{لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12410 - عددالزوار : 209016 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 167 - عددالزوار : 59590 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 60 - عددالزوار : 761 )           »          الأعمال اليسيرة.. والأجور الكثيرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          خواطر متفرقة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          السلفية منهج الإسلام وليست دعوة تحزب وتفرق وإفساد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 37 )           »          القذف أنواعه وشروطه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 67 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 59 - عددالزوار : 15886 )           »          الضلع أعود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 06-08-2022, 07:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,380
الدولة : Egypt
افتراضي {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}

{لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}
د. حسناء عبدالله أحمد باعبود

الحمد لله ذي الجلال والإكرام والفضل والإنعام، أحمده سبحانه وتعالى حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأصلي وأسلم وأبارك على حبيبنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فلقد أقرَّ الإسلام بوجود حقيقة موضوعية، ويسعى لإقناع الناس بها، لكنه لا يسعى مطلقًا لفرضها، لا عن طريق عرضها لهم عارية عن البرهان ومطالبتهم بالتسليم لها من غير أسباب، ولا بمحاولة فرضها عليهم بعد البرهنة عليها، فهو من ناحية يرفض محاولة عرض أي اعتقاد أو قناعة - سواء كانت موافقة للحقيقة الموضوعية التي يراها أو مخالفة - من غير برهان عليها، ومن ناحية ثانية لا يتبنى إجبار الناس على اعتقادها بعد أن يقدم أدلته على صحتها وموضوعيتها، فهو يطرحها باعتبارها المعنى الصحيح الذي ينبغي على من اعتقد فيه اختياريًّا بعد الاقتناع بما ساقه له من دلائل أن يؤمن بتعاليه؛ أي حقيَّته، على غيره من المعاني، وهذه النظرة المتعالية التي يتبناها الإسلام هي نتيجة مباشرة لفكرة أعم هي قوله بوجود حقيقة مطلقة، الإيمان بها اختياري، فلكل أحد - حسب تصوُّر الإسلام - الحق في اعتقاد ما يراه حقيقة وَفق أية تصورات أو ممارسات يراها، والحقيقة الوحيدة التي يجعلها مُلزمة هي ترك كل أحدٍ وما يراه حقيقة - بما في ذلك الدين - فهو لا يسمح لأحد - ولا لنفسه - بفرض ما يراه حقيقةً على غيره. وهذا التصور الإسلامي هو عِلة تشريع الجهاد في الإسلام، لترك الناس يختارون حقيقتهم، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]، وقال تعالى: ﴿ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ﴾ [طه: 47]، وغيرها من الآيات، وعليه تصبح مسألة مطلقيَّة الحقيقة ونسبيتها أمرًا اصطلاحيًّا أو شكليًّا لا يضر بحرية الإنسان؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24]، والإسلام بهذا قطع شوطًا أبعد من الفلسفات في مسألة اعتقاد الحقيقة من ناحية تحرير الإنسان؛ لأن قيمة المعرفة الإنسانية في الإسلام هي حرية الاختيار، وحرية الاختيار هي وحدها التي تُميز الإدراك البشري عن الإدراك الحيواني، وليست قيمة المعرفة البشرية في اليقين أو القطع، فإن الحيوان يشترك مع الإنسان في الإدراك - مع التفاوت - لكنه يفتقد حرية الاختيار التي يمتلكها الإنسان، قال تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3]، وقال تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، فالله سبحانه وتعالى فرض التكليف على الإنسان لما خصَّه به من بين كافة المخلوقات من حرية الاختيار، أما اليقين فهو أمر غير موضوعي، فكل أحد يتيقن ما يتيقنه وإن تناقض اعتقاد هذا مع اعتقاد ذاك، فالإسلام كفل كلا الحريتين: حرية الاعتقاد وحرية الرأي، وهي كالتالي:
أولًا: حرية الاعتقاد في الإسلام:
زوَّد الله تعالى الإنسان بالإرادة الحرة التي تعمل في إطار المشيئة الإلهية، ففي قاعدة أساسية صريحة بالنسبة للحرية الدينية أو حرية الاعتقاد في الإسلام، يقول الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾[البقرة: 256]، فلم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده، أحدًا باعتناق الإسلام قسرًا، كما لم يُلجِؤوا الناس للتظاهر به هربًا من الموت أو العذاب؛ إذ كيف يصنعون ذلك وهم يعلمون أن إسلام المُكرَه لا قيمة له في أحكام الآخرة، وهي التي يسعى إليها كل مسلم (حقائق إسلامية في مواجهة حملات التشكيك: محمود حمدي زقزوق، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، (د. ط)، 1425هـ -2004م، ص: 33)، قال تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106]، وعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ))؛ (أخرجه ابن ماجه في سننه في أبواب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، ح2043)، فالعذاب لا يقع للشخص المُكرَه، وكذلك الجزاء لمن أسلم وهو مكره لا يقع.

فالإسلام جعل قضية الإيمان أو عدمه من الأمور المرتبطة بمشيئة الإنسان نفسه واقتناعه الداخلي؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]، ولفت القرآن نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحقيقة، وبيَّن له أن عليه تبليغ الدعوة فقط، وأنه لا سلطان له على تحويل الناس إلى الإسلام، فقال: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99]، وقال تعالى: ﴿ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية: 22]، وقال: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [الشورى: 48]، ومن ذلك يتضح أن دستور المسلمين يقرر حرية الاعتقاد، ويرفض رفضًا قاطعًا إكراه أحد على اعتناق الإسلام.

إن إقرار الحرية الدينية يعني الاعتراف بالتعددية الدينية (Religious Pluralism)، وقد جاء ذلك تطبيقًا عمليًّا حين أقر النبي صلى الله عليه وسلم الحرية الدينية في أول دستور للمدنية، وذلك حينما اعترف لليهود بأنهم يشكلون مع المسلمين أمة واحدة، جاء ذلك في كتابه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وموادعة يهود: قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرَّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم: ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ...))، (السيرة النبوية: ابن هشام، ج1، ص501-502)، وأيضًا في فتح مكة لم يُجْبِر الرسول صلى الله عليه وسلم قريشًا على اعتناق الإسلام، رغم تمكُّنه وانتصاره، ولكنه قال لهم: ((اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ))، (السيرة النبوية: ابن هشام، ج2، ص412)، وعلى دربه صلى الله عليه وسلم أعطى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب للنصارى من سكان القدس الأمان ]أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم[؛ (تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك): ج3، ص609).

وقد اعترف الفقه الإسلامي الذي يرتكز إلى الكتاب والسنة، بأهل الكتاب ودعا إلى احترام حقوقهم بما لا مزيد عليه، ففي كتب الفقه فصل خاص عن أهل الذمة وأحكامهم؛ (انظر على سبيل المثال: الكافي في فقه الإمام أحمد: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، دار الكتب العلمية، ط1، 1414هـ - 1994م، ج4، ص177-182، وكتاب أحكام أهل الذمة: ابن قيم الجوزية، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي، دار إحياء التراث العربي، ط2، (د.ت)، ج4، ص232-259)، يعكس مدى تعاطف الإسلام مع هذه الشرائح الاجتماعية.

وحتى هذه الحياة المسالمة لا تختص بأهل الكتاب، بل جوَّز القرآن ذلك للمشركين أيضًا، شريطة عدم اشتراكهم في حرب ضد المسلمين، وعدم إخراجهم من بيوتهم، وحينها يجب معاملتهم بالحسنى والعدل والقسط، وهذا السلوك لا ينطوي على شيء من النفاق، وإنما هو من صميم الدين الإسلامي، بل كان هذا أحد الأسباب المشجعة على اعتناق الإسلام.

بل إن الإسلام كفل حرية المناقشات الدينية على أساس موضوعي بعيدًا عن المهاترات أو السخرية من الآخرين، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، وقوله تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 83]، وقال تعالى: ﴿ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴾ [الحج: 24]. وعلى أساس من هذه المبادئ السمحة ينبغي أن يكون الحوار بين المسلمين وغير المسلمين، ولقد وجَّه القرآن هذه الدعوة إلى الحوار إلى أهل الكتاب، فقال: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]، وقال: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾ [العنكبوت: 46]، ومعنى هذا أن الحوار إذا لم يصل إلى نتيجة، فلكلٍّ دينُه الذي يقتنع به، وهذا ما عبرت عنه أيضًا الآية الأخيرة من سورة الكافرون التي خُتمت بقوله تعالى للكافرين على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ سورة الكافرون الآية: (6)؛ (حقائق إسلامية في مواجهة حملات التشكيك: محمود حمدي زقزوق، ص: 33 – 34، ص: 85 – 86).

إن الاقتناع هو أساس الاعتقاد، وكل فرد حر في أن يعتقد ما يشاء، وأن يتبنى لنفسه من الأفكار ما يريد، حتى ولو كان ما يعتقده أفكارًا إلحادية، لا يستطيع أحد أن يَمنعه من ذلك، ورغم ذلك فإن هناك نقطتين مهمتين تجدر ملاحظتهما في موقف الإسلام من إطلاقه حرية الاعتقاد وهما:
1- أن الحرية المطلقة التي يتيحها الإسلام لكل الناس في اعتقاد ما يريدونه لا تسمح لأصحاب العقائد المختلفة بسب معتقدات الآخرين؛ إذ يجب التفريق بين حرية التعبير وحرية التشهير والإهانة، وهذا ينطبق حتى على المسلمين: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ سورة الأنعام: الآية: (108).

2- أن اعتراف الإسلام بالتعددية الدينية لا يعني الجزم بصحة كل الأديان، فالإسلام لا يقر بصحة الأديان والمعتقدات السائدة، بل يعتبر أصحابها من الخاسرين - على الرغم من إعطائهم حرية اعتناقها - قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19] سورة آل عمران: الآية: (19)، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ سورة آل عمران: الآية: (٨٥).



ثانيًا: حرية الرأي في الإسلام:
إذا كان الفرد لا يُكره على الإسلام وهو أساس الاعتقاد، فإنَّ بقية الأمور من باب أولى ألَّا يُكره عليها، لقد أتاح الإسلام الفرصة لتعدُّدية الآراء بين المسلمين، فأباح الاجتهاد حتى في القضايا الدينية طالما توافرت في المُجتهِد شروط الاجتهاد، وجعل للمُجتهِد الذي يجتهد ويخطئ أجرًا، وللذي يجتهد ويصيب أجرين، فعن عَمْرِو بْنِ العَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ))؛ (أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ح7352)، ويلاحظ ذلك في تعدُّد مذاهب الفقه الإسلامي المعروفة؛ إذ إن الدارس لها يجد بينها اختلافات في وجهات النظر في أغلب القضايا الدينية، ولم يقل أحد إن ذلك غير مسموح به.

ومن هنا جعل الإسلام للإنسان حرية الرأي، وهي حق الفرد في اختيار الرأي الذي يراه في أمر من الأمور العامة أو الخاصة، وإبداء هذا الرأي وإسماعه للآخرين، وهي حق الشخص في التعبير عن أفكاره ومشاعره باختياره وإرادته، مُنضبطًا بالشرع الرباني، قال تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].

فإذا التزم بهذا فهو حق مكفول للمسلم وثابت له؛ لأن الشريعة أقرَّته له، وما أقَره الشرع الإسلامي للفرد فلا يملك أحدٌ نقضَه أو سلبه منه، أو إنكاره عليه، بل إن حرية الرأي واجب على المسلم لا يجوز أن يتخلى عنه؛ لأن الله تعالى أوجب عليه النصيحة، قال صلى الله عليه وسلم: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ))؛ (أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، ح95)، وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: ((بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ))؛ (أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الاعتصام الإيمان، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، ح57).

فقرن النصيحة بالصلاة والزكاة، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم البيعة عليها، وأوجب الله على المسلم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ سورة التوبة، الآية: (71)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((يَا أيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الله يَقُولُ لَكُمْ: مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أنْ تَدْعُونِي فَلا أجِيبَكُمْ، وَتَسْألُونِي فَلا أُعْطِيَكُمْ، وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلا أنْصُرَكُمْ))؛ (أخرجه الإمام أحمد في مسنده في مسند النساء، مسند الصديقة عائشة رضي الله عنها، ج42، ص149، ح25255)، ولا يمكن القيام بهذه الواجبات الشرعية ما لم يتمتع المسلم بحق إبداء الرأي وحريته فيه، فكانت حرية الرأي له وسيلة إلى القيام بهذه الواجبات، وما لم يتأتَّ الواجب إلَّا به فهو واجب؛ (حقائق إسلامية في مواجهة حملات التشكيك: محمود حمدي زقزوق، ص: 59، والأخلاق والقيم في الحضارة الإسلامية: راغب السرجاني، ص: 32).

وقد أجاز الإسلام حرية الرأي في كافة الأمور الدنيوية؛ مثل الأمور العامة والاجتماعية، وفي مثال يُجسِد ذلك: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جَاءَ الْحَارِثُ الْغَطَفَانِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، شَاطِرْنَا تَمْرَ الْمَدِينَةِ، قَالَ: ((حَتَّى أَسْتَأْمِرَ السُّعُودَ))، فَبَعَثَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَسَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَسَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَحِمَهُمُ اللهُ، فَقَالَ: ((إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ الْحَارِثَ يَسْأَلُكُمْ أَنْ تُشَاطِرُوهُ تَمْرَ الْمَدِينَةِ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْفَعُوا إِلَيْهِ عَامَكُمْ هَذَا، حَتَّى تَنْظُرُوا فِي أَمْرِكُمْ بَعْدُ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَحْيٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللهِ، أَوْ عَنْ رَأْيِكَ، أَوْ هَوَاكَ، فَرَأْيُنَا تَبَعٌ لِهَوَاكَ ورَأْيِكَ، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ الْإِبْقَاءَ عَلَيْنَا، فَوَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَإِيَّاهُمْ عَلَى سَوَاءٍ مَا يَنَالُونَ مِنَّا تَمْرَةً إِلَّا بِشِرًى - بشراء - أَوْ قِرًى – كرمًا وضيافة - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هُوَ ذَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُونَ))؛ (أخرجه الإمام الطبري في المعجم الكبير: باب السين، سعد بن مسعود الأنصاري «كان ينزل المدينة»، ح 5409، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: رجاله ثقات).

وقد كان صلى الله عليه وسلم يحث الصحابة على إبداء آراءهم بقوله: ((لاَ يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ))؛ (أخرجه ابن ماجة في سننه: في كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح4007، وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب الفتن، باب ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة، ح2191، وقال: هذا حديث حسن).

وفَهمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم، فطبَّقوها على طول التاريخ الإسلامي تطبيقًا رائعًا، فهذا الصحابي الجليل الحباب بن المنذر رضي الله عنه يُبدي رأيه الشخصي في موقف المسلمين في غزوة بدر على غير ما كان قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم، فيأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيه، والقصة أَنَّ الحباب بن الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلا نَتَأَخَّرَهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ لَكَ بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِي أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلْهُ، ثُمَّ نغوِّر ما سواه من القلب، ثم نبني عَلَيْهِ حَوْضًا فَتَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أمر بالقلب فغُوِّرت، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً، ثُمَّ قَذَفُوا فِيهِ الآنِيَةَ؛ (السيرة النبوية: ابن هشام، ج1، ص620، والبداية والنهاية: ابن كثير، ج3، ص267)، وغير ذلك من المواقف الكثيرة التي كان الصحابة ومن جاؤوا بعدهم يُبْدُونَ فيها آراءهم.

فلا يجوز لفرد - كائنًا من كان - أن يلزم فردًا آخر برأيه، كما لا يجوز لفرد أن يتبع فردًا آخر لمجرد التقليد بدون دليل، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلَا تَظْلِمُوا))؛(أخرجه الترمذي في سننه: في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في الإحسان والعفو، ح2007، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه).

وقد عاب الله تعالى على مَن سلَّم نفسه لغيره دون دليلٍ أو برهانٍ، فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ سورة البقرة، الآية: (170).

كما يجب على الفرد المسلم عدمُ احتقار ذاته، أو رأيه الذي عنده فيه دليلٌ من الشرع، بل يشعر بالعزة في ذلك وعدم مخافة الناس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَا يَحْقِرْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَحْقِرُ أَحَدُنَا نَفْسَهُ؟ قَالَ: "يَرَى أَمْرًا، لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالٌ، ثُمَّ لَا يَقُولُ فِيهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِي كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: خَشْيَةُ النَّاسِ، فَيَقُولُ: فَإِيَّايَ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى))؛ (أخرجه ابن ماجة في سننه: في كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح4008)، وفي المقابل نهى الإسلام عن الغرور واحتقار الآخرين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ))؛ (أخرجه مسلم في صحيحه: في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره ودمه، وعرضه، وماله، ح2564).

كما ينبغي على المسلم وهو يستعمل حقَّه في إبداء رأيه ألا يتعدى على حقوق الآخرين، وأن يتوخى في ذلك الأمانة والصدق؛ فيقول ما يراه حقًّا، وإن كان هذا الحق أمرًا صعبًا عليه؛ لأن الغرض من حرية الرأي إظهار الحق والصواب وإفادة السامع به، وليس الغرض منه التمويه وإخفاء الحقيقة، وأن يقصد بإعلام رأيه إرادة الخير، خير المجتمع والحفاظ على أمنه واستقراره، وألا يبتغي برأيه ولا بإعلانه الرياء أو السمعة، أو التشويش على المُحِقِّ، أو إلباس الحق بالباطل، أو بخس الناس حقوقهم، أو غير ذلك مما يضرُّ بالآخرين للوصول إلى مغنم.

فمما سبق يتضح أن الإسلام اهتمَّ بحرية التعبير عن الرأي، فهي حق مصون فيه، كما أنها وسيلة مهمة من وسائل التقدم الحضاري، ووسيلة للتعبير عن الذات، وذلك في إطار الضوابط[1] الشرعية، وتزداد الحاجة لهذه الضوابط عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الأديان والمقدسات، وعندما يكون المجتمع مُكونًا من عدة ثقافات وأديان وقوميات، ومن أهم هذه الضوابط:
1- أن تكون الحاكمية فيها لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.

2- عدم الإساءة للآخرين بما يمس حياتهم أو أعراضهم أو سمعتهم أو مكانتهم الأدبية؛ مثل الانتقاص والازدراء والسخرية، وعدم نشر ذلك بأي وسيلة كانت.

3- الموضوعية ولزوم الصدق والنزاهة والتجرد عن الهوى.

4- الالتزام بالمسؤولية والمحافظة على مصالح المجتمع وقِيَمِه، وعدم إثارة النعرات أو الحقد أو الكراهية فيه.

5- أن تكون وسيلة التعبير عن الرأي مشروعة، فلا يجوز التعبير عن الرأي ولو كان صوابًا بوسيلة فيها مفسدة، أو تنطوي على خدش للحياء أو مساس بالقيم، فالغاية المشروعة لا تبرر الوسيلة غير المشروعة.

6- أن تؤخذ في الاعتبار المآلات والآثار التي قد تنجم عن التعبير عن الرأي، وذلك مراعاة لقاعدة التوازن بين المصالح والمفاسد، وما يغلب منها على الآخر.

7- وأن يكون الرأي المُعبر عنه مُستندًا إلى مصادر موثوقة، وأن يُتجنب ترويج الإشاعات.

8- وألَّا تتضمن حرية التعبير أي تهجُّم على الدين أو شعائره أو شرائعه أو مقدساته، وألَّا تؤدي حرية الرأي إلى إخلال بالنظام العام للأمة وإحداث الفرقة بين المسلمين.

ففي ظل هذه الضوابط تعتبر حرية التعبير أحد الحقوق الأساسية للإنسان بمعناها الشامل، وهذا يتطلب التوفيق بين أمرين؛ الأول: الحرص على دعم حرية الإعلام والتعبير، والثاني: اتخاذ الوسائل المتاحة لمنع استخدام تلك الحرية للتعدي على حقوق الآخرين أو الإساءة إليهم، (هذه الضوابط قالها د. مفلح القحطاني رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان في كلمة له بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة الذي يوافق الثالث من مايو؛ (جريدة الرياض، الأربعاء 23 شعبان 1428هـ، 5 سبتمبر، العدد 4317 www. alriyadh. com)، وعلى الرغم من أن الكاتب لم يَسُقْ أدلة تفصيلية لكل من هذه الضوابط، ولكن عند التأمل يُلحظ أن أغلبها أو جميعها مما تنطق به أو تشهد له نصوص واضحة من القرآن والسنة النبوية، بل أغلبها مما قد اتَّفق عليه عقلاء الأمم وضمنته الدول في دساتيرها، وانظر كذلك حقائق إسلامية في مواجهة حملات التشكيك: محمود حمدي زقزوق، مصدر سابق، ص53- 54 وص 85-89).

فمما سبق يتضح أنه لو عَلِم أعداء الإسلام بدين الإسلام، فإنه لم يقفوا منه ذلك الموقف الرافض العنيف للدين بصورة عامة، بل من الراجح أنهم سيعدونه الدين الحق، على الأقل من جانب الآثار الإيجابية التي يُحركها الدين الإسلامي لتحرُّره غير المحدود في الدعوة إلى العلم والبحث والاكتشاف بما يعود بالنفع على الإنسان، وكذلك من جانب الحرية غير المحدودة التي يَمنحها للعقل الإنساني، وهو من أهم ما تسعى إليه البشرية.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على حبيبي ونبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

[1] ليس الضبط في الإسلام هو الكبت لدى مدرسة التحليل النفسي، وإنما الضبط هو عملية نفسية: عقلية وإرادية، وليس مجرد عملية بيولوجية شعورية أو غير شعورية، فقصر الضبط على الجانب البيولوجي يعني قصر الضبط على الجسم وحده، في حين أن الأصول الصريحة تدل على أن الضبط هو وظيفة النفس التي هي جماع شخصية الإنسان فيما في ذلك عقله وإرادته، ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10].
ويُشبه ابن القيم ضبط الدوافع الفطرية - الغرائز التي جُبل الإنسان عليها، كحب الأكل واللعب مثلاً - بالنهر الذي يهدد حياة قرية مجاورة، ويختلف أهلها حول ما يجب عمله لدرء خطره؛ فالفئة الأولى ترى ترك النهر على ما هو عليه، وهذه سوف يجرفها النهر عاجلاً أو آجلاً، وهذه الفئة حالها كحال من يسمح للدوافع الفطرية بالتعبير عن نفسها بغير ضبط ولا تهذيب. وترى الفئة الثانية درء الخطر عن طريق سد منابع النهر تماما، وهؤلاء حالهم كحال من يكبت الدوافع الفطرية التي هي غريزة في خلق الإنسان وفطرته، وكبتها لا يعني القضاء على وجودها، ولذلك تظل تتحين الفرص للظهور والإشباع، فإذا ما قاومها الإنسان طويلاً فإنها قد تورث الأمراض النفسية أو الجسمية أو العقلية. وتعتقد الفئة الثالثة أن درء الخطر يكون عن طريق بناء سد في مجرى النهر لحجز المياه فترة من الزمن، وهؤلاء يؤجلون الغرق بعض الوقت، وقد ينهار السد ويصبح الانهيار محققاً. والفئة الرابعة ترى درء الخطر عن طريق تحويل مجرى النهر إلى مكان آخر صالح للزراعة، وهذا هو الاقتراح الذي ينجي القرية من الغرق، فقد حولوا المياه أو "الدوافع الفطرية" عن طريق الضبط إلى قوة مثمرة خيرة.
وهكذا يتضح أن هناك فرقا جوهرياً بين الكبت الذي يمنع الدوافع الفطرية من التعبير عن نفسها مما يؤدي إلى الأمراض النفسية، وبين الضبط الذي يوجه الدوافع إلى التعبير عن نفسها بطريقة فيها خير الإنسان والناس جميعاً.
إن العقل هو الأداة الأساسية في النفس للضبط، "ولذا سماه العرب عقلاً، لأنه يكف ويضبط؛ يضبط الأهواء والشهوات والغرائز، وتمده من الداخل النفس اللوامة بما فطرت عليه من كراهية الفجور والشر، وتمده من الخارج الشريعة والتربية السليمة"، ولذا كان من السنة أن يكون أول ما يستقبل الطفل وأول صوت يسمعه هو صوت التكبير، الذي يسن الأذان به في أذنه، لأنه ينزل مدركاً واعياً، لكنه يحتاج إلى نمو الأعضاء الجسمية التي تسمح له بالتعبير عن وعيه وإدراكه. (مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها: علي أحمد مدكور، دار الفكر العربي، (د.ط)، 1421هـ - 2001م، ص91).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 73.53 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 71.65 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.56%)]