مكونات القصة القصيرة جدا وسماتها عند الأديبة الكويتية هيفاء السنعوسي - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11910 - عددالزوار : 190800 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 554 - عددالزوار : 92644 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 114 - عددالزوار : 56861 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 26158 )           »          شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 33 - عددالزوار : 714 )           »          الدين والحياة الدكتور أحمد النقيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 57 )           »          فبهداهم اقتده الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 55 )           »          يسن لمن شتم قوله: إني صائم وتأخير سحور وتعجيل فطر على رطب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 24 )           »          رمضان مدرسة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          أمور قد تخفى على بعض الناس في الصيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16-08-2022, 06:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي مكونات القصة القصيرة جدا وسماتها عند الأديبة الكويتية هيفاء السنعوسي

مكونات القصة القصيرة جدا وسماتها عند الأديبة الكويتية هيفاء السنعوسي


د. جميل حمداوي


توطئة:
تعد الدكتورة هيفاء السنعوسي من الأديبات الكويتيات المتميزات اللواتي تركن بصماتهن في الساحة الثقافية الكويتية بصفة خاصة، والساحة الثقافية العربية بصفة عامة. وهي كذلك أستاذة جامعية حاصلة على الدكتوراه من جامعة جلاسغو في بريطانيا في الأدب والنقد العربي الحديث. وقد تنوعت كتاباتها الأدبية بين الترجمة، ونظم الشعر، وكتابة الخواطر، والاهتمام بالمسرح، وتجريب الدراسة الأدبية والنقدية، والخوض في أدب الأطفال، وركوب هودج القصة، سواء أكانت قصيرة أم قصيرة جدا. ولها إصدارات عدة في مختلف الفنون والآداب، منها: (إنهم يرتدون الأقنعة! وقصص أخرى)، و (فضاءات الحب)، و (رحيل البحر وقصص أخرى)، و (الآنسة رزان وطبيب الأسنان)، و (القصة الكويتية شكلا ومضمونا)، و (شعر خليفة الوقيان بين الموقف الفكري والبناء الفني)، و(مقتطفات من الشعر الكويتي)، و(عقلك... جسدك يستغيثان من أجل راحة)، و (ضجيج)، و(الكتابة التعبيرية... كراسة تمرينات عملية)، و(شهرزان)، و(نقوش على وجه امرأة)...


وما يهمنا في هذه الأعمال كلها هو التوقف عند مجموعاتها القصصية القصيرة جداً لتبيان مميزاتها الفنية والجمالية والدلالية، كما يبدو ذلك جلياً في أضموماتها الثلاث: (إنهم يرتدون الأقنعة![1]) و (شهرزان) [2]، و (ضجيج) [3]. إذاً، ما أهم مكوناتها النصية تخطيبا وتحبيكا ومقصدية؟ وما سماتها الفنية والجمالية والسردية؟ هذا ما سوف نرصده في موضوعنا هذا.

المكونات القصصية والسردية:
نعني بالمكونات الأركان الثابتة في القصة القصيرة جدا، وهي عناصر ثابتة ودائما موجودة، مثل: القصصية، والحجم القصير جدا، والتكثيف، وفعلية الجملة، والتراكب، والتركيز، وانتقاء الأوصاف، والصورة الومضة...


لذا، فقصص هيفاء السنعوسي تتضمن مجموعة من المكونات السردية التي تتعلق بالقصة القصيرة جدا، ونحصرها في ما يلي:
القصصية:
تتوفر قصص هيفاء السنعوسي على مقومات الحبكة السردية المبنية على الحدث، والشخوص، والفضاء، والمنظور السردي، والوصف، والصيغة اللغوية والأسلوبية، كما يبدو ذلك في قصة (قلق) التي تتحدث عن طفلة لقيطة. ومن ثم، تستند هذه القصة إلى بداية وعقدة وحل، وتحوي الشخوص (الطفل، والأم، والشيخ). كما تشير إلى الفضاء (البيت والمستشفى)، والزمان (الليل)، والأسلوب (السرد)، والمنظور السردي (الرؤية من الخلف): "صرخات الطفل توقظها من نومها.


تفتح الضوء الجانبي، مشوشة على طفلها في السرير المجاور، تتواصل صرخاته...


تتوجه إليه، تحمله بضعف، تلحظ بللا. تعالج الموقف ببطء شديد.


تضع في فمه زجاجة الحليب...


تسحب الغطاء وتغطي وجهها. تغيب في ظلمة لا تود مغادرتها.


تأتي إلى ذهنها لوحة مؤلمة لرجل كبير يتهاوى على سرير الموت في المستشفى بعد صراع مع أمراض الشيخوخة... يختفي ويترك مراهقة في ثوب امرأة. [4]".


وهكذا، يتبين لنا، من خلال هذه القصة، أن هذا النص القصير جدا قد استوفي كل العنصر الحبكة السردية التي تتوفر عليها القصة بصفة عامة، والقصة القصيرة جدا بصفة خاصة.

الحجم القصير جدا:
وظفت هيفاء السنعوسي قصصا لا يتعدى حجمها نصف صفحة في أضموماتها الثلاث. وبذلك، تكتب المبدعة نصوصا متميزة تندرج ضمن جنس أدبي جديد هو جنس القصة القصيرة جدا، كما يبدو ذلك جليا في قصتها (معادلة) التي تصور خوف الفتاة الجميلة من الموت المفاجئ أثناء الولادة: " تلد فتاة جميلة بعد ساعات من المعاناة في حجرة الولادة.. تملأ قطرات العرق جبهتها.. تنقل إلى حجرة أخرى.. يزورها زوجها.. تقرأ ملامح وجهه... تبكي.. فقد عرفت أن والدتها التي تعرضت بالأمس لنوبة قلبية مفاجئة.. قد غادرت اليوم حجرة العناية الفائقة إلى عالم آخر!"[5].


يتبين لنا، من خلال هذه القصة، أن الكاتبة واعية تمام الوعي بحجم القصة القصيرة جدا، إذ لا تتعدى نصوصها نصف الصفحة، وتختار قالبا بصريا قصيرا جدا، تتخلله مجموعة من علامات الترقيم القائمة على علامة الحذف وعلامة التوقف السردي أو التخييلي، ونقصد بها النقطتين الأفقيتين.


التكثيف:
نعني بتكثيف القصة اختزال الأحداث، وتلخيصها، وتجميعها في أفعال رئيسية وأحداث نووية مركزة بسيطة، والتخلي عن الوظائف الثانوية التكميلية، والابتعاد عن الأوصاف المسهبة، أو التمطيط في وصف الأجواء.


ونفهم، من هذا، أن القصة لابد أن تخضع لخاصية الاختزال والتركيز، وتجميع أكبر عدد ممكن من الأحداث والجمل في رقعة طبوغرافية محددة، ومساحة فضائية قصيرة جدا. ولا يكون التكثيف - هنا- فقط على مستوى تجميع الجمل والكلمات، بل يكون أيضا على المستوى الدلالي، فتحمل القصة تأويلات عدة، وقراءات ممكنة ومفتوحة.


ويعد التكثيف أيضا من أهم عناصر القصة القصيرة جدا، ويشترط فيه الدكتور يوسف حطيني " ألا يكون مخلا بالرؤى أو الشخصيات، وهو الذي يحدد مهارة القاص، وقد يخفق كثير من القاصين أو الروائيين في كتابة هذا النوع الأدبي، بسبب قدرتهم على التركيز أو عدم ميلهم إليه. "[6].


هذا، وتستند معظم قصص هيفاء السنعوسي، سيما في أضموماتها الثلاث، إلى التكثيف القصصي، والإيجاز في تفصيل الحبكة السردية، عن طريق التركيز على استهلال وجيز، وطرح للعقدة بشكل مركز، وتبئير لنهاية قد تكون مغلقة أو مفتوحة، تحتاج إلى التخييل القرائي، والتأويل الاستنتاجي، والتفاعل الضمني بين النص والمتلقي.

الحذف و الإضمار:
تستند القصة القصيرة جدا إلى مكون الإضمار والحذف باعتبارهما من أهم الأركان الجوهرية للقصة القصيرة جدا، وينتجان - كما هو معلوم - عن طريق وجود نقط الحذف، والفراغ الصامت، وظاهرة التلغيز.


وهكذا، يستعمل كاتب القصة القصيرة جدا تقنية الحذف والإضمار، من أجل التواصل مع المتلقي، قصد دفعه إلى تشغيل مخيلته وعقله، لملء الفراغات البيضاء، وتأويل ما يمكن تأويله؛ لأن توضيح دلالات المضامين ومقصدياتها لا يمكن توضيحها أكثر من اللازم. ويستعين الكاتب غالبا بالإيجاز والحذف لدواع سياسية، واجتماعية، وأخلاقية، ولعبية، وفنية، وأخلاقية. كما أن ذكر بعض التفاصيل الزائدة التي يعرفها القارئ تجعل من العمل الأدبي حشوا وإطنابا. لذلك، يبتعد الكاتب عن الوصف، ويستغني عن الوقفات الوصفية في الكثير من النصوص، بله عن اللوحات المشهدية التي قد نجدها حاضرة في القصة القصيرة العادية أو النصوص الروائية.


هذا، وتتحقق ظاهرة الإضمار فنيا في المجموعة القصصية القصيرة جدا، عن طريق الحذف الدلالي، وتشغيل علامات الترقيم الدالة على غياب المنطوق اللغوي، وحضور الإبهام البصري، وهيمنة الفراغ اللغوي، ويظهر ذلك بوضوح في توظيف النقط الثلاث، كما في قصة (قلق): " صرخات الطفل توقظها من نومها.


تفتح الضوء الجانبي، مشوشة على طفلها في السرير المجاور، تتواصل صرخاته...


تتوجه إليه، تحمله بضعف، تلحظ بللا. تعالج الموقف ببطء شديد.


تضع في فمه زجاجة الحليب...


تسحب الغطاء وتغطي وجهها. تغيب في ظلمة لا تود مغادرتها.


تأتي إلى ذهنها لوحة مؤلمة لرجل كبير يتهاوى على سرير الموت في المستشفى بعد صراع مع أمراض الشيخوخة... يختفي ويترك مراهقة في ثوب امرأة. [7]".


يقوم الحذف، في هذه القصة، على التثغير البصري، وتثقيب النص، وتجويع اللفظ، واختصار الأحداث، والدليل على ذلك استعمال نقط الحذف الثلاث.


وهناك قصص أخرى خاضعة لمكون الحذف والإضمار، كما يظهر ذلك واضحا في تلك القصة التي تتحدث عن صراع المرأة مع المرآة والزمن معا؛ فيمتد ذلك الصراع المنقبض إلى ما هو نفسي وذاتي ولاشعوري: " تنتهي مهمة اليوم الأول. تنطلق خطوات تنفيذ المهمة الثانية.


تتخيل نظرات الآخرين. الكل ينظر إليها باهتمام كبير...


تترنح في مشيتها قليلا.


تنظر إلى نفسها في المرآة...


تبتسم ثم ترسم علامة غضب وامتعاض ثم تبتسم مرة أخرى.


تنطلق الآه من أعماق قلبها حينما ترى زحف الزمن، فهي تقترب الآن من الستين.


لم تفعل عمليات التجميل الشيء الكثير.


فقدت شيئا كبيرا بعد وفاة والدتها...


لابد أن تخوض تجربة جديدة تشغلها في الأيام القادمة.


تتذكر المهمة الثانية التي تعتزم تنفيذها. تعد الخطة و... "[8].

لقد استطاعت الكاتبة الغوص في أعماق النفس الإنسانية للمرأة، باستجلاء لشعورها عبر عمليات الاستبطان والتأمل الذاتي. وما يميز هذه القصة أيضا هو أسلوبها التلغرافي، والارتكان إلى الإضمار والحذف، واستعمال خاتمة مضمرة، وبداية حدثية عند مدخل القصة. كما تلتجئ إلى التدوير على غرار الكتابة الشعرية المعاصرة، وذلك في نهاية القصة (تعد الخطة و... ).

فعلية الجملة:
يلاحظ، إبداعياً، أن كثيراً من كتاب القصة القصيرة جدا يكثرون من الجمل الفعلية، أو الجمل الاسمية التي خبرها جملة فعلية، أو يكثرون من الجمل الرابطية ذات الطاقة الفعلية. ويعني هذا أن الجمل الفعلية تسهم في تفعيل الحبكة، وتأزيمها توترا وتعقيدا ودرامية، كما أن الجمل الفعلية دالة على الحركة والحيوية والفعلية الحدثية من خلال تتابع الأفعال، وتراكبها استرسالاً أو تضميناً، كما يبدو ذلك ظاهرا في هذه القصة " سحب الورقة الصغيرة من الجهاز الآلي، شعر بالغضب، قرر مراجعة موظف البنك.. جلس ينتظر دوره، وضع ساقا على ساق ثم اعتدل في جلسته بعد أن لمحت عيناه فردة حذائه اليسرى المنهارة بسبب عامل الزمن.. نظر إلى ساعته.. طال انتظاره.. نظر إلى ساعته مرة أخرى.. مرت ساعتان.. فرح بانفراج أزمة الطابور الطويل.. أعطى البطاقة للموظف: بطاقتي لا تعمل! استلم الموظف البطاقة، انسجم في قراءة بيانات مهمة... هز رأسه: عفوا! ولكن لم ينزل راتبك الشهري بعد. "[9].

تخضع هذه القصة لمعيار فعلية الجملة تراكبا وتتابعا وتعاقبا وتسلسلا. ويعني هذا أن الجملة الفعلية هي الأصلح للقصة القصيرة جدا بناء وتركيبا ومقاسا.

انتقاء الأوصاف:
إذا كانت الرواية الواقعية تسهب في الوصف تطويلا واستطرادا وحشوا، كما عند بلزاك، و فلوبير، و ستاندال، و موباسان، ونجيب محفوظ، وعبد الكريم غلاب، ومبارك ربيع، والبشير خريف... فإن من أهم المكونات الأساسية للقصة القصيرة جدا الاقتضاب في الوصف، عن طريق الابتعاد عن الحشو الزائد، وتجنب الاستطرادات الوصفية والتأملات الشاعرية، وتفادي التكرار اللفظي والمعنوي، والتقليل من النعوت والصفات، والابتعاد عن التمطيط في التصوير الوصفي صفحات وصفحات. ومن هنا، لابد من عملية الاقتضاب في الوصف تشذيبا وانتقاء، ولابد من الاقتصاد فيه إيجازا واختزالا وتدقيقا.


وفي هذه الحالة، لا ينبغي للمبدع أن يستخدم، في قصصه القصيرة جدا، الأوصاف إلا إذا كانت معبرة تخدم السياق القصصي خدمة دلالية وفنية ومقصدية، وألا يتحول الوصف إلى حشو زائد.


لذا، يشترط في القصة القصيرة جدا التركيز على الوصف المقتضب والموجز، مع إلغاء الزوائد اللغوية المعيقة، وتشذيب الأوصاف المسترسلة المسهبة. وفي هذا السياق، تقول هيفاء السنعوسي في مجموعتها القصصية (إنهم يرتدون الأقنعة): " ارتدى نظارته ليقرأ رسالة صغيرة كتبت بلون أحمر، وضعتها زوجته قرب محفظته.. (حزمت أمتعتي، وغادرت المنزل، لا أفكر في العودة أبدا، فقد سئمت ارتداء الثوب الباهت الذي أطفأ أنوثتي، كرهت المشاعر الصامتة.. لقد وجدت طريقا آخر في مكان آخر. ) "[10].

يلاحظ انتقاء محكم للأوصاف والنعوت الوامضة والسريعة والخاطفة في أثناء عملية التصوير، بعيدا عن الإطناب والتطويل والإسهاب، وتعدد النعوت، كما يتجلى ذلك بينا في أوصاف هذه القصة المركزة (رسالة صغيرة - لون أحمر - الثوب الباهت - المشاعر الصامتة - طريقا آخر - في مكان آخر).

الصورة الومضة:
نعني بالصورة الومضة تلك الصورة الخاطفة المشعة. ويعني هذا أنها تستند " إلى التوهج والإبهار والإدهاش واللحظات اللامعة المشرقة، عن طريق التأرجح بين صور المشابهة وصور المجاورة والصورة الرؤيا. أي: إن الصورة الومضة هي صورة مركبة ومركزة ومختزلة، تنبض بالإشراق الروحاني، واللمعان الوجداني، والتفاعل الحركي.


وتستخدم الصورة الومضة جميع الآليات التصويرية والتشخيصية، كصور الانزياح، وصور التنكيت والتلغيز، مع استثمار الاستعارة والمجاز و صور التشخيص والأنسنة والترميز والإيحاء والتضمين لخلق عوالم تخييلية فانطاستيكية وأسطورية وأجواء كاريكاتورية، قوامها: السخرية والاستهزاء بما هو كائن، والتنديد بالواقع السائد، مع استشراف ما هو ممكن ومحال. " [11].


وتتجلى الصورة الومضة، تبيانا وتجسيدا، في مجموعتها (إنهم يرتدون الأقنعة!) التي تتأرجح بين جنسي القصة القصيرة وجنس القصة القصيرة جدا. وترد هذه القصص القصيرة جدا تحت عنوان (ومضات قصصية). بمعنى أن الكاتبة تتكئ على القصة الومضة. وبالتالي، فالصورة الومضة لاترتبط بما هو بلاغي فقط، بل تتجاوز ذلك إلى التركيب النحوي والإيقاع السريع، حيث نجد الجمل الفعلية تتراكب بطريقة خاطفة، وتتعاقب بسرعة وامضة، كما يتبين ذلك جليا في قصتها (معادلة) التي تصور خوف الفتاة الجميلة من الموت المفاجئ أثناء الولادة: " تلد فتاة جميلة بعد ساعات من المعاناة في حجرة الولادة.. تملأ قطرات العرق جبهتها.. تنقل إلى حجرة أخرى.. يزورها زوجها.. تقرأ ملامح وجهه... تبكي.. فقد عرفت أن والدتها التي تعرضت بالأمس لنوبة قلبية مفاجئة.. قد غادرت اليوم حجرة العناية الفائقة إلى عالم آخر!"[12].

يلاحظ أن هذه الجمل الفعلية تتعاقب بطريقة خاطفة، وتتراكب بشكل تتابعي سريع. كما تتعاقب الصور السردية لتجسيد معاناة المرأة الولود مع جنينها، وتصوير خوفها من شبح الموت الذي خطف أمها بسرعة مفاجئة. ويعني هذا أن صورة الموت التي تتوزع عبر جمل بسيطة وامضة ذات محمول فعلي واحد، قد ساهمت - بشكل من الأشكال- في خلق القلق والتوتر ودرامية الموقف، وتأزيم المشهد الإنساني سوداوية ومأساة وحزنا.

السمات الفنية والموضوعية:
يقصد بالسمات تلك الخصائص الفنية والجمالية والبنائية التي تحضر في النص وتغيب، كان تكون سمة الشاعرية، أو سمة الواقعية، أو سمة التصوف، أو سمة الخارق... وبالتالي، فقصص هيفاء السنعوسي تحوي مجموعة من السمات التي نوردها على النحو التالي:
الكتابة التلغرافية:
نعني بالكتابة التلغرافية أو الأسلوب التلغرافي تلك الكتابة المفارقة التي تشبه البرقيات والرسائل المكثفة الخاطفة والموجزة، حيث تغيب فيها الروابط، وتستقل فيها الجمل، وتتجاور بطريقة منفصلة إلى درجة التفكك اللغوي، مع وجود نوع من الاتساق والانسجام الدلالين اللذين يبنيان بفعل القراءة والتأويل. وتشبه هذه الكتابة ما يسمى حاليا بالرسائل القصيرة التي ترسل عبر الهاتف النقال أو البريد الإلكتروني أو عبر شبكة التواصل الاجتماعي أو الفايسبوك أو عبر الإسميس (sms). أي: إنها أخبار مقتضبة وسريعة ومختصرة جدا، وقد أصبحت طاغية في التداول اليومي. كما تتسم هذه القصة بالتلميح أكثر من التصريح. وبتعبير آخر، تستعمل القصة القصيرة جدا لغة البرقية، وقد تتخلى عن المداخل والمقدمات والتساهل في اللغة، والإكثار من أخطاء الرقن والإملاء والتعبير. وفي هذا السياق، يقول الدكتور حميد لحمداني: " عالم اليوميات والمذكرات مليء بالملاحظات العابرة واللقطات السريعة ورصد المفارقات والمواقف المبهرة. هذه الخصائص هي ما يشكل نقط التقاطع الأساسية بين أدب اليوميات وفن القصة القصيرة جدا. وفي يومنا الحالي، أصبحت المراسلات القصيرة، والأخبار المقتضبة المنقولة عبر الهاتف أو بواسطة البريد الإلكتروني طاغية في التداول اليومي. وإذا ما أرادت القصة أن تكون ابنة عصرها، عليها أن تتكيف مع الواقع، وتسير بسرعة إيقاع العصر، وتركب لغة الاختزال، وتقدم الأفكار والمعاني في أقل قدر من الكتابة. لاشك أن الإنسان منذ أن اخترع التلغراف بدأ يفكر جيدا في كلفة الكلام الكثير. التفكير في هذه الكلفة تقوى مع ظروف العصر الحالي. على أن الإنسان نفسه لم يعد قادرا على الإنصات لتفاصيل الحياة اليومية، لقد تكلفت الروايات والقصص الواقعية سابقا بإطلاعه على أسرارها، وتقوت معرفته لاحقا بوسائل الاتصال التلفزي والسينمائي، وجاء الإنترنيت الذي تحول إلى أكبر ذاكرة معلوماتية رهن إشارة كل فرد في كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة. هذا، ما جعل كثيرا من الفنون تلجأ إلى الاختزال والتلميح أكثر من التصريح. إن القصة القصيرة جدا تشكل أبرز مثال على تلاؤم فن من الفنون مع مقتضيات عصره. وهي لم تفرط رغم قصر حجمها، ورغم لغتها التلغرافية في خصائصها الإبداعية والإنسانية. [13]".


ومن ثم، تنبني أضمومة (ضجيج) لهيفاء سنعوسي على استعمال جمل تلغرافية تفتقد الروابط التركيبية والنحوية واللسانية، فتبدو الجمل مكثفة ومختزلة ومستقلة بنفسها، كما يبدو ذلك بينا في قصة (احتقان) التي تستقل فيها الجمل وتتجاور بدون روابط كأنها مفككة الوصال: "شعر باحتقان في حنجرته.. بدأ يسعل.. شرب كوبا من شاي الزنجبيل حتى يخف الاحتقان.. اكتشف أنه لم يكتب قصيدة منذ تسع سنوات!"[14].

فهذه القصة تتراكب وتتابع بطريقة تلغرافية سريعة، حيث تستقل الجملة بنفسها تركيبيا ودلاليا ومقصديا.


ويعني هذا أن هيفاء السنعوسي تتميز بخاصية التلغرافية التي تستند إلى توظيف جمل مكثفة ومختزلة ومركبة وسريعة الإيقاع، تفتقد روابط الاتساق والفصل والوصل، على الرغم من وجود الانسجام الدلالي والمقصدي. وفي هذا الصدد، يقول الباحث المصري مصطفى محمود: " أعرف من ألوان الأدب: المسرحية.. والرواية.. والقصة.. والأقصوصة.. ولكن الكاتبة الدكتورة هيفاء السنعوسي تقدم لنا لونا جديدا مكثفا من الأدب القصصي يلخص الشخوص في عبارات خاطفة، ويلخص المواقف في كلمات موجزة، ويلخص المأزق الدرامي في إيماءة.. واحدة.. وإشارة.. وخبر طائر.


هو لون جديد من الأدب التلغرافي الذي يلخص بحار المشاعر في قطرة وفيوض الوجدان في ومضة، وبراكين النفوس المشتعلة في لسعة نار كاوية.. وكأنما أدركها الإشفاق علينا من عصر ملعون وطاغوت زمني يبتلع حياتنا.. فاختارت لنفسها أسلوب مواصلات جديد يلائم العصر. فهي أديبة جديدة تتعامل بالإشارة.. وتستقل تواصلها مع القارئ.. إكسبريس أدبي.. يستخدم أسلوب البرق الخاطف.. واللفظ العاصف..


ورأيي فيها أنها بنت عصرها بحق..


وإنها اختارت ديكورها وشخوصها وأبطالها من نفس العصر اللاهث المجنون الذي نعيشه. "[15].
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 16-08-2022, 06:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مكونات القصة القصيرة جدا وسماتها عند الأديبة الكويتية هيفاء السنعوسي

وعليه، تعد الكتابة التلغرافية أهم خاصية أو سمة فنية وجمالية وأسلوبية التي تميز الكاتبة الكويتية هيفاء السنعوسي عن كثير من الأدباء والأديبات في الوطن العربي بصفة عامة، والكويت بصفة خاصة.

سمة التضمين أو التوليد:
نعني بالتضمين أو التوليد تناسل القصة الفرعية عن القصة الكبرى. بمعنى أن هناك قصة مؤطرة وقصة مأطرة. ويتجلى هذا واضحاً في قصة (انتفاضة أنثوية) التي تتمرد فيها الأنثى على الرجل؛ بسبب معاناتها وفقرها وبرودة المشاعر بين الزوجين. ومن هنا، تعد جدلية الذكورة والأنوثة من أهم مقومات الكتابة السردية النسائية في أدبنا العربي المعاصر: " ارتدى نظارته ليقرأ رسالة صغيرة كتبت بلون أحمر، وضعتها زوجته قرب محفظته.. (حزمت أمتعتي، وغادرت المنزل، لا أفكر في العودة أبدا، فقد سئمت ارتداء الثوب الباهت الذي أطفأ أنوثتي، كرهت المشاعر الصامتة.. لقد وجدت طريقا آخر في مكان آخر) "[16].

تتضمن هذه القصة القصيرة جدا قصتين متداخلتين: قصة رئيسة مؤطرة تتفرع عنها قصة وليدة متناسلة عنها، وظيفتها التثبيت والتوضيح والتأويل والتعليق على الحدث شرحا وتبيانا وتفسيرا.

خاصية الكتابة النسائية:
تحضر الكتابة النسائية، عند هيفاء السنعوسي، بشكل لافت للانتباه، من خلال التركيز على قضايا الأسرة والذات، والاهتمام بالأنا المقنعة، واستكناه أعماق الشعور واللاشعور، وتجسيد خصوصيات الأنثى ومشاكلها الداخلية، وتحديد علاقتها الإيجابية والسلبية بالرجل السيد وغير السيد، ورصد واقعها الوجداني والذهني، وذكر تفاعلاتها الاجتماعية المختلفة، وتصوير الصراع الجدلي بين الرجل والمرأة أو بين الزوج والزوجة، والتلميح إلى العلاقات الغرامية بين العاشقين، ونقل الأجواء العاطفية بين الطرفين.


وعليه، تبرز صورة المرآة كثيرا في قصص هيفاء السنعوسي، وتدل هذه الصورة على صراع الذات مع نفسها من جهة، ومع الزمن من جهة ثانية، ومع واقعها الموضوعي من جهة ثالثة. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الكتابة النسائية أنثوية الطابع، تتسم بطابع الصراع الذاتي، والتركيز على الشعور واللاشعور، والتشديد على جدلية الذات والزمن؛ لأن الأنثى - بطبيعتها- ترفض الشيخوخة اليائسة، وتتطلع إلى أن تبقى شابة دائما، تحافظ على رونقها ويناعتها ونضارتها وجمالها، وتكره تجاعيد الزمن القاتل: " تتأمل نفسها في المرآة، تلتفت بجسدها إلى اليمين ثم إلى الشمال.


تمعن النظر مرة أخرى. تلحظ تشوها في أعلى خدها الأيسر يذكرها بحادثة قديمة.


تقترب من المرآة أكثر فأكثر، تشعر بوخز في خدها الأيسر.


تضع بعض المساحيق على التشوه عله يختفي.


تلقي بخصلة من شعرها على خدها الأيسر.


تزفر بقوة...


تضع عطرا له رائحة قوية...


تحمل حقيبتها المحملة بأشياء كثيرة.


تفتح الباب بعنف و...


تتذكر جيرانها الذين يراقبون خطواتها كل ليلة.


تتحدى العبارات التي تتردد...


تخرج متحدية نفسها والآخرين. تلفحها نسمة هواء باردة فتضمر. [17]".


وهكذا، نلاحظ، في هذه القصة، تواتر صورة المرآة في علاقة بصورة الجسد من ناحية، وحضور صورة القبح والجمال من ناحية أخرى. ويعني هذا أن الساردة تركز كثيرا على جسد المرأة وصفا وتأملا ورصدا. وهذا أيضا من سمات الكتابة السردية النسائية التي تعنى كثيرا بجمال المرأة، وبلاغة جسدها وجمالها ومفاتنها.


ومن جهة أخرى، تحضر صورة الحب في قصة (حول مشاعري) من خلال استكشاف الذات في أبعادها الشعورية واللاشعورية، مع رصد العلاقات الإنسانية الدفينة، سيما المتعلقة بالحب الصريح والدفين: "أحبها أربع سنوات، سحرته بروحها الأخاذة، كانت زميلته في الجامعة، تناغمت روحه وروحها، وعدها بالزواج، ووعدته برفض كل من يتقدم إليها. فجأة!! تزوج زميلتها التي كان يستخف بجمالها الصامت وبروحها المتجمدة!!"[18].

إذاً، تتميز هذه القصيصة بالذاتية المستبطنة، والنزعة الوجدانية الموغلة في التناقض، وسمة المفارقة الصارخة.

الجمع بين علامة الحذف وعلامة التخييل السردي:

ما يلفت انتباهنا، في قصص هيفاء السنعوسي، هو تنوع علامات الترقيم، وبروز علامة الحذف التي تدل على الصمت والإيحاء والتلميح بدل البوح والصراخ والتصريح. وتقوم علامات الترقيم بأدوار هامة في توضيح الدلالات، وتبيان المعاني، واستكشاف الرؤى الموضوعاتية والمقصدية، وتحسين القراءة بكل أنواعها: السريعة، والعادية، والعميقة، وتجويد التوقف تارة، والاسترسال في المتابعة البصرية تارة أخرى، وتقسيم الأفكار وتوزيعها، وتنظيم الإبداع السردي فضائيا وبصريا. ومن هنا، تؤدي علامات الترقيم دلالات سيميائية عدة، لغة وأيقوناً ورمزاً وإشارة. والآتي، أنها ترتبط بسياق النص ذهنيا ووجدانيا وحركيا، فحينما نتعامل - مثلا- مع علامة التأثر أو التعجب، فإننا نتفاعل مع الجملة وسياقها تعبيرا وانفعالا وحركة، لنخرج كل ما لدينا من طاقة تعبيرية لأداء الجملة أداء حسنا. و" لئن أمسى الترقيم المؤسس على الاعتبارات التركيبية والنحوية، والمتسم بغزارة العلامات، أو ثق صلة بالكتابي منه بالشفوي، فإنه في حالة تراجع حاليا، خاصة، وأن مسالة الترقيم في نظر أهل الذكر اليوم تدور في المقام الأول على الفهم والإفهام. أي: إن الترقيم ليس تابعا للنحو وحده، ولا للتنفس والتنغيم على حدة، بل هو مجال مشترك بين ذلك كله، فضلا عن صلته بالمنطق صلة جعلته خليقا بتحقيق العبور [عبور الفحوى] من الكاتب المبدع إلى جمهوره، فكأن الترقيم جسر بين عقلين، أو قل هو بمثابة سفير منتج النص لدى قرائه. لذا، يؤكد جاك دريون أن: " الترقيم ليس قضية تركيب أو تنفس، بقدر ما هو نتيجة حتمية لشكل معين من أشكال التفكير. أما القاعدة الضابطة له، فهي تلك التي تقتضيها الفكرة المعبر عنها. بل إن الغاية المرتجاة منه تنبع من صميم التفكير ذاته". ثم، إن ربط وظائف الترقيم بمطلب الفهم والإفهام يجعل الوقف في حد ذاته ظاهرة خاضة للمنطق. يقول نوفارينا في هذا الصدد: " إن الفكرة تنفس". أي: إن الوقف ليس مستقلا، وإنما هو من توابع التفكير. أي: إن السكتات المقررة بمقادير مضبوطة في مواضع معينة، ليست مجرد محطات تنفسية بالمعنى البيولوجي للتنفس، وإنما في المقام الأول وقفات معنوية، فالعبرة من الناحية اللغوية ليست بأن يستعيد القارئ نفسه، بل المهم أن يتعاطى القارئ السكت بمقادير معلومة، وفي مواضع محددة من السلسلة المنطوقة رفعا للبس، وصونا لمقصد المتكلم عن التبدل. [19]".


وعليه، فعلامة الحذف الثلاث (...) هي أساس التكثيف والحذف والإضمار، وهي أيضا من خاصيات القصة القصيرة جدا وسماتها النوعية... و تحث المتلقي على التأويل والتخييل، وإعادة بناء النص من جديد.


كما ننتقل مع الكاتبة من سمة الحذف التي تعتمد على النقط الثلاث إلى سمة النقطتين الأفقيتين (..) اللتين تقومان مقام الفصلة أو ترك المجال للتأمل والتخييل أو الوقف المتوسط. وتوظف كثيرا في الرواية والقصة والشعر المعاصر للدلالة على الوقفة الخفيفة، وتوضع أحيانا بدلا من الفاصلة، وأحيانا أخرى ليس بدلا عنها، وتستعمل لوظائف فنية وجمالية. وقد تستعمل لتزيين العبارات والجمل أو لتقطيع النفس الكتابي. ويمكن أن توضع بين فعل الشرط وجزائه، إذا طال الركن الأول، ويمكن أن توضع بين ركني الجملة، إذا طال الركن الأول. ويلتجئ المبدعون إلى مثل هذه العلامة لإعطاء القارئ فرصة الاستمتاع بالنص لذة وتقبلا وجمالا، والتمعن فيه أثناء القراءة ذهنيا وبصريا ووجدانيا وحركيا. وأسمي هاتين النقطتين الأفقيتين بمصطلح جديد هو علامة التخييل السردي.


وبناء على ما سبق، تكثر هاتان النقطتان الأفقيتان في مجمل نصوص الكاتبة، كما يتبين ذلك جليا في قصة (مرشح الشعب) التي تسخر فيها الكاتبة من الانتخابات المزيفة في الوطن العربي: " يجتمع النائب السابق بأبناء القبيلة.. يخطب فيهم.. يقف رجل:
علينا جميعا أن نتكاتف لانتخاب المرشح بندر.


يطفو صوت ضئيل يتجرأ بالقول:
علينا أن نواجه الحقيقة، فهو لا يدلي برأيه في القضايا المهمة.


ينظر إليه الرجل بغضب:
ولكنه يخلص معاملاتنا حتى معاملة الخادمة في وزارة الداخلية. [20]".


على الرغم من مباشرة هذه القصة القصيرة جدا، فهي قصة تأملية ساخرة تنتقد الواقع المحبط الذي تعيشه الانتخابات العربية في ظل الفساد السياسي والجو الإداري القاتم.

السمة الميتاسردية:
يقصد بالميتاسرد أو الميتاقص (Métarécit) ذلك الخطاب المتعالي الذي يصف العملية الإبداعية نظرية ونقدا، كما يعنى هذا الخطاب الوصفي برصد عوالم الكتابة الحقيقية والافتراضية والتخييلية، واستعراض طرائق الكتابة وتشكيل عوالم متخيل السرد، وتأكيد صعوبات الحرفة السردية، ورصد انشغالات المؤلفين السراد، وتبيان هواجسهم الشعورية واللاشعورية، سيما المتعلقة بالأدب وماهيته ووظيفته، واستعراض المشاكل التي يواجهها المبدعون وكتاب السرديات بشكل عام. بمعنى أن الخطاب الميتاسردي يحقق وظيفة ميتالغوية أو وظيفة وصفية (Fonction métalangage) تهدف إلى شرح الإبداع تمظهرا ونشأة وتكونا، وتفسير آلياته وتقنياته الفنية والجمالية قبل الإبداع، وفي أثنائه، وبعد الانتهاء منه. ويذكرنا هذا الخطاب بالميتامسرح، وخطاب السينما داخل السينما، والسيرك داخل السيرك، كما يحيلنا هذا المفهوم على الروائية أو ما يسمى كذلك بالرومانيسك (Romanesque). ويعني هذا أن الخطاب الميتاسردي كتابة نرجسية قائمة على التمركز الذاتي، وسبر أغوار الكتابة الذاتية، والتشديد على الوظيفة الميتالغوية بمفهوم رومان جاكبسون (Roman Jakobson). علاوة على ذلك، يسائل الخطاب الميتاسردي طرائق تكون الإبداع ونشأته، ووصف عملية الكتابة وخطواتها، ورصد التناص والمناص والنص الموازي، وتبيان أنواع التداخل بين النص الإبداعي والنص الميتاسردي، هل هو قائم على التأطير التعاقبي أو التناوبي أوالمتوازي أو المتقاطع؟! مع تبيان عمليات الانتقال من النص السردي إلى النص الميتاسردي، والعكس صحيح أيضا.


واليوم، لم يعد الخطاب الميتاسردي أو الميتاقص مجرد تضمين أو تداخل النصوص السردية، بل يتخذ عدة أشكال تتعلق بالتناص، والنص الموازي، والعتبات، والبناء السردي، والخطاب النقدي، والخطاب التنظيري، ومتخيل القراءة، وتعدد السراد والرواة، وميتاسرد الشخصية، وتكسير الإيهام السردي، ورصد عوالم الكتابة، وشرح تكون السرود انبناء وتشكيلا وتركيبا، وتبلورها فنيا وجماليا ودلاليا ورؤيويا. ومن ثم، يرتكز الخطاب الميتاسردي على تصوير عالم الكتابة السردية، وتجسيد قلق الكتابة، وتبيان كيفية تفكير القصة أو الرواية أو الحكاية في نفسها أو ذاتها بطريقة نرجسية أو مرآوية ذاتية. وإذا كان السرد - من جهة - يشخص الذات والواقع، فإنه - من جهة أخرى - يشخص أيضا ذاته، ويرصد عملية الكتابة نفسها، ويبرز مراحل تكونها وتطورها إلى أن يستوي النص السردي عملا إبداعيا، يستقبله القارئ الضمني أو المفترض استهلاكا وتقبلا وقراءة ونقدا.


هذا، وتحضر السمة الميتاسردية في كثير من قصص هيفاء السنعوسي، كما يبدو ذلك جليا في قصة (ولادة): " أمسك قلمه وبدأ يكتب...


تتقاذفه الأفكار... تتنافس الشخوص في الخروج من بوابة عقله...


تتصارع الأحداث للانطلاق في لحظة البدء...


يتوقف... يتصبب عرقا...


يسحب منديلا من جيبه يمسح به حبات العرق المتزاحمة على جبينه...


تنتفض ركبتاه... ترتعش أطرافه...


تختنق الشخصية المحورية بين يديه... تختنق...


تختنق...


ثم تناضل مرة أخرى من أجل الظهور...


تسقط قطرة عرق على الورقة...


ينزلق القلم من بين يديه...


يبعثر كيانه، تنتابه لحظة خوف من الاستمرار...


يتذكر خوفه من الموت... النتيجة واحدة... [21]".


يبدو أن هذه القصة القصيرة جدا قصة مضمرة تتكئ على كثرة المحذوف، وتعتمد على بلاغة الصمت والإضمار. وتتميز كذلك بالسمة الميتاسردية التي تتجلى في صراع الكاتب مع شخصياته الخيالية، سيما الشخصية المحورية التي كانت تناضل من أجل أن تحظى بالدور الرئيس في عالم الكتابة. بيد أن الكاتب لم يستطع الحسم مخافة من الموت. لذا، تحضر صورة الموت كثيرا داخل المتن السردي عند الكاتبة هيفاء السنعوسي.

السمة المأساوية:
تنبني السمة المأساوية على التوتر والدرامية والتأزم النفسي، والانشداد إلى القلق والحزن واليأس والخوف من الموت، كما يبدو ذلك واضحا في قصتها (قلق): "صرخات الطفل توقظها من نومها.


تفتح الضوء الجانبي، مشوشة على طفلها في السرير المجاور، تتواصل صرخاته...


تتوجه إليه، تحمله بضعف، تلحظ بللا. تعالج الموقف ببطء شديد.


تضع في فمه زجاجة الحليب...


تسحب الغطاء وتغطي وجهها. تغيب في ظلمة لا تود مغادرتها.


تأتي إلى ذهنها لوحة مؤلمة لرجل كبير يتهاوى على سرير الموت في المستشفى بعد صراع مع أمراض الشيخوخة... يختفي ويترك مراهقة في ثوب امرأة. [22]".


تصور هذه القصة القصيرة جدا طفلة لقيطة تركها أبوها وحيدة يتكفل بها الآخرون. وهنا، تحضر صورة الموت بشكل بارز في علاقة جدلية مع صورة الشيخوخة وصورة الأمومة.


وتحضر الخاصية المأساوية أيضا حينما تتحدث الساردة عن الزمن والشيخوخة كما في قصة (ساعة الحائط): " يحمل جسده النحيل ويقف فوق الكرسي مستندا إلى الحائط. عبثا يحاول ضبط ساعة الحائط، يضع بطارية جديدة، ولكن العقارب تظل صامتة، وترفض الاستجابة.. يأتي حفيده..


ماذا تفعل يا جدي.. الساعة مضبوطة.


يقف مذهولا.. يشعر بغصة تمنعه من الكلام. [23]".


إذاً، تتمحور هذه القصيصة حول جدلية الشباب والشيخوخة، وجدلية الحركة والموت، وجدلية البوح والصمت.

يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 16-08-2022, 06:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مكونات القصة القصيرة جدا وسماتها عند الأديبة الكويتية هيفاء السنعوسي

سمة المفارقة:
تلتجئ الكاتبة إلى خاصية المفارقة القائمة على الجمع بين المتناقضات والمتضادات تآلفا واختلافا. كما تنبني هذه الخاصية على التناقض وتنافر الظواهر والأشياء، في ثنائيات متعاكسة ومفارقة في جدليتها الكينونية والواقعية والتخييلية.


وتعتمد كثير من نصوص هيفاء السنعوسي على عنصر المفارقة القائم على التضاد، والتقابل، والتناقض بين المواقف، أو التقابل بين القولي والفعلي، والاعتماد على التعرية الكاريكاتورية، والكروتيسك الماسخ، وتشويه الشخصيات والعوالم الموصوفة والأفضية المرصودة بريشة كوميدية أساسها السخرية، و التهكم، والباروديا، والتهجين، والأسلبة، والانتقاد، والهجاء.


والمفارقة هي، في الحقيقة، " عنصر من العناصر التي لا غنى عنها أبدا، وتعتمد على مبدأ تفريغ الذروة، وخرق المتوقع، ولكنها في الوقت ذاته ليست طرفة، وإذا كانت هذه القصة تضحك المتلقي، في بعض الأحيان، فإنها تسعى إلى تعميق إحساسه بالناس والأشياء، ولعل إيجاد المفارقة أن يكون أكثر جدوى في التعبير عن الموضوعات الكبيرة، كالعولمة والانتماء ومواجهة الذات. "[24].


وتظهر هذه المفارقة جلية في قصة (فكرة عارية) التي تعبر عن تناقض المواقف وتقابلها سخرية وانكسارا وانبطاحا، إذ يدعو الأستاذ طلابه إلى ممارسة حريتهم التعبيرية. وفي الوقت نفسه، لا يملك هو بالذات هذه الحرية أمام صرامة زوجته العنيفة: " يلتقي بطلابه، ينادي بالنقاش والحرية واحترام الفكر الآخر..


ينتفض لحالة الصمت التي تسكن أعماقهم.. يردد عبارته اليومية:
(أين أصواتكم؟ لا للخوف.. لا للرأي الواحد.. دعوني أستمتع بالاستماع إلى آرائكم).


يدخل بيته.. يسمع زئير زوجته.. يلتهم سؤالها ضآلته:
لماذا تأخرت اليوم؟"[25].

ويعني هذا أن هيفاء السنعوسي ليست دائما مدافعة عن المرأة، بل قد تكون ضدها، خاصة إذا كان المرأة عنيفة مع زوجها، تتعدى حدود الاتزان والوقار وآداب المعاملة.


كما تحضر المفارقة أيضا في قصيصة (درس ديني) التي تتناول صورة صلة الرحم، فيتناقض الناصح نظرية وممارسة، قولا وفعلا: "تلقي درسها الديني الأسبوعي: (الحذر.. كل الحذر من قطع صلة الأرحام. فمن أرادت أن يطيل الله عمرها فلتصل رحمها).. يرن جرس هاتفها الجوال.. ترفع السماعة.. صوت ابنتها: (ماذا أفعل يا أمي؟ يصر خالد على الذهاب لوالدته). ترد عليها همسا: (استمري بالبكاء، لا تدعيه يذهب إليها، لقنيها درسا لا تنساه) "[26].


تتميز هذه القصيصة بالمفارقة والتناقض الصارخ بين القول والفعل، واستعمال علامة التخييل بكثرة، وهي عبارة عن نقطتين أفقيتين، والجمع بين السرد والحوار.


وتمتد المفارقة تأزما وتوترا ودرامية عبر نصوص مجموعة (شهرزان)، خاصة في قصتها الاجتماعية (البيت الجديد) التي تتحدث عن الزواج الطبقي: " تتصل النساء بها لتحديد موعد الزيارة الأولى للخطبة، فابنتها جميلة وجذابة.. تعطيهم عنوان المنزل ولكنهم يختفون، ولا يعاودون الاتصال! قرر أخوها الأكبر الانتقال من بيتهم القديم في تلك المنطقة البعيدة، واستئجار بيت آخر في المناطق الداخلية الراقية.. بعد أسابيع قليلة تزوجت من شاب من عائلة مرموقة. [27]".


تذكرنا هذه القصيصة بمجموعة (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي التي تتضمن قصة تشبه هذه القصيصة في دلالاتها الطبقية تحت عنوان (راح يصطاد.. اصطادوه). وتتسم أوصاف هذه القصيصة بالتكثيف والانتقاء والاختزال والتركيز، بعيدا عن الإسهاب الوصفي الذي نجده عند الروائيين الواقعيين.


ومازالت هذه المفارقة مستمرة في قصتها (حكمة) التي تجمع بين مجموعة من المتضادات المتناقضة: " قال له أمه: (تزوج فتاة مدللة، واحذر الفتاة المعللة). ماتت أمه وتذكر مقولتها الحكيمة ولكن.. بعد زواجه. فقد أحب زميلته في العمل التي عاشت فاجعة وفاة أمها بحادث مروع، عانت أزمة خلافاتها مع زوجة أبيها.. تعلق بها، وأحب صمتها وابتسامتها الحزينة فقرر الاقتران بها.... أصبح يتجرع المر كل يوم بسبب شروخها وأورامها النفسية. "[28].

وتكمن هذه المفارقة التضادية كذلك في قصة (ضمور) التي تعبر عن انتفاخ الذات تكبرا وغرورا واستعلاء، وضمورها وتضاؤلها حينما تتقابل معها ذات ندية أخرى، سيما إذا كانت هذه الذات زوجة للذات الأولى، وفي المستوى الاجتماعي نفسه، وفي الوظيفة العلمية نفسها: "تخرج من الجامعة، وعين طبيبا في المستشفى.. انتابه شعور بالانتفاخ والتورم.. يحس بذاته حينما يرتدي (البالطو الأبيض) ويضع السماعة الطبية على رقبته ويمشي في ممرات المستشفى.. أصابته حالة خدر غير عادية بعد سنوات حينما حصلت زوجته على الدكتوراه وأصبحت أستاذة في الجامعة.. !!"[29].

وتستمر المفارقة جلية مع القصيصات الأخرى كما في قصة (مفارقات قدرية): " صعقها الخبر بعد إجراء عملية استئصال جزء كبير من معدته بسبب مرض خطير: (لن يعيش أكثر من بضعة شهور) تتردد جملة الطبيب في أذنها.. تمضي شهور، فتشعر بوعكة صحية.. تكشف الفحوصات إصابتها بالمرض ذاته.. تدخل في غيبوبة ثم تودع الدنيا.. يتحمل مسؤولية بناته.. تمر السنوات.. يتحول إلى بقايا إنسان حاملا في جيبه أقراصا دوائية يبتلعها عله يبقى على قيد الحياة فترة أطول!"[30].


وهكذا، تتحول المفارقة القصصية إلى سمة بارزة من أهم سمات القصة القصيرة جدا وشروطها التي تلتقي فيها مع الأجناس الأدبية الأخرى، خاصة الشعر والرواية والقصة القصيرة، وترتبط بالحبكة السردية تعقيدا وتأزيما وتوترا ودينامية وتخييلا وتضادا. علاوة على ذلك، فالواقع عبارة عن مفارقات جدلية تعبر عن صراع الذات مع نفسها، أو صراعها مع الواقع الموضوعي، كما يبدو ذلك جليا في قصة (انسحاب) التي تعبر عن ضآلة الإنسان وجوديا وكينونيا، وقزميته أمام متاريس الواقع وصعوباته وعراقيله المادية والمالية، وانبطاحه ذاتيا وواقعيا ونفسيا: " سحب الورقة الصغيرة من الجهاز الآلي، شعر بالغضب، قرر مراجعة موظف البنك.. جلس ينتظر دوره، وضع ساقا على ساق ثم اعتدل في جلسته بعد أن لمحت عيناه فردة حذائه اليسرى المنهارة بسبب عامل الزمن.. نظر إلى ساعته.. طال انتظاره.. نظر إلى ساعته مرة أخرى.. مرت ساعتان.. فرح بانفراج أزمة الطابور الطويل.. أعطى البطاقة للموظف: بطاقتي لا تعمل! استلم الموظف البطاقة، انسجم في قراءة بيانات مهمة... هز رأسه: عفوا! ولكن لم ينزل راتبك الشهري بعد. "[31].


هذا، وتبلغ المفارقة ذروتها حينما يتحول الصراخ إلى صمت رتيب، ويتحول الحب إلى صراخ صامت: " اعترف لها:
قررت يوما أن ألتحف بالصمت بعد أن التحفت بغيمة الحب بكل لغات العالم. انتفضت حينما شعرت بهلامية بعض العقول البشرية.. شعرت بأنني أصرخ وحيدا عند فوهة البركان ولكن صراخي يخرج صمتا.. تلتهب مشاعري وتتورم أفكاري. "[32].


وتتجسد هذه المفارقة بمأساويتها الصارخة في قصة (زفير) التي تعبر عن اختناق الذات المتخيلة الواهمة التي لا تدرك الواقع الموضوعي بشكل جيد: " يحدث نفسه:
مضيت بخيالي مساحات شاسعة، ظننت بأنني أفهم الحياة جيدا، ولكنني وجدت نفسي عند نقطة البدء.. وجدتني في سباق طويل في هذا الكون الشاسع.. ألهث من أجل اللحاق بمن سبقوني.. هناك أمر ما يحدث لي!أود معرفته.. هل تعثرت واختنقت أنفاسي؟"[33].

توظف الكاتبة في هذه القصة المنولوج أو الحوار الذاتي للتعبير عن الصراع الذاتي والتمزق الوجداني. ويبلغ هذا الصراع الذاتي ذروته في قصة (طيف) مفارقة وتوترا وانكشافا: " تتحسس ذراعاه عاصفة رعب دبت في خلايا جسده.. خفقات قلب سريعة وقطرات عرق تتراكم على سطح جلده.. تنطلق صفارة الإنذار معلنة عن حالة تنتابه بين الحين والآخر. هو ظله فقط.. يتناغمان منذ زمن.. يتقابلان في لحظة مخطوفة من الزمن.. ينصهران ويمتزجان معا في بحيرة لا تعرف زرقة بحيرات العالم.. ينفصل عن الواقع حينما يصفعه سؤال يلح في طلب الإجابة.. يسمع صوتها من بعيد تناديه: هل ستحقق حلمك بأن أعيش معك؟"[34].


وهكذا، نستنتج بأن المفارقة تطفح في قصص هيفاء السنعوسي امتدادا وتوترا ودرامية ومأساة وترنحا. لذا، يغلب المأساوي على رؤية الكاتبة إلى العالم، وربما يرجع ذلك إلى ما تعيشه الكاتبة من صراع وقلق ومعاناة إن ذاتيا وإن موضوعيا. لكن يبقى التفاؤل في الحياة ضرورة إنسانية لابد منه في هذه الحياة القلقة والمضطربة من أجل الشعور بالسعادة، والإحساس براحة الضمير. أما اليأس الخانع والقاتل والمدمر، فهو عدو الإنسان الأول بلا محالة. لذا، علينا أن نحاربه ببسالة وشجاعة واستماتة وجرأة، متسلحين في ذلك بالكتابة الهادفة، والعمل المفيد، والعطاء المثمر.

سمة التناص أو التضمين:
تتكئ قصص هيفاء السنعوسي على التناص والتضمين، كما يظهر ذلك بينا في قصة (عاصفة) التي تتحدث فيها عن معاناة إنسان بحار ضد مرضه المزمن: " يستلقي على سطح قاربه، يستلذ برائحة البحر التي تنفذ إلى أعماقه، ينظر إلى السماء يرى غيوما تبشر بمطر قادم! تتحول نسمات الهواء الباردة إلى شيء آخر..


ينظر إلى ساعته.. يتذكر موعد حقنة الأنسولين لعلاج مرض السكر المزمن.. لابد من العودة إلى المدينة.. تهب العاصفة، وتختفي الغيوم.. ويظل البرد متغلغلا في عظامه"[35].

وبذلك، تتناص هذه القصة مع رواية (العجوز والبحر/ The Old Man and the Sea) لإرنست همينغواي/Ernest Hemingway).

هذا، وتتضمن نصوص هيفاء السنعوسي عدة ملامح تناصية واعية ولاواعية، تشكل، في لسانيات النص، ما يسمى بالمعرفة الخلفية.

سمة السخرية:
تعد السخرية من أهم السمات الجوهرية للقصة القصيرة جدا بناء وتخطيبا وتشكيلا، من خلال توظيف الضحك، والكروتيسك، والتشويه الامتساخي، والتعرية الكاريكاتورية، والنقد الفكاهي، والهجاء اللاذع.


لذا، تتناول الكاتبة، في قصصها القصيرة جدا، خاصية السخرية حينما تقدم لنا صورة المثقف الذي يحس بالاغتراب الذاتي والمكاني داخل بلده الأصل: "قرر أن يكون من مثقفي الرف العالي، فلا يبيع كتاباته في أسواق النفاق ولا يطرح اسمه في دكاكين استباحة الكرامة، صعق حينما اكتشف أن مسؤول القطاع الثقافي (الطويل جدا) قد قرر إجراء عملية استئصال الأجنة المحلية من رحم الثقافة، واستيراد (الديناصورات) ومهرجي السيرك من بلد آخر!"[36].

تتسم هذه القصيصة بالكروتيسك والباروديا والمحاكاة الساخرة (الطويل جدا - الديناصورات - مهرجي السيرك). كما تتسم بالإيحاء والتلميح والتلويح والتعريض، وتثبيت المقولة الشائعة (مطرب الحي لا يطرب).

الخاتمة:
وخلاصة القول، يتبين لنا، مما سبق ذكره، أن الدكتورة هيفاء السنعوسي رائدة القصة القصيرة جدا في الكويت بأعمالها وأضموماتها الكثيرة والمتنوعة. وما يلاحظ عليها أيضا أنها ميالة إلى النفس القصير جدا في مسرحياتها وقصصها وخواطرها، منسجمة في ذلك مع سرعة الواقع الموضوعي وتناقضاته الجدلية الصارخة والمعقدة التي تستوجب كتابة مفارقة سريعة وخاطفة. وينضاف إلى ذلك، أن الكاتبة، في مجموعاتها القصصية القصيرة جدا، تستخدم الحجم القصير جدا، وتنحو منحى الكتابة التلغرافية، وتستخدم الصورة الومضة، وتتأرجح كثيرا بين علامتي الحذف والتخييل السردي.


لكن أهم الخاصيات الأخرى التي تمتاز بها كتابتها القصصية القصيرة جدا هي المفارقة، والمأساوية، والسخرية، والباروديا، والتناص، والكروتيسك، والإدهاش، وتوظيف النهايات المضمرة الصادمة والمربكة، بله عن الدرامية والتوتر والامتداد، وتوظيف صورة الإيقاع السردي القائم على التوازي والتماثل والتقابل والتضاد والتناقض الوجودي والكينوني.


وعليه، فلقد تركت هيفاء السنعوسي بصماتها الفنية والجمالية المتميزة في مجال القصة القصيرة جدا بنية ودلالة ووظيفة. وبالتالي، فنصوصها السردية شاهدة على تميزها وتفردها وتوهجها في هذا الفن الأدبي الجديد الوافد علينا، ليس في بلدها الكويت فحسب، بل في الوطن العربي قاطبة.


[1] د. هيفاء السنعوسي: إنهم يرتدون الأقنعة! وقصص أخرى، مكتبة سلمى الثقافية، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2007م.

[2] د. هيفاء السنعوسي: شهرزان، الكويت، الطبعة الأولى سنة 2012م.

[3] د. هيفاء السنعوسي: ضجيج، تقديم مصطفى محمود، كتاب اليوم، العدد: 468، دار أخبار اليوم، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 2004م.

[4] هيفاء السنعوسي: ضجيج، ص: 41.

[5] د. هيفاء السنعوسي: إنهم يرتدون الأقنعة! وقصص أخرى، ص: 77.

[6] د. يوسف الحطيني: القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق، مطبعة اليازجي، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2004م، ص: 33.

[7] هيفاء السنعوسي: ضجيج، ص: 41.

[8] د. هيفاء السنعوسي: نفسه، ص: 31-32.

[9] هيفاء السنعوسي: شهرزان، ص: 49.

[10] هيفاء السنعوسي: إنهم يرتدون الأقنعة، ص: 79.

[11] د. جميل حمداوي: القصة القصيرة جدا بين التنظير والتطبيق، رباط نيت، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2013م، ص: 298-299.

[12] د. هيفاء السنعوسي: إنهم يرتدون الأقنعة! وقصص أخرى، ص: 77.

[13] د. حميد لحمداني: نحو نظرية منفتحة للقصة القصيرة جدا، إنفوبرانت، فاس، المغرب، الطبعة الأولى سنة2012م، ص: 140-141.

[14] د. هيفاء السنعوسي: إنهم يرتدون الأقنعة!، ص: 73.

[15] د. مصطفى مجمود: (الواقع والحلم )، نقلا عن هيفاء السنعوسي، ضجيج، ص: 9-10.

[16] هيفاء السنعوسي: نفسه، ص: 79.

[17] د. هيفاء السنعوسي: ضجيج، ص: 5-6.

[18] هيفاء سنعوسي: شهرزان، ص: 46.

[19] د. عبد الستار بن محمد العوني: (مقاربة تاريخية لعلامات الترقيم)، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد السادس والعشرون، العدد الثاني، أكتوبر/ديسمبر1997م، ص: 312.

[20] هيفاء السنعوسي: إنهم يرتدون الأقنعة!، ص: 75.

[21] د. هيفاء السنعوسي: ضجيج، ص: 39-40.

[22] هيفاء السنعوسي: ضجيج، ص: 41.

[23] هيفاء السنعوسي: إنهم يرتدون الأقنعة!، ص: 85.

[24] د. يوسف حطيني: القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق، مطبعة اليازجي، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2004م، ص: 35.

[25] هيفاء السنعوسي: نفسه، ص: 81.


[26] هيفاء سنعوسي: شهرزان، ص: 46.

[27] هيفاء سنعوسي: نفسه، ص: 47.

[28] هيفاء السنعوسي: نفسه، ص: 47.

[29] هيفاء السنعوسي: نفسه، ص: 47-48.

[30] هيفاء السنعوسي: نفسه، ص: 49

[31] هيفاء السنعوسي: نفسه، ص: 49.

[32] هيفاء السنعوسي: نفسه، ص: 49.

[33] هيفاء السنعوسي: نفسه، ص: 50.

[34] هيفاء السنعوسي: نفسه، ص: 50.

[35] هيفاء السنعوسي: إنهم يرتدون الأقنعة!، ص: 83.

[36] هيفاء سنعوسي: شهرزان، ص: 46.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 127.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 124.57 كيلو بايت... تم توفير 2.80 كيلو بايت...بمعدل (2.20%)]