فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 17 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حق الجار والضيف وفضل الصمت.محاضرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          حبل الله قبل كلّ سبب وفوقه .! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          اضربوا لي معكم بسهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          ونَزَعْنا ما في صدورهم من غِلٍّ إخواناً على سُرُر متقابلين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          أنت وصديقاتك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          التشجيع القوة الدافعة إلى الإمام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          شجاعة السلطان عبد الحميد الثاني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          نظرات في مشكلات الشباب ومحاولة الحل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          دولة الموحدين - ملوك دولة الموحدين عبد المؤمن وابنه يوسف وحفيده يعقوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          عقد مودة ورحمة بين زوجين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #161  
قديم 07-08-2022, 10:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الرابع
الحلقة 161)

من صــ 465 الى صـ 472



وقال: ثنا حجاج عن ابن جريج حديثا عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} في أبي عامر بن النعمان ووحوح بن الأسلت والحارث بن سويد بن الصامت في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهليهم: هل لنا من توبة؟ فنزلت: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} في الحارث بن سويد بن الصامت.
وقال: ثنا عبد الرزاق نا جعفر عن حميد عن مجاهد قال: "جاء الحارث ابن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه القرآن: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث: والله إنك ما علمت لصادق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك وإن الله لأصدق الثلاثة قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه".
وكذلك ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في الحارث بن سويد وجماعة معه ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة كهيئة البدء ولحقوا بمكة كفارا فأنزل الله فيهم هذه الآية فندم الحارث وأرسل إلى قومه: أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لي توبة؟ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث: إنك والله ما علمت لصدوق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك وإن الله عز وجل لأصدق الثلاثة فرجع الحارث إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه.
فهذا رجل قد ارتد ولم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم بعد عوده إلى الإسلام ولأن الله تعالى قال في إخباره عن المنافقين: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} فدل على أن الكافر بعد إيمانه قد يعفى عنه وقد يعذب وإنما يعفى عنه إذا تاب فعلم أن توبته مقبولة.

وذكر أهل التفسير أنهم كانوا جماعة وأن الذي تاب منهم رجل واحد يقال له مخشي بن حمير وقال بعضهم: كان قد أنكر عليهم بعض ما سمع ولم يمالئهم عليه وجعل يسير مجانبا لهم فلما نزلت هذه الآيات برئ من نفاقه وقال: "اللهم إني لا أزال أسمع آية تقر عيني تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك" وذكروا القصة.

وفي الاستدلال بهذا نظر ولأنه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} إلى قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}.
وذلك دليل على قبول توبة من كفر بعد إسلامه وأنهم لا يعذبون في الدنيا ولا في الآخرة عذابا أليما: بمفهوم الشرط ومن جهة التعليل ولسياق الكلام والقتل عذاب أليم فعلم أن من تاب منهم لم يعذب بالقتل لأن الله سبحانه قال: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فبين أن الذين هاجروا إلى دار الإسلام بعد أن فتنوا عن دينهم بالكفر بعد الإسلام وجاهدوا وصبروا فإن الله يغفر لهم ويرحمهم ومن غفر له ذنبه مطلقا لم يعاقبه عليه في الدنيا ولا في الآخرة.
وقال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة: خرج ناس من المسلمين يعني المهاجرين فأدركهم المشركون ففتنوهم فأعطوهم الفتنة فنزلت فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه} الآية ونزل فيهم: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِه} الآية ثم إنهم خرجوا مرة أخرى فانقلبوا حتى أتوا المدينة فأنزل الله فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} إلى آخر الآية ولأنه سبحانه قال: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة} فعلم أن من لم يمت وهو كافر من المرتدين لا يكون خالدا في النار وذلك دليل على قبول التوبة وصحة الإسلام فلا يكون تاركا لدينه فلا يقتل ولعموم قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فإن هذا الخطاب عام في قتال كل مشرك وتخلية سبيله إذا تاب من شركه وأقام الصلاة وآتى الزكاة سواء كان مشركا أصليا أو مشركا مرتدا.
وأيضا فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولحق بمكة وافترى على الله ورسوله ثم إنه بعد ذلك بايعه النبي صلى الله عليه وسلم وحقن دمه وكذلك الحارث بن سويد وكذلك جماعة من أهل مكة أسلموا ثم ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام فحقنت دماؤهم وقصص هؤلاء وغيرهم مشهورة عند أهل العلم بالحديث والسيرة.
وأيضا فالإجماع من الصحابة رضي الله عنهم على ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفى ارتد أكثر العرب إلا أهل مكة والمدينة والطائف واتبع قوم منهم من تنبأ فيهم مثل مسيلمة والعنسي وطليحة الأسدي فقاتلهم الصديق وسائر الصحابة رضي الله عنهم حتى رجع أكثرهم إلى الإسلام فأقروهم على ذلك ولم يقتلوا واحدا ممن رجع إلى الإسلام ومن رؤوس من كان قد ارتد ورجع طليحة الأسدي المتنبي والأشعث بن قيس وخلق كثير لا يحصون والعلم بذلك ظاهر لا خفاء به على أحد وهذه الرواية عن الحسن فيها نظر فإن مثل هذا لا يخفى عليه ولعله أراد نوعا من الردة كظهور الزندقة ونحوها أو قال ذلك في المرتد الذي ولد مسلما ونحو ذلك مما قد شاع فيه الخلاف.
(وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} الْمُرَادُ بِهِ أَمْنُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ الْكُفْرِ عِنْدَ عَرْضِ الْأَدْيَانِ؟ أَمْ الْمُرَادُ بِهِ إذَا أَحْدَثَ حَدَثًا لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ مَا دَامَ فِي الْحَرَمِ؟.

فَأَجَابَ:
التَّفْسِيرُ الْمَعْرُوفُ فِي أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَرَمَ بَلَدًا آمِنًا قَدْرًا وَشَرْعًا فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْفِكُ بَعْضُهُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ خَارِجَ الْحَرَمِ فَإِذَا دَخَلُوا الْحَرَمَ أَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ لَمْ يَهْجُرُوا حُرْمَتَهُ فَفِي الْإِسْلَامِ كَذَلِكَ وَأَشَدُّ. لَكِنْ لَوْ أَصَابَ الرَّجُلُ حَدًّا خَارِجَ الْحَرَمِ ثُمَّ لَجَأَ إلَيْهِ فَهَلْ يَكُونُ آمِنًا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِيهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ نِزَاعٌ. وَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ آمِنًا كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدِ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا}.
فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُولُوا: إنَّمَا أَحَلَّهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلَّهَا لَك. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ فِيهَا دَمُ مَنْ كَانَ مُبَاحًا فِي الْحِلِّ وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ أُبِيحَ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {وَمَنْ دَخَلَهُ} الْحَرَمُ كُلُّهُ. وَأَمَّا عَرْضُ الْأَدْيَانِ وَقْتَ الْمَوْتِ فَيُبْتَلَى بِهِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ {مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا} وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فصل)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

وأما قوله تعالى {ومن دخله كان آمنا} فهذا من باب البيت. كما قال تعالى: {أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم} وقال تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت} {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} وقال تعالى: {أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء} فكانوا في الجاهلية يقتل بعضهم بعضا خارج الحرم فإذا دخلوا الحرم أو لقي الرجل قاتل أبيه لم يهجه وكان هذا من الآيات التي جعلها الله فيه كما قال: {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا} والإسلام زاد حرمته. فمذهب أكثر الفقهاء أن من أصاب حدا خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه كما قال ابن عمر وابن عباس.
وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما؛ لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرا وأنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس}.

ومن ظن أن من دخل الحرم كان آمنا من عذاب الآخرة مع ترك الفرائض من الصلاة وغيرها ومع ارتكاب المحارم فقد خالف إجماع المسلمين فقد دخل البيت من الكفار والمنافقين والفاسقين من هو من أهل النار بإجماع المسلمين. والله أعلم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #162  
قديم 07-08-2022, 10:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الرابع
الحلقة 162)

من صــ 473 الى صـ 480





وسئل:
عن التربة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم هل هي أفضل من المسجد الحرام؟.
فأجاب:

وأما " التربة " التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعلم أحدا من الناس قال إنها أفضل من المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى؛ إلا القاضي عياض. فذكر ذلك إجماعا وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه. ولا حجة عليه بل بدن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المساجد.
وأما ما فيه خلق أو ما فيه دفن فلا يلزم إذا كان هو أفضل أن يكون ما منه خلق أفضل. فإن أحدا لا يقول إن بدن عبد الله أبيه أفضل من أبدان الأنبياء فإن الله يخرج الحي من الميت والميت من الحي. ونوح نبي كريم وابنه المغرق كافر وإبراهيم خليل الرحمن وأبوه آزر كافر. والنصوص الدالة على تفضيل المساجد مطلقة لم يستثن منها قبور الأنبياء ولا قبور الصالحين. ولو كان ما ذكره حقا لكان مدفن كل نبي بل وكل صالح أفضل من المساجد التي هي بيوت الله فيكون بيوت المخلوقين أفضل من بيوت الخالق التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وهذا قول مبتدع في الدين مخالف لأصول الإسلام.
وسئل أيضا:
عن رجلين تجادلا فقال أحدهما: إن تربة محمد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من السموات والأرض وقال الآخر: الكعبة أفضل. فمع من الصواب؟
فأجاب:
الحمد لله، أما نفس محمد صلى الله عليه وسلم فما خلق الله خلقا أكرم عليه منه.
وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام بل الكعبة أفضل منه ولا يعرف أحد من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض ولم يسبقه أحد إليه ولا وافقه أحد عليه. والله أعلم.
[مسألة تفسير الاستطاعة في الحج]
مسألة: إذا استطاع إليه سبيلا وهو أن يجد زادا وراحلة بآلتها مما يصلح لمثله فاضلا عما يحتاج إليه لقضاء ديونه ومؤنة نفسه وعياله على الدوام.
في هذا الكلام فصول: -
(أحدها):

أن الحج إنما يجب على من استطاع إليه سبيلا بنص القرآن والسنة المستفيضة، وإجماع المسلمين ومعنى قوله: {من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] واستطاعة السبيل عند أبي عبد الله وأصحابه: ملك الزاد والراحلة فمناط الوجوب: وجود المال ; فمن وجد المال وجب عليه الحج بنفسه أو بنائبه، ومن لم يجد المال: لم يجب عليه الحج، وإن كان قادرا ببدنه قال: في رواية صالح - إذا وجد الرجل الزاد والراحلة وجب الحج.
وسئل - أيضا - في رواية أبي داود: على من يجب الحج؟ فقال: إذا وجد زادا وراحلة وقال - في رواية حنبل -: وليس على الرجل الحج إلا أن يجد الزاد والراحلة.
فإن حج راجلا تجزيه من حجة الإسلام، ويكون قد تطوع بنفسه وذلك لما روى إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: "الزاد والراحلة " قال: يا رسول الله: فما الحاج؟ قال: "الشعث التفل " وقام آخر فقال: يا رسول الله: ما الحج؟ قال: "العج والثج " قال وكيع: يعني بالعج: العجيج بالتلبية، والثج: نحر البدن».
رواه ابن ماجه، والترمذي وقال حديث حسن، وإبراهيم بن يزيد قد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه.
وعن ابن جريج قال: وأخبرنيه أن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «الزاد والراحلة» " يعني قوله: {من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97]
وعن ابن عباس قال: «من ملك ثلاثمائة درهم وجب عليه الحج، وحرم عليه نكاح الإماء» رواه أحمد وأيضا قوله: «من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا».
فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة وموقوفة تدل على أن مناط الوجوب: وجود الزاد والراحلة مع علم النبي - صلى الله عليه وسلم- بأن كثيرا من الناس يقدرون على المشي.
وأيضا فإن قول الله - سبحانه - في الحج: {من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] إما أن يعني به القدرة المعتبرة في جميع العبادات وهو مطلق المكنة، أو قدرا زائدا على ذلك. فإن كان المعتبر هو الأول، لم يحتج إلى هذا التقييد، كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة، فعلم أن المعتبر قدر زائد على ذلك، وليس هو إلا المال.

وأيضا فإن الحج عبادة تفتقر إلى مسافة، فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة كالجهاد.
ودليل الأصل قوله - تعالى -: {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} [التوبة: 91] إلى قوله - تعالى -: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} [التوبة: 92] الآية. وأيضا فإن المشي في المسافة البعيدة مظنة المشقة العظيمة.

(فصل في أن لفظ القدرة يتناول نوعين)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
لفظ القدرة يتناول نوعين:
أحدهما القدرة الشرعية المصححة للفعل التي هي مناط الأمر والنهي. (والثاني القدرة القدرية الموجبة للفعل التي هي مقارنة للمقدور لا يتأخر عنها. فالأولى هي المذكورة في قوله تعالى {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} فإن هذه الاستطاعة لو كانت هي المقارنة للفعل لم يجب حج البيت إلا على من حج فلا يكون من لم يحجج عاصيا بترك الحج سواء كان له زاد وراحلة وهو قادر على الحج أو لم يكن. وكذلك {قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب} وكذا قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} وقوله صلى الله عليه وسلم {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم} لو أراد استطاعة لا تكون إلا مع الفعل لكان قد قال فافعلوا منه ما تفعلون فلا يكون من لم يفعل شيئا عاصيا له وهذه الاستطاعة المذكورة في كتب الفقه ولسان العموم.
والناس متنازعون في مسمى الاستطاعة والقدرة فمنهم من لا يثبت استطاعة إلا هذه ويقولون الاستطاعة لا بد أن تكون قبل الفعل ومنهم من لا يثبت استطاعة إلا ما قارن الفعل وتجد كثيرا من الفقهاء يتناقضون؛ فإذا خاضوا مع من يقول من المتكلمين - المثبتين للقدر - أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل وافقوهم على ذلك وإذا خاضوا في الفقه أثبتوا الاستطاعة المتقدمة التي هي مناط الأمر والنهي. وعلى هذا تتفرع " مسألة تكليف ما لا يطاق " فإن الطاقة هي الاستطاعة وهي لفظ مجمل. فالاستطاعة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي لم يكلف الله أحدا شيئا بدونها فلا يكلف ما لا يطاق بهذا التفسير وأما الطاقة التي لا تكون إلا مقارنة للفعل فجميع الأمر والنهي تكليف ما لا يطاق بهذا الاعتبار فإن هذه ليست مشروطة في شيء من الأمر والنهي باتفاق المسلمين.
سئل:
عن عرض الأديان عند الموت: هل لذلك أصل في الكتاب والسنة أم لا؟ وقوله صلى الله عليه وسلم {إنكم لتفتنون في قبوركم} ما المراد بالفتنة؟ وإذا ارتد العبد - والعياذ بالله - هل يجازى بأعماله الصالحة قبل الردة أم لا؟ أفتونا مأجورين
فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، أما عرض الأديان على العبد وقت الموت فليس هو أمرا عاما لكل أحد ولا هو أيضا منتفيا عن كل أحد بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته؛ ومنهم من لا تعرض عليه وقد وقع ذلك لأقوام. وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا: منها: ما في الحديث الصحيح {أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ في صلاتنا من أربع: من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال}. ولكن وقت الموت أحرص ما يكون الشيطان على إغواء بني آدم؛ لأنه وقت الحاجة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {الأعمال بخواتيمها} وقال صلى الله عليه وسلم {إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها}. ولهذا روي: {أن الشيطان أشد ما يكون على ابن آدم حين الموت يقول لأعوانه: دونكم هذا فإنه إن فاتكم لن تظفروا به أبدا}.

وحكاية عبد الله بن أحمد بن حنبل مع أبيه وهو يقول: لا بعد. لا بعد: مشهورة. ولهذا يقال: إن من لم يحج يخاف عليه من ذلك لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من ملك زادا أو راحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام ولم يحج: فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا}. قال الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} قال عكرمة لما نزلت هذه الآية: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} قالت اليهود والنصارى نحن مسلمون. فقال الله لهم: {ولله على الناس حج البيت} فقالوا لا نحجه فقال الله تعالى {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #163  
قديم 07-08-2022, 10:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الرابع
الحلقة( 163)

من صــ 481 الى صـ 490





وأما الفتنة في القبور فهي الامتحان والاختبار للميت حين يسأله الملكان فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم " محمد "؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فيقول المؤمن: الله ربي والإسلام ديني ومحمد نبيي. ويقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه. فينتهرانه انتهارة شديدة - وهي آخر فتنه التي يفتن بها المؤمن - فيقولان له: كما قالا أولا. وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب وأنس بن مالك وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم وهي عامة للمكلفين؛ إلا النبيين فقد اختلف فيهم. وكذلك اختلف في غير المكلفين كالصبيان والمجانين. فقيل: لا يفتنون لأن المحنة إنما تكون للمكلفين وهذا قول القاضي وابن عقيل. وعلى هذا فلا يلقنون بعد الموت.
وقيل يلقنون ويفتنون أيضا وهذا قول أبي حكيم وأبي الحسن بن عبدوس ونقله عن أصحابه وهو مطابق لقول من يقول: إنهم يكلفون يوم القيامة كما هو قول أكثر أهل العلم وأهل السنة من أهل الحديث والكلام. وهو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه عن أهل السنة واختاره وهو مقتضى نصوص الإمام أحمد.

وأما " الردة عن الإسلام " بأن يصير الرجل كافرا مشركا أو كتابيا فإنه إذا مات على ذلك حبط عمله باتفاق العلماء كما نطق بذلك القرآن في غير موضع. كقوله: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} وقوله: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} وقوله: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} وقوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك}. ولكن تنازعوا فيما: إذا ارتد؛ ثم عاد إلى الإسلام. هل تحبط الأعمال التي عملها قبل الردة أم لا تحبط إلا إذا مات مرتدا؟ على قولين مشهورين؛ هما قولان في مذهب الإمام أحمد والحبوط: مذهب أبي حنيفة ومالك. والوقوف: مذهب الشافعي. وتنازع الناس أيضا في " المرتد ". هل يقال كان له إيمان صحيح يحبط بالردة؟ أم يقال بل بالردة تبينا أن إيمانه كان فاسدا؟ وأن الإيمان الصحيح لا يزول ألبتة؟ على قولين لطوائف الناس وعلى ذلك يبنى قول المستثنى: أنا مؤمن - إن شاء الله - هل يعود الاستثناء إلى كمال الإيمان؟ أو يعود إلى الموافاة في المآل والله أعلم.
(ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102)
وفي الآية الأخرى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [سورة التغابن: 16] وهذه مفسرة لتلك.
ومن قال من السلف هي ناسخة لها، فمعناه أنها رافعة لما يظن من أن المراد من حق تقاته: ما يعجز البشر عنه ; فإن الله لم يأمر بهذا قط. ومن قال إن الله أمر به، فقد غلط. ولفظ النسخ في عرف السلف يدخل فيه كل ما فيه نوع رفع لحكم، أو ظاهر، أو ظن دلالة حتى يسموا تخصيص العام نسخا، ومنهم من يسمي الاستثناء نسخا إذا تأخر نزوله.
(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ... (103)
فلما نهاهم عن التفرق مطلقا دل ذلك على أنهم لا يجتمعون على باطل؛ إذ لو اجتمعوا على باطل لوجب اتباع الحق المتضمن لتفرقهم وبين أنه ألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا كما قال: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} فإذا كانت قلوبهم متألفة غير مختلفة على أمر من الأمور كان ذلك من تمام نعمة الله عليهم؛ ومما من به عليهم فلم يكن ذلك اجتماعا على باطل؛ لأن الله تعالى أعلم بجميع الأمور.
(قاعدة: في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية والرأي)

وقال شيخ الإسلام:
" قاعدة " في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية والرأي: مثل الأذان والجهر بالبسملة والقنوت في الفجر والتسليم في الصلاة ورفع الأيدي فيها ووضع الأكف فوق الأكف. ومثل التمتع والإفراد والقران في الحج ونحو ذلك. فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة والشعائر أوجب أنواعا من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله وعباده المؤمنون:

" أحدها " جهل كثير من الناس أو أكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذي يحبه الله ورسوله والذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته والذي أمرهم باتباعه.
" الثاني " ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض وبغيهم عليهم: تارة بنهيهم عما لم ينه الله عنه وبغضهم على ما لم يبغضهم الله عليه. وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم وصلتهم لعدم موافقتهم له على الوجه الذي يؤثرونه حتى يقدمون في الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات من يكون مؤخرا عند الله ورسوله ويتركون من يكون مقدما عند الله ورسوله لذلك.
" الثالث " اتباع الظن وما تهوى الأنفس حتى يصير كثير منهم مدينا باتباع الأهواء في هذه الأمور المشروعة. وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة من الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة: كالخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم. وقد قال تعالى في كتابه: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} وقال في كتابه: {ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل}.

" الرابع " التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضا ويعاديه ويحب بعضا ويواليه على غير ذات الله وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز. وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله.

والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} - إلى قوله - {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة. وكثير من هؤلاء يصير من أهل البدعة بخروجه من السنة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ومن أهل الفرقة بالفرقة المخالفة للجماعة التي أمر الله بها ورسوله قال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} وقال تعالى: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات} وقال تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} وقال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} وقال تعالى: {وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} وقال تعالى: {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة} وقال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} وقال: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} وقال: {إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}.
وهذا الأصل العظيم: وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه. ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة مثل قوله: {عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة} وقوله: {فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد} وقوله: {من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه} وقوله: {ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: صلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين}. وقوله: {من جاءكم وأمركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان} وقوله: {يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطئوا فلكم وعليهم} وقوله: {ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة منها واحدة ناجية واثنتان وسبعون في النار - قيل: ومن الفرقة الناجية؟ قال - هي الجماعة يد الله على الجماعة}.
وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة. بل وفي غيرها: هو التفرق والاختلاف فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك ما الله به عليم. وإن كان بعض ذلك مغفورا لصاحبه لاجتهاده الذي يغفر فيه خطؤه أو لحسناته الماحية أو توبته أو لغير ذلك؛ لكن يعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام ولهذا كان امتياز أهل النجاة عن أهل العذاب من هذه الأمة بالسنة والجماعة ويذكرون في كثير من السنن والآثار في ذلك ما يطول ذكره. وكان الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة الذي يجب تقديم العمل به هو الإجماع فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة.
النوع الخامس هو شك كثير من الناس وطعنهم في كثير مما أهل السنة والجماعة عليه متفقون؛ بل وفي بعض ما عليه أهل الإسلام بل وبعض ما عليه سائر أهل الملل متفقون وذلك من جهة نقلهم وروايتهم تارة ومن جهة تنازعهم ورأيهم أخرى.
أما الأول فقد علم الله الذكر الذي أنزله على رسوله وأمر أزواج نبيه بذكره حيث يقول: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} وحفظه من أن يقع فيه من التحريف ما وقع فيما أنزل قبله.

كما عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة فعصم حروف التنزيل أن يغير وحفظ تأويله أن يضل فيه أهل الهدى المتمسكون بالسنة والجماعة وحفظ أيضا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم عما ليس فيها من الكذب عمدا أو خطأ بما أقامه من علماء أهل الحديث وحفاظه الذين فحصوا عنها وعن نقلتها ورواتها وعلموا من ذلك ما لا يعلم غيرهم حتى صاروا مجتمعين على ما تلقوه بالقبول منها إجماعا معصوما من الخطأ؛ لأسباب يطول وصفها في هذا الموضع. وعلموا هم خصوصا وسائر علماء الأمة بل وعامتها عموما ما صانوا به الدين عن أن يزاد فيه أو ينقص منه مثلما علموا أنه لم يفرض عليهم في اليوم والليلة إلا الصلوات الخمس وأن مقادير ركعاتها ما بين الثنائي والثلاثي والرباعي وأنه لم يفرض عليهم من الصوم إلا شهر رمضان ومن الحج إلا حج البيت العتيق ومن الزكاة إلا فرائضها المعروفة إلى نحو ذلك.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #164  
قديم 07-08-2022, 10:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الرابع
الحلقة( 164)

من صــ 491 الى صـ 500





وعلموا كذب أهل الجهل والضلالة فيما قد يأثرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم لعلمهم بكذب من يزعم من الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بالخلافة نصا قاطعا جليا وزعم آخرين أنه نص على آل العباس. وعلموا أكاذيب الرافضة والناصبة - التي يأثرونها في مثل " الغزوات " التي يروونها عن علي وليس لها حقيقة كما يرويها المكذبون الطرقية: مثل أكاذيبهم الزائدة في سيرة عنتر والبطال - حيث علموا مجموع مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن القتال فيها كان في تسعة مغاز فقط ولم يكن عدة المسلمين ولا العدو في شيء من مغازي القتال عشرين ألفا.
ومثل " الفضائل " المروية ليزيد بن معاوية ونحوه والأحاديث التي يرويها كثير من الكرامية في الإرجاء ونحوه والأحاديث التي يرويها كثير من النساك في صلوات أيام الأسبوع وفي صلوات أيام الأشهر الثلاثة والأحاديث التي يروونها في استماع النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه وتواجده وسقوط البردة عن ردائه وتمزيقه الثوب وأخذ جبريل لبعضه وصعوده به إلى السماء وقتال أهل الصفة مع الكفار واستماعهم لمناجاته ليلة الإسراء والأحاديث المأثورة في نزول الرب إلى الأرض يوم عرفة وصبيحة مزدلفة ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له في الأرض بعين رأسه وأمثال هذه الأحاديث المكذوبة التي يطول وصفها فإن المكذوب من ذلك لا يحصيه أحد إلا الله تعالى.
لأن الكذب يحدث شيئا فشيئا ليس بمنزلة الصدق الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يحدث بعده وإنما يكون موجودا في زمنه صلى الله عليه وسلم وهو محفوظ محروس بنقل خلفاء الرسول وورثة الأنبياء. وكان من الدلائل على انتفاء هذه الأمور المكذوبة وغيرها وجوه:
أحدها: أن ما توفرت همم الخلق ودواعيهم على نقله وإشاعته يمتنع في العادة كتمانه فانفراد العدد القليل به يدل على كذبهم كما يعلم كذب من خرج يوم الجمعة وأخبر بحادثة كبيرة في الجامع مثل سقوط الخطيب وقتله وإمساك أقوام في المسجد إذا لم يخبر بذلك إلا الواحد والاثنان ويعلم كذب من أخبر أن في الطرقات بلادا عظيمة وأمما كثيرين ولم يخبر بذلك السيارة وإنما انفرد به الواحد والاثنان ويعلم كذب من أخبر بمعادن ذهب وفضة متيسرة لمن أرادها بمكان يعلمه الناس ولم يخبر بذلك إلا الواحد والاثنان وأمثال ذلك كثيرة فباعتبار العقل وقياسه وضربه الأمثال يعلم كذب ما ينقل من الأمور التي مضت سنة الله بظهورها وانتشارها لو كانت موجودة. كما يعلم أيضا صدق ما مضت سنة الله في عباده أنهم لا يتواطئون فيه على الكذب من الأمور المتواترة والمنقولات المستفيضة فإن الله جبل جماهير الأمم على الصدق والبيان في مثل هذه الأمور دون الكذب والكتمان كما جبلهم على الأكل والشرب واللباس فالنفس بطبعها تختار الصدق إذا لم يكن لها في الكذب غرض راجح وتختار الأخبار بهذه الأمور العظيمة دون كتمانها. والناس يستخبر بعضهم بعضا ويميلون إلى الاستخبار والاستفهام عما يقع وكل شخص له من يؤثر أن يصدقه ويبين له دون أن يكذبه ويكتمه والكذب والكتمان يقع كثيرا في بني آدم في قضايا كثيرة لا تنضبط كما يقع منهم الزنا وقتل النفوس والموت جوعا وعريا ونحو ذلك لكن ليس الغالب على أنسابهم إلا الصحة وعلى أنفسهم إلا البقاء فالغرض هنا أن الأمور المتواترة يعلم أنهم لم يتواطئوا فيها على الكذب والأخبار الشاذة يعلم أنهم لم يتواطئوا فيها على الكتمان.
(الوجه الثاني: أن دين الأمة يوجب عليهم تبليغ الدين وإظهاره وبيانه ويحرم عليهم كتمانه ويوجب عليهم الصدق ويحرم عليهم الكذب فتواطؤهم على كتمان ما يجب بيانه كتواطئهم على الكذب وكلاهما من أقبح الأمور التي تحرم في دين الأمة وذلك باعث موجب الصدق والبيان.
الثالث: أنه قد علم من عدل سلف الأمة ودينها وعظيم رغبتها في تبليغ الدين وإظهاره وعظيم مجانبتها للكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ما يوجب أعظم العلوم الضرورية؛ بأنهم لم يكذبوا فيما نقلوه عنه ولا كتموا ما أمرهم بتبليغه وهذه العادة الحاجية الخاصة الدينية لهم غير العادة العامة المشتركة بين جنس البشر.
(الرابع: أن العلماء الخاصة يعلمون من نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجبة عليهم التبليغ ومن تعظيمهم لأمر الله ورسوله ومن دين آحادهم: مثل الخلفاء ومثل ابن مسعود وأبي ومعاذ وأبي الدرداء - إلى ابن عمر وابن عباس وابن عمرو وغيرهم. يعلمون علما يقينا - لا يتخالجه ريب - امتناع هؤلاء من كتمان قواعد الدين التي يجب تبليغها إلى العامة كما يعلمون امتناعهم من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويعلم أيضا أهل الحديث مثل أحوال المشاهير بمعرفة ذلك مثل الزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثير ومثل مالك والثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهم أمورا يعلمون معها امتناعهم من الكذب وامتناعهم عن كتمان تبليغ هذه الأمور العظيمة التي تأبى أحوالهم كتمانها لو كانت موجودة ولهم في ذلك أسباب يطول شرحها وليس الغرض هنا تقرير ذلك. وإنما الغرض التنبيه على ما وقع من الشبهة لبعض الناس من أهل الأهواء.
قالوا: هذا الذي ذكرتموه معارض بأمر الأذان والإقامة فإنه كان يفعل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم خمس مرات ومع هذا فقد وقع الاختلاف في صفته وكذلك الجهر بالبسملة والقنوت في الفجر وحجة الوداع من أعظم وقائعه وقد وقع الاختلاف في نقلها وذكروا نحو هذه الأمور التي وقعت فيها الشبهة والنزاع عند بعض الناس وجعلوا هذا معارضا لما تقدم ليسوغوا أن يكون من أمور الدين ما لم ينقل بل كتم لأهواء وأغراض.

وأما جهة الرأي والتنازع فإن تنازع العلماء واختلافهم في صفات العبادات بل وفي غير ذلك من أمور الدين صار شبهة لكثير من أهل الأهواء من الرافضة وغيرهم وقالوا: إن دين الله واحد والحق لا يكون في جهتين: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.

فهذا التفرق والاختلاف دليل على انتفاء الحق فيما عليه أهل السنة والجماعة ويعبرون عنهم بعبارات تارة يسمونهم الجمهور وتارة يسمونهم الحشوية وتارة يسمونهم العامة ثم صار أهل الأهواء لما جعلوا هذا مانعا من كون الحق فيما عليه أهل السنة والجماعة كل ينتحل سبيلا من سبل الشيطان.
فالرافضة تنتحل النقل عن أهل البيت لما لا وجود له وأصل من وضع ذلك لهم زنادقة مثل رئيسهم الأول عبد الله بن سبأ الذي ابتدع لهم الرفض ووضع لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بالخلافة وأنه ظلم ومنع حقه وقال إنه كان معصوما وغرض الزنادقة بذلك التوسل إلى هدم الإسلام ولهذا كان الرفض باب الزندقة والإلحاد فالصابئة المتفلسفة ومن أخذ ببعض أمورهم أو زاد عليهم - من القرامطة والنصيرية والإسماعيلية والحاكمية وغيرهم - إنما يدخلون إلى الزندقة والكفر بالكتاب والرسول وشرائع الإسلام من باب التشيع والرفض والمعتزلة ونحوهم تنتحل القياس والعقل وتطعن في كثير مما ينقله أهل السنة والجماعة ويعللون ذلك بما ذكر من الاختلاف ونحوه. وربما جعل ذلك بعض أرباب الملة من أسباب الطعن فيها وفي أهلها فيكون بعض هؤلاء المتعصبين ببعض هذه الأمور الصغار ساعيا في هدم قواعد الإسلام الكبار.
(فصل: زوال الفرقة والاختلاف يكون بالسنة والجماعة)
فصل:
إذا تبين بعض ما حصل في هذا الاختلاف والتفرق من الفساد فنحن نذكر طريق زوال ذلك ونذكر ما هو الواجب في الدين في هذه المنازعات وذلك ببيان الأصلين اللذين هما " السنة والجماعة "
المدلول عليهما بكتاب الله فإنه إذا اتبع كتاب الله وما تضمنه من اتباع رسوله والاعتصام بحبله جميعا حصل الهدى والفلاح وزال الضلال والشقاء. أما الأصل الأول: وهو " الجماعة " وبدأنا به لأنه أعرف عند عموم الخلق ولهذا يجب عليهم تقديم الإجماع على ما يظنونه من معاني الكتاب والسنة. فنقول: عامة هذه التنازعات إنما هي في أمور مستحبات ومكروهات لا في واجبات ومحرمات؛ فإن الرجل إذا حج متمتعا أو مفردا أو قارنا كان حجه مجزئا عند عامة علماء المسلمين وإن تنازعوا في الأفضل من ذلك ولكن بعض الخارجين عن الجماعة يوجب أو يمنع ذلك فمن الشيعة من يوجب المتعة ويحرم ما عداها ومن الناصبة من يحرم المتعة ولا يبيحها بحال. وكذلك الأذان سواء رجع فيه أو لم يرجع فإنه أذان صحيح عند جميع سلف الأمة وعامة خلفها وسواء ربع التكبير في أوله أو ثناه وإنما يخالف في ذلك بعض شواذ المتفقهة كما خالف فيه بعض الشيعة فأوجب له الحيعلة " بحي على خير العمل " وكذلك الإقامة يصح فيها الإفراد والتثنية بأيها أقام صحت إقامته عند عامة علماء الإسلام إلا ما تنازع فيه شذوذ الناس. وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة كلاهما جائز لا يبطل الصلاة وإن كان من العلماء من يستحب أحدهما أو يكره الآخر أو يختار أن لا يقرأ بها. فالمنازعة بينهم في المستحب وإلا فالصلاة بأحدهما جائزة عند عوام العلماء فإنهم وإن تنازعوا بالجهر والمخافتة في موضعهما هل هما واجبان أم لا؟ وفيه نزاع معروف في مذهب مالك وأحمد وغيرهما فهذا في الجو الطويل بالقدر الكثير مثل المخافتة بقرآن الفجر والجهر بقراءة صلاة الظهر. فأما الجهر بالشيء اليسير أو المخافتة به فمما لا ينبغي لأحد أن يبطل الصلاة بذلك وما أعلم أحدا قال به. فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في صلاة المخافتة يسمعهم الآية أحيانا وفي صحيح البخاري {عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة. قال: سمع الله لمن حمده قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال: أنا قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول}.

ومعلوم أنه لولا جهره بها لما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا الراوي. ومعلوم أن المستحب للمأموم المخافتة بمثل ذلك وكذلك ثبت في الصحيح عن عمر أنه كان يجهر بدعاء الاستفتاح " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وهذا فعله بين المهاجرين والأنصار. والسنة الراتبة فيه المخافتة وكذلك كان من الصحابة من يجهر بالاستعاذة وفي الصحيح عن ابن عباس أنه جهر بقراءة الفاتحة على الجنازة وقال: لتعلموا أنها السنة ولهذا نظائر.

وأيضا فلا نزاع أنه كان من الصحابة من يجهر بالبسملة كابن الزبير ونحوه ومنهم من لم يكن يجهر بها كابن مسعود وغيره وتكلم الصحابة في ذلك ولم يبطل أحد منهم صلاة أحد في ذلك. وهذا مما لم أعلم فيه نزاعا وإن تنازعوا في وجوب قراءتها فتلك مسألة أخرى. وكذلك القنوت في الفجر إنما النزاع بينهم في استحبابه أو كراهيته وسجود السهو لتركه أو فعله وإلا فعامتهم متفقون على صحة صلاة من ترك القنوت وأنه ليس بواجب وكذلك من فعله إذ هو تطويل يسير للاعتدال ودعاء الله في هذا. . . (1) الأذان فإذا كان كل واحد من مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأحد النوعين صار ذلك مثل تعليمه القرآن لعمر بحرف ولهشام بن حكيم بحرف آخر كلاهما قرآن أذن الله أن يقرأ به. وكذلك الترجيع في الأذان هو ثابت في أذان أبي محذورة وهو محذوف من أذان بلال الذي رووه في السنن وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة بها صح الجهر بها عن طائفة من الصحابة وصحت المخافتة بها عن أكثرهم وعن بعضهم الأمران جميعا.

وأما المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم فالذي في الصحاح والسنن؛ يقتضي أنه لم يكن يجهر بها كما عليه عمل أكثر الصحابة وأمته ففي الصحيح حديث أنس وعائشة وأبي هريرة يدل على ذلك دلالة بينة لا شبهة فيها وفي السنن أحاديث أخر: مثل حديث ابن مغفل وغيره وليس في الصحاح والسنن حديث فيه ذكر جهره بها والأحاديث المصرحة بالجهر عنه كلها ضعيفة عند أهل العلم بالحديث ولهذا لم يخرجوا في أمهات الدواوين منها شيئا ولكن في الصحاح والسنن أحاديث محتملة. وقد روى الطبراني بإسناد حسن {عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها إذ كان بمكة وأنه لما هاجر إلى المدينة ترك الجهر بها حتى مات}ورواه أبو داود في الناسخ والمنسوخ وهذا.
__________
Q (1) سقط في الأصل


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #165  
قديم 07-08-2022, 10:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 165)

من صــ 1 الى صـ 10





ورواه أبو داود في الناسخ والمنسوخ وهذا يناسب الواقع؛ فإن الغالب على أهل مكة كان الجهر بها وأما أهل المدينة والشام والكوفة فلم يكونوا يجهرون بها وكذلك أكثر البصريين وبعضهم كان يجهر بها ولهذا سألوا أنسا عن ذلك. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها بعض الأحيان أو جهرا خفيفا إذا كان ذلك محفوظا وإذا كان في نفس كتب الحديث أنه فعل هذا مرة وهذا مرة زالت الشبهة.
وأما القنوت فأمره بين لا شبهة فيه عند التأمل التام؛ فإنه قد ثبت في الصحاح {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الفجر مرة يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم تركه} ولم يكن تركه نسخا له لأنه ثبت عنه في الصحاح أنه قنت بعد ذلك يدعو للمسلمين: مثل الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين ويدعو على مضر وثبت عنه أنه قنت أيضا في المغرب والعشاء وسائر الصلوات قنوت استنصار. فهذا في الجملة منقول ثابت عنه لكن اعتقد بعض العلماء من الكوفيين أنه تركه ترك نسخ فاعتقد أن القنوت منسوخ واعتقد بعضهم من المكيين أنه ما زال يقنت في الفجر القنوت المتنازع فيه حتى فارق الدنيا والذي عليه أهل المعرفة بالحديث أنه قنت لسبب وتركه لزوال السبب.

فالقنوت من السنن العوارض لا الرواتب؛ لأنه ثبت أنه تركه لما زال العارض ثم عاد إليه مرة أخرى ثم تركه لما زال العارض وثبت في الصحاح أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهرا هكذا ثبت عن أنس وغيره ولم ينقل أحد قط عنه أنه قنت القنوت المتنازع فيه لا قبل الركوع ولا بعده ولا في كتب الصحاح والسنن شيء من ذلك بل قد أنكر ذلك الصحابة كابن عمر وأبي مالك الأشجعي وغيرهما. ومن المعلوم قطعا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان كل يوم يقنت قنوتا يجهر به لكان له فيه دعاء ينقله بعض الصحابة فإنهم نقلوا ما كان يقوله في القنوت العارض وقنوت الوتر فالقنوت الراتب أولى أن ينقل دعاؤه فيه فإذا كان الذي نستحبه إنما يدعو فيه لقنوت الوتر علم أنه ليس فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مما يعلم باليقين القطعي كما يعلم عدم النص على هذا وأمثاله فإنه من الممتنع أن يكون الصحابة كلهم أهملوا نقل ذلك فإنه مما يعلم بطلانه قطعا. وكذلك المأثور عن الصحابة مثل عمر وعلي وغيرهما هو القنوت العارض قنوت النوازل ودعاء عمر فيه وهو قوله: " اللهم عذب كفرة أهل الكتاب " إلخ. يقتضي أنه دعا به عند قتله للنصارى وكذلك دعاء علي عند قتاله لبعض أهل القبلة. والحديث الذي فيه عن أنس: {أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا} مع ضعف في إسناده وأنه ليس في السنن إنما فيه القنوت قبل الركوع. وفي الصحاح عن أنس أنه قال: {لم يقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع إلا شهرا} والقنوت قبل الركوع هو القيام الطويل؛ إذ لفظ القنوت معناه دوام الطاعة فتارة يكون في السجود وتارة يكون في القيام كما قد بيناه في غير هذا الموضع.
وأما حجة الوداع وإن اشتبهت على كثير من الناس فإنما أتوا من جهة الألفاظ المشتركة حيث سمعوا بعض الصحابة يقول: إنه تمتع بالعمرة إلى الحج وهؤلاء أيضا يقولون إنه أفرد الحج ويقول بعضهم إنه قرن العمرة إلى الحج ولا خلاف في ذلك. فإنهم لم يختلفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه وأنه كان قد ساق الهدي ونحره يوم النحر وأنه لم يعتمر بعد الحجة في ذلك العام لا هو ولا أحد من أصحابه إلا عائشة أمر أخاها أن يعمرها من التنعيم أدنى الحل وكذلك الأحاديث الصحيحة عنه فيها أنه لم يطف بالصفا والمروة إلا مرة واحدة مع طوافه الأول. فالذين نقلوا أنه أفرد الحج صدقوا لأنه أفرد أعمال الحج لم يقرن بها عمل العمرة كما يتوهم من يقول إن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين ولم يتمتع تمتعا حل به من إحرامه كما يفعله المتمتع الذي لم يسق الهدي؛ بل قد أمر جميع أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة ويهلوا بالحج بعد قضاء عمرتهم. اهـ
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (105) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106)
(فصل في الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة».

وقال: «إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به».
هذا حديث محفوظ من حديث صفوان بن عمرو عن الأزهر بن عبد الله الحرازي عن أبي عامر عبد الله بن لحي عن معاوية. رواه عنه غير واحد، منهم: أبو اليمان وبقية وأبو المغيرة. رواه أحمد وأبو داود في سننه.
وقد روى ابن ماجه هذا المعنى من حديث صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد عن عوف بن مالك الأشجعي ويروى من وجوه أخرى، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بافتراق أمته على ثلاث وسبعين فرقة، واثنتان وسبعون؛ لا ريب أنهم الذين خاضوا كخوض الذين من قبلهم.
ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إما في الدين فقط، وإما في الدين والدنيا ثم قد يؤول إلى الدماء وقد يكون الاختلاف في الدنيا فقط.
وهذا الاختلاف الذي دلت عليه هذه الأحاديث، هو مما نهي عنه في قوله سبحانه: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} [آل عمران: 105].
وقوله: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} [الأنعام: 159] وقوله: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} [الأنعام: 153] وهو موافق لما رواه مسلم في صحيحه، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه «أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال: " سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها».
وروى أيضا في صحيحه عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي: أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال: من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا».

ورواه البرقاني في صحيحه وزاد: «وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى».

وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة، وكان يحذر أمته؛ لينجو منه من شاء الله له السلامة، كما روى النزال بن سبرة عن عبد الله بن مسعود قال: «سمعت رجلا قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: " كلاكما محسن، ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» رواه مسلم.
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع الآخر من الحق؛ لأن كلا القارئين كان محسنا فيما قرأه،وعلل ذلك: بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا.
ولهذا قال حذيفة لعثمان " أدرك هذه الأمة، لا تختلف في الكتاب كما اختلف فيه الأمم قبلهم " لما رأى أهل الشام والعراق يختلفون في حروف القرآن، الاختلاف الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
فأفاد ذلك بشيئين: أحدهما: تحريم الاختلاف في مثل هذا.
والثاني: الاعتبار بمن كان قبلنا، والحذر من مشابهتهم.

واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء؛ تجده من هذا الضرب، وهو: أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبا فيما يثبته، أو في بعضه مخطئا في نفي ما عليه الآخر، كما أن القارئين كل منهما كان مصيبا في القراءة بالحرف الذي علمه، مخطئا في نفي حرف غيره؛ فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب، لا في الإثبات، لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه ولهذا نهيت هذه الأمة أن تضرب آيات الله بعضها ببعض؛ لأن مضمون الضرب: الإيمان بإحدى الآيتين والكفر بالأخرى - إذا اعتقد أن بينهما تضادا - إذ الضدان لا يجتمعان.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #166  
قديم 07-08-2022, 10:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 166)

من صــ 11 الى صـ 20





ومثل ذلك: ما رواه مسلم - أيضا - عن عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال: «هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال: " إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب».
فعلل غضبه صلى الله عليه وسلم بأن الاختلاف في الكتاب سبب هلاك من كان قبلنا، وذلك يوجب مجانبة طريقهم في هذا عينا، وفي غيره نوعا.
والاختلاف على ما ذكره الله في القرآن قسمان:
أحدهما: يذم الطائفتين جميعا، كما في قوله: {ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك} [هود: 118 - 119] فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف، وكذلك قوله تعالى: {ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة: 176] وكذلك قوله: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران: 19] وقوله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} [آل عمران: 105]وقوله: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} [الأنعام: 159].

وكذلك وصف اختلاف النصارى بقوله: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14].
ووصف اختلاف اليهود بقوله: {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله} [المائدة: 64] وقال: {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53].

وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف أن الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة؛ قال: «كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة» وفي الرواية الأخرى: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي».
فبين: أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين، إلا فرقة واحدة، وهم أهل السنة والجماعة.
وهذا الاختلاف المذموم من الطرفين يكون سببه تارة: فساد النية؛ لما في النفوس من البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض ونحو ذلك، فيجب لذلك ذم قول غيرها، أو فعله، أو غلبته ليتميز عليه، أو يحب قول من يوافقه في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة، ونحو ذلك، لما في قيام قوله من حصول الشرف والرئاسة وما أكثر هذا من بني آدم، وهذا ظلم.
ويكون سببه - تارة - جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه، أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر، أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحق: في الحكم، أو في الدليل، وإن كان عالما بما مع نفسه من الحق حكما ودليلا.
والجهل والظلم: هما أصل كل شر، كما قال سبحانه: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب: 72].
[أنواع الاختلاف]
أما أنواعه: فهو في الأصل قسمان:
اختلاف تنوع واختلاف تضاد.
واختلاف التنوع على وجوه: منه: ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، حتى زجرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «كلاكما محسن».
ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة إلى غير ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان قد يقال إن بعض أنواعه أفضل.

ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف؛ ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيثارها، ونحو ذلك، وهذا عين المحرم ومن لم يبلغ هذا المبلغ؛ فتجد كثيرا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر أو النهي عنه، ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنه: ما يكون كل من القولين هو في معنى قول الآخر؛ لكن العبارتان مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات، وتقسيم الأحكام، وغير ذلك ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى.
ومنه ما يكون المعنيان غيرين لكن لا يتنافيان؛ فهذا قول صحيح، وهذا قول صحيح وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر، وهذا كثير في المنازعات جدا.
ومنه ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى، وكلاهما حسن في الدين.
ثم الجهل أو الظلم: يحمل على ذم إحدهما أو تفضيلها بلا قصد صالح، أو بلا علم، أو بلا نية وبلا علم.
وأما اختلاف التضاد فهو: القولان المتنافيان: إما في الأصول وإما في الفروع، عند الجمهور الذين يقولون: " المصيب واحد "، وإلا فمن قال: " كل مجتهد مصيب " فعنده: هو من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد فهذا الخطب فيه أشد؛ لأن القولين يتنافيان؛ لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما، أو معه دليل يقتضي حقا ما، فيرد الحق في الأصل هذا كله، حتى يبقى هذا مبطلا في البعض كما كان الأول مبطلا في الأصل كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة، وغيرهم.
وأما أهل البدعة: فالأمر فيهم ظاهر وكما رأيته لكثير من الفقهاء، أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه، وكذلك رأيت الاختلاف كثيرا بين بعض المتفقهة، وبعض المتصوفة، وبين فرق المتصوفة، ونظائره كثيرة.
ومن جعل الله له هداية ونورا رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في الكتاب والسنة: من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحه تنكر هذا ابتداء، لكن نور على نور.

وهذا القسم - الذي سميناه: اختلاف التنوع - كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد، لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل ذلك إذا لم يحصل بغي كما في قوله: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} [الحشر: 5].
وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار فقطع قوم وترك آخرون.

وكما في قوله:{وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين - ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء: 78 - 79] فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالعلم والحكم.
وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم - يوم بني قريظة - لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة.
وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر». . ونظائره كثيرة.
وإذا جعلت هذا قسما آخر صار الاختلاف ثلاثة أقسام.
وأما القسم الثاني من الاختلاف المذكور في كتاب الله: فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين، وهم المؤمنون، وذم فيه الأخرى كما في قوله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253] إلى قوله:
{ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا} [البقرة: 253].
فقوله: {ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر} [البقرة: 253] حمد لإحدى الطائفتين - وهم المؤمنون - وذم للآخرى، وكذلك قوله: {هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار} [الحج: 19] إلى قوله {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [الحج: 23] مع ما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه: " أنها نزلت في المقتتلين يوم بدر: علي وحمزة وعبيدة والذين بارزوهم من قريش وهم: عتبة وشيبة والوليد.

وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول وكذلك آل إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل والأخرى كذلك.
وكذلك جعل الله مصدره البغي في قوله: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم} [البقرة: 213]؛ لأن البغي: مجاوزة الحد.

وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #167  
قديم 07-08-2022, 10:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 167)

من صــ 21 الى صـ 30





وقريب من هذا الباب: ما خرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللا بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال،
ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية، كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة.
لكن هذا الاختلاف على الأنبياء: هو - والله أعلم - مخالفة الأنبياء كما يقول: اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه.
والاختلاف الأول: مخالفة بعضهم بعضا وإن كان الأمران متلازمين أو أن الاختلاف عليه هو الاختلاف فيما بينهم، فإن اللفظ يحتمله.
ثم الاختلاف كله قد يكون في التنزيل والحروف، كما في حديث ابن مسعود وقد يكون في التأويل كما يحتمله حديث عبد الله بن عمرو، فإن حديث عمرو بن شعيب يدل على ذلك، إن كانت هذه القصة قال أحمد في المسند: حدثنا إسماعيل حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان! فقال: " أبهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم: أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا؛ إنكم لستم مما ههنا في شيء، انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا عنه» وقال (حدثنا يونس حدثنا حماد بن سلمة عن حميد ومطر الوراق. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وداود بن أبي هند أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه، وهم يتنازعون في القدر - فذكر الحديث)
وقال أحمد.

حدثنا أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: «لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حمر النعم: أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا، قد احمر وجهه يرميهم بالتراب، ويقول: " مهلا يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم: باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، وإنما أنزل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه».

وقال أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم، والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب قال: فقال لهم: " ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم»، قال فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده.
هذا حديث محفوظ عن عمرو بن شعيب رواه عنه الناس، ورواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي معاوية، كما سقناه.
وقد كتب أحمد في رسالته إلى المتوكل هذا الحديث، وجعل يقول لهم في مناظرته يوم الدار " إنا قد نهينا أن نضرب كتاب الله بعضه ببعض " وهذا لعلمه - رحمه الله - بما في خلاف هذا الحديث من الفساد العظيم.
وقد روى هذا المعنى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال: " حديث حسن غريب " وقال: " وفي الباب عن عمر وعائشة وأنس ".
وهذا باب واسع لم نقصد له ههنا، وإنما الغرض التنبيه على ما يخاف على الأمة من موافقة الأمم قبلها؛ إذ الأمر في هذا الحديث - كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم - أصل هلاك بني آدم: " إنما كان التنازع في القدر "، وعنه نشأ مذهب المجوس القائلين بالأصلين: النور والظلمة، ومذهب الصابئة وغيرهم القائلين بقدم العالم، ومذاهب كثير من مجوس هذه الأمة وغيرهم.
وهذا مذهب كثير ممن عطل الشرائع.

فإن القوم تنازعوا في علة فعل الله سبحانه وتعالى لما فعله، فأرادوا أن يثبتوا شيئا يستقيم لهم به تعليل فعله بمقتضى قياسه سبحانه على المخلوقات، فوقعوا في غاية الضلال؛ إما بأن فعله ما زال لازما له، وإما بأن الفاعل اثنان؛ وإما بأنه يفعل البعض، والخلق يفعلون البعض، وإما بأن ما فعله لم يأمر بخلافه، وما أمر به لم يقدر خلافه وذلك حين عارضوا بين فعله وأمره، حتى أقر فريق بالقدر وكذبوا بالأمر، وأقر فريق بالأمر وكذبوا بالقدر، حين اعتقدوا جميعا أن اجتماعهما محال، وكل منهما مبطل بالتكذيب بما صدق به الآخر.

وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء القليل قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه ولهذا قال: «ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه».
والغرض بذكر هذه الأحاديث: التنبيه من الحديث على مثل ما في القرآن من قوله تعالى: {وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: 69].
ومن ذلك: ما روى الزهري عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي أنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينيطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! إنها السنن قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138] لتركبن سنن من كان قبلكم» رواه مالك والنسائي والترمذي وقال: (هذا حديث حسن صحيح) ولفظه «لتركبن سنة من كان قبلكم».
وقد قدمت ما خرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قالوا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟».
وما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع "، قالوا: فارس والروم؟ قال: " فمن الناس إلا أولئك؟».

وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك، والذم لمن يفعله، كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات.
فعلم أن مشابهتها اليهود والنصارى، وفارس والروم، مما ذمه الله ورسوله، وهو المطلوب ولا يقال: فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك، فما فائدة النهي عنه؟ لأن الكتاب والسنة أيضا قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة وأنها لا تجتمع على ضلالة ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة المنصورة، وتثبيتها، وزيادة إيمانها، فنسأل الله المجيب أن يجعلنا منها.
وأيضا: لو فرض أن الناس لا يترك أحد منهم هذه المشابهة المنكرة؛ لكان في العلم بها معرفة القبيح، والإيمان بذلك؛ فإن نفس العلم والإيمان بما كرهه الله خير، وإن لم يعمل به، بل فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم، فإن الإنسان إذا عرف المعروف وأنكر المنكر كان خيرا من أن يكون ميت القلب لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم.
وفي لفظ: «ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».
وإنكار القلب هو: الإيمان بأن هذا منكر، وكراهته لذلك.
فإذا حصل هذا، كان في القلب إيمان وإذا فقد القلب معرفة هذا المعروف وإنكار هذا المنكر؛ ارتفع هذا الإيمان من القلب.
وأيضا فقد يستغفر الرجل من الذنب مع إصراره عليه أو يأتي بحسنات تمحوه، أو تمحو بعضه، وقد يقلل منه، وقد تضعف همته في طلبه إذا علم أنه منكر، ثم لو فرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر، ولا يعترفون بأنه منكر لم يكن ذلك مانعا من إبلاغ الرسالة وبيان العلم، بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد - وقول كثير من أهل العلم.
على أن هذا ليس موضع استقصاء ذلك، ولله الحمد على ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه: «لا تزال من أمته طائفة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله».
وليس هذا الكلام من خصائص هذه المسألة، بل هو وارد في كل منكر قد أخبر الصادق بوقوعه.
وسئل:
عن الشيخ عبد القادر أنه أفضل المشايخ والإمام أحمد أنه أفضل الأئمة فهل هذا صحيح أم لا؟
فأجاب:
أما ترجيح بعض الأئمة والمشايخ على بعض؛ مثل من يرجح إمامه الذي تفقه على مذهبه؛ أو يرجح شيخه الذي اقتدى به على غيره؛ كمن يرجح الشيخ عبد القادر أو الشيخ أبا مدين؛ أو أحمد أو غيرهم: فهذا الباب أكثر الناس يتكلمون فيه بالظن وما تهوى الأنفس؛ فإنهم لا يعلمون حقيقة مراتب الأئمة والمشايخ ولا يقصدون اتباع الحق المطلق بل كل إنسان تهوى نفسه أن يرجح متبوعه فيرجحه بظن يظنه وإن لم يكن معه برهان على ذلك وقد يفضي ذلك إلى تحاجهم وقتالهم وتفرقهم وهذا مما حرم الله ورسوله كما قال تعالى:

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدع والفرقة. فما دخل في هذا الباب مما نهى الله عنه ورسوله من التعصب والتفرق والاختلاف والتكلم بغير علم: فإنه يجب النهي عنه فليس لأحد أن يدخل فيما نهى الله عنه ورسوله.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #168  
قديم 07-08-2022, 10:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 168)

من صــ 31 الى صـ 40



وأما من ترجح عنده فضل إمام على إمام أو شيخ على شيخ بحسب اجتهاده كما تنازع المسلمون: أيهما أفضل الترجيع في الأذان أو تركه؟ أو إفراد الإقامة أو تثنيتها؟ وصلاة الفجر بغلس أو الإسفار بها؟ والقنوت في الفجر أو تركه؟ والجهر بالتسمية؛ أو المخافتة بها؛ أو ترك قراءتها؟ ونحو ذلك: فهذه مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والأئمة فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده من كان فيها أصاب الحق فله أجران ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر وخطؤه مغفور له فمن ترجح عنده تقليد الشافعي لم ينكر على من ترجح عنده تقليد مالك ومن ترجح عنده تقليد أحمد لم ينكر على من ترجح عنده تقليد الشافعي ونحو ذلك.
ولا أحد في الإسلام يجيب المسلمين كلهم بجواب عام: أن فلانا أفضل من فلان فيقبل منه هذا الجواب؛ لأنه من المعلوم أن كل طائفة ترجح متبوعها فلا تقبل جواب من يجيب بما يخالفها فيه كما أن من يرجح قولا أو عملا لا يقبل قول من يفتي بخلاف ذلك لكن إن كان الرجل مقلدا فليكن مقلدا لمن يترجح عنده أنه أولى بالحق فإن كان مجتهدا اجتهد واتبع ما يترجح عنده أنه الحق ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقد قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} لكن عليه أن لا يتبع هواه ولا يتكلم بغير علم قال تعالى: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} وقال تعالى {يجادلونك في الحق بعدما تبين} وما من إمام إلا له مسائل يترجح فيها قوله على قول غيره ولا يعرف هذا التفاضل إلا من خاض في تفاصيل العلم والله أعلم.

(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ... (110)
قال أبو هريرة في قوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس} كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة. يبذلون أموالهم وأنفسهم في الجهاد لنفع الناس فهم خير الأمم للخلق. والخلق عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله.

وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وقد خص الله تبارك وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بخصائص ميزه بها على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل له شرعة ومنهاجا، أفضل شرعة وأكمل منهاج.
كما جعل أمته خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله من جميع الأجناس، هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم، وجعلهم وسطا عدلا خيارا، فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله، وكتبه، وشرائع دينه من الأمر، والنهي، والحلال، والحرام.

فأمرهم بالمعروف، ونهاهم عن المنكر، وأحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، لم يحرم عليهم شيئا من الطيبات كما حرم على اليهود، ولم يحل لهم شيئا من الخبائث كما استحلتها النصارى، ولم يضيق عليهم باب الطهارة، والنجاسة كما ضيق على اليهود، ولم يرفع عنهم طهارة الحدث، والخبث كما رفعته النصارى، فلا يوجبون الطهارة من الجنابة ولا الوضوء للصلاة، ولا اجتناب النجاسة في الصلاة، بل يعد كثير من عبادهم مباشرة النجاسات من أنواع القرب والطاعات حتى يقال في فضائل الراهب: " له أربعون سنة ما مس الماء "، ولهذا تركوا الختان مع أنه شرع إبراهيم الخليل عليه السلام وأتباعه.

واليهود إذا حاضت عندهم المرأة، لا يؤاكلونها، ولا يشاربونها، ولا يقعدون معها في بيت واحد، والنصارى لا يحرمون وطء الحائض.
وكان اليهود لا يرون إزالة النجاسة، بل إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه بالمقراض، والنصارى ليس عندهم شيء نجس يحرم أكله أو تحرم الصلاة معه.
ولذلك المسلمون وسط في الشريعة ; فلم يجحدوا شرعه الناسخ لأجل شرعه المنسوخ، كما فعلت اليهود، ولا غيروا شيئا من شرعه المحكم، ولا ابتدعوا شرعا لم يأذن به الله كما فعلت النصارى، ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلو النصارى، ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود، ولا جعلوا الخالق سبحانه متصفا بخصائص المخلوق، ونقائضه، ومعايبه من الفقر، والبخل، والعجز، كفعل اليهود، ولا المخلوق متصفا بخصائص الخالق سبحانه التي ليس كمثله فيها شيء كفعل النصارى، ولم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود، ولا أشركوا بعبادته أحدا كفعل النصارى.
[فصل: فضل أمة محمد على غيرها من الإيمان. والعمل آية لنبوته]
ومما يبين به فضل أمته على جميع الأمم - وذلك مستلزم لكونه رسولا صادقا كما تقدم، وهو آية وبرهان على نبوته، فإن كل ملزوم فإنه دليل على لازمه.
إن الأمم نوعان: نوع لهم كتاب منزل من عند الله، كاليهود والنصارى، ونوع لا كتاب لهم كالهند، واليونان، والترك، وكالعرب قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وما من أمة إلا ولا بد لها من علم وعمل بحسبهم، ويقوم به ما يقوم من مصالح دنياهم، وهذا من الهداية العامة التي جعلها الله لكل إنسان بل لكل حي، كما يهدي الحيوان لجلب ما ينفعه بالأكل والشرب، ودفع ما يضره باللباس والكن، وقد خلق الله فيه حبا لهذا، وبغضا لهذا. قال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى} [الأعلى: 1]وقال موسى: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] وقال في أول ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم:
{اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1] وقال تعالى: {ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين} [البلد: 8]، ثم الأمم متفاضلون في معرفة الخالق تعالى، وفي الإقرار بالمعاد بعد الموت، إما للأرواح فقط، وإما للأبدان فقط، وإما لمجموعهما كما هو قول سلف الأمة المسلمين وأئمتهم وعامتهم أهل السنة والجماعة، ومتفاضلون فيما يحمدونه، ويستحسنونه من الأفعال والصفات، وما يذمونه ويستقبحونه من ذلك لكن عامة بني آدم على أن العدل خير من الظلم، والصدق خير من الكذب، والعلم خير من الجهل، فإن المحسن إلى الناس خير من الذي لا يحسن إليهم.
وأما المعاد فهو إما للأرواح أو للأبدان، وإن الناس بعد الموت يكونون سعداء أو أشقياء، فيقر به كثير من الأمم غير أهل الكتاب، وإن كان على وجه قاصر كحكماء الهند، واليونان، والمجوس، وغيرهم، وذلك أن أهل الأرض في المعاد على أربعة أقوال: أحدها: وهو مذهب سلف المسلمين من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين المشهورين، وغيرهم من أهل السنة، والحديث من الفقهاء، والصوفية، والنظار، وهو إثبات معاد الأرواح والأبدان جميعا وأن الإنسان إذا مات كانت روحه منعمة، أو معذبة، ثم تعاد روحه إلى بدنه عند القيامة الكبرى، ولهذا يذكر الله في كثير من السور أمر القيامتين:

القيامة الصغرى بالموت، والقيامة الكبرى حين يقوم الناس من قبورهم وتعاد أرواحهم إلى أبدانهم، كما ذكر الله القيامتين في سورة الواقعة حيث قال في أولها:{إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 1].

ثم ذكر سبحانه حال الأصناف الثلاثة في القيامة الكبرى وقال في آخر السورة: {فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم} [الواقعة: 83] وكذلك في سورة القيامة:{لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} [القيامة: 1] فذكر القيامة الكبرى، ثم قال في آخر السورة: {كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق} [القيامة: 26] ولبسط هذا موضع آخر، فإن ذكر ما ينال الروح عند فراق البدن من النعيم والعذاب كثير في النصوص النبوية،وأما وصف القيامة الكبرى في الكتاب والسنة فكثير جدا لأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وقد بعث بين يدي الساعة، فلذلك وصف القيامة بما لم يصفها به غيره كما ذكر المسيح - في صفته - فقال: إنه يخبركم بكل ما يأتي، ويعرفكم جميع ما للرب

والقول الثاني: قول من يثبت معاد الأبدان فقط، كما يقول ذلك كثير من المتكلمين الجهمية، والمعتزلة المبتدعين من هذه الأمة، وبعض المصنفين يحكي هذا القول عن جمهور متكلمي المسلمين، أو جمهور المسلمين، وذلك غلط، فإنه لم يقل ذلك أحد من أئمة المسلمين، ولا هو قول جمهور نظارهم، بل هو قول طائفة من متكلميهم المبتدعة، الذين ذمهم السلف والأئمة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #169  
قديم 07-08-2022, 10:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 169)

من صــ 41 الى صـ 50




والقول الثالث: المعاد للنفس الناطقة بالموت فقط، وأن الأبدان لا تعاد. وهذا لم يقله أحد من أهل الملل لا المسلمين ولا اليهود ولا النصارى. بل هؤلاء كلهم متفقون على إعادة الأبدان، وعلى القيامة الكبرى. ولكن من تفلسف من هؤلاء فوافق سلفه من الصابئة والفلاسفة المشركين على أن المعاد للروح وحده، فإنه يزعم أن الأنبياء خاطبوا الجمهور بمعاد الأبدان، وإن لم يكن له حقيقة وخاطبوهم بإثبات الصفات لله، وليس له حقيقة، وأن الأنبياء لم يظهروا الحقائق للخلق،وأنه لا يستفاد من أخبارهم معرفة شيء من صفات الله ولا معرفة شيء من أمر المعاد.

وحقيقة قولهم أن الأنبياء كذبوا للمصلحة، وهؤلاء ملاحدة كفار عند المتبعين للأنبياء من المسلمين، واليهود، والنصارى. وإن كان هؤلاء كثيرين موجودين فيمن يتظاهر بأنه من أهل الملل، لظهور أديانهم، وهو في الباطن على هذا الرأي. وهؤلاء القائلون بمعاد الأرواح فقط، منهم من يقول بأن الأرواح تتناسخ إما في أبدان الآدميين، أو أبدان الحيوان مطلقا، أو في موضع الأجسام النامية، ومنهم من يقول بالتناسخ للأنفس الشقية فقط، وكثير من محققيهم ينكر التناسخ

والقول الرابع: إنكار المعادين جميعا، كما هو قول أهل الكفر من العرب، واليونان، والهند،، والترك، وغيرهم، والمتفلسفة أتباع أرسطو كالفارابي وأتباعه، لهم في معاد الأرواح ثلاثة أقوال: قيل: بالمعاد للنفس العالمة والجاهلة، وقيل: بالمعاد للعالمة دون الجاهلة، وقيل: بإنكار الاثنين، والفارابي نفسه قد قال الأقوال الثلاثة، وبسط الكلام على هذه الأمور له موضع آخر، إذ المقصود هنا أن كل ما عند أهل الكتاب بل وسائر أهل الأرض من علم نافع وعمل صالح فهو عند المسلمين.

وعند المسلمين ما ليس عند غيرهم في جميع المطالب التي تنال بها السعادة والنجاة. وعقلاء جميع الأمم تأمر بالعدل ومكارم الأخلاق، وتنهى عن الظلم، والفواحش، ولهم علوم إلهية وعبادات بحسبهم، ويعظمون أهل العلم والدين منهم. والهند، واليونان، والفرس في ذلك أكمل من كفار الترك، والبربر، ونحوهم، مع أن هؤلاء أيضا فيهم قسط من ذلك. ومعلوم عند الاعتبار أن الأمم الذين لهم كتاب كاليهود، والنصارى أكمل من الأمم الذين لا كتاب لهم في الفضائل العلمية، والعملية، فإن ما لم يأخذه الناس عن الأنبياء يعلم بالعقل، والاعتبار، أو بالمنام، والإلهام، وأخبار الجن ونحو ذلك من طرق الأمم. وكل طريق صحيح من الطرق العقلية، والإلهامية، وغيرها، شارك أهل الكتاب فيه من لا كتاب له. ويمتاز أهل الكتاب بعلوم وأعمال أخذوها عن الأنبياء، ليس في قوة من ليس بنبي أن يعلمها، وهذا ظاهر في الأخلاق، والسياسات المنزلية والمدنية.

فإن جنس أهل الكتاب ولو كان منسوخا مبدلا أحسن حالا ممن لا كتاب له. وأما في العبادات والإيمان بالله واليوم الآخر فرجحانهم فيه ظاهر، وأما علوم وأعمال يكون ضررها راجحا، كالسحر، والطلسمات، وما يتوسل به من الشرك إلى استخدام الشياطين، ونحو ذلك، فهذا وإن كان غير أهل الكتاب أقوم به، فإنما ذاك لاستغناء أهل الكتاب بما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة. ولهذا لما ذكر الله سبحانه في قصة سليمان براءته عن ذلك، وكانت الشياطين قد كتبت كتب كفر وسحر، ودفنتها تحت كرسي سليمان، فلما مات أظهروا ذلك وقالوا: إنما كان يسخر الجن بهذه الأسماء والعزائم، فصدقهم فريقان:
فريق قدحوا في سليمان بل كفروه، من أهل الكتاب، وقال: من فعل ذلك فهو كافر، وفريق قالوا: نحن نقتدي بسليمان ونفعل كما كان يفعل، وهم أهل العزائم والطلاسم التي يستخدمون بها الجن، ويقولون: إن سليمان كان يستخدمهم بها، حتى يقولوا: إن هذه الأسماء كانت مكتوبة على تاجه، وهذا صورة خاتمه، وهذا كلام آصف بن برخيا إلى أمثال ذلك مما يضيفونه إليه، وهو كذب على سليمان. وقد ذكر ذلك علماء المسلمين في تفسير قوله تعالى:{ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون} [البقرة: 101]
فذم سبحانه من عدل عن اتباع كتاب الله ورسله، واتبع ما تتلوه الشياطين على عهد سليمان، وبين سبحانه أن سليمان لم يكفر ولكن الشياطين كفروا، وأنهم يعلمون الناس السحر، وما أنزل على الملكين ببابل وأن الملكين: هاروت وماروت، ما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. وأخبر سبحانه أنهم لا يضرون به أحدا إلا بإذن الله،وأنهم يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ثم قال: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} [البقرة: 102] أي من نصيب، أي هؤلاء يعلمون أن صاحبه لا نصيب له في الآخرة، وإنما يطلبون أنهم يقضون به أغراضهم الدنيوية لما لهم في ذلك من الهوى، وذلك ضار لهم لا نافع، كما قال في المشرك: {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه} [الحج: 13] قال تعالى: {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون} [البقرة: 103]
فبين سبحانه أنه بالإيمان والتقوى يحصل من ثواب الله ما هو خير لهم من هذا، فإنهم إنما يطلبونه لما يرجون به من الخير لهم، وهذا خير لهم، وهذا كقوله: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم} [الجمعة: 9]فإن ما تطلبه النفوس فيه لها لذة، يجعل خيرا بذلك الاعتبار، لكن إذا كان الألم زائدا على اللذة كان شره أعظم من خيره. والشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فهي تأمر بما تترجح مصلحته، وإن كان فيه مفسدة مرجوحة كالجهاد، وتنهى عما ترجحت مفسدته، وإن كان فيه مصلحة مرجوحة كتناول المحرمات من الخمر وغيره. ولهذا أمر تعالى أن نأخذ بأحسن ما أنزل إلينا من ربنا. فالأحسن: إما واجب وإما مستحب، قال تعالى: {فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} [الأعراف: 145] وقال: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر: 55] فأمر باتباع الأحسن والأخذ به، وقال تعالى:
{فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله} [الزمر: 17] فاقتضى أن غيرهم لم يهده، وهذا يقتضي وجوب الأخذ بالأحسن، وهو مشكل، وقد تكلم الناس فيه، ونظيره قوله تعالى:{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم} [الإسراء: 53]، وقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة} [المؤمنون: 96] مع قوله تعالى في موضع آخر: {ويدرءون بالحسنة السيئة} [الرعد: 22]، وقال تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125]، وقال: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت: 46]، وقال تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن في موضعين.
وقد يقال: هذا نظير قوله تعالى: فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم، وقوله تعالى: آلله خير أم ما يشركون، وقوله تعالى: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين، وقوله: والله خير وأبقى، وقوله: والآخرة خير وأبقى، وقوله: فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا وقوله أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا، وقوله تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا} [النساء: 125]، وقوله تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8]، وقوله: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا} [النساء: 66] ونظائر هذا كثيرة، مما يذكر فيه أن المأمور به خير وأحسن من المنهي عنه، وإن كان الأول واجبا والثاني محرما.
وذلك لأن المأمور به قد يشتمل على مفسدة مرجوحة، والمنهي عنه يشتمل على مصلحة مرجوحة، فيكون باعتبار ذلك في هذا خير وحسن، وفي هذا شر وسيئ، لكن هذا خير وأحسن وإن كان واجبا. فقوله تعالى: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر: 55] هو أمر بالأحسن من فعل المأمور أو ترك المحظور، وهو يتناول الأمر بالواجب والمستحب، فإن كلاهما أحسن من المحرم والمكروه. لكن يكون الأمر أمر إيجاب، وأمر استحباب، كما أمر بالإحسان في قوله تعالى: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195] والإحسان منه واجب، ومنه مستحب.
(فصل: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله من الدين؛ فإن رسالة الله: إما إخبار وإما إنشاء. فالإخبار عن نفسه وعن خلقه: مثل التوحيد والقصص الذي يندرج فيه الوعد والوعيد. والإنشاء الأمر والنهي والإباحة.

وهذا كما ذكر في أن: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن؛ لتضمنها ثلث التوحيد؛ إذ هو قصص؛ وتوحيد؛ وأمر. وقوله سبحانه في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} هو بيان لكمال رسالته؛ فإنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف ونهى عن كل منكر؛ وأحل كل طيب وحرم كل خبيث؛ ولهذا روي عنه أنه قال: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}. وقال في الحديث المتفق عليه: {مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة؛ فكان الناس يطيفون بها ويعجبون من حسنها؛ ويقولون: لولا موضع اللبنة فأنا تلك اللبنة}. فبه كمل دين الله المتضمن للأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر وإحلال كل طيب وتحريم كل خبيث.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #170  
قديم 07-08-2022, 11:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ آل عمران
المجلد الخامس
الحلقة( 170)

من صــ 51 الى صـ 60


وأما من قبله من الرسل فقد كان يحرم على أممهم بعض الطيبات كما قال: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم}. وربما لم يحرم عليهم جميع الخبائث كما قال تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة}. وتحريم الخبائث يندرج في معنى " النهي عن المنكر " كما أن إحلال الطيبات يندرج في " الأمر بالمعروف " لأن تحريم الطيبات مما نهى الله عنه وكذلك الأمر بجميع المعروف والنهي عن كل منكر مما لم يتم إلا للرسول؛ الذي تمم الله به مكارم الأخلاق المندرجة في المعروف وقد قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} فقد أكمل الله لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا. وكذلك وصف الأمة بما وصف به نبيها حيث قال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}. وقال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} ولهذا قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة. فبين سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس:

فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحسانا إليهم؛ لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر لكل أحد وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم وهذا كمال النفع للخلق. وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف؛ ولا نهوا كل أحد عن كل منكر ولا جاهدوا على ذلك. بل منهم من لم يجاهد والذين جاهدوا كبني إسرائيل فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم كما يقاتل الصائل الظالم؛ لا لدعوة المجاهدين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما قال موسى لقومه: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين} {قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} إلى قوله: {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}.

وقال تعالى: {ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} " فعللوا القتال بأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم ومع هذا فكانوا ناكلين عما أمروا به من ذلك؛ ولهذا لم تحل لهم الغنائم؛ ولم يكونوا يطئون بملك اليمين. ومعلوم أن أعظم الأمم المؤمنين قبلنا بنو إسرائيل؛ كما جاء في الحديث المتفق على صحته في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما {قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: عرضت علي الأمم؛ فجعل يمر النبي ومعه الرجل؛ والنبي معه الرجلان؛ والنبي معه الرهط؛ والنبي ليس معه أحد ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق فرجوت أن يكون أمتي؛ فقيل: هذا موسى وقومه. ثم قيل لي: انظر فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق فقيل لي: انظر هكذا وهكذا فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق فقيل: هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب فتفرق الناس ولم يبين لهم فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك وكنا آمنا بالله ورسوله؛ ولكن هؤلاء أبناؤنا فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
هم الذين لا يتطيرون والا يكتوون؛ ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون: فقام عكاشة بن محصن فقال:أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: نعم فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟ فقال: سبقك بها عكاشة}. ولهذا كان إجماع هذه الأمة حجة؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر؛ فلو اتفقوا على إباحة محرم أو إسقاط واجب؛ أو تحريم حلال أو إخبار عن الله تعالى؛ أو خلقه بباطل: لكانوا متصفين بالأمر بمنكر والنهي عن معروف: من الكلم الطيب والعمل الصالح؛ بل الآية تقتضي أن ما لم تأمر به الأمة فليس من المعروف وما لم تنه عنه فليس من المنكر. وإذا كانت آمرة بكل معروف ناهية عن كل منكر: فكيف يجوز أن تأمر كلها بمنكر أو تنهى كلها عن معروف؟ والله تعالى كما أخبر بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقد أوجب ذلك على الكفاية منها بقوله: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}.
وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي منها إلى كل مكلف في العالم؛ إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة: فكيف يشترط فيما هو من توابعها؟ بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم. ثم إذا فرطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه:كان التفريط منهم لا منه. وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضا كذلك فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته؛ إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان}.

وإذا كان كذلك فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به؛ ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر. وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب والله لا يحب الفساد؛ بل كل ما أمر الله به فهو صلاح.

وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذم المفسدين في غير موضع فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم وهذا معنى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال. وذلك يكون تارة بالقلب؛ وتارة باللسان؛ وتارة باليد. فأما القلب فيجب بكل حال؛ إذ لا ضرر في فعله ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {وذلك أدنى - أو - أضعف الإيمان} وقال: {ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل}.
وقيل لابن مسعود: من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان. وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلا لهذه الآية؛ كما {قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في خطبته: إنكم تقرءون هذه الآية {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإنكم تضعونها في غير موضعها وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه}.
والفريق الثاني: من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقا؛ من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح وما يقدر عليه وما لا يقدر كما في {حديث أبي ثعلبة الخشني: سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمرا لا يدان لك به فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام؛ فإن من ورائك أيام الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر للعامل فيهن كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله}. فيأتي بالأمر والنهي معتقدا أنه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو معتد في حدوده كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء؛ كالخوارج والمعتزلة والرافضة؛ وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد على ذلك وكان فساده أعظم من صلاحه؛ ولهذا {أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة؛ ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة وقال: أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم}. وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع. ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة.
وأما أهل الأهواء - كالمعتزلة - فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة: " التوحيد " الذي هو سلب الصفات؛ و " العدل " الذي هو التكذيب بالقدر؛ و " المنزلة بين المنزلتين " و " إنفاذ الوعيد " و " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " الذي منه قتال الأئمة. وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع. وجماع ذلك داخل في " القاعدة العامة ":

فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد. فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به؛ بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته؛ لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر وقل إن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام. وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما؛ بل إما أن يفعلوهما جميعا؛ أو يتركوها جميعا: لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا من منكر؛ ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به؛ وإن استلزم ما هو دونه من المنكر.

ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه؛ بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات وإن كان المنكر أغلب نهى عنه؛ وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف. ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرا بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما. فتارة يصلح الأمر؛ وتارة يصلح النهي؛ وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين؛ وذلك في الأمور المعينة الواقعة.
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا وينهى عن المنكر مطلقا. وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ويحمد محمودها ويذم مذمومها؛ بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه. وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق؛ فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية؛ وإذا تركها كان عاصيا فترك الأمر الواجب معصية؛ وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية.

وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم؛ وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدا يقتل أصحابه؛ ولهذا لما خاطب الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه وقال له سعد بن معاذ قولا الذي أحسن فيه: حمي له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه. وأصل هذا أن تكون محبة الإنسان المعروف وبغضه للمنكر؛ وإرادته لهذا؛ وكراهته لهذا: موافقة لحب الله وبغضه وإرادته وكراهته الشرعيين. وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته: فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وقد قال: {فاتقوا الله ما استطعتم}. فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة؛ لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 349.68 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 343.61 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (1.73%)]