كيف تنتصر الفعالية على الانفعالية وفي محكمة رسمية؟ - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          غربة الدين في ممالك المادة والهوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          أهمية الوقت والتخطيط في حياة الشاب المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          الإسلام والغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »          من أساليب تربية الأبناء: تعليمهم مراقبة الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          همسة في أذن الآباء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 49 )           »          تعظيم خطاب الله عزوجل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          رسـائـل الإصـلاح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 54 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى التنمية البشرية وعلم النفس

ملتقى التنمية البشرية وعلم النفس ملتقى يختص بالتنمية البشرية والمهارات العقلية وإدارة الأعمال وتطوير الذات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-10-2022, 03:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي كيف تنتصر الفعالية على الانفعالية وفي محكمة رسمية؟

كيف تنتصر الفعالية على الانفعالية وفي محكمة رسمية؟
عبدالمجيد قناوي

كعادته في كل صباح يلتحق فارس بمنصب عمله في الساعة الثامنة من كل يوم، يتعامل مع المواطنين ببشاشة لا تفارقه وبأسلوب دبلوماسي، إنها أخلاقه وسلوكه وطبيعته، وفي واجباته أثناء تأدية مهامه يتميَّز بالجديَّة في قضاء حوائجهم ومصالحهم، وذلك خلال تسليم بطاقات وشهادات الإقامة، وإبرام عقود البيع للعقارات المنقولة للمركبات بكل أنواعها والدرَّاجات النارية، مع المصادقة على التوقيعات لمختلف وثائق الحالة المدنية، إنَّه موظف مثالي يُقتدى به.

لكن هذا اليوم ليس كباقي الأيام، إنه يوم الأحد 24 من شهر ديسمبر من سنة 1995، يتقدم مواطن إلى أحد المكاتب التابعة لمصلحته، بهدف المصادقة على مجموعة وثائق؛ حيث وضعت الكاتبة المكلفة الختم على الوثيقة الأولى ثم الثانية، وعند الثالثة توقفت وسألته: أين هم أصحاب الوكالات؟ وأين هي بطاقات هُوياتهم؟ أجابها المواطن: إنه يعرفهم ولا داعي لحضورهم، فاستنجدت بزميلٍ كان بالقرب منها، وكانت له الإجابة نفسها؛ حيث إنه - طبقًا للقانون المعمول به - تتم المصادقة على مثل هذه الوثائق بحضور المعني بالأمر مع إظهار بطاقة هويته.

استشارتْ رئيس المصلحة وكان حينها فارس، فتقدم منها مستفسرًا عن الأمر! وإذا بالمواطن يهيجُ ثائرًا وبانفعالية، متفوِّهًا بكلمات: ما شأنك أنت؟، وبوابل من العبارات السوقية والإهانات، ولم يكتف بذلك فقط، بل واصل:
سأدخل المكتب، وكلمات أخرى يستحيي الإنسان من ذكرها!
تماسك فارس، ونظر إلى المعني بالأمر وتصرَّف كرجل واع ومسؤول، ثم سأله:
أين هم أصحاب هذه الوثائق؟ فردَّ عليه بالإجابة نفسها: إنه يعرفهم ولا داعي لحضورهم.

حمل فارس قلمًا وشطب الختم الندي الذي وضعته الكاتبة على الوثيقة الأولى ثم الثانية، متأسفًا لعدم المصادقة على تلك الوثائق، وأعادهم له طالبًا منه حضور المعنيين، وعاد إلى مكتبه، فازداد المواطن غضبًا، وردد العبارات السوقية نفسها مع الإهانات أمام مرأى ومسامع الأشخاص الحاضرين! كالإنسان الذي فقد أعصابه وضاع منه ماله، ناسيًا نفسه بأنه في "مكان عام"، ثم دخل المكتب وأمسك فارس من رقبته، فتسبب في جرحه بأظافره الماضية؛ حيث تركت خدوشًا سال منها قليل من الدم، ثم وضع إصبعه السبابة كالإبرة في وسط جسمه على الخصر مُهددًا إيَّاه، قائلًا له: سأتخلص منك! سأقتلك! ما دخلك أنت هنا؟!
اخرج من هذه المصلحة! اخرج من هذه المؤسسة! يعتقد أن فارس لا مهمة له، ولا يريده أنه يتدخل، والأمر لا يَعنيه!

واللافت للانتباه أن هذا المواطن شخص غير عادي، ومسؤول قيادي في الأوساط النقابية، وعلى مستوى عالٍ من الثقافة القانونية للدولة، لكنَّ الله أعطى فارسًا الصبر والحكمة وقوة ضبط النفس؛ رحمة منه سبحانه وتعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [البقرة: 269]، ردَّ عليه بهدوء:
"بارَك الله فيك يا سي فلان"؛ بمعنى: يا سيد فلان، وردَّدها مرتين.

وبكل وقاحة وقلة أدب أنهى هذا المواطن فَعْلته وتعدِّيه بهذه الكلمة الفرنسية: (Minable) ومعناها: "يا تافه، ويا حقير"، ثم خرج مسرعًا.
يتقدم مواطنان اثنان من العوام - كانا على مَقْرُبَةٍ مِنْه وشاهَدَا الحادثة - إلى مكتب فارس مُظهرين بطاقة هُويتهما له، طالبين منه أن يقدم شكوى إلى المسؤولين المعنيين، أو أي جهة وصية، وهم على استعداد للشهادة، معبرين عن استيائهم مِن مثل هذه السلوكيات الحيوانية غير الإنسانية وغير الحضارية، مردِّدين: سبحان الله، ما الذي يحدث؟ ما بينك وبينه؟

فارس: لا شيء!
ثم جلس على كرسي مكتبه في هدوء، حمل ورقة وقلمًا، وكتب تقريرًا مفصلًا عن الحادثة، مع ذكر أسماء الشهود من الموظفين، وهم اثنان: رجل وامرأة، ولم يذكر المواطنين، في اعتقاده أن الأمر يُعتبر شأنًا داخليًّا وخاصًّا ليس عامًّا، وفي مصلحة من مصالح المؤسسة، إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك.
أمضى التقرير ورفَعه مباشرة إلى مكتب ديوان الرئيس (رئيس البلدية)، فقابله خارج مكتبه، وأخبره بالأمر.

ردَّ عليه الرئيس:
إن هذا الشخص كان بمكتبي قبل دقائق، ولماذا لم تأتِني من قبل؟ مواصلًا سيره إلى الخارج كأن شيئًا لم يحدث!
استغرب فارس من هذا السلوك وردة فعل هذا الرئيس!
في المساء يتصل فارس بالمسؤول الثاني للمؤسسة ومكتبه في الأمانة العامة لإعلامِه بما حدث، فيُفاجأ بوجود المواطن المعني المُشتكى منه جالسًا برُفقة مديرين وإطارات تابعين للمؤسسة، قدَّم فارس التحية والسلام كعادته إلى السيد الأمين العام ومَن معه.

رُدَّت التحية من الجميع إلا تحية ذلك المواطن، كانت تحية مخالفة وفيها نوع من الكبرياء والخُيلاء، وبلهجة فرنسية:
ماذا أقول لك يا فارس: «Vous n’êtes qu’un minable»؟
ومعناها باللغة العربية: "ما أنت يا فارس سوى رجل تافه وحقير"، ثم سأله الأمين العام: ما بك يا فارس؟ وما وراءك؟

أخذ فارس نفَسًا عميقًا، ثم أجابه بكل تواضع وهدوء:
ليس لي ما أقوله أو أُضيفه لك سيدي الأمين العام، بعد الذي قاله ضيفُك الكريم، وما سَمِعَتْه أذُناكَ ما هو إلا تكْمِلة لما حدث صباحًا من شجارٍ بالمصلحة، وذلك بسبب وثائق ناقصة غير مطابقة للقانون، وتصرُّفه هذا اللاأخلاقي واللاحضاري يؤكِّد ذلك، مُشيرًا بإصبع سبابة يده اليمنى إلى آثار الخدوش على رقبته، ولقد رفعت تقريرًا مفصلًا إلى سيادة الرئيس المسؤول الأول عن المؤسسة، وسوف تصلك نسخة منه بعد تسجيلها بمكتب الترتيب، ورجع إلى الخلف خطوات نحو الباب، ثم ردَّ على ذلك المواطن وبلهجة فرنسية:
(je vous remercie monsieur ) بمعنى مشْكورٌ، يا سيدي الكريم.
حسبي الله ونعم الوكيل، وردَّدها فارس ثلاث مرات، وعاد إلى مكتبه.

فكَّر فارس جيدًا في الأمر ورأى أن المسؤولين من الأمين العام إلى رئيس المؤسسة كلهم متواطؤون ولم يعطوا الأمر أهميةً، وكأن شيئًا لم يحدث، وهذا فيه من الإهانة ما لا يُسكَت عنه، فلا بد من رد الاعتبار، وأصبحت القضية قضية مبدأ، ولكن عليه أن يلجأ إلى مؤسسة أخرى أكثر سلطة ومحايدة، ففكَّر في سلطة القضاء بالمحكمة.

في اليوم التالي - وكان يوم الاثنين - حرَّر فارس دعوى قضائية وسرَد فيها الحادثة بكل حيثياتها وتفاصيلها، مع إضافة الشهود الإطاريين والمديرين الحاضرين بمكتب الأمين العام، كشهود إضافيين لتدعيم قضيته، ثم اتجه مباشرة إلى المحكمة التي لا تبعد عن المؤسسة سوى مائتين وخمسين إلى ثلاثمائة متر بالتقريب، وطلب مقابلة السيد وكيل النيابة، فكان له ذلك، لم تستدعِ النيابة جميع الأطراف، فقط اكتفت بشاهدي الحادثة الأولى، وبعد سماع أقوالهم، كُيِّفت القضية كجنحة، فارس ضحية والمواطن متهم، ثم حُدِّد تاريخ الجلسة إلى ما بعد خمسة عشر يومًا، وأُرسِلت الاستدعاءات إلى كل الأطراف.

وبعد التحقيق الأوَّلي لمصالح الأمن بمحافظة الشرطة - حيث سمع كل الأطراف - كانت أول جلسة بمكتب وكيل النيابة؛ حيث حضر كل الأطراف ما عدا الأمين العام، والشاهدين الإضافيين في الحادثة الثانية، وبعد استجواب الجميع وسماع أقوالهم، وبعد الاطلاع على مواد قانون الإجراءات الجزائي، ومواد قانون العقوبات، قرَّر وكيل النيابة طبقًا لقوانين الدولة أن التهمة ثابتة على المتهم والإدانة هي: "إهانة موظف أثناء تأدية مهامه"، وتسليط عقوبة حبسٍ نافذ من شهرين إلى سنتين.

ثم نظر وكيل النيابة إلى فارس وسأله: هل ضربت المتهم؟
فارس: لا سيدي، وعلامات التعجب بائنة على وجهه!
وكيل النيابة: إن المتهم قدم شهادة طبية مستخرجة من مستشفى المدينة، تفيد بأنك قمت بضرب المتهم وخلَّفت له جروحًا نال على إثرها عجزًا عن العمل لمدة 20 يومًا، وعقوبتها حبس نافذ من شهرين إلى خمس سنوات.

ومِن ثَمَّ فقد حَدَثَ تَحَوُّلٌ فِي القضية وأصبحت قضيتين:
الأولى كُيِّفت "جنحة"،والإدانة: إهانة موظف أثناء تأدية مهامه"، وفيها فارس ضحية وتسليط عقوبة حبس نافذ على المتهم من شهرين إلى سنتين.
أما القضية الثانية - وفيها فارس متهم بالضرب العمدي والجروح - فقد تَمَّ تكييفها أيضًا على أنها "جنحة"، وتسليط العقوبة عليه من شهرين إلى خمسة سنوات.

انقلبت القضية رأسًا على عقب؛ المتهم أصبح ضحية، والضحية أصبح متهمًا وبعقوبة أكثر بثلاث سنوات في قضية مُفْتعلة!
اندهش الشهود لهذه الخرجة غير المتوقعة، أما فارس فقد تنبَّه إلى أن القضية أصبحت فيها ملابسات وفيها نوع من التخويف، وكأن الأمر "مقايضة"، فاستأذن من وكيل النيابة لإحضار محامٍ.

ونظرًا لملابسات القضية والأسباب التي أدت إلى ارتكاب المتهم للجُرم المسند إليه، أمر وكيل النيابة كاتب الضبط - (وهو كاتبه) - بتحويل القضيتين إلى رئيس المحكمة للبت فيها في جلسة علنية، وذلك بعد خمسة عشر يومًا.
خرج الجميع من مكتب النيابة، وهنا همس المتهم إلى آذان الشهود على أن ينقلوا رسالة شفاهية للضحية "فارس" بأن يتنازل عن القضية الأولى، وهو يتنازل عن القضية الثانية، لكن هذا الأخير رفض ذلك وازداد إرادة وعزمًا على أن يتم الفصل في هذه القضية في الجلسة العلنية التي سيترأَّسها رئيس المحكمة، ويأخذ كل ذي حق حقَّه، وتأكَّد أنها مكيدة!

يتصل فارس بمحامي المدينة، فرفض الجميع أخذ القضية، بسبب أن المتهم شخص غير عادي، وإطار مسؤول بالدولة، ونصح أحدهم فارسًا بأنه من المستحسن أن يكون المحامي الذي سيتولى القضية ويترافع عنه من المدن المجاورة، ولا يكون من المنطقة نفسها.
اتصل فارس على أخيه الأكبر - وهو مدير لإحدى الشركات التابعة للدولة - لاستشارته في الأمر طالبًا منه المساعدة، فأرسله إلى محامٍ من أصدقائه بولاية مجاورة؛ حيث اتفق فارس معه على إعطائه نصف مصاريف وأتعاب القضية مقدمًا، وقد قُدِّرت تكاليفها براتب فارس لمدة شهرين، على أن يكمل له الباقي بعد نهاية القضيتين.

بعد هذا الاتفاق مباشرة، ينتقل المحامي الذي أُسندت إليه القضية إلى المحكمة لتولِّي القضيتين، والحصول على تصريح بالتكليف، وبعد حصوله على إذن رسمي، توجه إلى مستشفى المدينة لمعرفة أين يَقطن أصحاب القضية، ويبدأ في التحقيق!
حيث طلَب من إدارة المستشفى إعطاءه جدولَ المداومات لجميع الأطباء في الشهر الذي وقعت فيه الحادثة، فاتَّضح من أول الأمر أن الطبيب الذي سلَّم الشهادة الطبية لم يكن من المداومين يوم الحادثة، وهذا يعني أن الشهادة الطبية سُلِّمت من خارج المستشفى، فاحتفظ المحامي بهذه المعلومة إلى يوم الجلسة المحددة بالمحكمة كسند قوي يُدعم القضية، لتبرئة موكله فارس من التهمة الموجَّهة إليه.

وفي يوم من الأيام، وبينما فارس ذاهب مع أبنائه ليوصلهم إلى المدرسة، وهو في طريقه التقى بأحد الزملاء - وكان يعمل طبيبًا بالمستشفى - جالسًا عند أحد بائعي الأدوات المنزلية، سأله فارس بحُسن نيَّة وعفوية:
أيُّها الطبيب، إذا تقدَّم لكم شخص مصاب بجروح نتيجة شجار مع أحد الأشخاص، وطلب منكم شهادة طبية لاستعمالها في إطار ما يَسمح به القانون، فكيف تُقدرون العجز؟ وما هي مدته؟

الطبيب: إن الشهادة التي نسلِّمها للمريض إذا كانت مدتها تفوق خمسة عشر يومًا، يَدْخُل صاحبها - أي: المتسبب في هذا العجز - السجن مباشرة طبقًا لقوانين الدولة.
فتغيَّر لون وجهه، وبفضول سأل فارس: لماذا هذا السؤال؟
فارس: إنه أنا الشخص المعني.
الطبيب: أنت!

فارس: وما الغريب في ذلك؟! لقد رفع بي أحد المواطنين دعوى قضائية إلى وكيل النيابة، وإني مدان بتهمة ضرب وجرح عمدي، وعقوبتي حسب تصريح وكيل النيابة "السجن النافذ من شهرين اثنين إلى خمس سنوات".
الطبيب: هذا مستحيل!!

إني أعرفك جيدًا، أنت لست بالشخص الذي يقوم بهذا النوع من الضرب غير المشروع، وأنا على يقين أن كل سكان المدينة يشهدون لك بذلك، إنك رجل مسالم، ذو سيرة حسنة، وأخلاق عالية، ومحترم!
سبحان الله! ما الذي يحدث في هذا البلد؟!
الطبيب: ومن هو هذا الشخص؟!
فارس: إنه المواطن فلان.
الطبيب: المواطن فلان! أنت متأكد؟!

فارس: وما الذي يرغمني على الكذب وأنا مدان بهذه التهمة، ولقد جرى التحقيق في القضية بمصالح الشرطة، وحُدِّد تاريخ الجلسة بالمحكمة بعد أسبوعين؟!
راح يضرب بيديه على رُكبتيه وهو ينادي صاحب المحل بأعلى صوته: لقد خُدعت، لقد خُدعت، ثم طلب من فارس وهو يترجَّاه ألا يتخذ أي إجراء؛ لأنه سوف يتوسط لإصلاح هذا الأمر!
تبيَّن لفارس أن الطبيب له يد في هذه القضية!

في اليوم التالي أرسل الطبيب إلى فارس عن طريق صِهره، وطلب منه مقابلته بمكتبه بأحد الملحقات التابعة للمستشفى، وصل فارس إلى المكان، ووجد الطبيب في انتظاره،
اعترف الطبيب بعَظْمةِ لسانه أنه الفاعل؛ حيث حرَّر شهادة طبية وفيها عجز عن العمل لمدة 20 يومًا، سلَّمها إلى هذا المواطن، وأكَّد له أنه خُدِع بالثقة، موضحًا أن هذا المواطن زميل له، وطلبها على أساس أنه يُخوف بها أحد الموظفين فقط، هذا ما في الأمر، ثم أظهر له النسخة الثانية لأصل الوصفة الطبية!

الطبيب: والآن ما العمل يا فارس؟
أخذ فارس نفَسًا طويلًا، ورفع رأسه إلى الطبيب، وأمعن فيه النظر مُشَدِّدًا في وجهه، ثم قال له:
أهكذا! أهكذا! وبكل بساطة تقومون بتسليم الوصفات الطبية إلى أشخاص غرباء، دون التأكد من صحة تصريحاتهم، إن كانوا مصابين حقيقة أم لا، ها قد أوقعت نفسك في ورطة! فبمجرد أن يتقدم لكم شخص تعرفونه - والغريب في الأمر أنه سليم معافى الجسد، ولا يوجد عليه أية علامة أو آثار للضرب والجرح على جسمه، وأشار له بسبَّابة يده إلى علامة الخدش وآثار الجرع التي ما زالت بعدُ في رقبته - تُسلمون له شهادة، مُعتمدًا على تصريحه الشفوي وتُصدقه، وأنت طبيب مُحلّف أدَّيتَ قسمًا أمام الله وأمام المحكمة!

أين هو ضميركم المهني؟ أين خوفكم من الله؟
حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل فيكم!
فارس: هذه الوصفة يا سيدي الطبيب، رفع بها زميلكم أو صديقكم الكذاب دعوى قضائية أمام المحكمة متهمًا فيها شخصي، وأني اعتديت عليه بواسطة لكمة وخلَّفت له جروحًا!

وراح فارس يصيح في وجه الطبيب: أرأيت، أرأيت هذه الجروح حتى تُسلم له هذه الشهادة، وتَمنح له على إثرها عجزًا عن العمل لمدة 20 يومًا، وأنت البارحة شرحت لي أن تسليم الشهادة لأكثر من خمسة عشر يومًا يعاقب صاحبها بالحبس النافذ مباشرة!
إذًا أنت شريك في الجريمة، وتريدني أن أدخل السجن، نعم السجن، وأنا لا آكل الحساء وحْدي في السجن، ولكن برُفقتك أيُّها الطبيب المحترم!
لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله.

الطبيب: علينا حل المعضلة، فأنا رجل زاوية وأقرأ القرآن، وإني موظف بالدولة، ولا أخاف من شيء، ولي أصدقاء في الوزارة!
عبارات تدل على ضَعف وغفلة إنسان، وغرور ولا مبالاة في أداء واجب مهني بامتياز، أو تدل على ندم، أو على كبرياء نفس، أو خوف، بل اعتراف بأنه متهم، مشارك في الجريمة، قُبض عليه متلبسًا، ويفتش عن طريقة للخروج من المأزق الذي أوقع نفسه فيه، نادمًا ومعترفًا بخطئه، ولعله يستعطف فارسًا لمساعدته وإيجاد مخرجٍ له.

في الأخير قال لفارس وهو يترجاه: ماذا تقترح؟
فارس أعطاه الله سبحانه وتعالى من الحكمة، فقال له:
أنت سلمت هذا الشخص وصفة طبية فيها 20 يومًا تقديرًا للعجز عن العمل.
وأنا أيضًا من حقي أن أطالب بوصفة أخرى فيها واحد وعشرون يومًا لتَنقض الأولى بفارق يوم.

نهض الطبيب من مكانه: ها، ها، ها، وضحِك بصوت عالٍ، فأُصيب بالهوس، ولكن دون غفلة عن توريط نفسه، إنها صيحة ضَمِيرٍ، واستيقظ الرجل من نومه، وردُّ فعلٍ يَقظ.
الطبيب: أتريد أن تدخلني إلى السجن؟!
فارس: لا، معاذَ الله، فقط أردت وضعك في الأمر الواقع لإلغاء الشهادة الأولى، إنها الحقيقة المُرة، وأنت ماذا تقترح؟
الطبيب: إني أعرف وكيل النيابة، فهو صديقي وسيساعدنا في إخراجنا من هذه الورطة!
فارس: سيخرجك أنت من هذه الورطة، وليس أنا!
المهم فلنذهب إليه الآن.

خرَجَا من المكتب وأوْقَفَا سيارة أجرة إلى وِجهة المحكمة، دخلا المحكمة وبَقِيَا ينتظران وصول وكيل النيابة، وإذا به يمر أمامهم داخلًا مكتبه، ولاحَظ فارس أن الطبيب لم يحرِّك ساكنًا، فأخبره واتَّضح أن الشخص الذي يعرفه تم تحويله إلى محكمة أخرى، فغيَّر وِجهته إلى قاضي التحقيق الذي يدَّعي أنَّه صديقه؛ حيث استقبله وبقِي فارس في قاعة الانتظار، وما إن تحدَّثا عن القضية، حتى سمِعت أصواتهما، وسمع فارس دفاع قاضي التحقيق عن شخصه هو، (فارس، فحمد الله على ذلك)، ولامَ الطبيب على فَعْلته، وهدَّده بأن هذه المرة سيسحب شهادته المهنية - شهادة كفاءة الطبيب - منه، مذكرًا إياه بأن هذا خطؤه الثاني في المهنة حسب أقواله.

وانتهى اللقاء بطلب وكيل النيابة أن يترك له الوقت للنظر في كيفية الخروج من هذهالمُعْضِلة.
رأى فارس أنه وضع الجميع في إحراج، نتيجة استهتارهم وغفلتهم، وعدم جديتهم في العمل، وخاصة المواطن المتهم والطبيب على السواء.
جاء يوم الجلسة الأول، وحضر كل الأطراف، ما عدا الشهود الإضافيين والأمين العام، فأُجِلَّت القضية أسبوعين، والشيء نفسه قد حصل في المرة الثانية، فلم يَحضُر الشهود الإضافيون ولا الأمين العام، فأُجلت القضية إلى أسبوعين آخرين!

ولكن هذه المرة أصدر أمرًا في جلسته العلنية وهو:
إحضار الشهود الإضافيين بالقوة العمومية.
وبعد أسبوعين وقف الجميع كل من المتهم والضحية، والشهود الأوليين، والشهود الإضافيين، والأمين العام، ومعهم المحامون في جلسة علنية وبحضور جمهور ملأَ القاعة عن آخرها.

وصل دور القضيتين، وقف المتهمان وفي الوقت نفسه ضحيتان: (القضية (1): فارس ضحية، والمواطن متهم، والقضية (2): فارس متهم، والمواطن ضحية).
بدأت المرافعة، ومُنِحت الكلمة للمحامين، كل منهما يرافع ويدافع، مقدمًا الأدلة والبراهين والإثباتات، مع استنطاق الشهود من حين لآخر، وكذلك بالنسبة للنيابة.

وتبيَّن من دراسة الملفات وتبادُل التُّهم والدفاع الذي دار بالجلسة، فمن بين الأسئلة التي وُجِّهت من طرف المحكمة ومحامي فارس إلى المتهم وعلى إثرها ضحك الجمهور الحاضر:
رئيس المحمة: أين لكمته يا فارس؟ وفي أي مكان؟
في العمل أم أمام بيته؟ وكيف لحِقت به؟

ودائمًا مع رئيس المحكمة: أيعقل أن يكون فارس ضعيف البنية، هذا الذي هو أمامكم؟ أفي استطاعته ضربكم - مشيرًا بيده إلى المواطن المتهم - وأنا أرى أنك أقوى منه بنيةً وطولًا كما ترون؟!
وهو يردد كلمة: أيعقل هذا! عجبًا!

ثم يصر رئيس المحكمة ويؤكِّد للمتهم: أتدري ما معنى كلمة «Minable! (وهي كلمة فرنسية بمعنى "رجل تافه"، تتفوه بها بكبرياء واستهتار لشخص هذا العبد الضعيف المتواضع، وأنت إطار سامٍ في الدولة، وتَكبره سنًّا وطولًا وجسمًا بما يَقرُب من 10 سنوات أو أكثر!
ها هو يشير بيده إلى فارس، اليوم وبهذه الكلمة التي يعرف معناها وقيمتها لقد أتى بك إلينا؛ لنشرح لك معنى هذه الكلمة، لقد أحسن ما فعل وتصرف بحكمة وبطريقة حضارية، برفع دعوى قضائية أمامنا هنا في هذه القاعة، وهو يدندن بإصبع السبَّابة على مكتبه، وطبقًا للقانون سنسلط عليك عقوبة لتأديبك.

وبعد الاستماع إلى النيابة، وبعد المداولات، قررت المحكمة علنًا وحضورًا ما يلي:
القضية الأولى: التي فيها فارس ضحية، تم تسليط عقوبة حبس نافذ لمدة شهرين، وتعويض قدره دينار رمزي، ردًّا للاعتبار والأضرار المعنوية التي لحقت بفارس، والمصاريف القضائية على عاتق المحكوم عليه.
أما القضية الثانية: التي فيها فارس متهم، كان الحكم بـ: "البراءة"، والمصاريف القضائية على الخزينة.

انفجرت القاعة بالتصفيق مع تعالي الأصوات في المحكمة، وكلمات معبرة عن إنصاف العدالة ونصرة الحق، مرددين عبارات: "يحيا العدل، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر".
وسُمِع من أحد الحاضرين وهو يعبر عن رأيه وتعاطفه بقوله: "سبحان الله العظيم"! لم أرَ في حياتي قط أن الباطل يمشي على رجلين مثلما رأيته اليوم، ولكن الحق كان له بالمرصاد، شكرًا لك، شكرًا لك وهو يُحيي فارسًا.

هكذا أصدر وأفصح به جهارًا في الجلسة العلنية المنعقدة بهذا التاريخ.
وبقِي اللغز في الطبيب مُسلِّم الشهادة الطبية الذي لم تُذكر سيرته أبدًا أثناء المرافعة، ولا أمام وكيل النيابة، ولا رئيس المحكمة، ولا أمام الدفاع.
سأل فارس محاميه خارج المحكمة لعله يجد جوابًا!

وكانت إجابة المحامي فعلًا شافية ومقنعة؛ حيث كان ردُّه:
لقد فُزت بقضيتك يا فارس وبالبراءة، وأخذ المواطن درسًا لا ينساه، وما يهمك الآن؟!
المحامي: كيف يذكر اسم الطبيب؟ فالمحكمة لم تجد خيارًا إلا تبرئتك، وإلا سيعاد النظر في التحقيق عن الشهادة، وتصبح قضية أخرى وتنتهي بمعاقبة الطبيب بالتزوير، وإدارة المستشفى بالإهمال، وهذا سيُطيل عُمر القضية الأصلية، وهي إهانتك كموظف أثناء تأدية مهامك، يكفي أنها أقامت عليه الحد معنويًّا، وكانت درسًا لأمثاله، حتى ولو سِرًّا، ولا يشاع الأمر ويمس بالنظام العام، فرئيس المحكمة كان واعيًا بالقضية وخباياها وملابساتها، وتصرَّف بحكمة إنَّه " قاضي حكيم"، وضرب عصفورين بحجر واحد.

شاع الخبر في المدينة إنه "الحدث"، وبدأت التهاني تتهافت على فارس لأكثر من شهر، ونُشِر الخبر في إحدى الصحف المكتوبة، وأصبح فارس شخصًا معروفًا يُقتدى به، ويستشار في الأمور القانونية ذات الطابع الأخلاقي، وبطريقة حضارية، إنها "الفعالية".

وهكذا:
تَنْتَصِرُ الفعالية على الانفِعالية في جلسَة علنِية، وفي مَحكمَة رسْمِية.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 67.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 65.36 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.79%)]