتناع، وهكذا لو امتنع عن الطعام والشراب ليخفف وزنه، أو خوفاً من الطعام والشراب أن يضره في جسده، فمثل هذا لو استمر يوماً كاملاً لا نحكم بكونه صائماً؛ لأنه لم ينو التقرب لله سبحانه وتعالى.
أما بالنسبة للصوم الذي فرضه الله على المكلف: فإنه لا يُجزئه ولا يصح منه إلا إذا بيت النية بالليل، والدليل على ذلك: قوله سبحانه وتعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [البينة:5] وقوله سبحانه وتعالى: { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } [الزمر:2].
ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أمر بإخلاص العبادة لوجهه، والإخلاص يتوقف على النية، فلا عبادة إلا بنية، والصوم عبادة لا يصح إلا بنية.
وأما دليل السُّنة: فحديث أم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها وأرضاها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لم يُبَيِّتِ النية بالليل فلا صوم له ) وفي رواية: ( من لم يجمع النية بالليل فلا صوم له ).
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بعدم صحة الصوم إذا لم يبيت صاحبه النية بالليل.
وثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات ) والصوم عمل.
ومن أدلة السُّنة أيضاً: ما ثبت في الصحيح من الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) فقال: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) أي: قاصداً التقرب لي؛ فدل على أنه لا صوم شرعاً إلا إذا قصد أن يترك الطعام والشراب لوجه الله عز وجل.
ولذلك فضل العلماء الصوم حتى قال بعض فقهاء الشافعية -وهو أحد الأوجه في مذهب الإمام الشافعي -: والصوم أفضل من الصلاة؛ والسبب في ذلك هذا الحديث، قالوا: لأن الله تعالى يقول: ( إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ) قالوا: وأفضل الأعمال وأحبها إلى الله: الإخلاص، الذي هو التوحيد، فلما كان الصوم قائماً على الإخلاص وروحه ولبه للإخلاص قالوا: شرُف وفضل على الصلاة من هذا الوجه.
والصحيح: أن الصلاة أفضل من الصيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ) ولما ثبت في الصحيحين من قوله: ( سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها ).
والصوم ينقسم إلى قسمين: الفريضة، والنافلة: أما الفريضة: فلا تصح إلا بنية وجهاً واحداً.
وأما النافلة ففيها قولان للعلماء رحمة الله عليهم: منهم من يقول: لابد من تبييت النية في النافلة، فلو أردت أن تصوم الإثنين أو الخميس تقرباً إلى الله عز وجل فلا بد أن تنوي الصيام في ليلة الإثنين وليلة الخميس.
وقال جمع من العلماء: يصح أن يصوم النافلة وينشئ نيتها وهو لم يجمع النية بالليل، وهو الصحيح؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه قال: ( هل عندكم شيء؟ قالت: لا.
قال: إني إذاً صائم ) وهذا في النهار؛ فدل على أن صوم النافلة يجوز أن ينشئ الإنسان صومه من النهار، ولا يجب عليه أن يبيت النية من الليل.
فلو أصبحت يوم الإثنين وأنت لا تدري أنه الإثنين، ثم قيل لك بعد صلاة الفجر قبل أن تطعم شيئاً: هذا يوم الإثنين، فقلت: إني إذاً صائم؛ صح صومك.
وهكذا لو أصبحت ولم تجد فطوراً، وكنت قد أصبحت من بعد طلوع الفجر لم تأكل شيئاً، فلما لم تجد طعاماً أو شيئاً تفطر به قلت: إني إذاً صائم أو أستمر بقية يومي صائماً، صح ذلك وأجزأك؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتبر حديث أم المؤمنين عائشة مخصصاً لحديث أم المؤمنين حفصة .
فنقول: الأصل تبييت النية بالليل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له ) لكن يستثنى صيام النافلة لحديث أم المؤمنين عائشة الصحيح؛ فصيام النافلة يجوز لك أن تنشئه بعد طلوع الفجر ولا حرج عليك في ذلك.
حكم من نوى الإفطار
وقوله: [ومن نوى الإفطار أفطر].
هذه مسألة خلافية: قال بعض العلماء: إن نية الإفطار أثناء اليوم كالتردد في النية، فمن نوى أن يفطر فكأنه تردد في النية.
وبعضهم يقول: لم يصبح متردداً، بل أبطل النية ورفعها، وقالوا: بناءً على ذلك يبطل صومه، وهو اختيار المصنف رحمه الله.
ومن أهل العلم من قال: إن نية الفطر مغتفرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله عفا لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل ) فهذا قد حدثته نفسه ولم يتكلم ولم يعمل.
وأُجيب عن ذلك: بأن هذا الحديث المراد به: ما يكون من جنس الأشياء التي تبطل بالأقوال والأفعال؛ لكن الإبطال هنا متعلق بعمل القلب، وإذا تعلق بعمل القلب خرج الحديث عن موضع النزاع كما لا يخفى.
الأسئلة
حكم التتابع في صيام كفارة اليمين

السؤال
في كفارة اليمين هل يشترط التتابع في صيام الثلاثة أيام؟


الجواب
هذه مسألة خلافية بين أهل العلم رحمة الله عليهم، والسبب في الخلاف: هل القراءة الشاذة يثبت بها الحكم أو لا يثبت؟ فبعض العلماء يرى أن القراءة الشاذة توجب ثبوت الحكم، وهذا هو أصح القولين.
والسبب في ذلك: أن قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فهذه القراءة في آية المائدة التي في كفارة اليمين ورد فيها التتابع في قراءة ابن مسعود ، وهي قراءة شاذة، وكونها شاذة فإن بعض العلماء يقول: إن القراءة الشاذة لا تقبل قراءة كما هو عمل القراء؛ لأن القراءة الشاذة تخالف العرضة الأخيرة التي جاءت من جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يعتد بهذه القراءة عندهم في القراءة، ولا يعتد بها في الحكم.
وإذا كانت القراءة شاذة فإنهم يقولون: لم يثبت كونها قرآناً ولا كونها سنة، وإذا لم يثبت ذلك فإنها لا توجب ثبوت الحكم، وهذا مذهب الجمهور.
وذهب الإمام أحمد وطائفة من علماء الأصول إلى أن القراءة الشاذة يثبت بها الحكم.
ومن أمثلة هذه المسألة: حديث أم المؤمنين عائشة : ( كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن ) فهذه قراءة شاذة، بل إنها قراءة منسوخة، وقولها: (وهن مما يتلى من القرآن) أي: كان بعض الصحابة يتلوها ويظن أنها من القرآن، ولم يعلموا بكونها منسوخة في العرضة الأخيرة، هذا معنى قولها: (وهن مما يتلى من القرآن).
وهذا يقع كثيراً؛ لأن الصحابة كانوا يقرءون القراءات التي نسخت لعدم علمهم بنسخها، ولعدم ثبوتها في العرضة الأخيرة التي عرض فيها جبريل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، وهي آخر سنة من حياته صلوات الله وسلامه عليه، وعلى هذا نقول: إن القراءة الشاذة فيها جانبان: الجانب الأول كونها قرآناً، وهذا لا يثبت إلا بالتواتر بشروط معتبرة من كونها توافق اللغة العربية، وضوابط أخرى ذكرها أئمة القراءة في اعتبار القراءة، فقالوا: كونها قراءة لا نثبته، فبقي الجانب الثاني: وهو ثبوت الحكم بها، فكون الحكم موجوداً فيها يوجب ثبوته؛ لأنها ثبتت بالنص، فكما أن حديث الآحاد يوجب ثبوت الحكم مع كونه لم يبلغ مبلغ التواتر، كذلك القراءة التي جاءت من طريق الآحاد وهي شاذة توجب ثبوت الحكم، وإن كانت لا توجب ثبوت كونها قراءة.
وهذا المذهب انتصر له شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع، وتكلم عليه كلاماً نفيساً، وتكلم عليها في مسألة الخمس رضاعات وأجاد وأفاد كعادته رحمة الله عليه، وقرر أن القراءة الشاذة فيها جانبان: كونها قرآناً، وكونها توجب حكماً.
أما كونها قرآناً فقال: إننا لا نتعبد إلا بما ثبت بطريق التواتر، وهي العرضة الأخيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما بالنسبة لكونها متضمنة للحكم فإنه يوجب ثبوت الحكم بها، وحينئذٍ نقول: بأن صيام كفارة اليمين يجب فيه التتابع، فيصوم فيه ثلاثة أيام متتابعة، والله تعالى أعلم.
حكم تعزير الشاهدين عند تبين الخطأ

السؤال
هل يعزر الشاهدان إذا تبين خطؤهما، سواء في شهادة دخول الشهر أو في خروجه؟

الجواب
الشاهد لا يعزر إلا في حالة واحدة وهي: أن يتبين كونه زور وكذب، ويتبين كونه شاهد زور أو كذب بإقراره على نفسه، كأن يأتي للقاضي ويقول: إنه شهد كذباً على فلان أنه فعل كذا وكذا وهو لم يفعل، فإذا شهد الإنسان على نفسه بكونه شاهد زور، فحينئذٍ يترتب على ذلك أحكام: أولاً: إسقاط الحكم الذي ثبت بهذه البينة على خلاف عند العلماء، فبعض العلماء يقول: إذا كان رجوعه بعد ثبوت الحكم وقبل التنفيذ فإنه ينفذ، قالوا: لأنه لما رجع عن شهادته طعن في عدالته، ونحن قبلنا شهادته للحكم وهو عدل، فلما رجع بعد ثبوت الحكم شككنا هل هو صادق أو غير صادق، فنبقي الشهادة الأولى؛ لأنه شهد بتزكية الشهود العدول أنه عدل، فقالوا: لا نقبل رجوعه.
والصحيح وهو مذهب الجمهور: أنه إذا شهد على كونه مزوراً وكاذباً أنه ينقض الحكم.
والأمر الثاني: يعزر، والتعزير يختلف باختلاف الأشخاص، فبعض الأشخاص يعزر بالقول وبعضهم يعزر بالفعل، فالذي يعزر بالقول كالتوبيخ، كأن يكون من ذوي الهيئات وممن يعرف بالاستقامة ولكن حصلت منه فلتة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود ) ففي هذه الحالة يخفف عليه القاضي، ويكون تعزيره بالتوبيخ، كالناس الذين يتألمون بالكلام؛ لأن بعض الناس ينجرح بالكلام أكثر من انجراحه بالضرب والأذية، فيوبخه القاضي ويقرعه.
والنوع الذي يعزر بالفعل، كأن يأمر القاضي بجلده، فيجلد -مثلاً- عشر جلدات أمام الناس، أو يجلد في الملأ، فيؤتى به ويقيمه أمام باب المسجد ويضربه ويقرعه أمام الناس؛ حتى يكون ذلك تشهيراً له وزجراً لغيره.
أما الحكم الثالث فهو: التشهير، والتشهير: أن يركب على دابة ويطاف به في الأسواق، وقد فعل هذا السلف الصالح رحمة الله عليهم وأفتوا به.
فالتشهير أن يطاف به في الأسواق، ويقال: إن الشيخ فلان يقرئكم السلام ويقول: إنا وجدنا هذا شاهد زور؛ فلا تصدقوه، فيطاف به في الأسواق تشهيراً له وردعاً له عن العودة إلى مثل هذا الفعل، وزجراً لغيره أن يرتكب مثل ما ارتكب.
فإذا تبين خطأ الشهود فلا نحكم بتعزيرهم ولا نحكم بأنهم شهود زور؛ لأنهم ربما أخطئوا، والخطأ محتمل في الشهادة، فقد يتراءى له الشيء فيظن أنه هلال، فيحتمل أنه أخطأ ويحتمل أنه زور، ولما وجد التأويل لا يجوز اتهام الناس والوقيعة فيهم مادام أنه يوجد مساغ للتأويل ومساغ لنفي التهمة عنهم.
فحينئذٍ ما دام أنا وجدنا لهم المخرج من كونهم أخطئوا فإننا لا نوجب تعزيرهم، ولا الحكم بكونهم شهود زور، بل إننا نترك البينة على حالها؛ لأنها زكيت وعدلت وحكم القاضي بكونها على العدالة، فلا ننقض هذا الحكم ولا نوجب كونها زوراً إلا إذا جاء الشاهد وقال إنه تعمد الكذب، وإنه كذب من أجل أن يصوم الناس خطأً، فهذا حكمه حكم شاهد الزور سوءاً بسواء، والله تعالى أعلم.
لزوم التأكد من غروب الشمس عند الإفطار

السؤال
هل إفطار الصائم يتعلق بغروب الشمس أو بأذان المغرب، خاصة إذا رأى الغروب واستبطأ الأذان لاسيما وقد جاء الأمر بتعجيل الفطور؟


الجواب
إذا كان الإنسان في مدينة فلا يمكنه أن يتحقق من غروب الشمس، فإنه يعتمد الأذان؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) فجعل الأذان دليلاً على دخول الليل، وحينئذٍ يحل الفطر ويجوز للصائم أن يفطر.
وأما إذا كان في موضع يمكنه أن يرى الشمس ويتحقق من غروبها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم )، فإذا رأى إقبال الليل وإدبار النهار، وهو يعرف أمارات الغروب حل له الفطر.
أما مجرد غياب الشمس فيحتاج إلى ضبط؛ لأن الله عز وجل يقول: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة:187] وإلى الليل: أي مع الليل، وهو أن تمسك جزءاً يسيراً من الليل، وهذا الذي يضبطه البعض بذهاب الصفرة القليلة بعد المغيب، ولذلك قالوا: إن ذهاب هذه الصفرة يتحقق به من غروب الشمس، ولذلك يحتاج إلى إنسان عنده معرفة وعلم، فليس بمجرد أن يرى الشمس كادت أن تتوارى بالحجاب فيقول: غابت الشمس وحل الفطر، بل لابد أن يكون عنده إلمام بالتحقق من غروب الشمس بالصفة المعتبرة، فإذا تحقق بنفسه من مغيب الشمس بالصفة المعتبرة حل له أن يفطر، والله تعالى أعلم.
حكم الإفطار بالجماع أثناء قضاء صوم رمضان

السؤال
إذا كان الصوم قضاءً لأيام من رمضان ووقع الجماع، فهل يلزم المجامع بالكفارة؟


الجواب
مسألة الفطر في قضاء رمضان بالجماع، بعض العلماء يقول: إن القضاء يحكي الأداء، والإخلال في القضاء كالإخلال في رمضان؛ لأن الله عز وجل قال: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة:184] فجعل العدة من أيام أخر في منزلة رمضان، وعلى ذلك قالوا: إنه لو جامع فيها فإنه يجب عليه أن يقضي ويجب عليه أن يكفر كما لو جامع في رمضان نفسه.
وقال بعض العلماء: إنه لابد بأن يكون الجماع في نهار رمضان، فإذا وقع الجماع في أي صوم في غير رمضان فلا يلزم بالكفارة؛ لأن الرجل قال: ( هلكت وأهلكت! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أهلكك؟ قال: جامعت أهلي في رمضان ) فنص على رمضان، وإنما وجبت الكفارة في رمضان.
قالوا: فلا ينزل غير رمضان منزلة رمضان لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، وهذا المذهب هو أقوى من جهة النظر، والأول أحوط، والله تعالى أعلم.
لزوم جماعة المسلمين عند الفطر واجب شرعي

السؤال
أشكل علي صوم واحد وثلاثين يوماً لمن ردت شهادته فصام لرؤية نفسه، مع حديث ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) وذكر فيه أن الشهر تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً، فكيف الجواب على هذا؟


الجواب
أما بالنسبة لكونه يصوم واحداً وثلاثين يوماً فبطبيعة الحال أنه إذا رأى الهلال في ليلة الثلاثين سيصوم هذا اليوم من يوم رمضان -الذي هو من رمضان- وأما بالنسبة للواحد والثلاثين -وهو يوم العيد بالنسبة له- فقد ألغي من كونه عيداً، وألزم بالبقاء تبعاً، وفرق بين أن نقول: إن شهر رمضان واحد وثلاثون وبين أن نقول: إنه ألزم به تبعاً.
ومن أمثلة ذلك: من خرج من مدينة وكانت قد تأخرت في الصوم يوماً، وارتحل إلى مدينة أخرى، فإنه يعتد بهذه المدينة فطراً؛ لأنه ملزم بالجماعة، فإذا جلس معهم قد يكون صومه واحداً وثلاثين، فحينئذٍ يلزم بصيام هذا اليوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فطركم يوم تفطرون ) فجعل الفطر لنا يوم يفطر الناس، فألغي حكم هذا اليوم، وصار واحداً وثلاثين تبعاً لا أصلا.
أي: أننا لا نلزمه بذلك أصلاً من جهة أن رمضان واحد وثلاثين يوماً، وإنما ألزمناه في حالة فريدة، والقاعدة: أن الأصول العامة إذا ورد ما يستثنى منها فلا يعتبر قادحاً في الأصل.
فأنت تقول: الأصل عندي أن الشهر ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون يوماً، لكن هذه الحالة ورد بها نص أنه لا يفطر في الثلاثين، وأنه ينبغي أن يكون مع جماعة المسلمين، فأبقيه أنا لحكم يقصدها الشرع.
والاستثناء من القواعد العامة لا يعد قادحاً في تلك الأصول، ولا يعد معارضاً لها؛ لأنها أشياء وردت بأسباب معينة لمقاصد شرعية، فحينئذٍ نقول: إنه يلزمه أن يمسك يوم الثلاثين الذي هو واحد وثلاثون بالنسبة له ويتقيد بجماعة المسلمين، وهذا كله لمقصد في الشرع.
وكان الوالد رحمة الله عليه يقول: إن الشريعة اعتنت بلزوم الجماعة أيما عناية، وأن أكثر البلاء الذي يجر الناس إلى الشقاء هو الخروج والشذوذ عن الجماعة، ولذلك كان الشرع يربي في الإنسان الانتماء إلى جماعة المسلمين وعدم الشذوذ عنها.
قال صلى الله عليه وسلم: ( فما أدركتم فصلوا ) وقد تدخل المسجد والإمام في التشهد الأخير وقبل السلام بلحظة، فيجب عليك أن تدخل معه؛ لأنه لا يجوز لك أن تشذ عن جماعة المسلمين، فما دام أنها جماعة وهي قائمة في المسجد فأنت ملزم شرعاً بالدخول لظاهر قوله: (ما أدركتم) أي: أي شيء أدركتموه ولو للحظة واحدة قبل السلام فصلوا.
ثانياً: لما صلى عليه الصلاة والسلام بخيف منى ورأى الرجلين لم يصليا قال: ( علي بهما! ألستما بمسلمين -وهما على ظاهرهما وسمتهما ما دخلا المسجد إلا وهما مسلمان-؟ قالا: بلى يا رسول الله، ولكنا صلينا في رجالنا، قال: إذا حضرتما المسجد فصليا مع الناس ) وجاء بالرجل حينما لم يصلِ فقال: ( ألست بمسلم؟ قال: بلى، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد الطيب فإنه يكفيك ) .
وهو من حديث عمران في الصحيح.
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ) وقال في الرواية الأخرى: ( فلا تختلفوا علي ) فكأن مقصود الشرع أن يربي الإنسان على ملازمة الجماعة، وهذا منهج علماء التربية فإنهم يقولون: إن تعويد الإنسان على وتيرة معينة من أقوى الأشياء التي تجعله يألفها بنفسيته؛ بمعنى: أن الإنسان إذا ربيت عنده الشعور بالانتماء للجماعة والحرص عليها، وعدم الشذوذ عن جماعة المسلمين؛ ألف ذلك وأصبح ديدناً له، فعندما تأتي في صيام رمضان وتقول له: إنه يفطر، ويكون العيد له وحده، ويشذ عن جماعة المسلمين في فطره وعبادته، وفي فرحته وسروره، وهو يحس أن عيده هذا اليوم من دون سائر المسلمين؛ فكأنه يتربى عنده إلف الشذوذ والانفراد، لكن حينما تقول له: أنت ملزم بالجماعة، ويجب عليك أن تبقى معها وأن تصوم معها؛ فإنك تربي فيه هذه الملكة.
وكذلك إذا كان ثلاثين يوماً وهو يمتنع عن الطعام والشراب الذي أحله الله وأباحه له، وامتنع ولم يأكل ولم يشرب، فلو وقف على طعمة من حرام، وقيل له: إن هذا الطعام فيه لحم خنزير، يقول: لا آكل؛ لأنه صار عنده إلف أن يمتنع عن الطعام الذي حرم الله، وصار عنده إلف أن يمتنع عن الطعام الذي أحله الله له في الوقت حرم الله عليه فيه أن يطعمه، فمن باب أولى أن يمتنع عن الطعام الذي حرمه الله عليه بالكلية، وقس على هذا مما لا يحصى.
وحينما نأمر أولادنا بالصلاة لسبع فليست القضية قضية صلاة فقط، بل إن الصبي إذا تربى من الصغر والوالد يأمره وهو يأتمر وينفذ أمر الوالد؛ يصبح عنده شعور بالطاعة لوالديه، وشعور بالتبعية للوالدين.
لكن انظر إلى المجتمعات الغربية وبعض المجتمعات المسلمة التي تفرط في أمر الأبناء بالصلاة، فيأتي يوم من الأيام وإذا بالابن متمرد بالكلية على والده، وكثيراً ما تجد الشذوذ والعقوق في الابن الذي لم يروض على الصلاة من الصغر، فقل أن تجد إنساناً عنده ابن عاق إلا ووجدته من الصغر لا يأمره بالصلاة؛ لأنك إذا ربيته على الاستجابة لأمر الله عز وجل، والاستجابة لأمرك؛ فإنه يألف ذلك، فكأنها قضايا لها أبعاد لا تقف عند مسألة العبادة فقط؛ ولذلك قال سبحانه: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة:216] أي: هناك أمور لا تعلمونها، وهناك حكم وأسرار عجيبة غريبة تعود على الإنسان بالنفع في دينه ودنياه وآخرته.
فكون الإنسان يربى على الارتباط والانتماء لجماعة المسلمين فذلك فيه مصالح عظيمة؛ لأنه وإن كان فرداً يتضرر بصيام واحد وثلاثين يوماً، لكنه يحقق غايات أعظم وأسمى من كونه يشق على نفسه، وقد تأمر الشريعة بمشقة للفرد لمصلحة تترتب للجماعة، ولذلك كان العلماء رحمة الله عليهم يربون في طلابهم الشعور بالانتماء للعلم ومحبة العلماء، وكانوا يكرهون من طالب العلم كثرة الاعتراضات؛ لأنه حينما يتعود طالب العلم على الاعتراض والنقد وعلى هذا الشعور؛ تجده جريئاً على أئمة السلف وعلى العلماء، صلفاً وقحاً -نسأل الله السلامة والعافية- لا يتورع في كلامه ولا يتورع في تخطيئهم؛ لكن إذا ربيت فيه الشعور بالأدب والإجلال والتقدير لأهل العلم أصبح إذا جاء ليرد على العلماء تحفظ وتوقى، وصان لسانه عن الوقيعة في أعراضهم؛ لأن لديه إلفاً وشعوراً بتعظيم وإجلال السلف الصالح رحمة الله عليهم.
ولذلك كان بعض العلماء إذا وجد من الطالب هذا الشعور ربما طرده، ولربما أعرض عنه، وهذا معنى قول الإمام مالك رحمة الله عليه: (لا تعلموا أولاد السفلة العلم؛ حتى لا يستطيلوا على العلماء) لأن عندهم الإلف والشعور بذلك، فقد ألفوا ذلك في بيئاتهم وفي مجتمعاتهم، فالإلف له تأثير على نفسية الإنسان، ومن هنا كان من الخطأ الذي يقع فيه بعض المربين وبعض المدرسين أن يأتيه الطالب فينتقد شيئاً فيشيد به أمام الطلاب أنه انتقد، وأصبحنا نعود أبناءنا على الانتقاد، ولربما تجد البحث يقول لك: انقد كتاباً، فربينا فيهم الشعور على الجرأة.
وقد كان الناس قبل مائة سنة يجلون العلماء، وما وجدنا أحداً من أهل العلم يأتي ويجعل من منهجية تعلميه نقد الكتب والعلماء، ولكن أصبحنا اليوم بمجرد أن يأتي الشاب وعمره ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة- بل بعضهم حديث عهد بهداية- فنقول له: حضر كلمة انقد فيها كتاباً، أو لربما تكون مسابقة في عطلة صيفية أو مركز صيفي على نقد كتاب معين! من الذي ينقد؟! وما هذا الشعور الذي نربيه في الطالب؟ فالذي يتعود على النقد يصبح إلفاً له.
وابحث عن عالم يكون درسه وعلمه قائماً على نقد العلماء والتجريح فيهم وتتبع عثراتهم، أو تكون كتبه قائمة على نقد العلماء والتجريح في العلماء، إلا وجدت طلابه يسيرون وراءه حذو القذة بالقذة، حتى إن الله ينتقم منه في الدنيا قبل الآخرة، فيسلط عليه من طلابه من ينتقده كما انتقد، ويسل عليه ما سله على علماء المسلمين، لكن من يربي في طلابه حب العلم، ويجعل عندهم الشعور بالانتماء لجماعة المسلمين، والانتماء للعلم والعلماء وإجلال السلف الصالح وإعظامهم وإكبارهم؛ تجد طلابه قد تربوا على حب الله ووده وإجلاله؛ لأنهم ألفوا ذلك وأحبوه واعتادوه؛ فصار ديدناً لهم شاءوا أم أبوا.
فهذا المنهج ينبغي أن نعتني به كما اعتنى به الشرع، فهذا على شاهد قضية: أننا لا نفطر شذوذاً عن الجماعة، وهذا ابن مسعود رضي الله عنه كان يصلي وراء عثمان وهو يعلم أن عثمان قد زاد في الصلاة ما ليس منها، ومعلوم أن الزيادة في ركن من أركان الإسلام، ومع ذلك يصلي وراءه، قالوا له: ألا تجتزي بالركعتين؟ قال: الخلاف شر.
أي: لا أريد أن أشذ عن جماعة المسلمين.
وهذا عمر بن الخطاب يقف في وجه أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ويقول له: كيف تقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله )؟! فأصر أبو بكر وقال: (ألم تسمع قوله: إلا بحقها؟! والله لو منعوني عناقاً كان يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه) فقال عمر : (فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعملت أنه الحق) فما جاء يشذ ويقول: أيها الناس! أخطأ أبو بكر ، أو يؤلف رسالة ويقول: إن أبا بكر قد أخطأ، ويشهر به، لكن اجتمعت الكلمة واجتمع الشمل واتحد الصف؛ فكانت قوة على أعداء الإسلام، فجعل الله رأي أبي بكر عزاً للإسلام والمسلمين.
ولما أراد أن ينفذ جيش أسامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والعرب مرتدة، فاختار أبو بكر أن ينفذه، فصارت الكلمة مع أبي بكر ، فراجعه الصحابة فقال: (والله لا أحل لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: لا أستطيع أن أحل هذا اللواء وقد عقده الرسول صلى الله عل

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #204  
قديم 28-08-2022, 04:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصيام)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (199)

صـــــ(1) إلى صــ(16)



شرح زاد المستقنع - باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [1]
للصيام مفسدات من ارتكبها فقد بطل صومه، ومنها ما يوجب القضاء مع التوبة إلى الله تعالى، ومنها ما يوجب القضاء مع الكفارة، كالجماع في نهار رمضان، وقد شرعت الكفارة تكميلاً للنقص الذي يطرأ على أداء الفريضة، مع ما فيها من الزجر عن الوقوع في حدود الله ومحارمه.
مفسدات الصوم
بسم الله الرحم الرحيم بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول: المصنف رحمه الله: [ باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة].
يقول رحمه الله: (باب ما يفسد الصوم) أي: يبطله، فبعد أن بين لنا أن الله فرض علينا صيام رمضان، وبين لنا المسائل المتعلقة بهذه الفريضة، شرع رحمه الله في بيان ما يوجب فساد الصوم ويبطله، ويوجب الكفارة؛ لأن ما يبطل الصوم يأتي على صور: الصورة الأولى: يفسد الصوم ويلزم صاحبه بالقضاء.
الصورة الثانية: يفسد الصوم ويلزم صاحبه بالقضاء مع الكفارة.
وبناءً على ذلك جمع بينهما؛ لأن الكفارة مترتبة على وجود الإفساد للصوم كما هو الحال فيمن جامع أهله في نهار رمضان وهو صائم، فإن إيجاب الكفارة عليه مرتب على كونه أفسد صيامه، فقال رحمه الله: (باب ما يفسد الصوم -أي: سواء كان نافلة أو فريضة- ويوجب الكفارة) أي: يوجب على صاحبه أن يُكَفِّر، والكفارة مأخوذة من الكَفْر، وكَفَر الشيء إذا ستره، وسمي الكافر كافراً لأنه يستر نعمة الله عز وجل عليه، والكَفْر: هو الستر، ومنه قول الشاعر: فِيْ لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا أي: ستر نجومَها غمامُها، وسمي المزارع كافراً لأنه حينما يبذر البذر يستره ويُغيبه في الأرض.
وقوله: (الكفارة) عقوبة شرعية، اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيها: فبعض العلماء يقول: إن الله شرعها عقوبة للمُخل بالطاعة، كما هو الحال في الصيام فيمن جامع أهله في نهار رمضان.
ومنهم من قال: شرعها الله جبراً للنقص الموجود في العبادة.
ومنهم من جمع بين الأمرين فقال: الكفارات تعتبر عقوبات وزواجر ومكملات، فهي عقوبة لمن فعل، وزجرٌ لغيره أن يفعل، وتكميل للنقص الموجود بسبب الإخلال في العبادة.
ولذلك قالوا: إن من جامع أهله في نهار رمضان جعل الله كفارته عتق الرقبة، وهذا من أبلغ ما يكون، وقالوا: لأنه إذا أعتق الرقبة أعتقه الله من النار؛ وكأنه حينما تقحّم المجامعة لأهله متعمداً مخلاً بفريضة الله تقحّم نار الله عز وجل، فجعل الله الرقبة فكاكاً له من النار، ولذلك ثبت في الحديث: (أن من أعتق يُعتق بمن أعتقه حتى العضو بالعضو) يعتق كل عضو بعضوه.
ومن هنا قالوا: اشترط الله فيمن قتل مؤمناً خطأً أن يعتق رقبة مؤمنة، ولم يشترط الإيمان في كفارة الظهار، وقالوا: لمكان العتق، كذلك أيضاً قالوا: نزَّل الله عز وجل عند فقد العتق صيام شهرين متتابعين مكانه؛ فكأن هذا اليوم يقوم مقامه ستون يوماً متتابعة، وهذا يدل على حرمة شهر رمضان، وحرمة الإفطار في شهر رمضان.
قالوا: ومن هنا تكون الكفارة أشبه بالتكميل للنقص، مع ما فيها من معنى الزجر، فإن الناس ينزجرون، ولذلك جعلت هذه الكفارات جوابر، وجعلت عقوبة، وجعلت زواجر للمكلفين أن يقعوا في حدود الله ومحارمه بالإخلال بالفرائض والواجبات أو الانتهاك للحدود والمحرمات.
يقول رحمه الله: (باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة) كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بما يخل بصوم الإنسان ويوجب بطلانه.
الأكل والشرب عمداً من مفسدات الصيام
وقوله: [من أكل أو شرب أو استعط أو احتقن أو اكتحل بما يصل إلى حلقه، أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع غير إحليله، أو استقاء أو استمنى، أو باشر فأمنى أو أمذى، أو كرر النظر فأنزل، أو حجم أو احتجم وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد].
(من أكل أو شرب): أي: من أكل وهو صائم أو شرب، بشرط أن يكون ذاكراً لصومه، فلو كان ناسياً أنه صائم فالجمهور على أن صومه صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أكل أو شرب وهو ناسٍ فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه ) فهذا يدل على أن الناسي إذا أكل أو شرب في نهار رمضان أو غيره فصيامه صحيح؛ والسبب في ذلك: أن النسيان يعتبر عذراً له بنص الشرع، وهذه من المسائل التي يُسقِطُ فيها النسيان الضمان.
قال رحمه الله: (من أكل) سواءً وقع الأكل كثيراً أو قليلاً، ولو أخذ جزءاً يسيراً من الطعام وجاوز به اللهاة -اللهاة: هي اللحمة المتدلية في أعلى الحلق، وهذه اللهاة هي الفاصل بين أول الجوف وبين الفم- فإنه يحكم بفطره.
وقوله: (أو شرب): الشرب للمائعات والأكل للجامدات، ويستوي في ذلك القليل والكثير، ولو بقطرة ماء فأحس أنها بلغت الحلق فإنه يفطر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.
وعلى هذا (من أكل أو شرب) هذا فيه إطلاق، وهو شامل لكل ما يصدق عليه أنه أكل أو شرب، سواء كان قليلاً أو كان كثيراً، يغذي أو لا يغذي، يحصل به الارتفاق بالبدن أو لا يحصل، وفي حكم الأكل والشرب أن يدخله تداوياً، كما لو بخ على حلقه ذرات من الماء كالبخاخ المعروف للربو، فإن هذه القطرات -وإن قيل: إنها هواء لكنها ماء- تعتبر في حكم الماء، ورطوبتها واصلة إلى الحلق مندية له موجبة للفطر، وهذا قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم.
وقال بعض المتأخرين: إنها لا تفطر؛ والسبب في ذلك قالوا: إن هذا هواء؛ ولكن بسؤال أهل الخبرة يقولون: فيه من المركبات ما هو غريب عن الهواء، ولذلك: لو كان هواءً لما كان دواءً؛ لأنه لو كان هواءً مجرداً لكان بإمكان الإنسان أن يتداوى بدونه؛ لأن الهواء داخلٌ إليه لا محالة؛ فدل على أنه دواء، ولذلك قالوا: إن مادته لها جرم كالدخان ونحو ذلك، وبناءً عليه قالوا: لو أنه بخ فإنه يعتبر غير مفطر، وبسؤال أهل الخبرة والرجوع إليهم أثبتوا أنها مواد مركبة تتحلل وتمتص، ثم بعد ذلك يحصل بها رفق البدن والتداوي، وعلى ذلك: فكل ما جاوز اللهاة من ماء أو جامد أو دخان له جرم كالعود والشراب المحرم، كل ذلك يوجب الفطر.
ومن يفرق ويقول: هذا دواء وهذا هواء، فيحتاج إلى دليل؛ والسبب في ذلك: أن الإجماع منعقد على أن من أخذ قطرة من دواء وقطرها في حلقه فأنه يفطر، فدل على أن كونه يغذي أو لا يغذي لا معنى له، وأن العبرة بكونه يمسك، فإذا جاوزت قطرة واحدة حلقه فقد أفطر، دليلنا على ذلك: السُّنة الصحيحة في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث لقيط بن صبرة : ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ) فأنت إذا لاحظت هذا الحديث وتأملته فإن الذي يبالغ في الاستنشاق يحصل منه الغلط اليسير ببلوغ الذرة اليسيرة لحلقه، ومع ذلك قال له: (إلا أن تكون صائماً) ومن هنا أخذ جماهير العلماء على أن قليل المفطر وكثيره على حد سواء؛ وكأن الشرع قصد أن هذا حد لحرمته، لا يجاوزها مطعوم ولا مشروب، بل ولا دخان له جرم، فإذا جاوزها فقد خرج عن كونه ممسكاً صائماً على الوجه المعتبر شرعاً، وعلى هذا حكم جماهير العلماء بفطره.
وبناءً على ذلك: (من أكل أو شرب) الحكم هنا يشمل كل ما يحصل به الأكل أو الشرب ولو كان شيئاً يسيراً كما قلنا في قطرات الماء اليسيرة أو البخات التي لها ذرات؛ فإنها توجب الحكم بفطره.
وقوله: (أو استعط) السعوط يكون عن طريق الأنف، فلو أنه استعط عن طريق أنفه سواءً بلغ إلى دماغه كما هو الحال في بعض الأمراض التي يتداوى منها، وكما هو موجود في القديم بحيث يضعون -مثلاً- السمن في أنف الإنسان علاجاً لخياشيمه، فهذا الجفاف الذي يعالج بهذه المادة لو أنه استنشقه إلى أن بلغ الدماغ قالوا: يعتبر منفذاً.
ودليلنا على ذلك: حديث لقيط بن صبرة ، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم من الأئمة الأربعة، على أنه إذا استعط من أنفه ونزل إلى حلقه ووجد طعمه في الحلق أنه يفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ).
وفي هذا الحديث نقطة تحتاج إلى تأمل، وذلك أن العلماء المتقدمين رحمة الله عليهم ينظرون إلى علة الحكم، يعني: السبب الذي يحكم بكون الإنسان مفطراً به وما لا يعد فطراً، يعني: ما هو الشيء الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالفطر في بعض الأحوال ولا يحكم بالفطر في بعضها؟ العلماء في حديث لقيط بن صبرة على ثلاثة خيارات: منهم من يقول: الشرع يوجب فطر الإنسان إذا تناول الشيء عن طريق معين وهو الفم والمنفذ، ولذلك هذا المذهب يقوم على اعتبار الجهة التي يدخل منها المفطر.
وبعضهم يقول: لا.
العبرة بما يدخل إلى البدن بغض النظر عن جهة دخوله، سواء دخل من أعلى البدن أو أسفل البدن، ما دام أنه مادة مفطرة كالمغذيات والأدوية فإنه يعتبر مفطراً.
ومنهم من قال: يعتبر مجموع الأمرين.
وفقه هذه المسألة: أنك إذا جئت تتأمل حديث لقيط بن صبرة الذي اعتمده جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وتجد كتب الفقهاء رحمة الله عليهم والفتاوى مشحونة بالفتوى بفطر من دخل جوفه شيء من غير طريق الفم والأنف، وقالوا: لأن حديث لقيط بن صبرة حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيه بالتأثير في الصوم بغير المدخل المعتاد، فإن دخول الماء عن طريق الأنف مدخل غير معتاد، فلو قلت: لابد وأن يكون الشيء الذي يأكله الإنسان ويشربه يقوي البدن ويرفقه، فنرد عليك بقولنا: إن القطرات اليسيرة لا تقوي البدن ولا ترفق به، ونرد عليك أيضاً بقولنا: إن الإجماع حاصل على أن مجرد مجاوزة القطرة الواحدة للهاة يفطر، إذاً: كون المادة بذاتها مادة معينة غير وارد.
بقي مسألة أن تقول: العبرة بالدخول، بغض النظر عن كون الداخل دواءً أو طعاماً قليلاً أو كثيراً؛ والسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من دخول القطرة اليسيرة عن طريق الأنف، فدل على أن الجوف ممنوع أن يصل إليه شيء، وعلى هذا تُفرع فتقول: يستوي عندي أن يصل للجوف من أعلى البدن أو من أسفله.
وقد يعترض معترض فيقول: لو حقنه بحقنة في العضل فإنها لا تصل إلى داخل الجوف، والمراد بها علاج موضعي لالتهاب أو نحو ذلك.
يرد عليك ويقول: القطرة إذا دخلت من الأنف في الاستنشاق لا تصل إلى الجوف، وإنما تمتص قبل وصولها إلى الجوف، فكأن الشرع قصد من الصوم الإمساك المطلق.
ومن هنا نجد الفرق بين مسلك المتقدمين والمتأخرين، فنجد المتقدمين يشددون في وصول الشيء إلى البدن؛ لأن حقيقة الصوم: إمساك، وهذا الإمساك استنبطوه من جهة المعنى؛ فقد يخفى هذا المعنى على بعض العلماء ويقول: لا دليل على كون الكحل يفطر أو على كون القطرة تفطر.
نقول: لو كان كل أمر يحتاج إلى دليل لم تكن هناك حاجة للعلماء؛ وإنما الفقه أن يفقه ويفهم: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ) فاجتهد العلماء في المسألة من نص، ولم يجتهدوا من رأي مجرد.
إذ تأملوا حديث لقيط بن صبرة فظهر لهم أنه لا عبرة بالفم؛ لأن الأنف ليس بمدخل لطعام ولا شراب، ودائماً الشرع ينبه بالنظير على نظيره.
ولذلك الفطر بالفم مدخل معتاد، والفطر بالأنف -أي: بالاستنشاق- مدخل غير معتاد؛ فكأنه لما استنشق ونزل إلى حلقه صار الوصول إلى البدن موجباً للفطر، فقالوا: إذا قَطّر القطارة في عينه فوجد طعمها في حلقه أفطر، وإن وضع الكحل في عينه فوجد طعمه في حلقه أفطر؛ لأنه قد وصل إلى جوفه، فهذا هو فقه المسألة.
فليست المسألة كما يظن البعض أن هذا اجتهاد من العلماء دون وجود دليل عليه ولا نص، والحقيقة من لم يظهر له هذا المعنى ولم تظهر له هذه العلة لا يعده دليلاً حسب اجتهاده ورأيه؛ لكن الأئمة والعلماء المتقدمون رحمة الله عليهم الذين قرروا ذلك وبسطوه وبينوه وشرحوه إنما ركبوه من هذا الحديث، وهو حديث لقيط بن صبرة .
ولذلك تجد من يقول: إن الإبرة لا تفطر إذا كانت في العضل، قيل لهم: فلو كانت مغذية؟ قالوا: تفطر، فتناقضوا؛ لأنهم إذا قالوا: إن الإبرة تدخل من غير المدخل المعتاد في العضل، نقضه قولهم: إن الإبرة المغذية تفطر؛ فإن قالوا: تفطر لكونها مغذية.
رددنا بأن الوصول إلى البدن لا يلتفت فيه إلى كونه مغذياً أو كونه غير مغذ.
وهذه المسألة من جهة النظر والإمعان في حديث لقيط بن صبرة تدل دلالة واضحة على رجحان مذهب جماهير السلف رحمة الله عليهم والأئمة المتقدمين الذين كانوا يفرعون هذه المسألة على حديث لقيط بن صبرة ، ومن رجع إلى الشروحات والمطولات يجد ذلك جلياً، ولذلك تتعارض أنظار العلماء في تحديد الوصول إلى الجوف، وتجدهم يختلفون -كما سيأتي إن شاء الله- في ضوابط مفسدات الصوم.
ومن هنا أقول: لا ينبغي الاستعجال في الحكم على كون الأئمة المتقدمين رحمة الله عليهم يقولون بالمسألة بدون دليل، فقد كان السلف رحمة الله عليهم أورع وأخشى وأتقى لله سبحانه من أن يقولوا في دين الله ما لا علم لهم به.
وينبغي أن يعلم كل طالب أن الأئمة المتقدمين رحمة الله عليهم أصون وأحفظ لدين الله من أن يتجرءوا على تحليل حرام أو تحريم حلال بمحض الرأي أبداً، فهذا لا يمكن أن يكون من أئمة السلف رحمة الله عليهم، ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله، وقد قرر ذلك شيخ الإسلام رحمة الله عليه في رفع الملام وفي مجموع الفتاوى، وتكلم كلاماً نفيساً في هذا، مبيناً أن الأئمة رحمة الله عليهم اجتهدوا، واجتهاداتهم كانت مبنية على النصوص.
ولذلك فإن الشرع مبني على الفقه والفهم، قال صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ) فهم يفهمون العلل ويقولون: كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما)
الاحتقان من مفسدات الصوم
قوله: [أو احتقن] كأن تكون حقنة في الدبر، فهذه قالوا: إنها توجب الفطر؛ لأنها تصل إلى الجوف ويتغذى بها الإنسان ويرتفق بها دواءً وعلاجاً، وكما أنه يرتفق بالدواء من أعلاه، فهو يرتفق به من أسفله، ولذلك قالوا: إنه إذا احتقن بالحقنة من أسفل بدنه فإنه يعتبر مفطراً.
الاكتحال بما يصل إلى الحلق يفسد الصوم
وقوله: [أو اكتحل بما يصل إلى حلقه].
اكتحل: وضع الكحل في عينيه أو إحدى عينيه، (ووصل إلى الحلق) هذا هو الشرط؛ لأنه لو اكتحل قبل غروب الشمس بنصف ساعة ولم يجد طعم الكحل إلا بعد غروبها بنصف ساعة أو بساعة أو بلحظة، فإننا لا نحكم بفطره؛ لأنه لم يصل هذا المفطر إلى المكان إلا بعد انتهاء وقت الصوم، فصومه صحيح.
ولو اكتحل بالليل ووجد الطعم بالنهار لم يفطر؛ وذلك لأن الدخول كان بالليل، ولا عبرة بالوصول ولا تأثير له؛ لأن الإمساك الذي خوطب به المكلف قد تحقق؛ ولأن حقيقة الصوم الإمساك، ولذلك نجد الجمهور يقولون بالفطر في هذه الأحوال لأنها ليست بإمساك، فالإنسان إذا أدخل الكحل فيعتبر مفطراً إذا وجد طعم الكحل في يومه، أما إذا وجده بعد اليوم أو وضعه في الليل ووجده في النهار فإنه لا يفطر.
دخول أي شيء إلى الجوف من مفسدات الصيام
وقوله: [أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان غير إحليله].
أو أدخل إلى جوفه أي شيء كان، سواء كان مما يغتذي به البدن أو لا يغتذي به البدن.
(من أي موضع) أي: سواءً من أعلى البدن أو وسطه أو أسفله، فكل ما وصل إلى الجوف فإنه يوجب الفطر، والدليل على ذلك: ما ذكرناه من حديث لقيط بن صبرة ؛ فكأن حقيقة الصوم في الشرع هي الإمساك، ومن أدخل إلى جوفه شيئاً فليس بممسك، سواء كان الشيء يؤكل أو يشرب أو كان من غير ما يؤكل أو يشرب، فكل ذلك يوجب فطر الإنسان ويحكم بفطره.
(غير إحليله) والإحليل: هو مجرى البول من الذكر، واختلف فيه، ولما قال: (الإحليل) فهو بالنسبة للرجل، وأما بالنسبة للمرأة فالإيلاج في فرجها يوجب الفطر كالدبر، بخلاف قُبُل الرجل، فاختلف العلماء في الإحليل، فقال بعضهم: إنه لا يصل إلى الجوف، وليس بنافذ إلى الجوف لمكان الرشح الذي يكون عن طريق الكلية، قالوا: وهذا لا يوجب فطره، ومن هنا استثنى المصنف رحمه الله الإدخال عن طريق الإحليل بالنسبة للرجل.
الأسئلة
الإفطار بالنية إذا لم يجد شيئاً يفطر به

السؤال
من لم يجد ما يفطر عليه فهل يفطر بالنية؟


الجواب
على القول بأن النية تعتبر موجبة للفطر؛ فإنه يجزيه أن يفطر بالنية، بل يجب عليه أن ينوي أنه مفطر، وحينئذٍ يعتبر مفطراً، وقد جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: ( أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً ) فيصيب السنة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من السنة والهدي تعجيل الفطر وتأخير السحور، وعلى هذا فإنه ينوي إذا لم يجد طعاماً وشراباً، كما لو خرج من بيته، وأدركه وقت الأذان وهو في سيارته، وليس عنده طعام ولا شراب؛ فإنه ينوي في قلبه أنه مفطر على هذا الوجه، والله تعالى أعلم.
حكم وضع الطعام في الفم ثم لفظه

السؤال
من وضع الطعام في فمه وتذكر أنه صائم فلفظ الطعام، ثم وجد طعمه في فمه، فما حكمه؟


الجواب
من وضع الطعام في فمه، ثم تذكر أنه صائم ولفظه؛ فإن صومه صحيح، ويجب عليه أن يتمضمض وأن ينظف فمه حتى لا يمازج اللعاب تلك المادة الغريبة عن الفم، ومن هنا: إذا استاك بالمعجون ونحو ذلك فإنه يجب عليه أن يتنظف حتى تذهب مادة المعجون، فإذا مازجت مادة المعجون اللعاب واختلطت به فإن هذا يوجب فطره؛ لأنها مادة غريبة كما لو وضع تلك المادة الغريبة قصداً.
وعلى هذا: لابد له من المضمضة ومن التنظيف، فإن امتنع من المضمضة والتنظيف وبلع ريقه الذي فيه طعم ذلك الطعام، وفيه مادة ذلك الطعام وجرمه، أو حتى تحلل في ريقه، فإن هذا يوجب فطره، والله تعالى أعلم.
حكم من بالغ في الاستنشاق جاهلاً بالحكم

السؤال
ما حكم من كان يبالغ في الاستنشاق وهو جاهل بالحكم، وكان يجد الماء في حلقه؟


الجواب
من كان يبالغ في الاستنشاق ويجد طعم الماء في حلقه فإنه مفطر، ويلزمه قضاء تلك الأيام، والعذر بالجهل عذر في زمان التشريع، وأما بعد استقرار الشريعة فإنه ليس بعذر لإمكان سؤال العلماء، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على أن من بلغ ووجبت عليه عبادة فينبغي قبل أن يفعلها أن يسأل عن كيفية فعلها، فكونه يقصر في سؤال العلماء لا يعد جهله عذراً شرعياً، وعليه القضاء بالتقدير، والله تعالى أعلم.
حكم استعمال حبوب منع العادة في رمضان

السؤال
إذا تناولت المرأة ما يؤخر عادتها لكي تتمكن من صيام رمضان كاملاً، فما حكم ذلك؟


الجواب
ترد هنا مسألتان: المسألة الأولى: هل يجوز للمرأة أن تتناول الحبوب التي تؤخر العادة؟ الصحيح: أنه لا يجوز لها ذلك؛ لما فيه من إدخال الضرر على النفس، ولما فيه أيضاً من فوات المقصود شرعاً من حصول النسل، ولما فيه من إرباك العادة واختلالها على وجه قد تصبح المرأة فيه مضطربة العادة، حتى لا تستطيع أن تميز بين كونها حائضاً أو كونها مستحاضة، وتعاطي الأسباب للإخلال لا يجوز، وبناءً على ذلك: أرجح الأقوال في هذا أنه لا يجوز تعاطي مثل هذه الحبوب، وقد ثبت طبياً مؤخراً أنها تضر بالبدن، وأصبح وجود الضرر فيها موجباً لمنعها.
المسألة الثانية: لو أنها استعملت هذه الحبوب، ومنعت الدم شهر رمضان كاملاً، فهل صومها صحيح؟ أصح الأقوال: أن صومها صحيح؛ وذلك لأن الشرع علق الإبطال بوجود الدم، والدم غير موجود، ولذلك أصح الأقوال أن صومها صحيح، وحجها وطوافها بالبيت على هذا الوجه صحيح، وهو أصح أقوال العلماء المتأخرين الذين تكلموا على هذه المسألة، وبناءً عليه: فإن الدليل على صحة صومها وحجها وصلاتها أن الشرع علق المنع والتحريم على وجود الدم، والدم غير موجود، وبناءً على ذلك يعتبر صومها وصلاتها وسائر عبادتها صحيحاً من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.
حكم مباشرة الزوجة في نهار رمضان

السؤال
من باشر أهله في نهار رمضان من غير إنزال، فهل يعتبر مفطراً وعليه الكفارة؟


الجواب
من باشر أهله فإنه يعتبر متعدياً لحد الله عز وجل؛ وذلك لأن الغالب في المباشرة أنه لا يأمن معها الوقوع في المحظور، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) ولذلك قال العلماء: ينقص أجره في الصوم بقدر مباشرته، وعلى هذا فإنه لا يجوز له أن يتعاطى هذه الأسباب، وقد قال عليه الصلاة والسلام ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه ) فالله عز وجل حرم على المكلف أن يجامع أهله، والحمى الذي حول الجماع للصائم أن يباشر أهله فيتجرد هو وزوجته على وجه يحرك الشهوة، وهو صائم في فريضة من فرائض الله عز وجل فلا يأمن معها الإخلال، ولا يأمن معها أن يقع في حد الله عز وجل وحرمته.
ولذلك: لا يجوز له أن يتعاطى مثل هذه الأسباب، فإن حفظ نفسه ولم ينزل فإن صومه صحيح، ولكنه ناقص الأجر، وقال بعض العلماء: شرعت صدقة الفطر جبراً لمثل هذا النقص، وأما لو أنزل وحصل منه الإنزال دون إيلاج فللعلماء فيه قولان: قال الحنفية والمالكية: عليه القضاء والكفارة؛ لأن الكفارة مرتبة على كونه انتهك حرمة شهر رمضان.
وقال الشافعية والحنابلة: عليه القضاء دون الكفارة -وهو الصحيح- وإنما يجب عليه أن يقضي ذلك اليوم؛ لأنه بإنزاله لم يمسك على الوجه المعتبر في صومه، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: (وشهوته) ومن أنزل بالاستمناء أو مباشرة الأهل أو النظر إلى الصورة التي تثير شهوته، أو النظر إلى زوجته، أو كثرة تعاطي الأسباب الموجبة للإنزال فأنزل فإن صومه يعتبر فاسداً، وعليه القضاء، والله تعالى أعلم.
معنى صيام يوم في سبيل الله

السؤال
في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من صام يوماً في سبيل الله ) إلى آخر الحديث هل هذا الحكم خاص بالمرابط، أم هو على العموم؟


الجواب
للعلماء في هذا الحديث قولان: قال بعض العلماء: هذا الحديث خاص بالمجاهد في سبيل الله، سواء كان مرابطاً أو كان في حال القتال، وقالوا: السبب في ذلك: أن سبيل الله إذا أطلق المراد به الجهاد، وعلى ذلك نصوص الكتاب والسنة، فينصرف إلى الغالب المشهور، وقال بعض العلماء: إن قوله: (في سبيل الله) أي: ليس بواجب، وإنما صامه قربة ونافلة لله عز وجل، وقالوا: لأن المجاهد الأفضل له أن يتقوى بالفطر، ولذلك لا يكون صائماً في حال قتاله؛ حتى لا يضعف عن لقاء العدو، ويرجحون من هذا الوجه أن قوله: (في سبيل الله) المراد به النافلة، وكلا الوجهين له قوة وحظ من النظر، وكنت أرجح القول الذي يقول بالتخصيص، ولكن تبين أن الإطلاق أقوى، وإن كنت لا زلت متردداً في ترجيحه، والتوقف في هذه المسألة في نظري هو الذي ملت إليه.
فالحديث محتمل لكونه في سبيل الله في الجهاد، ومحتمل أن يكون (في سبيل الله) أي: طاعة وقربة لله عز وجل، وكان الذي يترجح عندي من قبل أنه الجهاد؛ وذلك لأنه المعهود في إطلاق الشرع؛ ولأنه لو كان المراد به النافلة المطلقة لقال: من صام نافلة ولم يخص بقوله: (في سبيل الله).
فهذان الوجهان يقويان أن يكون في الجهاد، ولما ظهر قول من يقول: إن المجاهد يتقوى بفطره على الجهاد، وكان ذلك أبلغ في حصول المقصود من جهاده تعارض القولان عندي، وتوقفت في هذه المسألة حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين.
والله تعالى أعلم.
حكم من أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان التالي

السؤال
إنسان لم يصم سنتين قديماً، وهو الآن شارع في القضاء، فهل القضاء كاف أم عليه القضاء والإطعام معاً، أم عليه الإطعام مع التوبة فقط؟


الجواب
من أفطر في رمضان فإنه يلزمه القضاء، سواء وقع فطره متعمداً أو لعذر؛ فإذا أفطر رمضان كاملاً لزمه قضاء رمضان كاملاً، ويعتبر القضاء مؤخراً في حقه، فيجوز له أن يؤخر القضاء ما لم يبق على رمضان الثاني بقدر ما عليه من القضاء؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: ( إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ) أخذ العلماء من هذا دليلاً على أن قضاء رمضان موسع، فإذا ماطل الإنسان وأخر وقصر حتى دخل رمضان الثاني، فجماهير العلماء على أنه يلزمه القضاء مع الكفارة، فيكفر عن كل يوم ربع صاع، وعن كل شهر سبعة آصع ونصف، وعلى هذا: فإنه يحسب الرمضانات التي أخل فيها، ويلزمه القضاء مع التكفير على قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم.
والله تعالى أعلم.
مسألة في حكم حياة الشخص بالتنفس الصناعي

السؤال
من مات دماغياً واحتيج إلى الجهاز الذي يستخدمه لوصله بشخص آخر، فهل يؤخذ منه ولا يكون في ذلك إزهاق لنفس مسلمة؟


الجواب
هذه المسألة تعتبر من النوازل المعاصرة، وموت الدماغ مسألة تحتاج إلى نظر وعدم استعجال في الفتوى، وذلك لأن مسألة موت الدماغ نفسها لم يتفق فيها الأطباء على ضوابط معينة، فهناك تقريباً ثلاث مدارس في تحديد المفهوم لموت الدماغ، ومع هذا حصلت حوادث يحكم فيها على إنسان بأنه ميت دماغياً، ثم بعد ذلك يفيق، وقد حصل هذا ووقع، وقد اطلعت على بعض الحوادث التي نقلت بأنه حكم بموته دماغياً، وأعرف حتى من أهل العلم والفضل من حكم عليه بالموت دماغياً، وأرادوا أن يأخذوا منه أعضاء للتبرع، ثم تأخر الورثة وحصل بينهم شقاق خلال أسبوع، فشاء الله أن يفيق بعد أسبوع.
فهذه مسألة ليست من السهولة بمكان، إضافة إلى أن التشخيص والضوابط التي اطلعت عليها من كلام الأطباء في مسألة الموت الدماغي أو الموت السريري، هذه الضوابط لا تتيسر إلا في أرقى المستشفيات، فكوننا نفتي وتكون الفتوى عامة فهذا أمر يحتاج إلى تريث؛ فإنه لابد من الاحتياط لأرواح الناس وعدم الاستعجال في مثل هذه المسائل.
لكن لو أن شخصين أحدهما ميئوس منه؛ لأن الأمراض تتفاوت ودرجاتها مختلفة، فهناك أمراض ميئوس من علاجها كالسرطانات ونحوها، أو يكون الإنسان في سن يغلب على الظن هلاكه وأصابه مرض قل أن يشفى منه أو الغالب أنه لا يشفى منه، وهناك حالة طارئة طرأت لإنسان مرضه غير ميئوس منه، والغالب أننا لو وضعنا عليه الجهاز فإنه يشفى ويعافى، فحينئذ هل للطبيب أن يسحب الجهاز من هذه الحالة الميئوس منها إلى هذه الحالة التي يمكن علاجها؟ فالجواب: نعم، كما لو دخل مريضان على طبيب وقد أشرفا على الموت، وأحدهما أرجى نجاة من الآخر؛ فإنه ينصرف إلى الذي هو أرجى ويغلب على ظنه أنه يحيا، والسبب في هذا: أن اشتغاله بهذه الحالة الميئوس منها مفض إلى مصلحة مظنونة وضعيفة الحصول، مع فوات مصلحة متيقنة أو غالبة وهي مصلحة الشاب أو الشخص الذي مرضه غير ميئوس منه، لكن إقباله على هذه الحالة التي لا ييئس منها مصلحة غالبة ومصلحة راجحة، تعارضها مصلحة متوهمة، فكان الترجيح؛ لأن الشرع يقدم في المفاسد درء أقواهما وفي المصالح أرجحهما، فإذا تعارضت مصلحتان تقدم أرجحهما، وإذا تعارضت مفسدتان تدرأ أكبرهما، والدليل على ذلك أن الخضر كسر السفينة لخوف أن تؤخذ السفينة بكاملها، فقالوا: هذا يدل على أنه إذا تعارضت مفسدة فوات السفينة بكاملها، وكونه يكسر جزءاً منها ويعيبها، يدل على أن الضرر الأخف يَدْفَع ما هو أعظم منه، ويراعى ما هو أغلب ضرراً وأعظم.
فمثل هذه الحالات التي يغلب على الظن الشفاء والعلاج فيها، مثل: حوادث السيارات، فيدخل المريض وهو في حالة من الخطر ويتوقف علاجه على الأجهزة؛ فإننا نقدمه على تلك الحالة الميئوس منها، ويجوز للطبيب في هذه الحالة خاصة، وهي التي توصلت إليها من خلال البحث -أي: هي الحالة التي يجوز فيها سحب أجهزة الإنعاش عن المريض- أن توجد حالات غير ميئوس منها أو الغالب على الظن علاجها، فإنها تقدم على الحالة الميئوس منها والتي كانت تعالج من قبل، والله تعالى أعلم.
مسألة الإنصات عند سماع القرآن

السؤال
قال الله تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا } [الأعراف:204] هل الحكم خاص بالصلاة، أم هو عام حتى خارج الصلاة؟

الجواب
هذا فيه تفصيل: إذا كان المكان مهيأ لتلاوة كتاب الله عز وجل، كأن يكون في حلق علم وحلق دراسة للقرآن فلا يجوز لأحد أن يجلس في الحلقة وهو يحدث صاحبه؛ حتى لا يشوش على إخوانه، بل ينتحي مع زميله ناحية بعيداً عن هذه الحلق.
أما لو كان المكان غير مهيأ، كأن يكون الإنسان ماشياً في الطريق، أو سمعه عرضاً في دكان أو بقالة أو نحو ذلك فلا يلزمه أن يستمع، ولكن لو استمع فهو أفضل، والمرد بذلك أن يكف عن الكلام ويصغي، حتى ولو كان يمشي، وهكذا المرأة لو كانت في عملها وشأنها وتصغي لكتاب الله وتستمع له، وتتأثر بالآيات التي فيه فهذا خير، وهي عبادة السمع والقلب.
فإذا كان الإنسان يريد الأفضل فليستمع، وأما بالنسبة لوجوب الإنصات فهذا في الصلاة من جهة تعين الإنصات، أما في الطريق أو أثناء المرور على حلقة علم لا يلزمه أن يجلس ويستمع، وإنما يلزمه الاستماع والإنصات في الصلاة، وأما خارج الصلاة فالعلماء يفصلون بين المكان المهيأ وغير المهيأ.
ومن هنا ينبه على مسألة جلوس البعض في حلق العلم يتحدث بعضهم مع بعض وخاصة النساء، وقد اشتكت بعض الأخوات في بعض المساجد من أن بعض النساء يأتين في أثناء حلق العلم أو المحاضرات ويتكلمن ويتحدثن داخل مصلى النساء، ويشوشن على أخواتهن.
وهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرر، ومن أعظم الضرر أن يأتي طالب العلم أو تأتي طالبة العلم وقد تركت مصالحها وتفرغت لكلام ربها وكلام رسولها عليه الصلاة والسلام؛ تريد أن تستفيد وأن تتعلم، ثم تأتي هذه المرأة لكي تشوش على أخواتها، فهذا من أعظم الضرر، وإني أخشى على أمثال هؤلاء أن تصيبهم دعوة المؤمنين والمؤمنات، والإنسان إذا ظلم أخاه ودعا عليه فإنه لا يعود عليه بخير، فعلى الإنسان أن يبتعد عن أذية إخوانه المسلمين؛ فإذا كان يريد التحدث فليخرج من المسجد أو ينتحي ناحية بعيدة عن الحلق؛ حتى لا يشوش على إخوانه المصلين وكذلك على إخوانه الذاكرين لله عز وجل، سواءً كان ذلك في حلق علم أو في محاضرات أو في قراءة قرآن .
أو نحو ذلك.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #205  
قديم 28-08-2022, 04:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصيام)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (200)

صـــــ(1) إلى صــ(24)



شرح زاد المستقنع - باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [2]
مما يفسد الصوم ويوجب القضاء: القيء عمداً، والاستمناء، والمباشرة مع الإنزال، والإنزال بسبب تكرار النظر، وهناك خلاف بين العلماء في الحجامة هل تفطر أو لا؟ وهناك أمور لا تفسد الصوم ولا توجب القضاء، ومنها: من طار الى حلقه ذباب ونحوه، ومن فكر فأنزل المني أو احتلم في نهار رمضان ونحوها، وهناك مسائل متعلقة بالشكل في طلوع الفجر وغروب الشمس مبينة في موضعها.
من مفسدات الصيام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المؤلف عليه رحمة الله: [أو استقاء أو استمنى، أو باشر فأمنى أو أمذى، أو كرر النظر فأنزل، أو حجم أو احتجم وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد].
القيء عمداً مفسد للصوم
لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا ما يوجب فساد صوم الصائم، فقال رحمه الله: (أو استقاء) وقد تقدم أن طلب القيء يعتبر موجباً لفساد الصوم، والأصل في ذلك ما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من استقاء فقاء فليقض ) فقد دل هذا الحديث على أن الصوم يفسد بالقيء، وهناك فرق بين من استقاء وبين من ذرعه القيء؛ فالإنسان له حالتان: الحالة الأولى: أن يستدعي القيء، وذلك بإدخال إصبع أو نحو ذلك من الأفعال التي تحركه فيقيء ما في بطنه، فإذا استقاء بمعنى أنه تعاطى الأسباب التي يستدعي بها القيء فإنه حينئذٍ يعتبر مفطراً، وعليه قضاء ذلك اليوم.
أما الحالة الثانية: بالنسبة لمن ذرعه القيء وغلبه، سواء سمع ما يكره أو رأى ما يوجب اشمئزازه ونفرته فذرعه القيء فقاء؛ فكل هؤلاء يعتبرون في حكم المعذورين، ولذلك لا يجب عليهم قضاء، وحكي الإجماع على هذه المسألة -أعني مسألة القيء- فقالوا بالتفريق بين من ذرعه القيء وغلبه، وبين من تعاطى أسباب القيء، فإذا تعاطى وجب عليه القضاء، وإذا غلبه القيء لا قضاء عليه.
الاستمناء من مفسدات الصيام
[أو استمنى].
الاستمناء: أن يطلب خروج المني، وهو على وزن (استفعال)، والمراد بذلك أن يحرك شهوته إما بيد أو بتحكك على أرض أو على جدار أو نحو ذلك، كل ذلك يعتبر استمناءً، وكانت العرب في الجاهلية تسميه (جلد عميرة) يكنون به عن استخراج المني، ومنه قول الشاعر: إِذَا حَلَلْتَ بِوَادٍ لا أَنِيسَ بِهِ فَاجْلِدْ عُمَيْرَةَ لا عَيْبٌ ولا حَرَجُ فجاء الإسلام بتحريم هذه العادة المشينة القبيحة، فقد قال سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } [المؤمنون:5-7] فبين سبحانه أن من طلب شهوته، وكان طلبه خارجاً عما أحل الله من الزوجة والسّرية؛ فإنه يعتبر متعدياً لحدود الله عز وجل.
وهذا القول قال به أئمة من السلف وفسروا به الآية، وقالوا: إنها تدل على تحريم الاستمناء، وقد وردت أحاديث في تحريم هذه العادة؛ حتى إن بعض العلماء جمع طرقها وقال: إنها يقوي بعضها بعضاً، بحيث تدل على أن للحديث أصلاً في التحريم.
والشاهد من هذه المسألة: أن من حرك شهوته بنفسه أو عن طريق زوجته: فاستمنى بها بمفاخذة أو نحو ذلك؛ فإنه يجب عليه قضاء ذلك اليوم إذا خرج منه المني.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي عن الله تعالى في حق الصائم: ( يدع طعامه وشرابه وشهوته ) فلما قال: (وشهوته) أطلق، فشمل الشهوة الكبرى سواءً كانت عن طريق الجماع أو كانت عن طريق الاستمناء، فإذا أنزل المني فقد حصلت شهوته، وهي شهوة كبرى، وبناءً على ذلك يعتبر غير صائم؛ لأن الصائم يدع هذه الشهوة، ومن استمنى لم يدع هذه الشهوة.
وبناءً عليه: فإن الاستمناء يعتبر من موجبات الفطر.
وشذّ الظاهرية رحمة الله عليهم فقال بعض فقهائهم: إن الاستمناء ليس بحرام، ولا يوجب الفطر.
ولا شك أن النصوص التي قدمنا تدل على حرمته، إضافة إلى ما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: ( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ) فلو كان الاستمناء جائزاً لقال: فعليه بالاستمناء، فدلت هذه النصوص من الكتاب والسُّنة على تحريم الاستمناء، ودل حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه -وهو ثابت في الصحيح- وفيه: ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) على أن من استمنى أنه يعتبر مفطراً.
وعلى هذا: فإنه يستوي أن يستمني بنفسه أو يستمني بواسطة الغير، فكل ما استدعى به خروج منيه يعتبر موجباً لفطره إذا خرج ذلك المني.
والعبرة في المسألة بخروج المني، فلو استمنى ولم يخرج مني أو حرك شهوته ولم يخرج المني فإن الشهوة لم تقع على الصورة الكاملة، فلا ينتقض صومه ولا يلزمه قضاء، ولكنه يعتبر ناقص الأجر بمثل هذا كما ذكر ذلك بعض العلماء رحمة الله عليهم.
المباشرة المسببة لنزول المني أو المذي مفسدة للصوم
[أو باشر فأمنى أو أمذى].

أو باشر امرأته فأمنى أو أمذى، والمباشرة (مفاعلة) من البشرة، والمراد بها: أن تلي بشرته بشرة المرأة فتتحرك شهوته فينزل، وهذا يكون فيه المضاجعة التي لا جماع فيها، فإذا باشر امرأته فكأنه تعاطى السبب للفطر كما لو استقاء أو استمنى، ولذلك إذا أنزل المني سواءً بمباشرة أو استمناء فإنه يعتبر مفطراً.
والدليل على كونه إذا باشر فأنزل أنه يعتبر مفطراً ما تقدم من حديث الشهوة، حيث دلت هذه السُّنة الصحيحة على أن الصائم لا يقضي شهوته بإنزال المني ولا بالجماع، فإذا باشر زوجته وأنزل منيه فإنه حينئذٍ يعتبر مفطراً ويلزمه القضاء.
لكن قوله: (أمذى) المذي: هي القطرات القليلة اللزجة التي تخرج عند بداية الشهوة، بخلاف المني الذي يخرج دفقاً عند الشهوة واللذة الكبرى، فإذا حصل المني أفطر لقول جماهير العلماء كما ذكرنا، أما لو باشر زوجته فخرج منه المذي قطرة أو قطرات فإنه يعتبر مفطراً في قول الحنابلة والمالكية.
وذهب الحنفية والشافعية إلى أنه غير مفطر، والصحيح: أن من باشر أو نظر إلى شيء فأمذى أن المذي لا يوجب الفطر؛ لأن المذي ليس كمال الشهوة، وبذلك لا ينتقض صومه.
الإنزال بسبب تكرار النظر يفسد الصوم
[أو كرر النظر فأنزل].

أو كرر النظر إلى ما يُشتهى فأنزل؛ لماذا قال: (كرر)؟ التكرار يحصل بالمرة الثانية؛ وذلك لأن النظر في المرة الأولى عفي عنه؛ لأنه ومما يشق التحرز عنه، فلو نظر إلى زوجته فأعجبته وبمجرد نظره إليها أنزل قالوا: إن هذا ليس بيده، وغالباً يكون مثل من ذرعه القيء؛ فاغتفروه، وأما إذا كرر النظر وتابع النظرة بعد النظرة فإنه يحرك شهوته كما يحركها المباشر والمستمني، فإن حصل إنزال على هذا الوجه فإنه يجب عليه القضاء.
الحجامة من مفسدات الصيام
[أو حجم أو احتجم وظهر دم].

أو حجم غيره أو احتجم لنفسه، فهناك حاجم وهناك محجوم، والحجامة تكون بمص الدم، وهي من الجراحات القديمة، وقد ثبتت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنها من الأدوية، فقال عليه الصلاة والسلام: ( إن كان في شيء مما تتعالجون به شفاء ففي شرطة من محجم، أو آية من كتاب الله، أو شربة من عسل، أو كية من نار، ولا أحب أن أكتوي ) .
فالحجامة من أنواع العلاج، ولا تزال إلى يومنا هذا، وتسمى من تخصصات الجراحة العامة في عصرنا الحاضر، وقد أقرتها الشريعة وحمدت العلاج بها، وهي تقوم على مص جزء من الدم من الجسم، ويختلف العلاج بها فتكون في الرأس، وتكون في الظهر، وتكون في أسافل البدن، وتحجم المواضع على حسب الأمراض والأدواء، فلكل داء ومرض مكان معين، ولربما لو تحرك عنه أو عدل عنه جاء بداءٍ أعظم من المرض الذي يريد أن يعالج من أجله، ففي الرأس مواضع لو حُجمت شفي الإنسان من ثقل النوم ومن أمراض الصداع، وفيه مواضع لو حُجمت أصابه النسيان، ولربما ذهبت ذاكرته، ولذلك هي تعتبر من أنواع العلاج لكن بشرط: ألا يحتجم الإنسان إلا عند إنسان يعرفها، فهي خطيرة، فكما أنها تأتي بالنفع فقد تأتي بالضرر.
وهذه الحجامة تعتبر محل خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، هل إذا احتجم الإنسان أو حجم غيره يعتبر مفطراً أو لا؟ ففي ذلك سنن وآثار مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في حديث أحمد و أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) وهذا الحديث رواه بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أوصلهم الإمام الحافظ الزيلعي رحمة الله عليه إلى ثمانية عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم روى عنه هذا الحديث.
إلا أن أكثر هذه الأحاديث ضعيف ولا يقوى سنده؛ ولكن هناك أحاديث حكم بتحسينها، وجزم بعض العلماء والحفاظ بتصحيحها، فقد صححها الإمام أحمد رحمة الله عليه، والإمام البخاري يحكى عنه تصحيح حديث الحجامة في الفطر، وغيرهما من الأئمة رحمة الله على الجميع، والعمل على ثبوت قوله عليه الصلاة والسلام: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) قالوا: فقوله: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) يدل على أن من حجم أو احتجم يعتبر مفطراً.
ووجه ذلك: أن الحاجم -وهو الشخص الذي يقوم بالحجامة- ولأن الحجامة تحتاج إلى مص الدم -فيُشرَّط الموضع ثم يُمص الدم الفاسد- فلا يأمن من أن يمص شيئاً من ذلك الدم.
وأما المحجوم: فلأن الحجامة تضعف بدنه وتنهك قوته، ولذلك قالوا: إنه يعتبر مفطراً، ويستوي الحكم في الحاجم والمحجوم.
وذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم -وهو قول طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ أنس وغيره- أن هذا الحديث منسوخ، ومنهم من يقول: إن حديث: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) يُخرج على غير الفطر الحقيقي.
واختلفوا في ذلك، فقالت طائفة: إن هذا الحديث ورد في سبب مخصوص، وذلك: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بالبقيع -كما في بعض الروايات- على حاجم ومحجوم وسمعهما يغتابان الناس وهما صائمان، فقال عليه الصلاة والسلام: أفطر الحاجم والمحجوم ) أي: أنهما بغيبتهما للناس قد أذهبا أجر صيامهما، فكأنهما أفطرا.
والعرب تقول: أفطر، وتقول: أصبح، وتقول: أمسى، وهو لم يمس ولم يفطر ولم يصبح حقيقة؛ وإنما المراد: أنه تعاطى شيئاً يفوّت المقصود كما في حال الصائم هنا: لما تعاطى الغيبة كأنه ذهبت حسناته فكأنه لم يصم أصلاً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) هذا الوجه الأول.
والوجه الثاني -وهو أقوى الوجوه-: أن قوله عليه الصلاة والسلام: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) المراد به أنهما أوشكا على الفطر، كما تقول: أصبحتَ أصبحتَ.
أي: ويحك كدت أن تصبح.
كما في حديث ابن أم مكتوم ( وكان لا يؤذن إلا إذا قيل له: أصبحتَ أصبحتَ ) .
وهذا موجود في لغة العرب إلى يومنا هذا، فإنك تقول للرجل: هلكتَ هلكتَ! وأنت لا تقصد أنه هلك حقيقة، كأن يكون قريباً من نار أو قريباً من بلاء، فتقول له: احترقتَ احترقتَ! وهو لم يحترق حقيقة؛ وإنما المراد أنه في موضع يعرضه للاحتراق.
قالوا: فقوله: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) أي: أن الحاجم لا يأمن من دخول شيء من الدم إلى جوفه، والمحجوم لا يأمن من الضعف الذي يفضي به إلى الفطر، وهذا نسميه تأويل الحديث بما يدل عليه الحال، فإن الحال يدل دلالةً واضحةً على أنه سينهك بدن المحجوم، ولا يأمن الحاجم من ازدراد الدم، ولذلك لا تستطيع أن تقول: إن الحاجم أفطر حقيقة؛ لأن المفطر حقيقة يأكل أو يشرب أو يتعاطى شهوة توجب فطره، فلما كان الحاجم والمحجوم لا يأكلان ولا يشربان، وإنما فيهما معنىً يفضي بهما إلى الضعف الذي ينتهي إلى الفطر قَوِيَ حمل الحديث على هذا الوجه.
وهناك وجه ثالث -وهو من أقوى الأوجه، واختاره جمع من الأئمة رحمة الله عليهم كما أشار إليه الإمام ابن حزم الظاهري وغيره- وهو: أن حديث: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) كان في أول الإسلام ثم نسخ، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك قال: (إنما كان رخصة) وكذلك مثله حديث أبي سعيد الخدري قال: ( ثم رُخص في الحجامة ) قالوا: فقوله: (ثم رخص في الحجامة) يدل على أن الأمر كان في الأول عزيمة ثم خفف فيه، وهذا هو القول الأقوى والأوجه في هذه المسألة.
إضافة إلى أنه ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم ) و ابن عباس من صغار الصحابة، ولذلك قالوا: إنه يقوى أن يكون حديث الناسخ متأخراً عن المنسوخ، وهو حديث الرخصة الذي ذكرناه عن أنس بن مالك و أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
وعلى هذا الوجه: فإن الحجامة كانت في أول الأمر موجبة لفطر الحاجم والمحجوم، ثم نسخ ذلك وأصبحت رخصة، كما قال أنس : (ثم رخص بَعْدُ في الحجامة) وعليه: فإنه إذا احتجم الإنسان أو حجم غيره فإنه لا يعتبر مفطراً.
لكن على القول بأن الحجامة تفطر فقالوا: لا تكون مفطرة إلا إذا مص الدم - أعني الحاجم - فلو أنه فصده، بمعنى قطع منه العرق وجرى الدم، والفرق بين الحجامة والفصد: أن الحجامة تكون لأوعية الدم، فتمتص ما هناك من الدم الفاسد، وأما بالنسبة للفصد فإنه يكون للعروق، فالفصد لايعتبر موجباً لفطر الفاصد؛ لأنه لا يمص؛ ولكن هل يكون مؤثراً في صيام المفصود؟ قال بعض العلماء: الفصد يلتحق بالحجامة من جهة أنه ينهك بدن المفصود، بل قد يكون الفصد أقوى وأبلغ في التأثير على الجسم من الحجامة؛ لأنه يتصل بالعروق، وجريان الدم في العروق أشد من جريانه في الأوعية، وتضرر الإنسان بالفصد أعظم من تضرره بالحجامة.
وعلى القول بأن الفصد يوجب الفطر فإن من تبرع بدمه يدخل في هذا؛ لأن الفصد إخراج للدم من العرق، والتبرع بالدم إخراج للدم من العروق.
وعلى هذا فإنهم يقولون: إذا خرج منه الدم على هذا الوجه فإنه يعتبر مفطراً؛ لكن لو خرج الدم بغير اختياره كرعاف ونزيف من جرح ونحو ذلك قالوا: لا يعتبر مفطراً؛ لأنه هناك أدخل الضرر على نفسه، بخلاف ما إذا غلبه الرعاف أو طعن أو جرح؛ فإنه لا يعتبر مفطراً.
[وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد].
يشترط في الحجامة -كما قلنا-: أن يظهر الدم، ومفهوم قوله: (وظهر دم) أنه إذا لم يظهر الدم فإنه لا يعتبر مفطراً.
ومثال ذلك: لو أنه شرطه وأذن المغرب فخرج الدم بعد أذان المغرب فإنه لا يعتبر مفطراً؛ لأن خروج الدم الذي ينبني عليه الحكم بالفطر إنما وقع بعد الأذان، وعليه: فإنه لا يعتبر مفطراً من هذا الوجه.
وأما لو شرطه وخرج الدم قبل الأذان ولو بلحظة فإنه يعتبر مفطراً على هذا القول.
[عامداً ذاكراً لصومه فسد].
(عامداً): أي متعمداً للحجامة، فلو أكره عليها لم يؤثر.
(ذاكراً لصومه): فلو كان ناسياً لم يؤثر، وقد قلنا إن الصحيح في هذا كله: أن الحجامة لا توجب الفطر.
[عامداً ذاكراً لصومه لا ناسياً أو مكرهاً].
(لا ناسياً) أي: لا إن كان ناسياً؛ لأن النبي قال: ( من أكل أو شرب في نهار رمضان وهو ناس فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه ) فإذا كان الأكل والشرب مع النسيان لا يوجب الفطر، فكذلك الحجامة مع النسيان لا توجب الفطر.
وقوله (لا ناسياً أو مكرهاً) المكره: ضد المختار وهو الذي يأتي الشيء بغير اختياره، والإكراه له شروط، فإذا تحققت شروط الإكراه المعتبرة شرعاً فإنه يسقط عنه التكليف في قول جماعة من أهل العلم رحمة الله عليهم، وأصول الشريعة دالة على ذلك، فقد قال تعالى: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } [النحل:106] فأسقط الله المؤاخذة بالردة، وهي كلمة الكفر إذا كان الإنسان مكرهاً عليها؛ فمن باب أولى فروع الشريعة، فإذا كان الإكراه لا يوجب الكفر فمن باب أولى أن لا يوجب الفطر ولا غيره من الإخلالات.
الأشياء التي لا تفسد الصيام

[أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار، أو فكر فأنزل، أو احتلم، أو أصبح في فيه طعام فلفظه، أو اغتسل أو تمضمض أو استنثر، أو زاد على الثلاث، أو بالغ فدخل الماء في حلقه لم يفسد].
من طار إلى حلقه ذباب أو غبار لم يفسد صومه
[أو طار إلى حلقه ذباب].
كأن يكون الإنسان يتكلم فلا يشعر إلا والذباب قد دخل في حلقه، فقد غلبه، فهذا لا يؤثر.
[أو غبار].
فالغبار إذا قصده فإن له جرم ومادة ويوجب هذا الفطر، وقد قررنا هذه المسألة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل قطرات الاستنشاق يحظر على الإنسان أن يتعاطى أسبابها في الأنف -في قوله صلى الله عليه وسلم: ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )-؛ والسبب في ذلك: أن لها جرماً، ويستوي في ذلك القليل والكثير، ولذلك لو أخذ قليلاً من الطين وطعمه وجاوز اللهاة فإنه يفطر بلا إشكال، فكذلك لو قصد الغبار فلعقه، أو فتح فمه له قاصداً دخوله فإنه يعتبر مفطراً، فإذا طار الغبار أو الذباب فدخل حلقه فلا يفطر؛ لأنه مما يشق التحرز منه.
من تفكر فأنزل المني لم يفسد صومه
[أو فكر فأنزل].
قوله: (أو فكر فأنزل) لا يفطر فإنه مما يشق التحرز والتوقي عنه، والأصل في الشريعة أنه لا حرج فيه، فإننا لو قلنا: إن الإنسان إذا فكر فأنزل يجب عليه القضاء فإن هذا مما يشق التحرز عنه كحديث العهد بالعرس ونحو ذلك، كما يكون حديث العهد بالجماع قبل الفجر، فمثل هذا إذا دهم عليه التفكير فإنه يعتبر مما يشق التحرز عنه كمسألة الغبار.
والمصنف يقصد من هذا أن الفقهاء عندما يأتون بهذه الصور مرادهم أن تأخذ القاعدة والأصل، وهو: أن الفطر يكون بالاختيار، ولذلك انظر في قوله: (لا ناسياً أو مكرهاً) ثم بعد ذلك قال: (أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار) تأمل قوله: (مكرهاً) ثم أتبع بعدها طيران الغبار والذباب، فتفهم من هذا دقة المصنف وأن مراده أن يجعلك في دائرة معينة، وهي: أن تفرق في الفطر بين ما يغلب الإنسان وبين ما لا يغلبه.
فإذا سألك السائل عن شيء غلبه وشق التحرز عنه فإنه يعتبر في حكم المعذور، وأما إذا كان شيئاً يمكن توقيه وتحفظه منه فإنه يعتبر مفطراً.
الاحتلام في نهار رمضان لا يفسد الصوم
[أو احتلم].
والاحتلام: أن يرى الإنسان وهو نائم ما يحرك شهوته فينزل، فإذا احتلم على هذا الوجه فإنه لا يفسد صومه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: النائم حتى يستيقظ ) وقد أجمع العلماء على أن من نام واحتلم أنه لا يجب عليه الفطر، وبناءً على ذلك: إذا تقرر هذا كأن الإجماع يدلنا على أن الشريعة تفرق بين ما يغلب الإنسان وبين ما لا يغلبه، فهذا الشيء الذي هو الاحتلام أو طيران الغبار كأن تمشي في صحراء أو نحوها ولا يمكنك التوقي منه، فهذا كله مما يعفى عنه.
من أصبح وفي فمه طعام فلفظه لم يفسد صومه
[أو أصبح في فيه طعام فلفظه].
وهذا يحصل بعد السحور، فيؤذن أذان الفجر ولا يزال بقايا الطعام في فم الصائم، وخاصة فيما يكون بين الأسنان، فإذا لفظه فإنه لا يؤثر في صومه، لكنه لو بلعه وازدرده فإنه يعتبر مفطراً.
الاغتسال في نهار رمضان لا يفسد الصوم
[أو اغتسل].
أو اغتسل بالماء، فإن الاغتسال بالماء لا يوجب الفطر، ولذلك اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ابن عباس رضي الله عنه يجلسان في البرك بين مكة والمدينة يتنافسان أيهما أطول نفساً وهما ينغمسان في الماء؛ والسبب في ذلك: أنه ليس بشرب ولا بأكل حقيقة، ولا في حكم الأكل والشرب.
وعلى هذا: فإن الانغماس في الماء والسباحة لا يوجب الفطر، وهكذا لو اغتسل فرش الماء وصبه عليه، فإن هذا كله مما لا يوجب الفطر؛ والسبب في هذا: أنه يصب الماء على ظاهر الجسد، وقد دلت الشريعة على أن صب الماء على ظاهر الجسد لا يوجب الفطر، ولذلك من تمضمض وهو صائم بالإجماع لا يفطر؛ لأن الفم من ظاهره، فكذلك إذا صب الماء على ظاهره.
المضمضة والاستنثار والمبالغة فيها لا تفسد الصوم

[أو تمضمض أو استنثر، أو زاد على الثلاث، أو بالغ فدخل الماء في حلقه لم يفسد].
لو أنه تمضمض أو استنشق فله حالتان: الحالة الأولى: أن يتمضمض ويستنشق بدون تكلف، فهذا لا يفطر عند العلماء رحمة الله عليهم في قول الجماهير.
الحالة الثانية: إذا كان تمضمضه واستنشاقه بطريقة فيها تكلف ومبالغة فللعلماء وجهان: منهم من يقول: إذا بالغ أفطر وهذا يفهم من السُّنة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث لقيط بن صبرة ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ) قالوا: ففي هذه الحالة يعتبر مفطراً، وهذا القول هو أحوط القولين، وهو خلاف ما اختاره المصنف رحمة الله عليه.
وعليه: فإنه إذا بالغ في المضمضة فغرغر بالماء، فأحس بالماء في حلقه فإنه يعتبر مفطراً، وهكذا لو بالغ في الاستنشاق فوجد طعم ذرات الماء في حلقه فإنه يعتبر مفطراً على أصح قولي العلماء؛ لأنه تعاطى السبب للإخلال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السبب، فدل على أنه إذا ارتكب المحظور وخالف النهي أنه يعتبر مفطراً.
[أو زاد على الثلاث] قالوا: لأن الزيادة على الثلاث تعتبر غير مشروعة، فكأنه إذا زاد عن الثلاث زاد وبالغ، فكما أنه لا يشرع له المبالغة في حال الصيام في الاستنشاق والمضمضة، كذلك أيضاً إذا بالغ فزاد على الثلاث فإنها محظورة شرعاً، كالمبالغة في الاستنشاق المأذون به شرعاً، فيفطر هنا كما يفطر هناك سواءً بسواء لتعاطي السبب.
من أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه

[ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه].
استيقظ رجل من الليل فشك هل طلع الفجر فيمسك أو لا زال الليل فيأكل؟ فبالإجماع على أنه يعتبر نفسه بالليل ويأكل ويشرب، وحينئذٍ لا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن لا يتبين له شيء، فإذا لم يتبين له شيء مثل أن يقوم في جوف الليل ولا يدري هل طلع الفجر أو لم يطلع، فيشرب أو يأكل ثم يرجع فينام، ويستيقظ بعد صلاة الفجر فلا يدري حينما قام فأكل أو شرب هل وقع أكله وشربه بعد تبين الفجر فيعتبر مفطراً أو وقع قبل الفجر فهو صائم؟ بالإجماع يعتبر نفسه أنه في الليل، ويحل له الأكل والشرب، وإذا لم يتبين له شيء فصومه صحيح.
والدليل على ذلك: أن الأصل بقاء الليل حتى يتحقق من أن النهار قد طلع، والله أمرنا أن نبقى على اليقين، والشك لا عبرة به، وأصول الشريعة دالة عليه، ونصوص الكتاب والسُّنة تقتضي ذلك: أن العبرة باليقين، وأن الشك لا يلتفت إليه.
ومن قواعد الشريعة: (اليقين لا يزال بالشك) وتفرع عليها قولهم: (الأصل بقاء ما كان على ما كان).
فالأصل بقاء الليل، ونحكم بكونه يحل له الأكل والشرب والجماع حتى يتحقق أنه قد أصبح، فينتقل من يقين الحل إلى يقين التحريم.
الحالة الثانية: أن يتبين له الأمر، فإن تبين له الأمر لا يخلو من صور: الصورة الأولى: أن يأكل ويشرب ثم يتبين له أن الفجر لم يطلع، مثال ذلك: استيقظت فأكلت أو شربت على أن الليل باقٍ، ثم نظرت في الساعة أو سمعت الأذان الأول فقد تبين لك أن الفجر لم يطلع، فحينئذٍ بالإجماع لا يؤثر؛ لأنه أكل وشرب في وقت مأذون به شرعاً.
الصورة الثانية: أن يتبين له أن النهار قد طلع، فاختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: صومه صحيح.
وقال الجمهور: عليه القضاء؛ لأنه تعاطى سبباً فيه تقصير؛ فألزم بعاقبة التقصير، وتوضيح ذلك أنه لو تحرى لتبين له أن الفجر قد طلع، فلما قصر فإنه يُلزم بعاقبة تقصيره، ويلزمه القضاء؛ لأن الله تعالى أوجب عليه أن يمسك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا لم يمسك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس حقيقة؛ فيُلزم بالقضاء، وهذا هو أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم؛ لأنه قصر ويلزم بعاقبة تقصيره ويلزمه القضاء.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #206  
قديم 28-08-2022, 04:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصيام)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (201)

صـــــ(1) إلى صــ(24)





من أكل شاكاً في غروب الشمس فسد صومه
[لا إن أكل شاكاً في غروب الشمس].
لو غابت الشمس في الغيم، وفي الأزمنة التي لم يكن فيها ساعات، أو يكون الإنسان ليست عنده ساعة، فحينئذٍ يشك هل غابت الشمس أو لم تغب؟ فالأصل واليقين: أنه في النهار، فنقول له: يحرم عليك الأكل والشرب حتى تتحقق أو يغلب على ظنك أن الليل قد أقبل وأن الشمس قد غابت.
بناءً على ذلك: إذا أمكن أن يرجع إلى ساعة ونحوها لا يجوز له أن يفطر حتى يتحقق عن طريق الساعة.
وإذا لم توجد ساعة فإنه يُقدر الزمان، وذلك أن يحسب فيجلس إلى فترة يغلب على ظنه أن الشمس قد غابت، والدليل على ذلك حديث الدجال : ( أنه يمكث أربعين يوماً، يوم منها كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، قالوا: يا رسول الله! هذا اليوم الذي هو كسنة أتُجزينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، ولكن اقدروا قدره ) قال العلماء: فيه دليل على أن الصائم يرجع إلى التقدير إذا تعذر عليه الضبط بالحقيقة، فتقدر زماناً يغلب على ظنك أن الشمس قد غابت فيه، فإذا قدرت هذا الزمان تفطر بعده.
فإن أفطرت فلا تخلو من حالتين: إما أن يتبين لك الأمر أو لا يتبين -مثل ما تقدم معنا في السحور- فإن لم يتبين لك شيء، وغلب على ظنك أن الشمس قد غابت فصومك صحيح؛ لأن الله تعبدنا بغلبة الظن، ولم يظهر ما يدل على بطلان الصوم وفساده.
ثانياً: الحالة الأولى: أن يتبين لك أن تقديرك صحيح، مثلاً: لو أنك أكلت في هذه اللحظة، ثم دخل عليك رجل فسألته: كم الساعة؟ قال: الساعة السادسة، وغروب الشمس يكون عند السادسة إلا ربعاً، أو عند السادسة إلا عشرة دقائق، فما بين أكلك ودخوله عليك وإخباره لك وقت يدل على أن أكلك وشربك قد وقع بعد الغروب قطعاً، فحينئذٍ تبين لك صحة اجتهادك، فصومك صحيح.
الحالة الثانية: أن يتبين لك أن الشمس لم تغب، وأن النهار لا زال باقياً، وأن أكلك وشربك وقع في حال النهار، فللعلماء قولان مشهوران: قال بعضهم: إنه يلزمه القضاء؛ لأنه قصر فيُلزم بعاقبة تقصيره كمسألتنا في السحور، وكذلك فيه حديث البخاري وسئل هشام بن عروة رحمة الله عليه: (أَقضوا ذلك اليوم؟ قال: ليس في القضاء شك، أو ما من القضاء بُد).
قالوا: فهذا يدل على أنه يُلزم بالقضاء، وهذا أقوى، ولذلك قال عمر : الخطب يسير.
أي: قضاء يوم مكانه.
وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس لما فيه من الورع، ولما فيه من إعمال الأصل من مطالبة الصائم بالضمان بسبب تقصيره؛ لأنه قصر نوع تقصير؛ إذ لو تحرى كمال التحري لتبين له أن النهار ما زال باقياً، والقاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه).
وتوضيح ذلك: أن الصوم حقٌ لله، وحق الله دين على المخلوق، ودلت السنة الصحيحة على هذا الأصل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج: ( أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم.
قال: فدين الله أحق أن يقضى ) فجعل الحج الذي هو ركن الإسلام دَيْناً، والصوم الذي هو ركن الإسلام دَينٌ على المخلوق.
وعلى هذا: إذا كان الصوم دَيْناً وحقاً لله عز وجل، فإنك لو كنت في دين المخلوق وظننت أنك قضيته حقه، ثم تبين أنك لم توفه وأن هناك نقصاً ألزمت بكمال النقص، فحق الله أولى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( فدين الله أحق أن يقضى ).
فإذاً: قد دلت أصول الشريعة على أنه يطالب بالقضاء؛ لأنه لم يصم اليوم على وجهه؛ ولأنه قصر، إذ لو تحرى كمال التحري لتبين له أن النهار ما زال باقياً؛ ولأنه حق لله عز وجل لا يسقط بالظن الخاطئ، فيلزمه القضاء.
قد يقول القائل: ما فائدة الخطأ؟ نقول: خطؤه يسقط الإثم عنه، وكونه لا إثم عليه لا يسقط الضمان، كما لو قتل إنساناً خطأً، نقول: قَتْلُه بالخطأ يسقط الإثم عنه؛ لكن الضمان لهذه النفس يجب عليه.
ومن هنا نرى أن أصول الشريعة تجعل المخطئ يُلزم بالضمان، ولذلك حتى في قتل الخطأ تلزمه الشريعة بعتق الرقبة، فإذا لم يجد صام شهرين متتابعين لمكان الإخلال؛ لأنه ما من مخطئ إلا وقد قصر نوع تقصير، وعلى هذا قوي أن يقال: إنه يطالب بقضاء ذلك اليوم، ولما فيه من براءة الذمة والقيام بحق الله عز وجل على أتم وجوهه.
[ أو معتقداً أنه ليلٌ فبان نهاراً ].
مثل ما ذكرنا في مسألتنا: أكل أو شرب ظاناً أن الشمس قد غابت، ثم تبين له أن الشمس لم تغب، فإنه يلزم بقضاء ذلك اليوم، خلافاً لما اختاره رحمة الله عليه بأنه لا قضاء عليه.
الأسئلة
حكم الإفطار لظن الغروب خطأ

السؤال
إذا أذن المؤذن لصلاة المغرب في رمضان خطأً، وأفطر الناس على أذانه قبل الغروب، فهل عليهم القضاء أثابكم الله؟


الجواب
إن المؤذنين مؤتمنون على صيام الناس، ويتحملون هذه الأمانة ويسألون عنها بين يدي الله عز وجل، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث أحمد و أبي داود في السنن عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن ) .
قالوا: فقوله: (والمؤذن مؤتمن) أي: مؤتمن على صيام الناس؛ لأنه يؤذن للإمساك ويؤذن للفطر؛ فإذا تساهل المؤذن ولم يتحر ولم يضبط الوقت بأذانه خاصة في الفجر وفي المغرب فإنه يتحمل إثم كل من أفطر بأذانه، خاصة إذا كان ذلك على سبيل الاستهتار والتلاعب، وتجده يتسحر ويأكل، ولربما خرج من بيته وقد دخل الفجر ولا يؤذن إلا بعد الوقت المعتبر بعشر دقائق أو خمس دقائق.
فمثل هذا آثم شرعاً، خائن للأمانة التي حمله الله إياها، خاصة إذا كان معيناً ويعطى راتباً على ذلك، فإنه يعتبر ماله فيه نوع من الحرمة؛ لأنه أخل بأمانته التي كوفئ عليها، ولذلك تجتمع عليه المظالم من وجوه: منها: أنه يعرض صيام الناس للفطر، وحينئذ يكون آثماً بإثم هؤلاء الذين أفطروا على أذانه، وهم معذورون إذا كانوا لا يعلمون بالحقيقة.
وثانياً: أنه قد ضيع هذه الأمانة وأخل بها، والمال الذي يأخذه تجاهها -خاصة إذا كان منصباً، ويعطى راتباً على ذلك- يعتبر مالاً فيه حرمة بقدر ما حصل منه من إخلال مقصود.
وعلى هذا: فالأمر على المؤذنين شديد، فينبغي على الأئمة أن يتفقدوا مؤذني مساجدهم، وأن ينصحوا لعامة المسلمين، وأن ينتبهوا لهذا الأمر، وألا يتساهل الإمام مع مؤذنه، فإذا رأى المؤذن يقصر في مثل هذا فإنه ينصحه ويذكره، فإذا لم ينتصح ولم يذكر فإنه يجب عليه أن يرفع أمره إلى من يردعه ويمنعه عن هذا.
وهكذا أهل الحي فإنه يحرم عليهم السكوت على المؤذنين الذين يتساهلون في مواقيت الصلاة، فإذا سكتوا على ذلك فهم شركاء لهم في الإثم، إذ لا يجوز التساهل في مثل هذه الأمور؛ لأنها تضيع حقوق الله عز وجل، خاصة في نهار رمضان، بل ينبغي أخذ الأمر بالحزم والاحتياط في صيام الناس، وبذل جميع الأساليب لكي يقع الأذان في وقته المعتبر.
وإذا كان عند المؤذن ظرف أو يخشى النوم فإنه يأمر من يوقظه، أو يعهد إلى شخص أمين إذا غاب أو تأخر يؤذن للناس، ويقيم لهم هذه الفريضة على وجهها، فهذا الأمر يعتبر أمانة في أعناق المؤذنين، وعلى الأئمة مسئولية، وعلى الجماعة الذين يصلون في هذا المسجد أو يسمعون الأذان أيضاً مسئولية ألا يسكتوا على تلاعب المؤذنين، وقد تساهل الكثير في هذا الزمان، ولقد سمعت بأذني حتى في المدينة، لربما تسمع الإنسان يؤذن قبل الحرم مع أن مسجده قريب من الحرم، وقد سمعت من يؤذن قبل الحرم بسبع دقائق، بل سمعت بأذني من أذن قبل أذان الحرم بربع ساعة! وهذا كله يدل على الاستخفاف وعدم المبالاة بحقوق الله عز وجل، وإلى الله المشتكى في ضياع هذه المسئوليات العظيمة.
فلذلك ينبغي الحزم في مثل هذه الأمور، وعدم التساهل مع المؤذنين، وإذا كان المؤذن يتساهل في أذانه فيؤخر الأذان في السحور ويعجل الأذان في المغرب فإنه ينبغي نصحه وتوجيهه وتذكيره بالله، وتخويفه من عذاب الله، وأن هؤلاء الناس أمانة في عنقه، وأنه إذا تساهل وهو يعلم أن الوقت قد ذهب وفرط فإنه يلزم بهذا التفريط، ويحمل بين يدي الله إثم من أفطر على أذانه أو تسبب في فطره، سواء كان أذان الفجر أو كان أذان المغرب.
أما بالنسبة للمؤذن: فالمؤذن إذا أخطأ ووقع منه الخطأ فيجب عليه أن يعلم الناس، وأن يبين لهم أنه في اليوم الفلاني أو في هذا اليوم قد أذن بعد دخول الوقت، وأن من أمسك على أذانه مباشرة أن عليه القضاء، وإذا سكت عن ذلك فإنه يتحمل مسئولية من أفطر على هذا الأذان، وقس على ذلك من المسائل؛ سواء كان في الصلاة أو غيرها، فعلى الإمام أن ينبه، فإذا أخطأ مؤذن وجب عليه أن ينبه على الأقل من في الحي، أنه يلزمهم أن يعيدوا هذا اليوم؛ لأنهم قد أفطروا، وذلك بوقوع الأكل والشرب بعد تبين الفجر، والله قد حرم الأكل والشرب.
والله تعالى أعلم.

الجواب عن حديث أسماء من أن الصحابة لم يؤمروا بقضاء


السؤال
بماذا يجيب الذين يوجبون القضاء على من أفطر ظاناً غروب الشمس على حديث أسماء رضي الله عنها، الذي جاء فيه: (أنهم أفطروا في يوم غيم ولم يؤمروا بالقضاء) أثابكم الله؟


الجواب
هذا يسميه العلماء (المسكوت عنه) فالحديث سكت: هل أمروا بالقضاء أو لم يؤمروا؟ لم يبين شيئاً، بعض العلماء الذين يقولون: لا قضاء، يقولون: لو أمروا بالقضاء لبين، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به.
وكمسلك أصولي: الحديث مسكوت، وإذا كان مسكوتاً ترجع إلى الأصل، وهذا هو الفقه: أن النص إذا جاء يدل باللفظ الصريح قبلناه، أو فيه دلالة ظاهرة قبلناه، أما إذا كان متردداً بين الأمرين فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد يسكت عن القضاء للعلم به؛ لأنه إذا تبين أنهم قد أكلوا وشربوا في النهار فإنهم لم يصوموا على الوجه المعتبر، فيسكت للعلم به بداهة، وأما كونه لم ينقل إلينا، وقد يكون أمروا ولم ينقل، لكن الحديث مسكوت عنه.
ولذلك يقول بعض العلماء: هو من رواية أسماء رضي الله عنها، والنساء قد يخفى عليهن حال الرجال، وقد يحصل في الرواية نقص، ومن هنا: يقوى القول أنه يرجع إلى الأصل، والأصل أنهم مطالبون بضمان اليوم كاملاً، والإخلال موجود، والأقوى والأحوط والأبرأ للذمة أن نأمرهم بالقضاء، ولا نستطيع أن نقول بأنه لا قضاء عليهم بأمر محتمل، فإن الأصول تقتضي أنهم مطالبون بحق الله كاملاً، وما وردت به الرخصة صريحة نرخص فيه، وما لم ترد به الرخصة صريحة واضحة فإننا نبقى على الأصل الذي يوجب القضاء.
والله تعالى أعلم.

الفرق بين إنزال المني بالفكر وبالنظر


السؤال
هل يقاس من فكر فأنزل بمن كرر النظر فأنزل، من جهة كون كل منهما لم يتعاط ما يحفظ صومه أثابكم الله؟


الجواب
الفكر أضعف من النظر -قال بعض العلماء هذا- والفكر تهجم فيه الخواطر أكثر من هجومها بالنظر، والفكر مما يشق التحرز عنه أكثر من النظر، ففي حال النظر يمكنه أن يغض بصره ويصرفه، ولكن الفكر يقهر الإنسان، وقد يدخل عليه فجأة والنفس ضعيفة، فإذا دهم عليها فجأة فإنها قد تسترسل معه، ومن هنا فرق بين الفكر وبين النظر.
لكن القول بأنهما بمنزلة واحدة له وجه، وله حظه من الاستدلال كما ذكرناه، وبناءً على ذلك: فإن التفريق بينهما من جهة كونه يدهم على الإنسان هو الأقوى في نظري، ولا يبعد القول الذي قال: بأنهما بمنزلة واحدة من القوة.
والله تعالى أعلم.

الفرق بين الشك في طلوع الفجر أو غروب الشمس في رمضان


السؤال
ما الفرق بين قول المؤلف رحمه الله: (من أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه) وبين قوله: (أو معتقداً أنه ليل فبان نهاراً) أثابكم الله؟

الجواب
هناك فرق بين من يعتقد وبين من يشك، الشك: يستوي عندك الاحتمالان: هل طلع الفجر أو لم يطلع، هل أذن أو لم يؤذن، فأنت الآن ما عندك جزم؛ لكن إذا اعتقد أنه ليل فإنه غلب الظن أو جزم، فالفرق بين الاعتقاد وبين الشك: أن الشك استواء الاحتمالين، تقوم في جوف الليل ولا تدري هل هو ليل أو طلع الفجر فدخل النهار، فهذا يسميه العلماء (شك)، فإذا قلت: هو نهار، قلت: يحتمل أن يكون ليلاً، وإذا قلت: هو ليل، قلت: يحتمل أن يكون نهاراً، فبناءً على ذلك تكون في مرتبة كالحائر لا تدري هل هو ليل أو نهار، ولكن الاعتقاد تعتقد واحداً من الأمرين فتجزم به، وتقول: أعتقد أن الليل إلى الآن لا زال باقياً، فهذا اعتقاد وجزم، فحينئذٍ يكون أقوى من الحالة الأولى.
فالشك: استواء الاحتمالين، فترجع إلى الأصل؛ فإن شككت في الليل هل هو باق أو لا فالأصل بقاؤه، وإن شككت في النهار هل غابت الشمس أو لم تغب، فالأصل بقاؤه، ففي الأول تأكل وفي الثاني تمسك، وهذا الفرق بينهما: أنه لا جزم في الشك، والاعتقاد فيه جزم إما على سبيل اليقين أو على سبيل الغالب.
والله تعالى أعلم.
حكم من تبرع بالدم في نهار رمضان

السؤال
من تبرع بدم في نهار رمضان لإنقاذ حياة مصاب، فهل يؤثر ذلك في صومه أثابكم الله؟


الجواب
التبرع بالدم بإنقاذ حياة المصاب قربة وطاعة وصدقة، وهو داخل في عموم قوله تعالى: { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة:32] وقال بعض العلماء: من تسبب في حياة نفس وكانت صالحة، وقصد أن تعان على صلاحها، كان له كأجرها بعد إنقاذها.
وهذا فضل عظيم! فتكون حسناته من الخير والبر لك مثلها، ولذلك إنقاذ مثل هذه الأنفس التي تكون في الحوادث أو النساء في الولادة إذا حصل لهن نزيف، التبرع في مثل هذه الحالات من أجل القربات، ولا شك أن تفريج كربة المسلم من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وقد غفر الله لزانية بسبب شربة ماء لكلب، فكيف بمن أنقذ نفساً مؤمنة أو تسبب في نجاتها؟! ولا شك أنها من أجل القربات وأفضل الطاعات.
وأما بالنسبة لهذا التبرع: فإنه لا يوجب الفطر، فلو سحب منه الدم وقويت نفسه، واستطاع أن يبقى إلى آخر النهار وهو ممسك فإن صومه صحيح، لكن بعض العلماء يقول: يعتبر مفطراً من جهة إدخال الإبرة إلى منفذ في الجسم، وهذا فيه ضعف لا يخلو من نظر، وعلى هذا: فإن الأصح أنه لا يفطر.
والله تعالى أعلم.

حكم من أكل مع سماع أذان الفجر في رمضان

السؤال
ما حكم الأكل مع سماع أذان الفجر في رمضان أثابكم الله؟


الجواب
من سمع الأذان لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتحقق من أن المؤذن قد أخطأ، كأن يكون عنده معرفة بالفجر الصادق، وينظر في السماء كما يحصل في البادية والأماكن البعيدة من المدن، فيمكنك أن تنظر وتعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، فإذا كان النهار أمامك لم يطلع، فإنه يجوز لك في هذه الحالة -إذا كنت تعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، وتحققت أن الفجر لم يطلع- أن تأكل وتشرب، وترجع إلى يقين نفسك، ولست مطالباً بظن غيرك.
الحالة الثانية: أن يكون الإنسان ليس عنده وسيلة يتمكن بها من معرفة خطأ المؤذن، فيجب عليه أن يمسك بمجرد الأذان، فإذا أكل أو شرب بعد الأذان ولو بلحظة فإنه يعتبر مفطراً بنص الكتاب والسنة؛ لأن الله عز وجل يقول: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } [البقرة:187] فأمرنا أن نأكل إلى التبين، فعند بداية التبين يحرم على الإنسان أن يأكل، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) وقوله: (حتى يؤذن) أي: حتى يبدأ بالأذان.
وعليه: فإنه إذا أكل أو شرب ولو بعد الأذان بلحظة واحدة فإنه يلزم بالقضاء، وهذا هو ظاهر الكتاب والسنة.
وأما ما ورد عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد، حتى إن بعضهم يأكل وقد تبين النهار، بل بعضهم يأكل وقد اتضح الفجر واستبان الصبح، فكل ذلك اجتهاد من الصحابة، فكان بعضهم يجتهد في قوله: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) ويرى أنه غاية التبين فينظر إلى لفظ الآية، وقد خطأ النبي صلى الله عليه وسلم اجتهاد الصحابي كما في الصحيحين من حديث عدي ، فإن عدياً مع كونه عربياً يعرف اللسان ويعرف دلالة الكتاب، أخطأ في فهم الآية كما هو ظاهر في رواية الصحيحين، وبين له النبي صلى الله عليه وسلم خطأ اجتهاده.
فلا يمنع أن يكون غيره من الصحابة ممن لم يطلع على الأحاديث المبينة المفسرة للآية قد اجتهد كهذا الاجتهاد، وينبغي على طالب العلم دائماً أن ينظر إلى نصوص الكتاب والسنة الصريحة، فيعمل بها، ويلقى الله عز وجل بحجة بينة واضحة؛ فإن قوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } [البقرة:187] وحديث السنة في الصحيحين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الفجر قال: ( لا أن يقول هكذا، وإنما يقول هكذا وهكذا ) أي: ينتشر، كل ذلك يدل على أنه ينبغي عليك الرجوع إلى تبين الفجر، وأنه بمجرد تبين الفجر ودخول وقت الفجر يحرم على الإنسان أن يأكل أو يشرب.
هذا هو الذي دل عليه ظاهر الكتاب والسنة، ويلقى المسلم ربه بنص صحيح صريح من الكتاب والسنة.
وأما الأحاديث المحتملة المختلف في أسانيدها، وآثار الصحابة، فقد كان أئمة السلف وقول الجماهير كلهم على هذا، وعمل جماهير السلف رحمة الله عليهم على: أن العبرة بتبين الفجر، وأنه إذا تبين حرم الأكل والشرب.
وبناءً على ذلك: نقول بهذا القول الذي درج عليه أئمة سلفنا الصالح، مع أنه أسعد بنص الكتاب والسنة، وأوفق دليلاً، وأرعى لأصول الشريعة، وهذا هو المنبغي على طالب العلم الذي يريد أن يلقى الله عز وجل بحجة بينة.
وأما من احتج باجتهاد الصحابة فنعتذر لهم بأن الصحابي ربما لم يبلغه النص، ولا نستطيع أن نعدل عن نص كتاب ربنا وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه الصحيحة الصريحة في تحديد الأكل إلى حال التبين؛ لأن ذلك مما يعتبر خلاف الأصل.
والله تعالى أعلم.
حكم من سافر إلى بلد متأخر في الصيام عن بلده الأصلي

السؤال
لو أن رجلاً سافر إلى بلد تأخر صيامه بيوم أو يومين عن بلده الأصلي، فهل يفطر عند تمام الثلاثين، أم يعمل بميقات البلد الذي هو فيه أثابكم الله؟


الجواب
من سافر إلى بلد فإنه يعتبر حال أهل البلد الذي يسافر إليه، فإن كان البلد متقدماً أو متأخراً فعليك أن تفطر معهم تقدماً أو تأخراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فطركم يوم تفطرون ) فجعل الفطر لعامة المسلمين.
وبناءً على ذلك: تتأقت بهذا التأقيت الذي طرأ عليك، فإن كان هناك زيادة كأن يكون هذا البلد تأخر -كما ورد في السؤال- فحينئذٍ ستزيد يوماً أو يومين؛ لأن فطرك مع فطرهم، ويعتبر شهرك كشهرهم، والعبرة في فطرك بموافقتهم.
وأما إذا كان هناك نقص فبلغ عدد الأيام ثمانية وعشرين يوماً، فإنك في هذه الحالة تقضي يوماً واحداً، فتفطر معهم يوم العيد ثم تقضي يوماً واحداً، ويعتبر على أصح قولي العلماء.
وقال بعض العلماء: تقضي يومين؛ لأن الشهر يكون ثلاثين يوماً.
وقال بعضهم تقضي يوماً واحداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الشهر هكذا وهكذا ) وعقد تسعاً وعشرين وثلاثين، فاليقين أنه تسع وعشرون، والثلاثون في بعض الأحوال، والأقوى: أنه يقضي يوماً واحداً، والأحوط: أنه يقضي اليومين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #207  
قديم 28-08-2022, 05:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصيام)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (202)

صـــــ(1) إلى صــ(20)



شرح زاد المستقنع - باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [3]
مما يفسد الصوم ويوجب الكفارة: الجماع في نهار رمضان، فمن جامع امرأته في نهار رمضان وجب عليه الكفارة، وهي عتق رقبة، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، وهناك أحكام ومسائل متعلقة بالجماع في نهار رمضان وكفارته ذكرها الشيخ وفصَّل فيها في هذه المادة.
مسائل في الجماع في نهار رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ومن جامع في نهار رمضان في قُبُل أو دبر فعليه القضاء والكفارة].
فإن الله حرم على الصائم أن يجامع زوجته، ولذلك يعتبر الجماع موجباً لفساد الصوم، وقد ذكرنا أدلة الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة على تحريم ذلك على الصائم.
وبقي

السؤال
لو وقع هذا الإخلال من الصائم فما حكمه؟
الجماع المعتبر في إيجاب الكفارة

فقال رحمه الله: (ومن جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر).
هذا الفصل خصه المصنف رحمه الله بالإخلال بالصوم من طريق الشهوة، وابتدأ بالشهوة الكبرى لورود النص بالعقوبة فيها، ثم تدرج بعد ذلك إلى المسائل المتفرعة على الجماع في نهار رمضان.
أما بالنسبة لقوله: (ومن جامع) فلا يتحقق الجماع إلا بإيلاج القبل، والعبرة بالحشفة -وهي رأس الذكر- وقد فرع العلماء رحمهم الله على إيلاجها أكثر من ثمانين حكماً، ومنها وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، وذلك بتحقق الإيلاج بالصورة التي ذكرناها.
فقوله رحمه الله: (ومن جامع) سواءً كان جماعه لزوجته الجماع المأذون به شرعاً في الأصل، أو المحرم في الزمان في نهار رمضان، أو كان جماعه وطأً لشبهة كأن يجامع امرأة يظنها زوجته أو يظنها سريّته، أو يكون جماعه بالحرام -والعياذ بالله- كالزنا.
فإن وقع الجماع في مأذون به شرعاً كزوجته، أو معذور به شرعاً من حيث وجود الشبهة كوطء من ظنها زوجة له، فيترتب الحكم بالقضاء إجماعاً، وكذلك بالكفارة.
وأما بالنسبة للزنا -والعياذ بالله- فقد اجتمعت فيه موبقات: أولها: كونه أخل بهذا الركن من أركان الإسلام، وهو: صومه الذي فرضه الله عليه.
الموبقة الثانية: كونه زنى والعياذ بالله.
فيكون هناك عدة إخلالات: أولها: تعمده للفطر، ووقوع الفطر بأشنع صوره وهو الجماع.
وثانياً: كونه والعياذ بالله حرام.
وكذلك الحال لو وقع الوطأ في الدبر، فيستوي الجماع في القبل أن تكون المرأة حية أو ميتة، وهذا قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم: أنه لو حصل الإيلاج بامرأة وهي ميتة فإنه يحكم بكونه مجامعاً إعمالاً للصورة، كما لو جامعها وهي نائمة أو مجنونة، ولذلك يجب عليه القضاء والكفارة، وهكذا بالنسبة لوطء الدبر؛ فإنه يوجب القضاء والكفارة والحد الشرعي على الأصل الذي هو مقرر شرعاً في باب الجنايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
تخصيص الكفارة بجماع نهار رمضان
قال رحمه الله: [ومن جامع في نهار رمضان].
الشافعية والحنابلة على أن الكفارة تختص برمضان، وأما ما عدا رمضان فإنه لا يأخذ حكم رمضان.
وقالت المالكية والحنفية: إن الله عز وجل أوجب على من جامع في نهار رمضان الكفارة، والعبرة بكونه أخل بفريضة الله عز وجل وهو الصوم الواجب، فقاس بعضهم على ذلك قضاء رمضان، وصيام الكفارات، وصيام النذر الواجب، فقالوا: لو صام قضاءً عن رمضان، وجامع امرأته في اليوم الذي هو قضاء عن رمضان فإنه تلزمه الكفارة كما تلزم من جامع في نهار رمضان، وقالوا: إن الله عز وجل جعل هذا اليوم بدلاً عن يوم رمضان، ولذلك قالوا: إذا وقع الإخلال في القضاء فهو إخلال كإخلال الأداء، والقاعدة تقول: (القضاء يحكي الأداء) فإذا كان القضاء يحكي الأداء، والشرع نزّل القاضي منزلة المؤدي فإننا كذلك نحكم بأن الإخلال بالقضاء كالإخلال بالأداء.
وأصح القولين والعلم عند الله: القول بعدم وجوب الكفارة على من جامع في قضاء رمضان، وأن الحكم يختص برمضان دون غيره؛ والسبب في ذلك ظاهر النص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه السائل يستفتيه وأخبره أنه واقع أهله في نهار رمضان وهو صائم، أي: والحال أنه صائم، فاجتمع فيه شرط الزمان وهو كونه مجامعاً في نهار رمضان، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، فالأصل ألا نوجب على المكلفين كفارة، ولا نعاقبهم بعقوبة، وتشغل الذمم بأدائها والقيام بها حتى يدل الدليل على ذلك.
فلما دل الدليل على شغل الذمم في نهار رمضان بقي ما عدا رمضان آخذاً حكم الأصل من مطالبته بالقضاء، ولكنه لا يخلو من الإثم، فلو كان في نهار القضاء وجامع أهله أو أفطر متعمداً بدون عذر لا يخلو من الإثم كما نص على ذلك جمع من العلماء رحمة الله عليهم.
قوله رحمه الله: [في نهار رمضان].
خرج من ذلك الجماع في الليل فإنه بالإجماع ليس فيه كفارة، والمراد بالنهار: من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، فإذا طلع الفجر الصادق فإنه يبتدئ حكم اليوم الذي أوجب الله صيامه.
قال رحمه الله: [من جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر].
وهذا كما ذكرنا أنه مذهب جمهور العلماء، وخالف بعض الأئمة فقال: من وطأ في الدبر سواءً زوجته أو غيرها فإنه يعتبر مخلاً بالصوم ولا تجب عليه الكفارة.
والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الكفارة عليه، بل هو أشد وأشنع.
ومن هنا يقول الأئمة رحمة الله عليهم: إن الله أوجب الكفارة على من جامع في نهار رمضان في فرج حلال، فنبه بالجماع في الفرج الحلال على ما هو أشد منه، وهو: الجماع في فرج حرام أو وطءٍ في الدبر.
حكم من جامع دون الفرج
قال رحمه الله: [وإن جامع دون الفرج فأنزل].
هذه المسألة ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لها وهي: ضابط الجماع من الناحية الشرعية؛ لأن مسائل الجماع تترتب عليها أحكام في العبادات وأحكام في المعاملات، فبعض من الناس يظن أن مجرد مس الفرج للفرج أنه يوجب الغسل، وأنه لو وضع العضو على العضو أنه يجب عليه الغسل، وبعضهم يعتقد أنه لو حصل مس للعضو بالعضو أنه يجب عليه الحد وأنه قد زنى، وهذا كله خلاف الأصل، فالأصل الشرعي: أنه لا يتحقق الجماع إلا بإيلاج رأس الذكر وهو الذي حده العلماء-رحمة الله عليهم- بقولهم: بإيلاج الحشفة، وهي رأس الذكر أو قدرها من مقطوعه، ولذلك لا يثبت حد الزنا إلا إذا سأل القاضي وتحقق أنه قد حصل إيلاج لهذا القدر.
وبناءً على ذلك نبه الشرع على هذا بقوله: ( إذا مس الختان الختان -وفي رواية: إذا جاوز الختان الختان.
وفي رواية: إذا التقى الختانان- فقد وجب الغسل ) وكل ذلك -كما يقول الأئمة رحمة الله عليهم- يُعتبر من باب التنبيه على إيلاج رأس العضو، فلو كان مقطوع الرأس فقدره حكماً؛ لأن الشرع ينزِّل الشيء بالتقدير عند العجز عن الشيء بعينه، فإذا كان يتعذر فيه ذلك الشيء لقطع أو خِلقة لم يوجد فيه فإنه يُنَزَّل قدرها من مقطوعه.
بناءً على ذلك: إذا حصل الإيلاج لهذا القدر ثبت الحد وثبت الإحصان، بمعنى: لو أن رجلاً تزوج امرأة ودخل عليها، وحصل منه إيلاج برأس العضو فقط ولو لم تفتض البكارة فإنه يثبت كونه ثيباً (محصناً) ويعطى حكم الثيب، وإذا زنى يرجم ولا يجلد كالبكر، فهناك ثمانون حكماً كلها مفرعة على هذه المسألة، ونحن نذكرها ونبينها لترتب الأحكام الشرعية عليها، فلابد من حصول هذا القدر، فقوله رحمه الله: (ومن جامع) هنا المراد به تحقق هذا الشرط.
وأما قوله: (ومن جامع في غير القبل والدبر) كما هو الحال في المفاخذة -كما يسميها العلماء- أو المباشرة دون إيلاج، فهذه في الأصل الشرعي لا تسمى مجامعة، فالمجامعة لا تتحقق إلا بالإيلاج لكنها في الصورة مجامعة؛ لأن الجماع سمي جماعاً من الاجتماع.
المقصود: أن المصنف رحمه الله تجوز في هذه العبارة وقال: (ومن جامع في غير القبل والدبر) فلا يحصل الجماع في غير القبل والدبر، ولكنه تَجَوّز في العبارة، وإلا لو وقع الجماع لثبتت الكفارة، وإنما الصورة هنا: ألا يقع الجماع، كأن يضع العضو على العضو دون إيلاج، أو مثلاً يضعه مفاخذة كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم، فهذا كله لا يوجب الكفارة، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم.
وذهب المالكية إلى أن من فاخذ امرأته أو استمنى بيدها أنه يعتبر منتهكاً لحرمة شهر رمضان، والشرع أوجب الكفارة على من جامع أهله في نهار رمضان ليس من الجماع فقط؛ وإنما للجماع ولكونه انتهك حرمة شهر رمضان، فاستوى عندهم أن يكون قد جامع أو يكون باشر امرأته ثم أنزل بمفاخذة أو غير ذلك حال المضاجعة.
فعندهم يجب عليه في هذه الحالة أن يُكَفِّر؛ لأنه قد حصل المحظور من انتهاك حرمة الشهر بالفطر عمداً بالإنزال، وهكذا بالنسبة للمفاخذة وما في حكم ذلك من صور الاستمتاع.
المصنف رحمه الله يتكلم على مسألة شرعية دلت النصوص عليها وهي: وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، يلزمه حينئذٍ أن يتكلم عن الصور التي لا تتحقق بها المجامعة، وكأنه حينما يبين لك حكم المفاخذة والمضاجعة بدون إيلاج كأنه يضع لك الحدود التي إذا وصل المكلف إليها وجبت عليه الكفارة، وإذا لم يجاوزها ولم يصل إليها فإنه يعتبر مطالباً بالقضاء إذا حصل إنزال، ولا تجب عليه الكفارة لما ذكرنا.
قال رحمه الله: [وإن جامع دون الفرج فأنزل، أو كانت المرأة معذورة].
هذا هو الشرط، لكن لو جامع دون الفرج كأن فاخذها وضاجعها ولكن لم يحصل إيلاج ولا إنزال فيعتبر صومه صحيحاً، ولو حصل منه مذي فإننا قدمنا أن الصحيح أنه لا يوجب الكفارة ولا يوجب القضاء، فالمذي والمني لا يوجب كفارة، ولكن يختص المني بإيجاب القضاء، وأما المذي فيه التوبة والاستغفار، ولا شيء على المكلف من جهة العقوبات والكفارات.
إذا كانت المرأة معذورة في جماع زوجها لها في رمضان
[أو كانت المرأة معذورة].

إذا كانت المرأة معذورة في الجماع فإنه لا يجب عليها كفارة، وتعذر المرأة بالإكراه، والأصل أنه لا يجوز لها أن تمكّن الزوج منها في نهار رمضان؛ لأن الله حرم عليها أن تستمتع بهذه الشهوة، وحرم على الزوج أن يستمتع بها، وحينئذٍ إذا طاوعته أعانته على الإثم والعدوان، وعلى انتهاك حد الله عز وجل وإصابة حرماته، ومن هنا يجب عليها أن تدفعه، بل قالوا: تدفعه بقدر ما تستطيع، حتى ولو أنه حاول فرمته وألقته على الأرض لم يكن عليها شيء، وتنصحه وتذكره بالله عز وجل وتعظه بلسانها، فإن طاولها وأرادها بفعله فإنها تدفعه بيدها وبرجلها ما استطاعت؛ شريطة ألا يحصل الضرر، بل قال بعض العلماء: حتى ولو حصل ضرر؛ لأنه هو المتعاطي للسبب في الإخلال بحد الله عز وجل والانتهاك لحرمته، فيجوز لها أن تدفعه، ولو كان ذلك بدفعه برجلها أو بيدها ولو حصل ضرر، قال بعض الأئمة: إنها تعذر في هذا الضرر، وتعتبر هذه الصورة من الصور المستثناة في إعراض المرأة عن طاعة زوجها؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فهذه معصية لله سبحانه وتعالى، بل متعلقة بفرض وركن من أركان الإسلام وهو الصيام.
ولذلك: ينبغي عليها أن تتعاطى الأسباب في دفعه، فإذا كانت مغلوبة على أمرها -كأن تكون نائمة أو مكرهة- فغالبها فوقع عليها ولم تستطع دفعه، فقالوا: إنها في هذه الحالة تعذر، وهذا أصل عند العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان بعضهم يُفَصِّل ويفرق بين مسائل الجماع وبين مسائل الزنا في إكراه المرأة كما سيأتي إن شاء الله في ذكر الخلاف بين الجمهور والحنفية في ضابط إكراه المرأة في مسألة الزنا.
فالمقصود: أنها تدفع وترد زوجها ما أمكنها، فإن غلبها فلا كفارة عليها؛ ولكن عليها القضاء لحصول الشهوة واللذة ولا تلزمها الكفارة.
حكم جماع من نوى الصوم في سفره
قال رحمه الله: [أو جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة].
رجل سافر وكان قد نوى أول اليوم أن يصوم، فقال بعض العلماء: لماذا ذكر نية الصوم؟ لأن بعض العلماء يفرق في المسافر بين أن ينوي أو لا ينوي، فإذا نوى السفر ونوى الفطر فلا إشكال، لكن لو نوى الصوم ونوى السفر، قال: إنه مسافر غداً إلى المدينة مثلاً، فلما نوى أصبح وفي نيته أن يصوم، قالوا: يلزمه أن يتم صومه، ففي هذه الحالة لو تلبس بالرخصة -وهي حال السفر- وخرج من مكة وجاوزها وأفطر، ثم أراد أن يجامع زوجته وهما في حال السفر فلا شيء عليه؛ لأنه معذور، وفي هذه الحالة لا يعتبر مفطراً بالجماع على وجه محرم، وإنما أفطر على وجهٍ يعذر فيه شرعاً.
لكن لو دخل المدينة -يستوي في ذلك أن يكون دخوله للمدينة آخر النهار أو وسط النهار- أو وصل إلى بلده فهل يُمسك ولا يجوز له أن يجامع أم يجوز له أن يجامع؟ جمهور العلماء على أنه يجب عليه الإمساك، وقد ذكرنا هذه المسألة وذكرنا دليلها الصحيح من حديث صوم يوم عاشوراء، وبينا الوجه الذي استند العلماء رحمة الله عليهم فيه على تحريم الأكل والشرب في هذه الحالة، فإذا أكل أو شرب فإنه يأثم، ولو جامع زوجته في هذه الحالة بعد أن استقر أو وصل إلى مدينته أو نزل، فقال بعض العلماء: إنه لا تلزمه الكفارة، ولكنه يعتبر آثماً على القول بوجوب الإمساك.
أما عند من لا يرى وجوب الإمساك بقية اليوم ويقول: قد أفطر وأصبح مفطراً فإنه لا يرى عليه إثماً، ولا يلزمه بالاستغفار والتوبة.
فتلخص من هذا: أن المسافر إذا قدم قبل نهاية اليوم وكان قد أفطر في سفره فإنه يلزمه الإمساك بقية اليوم، فإن وقع منه الجماع في هذه البقية من اليوم فللعلماء وجهان: منهم من يقول: لا حرج عليه ولا إثم، بل لو شاء أن يجامع اختياراً لا حرج عليه.
ومنهم من يقول: إنه يجب عليه الإمساك، فإذا جامع أهله فإنه يعتبر آثماً شرعاً، وعليه التوبة والاستغفار، ولكن لا تجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يفطر بجماع على الوجه المحظور.
كفارة من كرر الجماع في نهار رمضان

قال رحمه الله: [وإن جامع في يومين أو كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية وفي الأولى اثنتان].
جامع امرأته متعمداً في اليوم الأول، وجامعها في اليوم الثاني، فهذا جماع تكرر في يومين وفي محلين مختلفين، قد أوجب الله عز وجل عليه صيام اليوم الأول وصيام اليوم الثاني، فانتهك الحرمة في اليوم الأول وانتهك الحرمة في اليوم الثاني فعليه كفارتان، سواء كفّر عن اليوم الأول أو لم يكفر، فعليه كفارتان.
وأما لو جامع في اليوم الواحد وتكرر منه الجماع في اليوم الواحد فإنه لا تجب عليه إلا كفارة واحدة، سواء كفر عن الجماع الأول أو لم يُكَفِّر.
مثال ذلك: لو جامع امرأته أول النهار، ثم جامعها وسط النهار، ثم جامعها آخر النهار قبل غروب الشمس، فهذه ثلاث مرات، فتجب عليه كفارة واحدة؛ لأنه قد أفطر وحصل الإخلال بالجماع الأول، وتلزمه الكفارة من ثم، وأما بقية اليوم فإنه لا تلزمه فيه كفارة هذا بالنسبة للجماع.
من الصور التي ذكرها العلماء: لو جامع أربع زوجات في يوم واحد فإنه تلزمه كفارة واحدة بالنسبة لنفسه، أما بالنسبة للنساء فعلى التفصيل الذي ذكرناه في المرأة: أن المرأة إذا طاوعت واختارت فعليها كفارة غير كفارة زوجها، وأما إذا كانت دافعت ومانعت فمن العلماء من يقول: إنه يجب عليه أن يكفر عنها، ومنهم من يقول: لا تجب عليه الكفارة على ظاهر حديث الذي جامع امرأته في نهار رمضان وهو صائم.
[أو كرره في يوم ولم يكفر، فكفارة واحدة في الثانية، وفي الأولى اثنتان].
قال بعض العلماء: إن جامع أكثر من مرة في يوم واحد نظرنا: فإن كفر عن الجماع الأول لزمته الكفارة عن الجماع الثاني، وهذا مذهب مرجوح.
والصحيح: أنه إذا كرر الجماع في اليوم الواحد ولو عشر مرات فإنه تلزمه كفارة واحدة، ولكنه في إخلاله بحق الله عز وجل قد تكرر إخلاله عشر مرات، ولذلك عليه الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل من هذا الوجه، وأما بالنسبة للكفارة فلا تلزمه إلا كفارة واحدة، ولا يلزمه إلا القضاء والكفارة ليوم واحد.
والذين يقولون: إنه تتكرر الكفارة يقولون: إذا كفر عن الجماع الأول، وحصل الجماع الثاني بعده فعليه كفارة ثانية، كأن يجامع في أول النهار في الساعة الثامنة صباحاً، ثم يكفر في الساعة العاشرة، ثم يجامع في الثانية عشرة وفي الواحدة وفي الثانية وفي الثالثة، قالوا: لما كفر عن الجماع الأول في الساعة العاشرة فإنه يلزم بتكرار الكفارة، وحينئذٍ تلزمه كفارة عن الجماع الثاني الذي وقع منه في بقية اليوم.
والصحيح: ما ذكرناه أن اليوم الواحد له كفارة واحدة، سواء وقع الجماع مرة أو وقع مرات؛ وذلك لأنه إخلال واحد وقد أفطر ذلك اليوم بجماعه الأول، فكأنه بجماعه الثاني والثالث والرابع والجماع المتكرر قد وقع بعد جماعه الأول وهو مفطر ولم يقع وهو صائم، ولذلك لا تجب عليه الكفارة من هذا الوجه.
قال رحمه الله: [وإن جامع ثم كفر، ثم جامع في يومه فكفارة ثانية].
الصحيح: أنه ليس عليه كفارة ثانية، وأن الكفارة الأولى تغنيه؛ لأنه قد أفطر ذلك اليوم، ووقع جماعه الثاني وهو مفطر، وشرطه: أن يقع جماعه وهو صائم.
حكم جماع من لزمه الإمساك بقية اليوم
قال رحمه الله: [وكذلك من لزمه الإمساك إذا جامع].
كما ذكرنا في من وصل إلى مدينته وقد بقي شيء من اليوم، قالوا: يعتبر في حكم الصائم، فلو وقع منه جماع في بقية اليوم تلزمه الكفارة، والصحيح ما ذكرناه وأشرنا إليه سابقاً أنه لا تلزمه الكفارة؛ لأنه قد أفطر ذلك اليوم، وإنما تجب الكفارة على من صام لا على من أفطر.
حكم من جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر
قال رحمه الله: [ومن جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط].
بعد أن بين لنا رحمه الله وجوب الكفارة بالجماع، يرد

السؤال
لو تكرر الجماع ما الحكم؟ فقال لك: إما أن يتكرر في أيام متكررة أو يتكرر في يوم واحد، فإن تكرر في يوم واحد إما أن يكفر عن الجماع الأول أو لا يكفر، فبين حكم هذه الصور كلها.

ثم شرع رحمه الله في مسألة وهي: لو أن إنساناً جامع امرأته في رمضان من أول النهار وهو غير معذور بالفطر، فجامع ووقع منه الإخلال على وجه تلزم به الكفارة، وقبل أن تغيب الشمس طرأ عليه عذر يُعذر فيه بالفطر كما لو جنّ أو سافر أو مرض، فهل نقول: بأن العبرة باليوم كاملاً إلى تمامه؟ فإن قلنا: العبرة باليوم إلى تمامه وكماله فحينئذٍ هذا اليوم يباح له الفطر بالجنون وبالسفر وبالمرض، ولم يوجب الله عليه صيامه؛ لأن أمره إلى الرخصة؛ فتسقط عنه الكفارة من هذا الوجه.
وهذا وجه شاذ عند العلماء، يحكى في مذهب الشافعية رحمة الله عليهم؛ لكن عندهم تفصيل أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة.
والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من أن من جامع في أول اليوم ثم طرأ عليه عذر يبيح له الفطر أنه تلزمه الكفارة؛ لأن الإخلال وقع في صورة هو مكلف فيها، وقد حصل الإخلال والانتهاك لحد الله عز وجل، وأنت ترى أن المجامع في نهار رمضان لما يعاقب هذه العقوبة إنما عوقب للزجر عما وقع منه من الجرأة على حدود الله، والجرأة قد وقعت في أول اليوم، ولا عبرة بطروء العذر بعد ذلك، ومن هنا طروء الأعذار لا يؤثر، وهذه من صور مسائل طروء الأعذار التي توجب زوال الحكم أو زوال الوصف، ولها نظائر كثيرة، منها: لو حكم القاضي ثم جن ولم ينفذ الحكم، ومنها لو أن الشهود شهدوا عند القاضي ثم ماتوا، أو شهدوا ثم جنّوا، أو شهدوا ثم فسقوا وطرأ عليهم فسق بعد الشهادة وثبوتها عند القاضي، هذه كلها مسائل تسمى مسألة طروء العذر، وهذه تقع في العبادات والمعاملات، فتارة يعتبر الطروء مؤثراً وتارة لا يعتبر مؤثراً، وسنذكر جملة من هذه المسألة إن شاء الله إذا جاء كتاب القضاء، وقد تتخلل هذه المسألة في بعض أبواب المعاملات المالية.
لكن الذي يعنينا هنا: أن الشرع قصد عقوبة هذا المخالف بانتهاكه لحدود الله عز وجل، وقد انتهك حد الله عز وجل وجاوز الحدود بجماعه لامرأته في حال تكليفه وحال مؤاخذته؛ فثبتت وتعلقت بذمته الكفارة.
أما كونه يطرأ له العذر آخر النهار أو يطرأ له العذر ولو بعد الإخلال بلحظة فهذا كله لا يؤثر؛ لأن العبرة بالحال والابتداء لا بالانتهاء في هذه الصورة، ومن هنا تلزمه الكفارة حتى ولو طرأ عليه العذر.
الإفطار بغير الجماع لا يوجب كفارة

قال رحمه الله: [ ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان ].
فلا تجب بالاستمناء، ولا تجب بالمفاخذة وغير ذلك من صور الاستمتاع، فلا تجب إلا بالجماع، ولا تجب أيضاً إلا في صوم رمضان أداءً لا قضاءً، فلا يدخل في ذلك حكم الواجبات، وقد أشرنا إلى هذه المسألة والخلاف بين الحنفية والمالكية من جهة، وبين الشافعية والحنابلة من وجه آخر، ولذلك يأخذها طالب العلم كقاعدة أو ضابط، يقولون: لا كفارة على الصائم إلا إذا وقع جماع في رمضان.
فلا تلزمه الكفارة إذا كان في غير رمضان ولو كان صوم فرض، ولو كان قضاءً عن رمضان، ولا تلزمه في غير الجماع كما لو قلنا في الاستمناء ونحو ذلك، فهذا لا تجب فيه الكفارة؛ لأن المذهب عندهم متعلق بصورة معينة، وهذه المسألة تعتبر من مسائل القياس في الكفارات، وهذه مسألة أصولية، فالشافعية والحنابلة لا يرون القياس في هذه المسألة، والمالكية والحنفية يرون القياس، والعلة عندهم انتهاك حرمة الشهر.
فكأن الذين قالوا بوجوب الكفارة في غير رمضان يرون أنه إذا صام قضاءً أو صام واجباً فإنه ينتهك الحرمة كما ينتهكها من جامع في نهار رمضان، ولا فرق، فهذا صوم فرضه الله وهذا صوم فرضه الله، فاستوى أن يكون من رمضان أو غير رمضان.
ثم قالوا أيضاً: لما كانت العبرة بالشهوة فيستوي أن يخرج منه المني، سواء كان ذلك بجماع أو مفاخذة أو غيرها كالاستمناء، وقالوا أيضاً: يستوي عندنا الجماع وغيره مما تحصل به اللذة أو يحصل به الإنزال، فنوجب عليه القضاء والكفارة من هذا الوجه.
والصحيح: ما ذكرناه من الاقتصار على مورد النص؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها وإلزام الكفارة بها، وهنا قوي الدليل على البقاء على الصورة التي ورد السؤال عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وألزم فيها المجامع بالكفارة، فنقتصر عليها دون غيرها.
أحكام كفارة الجماع في نهار رمضان
قال المصنف رحمه الله: [وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت].
عتق الرقبة وما يشترط فيها
[وهي عتق رقبة] قوله: (وهي) تعود على الكفارة، والرقبة منهم من يشترط فيها الإيمان قياساً على رقبة كفارة القتل.
وهذه المسألة من المسائل التي يختلف العلماء فيها، فالأمر بعتق الرقبة يأتي على صورتين: صورة يكون فيها مقيداً كما في صورة كفارة القتل: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } [النساء:92] فاشترط الله عز وجل أن تكون الرقبة مؤمنة.
وصورة ترد الرقبة مطلقة كما في آية المظاهر من امرأته، وكذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: ( أتجد رقبة أو أعتق رقبة ) كما في الروايات، فهذا الإطلاق للعلماء فيه قولان ومذهبان: منهم من يقول: المطلق هنا -في مسألة المجامع في نهار رمضان- أحمله على المقيد الوارد في كفارة القتل، فلا كفارة بالعتق إلا إذا كانت الرقبة مؤمنة.
واستدلوا بما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام لما سأل الجارية فقال: ( أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة ).
فقوله: (فإنها) جملة تعليلية أي: لأنها مؤمنة، فكأنها لو لم تكن مؤمنة ما أمره بعتقها، وهذا من جهة النظر له وجهه، يعني: إذا جئت تنظر إلى النصوص وتراها له وجهه؛ لكن الأولين يجيبون عن هذا ويقولون: إن الرجل أراد أن يُعْتِقَ اختياراً لا إيجاباً وإلزاماً، فلما أراد أن يعتق باختياره فالأفضل والأكمل أن تكون الرقبة مؤمنة؛ حتى يكون عتقها معيناً لها على الطاعة والخير؛ فيتحقق المقصود من عتق النافلة.
وأما عتق الفريضة فالمراد به حصول العتق والغرم المالي، فإن الإنسان يغرم بفوات عبيده؛ لأنه كانت العبيد بمثابة الأموال، وينتفع الإنسان بهم ويرتفق، فيتضرر بماله، كما أُلزم عند فقدها والعجز عن الصيام شهرين متتابعين بإطعام ستين مسكيناً، وهذا غرم مالي.
فقالوا: المقصود أن يغرم، وحينئذٍ لا يحملون المطلق على المقيد، ويقولون: لو كان عتق المظاهر يشترط فيه الإيمان أو عتق الكفارة في نهار رمضان يشترط فيها الإيمان لنبه الشرع على ذلك ولم يسكت عنه، فكيف هناك يقول: (تحرير رقبة مؤمنة) وهنا يطلق؟! قالوا: فلو كان مقيداً بوصف الإيمان لقيده.
وهذا المذهب يقويه أن عتق الرقبة المؤمنة في القتل له قصد وذلك أن من أعتق رقبة أُعتق بها من النار، حتى يعتق العضو بالعضو، كما جاء في الخبر، حتى إن الفرج يعتق بالفرج.
ومن هنا قالوا: لما كان القاتل كأنه أورد نفسه النار بقتله لأخيه المسلم، فإنه حينئذٍ يكفر بعتق الرقبة المؤمنة، وكأنه يعتق نفسه من النار، وأشكل على هذا: أنها كفارة خطأ، والقاتل ليس بمتعمد، فقالوا: الخطأ لا يخلو من تقصير؛ لأن القاتل خطأً لو تحرى وتفقد لما وقع منه ذلك، ولذا لزمته الكفارة لوجود التقصير والإخلال.
فمن هنا قالوا: يجبر هذا الإخلال بكونه يعتق الرقبة المؤمنة حتى يُعْتَق بها من النار، وأيّاً ما كان فالقول بعدم التقييد له قوة وله وجاهة لإطلاق النصوص، وحمل المطلق على المقيد أحوط القولين، لكن القول بالإطلاق من القوة بمكان، وعلى هذا فيلزمه عتق الرقبة.
وعتق الرقبة يستوي فيه أن تكون صغيرة أو كبيرة، ويستوي فيها حتى لو كانت صبية صغيرة في عتق رقبة القتل، وإذا كانت مولودة من أم مؤمنة فإن الصبيان يلتحقون بأمهاتهم، فإذا كان والداها مؤمنين فإنه حينئذٍ يعتق هذه الرقبة وتكون موصوفة بكونها مؤمنة.
وهذا الوصف لصبيان المسلمين بالإيمان يسميه العلماء الوصف التقديري، وقد تكلم على هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس "قواعد الأحكام" في مسألة التقديرات، قال: التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود، ومن أمثلته الصبيان إذا كانوا في ديار المسلمين فإننا نعطيهم حكم الإسلام، فمن وجد لقيطاً في بلد مسلم أعطاه حكم أولاد المسلمين، ومن وجد لقيطاً في بلد كافر أعطاه حكم أولاد الكافرين لماذا؟ من باب التقدير؛ ولكنه وإن لم يكن حقيقة أنه يحكم له بالإيمان لكنهم يقولون: من باب التقدير.
إضافة إلى أن النص يقول: ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه ) فهم يقولون: إن الأولاد يتبعون الوالدين تقديراً من باب الأحكام الشرعية، فهنا لو أراد أن يعتق رقبة ولو كانت صغيرة فإنه يجوز عتقها.
وهذا القول اختاره أئمة منهم الإمام ابن جرير الطبري رحمة الله عليه في تفسيره، وعلى هذا فيجوز عتق الصغار من أولاد المسلمين إذا كانوا أرقاء، ويكون لها وصف الإيمان بالحكم التقديري.
وهنا لو جامع امرأته في نهار رمضان فأعتق صبياً أو صبية أجزأه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعتق رقبة.
وفي رواية: أتجد رقبة؟ ) فهذا فيه إطلاق فشمل الذكر والأنثى، فالرقبة التي تعتق تشمل الذكور والإناث، فلو أعتق جارية صح وأجزأه، ولو أعتق ذكراً صح وأجزأه، فكل يجزئه؛ لأن الشرع أطلق.
وهذه الرقبة اختلف العلماء: هل يشترط سلامتها من العيوب أو لا يشترط؟ فبعض العلماء يقول: لا يصح العتق إلا إذا كانت سالمة من عيوب النقص، وعيوب النقص تكون في الأخلاق وفي الجسد؛ لأن العيوب في الأرقاء تنقسم إلى قسمين: عيوب مؤثرة، وعيوب غير مؤثرة.
فالعيوب غير المؤثرة هي العيوب اليسيرة التي لا يتوقف عليها مصلحة الانتفاع بالرقيق، وهكذا لو كانت عيوباً مثل أن يكون لا يعرف الكتابة ولا يعرف القراءة، فهذا ليس بعيب مؤثر؛ لأنه لا يمنعه من الانتفاع به في مصالح خدمته.
لكن العيوب المؤثرة والتي هي النوع الثاني تنقسم إلى قسمين أيضاً: نقص الجسد أو العيب الخُلقي، فإما أن يكون عيباً خِلْقياً وهو نقص الجسد كالشلل والعمى والعرج، فهذا نقص خِلقي.
والنوع الثاني: النقص الخُلقي، كأن يكون مجنوناً فإنه لا يستطيع أن يضبط مشاعره ولا أن يضبط أقواله وأفعاله وتصرفاته، فهذا النقص الذي هو الجسدي أو الخُلقي إذا وجد في الرقيق فبعض العلماء يقول: لا يجزئه، ويشترط أن تكون الرقبة كاملة سالمة من العيوب.
وبعض العلماء يقول: لو أعتق مشلولاً أجزأه، ولو كان أعمى أو كان مجنوناً كل ذلك يجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعتق رقبة ) وهذا مطلق يشمل الرقبة الكاملة والناقصة.
وفي الحقيقة: لا شك أن المذهب الذي يرى كمال الخلقة وسلامة الإنسان من العيوب المؤثرة هو أسلم وأحوط وأولى بالاعتبار.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #208  
قديم 28-08-2022, 05:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصيام)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (203)

صـــــ(1) إلى صــ(20)





صيام الشهرين المتتابعين وما يشترط فيه
[فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين].
الرقبة إذا كان الإنسان لا يجد قيمتها وأعطيت له هدية ونحلة، فإنه حينئذٍ يكفر بعتقها، ولو جاءته على سبيل الهدية فإنها تجزئه، وإذا ملكها قبل أن يشرع في الصوم فإنه يجب عليه أن يكفر بعتق الرقبة؛ لأنه قال: (فإن لم يجد) فكفارة الجماع في نهار رمضان مرتبة، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وأفتى بعض العلماء بالانتقال إلى صيام شهرين متتابعين مع إمكان العتق، وفعل ذلك استحساناً كما حصل للإمام الحافظ المحدث يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس الليثي رحمة الله عليه في قصته مع عبد الرحمن الأموي والي الأندلس، فإنه استفتاه في الجماع في نهار رمضان، فقال: تصوم شهرين متتابعين.
وكان إمام القضاة في زمانه، ولما أفتى بهذه الفتوى عجب العلماء الذين معه وسكتوا هيبة له، وظنوا أن له مساغاً من الاجتهاد، فلما خرج راجعوه فقال: إننا لو قلنا له: اعتق رقبة لجامع وخف عليه الأمر، وهان عليه كل يوم أن يجامع ويعتق رقبة، وأما إذا أمرته بالصيام فإنه يحفظ حدود الله ومحارمه أن ينتهكها، فأمرته بالصوم لعظيم مشقته عليه؛ ولأنه أمكن لزجره من الوقوع في هذا المحظور.
والحقيقة: هذه الفتوى مردودة وباطلة، وقد نبه العلماء وأئمة الأصول على ذلك، حتى إن صاحب المستصفى ذكرها مثالاً للتعليل الباطل والفاسد؛ لأنها في مقابل النص، والشرع إذا أمر بالعتق نأمُر بالعتق، وليس لأحد أن يجاوز حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا وجه لهذا الاجتهاد ولمثل هذه الاستحسانات.
ولا شك أن الأصل يلزمنا أن نأمره بالعتق ولو كان قادراً على العتق، ولو كان غنياً؛ لأن الله أعلم بخلقه وأحكم في حكمه سبحانه وتعالى، وهو يعلم أن هناك الغني الذي لا يضره أن يعتق الرقاب ولو جامع كل يوم، ولكننا نقول بما أمرنا الله عز وجل به من الفتوى، وما ثبت به النص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا ننبه على أنه ينبغي للإنسان أن يتجنب الاستحسانات والآراء المصادمة للنصوص، وأنه ينبغي على المسلم أن يتقيد بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة في الفتوى والقضاء ونحو ذلك من الأمور التي يكون فيها الإنسان مؤتمناً على شرع الله عز وجل.
فليس لأحد كائناً من كان أن يُدْخِل في دين الله عز وجل ما ليس منه ولو كان برأي واستحسان، ولذلك قال الإمام الشافعي : (من استحسن فقد شَرَّع).
وكان أئمة السلف رحمة الله عليهم يشددون على أهل الرأي من هذا الباب: إذا كان الرأي فاسداً مصادماً للنص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن الآراء التي يفهمها الإنسان من النص فهذه آراء شرعية بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا اجتهد الحاكم ) وبدليل قوله: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) فأنت تفهم من قوله: (يفقهه) أي: يفهمه، فمعنى ذلك أنه نظر في النص ففهم شيئاً، فهذا يدل على أن الرأي إذا استخلص من الشرع فحي هلاً ونعمَّا به، والإنسان مجزيٌ عليه خيراً؛ إن أصاب كان له أجران، وإن أخطأ كان له أجر واحد.
أما أن يأتي شخص إلى نص عنده في الكتاب والسُّنة، ويرى الواقع أو الحياة تقتضي أن يغير النص، أو يأتي بشيء أثقل حتى يكون أزجر، فهذا كله من المصادمة لشرع الله عز وجل والتعدي لحدوده، ولا يجوز للمسلم أن يتقحّم النار على بصيرة، فيفتي بهواه ورأيه في دين الله عز وجل حيث يؤتمن على الفتوى أو يؤتمن على قضائه، فهذا أمر ينبغي الحذر منه، فأي شيء تعلم أن فيه نصاً في الكتاب والسُّنة، وأن الشرع ألزمك بهذا النص فلا تتقدم ولا تتأخر؛ لأنك كقاضٍ أو مفتٍ أو معلم لا يجوز لك أن تتجاوز ما علمت، والذي علمته من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تخبر به، فإن خرجت عن الكتاب والسنة إلى محض رأيك واجتهادك، وخالفت ما نص الله عليه في كتابه أو نص عليه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- عين الهلاك، والضلال، ولا يجوز للمسلم أن يترك هذه المحجّة التي دل عليها نص الكتاب والسُّنة.
وهذا أمر مهم جداً لطلاب العلم، فينبغي عليهم دائماً أن يضعوا نصب أعينهم أنهم مؤتمنون على شرع الله عز وجل، ولا يجوز لطالب العلم أن يستحسن أو يصوب شيئاً ويجتهد فيه إلا إذا أذن له الشرع بالرأي والاجتهاد.
قال رحمه الله: [فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين].
فإن لم يجد عتق الرقبة ولم يستطعها يصوم شهرين متتابعين.
والشهران لهما صورتان: الصورة الأولى: أن يستفتح الشهر من أوله، كأن يبدأ من أول شهر محرم أو شهر صفر أو شهر ربيع، فإذا ابتدأ بأول محرم فحينئذٍ العبرة بالشهر ناقصاً أو كاملاً، فلو ابتدأ من محرم وتبين أن محرماً تسعة وعشرون يوماً فقد صام شهراً، وحينئذٍ إذا انتهى شهر صفر فقد تمّ صيامه وأدى الكفارة على وجهها ولو صام ثمانية وخمسين يوماً -تسعة وعشرين لشهر محرم، وتسعة وعشرين لشهر صفر- أجزأه ذلك، وهذا بإجماع العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا )فأشار بيده في الأول إلى الثلاثين، وفي الثاني عقد الإبهام تسعة وعشرين، فدل على أن من صام تسعة وعشرين يوماً ورئي الهلال للشهر الأول والشهر الثاني فإنه حينئذٍ يجزئه، ويكون صيامه ثمانية وخمسين يوماً يجزئه عن الكفارة.
الصورة الثانية: أن يستفتح صيام الشهرين المتتابعين أثناء الشهر، كأن يبدأ في العاشر من محرم، فإذا ابتدأ في العاشر من محرم لا يتم شهره الأول إلا في العاشر من شهر صفر، ولا ينتهي شهره الثاني إلا في العاشر من ربيع الأول، وحينئذٍ يؤقت بالأيام، ويلزمه في هذه الصورة الثانية أن يصوم ستين يوماً كاملة.
بقيت مسألة وهي: لزوم التتابع يعني: هذان الشهران يشترط فيهما التتابع، والتتابع: ألا يفطر فيهما، فلو أفطر قبل إتمامهما بيوم واحد لزمه أن يستأنف العدد من جديد، فلو جاء في يوم تسعة وعشرين من شهر صفر وأفطر فإنه حينئذٍ يلزمه أن يقضي، ويعود من جديد ويصوم الشهرين متتابعين، وذلك لنص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في حديث المجامع لأهله في نهار رمضان، إذ أمره أن يصوم شهرين متتابعين فقال: ( يا رسول الله! وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم؟! ) وكان رجلاً لا يصبر عن النساء، فكأنه اعتذر لأنه لا يستطيع الصوم.
فحينئذٍ يلزمه أن يصوم الشهرين متتابعين إذا كان قد أفطر ولو قبل تمامهما بيوم واحد.
لكن بقي

السؤال
لو أنه ابتدأ صيام الشهرين المتتابعين في كفارة الجماع أو كفارة القتل أو كفارة الظهار في شعبان ودخل عليه رمضان فهل يقطع رمضان التتابع؟

الجواب
لا يقطع رمضان التتابع، ويصوم شهر رمضان كاملاً، فإذا انتهى شهر رمضان يرد السؤال: هل يفطر يوم العيد أو لا يفطره؟ فللعلماء وجهان: أصحهما أنه يفطر يوم العيد، ثم بعد ذلك يتم ويبني على ما مضى، فلو صام شهر شعبان كاملاً ثم صام رمضان، فإذا أفطر أثناء رمضان لسفر أو نحوه فلا يقطع التتابع ولا يؤثر فيه حتى يتم رمضان، فإذا أتم رمضان ودخل عليه العيد فإن يوم العيد محرم الصوم، وحينئذٍ لو صام يوم العيد لا يجزئه عن صوم التتابع، وإذا كان لا يجزئه بنص الشرع -لأن الشرع حرم صيام هذا اليوم- فحينئذٍ يسقط عنه صيام يوم العيد، ويصبح يوم العيد هذا وجوده وعدمه على حد سواء.
فحينئذٍ يفطر فيه كما أفطرت المرأة الحائض، فإن المرأة الحائض لا تستطيع أن تصوم ستين يوماً متواصلة؛ لأن الحيض يأتيها في الغالب -أو غالب النساء- فحينئذٍ يكون وجود هذا العذر الشرعي ينزل منزلة العذر الحسي، فلما كان الحيض لا يقطع التتابع لدخوله بغير اختيار المكلف، كذلك دخول يوم العيد لا يقطع التتابع على من ابتدأ في شهر شعبان، فيفطر يوم العيد ثم يتم العدد من بعد يوم العيد، فإذا أتم العدد من بعد يوم العيد لم يقطع تتابعه فطره لذلك اليوم.
والمسألة الثانية: المرأة الحائض والنفساء لا يقطع التتابع حيضها ونفاسها؛ فإنها تصوم الشهرين المتتابعين في كفارتها، وإذا صامت الشهرين المتتابعين وقطع ذلك الحيض فإنها تفطر في أيام حيضها، وصومها تبنيه بعد انتهاء أيام الحيض.
لكن لو أن إنساناً ابتدأ صومه في شهر المحرم، ثم أصابه المرض أثناء صيامه، فهل يقطع المرض التتابع أو لا؟ وجهان للعلماء في ذلك: قال بعضهم: لا يقطع، كما هو الحال في المرأة الحائض، وهذا قوي من جهة النظر.
وقال بعضهم: يقطع؛ لأن العبرة بالصورة وهي التتابع، فيلزمه حينئذٍ أن يستأنف العدد بعد صحته وقوته.
والأقوى: أنه إذا كان المرض يضر به أن يصوم معه فلا يقطع، ويرخص له بالفطر على عدد الأيام التي مرضها، ثم بعد ذلك يبني بعد انتهاء هذه الأيام أعني: أيام فطره بعذر المرض.
قال: (صوم شهرين متتابعين) يصوم شهرين كاملين متتابعين بالصورة التي ذكرناها، قال بعض العلماء: إن الشهرين بمثابة الفدية لهذا اليوم الذي أفطره، ولذلك وجب عليه أن يصوم، فإذا لم يستطع أطعم ستين مسكيناً، وكأن كل مسكين عن يوم، فأنت إذا نظرت إلى عدد الشهرين فإنه ستون يوماً، والمساكين الذين يلزم إطعامهم ستون مسكيناً، وكل مسكين يأخذ ربع صاع كما سيأتي، فكأنها فدية عن فطر ذلك اليوم، وكأن فطره ذلك اليوم يفديه بصيام الشهرين المتتابعين.
قال بعض العلماء: وفي هذا دليل على تعظيم فرائض الله عز وجل، وأنه لا يجوز للمسلم أن يتساهل في أداء حقوق الله عز وجل، وأنه إذا تساهل فيها وأفطر من دون عذر أو ترك ما أوجب الله عليه من دون عذر، ولو قضى ذلك الشيء فإنه لا ينزل منزلته، خاصة إذا كان متعمداً، ومن هنا ورد حديث أبي هريرة : ( من أفطر يوماً من رمضان لم يقضه صيام الدهر ولو صامه ) أي: أنه لا ينزل منزلة ذلك اليوم من حيث الفضل وحصول الثواب.
إطعام ستين مسكيناً
قال المصنف رحمه الله: [فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً].
فإن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين، وعدم الاستطاعة إما لمرض كإنسان عنده فشل الكلى مثلاً، فهذا لا يستطيع أن يصوم، وقرر الأطباء أنه إذا صام يموت، فهذا يجوز له أن يعدل من الصيام إلى إطعام ستين مسكيناً، وهكذا الحال لو كان شديد الشهوة لا يصبر على النساء، فلو صام لا يستطيع الصبر ستين يوماً؛ رخص له أن ينتقل؛ لأن المجامع قال (وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم؟!) وقالوا: إنه عدل عن الصيام إلى الإطعام لعدم القدرة على الصبر، وهو شديد الشهوة ومن به شبق، فإذا وجد العذر من المرض، أو وجد العذر من شدة الشهوة وعدم الصبر عن النساء انتقل إلى الإطعام.
(إطعام ستين مسكيناً) يطعم كل مسكين ربع صاع، وذلك لما جاء في رواية الموطأ أن الذي جامع أهله في نهار رمضان أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعم ستين مسكيناً، فاشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجد، فجاء في الحديث: ( أتجد ما تطعم به ستين مسكيناً؟ قال: لا ).
فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق -والعرق: المكتل، مثل ما يسمى في عرفنا اليوم القفّة، وهي القفة الكبيرة تكون من الخوص ونحوه، وهذه القفاف الكبيرة كان الناس في القديم يحملون فيها التمور والثمار، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق به.
والعرق فيه خمسة عشر صاعاً، وهذا كما جاء في رواية الموطأ أن العرق كالمكتل فيه خمسة عشر صاعاً، فإذا كان هذا العرق فيه خمسة عشر صاعاً، فمعنى ذلك أنك لو قسمته على ستين مسكيناً فكل مسكين سيكون نصيبه ربع صاع، أي ربع الصاع الذي يخُرج في آخر رمضان، وربع الصاع يسمى المد، وهذا المد هو الصاع النبوي الصغير؛ لأن هناك صاعاً نبوياً صغيراً وكبيراً، فالصغير هو الذي ضبطه العلماء بقولهم: هو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وسمي مداً لهذا، فهذا القدر هو قدر المد النبوي الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به، فإذا أطعم يطعم ستين مسكيناً، لكل مسكين ربع صاع، فإذا فعل ذلك فقد أجزأه.
حكم من عليه كفارة إذا لم يجد ما يكفر به
قال المصنف: [فإن لم يجد سقطت].
ولذلك إن لم يجد لفقر وعوز وليس عنده ما يشتري به الطعام ويتصدق به على الفقراء؛ سقطت عنه الكفارة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتكى له المجامع لأهله في نهار رمضان، فلما أتي عليه الصلاة والسلام بعرق أمره أن يأخذه وأن يتصدق به، فقال: ( يا رسول الله! أعلى أفقر مني؟! -جاء وهو يشتكي فأصبح الآن يسأل- والله ما بين لابتيها رجل أفقر مني، وفي رواية: أهل بيت أفقر منا ).
اللابتان: مثنى لابة، وذلك لأن المدينة بين حرتين، وهي التي تسمى في يومنا هذا الحرة الشرقية والحرة الغربية، فالحرة الشرقية كانت تسمى في القديم حرة واقم، وهي التي وقعت فيها الموافقة أيام يزيد ، وفيها قول قيس الرُّقَّيات : فإِنْ تَقْتُلُونَا يَوْمَ حَرَّةِ وَاقِمٍ فِإنا عَلى الإِسْلاَمِ أَوَّلِ مَنْ قُتِلْ الثانية: حرة الوبرة، وهي الحرة الغربية، ومراده: ما بين لابتيها يعني ما بين الحرتين: الحرة الغربية والحرة الشرقية، كأنه يريد المدينة كلها، والسبب في ذلك: أن مساكن المدينة كانت لا تجاوز الحرتين، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذه ويطعمه لأهله، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده.
لكن هذه المسألة من خصوصيات هذا الرجل كما نبه العلماء رحمة الله عليهم، وإلا لو أنه أُعطي مكتلاً فلا يصح للعالم أن يقول له: خذه إلى أهلك، ولو أن إنساناً جاء يسألك وعليه كفارة، ثم تصدق عليه أحد بمكتل، وقال: هو فقير، تقول له: تجب عليك الكفارة؛ لأن هذا -كما يقولون- صورة عين، وقضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم.
فهذه سماحة من الشرع ويسر من الله عز وجل أجراه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كما نبه الأئمة رحمة الله عليهم في شرح الحديث على أن هذا الحكم يختص بهذا الرجل.
أما من أُهدي له هذا القدر الذي يستطيع به التكفير، أو أعطي مالاً يستطيع به التكفير فقال: أريد أن آخذه لنفسي.
فإنه لا يستحل ذلك، ويجب عليه أن يكفر الكفارة التي أوجب الله وفرض عليه.
الأسئلة
وجوب الكفارة لأجل الجماع هل وجبت على المرأة في حديث الأعرابي

السؤال
في حديث الأعرابي لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكمه على امرأة الأعرابي من حيث مطالبتها بالقضاء أو الكفارة، فكيف نوفق بين هذا وبين القاعدة: (لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة)، وضحوا هذا الإشكال أثابكم الله؟

الجواب
هذه المسألة في الحقيقة للعلماء فيها كلام طويل -وهي مسألة المجامع في نهار رمضان- ولذلك لما تكلم العلماء على مسألة التعليل ومسالك التعليل كان هذا الحديث من أنسب الأحاديث لبيان صور التعليل، ولذلك تجد الأئمة رحمة الله عليهم وكتب الأصول تعتني بشرح هذا الحديث من جهة أصولية والتعليل به.
هناك مسلكان للأصوليين فيه: مسلك اعتباره لطيف وجميل؛ لأنه يدفع كثيراً من الإشكالات، يقولون: الرجل جاء يسأل أول ما يسأل عن نفسه، فوقع السؤال أول ما وقع عن نفسه، فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقرر له وبين له، فتبين أن الرجل ما عنده شيء لنفسه، فسقطت عنه الكفارة، فسكت عن زوجه لأن الحكم واحد؛ لأنه إذا كان هو سقطت عنه الكفارة فمن باب أولى تسقط عن الزوجة التي يعولها.
وهذا المسلك لا يعطي أي مدخل للاحتجاج في المسألة، فتبقى المرأة داخلة تحت حكم الأصل من كونها مطالبة بالكفارة كالرجل، يقولون: إن الرجل سأل أول ما سأل عن نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يجيب السائل عما سأل عنه، ولا يتكلف في الإجابة عن شيء لم يسأل عنه، فأجاب وما زال مع الرجل يوجب عليه الكفارة وينتقل معه خصلة خصلة، حتى إذا انتهى من ذكر مراتبها منها إذا بالرجل ليس عنده شيء، وإذا بالكفارة ساقطة عنه بالحال، فإذا سقطت عنه بالحال من باب أولى أن تسقط عن زوجته وأهله ومن يعول، فقالوا: لذلك سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعن أن يتكلف مرة ثانية، خاصة وأن الرجل قال له: (والله ما بين لابتيها أهل بيت) فلما قال: (أهل بيت) شمله وشمل زوجه.
وهذا الجواب من أدق الأجوبة، والذي يقفل جميع الاعتراضات، ومن هنا يقول جمهور العلماء: تبقى المسائل مسكوت عنها، كون الزوجة طاوعت أو لم تطاوع تبقى مسائل اجتهادية، وهذا من دقة الشرع، وهو أنه في بعض الأحيان ينص على شيء ويترك ما عداه لاجتهاد العلماء، حكمة من الله سبحانه وتعالى؛ يرفع بها درجاتهم، ويجعلها خلافاً بينهم؛ يبين بها فضل العالم على غيره، فتبقى المسائل المسكوت عنها في النص وتترك لاجتهاد العلماء يبينون حكمها، فمنهم من يلحقها بالأصل، وينظر أقوى شبه لها فيلحقها به؛ لأن الشرع ينبه بالشيء على مثله، وهذا الاجتهاد مستند إلى أصول الشرع.
ومنهم من يقول: هي عفو، كما هو مسلك الظاهرية رحمة الله عليهم، وهذا المسلك يقول: هي عفو، فكل شيء لم يرد النص به عفو، والمرأة لا يجب عليها عندهم شيء، حتى ولو طاوعت زوجها ورضيت واختارت، يقول: لا يجب عليها شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أوجب على المرأة في هذا الحديث شيء.
فإن قلت لهم: سكت.
يقولون: السكوت عفو.
والواقع: أن ما سكت عنه الشرع هو عفو من الله من جهة النص على حكم معين؛ لكن يبقى الفقيه مطالب بالاجتهاد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا اجتهد الحاكم ) فمعنى ذلك أن هناك مسائل تحتاج إلى نظر وبحث وتحتاج إلى بيان حكمها.
فإذا بإعطاء الشيء حكم نظيره فقد اجتهد بالشرع، (وفقه) يعني: فهم من الشرع، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) يعني: يفهمه مقصود الشرع فيبني الحكم عليه، فأنت إذا نظرت إلى أن مقصود الشرع تحريم هذا الشيء فحينئذٍ تقول: لا يجوز.
وإذا فهمت أن مقصود الشرع جوازه والتوسعة على الناس تقول: يجوز، وكل ذلك مبني على فهمك لأصول الشرع.
وفي هذه المسألة كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الرجل هل طاوعته المرأة أو لم تطاوعه، وهل هي مكرهة أو غير مكرهة، معذورة أو غير معذورة .
لا يقال: تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنسب شيء ما يذكره علماء الأصول بقولهم: (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما استفصل من الرجل، وما قال له: هل امرأتك طاوعت أو لم تطاوع؟ هل امرأتك مكرهة أو غير مكرهة، راضية أو غير راضية؟ بل ترك الاستفصال في مقام الاحتمال.
أي: في مقام يحتمل فيه أن تكون المرأة معذورة، ويحتمل أن تكون غير معذورة، فكونه لم يستفصل ينزل منزلة العموم.
يعني: لا تجب كفارة إلا على الرجل، أما المرأة فلا تجب عليها سواء طاوعت أو لم تطاوع هذا معنى القاعدة.
ولكن مثلما ذكرنا: أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ليس هذا موضعه، إنما موضعه في مقام السؤال حينما يسأل السائل عن الشيء بذاته، كأن يسأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم امرأته فيقول: عليها الكفارة.
ولا يستفصل طاوعت أو لم تطاوع، فتقول: ترك الاستفصال هنا مؤثر ودليل وحجة؛ لكن كونه لم يرد سؤال عن المرأة وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ فهذا مما يسع الاجتهاد فيه.
فلا يعقل؛ لأن المرأة قد تغري الزوج على الجماع، وقد يقع منها الجماع ابتداءً بزوجها، وذكر هذا بعض العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان الغالب أن الرجل تكون منه بواعث الجماع، لكن كونها هي التي تبعثه وتدفعه، يقولون: هذا يدل على أن المرأة تأخذ حكم الرجل إن طاوعت ورضيت وأغرت وقصدت وأرادت ذلك.
فإذا كانت المرأة هي التي تريد الجماع، وحصل منها ذلك وطاوعت زوجها مختارة راضية؛ فالمرأة والرجل سواء، وتجب عليها الكفارة؛ لأن المعنى الذي عاقب الشرع به الرجل موجود في المرأة كما هو موجود في الرجل.
هذا من ناحية فقهية ومن ناحية الأصول والضوابط والاجتهادات صحيح؛ لأن العلة الموجودة في الرجل موجودة في المرأة، فتجب عليها الكفارة كما تجب على الرجل؛ لكن إذا استكرهها وغالبها فحينئذ يكون كأنه أوقعها في هذا المحظور، فتجب عليه الكفارة؛ لأنه متسبب في ذلك كما هو الحال في الضمانات في الحقوق، ولما كان الشرع ينزل حقوق الله عز وجل قياساً على حقوق الآدميين بدليل الحديث الصحيح ( فدين الله أحق أن يقضى ) وجعل الحقوق مقضية تنزيلاً لشغل الذمم بها، كذلك هنا حق الله يضمن، فكما أن المرأة سقط عنها المؤاخذة بالكفارة لكونها مكرهة، فحينئذ من الذي أكرهها؟ ومن الذي قسرها؟ ومن الذي أوقعها؟ هو الرجل.
فهناك محل تتعلق به الكفارة ويسع أن تتعلق به الكفارة الثانية، بخلاف ما إذا أكرهت المرأة فإنا لا نجد إلزاماً؛ لأن الإخلال غير موجود، وعلى هذا فهناك صورتان: الصورة الأولى: أن تكون المرأة مكرهة ومغلوبة، فبالنسبة للرجل ما عندنا إشكال، لكن بالنسبة للمرأة المحل -الذي هو المرأة المكلفة- غير قابل لإيجاب الكفارة؛ لأنها لم تتوفر فيه شروط الإخلال؛ لكن إذا كانت مكرهة فمعنى ذلك أن هناك إخلالاً من الرجل من ناحيتين: من ناحية نفسه، ومن ناحية إيقاعه للغير في الإفطار.
وهذا الإفطار وقع بشهوة الجماع، فكما أن الجماع في حقه يوجب الكفارة، كذلك بالنسبة للمرأة.
على هذا القول الذي يرى أن المكرهة يجب على زوجها أن يكفر، حينئذ يقولون: تجب عليه الكفارات المتعددة في اليوم الواحد؛ ولذلك يلغز بعض العلماء ويقول: على المذهب الذي يرى أن من جامع أكثر من مرة في يوم واحد ليس عليه إلا كفارة واحدة، فقد تجب عليه الكفارة متعددة في أي صورة؟ تقول: إذا قلنا: إن المرأة المكرهة -التي أكرهها زوجها- تجب عليه الكفارة، فحينئذ إذا جامع الجماع الأول وجبت عليه الكفارة لنفسه وكفارة لزوجه التي جامعها، فصارت كفارتان، فإن جامع الزوجة الثانية -وليس الزوجة الأولى- فقد حصل فطر وجماع ثان، فتجب عليه الكفارة الثانية، فإن جامع زوجته الثالثة وجبت عليه الكفارة الرابعة، وإن جامع زوجته الرابعة وجبت عليه الكفارة الخامسة.
فهذه خمس كفارات تجب بجماع يوم واحد على رجل واحد، هذه المسألة يلغز فيها بعض العلماء، لكن محله أن ترى أن المرأة التي أكرهت على الجماع من قبل الرجل كأن يهددها أو يغلبها بقوة أو تكون نائمة ثم لا تشعر به إلا وقد أصابها، قالوا: هذه يجب عليه أن يكفر عن نفسه وعنها؛ لأنه وقع الإخلال بالصوم من وجهين: من جهته ومن جهة زوجه، فتتكرر عليه الكفارة من هذا الوجه.
وبناءً على ذلك: فإن حديث المجامع في نهار رمضان يعتبر من المسكوت عنه؛ لأن السؤال لم يرد عن المرأة أصلاً، ولا يعتبر هذا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة.
والله أعلم.
كفارة العبد إذا جامع في نهار رمضان

السؤال
هل كفارة الجماع في نهار رمضان على الحر والعبد سواء، أم أن الأمر فيه تفصيل أثابكم الله؟

الجواب
بالنسبة للعبد فإنه لا يملك؛ لكن قال بعض العلماء: لو ملكه سيده وأذن له بالعتق يعتق، وحينئذٍ تجزيه، ومذهب طائفة من علماء السلف أن العبد ينتقل إلى الصيام فيلزمه أن يصوم؛ فإن عجز عن الصوم سقطت عنه الكفارة؛ لأنه لا يملك، والدليل على أنه لا يملك: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ) فأخلى يد العبد عن الملكية؛ فدل على أنه لا يملك، وهذا أصل عند العلماء، وقد سبق بيانه وبسط الكلام عليه في مسائل الزكاة.
والله تعالى أعلم.
العبد المكاتب لا يجزئ في الكفارة الواجبة

السؤال
من كان يدفع إلى سيده أنجم المكاتبة وبقيت بعضها، فأعتقه سيده بكفارة الجماع، فهل يجزئه ذلك أم لابد أن يرجع إلى عبده ما أخذ من المكاتبة أثابكم الله؟

الجواب
إذا اتفق السيد على الكتابة وأدى العبد أنجم الكتابة كاملة فإنه يجب على السيد أن يعتق عبده، وإذا لم يعتقه واشتكى العبد إلى القاضي فإن القاضي يحكم بعتقه، وهذا من العقود التي تكون لازمة في أول حال وفي آخر حال؛ لأن العقود منها ما يلزم في أول حال وفي آخر حال، ومنها ما يلزم في أول حال دون آخر حال، ومنها ما لا يلزم في أول الحال ويلزم في آخر الحال.
فالمكاتبة تعتبر في أول الحال إذا تعاقد الاثنان، وفي الأصل السيد لا يلزمه أن يكاتب عبده على القول بعدم وجوب الكتابة عليه، ومنهم من يقول بوجوبها لظاهر قوله تعالى: { فَكَاتِبُوهُمْ } [النور:33] فإذا قلنا بعدم الوجوب فهي غير لازمة في أول الحال على السيد، لكنه إذا وقع العقد وتم بينهما وافترقا فحينئذ يلزمه الوفاء بهذا العقد، وعلى الرقيق أن يسدد ما عليه، فلو قال له: كاتبتك بعشرة آلاف، تؤدي لي كل شهر ألفاً، فإذا أتممت العشرة فأنت حر.
فإذا أعطى العشرة كاملة أعتق بآخر نجم منها، وأما إذا عجز عن سداد أنجم الكتابة يعود رقيقاً لسيده.
وبناءً على ذلك: إذا عجز العبد عن السداد لبعض أنجم الكتابة وعاد رقيقاً لسيده فأعتقه سيده عن ظهار أو عن قتل أو عن جماع في نهار رمضان أجزأه؛ لأنه إذا عجز وثبت العجز رجع إلى ملكية سيده.
أما إذا كان أثناء أنجم الكتابة ووصل إلى آخرها، فقال له السيد: أنت حر؛ فإن هذا العتق لا يعتبر عتقاً عن الواجب عليه في ذمته؛ لأن الأصل يلزمه بأداء أنجم الكتابة حتى يكون العبد حراً بأنجم الكتابة، لا بما عليه من فرض الله، كأنه يتخلص مما عليه من حق الله عز وجل فيعتق حتى لا يشتري رقبة ثانية، فكأنه يدفع الغرم عن نفسه لما أوشك العبد أن يسدد، فمعنى ذلك: أنه يريد ألا يتحمل رقبة ثانية ويشتريها، فهو يريد أن يعتق هذه الرقبة حتى يتخلص من تبعة الرقبة الثانية؛ ولذلك لا يصح العتق على هذا الوجه، ولا يجزيه في الكفارات، سواء كانت عن ظهار أو قتل أو أي عتق واجب آخر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #209  
قديم 28-08-2022, 05:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصيام)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (204)

صـــــ(1) إلى صــ(28)



شرح زاد المستقنع - باب ما يكره ويستحب في الصوم وحكم القضاء
هناك أمور ذكر العلماء أنه يكره فعلها في الصيام؛ لأنها تخدش في الصيام وتنقص أجره، وهناك أيضاً مستحبات ينبغي على الصائم أن يعلمها ويحافظ عليها حتى يكون صومه تاماً صحيحاً مقبولاً عند الله تعالى.
ومما يتعلق بالصيام: أحكام القضاء لمن أفطر في رمضان لعذر، وحكم من مات وعليه صوم وغيرها من أحكام ومسائل القضاء.
مكروهات ومستحبات الصوم وحكم قضائه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء].
يقول المصنف رحمه الله: (باب ما يكره) أي: ما يكره على الصائم أن يفعله حال صيامه، سواء كان لنافلة أو فريضة، والمكروه: هو الذي تعافه النفوس، وكره فلانٌ فلاناً إذا وجد فيه ما يوجب نفرته منه، وأما المكروه في الشريعة: فهو الذي نهى الشرع عنه نهياً غير جازم، وهذا المكروه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وكأن المصنف رحمه الله يريد أن يبين لنا بعض الأمور التي لا يستحب للصائم أن يفعلها، وإذا تركها بقصد التقرب فإنه يثاب شرعاً، ولكنها لا توجب فطره.
وقوله: (ويستحب) ضد المكروه، فالأمر من الأقوال والأفعال إن كان جازماً فهو واجب، وإن كان غير جازم فهو مندوب ومستحب.
وحكمه: أنه يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
ومعنى: يستحب أي: يستحب للصائم أن يفعله أو أن يقوله؛ والسبب في ذلك: أن الصيام فيه أمور محرمة، وفيه أمور مكروهة، وفيه أمور واجبة، وفيه أمور مستحبة، وفيه أمور مباحة، ولذلك تكلم -رحمة الله عليه- في الأبواب الماضية عن الأمور المحرمة والأمور الواجبة، وبعد بيانه لكلا القسمين شرع في بيان ما يكره وما يستحب، ولكن

السؤال
لماذا قال: باب ما يكره فقدم المكروه على المستحب، والتقديم للشيء فيه دلالة على شرفه في الغالب؟ قدم المكروه؛ لأن الصيام يقوم على الترك، ولذلك المكروه ألصق بمادة الصيام من المستحب الذي يطلب فيه الفعل في الغالب.

وقوله رحمه الله: (وحكم القضاء) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل المتعلقة بقضاء صيام رمضان، والسبب في ذلك أن المكلف لا يخلو من حالتين: إما أن يوقع صيام الفريضة في زمانه المعتبر على وجهه المعتد به شرعاً، فحينئذٍ لا إشكال، ويسمى هذا الصيام منه: صيام الأداء.
وإما أن لا يوقعه؛ وذلك لوجود العذر الشرعي الذي يبيح له الفطر، من مرض أو سفر أو غير ذلك فيفطر؛ فإذا أفطر توجه إليه خطاب الشرع بأن يقضي أياماً أخر على عدد الأيام التي أفطرها من غير رمضان، وحينئذٍ ينتقل من رمضان إلى غير رمضان.
ويرد السؤال عن هذه الأيام والأحكام المتعلقة بها، هل تنزل منزلة أيام رمضان أو لا تنزل؟ كذلك أيضاً من جهة كون الذي يقضي إذا أفطر متعمداً، هل يجوز له ذلك أو لا يجوز؟ وما الحكم في فطره إذا وقع على هذا الوجه؟ يقول رحمه الله: (باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء) جمعها رحمة الله عليه في هذا الموضع لتجانسها، فإن المكروه والمستحب يتضادان في الغالب، وإن كان هناك صور يكون فيها المستحب لا يضاد المكروه.
أقوال العلماء في جمع الريق وبلعه لمن كان صائماً

[يكره جمع ريقه فيبتلعه].
أي: يكره للصائم أن يجمع ريقه، والريق: لعاب أوجده الله في الفم، ويكون في أصله لعاب قوي المادة أو يتحلل مع حركة الفم، وهذا اللعاب أوجده الله عز وجل لحكمة، وإذا أراد الإنسان أن ينظر إلى عظيم نعمة الله عليه بهذا اللعاب، فلينظر إلى حاله في شدة الظهيرة وقد جف حلقه من لعابه كيف يكون حاله؟ فلو أن الله خلقه على هذه الصفة لوجد من المشقة والعناء ما لا يخفى؛ ولكنه أحسن كل شيء خلقه سبحانه وتعالى وتبارك وهو أحسن الخالقين، فخلقه على هذه الصفة فجعل اللعاب في فمه؛ يمكنه من الكلام؛ ويدفع عنه مشقة يبس حلقه وصعوبة كلامه، ولذلك تجد من جف لعابه أو قل -خاصة في أحوال الصيام وشدة الظمأ- يصعب عليه الحديث ويصعب عليه الكلام.
فهذا اللعاب والريق له حالتان: الحالة الأولى: أن يتركه المكلف على خلقة الله عز وجل فيرتفق به في حال يبس حلقه أو يبس فمه، على الوجه المألوف المعتاد المعروف.
وهذه الحالة لا إشكال فيها بإجماع العلماء؛ لأن اللعاب يعتبر غير مؤثر في الصيام ولو بلعه الإنسان؛ لأنه مما يشق التحرز عنه، ولذلك يمثل العلماء له بما يشق التحرز عنه في الصيام، واغتفروا في حكمه اللعاب اليسير الذي يكون من فضلة الطعام إذا شق عنه التحرز عنه في الصلاة، وكذلك اغتفروا ما يكون بين الأسنان في الصلاة كوضر اللبن الذي يكون من دسامة مادة اللبن.
وأما في الصيام فقالوا: إذا بزغ الفجر وانتهى وقت السحور، فإنه يتمضمض إن بقيت مادة الطعام في فمه؛ لأن اللعاب متصل بممنوع، وهو وإن كان لعاباً في أصله لكنه خرج عن الأصل؛ لامتزاجه مع المادة التي هي مادة الطعام، وعلى هذا قالوا: إن اللعاب في هذه الحالة يجب إزالته إما ببصاق، أو بغسل الفم بالمضمضة، ولذلك ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه تمضمض قبل الصلاة من وضر اللبن ودسومته.
وأما الحالة الثانية للريق: فهي أن يجمع الريق فيبلعه وهو صائم، فهذا الجمع للريق يعتبر متردداً بين أصلين، فيحتاج تقرير هذين الأصلين إلى أمر مهم لابد من بيانه، حاصله: أن فم الإنسان يعتبر من خارج الجسد ولا يعتبر من داخل الجسد، وتوضيح ذلك: أنك في الصيام تحتاج إلى أن تفرق بين خارج البدن وداخل البدن؛ حتى تستطيع أن تفتي في مسائل الصيام، وهذا أمر مهم لطالب العلم وللعالم، ولا يستطيع أن يفتي في مسائل الفطر حتى يقرر ما الذي من خارج البدن، وما هو الذي من داخله بحيث إذا وصل إليه الغريب حكم بفطر الصائم بسبب ذلك.
فالفم دلت الأدلة على أنه من خارج البدن، فإذا قلت: إنه من خارج؛ فأي شيء يصل إليه من المفطرات لا يضر ولا يؤثر ما لم يتجاوز الحد المعتبر شرعاً، وما هو هذا الحد؟ الحد: هو اللهاة، واللهاة هي: اللحمة المتدلية عند بداية الحلق، فهي فاصل بين داخل البدن وبين خارج البدن، وخارج البدن هو الفم، فما كان دون اللهاة فهو من داخل، وبناءً على ذلك لو استقاء فخرج القيء إلى فمه ورد ولو يسيراً من القيء إلى جوفه -إلى ما وراء اللهاة- فقد أفطر، وهذا بإجماع العلماء: أنه إذا رد مادة القيء إلى داخل البدن بعد وصولها إلى الفم أنه يفطر؛ لأنه بمجرد وصولها إلى الفم خرجت من البدن.
إذاً تثبت أن هناك داخلاً وخارجاً؛ فالداخل ما دون اللهاة من جهة الجوف، والخارج ما قبل اللهاة من جهة الفم، وعلى هذا: إذا كان الريق موجوداً في الفم ليس عندنا إشكال، حتى ولو جمعه ثم أداره في فمه ثم بصقه لا إشكال؛ لأن الأمر كله في خارج البدن؛ لكن الإشكال لو جمع هذا الريق ثم ابتلعه بعد ذلك، فهذا الفعل يتردد بين وجهين: أحدهما: يقتضي الحكم بالفطر.
والثاني: يقتضي عدم الحكم بالفطر.
فأما كونه مقتضياً للفطر فهم يقولون: هذا اللعاب مادة متعلقة بخارج البدن، وكون الإنسان يبلع ريقه يسيراً يسيراً، قالوا: هذا على المعروف المألوف الذي يشق التحرز منه، فرخص الشرع فيه، لكن كونه يجمع ريقه باختياره وقدرته وتمكنه، ثم يبلع كما لو أفضل الجسم فضلة ثم بلعها، فهم يقولون: اللعاب فضلة الجسم، وهذا بالإجماع أنه فضلة من الجسم، فكما أن فضلة الجسم كالقيء إذا خرجت إلى الفم ثم ردت أنها تفطر، قالوا: اللعاب إذا جمع خرج عن الرخصة، فالرخصة فيه أن يكون متحللاً لترطيب الفم، لكن إذا جمعه فإنه يقصد ما يقصده الشارب أو من يريد بل حلقه، فخرج عن كونه مادة للفم إلى كونه مادة للحلق؛ فأفطر من هذا الوجه.
قالوا: وأشبه ما لو إذا خرج القيء ثم رده إلى داخل البدن.
وأما الوجه الثاني الذي يقتضي أنه لا يفطر: فهم يقولون: هذا اللعاب مادة تسامح الشرع فيها، والإجماع منعقد على أن اللعاب الذي في داخل البدن لو بلعه الإنسان قليلاً قليلاً أنه لا يفطر؛ فلا فرق عندي بين أن يبلعه دفعة واحدة وبين أن يبلعه شيئاً فشيئاً.
إذاً عندك وجهان: أحدهما: يقتضي الحظر والحكم بالفطر.
والثاني: يقتضي الإباحة، وأنه لا يوجب فطر صاحبه.
والقاعدة عند بعض العلماء: أنه إذا تردد الفعل أو القول بين مأذون به شرعاً، وبين غير مأذون به شرعاً وهو المحرم، وأصبح فيه شبهاً من هذا وشبهاً من هذا فإنه يكره.
هذا ضابط للمكروه عند بعض العلماء، ولذلك يمثلون بإسبال الإزار، قال صلى الله عليه وسلم: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ) وأجاز الأزر إذا كانت فوق الكعبين، وقد ثبت عنه أنه قال: ( أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ) فإذا ارتفع الإزار عن الكعبين فالإجماع على حله، وإذا نزل عن الكعبين فإنه يعتبر داخلاً في قوله: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ).
لكن لو أنه وصل إلى الكعبين ولم يجاوز ولم يرتفع عنهما وكان محاذياً للكعبين؛ فليس عندك نص يقتضي التحريم، وليس عندك نص يقتضي الإباحة، فإذا جئت تقول: أبيحه.
أجابك المجيب بأن الشرع أباح ما فوق الكعبين، وإذا قلت: أحرمه.
أجابك المعترض بأن الذي حرمه الشرع ما نزل عن الكعبين، قالوا: فيصبح بين الحظر والإباحة فهو مكروه، فيسكت عنه الشرع لتردده بين الحظر والإباحة، فيقولون: هو مكروه.
فإذاً: كأن المكروه يتردد بين الحلال والحرام، ويتردد بين الحظر والإباحة، فجمع الريق فيه وجه لأن تجيزه، وفيه وجه لأن تمنعه، فإن قلت: الشرع رخص في الريق لمكان مشقة التحرز والتوقي؛ فإن الريق المجموع لا يشق التحرز عنه؛ لأنه بإمكانه أن يبصقه، قالوا: فحينئذٍ كأنه قصد الإخلال، فيعتبر هذا الوجه يقتضي الحظر.
وتقول: الريق مأذون به شرعاً، فيستوي أن يكون مجموعاً أو متفرقاً، فهذا الوجه يقتضي الإباحة؛ فأصبح جمع الريق مكروهاً من هذا الوجه.
فهذا هو وجه كون العلماء رحمة الله عليهم ينصون على كراهية مثل هذه الأمور، ويستشكل بعض طلاب العلم كيف يحكم بالكراهة بما لا نص فيه؟ وهذا من ورع السلف والأئمة رحمة الله عليهم، ولذلك لما تكلم العلماء عن ضابط المكروه قالوا: إن هناك صوراً للشيء المتردد بين الحظر والإباحة، يؤكد الشرع على قصد الترك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) ولذلك فالفقيه لا يستطيع أن يقول: هذا حرام، وإذا قال: هو حلال وجد في نفسه الشبهة فتردد، ولذلك إذا قال لك قائل: أجمع الريق وأبلعه.
فستجد في نفسك الشبهة، لكن ما تستطيع أن تقول: إنه حرام؛ فالبر طمأنينة، قالوا: فوجود هذه الشبهة كونه يجمع الريق فستفهم منه أنه في حكم من يدخل على البدن الشيء الغريب عنه؛ لأن الذي ليس بغريب أن يترك اللعاب على طبيعته، لكن كونه يجمعه وكونه يبلعه قالوا: هذا يقتضي الشبهة.
ومن هنا يقوى القول بكون جمع الريق من مكروهات الصيام.
وخلاصة الكلام أن لبلع الريق ثلاثة أحوال: الحالة المعروفة المألوفة، ولا إشكال فيها، ولكن هناك حالتان يذكرهما العلماء، وهما: الحالة الأولى: أن يجمع الريق من داخل -أي: من داخل الفم-.
والحالة الثانية: أن يخرج الريق المجتمع إلى خارج الفم.
فأما إذا كان الريق في داخل الفم فجمعه وبلعه فمثلما ذكرنا أنه مكروه، لكن لو جمع الريق فأخرجه عن الفم بلسانه وجاوز شفتيه ثم رده فإنه يفطر في قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأنه إذا أخرجه عن الفم فإنه حينئذٍ يخرج عن الرخصة قولاً واحداً عند أهل العلم؛ ولأنه يعتبر خارجاً عن اللعاب المأذون به أو المرخص به شرعاً؛ لأن الذي يشق التحرز عنه ما كان في داخل الفم، أما إذا خرج قالوا: إنه يفطر.
ما فائدة قول العلماء رحمة الله عليهم: الريق يجمع من داخل أو يجمع من خارج؟ قد يقول قائل: إنه من القبيح من الإنسان أن يخرج الريق من فمه ثم يرده! وهذه المسائل يذكرها العلماء لأمور قد يحتاج إليها الفقهاء، فمثلاً في زماننا قد يوجد في بعض أحوال أن تقوم بعض الآلات بشفط ما في الفم وإعادته إليه لتكريره عليه، كما يكون في بعض من يكون في أجهزة الإنعاش، فإنه يحتاج إلى وجود بعض المواد التي تكون في فمه، فإذا كانت الآلة التي تشفط تشفط المادة إلى خارج الفم وتجاوزه ثم تعيده؛ فمثل هذا يرد فيه الكلام، وإن كانت في داخل الفم ولا تجاوزه فلا إشكال فيها.
فالمقصود: أن مسألة جمع الريق لا تخلو من هاتين الصورتين: إن خرج الريق وجاوز حد الشفتين أفطر قولاً واحداً، وإن لم يجاوز فإنه يرد فيه ما ذكرناه من الحكم بالكراهة، ولا يحكم بفطر صاحبه.
حرمة بلع النخامة بعد وصولها إلى الفم

قال رحمه الله: [ويحرم بلع النخامة ويفطر بها فقط إن وصلت إلى فمه].
(ويحرم بلع النخامة) هناك مادة ثانية من فضلة الفم، وهو: المخاط الذي يكون في الخياشيم وفي الأنف، وقد يخرج من الصدر كالبلغم، فأما بالنسبة للمخاط الذي يكون في الخياشيم فإنه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون سحب الإنسان له إلى الجوف مباشرة، كما لو استنشق ثم ذهب إلى جوفه دون أن يمر بفمه، هذا بالإجماع لا يفطر، ولو كان للنخامة جرم، كما هي القطعة الصغيرة التي تتجلط من المخاط، فهذا لا يفطر.
الحالة الثانية: أن تكون النخامة قد خرجت إلى الفم، فإن خرجت إلى الفم وأدارها في فمه فلا يخلو من حالتين: إما أن يديرها في فمه ثم يبلعها، وهذا هو الذي حكم المصنف عليه أنه يحرم، وأنه يوجب الفطر إن بلعها، وهناك وجه ثان: أنه لا يفطر، ويرون أن الفم مغتفر كالأنف، والذي اختاره المصنف من القوة بمكان؛ لأن الأصول تقتضيه.
وإما أن يخرجها إلى الشفتين كما ذكرنا، كأن يخرج لسانه وعليه النخامة ثم يزدردها، فإنه يفطر في قول جماهير العلماء رحمهم الله قولاً واحداً.
على هذا يفرق في النخامة بين هاتين الحالتين.
أما بالنسبة للبلغم الذي يكون من الصدر، فإن كح وأخرجه إلى حلقه دون أن يصل إلى فمه ويجاوز لهاته، فلا إشكال إن ازدرده مباشرة، وأما إذا أخرجه إلى فمه ففيه الكلام الذي ذكرناه، والصحيح والأقوى: أنه يفطر، كما لو أخرج القيء ثم رده.
وبناءً على ذلك، فإن النخامة والبلغم يفصل فيهما هذا التفصيل.
حكم تذوق الطعام بلا حاجة

[ويكره ذوق طعام بلا حاجة] قوله: (ويكره ذوق طعام بلا حاجة) له حالتان: الحالة الأولى: إذا نظرت إلى ذوق الطعام، فأنت ترى أن الذي يذوق الطعام فيه شبهة؛ لأنه إذا ذاقه وازدرده لا إشكال أنه يفطر بالإجماع؛ كأن يتحسى شراباً أو يتذوق طعاماً، ثم بعد ذلك يزدرده ويجاوز اللهاة، فإنه بالإجماع يفطر.
الحالة الثانية: أن يذوق الطعام ثم يغسل الفم مباشرة ويلقيه، فهذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم والصحيح ما أفتى به ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة من السلف: أنه لا حرج ولا بأس أن يذوق الإنسان الطعام؛ لكن بشرط أنه بعد تذوقه يغسل فمه، ويذهب المادة التي ذاقها، أما إذا لم تذهب المادة وبقيت وتحللت في اللعاب، ووجد طعم الطعام في حلقه فقد أفطر.
حكم مضغ الصائم للعلك وأنواعه
[ومضغ علك قوي].
العلك: هو اللبان وهو أنواع: النوع الأول: ما يكون دواءً وعلاجاً كاللبان المر، فهذا له فوائد للصدر، وله فوائد للجوف.
وهناك النوع الثاني الذي لا يقصد منه التداوي، وهو الذي يستعمل من باب الترفيه عن النفس، فهذا يشدد فيه بعض العلماء لما فيه من شبه بقوم لوط، ولا يحفظ في ذلك نص صحيح يدل على ثبوت هذا، لكنه من خوارم المروءة، يعني: إن الحياء والمروءة أن لا يستعمله من له مكانة، كالوالد أمام أولاده، وهكذا الأم أمام بناتها وصغارها، وهكذا طالب العلم والعالم ومن له مكانة بين الناس، فمضغ اللبان يسقط مروءته ويدل على قلة حيائه، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ) وضابط ذلك أن يفعله أمام الناس كما أشار إلى ذلك بعض العلماء بقوله: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فكونه يمضغ اللبان أمام الناس، فهذا يوجب سقوط عدالته والجرح في شهادته، ويدل على نقص عقله؛ لأن العقل يمنع من فعل هذه الأمور أمام الناس.
وبالنسبة للتحريم بأن أهل لوط يفعلون ذلك، هذا لم يثبت به نص صحيح، والأصل الجواز، ولا حرج في مضغه، وكون الإنسان يمضغ اللبان لا حرج؛ لكن لا يفعل ذلك أمام الناس، وأما لو كان صغير السن كالأحداث ونحوهم فهذا مما جرت العادة باغتفاره، والدليل على الجواز: أن الله سخر لبني آدم الارتفاق بالمطعوم والمشروب ما لم يدل الدليل على التحريم، وهذا مما يطعم، وأما اللبان الذي يتداوى به كمرضى السكر ونحوهم لكونهم يحتاجون إلى وجود اللعاب في أفواههم، وهكذا بالنسبة للبان المر الذي يتداوى به الإنسان فهذا لا إشكال فيه.
فاللبان أو العلك له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون قوياً ومادته متحللة، وهذه الحالة أوضح ما تكون حينما يأخذ الإنسان في بدايته، فإنه يجد قوة المادة ويجد تحللها وأثرها في فمه، فتجد لعاب الإنسان يسيل بسبب قوة المادة؛ فإذا كانت المادة حلوة سال لعابه؛ فتجد قوة المادة مؤثرة، هذا هو المتحلل.
الحالة الثانية: غير المتحلل: وهو الذي لا تجد له طعماً، فأنت إذا نظرت إلى هذا اللبان كاللبان المر إذا علكه الإنسان لمدة ربع ساعة تقريباً أصبح مادة يعلكها، لا يجد لها طعماً قوياً ولا تكون مؤثرة، والمقصود منها في الغالب أن الإنسان يريد منها جريان اللعاب.
فهذا معنى القوي المتحلل، والضعيف غير المتحلل، فاللبان في بدايته يكون متحللاً قوياً.
ما فائدة هذا التفصيل؟ فائدة هذا التفصيل: أنه لو كان قبل أذان الفجر يعلك اللبان فعلكه وذهبت قوته، ثم أذن عليه الفجر وهو في فمه، ولا يجد إلا إسالة اللعاب، ولا يجد لمادة اللبان أثراً؛ فهذا أضعف مما لو كان في بداية العلك، فيفرق بين الذي له مادة تتحلل والذي ليست له مادة، وتوضيح ذلك: أن الفم من الخارج كما قررناه، فكونه يجري اللعاب في داخل فمه عن طريق اللبان هذا لا يؤثر، ما لم يكن من لبان مادته قوية متحللة، ويكتسب طعم الريق فيها، ثم يزدرد هذه المادة فيفطر، وأما إذا كانت مادة اللبان جافة، خاصة لو شرب الماء بعد مضغ اللبان بربع ساعة تقريباً أو عشر دقائق فإن اللبان يصبح جافاً ومادته جافة ولا تتحلل؛ فحينئذٍ يضعف عن التأثير، بخلاف ما لو كان في بدايته.
إفطار الصائم بوجود طعم العلك والطعام في الحلق

[وإن جد طعمهما في حلقه أفطر].
وإن وجد طعم العلك سواء كان قوياً أو ضعيفاً -يعني: المتحلل وغير المتحلل- إن وجد طعمه في حلقه أفطر قولاً واحداً؛ والسبب في ذلك: أنه بوصول هذه المادة إلى الحلق، فإنه يعتبر في حكم من طعم الطعام، ووجد الطعام أو أثر الطعام في حلقه.
[ويحرم العلك المتحلل إن بلع ريقه].
قال: يكره إذا لم يكن قوياً، وأما إذا كان متحللاً فإنه يحرم إن بلع ريقه، أما لو أجراه في فمه ثم لفظه ولفظ ما فيه، فهذا لا يؤثر.
حكم القبلة بالنسبة للصائم
[وتكره القبلة لمن تحرك شهوته].
وتكره القبلة للشخص الذي تحرك القبلة شهوته، فالشخص إذا قبَّل لا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن لا يأمن من نفسه أن تقوى شهوته، ويندفع إلى درجة لا يأمن معها أن يفسد صومه بالجماع.
الحالة الثانية: أن تتحرك شهوته إلى درجة لا تصل إلى الجماع ولكن إلى أن ينزل، ويستطيع أن يحبس نفسه عن الجماع لكن لا يستطيع أن يحبس نفسه عن إنزال المني كأن يكون سريع الإنزال عند بداية شهوته.
والحالة الثالثة: أن يكون قوياً مالكاً لإربه، فلا ينزل ويأمن أن يقع منه الجماع.
هذه ثلاثة أحوال بالنسبة للشخص الذي تقع منه الشهوة: إما أن تحركه حتى يصل إلى غايتها من الجماع، وإما أن تحركه فيصل إلى الإنزال ولا تؤدي به إلى الجماع، وإما أن تحركه فيجد النشوة، ولكن لا يصل إلى الإنزال ولا يقع منه جماع.
أما إذا كان لا تحرك القبلة شهوته فهو الشخص الذي لا يجد الانتشاء بالتقبيل، كأن يقبل لعاطفة، كأن يقبل أبناءه ويقبل بناته، فهي ليست بقبلة شهوة؛ لأن التقبيل يكون لمعانٍ: أن يقبل محبة وشهوة وهي قبلة الزوج لزوجته والعكس، وأن يقبل لرحمة كتقبيل الابن لأبيه والأب لابنه، ويقبل لعاطفة وهي صورة العكس الأب لابنه، ويقبل لهيبة وإجلال كأن يقبل جبهة العالم أو يده.
فهذه أحوال للمقبل، لكن الذي يتكلم العلماء عنه: التقبيل للمرأة، وهو تقبيل الشهوة، أما لو رأى المرأة في حزن ورحمها وعطف عليها فقبلها من باب العطف والحنان، فإنه خارج عن مسألتنا، وحمل بعض العلماء عليه تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة قبل أن يدخل إلى المسجد، فقالوا: إن هذا التقبيل من النبي صلى الله عليه وسلم ليس تقبيل محبة، وإنما هو صدق مودة من النبي صلى الله عليه وسلم لها، ليس يقصد منه تحريك الشهوة، أو ما يكون بين الرجل وامرأته من باب الشهوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما قالت: كان إذا أذن عليه المؤذن لا يعرفنا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يشتغل بأمر الصلاة.
فالتقبيل الذي يبحثه العلماء في هذا الموضع: تقبيل الشهوة، ولا يريدون منه مطلق التقبيل، فلو قبل الأب ابنه فإن قبلته قبلة عطف وحنان وشفقة، كما قال أحدهم للنبي صلى الله عليه وسلم: ( إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم.
قال: أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟! ) فوصف التقبيل بكونه رحمة، فهذا لا يتكلم العلماء عنه، وهكذا لو قبلت الأم بنتها إذا رأت عليها الحزن وقبلتها ونحو ذلك، فإذا كان التقبيل للشهوة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل وهو صائم، كما في الصحيحين من حديثٍ يرويه هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، أن عائشة رضي الله عنها قالت: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، فسألها عروة رضي الله عنه وقال: ما أراه إلا أنت.
قال: فضحكت رضي الله عنها وأرضاها )، ما فائدة سؤال عروة رضي الله عنه بهذا الأسلوب؛ لأنه قد يقول البعض: ما داعي أن يقول عروة ذلك؟ الواقع أننا استفدنا من هذا أنها رواية متصلة لا منفصلة؛ لأنه قد تحكي أم المؤمنين شيئاً من حاله عليه الصلاة والسلام عن غيرها من أمهات المؤمنين؛ لكن كونها تضحك هذا يدل على أنه وقع لها من النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون الرواية متصلة، ويكون الفعل بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة.
هذا يدل على أنه لا حرج أن يقبل الصائم زوجه؛ لكن قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: ( ولقد كان أملككم لإربه -وفي رواية: لأرْبه، وقيل: لأرَبِه- ) واختلف العلماء فيه على وجهين: قيل: الأَرَب هو العضو، أرادت أنه لا ينزل عليه الصلاة والسلام، وقيل: شهوته، يعني الشهوة مطلقاً؛ فإذا قلت: إن المراد بالأرب العضو، فيكون مرادها أنه يتحفظ من الإنزال، فيدل على حل أن يقبل للشهوة، ولكن بشرط أن يأمن الإنزال، وإن قلت: إن المراد بتقبيل النبي صلى الله عليه وسلم مطلق الشهوة، فحينئذٍ تشمل الشهوة المنبعثة من التقبيل، والشهوة التي يكون منها الجماع؛ فحينئذٍ تقول: إنه قبل لمعنى غير الشهوة، كأن يقبل لعطف أو لحنان أو نحو ذلك، والأول أقوى.
وعلى هذا: فإنه لو قبل زوجته للشهوة لا حرج، لكن فيه تفصيل: إن غلب على ظنه أنه يجامع أو يقع في الجماع فلا يجوز له أن يقبل؛ لأن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها؛ فإنك لو قلت: الشرع يأذن للرجل أن يقبل زوجته، مع أنه يغلب على ظنك أنه سيقع في الجماع ويفسد الصيام، فهذا مما لا يأذن الله عز وجل به، وحينئذٍ يتناقض الشرع، ولذلك نبهت أم المؤمنين رضي الله عنها على هذا فقالت: (كان أملككم لإربه) وكأنها تريد أن تفرق بين من يملك ويقدر على حفظ نفسه، وبين من لا يملك ولا يقدر على حفظ نفسه.
وقد دل الشرع على أن تعاطي السبب يوجب الضمان للإنسان، وأن الإنسان ينبغي عليه أن يتحفظ عن الأسباب التي تفضي به إلى الإخلال، سواء بالمأمورات أو بالمنهيات، وبناءً على ذلك إذا غلب على ظنه أنه يفسد صيامه بالجماع أو بالإنزال؛ فإنه لا يقبل.
الحالة الثانية: فلو اعترض معترض وقال: هذا ليس بصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل، فلا داعي بأن نفرق بين من يقع وبين من لا يقع، نقول: إذا استدليت بفعله عليه الصلاة والسلام يلزمك الاستدلال به كاملاً، والذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئان: التقبيل مع التحفظ، والذي نتكلم فيه: التقبيل مع عدم التحفظ، فصورة القبلة منه صلى الله عليه وسلم فيها محافظة ولا إخلال فيها، والصورة التي ذكرها العلماء واستثنوها التي فيها الإخلال، فبقيت على الأصل الموجب للمنع، وهكذا لو أنه لم يأمن أن ينزل؛ لأن إنزاله يفضي به إلى الفطر، فاستوى أن لا يأمن الجماع وأن لا يأمن الإنزال، ففي هذه الأحوال يمنع منه.
وأما بالنسبة لما ورد في حديث أبي داود ، وتفريقه عليه الصلاة والسلام بين الشيخ وبين الشاب فهو حديث ضعيف؛ لكن متنه صحيح، وأصول الشريعة دالة على أن الذي لا يملك نفسه، وقصدنا الشاب الذي لا يملك نفسه فإنه لا يقبل، وأما بالنسبة للذي يملك نفسه ويقدر فإنه لا حرج عليه أن يقبل.
حرمة الكذب من الصائم وغيره
[ويجب اجتناب كذب وغيبة وشتم].
ويجب على الصائم أن يجتنب الكذب، في الحقيقة الكذب محرم على المسلم سواءً كان صائماً أو مفطراً، ولكن لماذا يقول المصنف رحمه الله: ويجب اجتناب كذب؟ وتوضيح ذلك أن الكذب محرم في أصل الشرع، ولكنه في رمضان أو في حال الصيام المفروض إذا كذب عليه وزران وإثمان: الإثم الأول: من جهة كونه كاذباً، والإثم الثاني: عدم رعايته لحرمة صيامه، ولذلك يضيف العلماء في باب الصيام تأكيداً، وإلا فالكذب محرم مطلقاً.
والكذب هو مخالفة الخبر للواقع، كأن يقول: محمد في الدار.
والواقع أنه ليس في الدار، الواقع: يعني الذي حدث وحصل أو الخارج عن الكلام الذي يوصف به ذلك؛ فلو قلت: ومحمد موجود في حال النفي أو غير موجود في حال الإثبات، فهذا كذب، أي يكون كاذباً إن كان عالماً بأنه ليس بموجود فأخبر بالوجود، والعكس.
فالكذب محرم مطلقاً، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة:119] وقال صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح-: ( عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر؛ وإن البر يهدي إلى الجنة ) وقوله: (يهدي إلى البر) يعني: يهدي لكل خير، فقل أن تجد إنساناً لسانه صدوق إلا وجدته أكثر الناس حرصاً على الطاعة، وقل أن تجد إنساناً كذوباً ويوفق للخير، فغالباً ما تجد الصادق في قوله الأمين في خبره موفقاً للخير؛ لأنه قد سد عن نفسه إثم لسانه، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصف كمال المسلم قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) فمن أذية المسلمين باللسان الكذب عليهم، فيكذب ويخبرهم بأمور ليس لها حقيقة، فهذا من الكذب، وأشد ما يكون الكذب إذا كان على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لتحليل الحرام أو تحريم الحلال، فهذا من أعظم الكذب نسأل الله السلامة والعافية! وهو من كبائر الذنوب التي توعد الله عليها باللعنة والغضب، نسأل الله السلامة والعافية.
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب حيث قال: ( وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور؛ وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) فالإنسان الذي لا يبالي بالكلام الذي يخرج منه، ويتكلم بما لا حقيقة له؛ فإن هذا الفعل منه اعتداء لحدود الله في اللسان، فيفجر بلسانه.
وقد ثبت في الحديث عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( ما أخوف ما تخاف علي؟ قال: هذا أي: لسانك ) فإذا كذب لسانه وتحرى الكذب -نسأل الله السلام والعافية- اعوجت جوارحه، وهذا يشهد له ما جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أن الأعضاء تكفر اللسان في صباح كل يوم، وتقول: ( يا هذا! اتق الله فينا، فإنما نحن بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا ) وهذا يدل على خطر الكذب، ولذلك قال: ( فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً )، والكذب حرام سواء كان في الصيام أو غيره، ولكنه في الصيام أشد، وهو كبيرة من كبائر الذنوب.
واختلف العلماء متى يكون الكذب كبيرة؟ فبعض العلماء يقول: الكذب كبيرة ولو بمرة واحدة، فمن كذب الكذبة الواحدة فإنه -نسأل الله السلامة والعافية- يعتبر فاسقاً مردود الشهادة مقدوح العدالة.
وقال بعض العلماء: لابد وأن يتكرر الكذب ثلاث مرات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) فالناس فيهم كاذب وفيهم كذاب وفيهم كذوب، فالكذاب والكذوب هو الذي يتكرر منه الكذب، وصيغة فعّال تدل على الكثرة من ذلك الشيء، فبعض العلماء يرى أنه لا يعتبر من كبائر الذنوب إلا بثلاث، ولكن الأقوى أنه يفرق في نوعية الكذب، فبعض الكذبات تعتبر كبيرة بمرة واحدة، وبعضها لا تعتبر كبيرة إلا بالتكرار، فالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بحديث واحد يعتبر كبيرة، حتى ولو روى حديثاً وهو يعلم أنه ضعيف ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسكت على ذلك وأقره، أو عبر بصيغة تدل على ثبوته، وهو يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله السلامة والعافية! قوله: (ويجب اجتناب كذب) قال بعض العلماء: من كذب وهو صائم فقد أفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) قالوا: فإذا كذب فقد انتقض صيامه، وهذا مذهب بعض الظاهرية وبعض أهل الحديث رحمة الله عليهم، وجماهير السلف على أن الكذب لا يوجب الفطر، ولكنه ينقص أجر الصائم ويخل بثوابه الكامل، وقد يمنع من قبول الله لصيامه -نسأل الله السلامة والعافية-؛ لأن الله يقول: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [المائدة:27] وقال تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة:119] فجعل الصدق من تقواه سبحانه وتعالى من باب عطف الخاص على العام.
وعلى هذا قالوا: إنه لا يأمن لو كذب مرة واحدة وهو صائم أن يرد الله صيامه عليه ولا يتقبله، وإذا لم يتقبل العمل فكأن الإنسان لم يعمله، نسأل الله السلامة والعافية!

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #210  
قديم 28-08-2022, 05:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصيام)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (205)

صـــــ(1) إلى صــ(28)





حرمة الغيبة للصائم وغيره
قوله: [وغيبة].
ويجب اجتناب الغيبة بالنسبة للصائم فلا يغتاب الناس، والغيبة حقيقتها أن تكون بالقول وتكون بالفعل.
وعلى ذلك فالغيبة لها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون باللسان.
والحالة الثانية: أن تكون بالجوارح والأركان.
فأما الغيبة باللسان: فهو أن يذكر أخاه بما يكره، فيقول مثلاً: فلان قصير، فلان سمين، فلان أعرج، فلان أعور، بشرط أن لا يكون من باب التمييز المحتاج إليه أو مما اشتهر به، فهذا يعتبر من الغيبة إذا ذكر نقصاً خَلقياً أو خُلقياً، والنقص الخلقي مثلما ذكرنا: فلان قصير، فلان كذا، بصفاته الخِلقية.
أما النقص الخلقي فينقسم إلى قسمين: منه ما يتصل بالشرع، ومنه ما يكون من أحوال الإنسان ولا يتصل بالشرع، فالنقص الخلقي المتصل بالشرع: كأن يقول: فلان فاسق، فلان فاجر، نسأل الله السلامة والعافية! فيتهمه بالفجور وبالفسق، حتى ولو كان فاسقاً أو فاجراً فهي غيبة، أما إذا لم يكن فاسقاً ولم يكن فاجراً فإنه يعتبر جامعاً بين السوءتين والعظيمتين: الغيبة والبهتان، نسأل الله السلامة والعافية! فهذا من أعظم ما يكون، كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام عندما قيل له: ( يا رسول الله! إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ) فهذا النقص المتعلق بالدين، أما النقص الخُلقي الذي لا يتصل بالدين: كأن يقول: فلان يستعجل في رأيه، فلان لا يشاور، فلان مستبد برأيه، فهذا عيب في الإنسان، لكنه لا يتصل بالدين ولا يعتبر قادحاً دينياً، فهذا يعتبر من الغيبة، لكنه ليس بعيب ديني، إنما هو عيب خُلقي، وهذا كله يندرج تحت الغيبة باللسان.
أما الغيبة بالجوارح والأركان فقد تكون باليد، كأن يشير عند قوله: فلان قصير، وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( والذي نفسي بيده -لما أشارت أم المؤمنين أنها قصيرة- لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لأنتنته ) أي: أن هذا الفعل منك تعيرين به هذه الأمة من إماء الله بالقصر، فيه أذية للمؤمنة، وأذية المؤمن عظيمة عند الله سبحانه وتعالى.
فقوله: (لو مزجت بماء البحر) أي: لو كانت شيئاً حسياً يظهر قذره للعيان، ووضع هذا القذر في البحر الذي يعرف بكثرة الماء ولا يتغير، قال: (لأنتنته) أي: لوجد نتنه وضرره.
فهذا يدل على خطر الغيبة، فهذه غيبة اليد.
ويندرج تحت الغيبة بالجوارح غيبة اللسان: مثل أن يأتي الشخص يحكي لهجة الشخص، أو يحكي أسلوبه في الكلام؛ كأن يحاكي كلام رجل أعجمي فيتكلم كلاماً أعجمياً، أو يكون في لسانه رتق أو لثق، فيأتي بالرتق واللثق على أساس أنه يحكي كلامه، فهذا كله من الغيبة وآخذ حكمها -نسأل الله السلامة والعافية!- وكما تقع الغيبة بالكلام تقع كذلك بالجوارح والأركان؛ فبعض الناس يظن أن الغيبة لا تقع إلا بالكلام، والواقع أنها أعم من هذا كله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإشارة غيبة، ومن هنا قال العلماء: إن الفعل آخذ حكم القول؛ لأن المراد أن تحفظ حرمة أخيك المسلم، ويستوي في ذلك أن يكون انتهاكها بالقول أو يكون انتهاكها بالفعل، بل إن انتهاكها بالفعل في بعض الأحيان أشد من انتهاكها بالقول.
والغيبة لا خير فيها، فلا يغتاب الناس إلا إنسان دنيء؛ لأن الإنسان الكامل في خلقه، والكامل في أدبه مع الناس يحفظ لسانه عن أذية المسلمين، ويصونه عن الوقيعة في أعراضهم، وعلى ذلك يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فكما أنه يكره أن يذكر عند الناس، كذلك يكره أن يذكر الناس بما لا يحبونه، فهذه الغيبة محرمة، وهي بالإجماع من كبائر الذنوب.
واختلفوا متى تكون كبيرة، قال بعض العلماء: تعد كبيرة بحسب الأشخاص الذين يذكرهم المغتاب، فغيبة العلماء سواءً كانت باللسان أو كانت بالجوارح والأركان، يقصد منها تجريح عالم أو انتقاصه، فقالوا: هذا يعتبر كبيرة، فذكر العالم بما يكره في غيبته يعتبر كبيرة ولو مرة واحدة، وذلك لعظيم حرمتهم عند الله عز وجل.
ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما قال المنافقون: ( ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله عز وجل { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [التوبة:65-66] ) قالوا: لأن المنافقين وقعوا في أعراض القراء واغتابوهم، وهم قراء لكتاب الله؛ ولأن الأذية لهم من جهة الشرع فكذلك العلماء والقضاة.
والناس يقعون في الغيبة وهم لا يشعرون، فتجد الواحد يقول: القضاة لا يعرفون، أو الدعاة لا يعرفون.
فإذا قال: القضاة فإنه قد اغتاب جميع من يقضي على وجه الأرض بشريعة الإسلام، ويعتبر متحملاً لوزرهم، نسأل الله السلامة والعافية! وهكذا إذا قال: العلماء لا يحسنون الفتوى، فإنه يعتبر متحملاً لوزر جميع العلماء إذا وصفهم بكونهم لا يفقهون، ولذلك الأمر خطير جداً! فإذا ذكرت جنساً معيناً وقلت: جنس كذا لا يفهمون، جنس كذا يسرقون، جنس كذا يفعلون، جنس كذا يتركون، جنس كذا طوال أو قصار، فهذه غيبة لتلك الأمة كلها؛ لأنه وصفهم جميعاً، وشهد عليهم بهذا، فالأمر خطير جداً والله تعالى يقول: { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [الزخرف:19].
فالإنسان يتكلم وهو لا يدري، ويظن أن الأمر سهل، ومن هنا أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله: ( والذي نفسي بيده! إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً، يهوي بها أبعد مما بين المشرق والمغرب في نار جهنم ) الكلمة الواحدة، فهذا أمر صعب، حتى قال بعض العلماء: إن العبد يبيت قائماً ويصبح صائماً وحسناته قد ذهبت بغيبة واحدة، كأن يغتاب أمة بكاملها والعياذ بالله! فالأمر جد خطير، وعلى طالب العلم والعلماء والدعاة أن ينصحوا الناس وأن يذكروهم، فهذا أمر حرمه الله عز وجل، إذا وقع فيه الصائم -قال بعض العلماء- فسد صيامه وأفطر ولزمه القضاء.
وهو قول ضعيف، والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور أنه يأثم، وصيامه صحيح.
وجوب اجتناب الشتم للصائم
قوله: [وشتم].
الشتم له حالتان: إما أن يكون شتماً يوجب النقص للمشتوم في دينه، كأن يشتمه شتيمة كفر -والعياذ بالله- فيصفه بالكفر، فهذا من أشد الشتم وهو الذي أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليه أنه إذا قال لأخيه المسلم: يا كافر! إن كان كما قال وإلا حارت عليه، يعني: رجعت إليه والعياذ بالله! فهذا أعظم الشتم، وهو الشتم بالعيب الديني الموجب لخروجه من الملة.
وبعده الشتم بالفسق، كأن يشتمه بعيب فيه فسق كشرب خمر أو زناً أو غير ذلك، فهذا من كبائر الذنوب، ومنه قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وهو الذي توعد الله عليه باللعنة والغضب والعذاب العظيم في الدنيا والآخرة نسأل الله السلامة والعافية! فهذا من أشد أنواع الشتم.
ويليه بعد ذلك: الشتم بالمحقرات، أو قد يكون الشتم غير مباشر، فيكون بالتشبيه، كأن يصفه بوصف يقصد به المنقصة، فهذا من الشتم؛ لأنه يتضمن الانتقاص والعيب.
هذا كله مما يحرم على الصائم، ولذلك كان بعض العلماء يكره ويتقي أن يعنف الطالب في رمضان أو وهو صائم؛ خوفاً أن يكون منقصاً لأجره وموجباً لذهاب كمال ثوابه، حتى كان بعضهم يتورع ويتقي أن يقول للطالب: أنت لم تفهم؛ لأنه عيب وانتقاص؛ ولأن أصل الشتم الانتقاص.
وعلى هذا ينبغي للصائم أن يتحفظ ولا يؤذي إخوانه المسلمين بالشتم واللعن والسب، وقد ثبت في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة ) اللعانون هم الذين يكثرون اللعن فهم لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، نسأل الله السلامة والعافية! فهؤلاء حرمهم الله من هاتين المرتبتين الكريمتين اللتين يحتاجهما الإنسان أكثر ما يكون لقرابته كأبنائه وبناته، فهو يريد أن يشفع لهم بخروجهم من النار أو بعذاب استحقوه، فلا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، والشهادة مرتبة شرف وكمال، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يتحفظ من اللعنة.
واللعنة إذا خرجت من الفم لا تعود، وإذا نطق بها اللسان إن كان الملعون كما ذكر أصابته، وأما إذا لم يكن كذلك رجعت في الذي قالها، نسأل الله السلامة والعافية!
ما يسن لمن شُتِم
قال رحمه الله: [وسن لمن شتم قوله: إني صائم].
أما الدليل على أنه لا يسب ولا يشتم: قوله عليه الصلاة والسلام: ( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ) والجهل: أن يسب الناس؛ لأنه فعل الجاهلية والجهل من الجاهلية، فمراده بأن لا يجهل: يعني بأن لا يقول قولاً فيه جهل، كالسب والشتم ونحو ذلك من الغيبة، ( ولا يجهل ولا يصخب -والصخب: رفع الصوت- فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم ) هذه هي السنة التي تدل على أنه ينبغي أن يتحفظ، فإذا استفزه الغير وحركه للانتقام ذكره بالصيام، ويقول: إني صائم.
أي: عندما يقول: إني صائم، فإنه يذكر أخاه المسلم أن يتقي الله فيه، وأن لا يجمع له بين ذنبين: بين كونه يسبه وينتقصه وبين أن يحركه لإفساد صومه، ويقول بذلك ويسمعه حتى يذكره أيضاً بتقوى الله عز وجل، خاصة إذا كان صائماً مثله.
إذا وقع السباب والمخاصمة بين اثنين فهناك سنن تتعلق بالذي شُتِمَ وسُبَّ، وسنن تتعلق بالذي يتكلم ويشتم، فالأصل أن الإنسان لا يشتم الناس كما ذكرنا، وإذا كان صائماً فإن الأمر في حقه أشد، فإن تعدى وشتم سن للذي يُشْتَمُ أن يقول: إني صائم، إني صائم.
وبعد أن بين لنا المصنف رحمه الله أنه يحرم على الإنسان أن يسب الغير ويشتمه في حال الصيام أو أن يصخب أو يجهل، شرع في بيان ما ينبغي على من خوطب بالجهل فَسُبَّ أو شُتِمَ أو انتُهِكَ عرضُه أن يقول بلسانه: إني صائم، إني صائم.
لقوله عليه الصلاة والسلام: ( فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم ) والصحيح: أنه يقول ذلك بلسانه ويسمعها للشخص، وقيل: يقول ذلك في نفسه، وهذا ضعيف؛ لأن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة حتى يدل الدليل على غيره، وقوله: (فليقل) القول: هو اللفظ، والكلام النفسي الذي بداخل الإنسان ليس بلفظ؛ لأنه لم يلفظه، وقد قال تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ } [ق:18] ووصف القول بأنه يلفظ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فليقل) معناه: فليلفظ هذا اللفظ فيقول: إني صائم، إني صائم.
فإذا قال في نفسه: إني صائم، فمعنى ذلك: أنه لم يلفظ وحينئذٍ لم يقل، فلا يعتبر مصيباً للسنة من هذا الوجه.
يسن تأخير السحور
قال رحمه الله: [وتأخير سحور].
وسن له أن يؤخر السحور، والسحور: فعول من السحر، والسحر آخر الليل قبل الفجر بساعة، تزيد أو تنقص على حسب طول الليل وقصره في الشتاء والصيف، والسحر: هو السدس الأخير من الليل، فتقسم الليل على ثلاثة أجزاء: ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ثم بعد ذلك تأخذ نصف الجزء الأخير وهو السدس، فهذا السدس هو السحر الذي انتهى إليه وتره عليه الصلاة والسلام كما قالت أم المؤمنين عائشة كما في الصحيحين: ( من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوله وأوسطه وانتهى وتره إلى السحر ) وهو أفضل الأوقات لذكر الله عز وجل كما قال تعالى: { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } [آل عمران:17].
وسمي السحور سحوراً لوقوعه في هذا الوقت، والعرب تسمي الشيء بزمانه، كما سميت صلاة الضحى؛ لأنها تقع في الضحى، وعيد الأضحى؛ لأن الأضحية تذبح في الضحى وهو أول النهار، فالمقصود: أن السحور سمي سحوراً بهذا، والسحور: فعل الأكل في وقت السحر، سواء كان قليلاً أو كثيراً، فمن أكل تمرة واحدة فقد تسحر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا فقال: ( ولو بتمرة ) فهو إذا أكل في السحور ولو تمرة واحدة فقد تسحر، والأفضل أن يؤخر الأكل إلى هذا الوقت؛ لأنه إذا أخر الأكل إلى هذا الوقت قويت نفسه على العبادات وعلى الطاعات؛ ولأنه يخالف شريعة من قبلنا من اليهود والنصارى؛ لأنهم كانوا لا يأكلون إذا استيقظوا من نومهم وإنما يمسكون، فكان في شريعتهم أنه إذا نام أحدهم حرم عليه الأكل إلى اليوم الثاني، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( فرق ما بيننا وبينهم طعمة السحر ) فهو يطعم ولو تمرة؛ حتى يخالف اليهود، وحينئذ تكون فضيلة وقربة لله عز وجل.
والأكل في وقت السحور مما يعين على أداء فريضة الفجر؛ لأن الإنسان إذا وقام وحافظ على السحور؛ فإنه أدعى لأن يحفظ صلاته وأن يتمكن من أدائها، لكنه إذا تسحر أول الليل ربما تساهل وقصر حتى يذهب وقت الفجر عليه، أو تفوته الجماعة فلا يصلي معها.
فالمقصود: أن الأفضل له أن يتسحر.
لكن لو أكل من الليل ثم نام واستيقظ في السحر ولم يأكل، وواصل فإنه لا إثم عليه؛ لأنه سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، ولا تؤدي إلى الإخلال، فهذه من السنن ومن الفضائل.
إذاً يؤخر السحور بحيث أنه بمجرد انتهائه من السحور يكون قد دخل وقت الفجر، وهذا من أفضل ما يكون، لكن ينبغي أن يكون ذلك مع حفظ وقت الفجر، أما إذا كان يتساهل ولا يضبط الوقت وعلى شبهة فيتحرى ويتحفظ؛ فالمقصود: أن تأخير السحور شرطه أن يضبط الوقت، أما إذا كان على وجه لا يأمن منه الإخلال فإنه يمنع منه؛ لأنه لا يعقل أن يطلب السنة على وجه يضيع به فريضة الله عز وجل، وهذا ركن من أركان الإسلام.
سنية تعجيل الفطر والمبادرة به
قال رحمه الله: [وتعجيل فطر].
ويسن أن يعجل الفطر من صيامه، فبمجرد مغيب الشمس يبادر بالفطر، وقال بعض العلماء: بذهاب الصفرة التي تكون بعد المغيب حتى يقبل الليل، قالوا: وهذا هو السر في قوله تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة:187] أي: مع إمساك جزء يسير من الليل، وعناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إذا أدبر النهار من هاهنا -وأشار إلى المغرب- وأقبل الليل من هاهنا -وأشار إلى المشرق- فقد أفطر الصائم ) ويبادر بالفطر ( وأحب العباد إلى الله أعجلهم فطراً )، كما ورد في الخبر عنه عليه الصلاة والسلام، فهذه من الفضائل؛ لما فيه من الأخذ برخصة الله عز وجل، وترك التنطع في الدين والتشدد؛ لأن التنطع لا خير فيه، والتنطع يهلك صاحبه كما قال عليه الصلاة والسلام: ( هلك المتنطعون ) ولا ينبغي للإنسان إذا وقت له الشرع شيئاً أن يجاوزه؛ فلما وقت له أن يبقى صائماً إلى مغيب الشمس، فينبغي له إذا غابت الشمس أن يأخذ برخصة الله عز وجل ويفطر.
سنية الفطر على رطب أو تمر أو ماء والحكمة من ذلك

قال رحمه الله: [على رطب، فإن عدم فتمر.
فإن عدم فماء] السنة أن يكون الفطر على رطب، والرطب أفضل من التمر، فإذا لم يجد الرطب فالتمر، فإذا لم يجد التمر حسا حسوات من ماء؛ لحديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه كان إذا أفطر أفطر على رطبات، فإن لم يكن أفطر على تمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء ) صلوات الله وسلامه عليه.
وكان بعض العلماء يذكر في الطب النبوي: أن للرطب خاصية طيبة للجسم، وأنه يقابل ما في جوف الإنسان من الشدة والحرارة، ويصلح بذلك البدن ويرتفق به، بخلاف الماء فإنه ينزل نزولاً سريعاً، ويفاجئ به أعضاء الإنسان في جوفه، فيستحبون أن يسبق بالرطب؛ لأن الرطب أقل انسياباً من التمر، والتمر أسرع انسياباً.
ثم في التمر فضائل من جهة كونه هضيماً، كما أخبر الله عز وجل: { وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } [الشعراء:148] فهذا الطلع إذا كان رطباً فهو أفضل وأكمل، فإذا اكتمل استواؤه صار تمراً، ومن المعلوم أن أول ما يكون من ثمرة النخل هو البسر، ويسمى: البلح، وهو الذي يكون عند الإزهاء من اصفرار أو احمرار، فتبقى البلحة على حالها ويضربها اللون، وهذه مرتبة الإزهاء، فبعد أن تزهي تبدأ تستوي قليلاً قليلاً، فيبدأ طرفها الأسفل بالاستواء والنضج، وبعض التمرات تبدأ بالترطيب من أعلاها، وبعضها تبدأ بالترطيب من أوسطها؛ حكمة من الله سبحانه وتعالى، وهذا من أبلغ الآيات التي ترد على الطبيعيين الذين يقولون: هذا من خيرات الطبيعة.
وما هذه الطبيعة التي ليست برازقة ولا خالقة؟! فلو كان للطبيعية دور في ذلك لكان الرطب إما أن يستوي من أسفله أو من أعلاه أو من أوسطه، فيتفق على حالة واحدة، فهذا الاختلاف في الألوان والأشكال والخلقة، والاختلاف في الصور، والاختلاف في الترطيب كما في الثمر، يدل على وحدانية الله عز وجل ووجوده؛ لأن هذا يدل على وجود من فرق بين هذه الأحوال، ولذلك جعل الله الاختلاف آية على وحدانيته سبحانه وتعالى.
فالمقصود: أن الرطوبة تبدأ من أسفلها، فلو كان في بداية الرطب يكون آخذاً حكم هذه الفضيلة، إذا لم يجد غيره، أما إذا كان بلحاً فلا يستحب؛ لأن البلح ييبس في الحلق، وله أثر يضر بالإنسان؛ لكنه إذا كان رطباً فإن لين الاستواء يقابل خشونة ما فيه من البلح فيعتدلا، ويكون نزوله إلى الأمعاء برفق، وهذا يذكره بعض العلماء في الطب النبوي، ثم يأتي بعده التمر؛ لأن التمر ينساب أكثر من الرطب، والشيء إذا جاء برفق للبدن صلح وانتفع به البدن.
يقولون: فإذا انساب برفق امتصته الأمعاء، ويكون هذا أكثر وأبلغ في الرفق بالبدن، فجاءت الشريعة بطب الأرواح وطب الأبدان، فكان هديه عليه الصلاة والسلام أن يبدأ بالرطب، ثم التمر، ثم الماء، وكرهوا أن يفطر على شيء فيه نار، وفيه حديث تكلم العلماء على سنده، والأطباء يؤكدون أنه لا يستقيم؛ لأن الجوف حار بسبب الصيام، فإذا شرب الحار لا يكون مما يحمد للبدن، وكان بعض الأطباء القدماء يذكرون هذا، وأشار إليه بعض الأئمة -رحمة الله عليه- في شرح حديث أنس رضي الله عنه، وبين السبب في كونه عليه الصلاة والسلام يفطر على هذا الوجه، فلا يستحبون الفطر بما فيه نار أو بالأشياء الحارة؛ لأنه لا يأمن منها الضرر لنفسه.
سنية الدعاء عند الإفطار والحكمة منه
قال رحمه الله: [وقول ما ورد].
(وقول ما ورد) أي: يسن أن يقول ما ورد: ( ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله ) وأما الحديث ( اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا ) فإنه ضعيف، وإنما يدعو الإنسان بما تيسر وليس في ذلك توقيف؛ ولكن الهدي على أنه إذا انتهى الإنسان من العبادة يرجى له القبول؛ وإذا انتهى من الصلاة قبل أن يسلم شرع له الدعاء، قال صلى الله عليه وسلم ( ثم ليتخير من المسألة ما شاء ) وجعل هذا الموضع موضع مظان الإجابة، كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن مواضع الإجابة: ( أي الدعاء أسمع؟ قال: أدبار الصلوات المكتوبات ) قيل: أدبار الصلوات المكتوبات، يعني: عند آخر الصلاة، فهذا من مواضع الإجابة، وبعد الصلاة الزكاة، ولذلك قال تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } [التوبة:103] فإذا أدى الزكاة دعا له النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكلما انتهى من الفريضة وقام بحق الله كأن الله سبحانه وتعالى يرحمه، ويكون ذلك عاجل المكافأة له في الدنيا.
وفي الصيام إذا انتهى من صيامه رجي له القبول، وفي الحج تجده إذا انتهى من موقفه بعرفة، وأصبح في يوم العيد الذي هو تمام عشية عرفة، يصلي صلاة الصبح ثم يقف عليه الصلاة والسلام بالمشعر ويدعو.
قال بعض السلف: شهدت هذا الموضع ستين عاماً أسأل الله أن لا يجعله آخر العهد به فيردني الله إليه، وإني لأستحيي أن أسأله، فرجع فمات من عامه.
وورد مثله عن الثوري رحمه الله.
المقصود: أنهم يقولون: إن انتهاء الإنسان من الطاعة والقربة مظنة الإجابة، ولذلك يقولون في الصيام: إذا انتهى من أداء صيامه يدعو وليس فيه توقيت، يعني: ليس هناك لفظ معين يحد به، وإنما يدعو بما تيسر.
استحباب القضاء متتابعاً وفائدته
قال رحمه الله: [ويستحب القضاء متتابعاً].
ويستحب أن يقضي رمضان متتابعاً، وهذا الاستحباب لما فيه من براءة ذمة الإنسان وأدائه لحق الله عز وجل؛ فإنه لا يأمن الموت، ووجه الاستحباب: أنه بادر بأداء حق الله عز وجل: ( وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) فكونه يترك التأخير ويبادر بالتقديم، هذا أفضل وأكمل؛ ولذلك قالوا: الاستحباب أن يكون القضاء متتابعاً، وذلك بأن يبدأ بعد انتهاء أيام العيد بقضاء رمضان في اليوم الأول، أما لو أفطر بعده في اليوم الثاني فقد تأخر عن إبراء ذمته، فكان خلاف الأفضل، والأفضل والأكمل أن يبادر، وأن يكون قضاؤه متتابعاً، ولكن ليس بلازم، فلو قضى رمضان متفرقاً أجزأه؛ لأن الله قال: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة:184] وبالإجماع على أن المراد بها أي أيام، ما دام أنها تصح للقضاء، فيستوي في ذلك أن تقع مرتبة أو تقع مع وجود الفاصل بالفطر.
لكن هنا مسألة، وهي: أن البعض ربما يؤخر قضاء رمضان إلى أوقات يكون القضاء فيها أخف، كأن يؤخر إلى أيام الشتاء حيث يطول ليلها ويقصر نهارها، ويكون تأذيه بضرر الصيام والعطش أقل وأخف.
قالوا: يفوته الأفضل والأكمل.
حكم من أخر قضاء رمضان إلى رمضان آخر من غير عذر

قال رحمه الله: [ولا يجوز إلى رمضان آخر من غير عذر، فإن فعل فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم].
ولا يجوز أن يؤخر قضاء رمضان إلى دخول رمضان آخر من غير أن يوجد له عذر، أما لو وجد له عذر فإنه يجوز له ذلك.
توضيح هذا: أن قضاء رمضان إذا أفطر الإنسان يوماً أو يومين أو أكثر لعذر فإنما نقول له: أنت بالخيار أن تقضي متى ما شئت، بشرط أن لا يدخل عليك رمضان الثاني وأنت لم تصم.
وما الدليل على ذلك؟ حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح قالت: ( إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ).
فكانت تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان، وهذا يدل على أن القضاء موسع، ولذلك يذكر العلماء هذه المسألة مثالاً على الواجب الموسع، ودل على هذا القرآن في قوله: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة:184] لكن إطلاق القرآن يقيد بما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما ذكرناه؛ وذلك بأن لا يدخل رمضان آخر.
فإذا دخل رمضان آخر ولم يصم نظرنا، نقول له: أنت بالخيار في صيامك إن شئت أن تصوم من الشهر الأول أو الثاني أو الثالث؛ لكن إذا دخل شعبان فحينئذٍ ننظر فيه، إن بقي من شعبان قدر الأيام التي عليك من رمضان الأول وجب عليك الصيام، فلو كانت عليه عشرة أيام فإنه يجب عليه أن يصوم من اليوم العشرين؛ لأن يوم الثلاثين يحتمل أن يكون من رمضان، ويحتمل أن يكون من شعبان، وحينئذٍ يصوم يوم عشرين والواحد والعشرين ثم ما بعده حتى يتم العدة.
وأما إذا كان عليه مثلاً خمسة أيام فنقول له حينئذٍ: صم من الرابع والعشرين، فيصوم اليوم الرابع والعشرين والخامس والعشرين والسادس والعشرين، حتى لا يصل إلى يوم الشك، لاحتمال أن يكون من رمضان؛ فإذا بقي على قدر الأيام التي عليه من شعبان تعين عليه الصوم، وهذا يمثل له العلماء فيقولون: الواجب الموسع يصير مضيقاً في آخره إذا بقي على قدر فعله.
كالصلاة إذا دخل وقتها فإن الإنسان إذا لم يكن ملزماً بالجماعة، كأن يكون في سفر أو نحوه، فله أن يؤخرها إلى آخر وقتها ولا حرج، فحينئذٍ إذا بقي على قدر فعلها تعينت عليه، وانتقل الواجب الموسع إلى الواجب المضيق.
فإذا بقي من شعبان على قدر الأيام التي عليه فلا يخلو من حالتين: إما أن يقول: لا أريد أ ن أصوم -نسأل الله السلامة والعافية- ويترك الصيام مع القدرة عليه؛ فهو آثم شرعاً، وسيأتي بيان الحكم.
وأما الحالة الثانية: وهي أن يكون معذوراً كالمرأة الحائض يصيبها الحيض، أو تصير نفساء في هذه الفترة؛ فإذا كان معذوراً فحينئذٍ ينتقل قضاؤه إلى ما بعد رمضان الثاني بدون أن نطالبه، ولا إثم عليه.
فمن سألك وقال: لم أستطع قضاء رمضان الأول حتى دخل رمضان الثاني، تقول: هناك تفصيل في مسألتك: إن كنت قد قصرت عند بقاء المدة التي عليك من رمضان الأول قبل رمضان الثاني فحينئذٍ أنت آثم شرعاً.
وهل عليه الكفارة أو لا؟ فيه قولان: الجمهور على أنه يكفر، فيطعم عن كل يوم ربع صاع، وإذا كان عليه أربعة أيام يطعم صاعاً كاملاً، فكل مسكين يعطيه ربع صاع.
وقال بعض العلماء: لا يجب عليه إلا القضاء والاستغفار.
وهذا أقوى؛ لأن الحديث الذي دل على الكفارة ضعيف؛ ولكن العمل عند جماهير العلماء على المطالبة بالكفارة، وإذا كفر فهو أفضل حتى يخرج من الخلاف.
حكم من مات وعليه صوم
قوله: [وإن مات وعليه صوم] إن مات المكلف وفي ذمته صوم واجب عليه، كصوم رمضان أو صوم نذر، فإنه يصوم عنه وليه؛ لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صوم صام عنه وليه ).
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الولي أن يحل محل مُوْليه إذا مات ذلك المولي ولم يصم، وهذا أصل عند جمع من العلماء رحمهم الله، إلا أن بعض أهل العلم فرّق بين صوم رمضان وصوم النذر، ورأوا أن الحديث خاص بصوم النذر.
ولكن الصحيح: أن الحكم عام في كل صيام مفروض؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن صوم النذر نبه به على سائر الصيام المفروض.
وثانياً: لأن القاعدة تقول: (إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) فكون السؤال ورد على النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام النذر لا يقتضي تخصيص الحكم به، إذ كانت العلة في النذر وغيره واحدة؛ والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في صيام النذر بالقضاء بعد الموت، وذلك لكون النذر ديناً كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ( أرأيتِ لو كان على أمك دين ) فدل هذا على أنه لا فرق بين صوم النذر وغيره، والمهم أن يكون الصوم واجباً على الميت، فيشمل صوم رمضان وصوم النذر.
ويستوي في هذا الولي أن يكون ذكراً أو أنثى، ويستوي في الميت أن يكون ذكراً أو أنثى، فالرجل يقضي عن المرأة والمرأة تقضي عن الرجل، فالابن الذكر يقضي عن والدته، وكذلك البنت الأنثى تقضي عن والدتها؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صوم صام عنه وليه ) والمراد بذلك: جنس الولي.
حكم من مات وعليه حج
قال رحمه الله: [أو حج].
أي: من مات وعليه حج، سواء كان حج فرض كأن يموت ولم يحج، ومن مات ولم يحج فعلى حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مستطيعاً الحج وفرّط في ذلك حتى مات، فحينئذٍ يجب أن يُخْرَج من ماله على قدر الحج عنه ويحج عنه.
والحالة الثانية: أن يموت ولم يجب عليه حج؛ وذلك لأنه لم يتمكن؛ بسبب عجز مالي، ويكون معذوراً حينئذ ولا يجب عليه الحج، ومن ثم قالوا: إنه لا يجب عليه أن يُحج عنه، وهكذا لو كانت امرأة فلا يجب أن يحج عنها بعد الموت، فيستوي الرجال والنساء، المقصود أنه لا يؤمر الولي بالحج عن مُوليه إلا إذا وجب الحج على ذلك المُولي.
وأما إذا كان الحج غير واجب عليه فلا يجب على ورثته؛ لأن القاعدة تقول: (إن البدل يأخذ حكم المبدل عنه) فالولي بدل عن الأصيل الذي هو الميت، فإذا لم يجب الحج على الميت، فمن باب أولى أن لا يجب قضاؤه على ورثته، وعلى هذا فإنه إذا وجب الحج على ميت ولم يحج وفرّط حَجّ عنه وليه.
وهكذا إذا كان الحج واجباً بالنذر، كأن يكون حَجّ حجة الإسلام ثم قال: لله عليَّ أن أحج وَأَطْلَقَ ثم مات فيبقى النذر في ذمته على القول ببقائه بعد الموت، وإن كان بعض العلماء يسقطه؛ لأنه قد صار في عداد ما لا يملكه، ويسقط عنه كما يسقط النذر إذا لم يكن في ملك الإنسان.
ففي هذه الحالة إذا لزمه الحج يُحج عنه إذا قصر وفرَّط فيه، ويؤخذ من ماله على قدر ما يحج به الغير عنه.
وللعلماء تفصيل في مسألة المفرّط في الحج: فإذا كان الذي فرط في الحج وهو الميت قد وجب عليه الحج من ميقات بعيد، فإن وليه ومن يريد أن يحج عنه ينبغي عليه أن يحرم بالحج من هذا الميقات البعيد، فمثاله: لو أنه فرط في الحج وهو من أهل المدينة وقصر في ذلك، ومات ولم يحج، فإن وليه إذا أراد أن يحج عنه وكان من أهل الطائف، أو من أهل الرياض مثلاً، فإن ميقات أهل الطائف والرياض أقرب من ميقات المدينة، فحينئذٍ يلزمه أن يحرم من ميقات المدينة؛ لأن الحج وجب على الأصل من المدينة من ميقات الأبعد، فلا يحج من هو مُبْدَل عنه مما هو دون الميقات الأبعد الواجب.
حكم من مات وعليه اعتكاف
قوله: [أو اعتكاف].
أو كان عليه اعتكاف، كأن نذر أن يعتكف، قالوا: استحب لوليه أن يعتكف عنه، وهذا مبني على العبادات البدنية التي يدخلها التناوب، وأما إذا كانت العبادة بدنية لا تمكن فيها النيابة، فلا ينزل الولي منزلة الميت، كأن يموت وعليه صلاة؛ فإنه بالإجماع لا يقضي الولي الصلاة عن الميت؛ لأنها عبادة بدنية محضة.
ورخص في الصوم لورود النص، وقيس الاعتكاف على الصوم ونزل منزلته، وإلا فالأصل أن العبادات البدنية لا ينزل فيها الولي منزلة الميت؛ وإنما جاز ذلك في العبادات البدنية المُشْتَرِكة مع المال، كالحج والصوم لورود النص باستثنائه، وبقي ما عدا ذلك على الأصل الموجب لعدم دخول النيابة فيه.
حكم من مات وعليه صلاة نذر
قوله: [أو صلاة نذر].
أو كان عليه صلاة نذر، فللعلماء وجهان في الصلاة عنه: أصحهما أن الصلاة لا تقضى عن الميت، وبعض أهل العلم يفرق بين الصلاة المفروضة في الأصل وبين الصلاة التي فرضها المكلف على نفسه، ووجه ذلك: أنهم يسلِّمون بأن الأصل في العبادات البدنية أنه لا تدخلها النيابة.
فلا يصلي حي عن ميت، ولا يصلي حي عن حي، لكن ورد الحديث أن المرأة لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن وليّها الذي مات وعليه صوم نذر، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصوم عنه، قالوا: فهذا يدل على أن العبادة البدنية المحضة وهي الصوم تدخلها النيابة إذا كانت نذراً؛ لأن السؤال وقع من المرأة عن النذر، فأبقوا الفريضة على الأصل، ثم قالوا: إن النذر ينزل فيه الولي منزلة مُوليه إذا توفي ولم يفعله.
وبناءً على ذلك ألحقوا الصلاة المنذورة، فإذا نذر أن يصلي مائة ركعة أو يصلي عشرين ركعة ونحو ذلك، وتوفي ولم يقم بهذه الصلاة، يقوم وليه بالصلاة عنه، والأول أشبه وأقوى أنه لا تدخل النيابة في مثل هذا.
استحباب الصوم عن الميت من وليه

قوله: [استحب لوليه قضاؤه].
استحب لوليه أن ينزل منزلة الميت فيقوم بقضاء ما على الميت، وفي بعض الأحيان لابد من الإفراد في الولي، وفي بعض الأحيان يمكن للأولياء أن يقتسموا ما على ميتهم، فلو كان على ميتهم صوم مائة يوم وهذا الصوم نذره مفرقاً، فإنه في هذه الحالة يمكن أن تفرق المائة على الأولياء، ويصوم هذا عشرة أيام وهذا عشرة أيام حتى يتم العدد.
وأما إذا كان الصوم لا يدخله الاشتراك كأن ينذر صيام شهر بعينه، فإنه في هذه الحالة لا يمكن أن يتأتى القيام بهذا النذر إلا من واحد من الأولياء، فحينئذ ينتدب أحدهم ويصوم عن ميته.
الأسئلة
حكم بلع ما علق بين الأسنان بعد طلوع الفجر


السؤال
ما كان عالقاً بين الأسنان من أثر السحور فابتلعه الصائم هل يفطر أم لا أثابكم الله؟


الجواب
ما كان من فضلات الطعام بين الأسنان مما لا يشق التحرز عنه؛ فإنه إذا خلله وأخرجه -كبقايا اللحم أو بقايا الخبز- وقام وبلعها أو وجد طعمها في حلقه بعد طلوع الفجر الصادق عامداً لذلك؛ فإنه يفطر قولاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم.
وعلى هذا: فإنه يخرج هذه الفضلات ويتفلها، أو يستاك ثم يبصق ما استاكه وما بقي من وضر ذلك الطعام، والله تعالى أعلم.
حكم استخدام معجون الأسنان للصائم

السؤال
هل نستطيع أن نقيس معجون الأسنان على العلك بحيث نحكم بفطره إذا وجد طعمه في حلقه أثابكم الله؟


الجواب
نعم، بالنسبة لمعجون الأسنان إذا وجد طعمه في حلقه أفطر، أما لو استاك بالمعجون ثم تمضمض ونظف فمه حتى ذهبت مادة المعجون فحينئذٍ لا يؤثر؛ لأن الفم من الخارج كما ذكرنا، كما لو استاك بمسواك؛ فإن هذا لا يضر، لكن لو تحلل المعجون ووجد طعمه في حلقه فإنه يعتبر مفطراً، والله تعالى أعلم.
وجوب القضاء على المكرهة دون الكفارة

السؤال
أشكل عليَّ أن المكرهة لا كفارة عليها، وعليها القضاء علماً بأن الطارئ واحد وهو الإكراه، فلم لم نرفع الكل أثابكم الله؟


الجواب
بالنسبة للإكراه يسقط عنها ولا كفارة، والسبب في ذلك أن الكفارة بمثابة العقوبة على الجرأة، فإذا كانت مكرهة لم يوجد فيها الجرأة التي من أجلها وجدت الكفارة، أي أننا أسقطنا عن المرأة المكرهة على الجماع الكفارة لكونها لم تتعد حدود الله عز وجل، وحصل منها هذا الشيء وهي كارهة، فحينئذ لا وجه لأن تطالبها بالكفارة حتى تجبر ما في نفسها من الجرأة على حدود الله.
لكن في القضاء من باب خطاب الوضع، فحينئذ تطالب بضمان حق الله؛ لأنه من باب حكم الوضع لا من باب حكم التكليف، والله تعالى أعلم.
حكم ماء المضمضة المتبقي في الفم بالنسبة للصائم

السؤال
بعد الوضوء أحسست في فمي ماء المضمضة، ما حكم بلعه أثابكم الله؟


الجواب
بالنسبة لماء المضمضة إذا كان موجوداً في الفم، أو بقايا المضمضة موجودة في الفم فيجب إلقاؤها، فإن بلعها فإنه يكون في حكم الشارب.
أما إذا كانت بقايا المضمضة، وهي التي تكون مع اللعاب فهذا مما العلماء اغتفره؛ لأنه يشق التحرز عنه، فلو أبقى بعض الماء من المضمضة ثم ازدرده، فإنه يفطر قولاً واحداً عند العلماء، أما لو بقيت بقايا الماء مما هو مع اللعاب ومصاحب للعاب فإن هذا لا يضر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 375.45 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 369.35 كيلو بايت... تم توفير 6.10 كيلو بايت...بمعدل (1.62%)]