تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 26 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         شرح النووي لحديث: ارم فداك أبي وأمي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          شرح النووي لحديث: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          أنسيت بأنك في غزة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4418 - عددالزوار : 855342 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3949 - عددالزوار : 390150 )           »          معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #251  
قديم 08-09-2022, 12:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,932
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1517 الى صـ 1524
الحلقة (251)





القول في تأويل قوله تعالى:

وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا [102]

وإذا كنت فيهم أي: مع أصحابك شهيدا وأنتم تخافون العدو [ ص: 1517 ] فأقمت لهم الصلاة أي: أردت أن تقيم بهم الصلاة بالجماعة التي لوفور أجرها يتحمل مشاقها فلتقم طائفة منهم معك في الصلاة، أي: بعد أن جعلتم طائفتين، ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو ليحرسوكم منهم، وإنما لم يصرح به لظهوره.

وليأخذوا أي: الطائفة التي قامت معك أسلحتهم معهم؛ لأنه أقرب للاحتياط فإذا سجدوا أي: القائمون معك سجدتي الركعة الأولى وأتموا الركعة، فارقوك وأتموا صلاتهم، وتقوم إلى الثانية منتظرا، فإذا فرغوا فليكونوا من ورائكم أي: فلينصرفوا إلى مقابلة العدو للحراسة.

ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا وهي الطائفة الواقعة تجاه العدو فليصلوا ركعتهم الأولى معك وأنت في الثانية، فإذا جلست منتظرا قاموا إلى ثانيتهم وأتموها ثم جلسوا ليسلموا معك، ولم يبين في الآية الكريمة حال الركعة الرابعة الباقية لكل من الطائفتين؛ اكتفاء ببيانه - صلى الله عليه وسلم - لهم، كما يأتي.

وليأخذوا حذرهم أي: تيقظهم؛ لأن العدو يتوهمون في الأولى كون المسلمين قائمين في الحرب، فإذا قاموا إلى الثانية ظهر لهم أنهم في الصلاة فههنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم، فلذا خص هذا الموضع بزيادة تحذير فقال: (وليأخذوا حذرهم) وجعله كالآلة، فأمر بأخذه وعطف عليه وأسلحتهم قال الواحدي: فيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة.

قال أبو السعود : وتكليف كل من الطائفتين بما ذكر؛ لما أن الاشتغال بالصلاة مظنة لإلقاء السلاح والإعراض عن غيرها، ومئنة لهجوم العدو، كما ينطق به قوله تعالى: ود الذين كفروا أي: تمنوا لو تغفلون عن أسلحتكم فتضعونها وأمتعتكم أي: حوائجكم التي بها بلاغكم فيميلون عليكم ميلة واحدة أي: يحملون حملة واحدة فيقتلوكم، فهذا علة الأمر بأخذ السلاح، والأمر بذلك للوجوب؛ لقوله تعالى: ولا جناح عليكم أي: لا حرج ولا إثم عليكم إن كان بكم أذى من مطر يثقل معه حمل السلاح أو كنتم مرضى يثقل [ ص: 1518 ] عليكم حمله أن تضعوا أسلحتكم

أخرج البخاري ، عن ابن عباس قال: نزلت: إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى في عبد الرحمن بن عوف كان جريحا، ثم أمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياط، فقيل: وخذوا حذركم لئلا يهجم عليكم العدو غيلة.

إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا أي: يهانون به، ويقال: شديدا.

قال أبو السعود : هذا تعليل الأمر بأخذ الحذر، أي: أعد لهم عذابا مهينا بأن يخذلهم وينصركم عليهم، فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب كي يحل بهم عذابه بأيديكم.

وقيل: لما كان الأمر بالحذر من العدو موهما لتوقع غلبته واعتزازه نفي ذلك الإيهام بأن الله تعالى ينصرهم ويهين عدوهم لتقوى قلوبهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا [103]

فإذا قضيتم أي: أتممتم الصلاة أي: صلاة الخوف - على ما فصل - فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم أي: فداوموا على ذكره تعالى في جميع الأحوال، فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه، قاله الرازي .

وقال ابن كثير : أمر تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف، وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها، ولكن هنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب، وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها كما قال تعالى (في الأشهر [ ص: 1519 ] الحرم): فلا تظلموا فيهن أنفسكم [التوبة: 36] وإن كان هذا منهيا عنه في غيرها، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها.

فإذا اطمأننتم أي: سكنت قلوبكم بالأمن فأقيموا الصلاة أي: على الحالة التي كنتم تعرفونها، فلا تغيروا شيئا من هئياتها إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا أي: فرضا موقتا، لا يجوز إخراجها عن أوقاتها وإن لزمها نقائص في رعايتها.
فصل

في أحكام تتعلق بهذه الآية:

الأول: في هذه الآية مشروعية صلاة الخوف وصفتها ، وأنه لا يجب قضاؤها، وأنه يطلب فيها حمل السلاح إلا لعذر.

الثاني: تعلق بظاهر قوله تعالى: وإذا كنت فيهم من لم ير صلاة الخوف بعده - صلى الله عليه وسلم - زاعما أنها خاصة بعهده - صلى الله عليه وسلم - لاشتراطه كونه فيهم، ولا يخفى أن الأئمة بعده نوابه قوام بما كان يقوم به، فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة [التوبة: 103] وقد قال صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي .

[ ص: 1520 ] وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم، وقد روى أبو داود والنسائي والحاكم وابن أبي شيبة وغيرهم، عن سعيد بن العاص أنه قال (في غزوة ومعه حذيفة ): أيكم شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فأمرهم حذيفة فلبسوا السلاح، ثم قال: إن هاجمكم هيج فقد حل لكم القتال، فصلى بإحدى الطائفتين ركعة، والأخرى مواجهة العدو، ثم انصرف هؤلاء، فقاموا مقام أولئك، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى، ثم سلم عليهم، وكانت الغزوة بطبرستان ، قال بعضهم: وكان ذلك بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - فلم ينكره أحد، فحل محل الإجماع.

وروى أبو داود أن عبد الرحمن بن سمرة صلى بكابل صلاة الخوف.

الثالث: روى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور، وأبو داود، والنسائي وغيرهم (في نزول الآية عن ابن عباس رضي الله عنه) [ ص: 1521 ] قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعسفان ، فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد ، وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فحضرت الصلاة، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأخذ السلاح، فصفنا خلفه صفين، ثم ركع فركعنا جميعا، ثم رفع فرفعنا جميعا، ثم سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم.

وروى عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن هشام مثل هذا، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه قال: نكص الصف المقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود، ويتقدم الصف المؤخر فيسجدون في مصاف الأولين.

وروى عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن جرير ، عن ابن أبي نجيح قال: قال مجاهد (في قوله تعالى: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ): نزلت يوم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان والمشركون بضجنان فتواقفوا، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه صلاة الظهر أربعا، ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعهم، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم ويقاتلوهم، فأنزل الله عليهم: فلتقم طائفة فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العصر وصف أصحابه صفين وكبر بهم جميعا فسجد الأولون بسجوده والآخرون قيام لم يسجدوا، حتى قام النبي - صلى الله عليه وسلم - والصف الأول، ثم كبر بهم وركعوا جميعا، فقدموا الصف الآخر واستأخروا، فتعاقبوا السجود كما فعلوه أول مرة، وقصر النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1522 ] صلاة العصر ركعتين.

وفي هذه الأحاديث أن صلاة الطائفتين مع الإمام جميعا، واشتراكهم في الحراسة، ومتابعته في جميع أركان الصلاة إلا السجود، فتسجد معه طائفة وتنتظر الأخرى حتى تفرغ الطائفة الأولى، ثم تسجد، وإذا فرغوا من الركعة الأولى تقدمت الطائفة المتأخرة مكان الطائفة المتقدمة، وتأخرت المتقدمة.

(فإن قلت): لا ينطبق ما في الآية على هذه الروايات التي حكت سبب نزولها، وذلك لأنه قيل في الآية: فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلواالآية، وفي هذه الروايات أنهم قاموا جميعا معه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، وإنما ينطبق ما فيها على ما رواه الشيخان، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك، ثم صلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة ثم سلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة.

وما روياه عن صالح بن خوات ، عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع أن الطائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو، فقضى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما، فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، فأتموا لأنفسهم، فسلم بهم.

(قلت): بمراجعة ما أسلفناه في المقدمة من قاعدة سبب النزول يندفع الإشكال.

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين ضجنان وعسفان فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة، وإن جبريل - عليه السلام - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يقسم أصحابه [ ص: 1523 ] شطرين، فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتان، أخرجه أصحاب السنن.

ثم رأيت القرطبي بحث في "تفسيره" نحو ما سبق لي؛ حيث قال: وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين، ثم قال (بعد رواية حديث أبي هريرة المذكور) قلت: ولا تعارض بين هذه الروايات، فلعله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم صلاة أخرى مفترقين. انتهى.

الرابع: ظاهر الآية الكريمة الترخيص لكل طائفة بركعة واحدة؛ لأنه لم يبين فيها حال الركعة الباقية، وقد روى النسائي ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بذي قرد فصف الناس خلفه صفين: صفا خلفه وصفا موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا ركعة.

وكذا روى أبو داود والنسائي أيضا، عن حذيفة أنه صلى بطبرستان بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا.

وروى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: فرض الله الصلاة على نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، فهذه الأحاديث تدل على أن من صفة صلاة الخوف الاقتصار على ركعة لكل طائفة.

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف يقول الثوري وإسحاق ومن تبعهما، وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين، [ ص: 1524 ] ومنهم من قيد بشدة الخوف.

وقال الجمهور: قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد، وتأولوا هذه الأحاديث بأن المراد بها ركعة مع الإمام وليس فيها نفي الثانية، ويرد ذلك قوله في حديث ابن عباس وحذيفة : (ولم يقضوا ركعة) وكذا قوله في حديث ابن عباس الثاني: (وفي الخوف ركعة).

وأما تأويلهم قوله: (لم يقضوا) بأن المراد منه لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن - فبعيد جدا، كذا في "نيل الأوطار" نعم.

وقع في حديث ابن عمر المتفق عليه وقد قدمناه: ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة ، وعند أبي داود من حديث ابن مسعود : ثم سلم، وقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا ثم ذهبوا، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا.

وبالتحقيق كل ما روي هو من صورها الجائزة، ولما ذكر الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" هديه - صلى الله عليه وسلم - في أدائها، قال في آخر صورة: وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعة فتذهب ولا تقضي شيئا، وتجيء الأخرى فيصلي بهم ركعة ولا تقضي شيئا، فيكون له - صلى الله عليه وسلم - ركعتان، ولهم ركعة ركعة، وهذه الأوجه كلها يجوز الصلاة بها.

قال الإمام أحمد : كل حديث يروى في باب صلاة الخوف فالعمل به جائز. انتهى.

وقال ابن كثير : صلاة الخوف أنواع كثيرة، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون في غير صوبها، ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، ورجالا وركبانا، ولهم أن يمشوا - والحالة هذه - ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة، ومن العلماء من قال: يصلون - والحالة هذه - ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم، وبه قال أحمد بن حنبل .

قال المنذري : وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد ، وإليه ذهب طاوس والضحاك.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #252  
قديم 08-09-2022, 12:53 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,932
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1525 الى صـ 1532
الحلقة (252)





وقد حكى أبو عاصم العبادي، عن محمد بن نصر المروزي أنه يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف، وإليه ذهب ابن حزم أيضا، وقال إسحاق بن راهويه: أما عند المسايفة [ ص: 1525 ] فيجزيك ركعة واحدة تومئ بها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة واحدة؛ لأنها ذكر الله.

وقال آخرون: يكفي تكبيرة واحدة، فلعله أراد ركعة واحدة، كما قاله الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه، وبه قال جابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عمر ، وكعب وغير واحد من الصحابة، والسدي.

ورواه ابن جرير ، ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة، كما هو مذهب إسحاق بن راهويه، وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكي حتى قال: فإن لم يقدر على التكبير فلا يتركها في نفسه، يعني بالنية، رواه سعيد بن منصور في "سننه" عن إسماعيل بن عياش، عن شعيب بن دينار عنه، فالله أعلم.

ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة، كما أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب الظهر والعصر، فصلاهما بعد الغروب، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء، وكما قال بعدها - يوم بني قريظة - حين جهز إليهم الجيش: لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق، فقال منهم قائلون: لم يرد منا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تعجيل المسير، ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق، وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب، ولم يعنف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا من الفريقين، فاحتج في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة اليهود.

وأما الجمهور فقالوا: هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك، وهذا أبين في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الشافعي رحمه الله وأهل السنن، ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاري في "صحيحه" حيث قال: (باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو).

وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء، كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا [ ص: 1526 ] على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال، أو يأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا، وبه قال مكحول.

وقال أنس بن مالك: حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار، فصلينا ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا، وقال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها. انتهى.

ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب، ثم بحديث أمره إياهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، وكأنه كالمختار لذلك، والله أعلم.

ولمن جنح له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالبا، وكان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب، ولم ينقل أنه أنكر عليهم ولا أحد من الصحابة، والله أعلم.

قال هؤلاء: وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق؛ لأن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي، وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق، وموسى بن عقبة، والواقدي، ومحمد بن سعد كاتبه، وخليفة بن الخياط، وغيرهم.

وقال البخاري وغيره: كانت ذات الرقاع بعد الخندق؛ لحديث أبي موسى، وما قدم إلا في خيبر، والله أعلم.

[ ص: 1527 ] الحكم الخامس: استدل بقوله تعالى: طائفة على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد، لكن لا بد أن تكون التي تحرس تحصل الثقة بها في ذلك.

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": الطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد، فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف جاز لأحدهم أن يصلي بواحد ويحرس واحد، ثم يصلي الآخر، وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة.

السادس: استدل بالآية على عظم أمر الجماعة، بل على ترجيح القول بموجبها؛ لارتكاب أمور كثيرة لا تغتفر في غيرها، ولو صلى كل امرئ منفردا لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك، أفاده الحافظ ابن حجر في "الفتح".

قال ابن كثير : وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك.

السابع: قال بعض المفسرين: اختلف في المأمور بأخذ السلاح في قوله تعالى: وليأخذوا أسلحتهم فقيل: هم الطائفة الذين يواجهون العدو، وهذا ظاهر، وقيل: بل هم الطائفة المصلون، وأراد ما لا يشغل عن الصلاة من الدرع والخنجر والسيف ونحو ذلك، وقيل: للطائفتين، وهو قول القاسم. انتهى.

قال الناصر في "الانتصاف": والظاهر أن المخاطب بأخذ الأسلحة المصلون، إذ من لم يصل إنما أعد للحرس، فالظاهر الاستغناء عن أمرهم بذلك وتنبيههم عليه، وهم إنما أخروا الصلاة لذلك، أما المصلون فهم في مظنة طرح الأسلحة؛ لأنهم لم يعتادوا حملها في الصلاة، فنبهوا على أنهم لا ينبغي لهم طرح الأسلحة وإن كانوا في الصلاة؛ لضرورة الخوف وخشية الغرة، وأيضا فصنيع الآية يعطي ذلك؛ لأنه قال: فلتقم طائفة منهم معك وعقب ذلك بقوله: وليأخذوا أسلحتهم فالظاهر رجوع الضمير إليهم، وحيث يعاد إلى غير المصلين يحتاج إلى تكلف في صحة العود إليهم؛ بدلالة قوة الكلام عليهم، وإن لم يذكروا.

وناقش [ ص: 1528 ] الناصر أيضا الزمخشري في جعله المراد بقوله تعالى: فإذا سجدوا فليكونوا غير المصلين، فقال: الظاهر أن معنى السجود ههنا الصلاة، وقد عبر عنها بالسجود كثيرا، والمراد: فإذا صلت الطائفة (أي: أتمت صلاتها) فليكونوا من ورائكم. انتهى.

الثامن: قال أبو علي الجرجاني صاحب النظم: قوله تعالى: وخذوا حذركم يدل على أنه كان يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرا، غير غافل عن كيد العدو، والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر؛ لأن العدو يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة، فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة، ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوهم، فلا جرم أمروا بأن يصيروا طائفتين: طائفة في وجه العدو، وطائفة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القبلة، وأما حين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان وببطن نخل فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين، وذلك لأن العدو كان مستدبر القبلة، والمسلمون كانوا مستقبلين لها، فكانوا يرون العدو حال كونهم في الصلاة، فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود، فلا جرم لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم، فلما فرغوا من السجود وقاموا تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا، وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني، فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى: خذوا حذركم يدل على جواز كل هذه الوجوه.

والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكرارا محضا من غير فائدة، ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن، وإنه غير جائز، نقله الرازي .

وقال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام مختلفة وأشكال متباينة، يتحرى في ذلك كله ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة، فهي مع اختلاف صورها متفقة المعنى. انتهى.

وأنواعها مبينة في شروح السنة، ثم حثهم تعالى على الجهاد بقوله:
[ ص: 1529 ] القول في تأويل قوله تعالى:

ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما [104]

ولا تهنوا في ابتغاء القوم أي: لا تضعفوا في طلب عدوكم بالقتال، بل جدوا فيهم واقعدوا لهم كل مرصد، ثم ألزمهم الحجة بقوله سبحانه: إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون أي: ليس ما تجدون من الألم بالجرح والقتل مختصا بكم، بل هو مشترك بينكم وبينهم، كما قال تعالى: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله [آل عمران: 140] ثم زاد في تقرير الحجة، وبين أن المؤمنين أولى بالمصابرة على القتال من المشركين بقوله تعالى: وترجون من الله ما لا يرجون يعني: وتأملون من القرب من الله واستحقاق الدرجات من جناته وإظهار دينه، كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما لا يأملونه، فأنتم أولى بالجهاد منهم، وأجدر بإقامة كلمة الله.

وكان الله عليما حكيما أي: فلا يكلفكم إلا بما يعلم أنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم، فجدوا في الامتثال بذلك؛ فإن فيه عواقب حميدة.

قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية: وجوب الجهاد، وأنه لا يسقط لما يحصل من المضرة بالجراح ونحوه، وأن التجلد وطلب ما يقوي لازم، وما يحصل به الوهن لا يجوز فعله، وتدل على جواز المعارضة والحجاج لقوله: فإنهم يألمون وتدل على أن للمجاهد أن يجاهد لطلب الثواب لقوله: وترجون من الله ما لا يرجون فجعل هذا سببا باعثا على الجهاد، هذا معنى كلام الحاكم.

ونظير هذا: لو صلى لطلب الثواب أو السلامة من العقاب، وقد ذكر في ذلك خلاف. فعن الراضي بالله: يجزى ذلك، وقواه الفقيه يحيى بن أحمد، وعن أبي مضر: لا يجزى؛ لأنه لم ينو الوجه الذي شرع الواجب له. انتهى.
[ ص: 1530 ] القول في تأويل قوله تعالى:

إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما [105].

واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما [106].

ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما [107].

يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا [108].

ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا [109]

إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما

واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما

ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما

يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا

ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا

[ ص: 1531 ] روى الحافظ ابن مردويه من طريق العوفي، عن ابن عباس : أن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظن (أي: اتهم) بها رجل من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده.

فانطلقوا إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ليلا فقالوا: يا نبي الله! إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علما، فاعذر صاحبنا على رءوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبرأه وعذره على رءوس الناس فأنزل الله: إنا أنـزلنا الآية،
ثم قال تعالى للذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفين بالكذب: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله يعني الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفين يجادلون عن الخائنين.

ثم قال عز وجل: ومن يعمل سوءا الآية، يعني الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفين بالكذب، ثم قال: ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا يعني السارق والذين جادلوا عن السارق.

قال ابن كثير : وهذا سياق غريب، وقد ذكر مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم (في هذه الآية) أنها نزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم، وهي متقاربة.

وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة، ورواها عنه من طريقه أبو عيسى الترمذي في "جامعه" في كتاب التفسير، عن قتادة بن النعمان - رضي الله عنه - قال: [ ص: 1532 ] كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق : بشر وبشير (قال أبو ذر الخشني: بشير بن أبيرق، كذا وقع هنا: بشير بفتح الباء، وقال الدارقطني: إنما هو بشير بضم الباء) ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ينحله لبعض العرب ثم يقول: قال فلان كذا ، أو قال فلان كذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث، فقال:


أوكلما قال الرجال قصيدة أضموا وقالوا: ابن الأبيرق قالها!


قال: وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار، فقدمت ضافطة من الشام بالدرمك - ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، فأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح له: درعان وسيفان وما يصلحهما، فعدي عليه من تحت البيت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي! تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، فذهب بطعامنا وسلاحنا.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #253  
قديم 08-09-2022, 12:55 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,932
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1533 الى صـ 1540
الحلقة (253)





[ ص: 1533 ] قال: فتحسست في الدار وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى - فيما نراه - إلا على بعض طعامكم.

قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار -: والله! ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل - رجل منا له صلاح وإسلام - فلما سمع بذلك لبيد اخترط سيفه، ثم أتى بني أبيرق فقال: والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال عمي: يا ابن أخي! لو أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له.

قال قتادة: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقلت: يا رسول الله! إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنظر في ذلك فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له: أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله! إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا - أهل إسلام وصلاح - يرمونهم بالسرقة في غير بينة ولا ثبت، قال قتادة: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت - ذكر منهم إسلام وصلاح - ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت؟ قال: فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض مالي [ ص: 1534 ] ولم أكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فأتيت عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي! ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: الله المستعان.

فلم نلبث أن نزل القرآن: إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما يعني: بني أبيرق.

واستغفر الله أي: مما قلت لقتادة إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أي: بني أبيرق إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس إلى قوله: ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما أي: إنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا قولهم للبيد: ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك يعني: أسيرا وأصحابه وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنـزل الله عليك الكتاب والحكمة إلى قوله: فسوف نؤتيه أجرا عظيما

فلما نزل القرآن: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسلاح فرده إلى رفاعة.

قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولا، فلما أتيته بالسلاح، قال: يا ابن أخي! هو في سبيل الله، قال: فعرفت أن إسلامه صحيحا.

[ ص: 1535 ] فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة ابنة سعد بن شهيد ، فأنزل الله فيه: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين إلى قوله: ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا

فلما نزل على سلافة، رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت به فرمته في الأبطح، ثم قالت: أهديت إلي شعر حسان، ما كنت تأتيني بخير.


وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني.

وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا، لم يذكروا فيه: عن أبيه عن جده.

ورواه ابن أبي حاتم ، عن هاشم بن القاسم الحراني، عن محمد بن سلمة به، ببعضه، [ ص: 1536 ] ورواه ابن المنذر في "تفسيره" بسنده عن محمد بن سلمة ، فذكره بطوله.

ورواه أبو الشيخ الأصفهاني في "تفسيره" بسنده عن محمد بن سلمة به، ثم قال في آخره: قال محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن إسرائيل.

ورواه الحاكم في كتابه "المستدرك" بسنده، عن يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق بمعناه، أتم منه، وفيه الشعر، ثم قال: وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، كذا نقله ابن كثير .

قال السيوطي في "اللباب": وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال: عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد ، عم قتادة بن النعمان، فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما، فأتى قتادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك، فدعا بشيرا فسأله فأنكر، ورمى بذلك لبيد بن سهل - رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب - فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد : إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق الآيات، فلما نزل القرآن في بشير وعثر عليه هرب إلى مكة مرتدا، فنزل على سلافة بنت سعد ، فجعل يقع في النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي المسلمين، فنزل فيه: ومن يشاقق الرسول [النساء: من الآية 115] الآية، وهجاه حسان بن ثابت حتى رجع، وكان ذلك في شهر ربيع سنة أربع من الهجرة. انتهى.

وأما إيضاح ألفاظ الآيات وثمراتها فنقول: قوله تعالى: لتحكم بين الناس بما أراك الله أي: بما عرفك وأعلمك وأوحى به إليك، سمي ذلك العلم بالرؤية؛ لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور.

قال الزمخشري : وعن عمر - رضي الله عنه -: لا يقولن أحدكم: قضيت بما أراني الله، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولكن ليجتهد رأيه؛ لأن الرأي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مصيبا؛ لأن الله كان يريه إياه، وهو منا الظن والتكلف.

قلت: روى هذا الأثر البيهقي في "المدخل" وابن عبد البر ، بنحو ما ذكر.

قال ابن الفرس : في هذه الآية إثبات الرأي والقياس، وتعقبه السيوطي بما أخرجه [ ص: 1537 ] ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس أنه قال: إياكم والرأي، فإن الله تعالى قال لنبيه: لتحكم بين الناس بما أراك الله ولم يقل: بما رأيت.

ثم قال السيوطي : وقال غيره: يحتمل قوله: بما أراك الله الوحي والاجتهاد معا. انتهى.

وقال ابن كثير : احتج من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان - صلى الله عليه وسلم - له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية، وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها .

ورواه الإمام أحمد عنها أيضا بلفظ: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست، ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته (أو قد قال: لحجته) من بعض، فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إذ قلتما، فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه .

وقد رواه أبو داود وزاد: إني إنما أقضي بينكما برأيي، فيما لم ينزل علي فيه انتهى.

[ ص: 1538 ] قال السيوطي : وفي الآية الرد على من أجاز أن يكون الحاكم غير عالم؛ لأن الله تعالى فوض الحكم إلى الاجتهاد ، ومن لا علم عنده كيف يجتهد؟! انتهى.

وقوله تعالى: ولا تكن للخائنين أي: لأجلهم والذب عنهم، وهم طعمة ومن يعينه من قومه على ما تقدم خصيما أي: مخاصما، وفيه أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق.

وقوله تعالى: واستغفر الله أي: مما قلت لقتادة، كما تقدم مفسرا.

قال الرازي : تمسك بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء ، وقالوا: لو لم يقع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذنب لما أمر بالاستغفار، ثم أجاب عن ذلك بوجوه.

وقال القاضي عياض في "الشفا": إن تصرف الأنبياء - عليهم السلام - بأمور لم ينهوا عنها ولا أمروا بها، ثم عوتبوا بسببها، أو أتوها على وجه التأويل - إنما هي ذنوب بالإضافة إلى علي منصبهم وإلى كمال طاعتهم، لا أنها كذنوب غيرهم ومعاصيهم، وأطال في هذا المقام وأطاب.

ثم قال: وأيضا، فإن في التوبة والاستغفار معنى آخر لطيفا أشار إليه بعض العلماء، وهو استدعاء محبة الله، قال الله تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [البقرة: من الآية 222] انتهى.

وقوله تعالى: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أي: يخونونها بالمعصية، جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم، كما جعلت ظلما لها لرجوع ضررها إليهم.

قال الرازي : واعلم أن في الآية تهديدا شديدا، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مال طبعه قليلا إلى جانب طعمة - وكان في علم الله أن طعمة كان فاسقا - فالله تعالى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب، فكيف حال من يعلم من الظالم كونه ظالما، ثم يعينه على ذلك الظلم، بل يحمله عليه ويرغبه فيه أشد الترغيب؟!! اهـ.

وإنما قيل: للخائنين [ ص: 1539 ] (ويختانون) مع أن الخائن واحد؛ لأن المراد به هو ومن عاونه من قومه، وهم يعلمون أنه سارق، أو ذكر بلفظ الجمع ليتناوله وكل من خان خيانته، كما أنه إنما ذكر بلفظ المبالغة في قوله تعالى: إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما لأنه تعالى علم منه أنه مفرط في الخيانة وركوب المآثم، ويدل له أنه هرب إلى مكة وارتد، كما أسلفنا.

قيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أنها لها أخوات، وعن عمر - رضي الله عنه - أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكي وتقول: هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه، فقال: كذبت؛ إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة.

وقوله تعالى: يستخفون من الناس أي: يستترون؛ حياء منهم وخوفا من ضررهم ولا يستخفون من الله فلا يستحيون منه وهو معهم أي: وهو عالم بهم مطلع عليهم، لا يخفى عليه خاف من سرهم.

قال الزمخشري : وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم، مع علمهم - إن كانوا مؤمنين - أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح.

وقوله تعالى: إذ يبيتون ما لا يرضى من القول أي: يدبرون ويزورون الحلف الكاذب ورمي البريء وشهادة الزور.

وقوله تعالى: ها أنتم هؤلاء الآية، المجادلة: أشد المخاصمة، والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن السارق وقومه في الدنيا، فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه؟!

وقوله تعالى: أم من يكون عليهم وكيلا حافظا ومحاميا من بأس الله تعالى وانتقامه.

قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة هذه الآيات: وجوب الحكم من غير محاباة ولا ميل، والنهي عن التعصب والمجادلة عن كل خائن وعاص، ويدل تقييد النهي عن الجدل بالذين يختانون أنفسهم على إباحة المجادلة. انتهى.

واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في هذا الباب أتبعه بالدعوة إلى التوبة بقوله سبحانه.
[ ص: 1540 ] القول في تأويل قوله تعالى:

ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما [110]

ومن يعمل سوءا أي: قبيحا متعديا، يسوء به غيره، كما في القصة أو يظلم نفسه فيخصها بالمعصية ثم يستغفر الله بالتوبة الصادقة يجد الله غفورا لذنوبه كائنة ما كانت رحيما أي: متفضلا عليه.

قال أبو السعود : وفيه مزيد ترغيب لطعمة وقومه في التوبة والاستغفار؛ لما أن مشاهدة التائب لآثار المغفرة والرحمة نعمة زائدة.
القول في تأويل قوله تعالى:

ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما [111]

ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه أي: فليتحرز عن تعريضها للعقاب وكان الله عليما حكيما
القول في تأويل قوله تعالى:

ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا [112]

ومن يكسب خطيئة أو إثما الخطيئة الذنب، أو ما تعمد منه، والإثم الذنب أيضا، وأن يعمل ما لا يحل له، كذا في "القاموس".

قال الراغب: الإثم أعم من العدوان، وقال غيره: هو فعل مبطئ عن الثواب.

ثم يرم به أي: يقذف به بريئا أي: مما رماه به، كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح، وهو لبيد بن سهل - كما تقدم - وقد كان بريئا فقد احتمل بهتانا وهو الكذب على الغير بما يبهت منه وإثما مبينا أي: بينا فاحشا؛ لأنه بكسب الإثم آثم، وبرمي البريء باهت، فهو جامع بين الأمرين.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #254  
قديم 08-09-2022, 12:58 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,932
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1541 الى صـ 1548
الحلقة (254)




[ ص: 1541 ] القول في تأويل قوله تعالى:

ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنـزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [113]

ولولا فضل الله عليك ورحمته بإعلامك ما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق لهمت طائفة منهم أن يضلوك برمي البريء والمجادلة عن الخائنين، يعني أسير بن عروة وأصحابه، يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برآء، ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وما يضلون إلا أنفسهم لأن وباله عليهم وما يضرونك من شيء لأنك إنما عملت بظاهر الحال، وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك.

ولما أنزل تعالى فصل القضية وجلاها لرسوله - صلى الله عليه وسلم - امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال بقوله: وأنـزل الله عليك الكتاب والحكمة أي: القرآن والسنة وعلمك من أمور الدين والشرائع ما لم تكن تعلم أي: قبل نزول ذلك عليك، كقوله: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب [الشورى: من الآية 52] الآية، وقال تعالى: وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك [القصص: 86] ولهذا قال تعالى: وكان فضل الله عليك عظيما أي: فيما علمك وأنعم عليك.

قال الرازي : هذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب، ثم أشار تعالى إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضى من القول بقوله سبحانه:
[ ص: 1542 ] القول في تأويل قوله تعالى:

لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما [114]

لا خير في كثير من نجواهم أي: مساررتهم، والسياق - وإن دل على مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض - إلا أنها في المعنى عامة، والمراد: لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث، ثم استثنى النجوى في أعمال الخير بقوله سبحانه وتعالى: إلا من أمر بصدقة أي: إلا في نجوى من أمر - بخفية عن الحاضرين - بصدقة ليعطيها سرا، يستر به عار المتصدق عليه.

أو معروف أي: بطاعة الله - وأعمال البر كلها معروف - وسر التناجي فيه أن لا يأنف المأمور عن قبوله لو جهر به.

أو إصلاح بين الناس يعني الإصلاح بين المتباينين المتخاصمين ليتراجعا إلى ما كانا فيه من الألفة والاجتماع، على ما أذن الله فيه وأمر به، وسر النجوى فيه أنه لو ظهر أولا ربما لم يتم.

قال المهايمي : قيل في الحصر: الخير إما نفع جسماني وهو في الأمر بالصدقة، أو روحاني وهو في الأمر بالمعروف، وإما دفع وهو في الإصلاح.

ويمكن أن يقال: الخير إما نفع متعد من المأمور وهو الصدقة، أو لازم له وهو المعروف، أو دفع ضرر متعد أو لازم له وهو الإصلاح، وإنما تتم خيريتها إذا ابتغي بها رضاء الله تعالى كما قال: ومن يفعل ذلك ابتغاء أي: طلب مرضات الله فسوف نؤتيه يعني في الآخرة أجرا عظيما يساوي أجر الفاعل أو يفوقه.

وقد دلت الآية على /الترغيب في الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس، وقد أكد تعالى الترغيب بقوله: عظيما وأن النية فيها شرط لنيل الثواب؛ لقوله تعالى: [ ص: 1543 ] ابتغاء مرضات الله وعلى أن كلام الإنسان عليه لا له، إلا ما كان في هذا ونحوه، كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه بسنده إلى محمد بن يزيد بن خنيس قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده فدخل علينا سعيد بن حسان، فقال له الثوري: الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح اردده علي فقال: حدثتني أم صالح ، عن صفية بنت شيبة ، عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلام ابن آدم كله عليه لا له، إلا ذكر الله عز وجل، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر .

فقال سفيان: أوما سمعت الله في كتابه يقول: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فهو هذا بعينه، أوما سمعت الله يقول: يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [النبأ: 38] فهو هذا بعينه، أوما سمعت الله يقول في كتابه: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلخ [العصر: 1 - 2] فهو هذا بعينه.

وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث ابن خنيس، عن سعيد بن حسان به، ولم يذكر أقوال الثوري إلى آخرها.

ثم قال الترمذي : حديث غريب لا يعرف إلا من حديث ابن خنيس. قلت: هو مقبول - كما في "التقريب" لابن حجر - فحسن حديثه.

[ ص: 1544 ] وروى الجماعة عن أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا .

وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.

وروى الإمام أحمد، وأبو داود ، والترمذي ، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين.

قال: وفساد ذات البين هي الحالقة
قال الترمذي : حسن صحيح.
[ ص: 1545 ] القول في تأويل قوله تعالى:

ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [115]

ومن يشاقق الرسول أي: يخالفه ويعاديه من بعد ما تبين له الهدى أي: اتضح له الحق ويتبع غير سبيل المؤمنين أي: غير ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل، وهو الدين القيم نوله ما تولى أي: نجعله واليا مرجحا ما تولاه من المشاقة ومتابعة غير سبيلهم فنزينه له تزين الكفر على الكفرة؛ استدراجا له ليكون دليلا على شدة العقوبة في الآخرة، كما قال تعالى: فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون [القلم: 44] وقال تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [الصف: 5] وقال سبحانه: ونذرهم في طغيانهم يعمهون [الأنعام: 110].

ونصله جهنم أي: ندخله إياها وساءت مصيرا وجعل النار مصيره في الآخرة؛ لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا النار يوم القيامة، كما قال تعالى: احشروا الذين ظلموا وأزواجهم [سورة الصافات: 22] وقال تعالى: ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا [الكهف: 53].

[ ص: 1546 ] قال الإمام ابن كثير : قوله تعالى: ويتبع غير سبيل المؤمنين هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ؛ تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها، والذي عول عليه الشافعي - رحمه الله - في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة، بعد التروي والفكر الطويل، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك. انتهى.

وقال بعض مفسري الزيدية: الآية دلت على أن مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كبيرة، وقد تبلغ إلى الكفر، ودلت على أن الجهل عذر؛ لقوله: من بعد ما تبين له الهدى ودلت على أن مخالفة الإجماع كبيرة، وأنه دليل كالكتاب والسنة، لكن إنما يكون كبيرة إذا كان نقله قطعيا لا أحاديا. انتهى.

وقال المهايمي: في الآية دليل على حرمة مخالفة الإجماع؛ لأنه - عز وجل - رتب الوعيد الشديد على مشاقة الرسول ومخالفة الإجماع، فهو إما لحرمة أحدهما وهو باطل؛ إذ يقبح أن يقال: من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحد، إذ لا دخل لأكل الخبز فيه، أو لحرمة الجمع بينهما وهو أيضا باطل؛ لأن مشاقة الرسول حرام وإن لم يضم إليها غيرها، أو لحرمة كل واحد منهما وهو المطلوب. انتهى.

ونقل الخفاجي قصة استدلال الشافعي من هذه الآية عن الإمام المزني قال: كنت عند الشافعي يوما فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا، فلما رآه ذا مهابة استوى جالسا - وكان مستندا لأسطوانة - فاستوى وسوى ثيابه، فقال له: ما الحجة في دين الله؟ قال: كتابه. قال: وماذا؟ قال: سنة نبيه. قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة. قال: من أين هذا الأخير؟ أهو في كتاب الله؟ فتدبر ساعة ساكتا، فقال له الشيخ: أجلتك ثلاثة أيام بلياليهن، فإن جئت بآية وإلا فاعتزل الناس.

[ ص: 1547 ] فمكث ثلاثة أيام لا يخرج، وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر، وقد تغير لونه، فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس، وقال: حاجتي، فقال: نعم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: ومن يشاقق الرسول - إلى آخر الآية، لم يصله جهنم على خلاف المؤمنين إلا واتباعهم فرض، قال: صدقت، وقام وذهب.

وروي عنه أنه قال: قرأت القرآن في يوم، وفي كل ليلة ثلاث مرات حتى ظفرت بها.

وأورد الراغب عليه أنه لا حجة فيها على ما ذكره بأن كل موصوف علق به حكم فالأمر باتباعه يكون في مأخذ ذلك الوصف، فإذا قيل: اقتد بالمصلي فالمراد في صلاته، فكذا سبيل المؤمنين، يعني به سبيلهم في الإيمان لا غير، فلا دلالة في الآية على اتباعهم في غيره.

ورد بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول، ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضا، فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه، فسبيل المؤمنين - وإن فسر بما هم عليه من الدين - يعم الأصول والفروع، الكل والبعض، على أن الجزاء مرتب على كل من الأمرين المذكورين في الشرط، لا على المجموع، للقطع بأن مجرد مشاقة الرسول كافية في استحقاق الوعيد معنى، على أن ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين؛ لأن المكلف لا يخلو من اتباع سبيل البتة. انتهى.

ورأيت للإمام تقي الدين ابن تيمية في كتابه "الفرقان بين الحق والباطل" مقالة بديعة في هذه الآية والإجماع، أجال فيها جواد قلمه وأجاد، وأطال وأطاب، قال رحمه الله: ما يسميه ناس الفروع والشرع والفقه فهذا قد بينه الرسول أحسن بيان، فما بقي مما أمر الله به أو نهى عنه أو حلله أو حرمه إلا بين ذلك، وقد قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة: 3].

[ ص: 1548 ] وقال تعالى: ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [يوسف: 111] وقال تعالى: ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين [النحل: 89] وقال تعالى: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب [الشورى: 10] وقال تعالى: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [التوبة: 115] فقد بين للمسلمين جميع ما يتقونه، كما قال: وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه [الأنعام: 119]


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #255  
قديم 08-09-2022, 01:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,932
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1549 الى صـ 1556
الحلقة (255)



وقال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [النساء: 59] وهو الرد إلى كتاب الله، [ ص: 1549 ] أو إلى سنة الرسول بعد موته.

وقوله: فإن تنازعتم شرط، والفعل نكرة في سياق الشرط، فأي شيء تنازعوا فيه ردوه إلى الله والرسول، ولو لم يكن بيان الله والرسول فاصلا للنزاع لم يؤمروا بالرد إليه.

وقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كلام نحو هذا.

والحاصل أن الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين، وأما إجماع الأمة فهو في نفسه حق، لا تجتمع الأمة على ضلالة، وكذلك القياس الصحيح حق، فإن الله بعث رسله بالعدل، وأنزل [ ص: 1550 ] الميزان مع الكتاب، والميزان يتضمن العدل وما يعرف به العدل، وقد فسروا إنزال ذلك بأن ألهم العباد معرفة ذلك، والله ورسوله يسوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين، وهذا هو القياس الصحيح، وقد ضرب الله في القرآن من كل مثل، وبين بالقياس الصحيح - وهي الأمثال المضروبة - ما بينه من الحق، لكن القياس الصحيح يطابق النص، فإن الميزان يطابق الكتاب، والله أمر نبيه أن يحكم بالعدل، فهو أنزل الكتاب، وإنما أنزل الكتاب بالعدل، قال تعالى: وأن احكم بينهم بما أنـزل الله [المائدة: 49] ، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط [المائدة: 42].

وأما إجماع الأمة فهو حق، لا تجتمع الأمة - ولله الحمد - على ضلالة، كما وصفها الله بذلك في الكتاب والسنة، فقال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [آل عمران: 110] وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر، فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك، ولم تنه عن المنكر فيه، وقال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [البقرة: 143] والوسط العدل الخيار، وقد جعلهم الله شهداء على الناس [ ص: 1551 ] وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول.

وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال: وجبت ثم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا، فقال: وجبت قالوا: يا رسول الله! ما قولك وجبت؟ قال: هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا، فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا، فقلت: وجبت لها النار؛ أنتم شهداء الله في الأرض .

فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل، فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء فقد أمر به، وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه، ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض.

وقال تعالى: واتبع سبيل من أناب إلي [لقمان: 15] والأمة منيبة إلى ربها؛ فيجب اتباع سبيلها.

وقال تعالى: [ ص: 1552 ] والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه [التوبة: 100] فرضي عمن اتبع السابقين إلى يوم القيامة، فدل على أن متابعهم عامل بما يرضي الله، والله لا يرضى إلا بالحق لا بالباطل، وقال تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا

والشافعي - رضي الله عنه - لما جرد الكلام في أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع، كما كان يسمع هو وغيره من مالك، ذكر ذلك عن عمر بن عبد العزيز ، والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين مستحق للوعيد كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى مستحق للوعيد، ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده، فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل في ذلك لكان لا فائدة في ذكره، وهنا للناس ثلاثة أقوال:

قيل: اتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرده مخالفة الرسول المذكورة في الآية.

وقيل: بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم، فكذلك اتباع غير سبيلهم مستقل بالذم.

وقيل: بل اتباع غير سبيل المؤمنين يوجب الذم كما دلت عليه الآية.

لكن هذا لا يقتضي مفارقته للأول بل قد يكون مستلزما له، فكل متابع غير سبيل المؤمنين هو في نفس الأمر مشاق للرسول، وكذلك مشاق الرسول متبع غير سبيل المؤمنين، وهذا كما في طاعة الله والرسول، فإن طاعة الله واجبة وطاعة الرسول واجبة، وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم، وهما متلازمان، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله.

وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني .

[ ص: 1553 ] ثم قال تقي الدين رحمه الله (بعد ثلاثة أوراق):

ومن الناس من يقول: إنها لا تدل على مورد النزاع، فإن الذم فيها لمن جمع الأمرين، وهذا لا نزاع فيه، أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التي بها كانوا مؤمنين - وهي متابعة الرسول - وهذا لا نزاع فيه، أو إن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة، وهذا لا نزاع فيه، فهذا ونحوه قول من يقول: لا تدل على محل النزاع.

وآخرون يقولون: بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقا، وتكلفوا لذلك ما تكلفوه، كما قد عرف كلامهم، ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية.

والقول الثالث الوسط: إنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم، ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى، وهو يدل على ذم كل من هذا وهذا، كما تقدم، لكن لا ينفي تلازمهما، كما ذكر في طاعة الله والرسول.

وحينئذ يقول: الذم إما أن يكون حقا لمشاقة الرسول فقط، أو باتباع غير سبيلهم فقط، أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما، بل بهما إذا اجتمعا، أو يلحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر، أو بكل منهما لكونه مستلزما للآخر، والأولان باطلان؛ لأنه لو كان المؤثر أحدهما فقط كان ذكر الآخر ضائعا لا فائدة فيه، وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعا، فإن مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه، ولحوق الذم بكل منها - وإن انفرد عن الآخر - لا تدل عليه الآية، فإن الوعيد فيها إنما هو على المجموع.

بقي القسم الآخر: وهو أن كلا من الوصفين يقتضي الوعيد؛ لأنه مستلزم للآخر، كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام، فيقال: من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار، ومثله قوله: ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا فإن الكفر بكل واحد من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره، فمن كفر بالله كفر بالجميع، ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل، فكان كافرا بالله، إذ كذب رسله وكتبه.

[ ص: 1554 ] وكذلك إذا كفر باليوم الآخر كذب الكتب والرسل فكان كافرا، وكذلك قوله: يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون [آل عمران: 71] ذمهم على الوصفين، وكل منهما مقتض للذم، وهما متلازمان، ولهذا نهى عنهما جميعا في قوله: ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به، فغلط به، لزم أن يكتم الحق الذي تبين أن هذا باطل، إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق، فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، من شاقه فقد اتبع غير سبيلهم، وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا، فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم، فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا، والآية توجب ذم ذلك.

وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول، قلنا: لأنهما متلازمان، وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه الرسول قد بينه الرسول، وهذا هو الصواب، فلا يوجد مسألة قط مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس، ويعلم الإجماع فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثان مع النص، كالأمثال المضروبة في القرآن، وكذلك الإجماع دليل آخر، كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة، وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا توجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص، وقد كان بعض الناس يذكر فيها الإجماع بلا نص كالمضاربة، وليس كذلك، بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية، لا سيما قريش ، فإن الأغلب كان عليهم التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال.

[ ص: 1555 ] ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سافر بمال غيره قبل النبوة كما سافر بمال خديجة، والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره، فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة، ولم ينه عن ذلك، والسنة قوله وفعله وإقراره، فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة.

والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ - ويعتمد عليه الفقهاء - لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه واتجرا فيه وربحا، وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش، فقال له أحدهما: لو خسر المال لكان علينا، فكيف يكون الربح وعلينا الضمان؟ فقال له بعض الصحابة: اجعله مضاربة، فجعله مضاربة.

[ ص: 1556 ] وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم، والعهد بالرسول قريب، لم يحدث بعده، فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول، كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والخرازة، وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص، لكن كان النص عند غيرهم.

وابن جرير وطائفة يقولون: لا ينعقد الإجماع إلا من نص نقلوه عن الرسول، مع قولهم بصحة القياس، ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى، كما نقل الأخبار، ولكن استقرينا موارد الإجماع فوجدنا كلها منصوصة.

وكثير من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة، كما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع، وكما يكون في المسألة نص خاص وقد استدل فيها بعموم، كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله تعالى: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [الطلاق: 4] وقال ابن مسعود: سورة النساء القصرى نزلت بعد الطولى، أي: بعد البقرة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #256  
قديم 08-09-2022, 01:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,932
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1557 الى صـ 1564
الحلقة (256)




وقوله: أجلهن أن يضعن حملهن [ ص: 1557 ] يقتضي انحصار الأجل في ذلك، فلو أوجب عليها أن تعتد بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها. وعلي وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين، وجاء النص الخاص في قصة سبيعة الأسلمية بما يوافق قول ابن مسعود .

وكذلك لما تنازعوا في المفوضة إذا مات زوجها هل لها مهر المثل، أفتى ابن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل، ثم رووا حديث بروع بنت واشق بما يوافق ذلك، وقد خالفه علي وزيد وغيرهما، فقالوا: لا مهر لها.

فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس، ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه، ولا يعلم مسألة واحدة اتفقوا على أنه لا نص فيها، بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص وأولئك يحتجون بنص، كالمتوفى عنها الحامل هؤلاء احتجوا بشمول الآيتين [ ص: 1558 ] لها، والآخرون قالوا: إنما تدخل في آية الحمل فقط، وإن آية الشهور في غير الحامل، كما أن آية القروء في غير الحامل.

وكذلك لما تنازعوا في الحرام احتج من جعله يمينا بقوله: لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [التحريم: 1 - 2].

وكذلك تنازعوا في المبتوتة هل لها نفقة أو سكنى، احتج هؤلاء بحديث فاطمة وبأن السكنى التي في القرآن للرجعية، وأولئك قالوا: بل هي لهما. ودلالات النصوص قد تكون خفية، فخص الله بفهمها بعض الناس، كما قال علي: إلا فهما [ ص: 1559 ] يؤتيه الله عبدا في كتابه.

وقد يكون النص بينا ويذهل المجتهد عنه، كتيمم الجنب، فإنه بين في القرآن في آيتين، ولما احتج أبو موسى على ابن مسعود بذلك قال الحاضر: ما درى عبد الله ما يقول، إلا أنه قال: لو أرخصنا لهم في هذا لأوشك أحدهم إذا وجد البرد أن يتيمم.

وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر: إن المطلقة في القرآن هي الرجعية بدليل قوله: لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا [الطلاق: 1] وأي أمر يحدثه بعد الثلاثة؟

وقد احتج طائفة على وجوب العمرة بقوله: وأتموا الحج والعمرة لله [البقرة: 196] واحتج بهذه الآية من منع [ ص: 1560 ] الفسخ.

وآخرون يقولون: إنما أمر بالإتمام فقط، وكذلك أمر الشارع أن يتم، وكذلك في الفسخ قالوا: من فسخ العمرة إلى غير حج فلم يتمها، أما إذا فسخها ليحج من عامه فهذا قد أتى بما تم مما شرع فيه؛ فإنه شرع - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عام حجة الوداع.

وتنازعوا في الذي بيده عقدة النكاح وفي قوله: أو لامستم النساء [النساء: 43] ونحو ذلك مما ليس هذا موضع استقصائه.

وأما مسألة مجردة اتفقوا على أنه لا يستدل فيها بنص جلي ولا خفي فهذا ما أعرفه.

والجد لما قال أكثرهم: إنه أب استدلوا على ذلك بالقرآن بقوله: كما أخرج أبويكم من الجنة [الأعراف: 27] [ ص: 1561 ] وقال ابن عباس : لو كانت الجن تظن أن الإنس تسمي أبا الأب جدا لما قالت: وأنه تعالى جد ربنا [الجن: 3] نقول: إنما هو أب، لكن أب أبعد من أب .

وقد روي عن علي وزيد أنهما احتجا بقياس، فمن ادعى إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقا فقط غلط، ومن ادعى أن من المسائل ما لم يتكلم أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط، بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم، فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها، ومن رأى دلالة الميزان ذكرها، والدلائل الصحيحة لا تتناقض، لكن قد يخفى وجه اتفاقهما أو ضعف أحدهما على بعض العلماء.

وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين، كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين، فإنهم شهدوا التنزيل وعاينوا الرسول، وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله ما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك، فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس.

ومن قال من المتأخرين: إن الإجماع مستند معظم الشريعة فقد أخبر عن حاله؛ فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك، وهذا كقولهم: إن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها، فإنما هذا من قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الأحكام.

وقد قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها، فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام حدثت جميع أجناس الأعمال، فتكلموا فيها بالكتاب والسنة، وإنما تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة، والإجماع لم يكن يحتج به عامتهم ولا يحتاجون إليه؛ إذ هم أهل الإجماع، فلا إجماع قبلهم. لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شريح: اقض بما في كتاب الله، فإن لم تجد فبما في سنة رسول الله، فإن لم تجد فبما قضى به الصالحون قبلك، وفي رواية: فبما أجمع [ ص: 1562 ] عليه الناس، فقدم عمر الكتاب ثم السنة، وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال عمر ، قدم الكتاب ثم السنة، ثم الإجماع، وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في الكتاب، ثم بما في السنة، ثم بسنة أبي بكر وعمر ؛ لقوله: اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر .

وهذه الآثار ثابتة عن عمر ، وابن مسعود، وابن عباس ، وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء، وهذا هو الصواب.

ولكن طائفة من المتأخرين قالوا: يبدأ المجتهد ينظر أولا في الإجماع، فإن وجده لم يلتفت إلى غيره، وإن وجد نصا خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه، وقال بعضهم: الإجماع نسخه.

والصواب طريقة السلف، وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذاك منسوخ، فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة وحفظت النص المنسوخ - فهذا لا يوجد قط، وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه وإضاعة ما أمرت باتباعه، وهي معصومة عن ذلك.

ومعرفة الإجماع قد تتعذر كثيرا أو غالبا، فمن الذي يحيط بأقوال المجتهدين؟ بخلاف النصوص، فإن معرفتها ممكنة متيسرة، وهم إنما كانوا يقضون بالكتاب أولا؛ لأن السنة لا تنسخ الكتاب، فلا يكون في القرآن شيء منسوخ بالسنة، بل إن كان فيه منسوخ كان في القرآن ناسخه، فلا يقدم غير القرآن عليه، ثم إذا لم يجد ذلك طلبه في السنة، ولا يكون في السنة شيء منسوخ إلا والسنة نسخته، لا ينسخ السنة إجماع ولا غيره، ولا تعارض السنة بإجماع وأكثر ألفاظ الآثار، فإن لم يجد فالطالب قد لا يجد مطلوبه في السنة مع أنه فيها، وكذلك [ ص: 1563 ] في القرآن، فيجوز له إذا لم يجده في القرآن أن يطلبه في السنة، وإذا كان في السنة لم يكن ما في السنة معارضا لما في القرآن، وكذلك الإجماع الصحيح لا يعارض كتابا ولا سنة. انتهى كلامه قدس الله روحه.
القول في تأويل قوله تعالى:

إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا [116]

إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قد مر الكلام على هذه الآية الكريمة في أوائل هذه السورة مطولا، قالوا: تكريرها إما تأكيدا وتشديدا أو لتكميل قصة طعمة، وقد مر موته كافرا.

أو: إن لها سببا آخر في النزول، على ما رواه الثعلبي ، عن ابن عباس قال: جاء شيخ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: إني شيخ منهمك في الذنوب، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أوقع المعاصي جراءة، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا، وإني لنادم تائب، فما ترى حالي عند الله سبحانه وتعالى؟ فنزلت.

واستظهر بعضهم الوجه الأخير قال: لأن التأكيد - مع بعد عهده - لا يقتضي تخصص هذا الموضع، فلا بد له من مخصص.

وأغرب المهايمي حيث جعلها مشيرة إلى شقي الآية الكريمة، حيث قال: ثم أشار إلى أن وعيد مشاقة الرسول جازم دون مخالفة الإجماع؛ لأن مشاقة الرسول دليل تكذيبه، وهو مستلزم للشرك بالله، إذ خلق المعجزات لا يكون إلا لكامل القدرة، ولا يكون إلا لإله، فإذا نفاها عن الله فقد أثبت له شريكا، وأن الله لا يغفر أن يشرك به. ومخالفة الإجماع يجوز أن تكون مغفورة؛ لأنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، إذ لا تنتهي إلى الشرك. وكل هذه المناسبات دالة - دون ذلك قطعا - على دلالة هذه الآية، على أن ما سوى الشرك مغفور قطعا، سواء حصلت التوبة أو لم تحصل.

[ ص: 1564 ] وقد روى الترمذي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية: إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا أي: عن الحق، فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة، وإنما ذكر في الآية الأولى: فقد افترى لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب، ومنشأ شركهم كان نوع افتراء، وهو دعوى التبني على الله تعالى بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه قاله القاضي .

وفي (السمين): ختمت الآية المتقدمة بقوله: فقد افترى وهذه بقوله: فقد ضل لأن الأولى في شأن أهل الكتاب وهم عندهم علم بصحة نبوته، وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع، ومع ذلك فقد كابروا في ذلك وافتروا على الله، وهذه في شأن قوم مشركين ليس لهم كتاب ولا عندهم علم، فناسب وصفهم بالضلال، وأيضا قد تقدم هنا ذكر الهدى وهو ضد الضلال. انتهى.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #257  
قديم 08-09-2022, 01:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,932
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1565 الى صـ 1572
الحلقة (257)




القول في تأويل قوله تعالى:

إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [117]

إن يدعون من دونه ما يعبد مشركو مكة ونحوهم من دون الله إلا إناثا قال الرازي : (يدعون) بمعنى (يعبدون) لأن من عبد شيئا فإنه يدعوه عند احتياجه إليه. انتهى.

وقد روى الإمام أحمد ، وابن أبي شيبة ، وأصحاب السنن وغيرهم، عن النعمان بن بشير [ ص: 1565 ] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الدعاء هو العبادة ورواه أبو يعلى عن البراء، ورواه الترمذي عن أنس بلفظ: الدعاء مخ العبادة .

وفي قوله تعالى: إلا إناثا وجوه:

الأول: ما رواه ابن أبي حاتم ، عن عائشة قالت: يعني أوثانا، وعليه فمرجع التسمية بالإناث كون أسماء غالبها مؤنثة، كمناة والعزى واللات ونحوها؛ ولأنهم كانوا يلبسونها أنواع الحلي ويزينونها على هيئات النسوان.

وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، ومجاهد ، وأبي مالك، والسدي، ومقاتل نحو ما لعائشة .

الوجه الثاني: أنه عنى الملائكة؛ لأن بعضهم كان يعبد الملائكة، ويقولون عنها: بنات الله.

روى ابن جرير ، عن الضحاك في الآية: قال المشركون للملائكة: بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. قال: فاتخذوهن أربابا وصوروهن جواري فحكوا وقلدوا وقالوا: هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده، يعنون الملائكة.

قال ابن كثير : وهذا التفسير شبيه بقول الله تعالى: أفرأيتم اللات والعزى [النجم: 27] الآيات، وقال تعالى: وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [الزخرف: 19].... الآية، وقال: وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا [الصافات: 137] انتهى.

وقال تعالى: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى

[ ص: 1566 ] الوجه الثالث: ما رواه ابن أبي حاتم ، عن أبي بن كعب في الآية قال: مع كل صنم جنية.

الرابع: قال علي بن أبي طلحة والضحاك، عن ابن عباس والحسن: إناثا يعني موتى، قال الحسن: الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .

وفي "القاموس وشرحه": الإناث جمع الأنثى، وهو خلاف الذكر من كل شيء، والموات الذي هو خلاف الحيوان، كالشجر والحجر والخشب، عن اللحياني . وعن الفراء : تقول العرب: اللات والعزى وأشباههما من الآلهة المؤنثة. انتهى.

وقال الإمام أبو البقاء : قوله تعالى: إلا إناثا هو جمع أنثى على (فعال) ويراد به كل ما لا روح فيه من صخرة وشمس ونحوهما.

ويقرأ (أنثى) على الإفراد، ودل الواحد على الجمع.

ويقرأ (أنثا) مثل رسل، يجوز أن تكون صفة مفردة مثل: "امرأة جنب" ويجوز أن يكون جمع أنيث كقليب وقلب، وقد قالوا: "حديد أنيث" من هذا المعنى.

ويقرأ (أثنا) والواحد وثن وهو الصنم وأصله وثن، في الجمع كما في الواحد، إلا أن الواو قلبت همزة لما انضمت ضما لازما وهو مثل: (أسد وأسد) ويقرأ بالواو على الأصل جمعا، ويقرأ بسكون الثاء مع الهمزة والواو. انتهى.

قال البيضاوي : ولعله تعالى ذكرها بهذا الاسم؛ تنبيها على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثا؛ لأنه ينفعل ولا يفعل، ومن حق المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل؛ ليكون دليلا على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم.

وإن يدعون أي: ما يعبدون من دون الله إلا شيطانا مريدا وهو إبليس - لعنه الله - لطاعتهم له في عبادتها، وإذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه، كما قال تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان [يس: 60] وقال تعالى: بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [سبأ: 41] والمريد المتمرد العاتي الطاغي.
[ ص: 1567 ] القول في تأويل قوله تعالى:

لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا [118]

لعنه الله صفة ثانية لـ (شيطانا) أي: أبعده الله عن رحمته، فأراد إبعاد من أبعد بسببه وقال حين أبعد: لأتخذن من عبادك أي: الذين أبعدتني بسببهم، أي: لأجعلن لي منهم نصيبا أي: حظا مفروضا أي: مقطوعا ومقدرا من عبادتهم بأن يعبدوا غيرك، أو يراءوا فيها، أو يعجبوا بها، أو يتلفوها في المظالم، أو يحبطوها بالكفر بعدها.

قال العلامة أبو السعود : قوله تعالى: وقال إلخ .. عطف على الجملة المتقدمة: أي: شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله وهذا القول الشنيع الصادر عنه عند اللعن.

ولقد برهن على أن عبادة الأصنام غاية الضلال بطريق التعليل بأن ما يعبدونها ينفعل ولا يفعل فعلا اختياريا، وذلك ينافي الألوهية غاية المنافاة، ثم استدل عليه بأن ذلك عبادة للشيطان وهو أفظع الضلال من وجوه ثلاثة:

الأول: أنه منهمك في الغي لا يكاد يعلق بشيء من الخير والهدى، فتكون طاعته ضلالا بعيدا عن الحق.

والثاني: أنه ملعون لضلاله، فلا تستتبع مطاوعته سوى اللعن والضلال.

والثالث: أنه في غاية السعي في إهلاكهم وإضلالهم، فموالاة من هذا شأنه غاية الضلال، فضلا عن عبادته.
القول في تأويل قوله تعالى:

ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا [119]

ولأضلنهم أي: عن الهدى ولأمنينهم أي: الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال، قال الرازي : إن الشيطان لما ادعى أنه يضل الخلق قال: ولأمنينهم [ ص: 1568 ] وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الإضلال أقوى من الأماني في قلوب الخلق، وطلب ما يورث شيئين: الحرص والأمل، والحرص والأمل يستلزم أكثر الأخلاق الذميمة، وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإنسان، قال صلى الله عليه وسلم: يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: الحرص والأمل .

والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين، فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقا في الدنيا، فلا يكاد يقدم على التوبة ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة.

ولآمرنهم أي: على خلاف أمرك إضلالا لهم فليبتكن آذان الأنعام أي: فليقطعنها ويشقنها سمة وعلامة للبحائر والسوائب ليحرموها بعدما أحللتها.

قال الواحدي رحمه الله: التبتيك: ههنا هو قطع آذان البحيرة بإجماع المفسرين، وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا ثم تسيب، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها، فأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ولا يردونها عن ماء ولا مرعى، وإذا لقيها المعيى المنقطع به لم يركبها، وسول لهم إبليس أن هذا قربة وهي البحيرة.

قال ابن سيده : بحر الناقة والشاة يبحرها: شق أذنها بنصفين، وقل بنصفين طولا.

ولآمرنهم فليغيرن خلق الله أي: دين الله عز وجل، ورواه ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس وكثيرين، وهذا كقوله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله [الروم: 30] على قول من جعل ذلك أمرا، أي: لا تبدلوا فطرة الله، [ ص: 1569 ] ودعوا الناس على فطرتهم.

كما ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تجدون بها من جدعاء؟

وفي صحيح مسلم ، عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم .

[ ص: 1570 ] وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب وبحر البحيرة .

وروى الطبراني ، عن ابن عباس مرفوعا: أول من غير دين إبراهيم عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، أبو خزاعة .

وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس : أنه عنى بالآية خصي الدواب، وقال أنس: منه الخصا.

وقد روى ابن عساكر، عن ابن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإخصاء.

ورواه الإمام أحمد أيضا عنه بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن خصاء الخيل والبهائم.

وروى الطبراني ، عن ابن مسعود : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخصى أحد من ولد آدم.

وروى [ ص: 1571 ] البيهقي ، عن ابن عباس : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صبر الروح وخصاء البهائم.

وقال الحسن : عنى بالآية الوشم (بالشين المعجمة) أخرجه ابن أبي حاتم .

روى الإمام أحمد ، عن أبي هريرة : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوشم.

وفي الصحيح عن ابن مسعود : لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله عز وجل ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله عز وجل يعني قوله: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا

قال السيوطي في "الإكليل": فيستدل بالآية على تحريم الخصاء والوشم وما يجري مجراه من الوصل في الشعر ، والتفلج: وهو تفريق الأسنان، والتنميص: وهو نتف الشعر في الوجه. انتهى.

[ ص: 1572 ] قال بعض الزيدية: ويلحق بالوشر ما يفعل في الخد من الشرط للزينة.

وحكى الزجاج عن بعضهم في معنى الآية: إن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها، فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل، وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها، فعبدها المشركون فغيروا خلق الله، ولا يخفى أن عموم الآية يصدق على جميع المعاني؛ إذ كلها من تغيير خلق الله، فلا مانع من حمل الآية عليها.

قال البيضاوي : قوله: فليغيرن خلق الله أي: عن وجهه وصورته، أو صفته، ويندرج فيه ما قيل من فقء عين الحامي، وخصاء العبيد، والوشم والوشر، واللواط، والسحق، ونحو ذلك، وعبادة الشمس والقمر، وتغيير فطرة الله تعالى التي هي الإسلام، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا، ولا يوجب لها من الله سبحانه وتعالى زلفى. انتهى.

وهذه الجمل المحكية عن اللعين مما نطق به لسانه مقالا أو حالا، وما فيها من (اللامات) كلها للقسم، والمأمور به في الموضعين محذوف؛ ثقة بدلالة النظم عليه.

ثم حذر تعالى عن متابعته فقال: ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله بإيثار ما يدعو إليه، مجاوزا ولاية الله بترك ما يدعو إليه فقد خسر خسرانا مبينا أي: بينا لمصيره إلى النار المؤبدة عليه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #258  
قديم 08-09-2022, 01:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,932
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1573 الى صـ 1580
الحلقة (258)





القول في تأويل قوله تعالى:

يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [120]

يعدهم بأنهم الفائزون ويمنيهم أي: ما لا ينالونه وما يعدهم الشيطان إلا غرورا باطلا وضلالا، وإيهام نفع مما ليس فيه إلا الضرر.
القول في تأويل قوله تعالى:

أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا [121]

أولئك أي: أولياء الشيطان مأواهم مصيرهم ومآلهم يوم القيامة [ ص: 1573 ] جهنم ولا يجدون عنها محيصا معدلا ومفرا.
ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء ومآلهم من الكرامة فقال سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا [122]

والذين آمنوا أي: صدقت قلوبهم وعملوا الصالحات أي: عملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات سندخلهم جنات تجري من تحتها أي: من تحت غرفها ومساكنها الأنهار أنهار الخمر والماء واللبن والعسل خالدين فيها مقيمين في الجنة، لا يموتون ولا يخرجون منها أبدا وعد الله حقا صدقا واقعا لا محالة، وكيف لا يكون وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا وعدا وخيرا، وهو استفهام بمعنى النفي، أي: لا أحد أصدق منه قيلا، لا إله إلا هو لا رب سواه.

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .

والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه، والمبالغة في توكيده؛ ترغيبا للعباد في تحصيله، و(القيل) مصدر، كالقال والقول.
القول في تأويل قوله تعالى:

ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا [123]

ليس بأمانيكم أي: ليس الأمر على شهواتكم وأمانيكم أيها المشركون أن تنفعكم الأصنام ولا أماني أهل الكتاب ولا على شهوات اليهود والنصارى حيث قالوا: [ ص: 1574 ] نحن أبناء الله وأحباؤه [المائدة: 18] لن تمسنا النار إلا أياما معدودة [البقرة: 80] .

من يعمل سوءا يجز به أي: من المشركين وأهل الكتاب بدليل قوله: ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا وهذا وعيد للكفار؛ لأنه قال بعده:
القول في تأويل قوله تعالى:

ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا [124]

ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن جملة حالية، و(من) الأولى زائدة عند الأخفش، وصفة عند سيبويه، أي: شيئا من الصالحات فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا أي: لا ينقص من حسناتهم قدر نقير، وهو النقرة التي على ظهر النواة، وهذا على سبيل المبالغة في نفي الظلم، ووعد بتوفية جزاء أعمالهم من غير نقصان، والراجع في: " ولا يظلمون " لعمال السوء وعمال الصالحات جميعا، وجاز أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دليلا على ذكره عند الآخر.

وقوله تعالى: من يعمل سوءا يجز به وقوله: ومن يعمل من الصالحات بعد ذكر تمني أهل الكتاب كقوله سبحانه: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته [البقرة: 81] وقوله: والذين آمنوا وعملوا الصالحات عقيب قوله: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
[ ص: 1575 ] تنبيه:

ما قدمناه من أن الخطاب في قوله تعالى: ليس بأمانيكم للمشركين وأن قوله تعالى: من يعمل سوءا أي: من أهل الكتاب والمشركين - هو الذي يدل عليه سياق الآية ونظمها الكريم كما بينا.

ورواه الطبري ، عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير، والحسن، قال الأولان - رضي الله عنهما -: (السوء) ههنا هو الشرك. وقال الحسن: من يعمل سوءا هو الكافر، ثم قرأ: وهل نجازي إلا الكفور

ولما كان لعموم هذا الخطاب روعة، وأي روعة، أشفق كثير من الصحابة لأجله.

قال ابن كثير : وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا إسماعيل، عن أبي بكر بن أبي زهير قال: أخبرت أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله كيف الفلاح بعد هذه الآية: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به فكل سوء عملنا جزينا به؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض ؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء قال: بلى، قال: هو مما تجزون به

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما نزلت: من يعمل سوءا يجز به شق ذلك على المسلمين، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سددوا وقاربوا، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها رواه سعيد بن منصور ، [ ص: 1576 ] وأحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي .

وقال عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد وأبي هريرة: إنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه - إلا كفر الله عن سيئاته أخرجاه.

وروى ابن مردويه، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله: (من يعمل سوءا يجز به) قال: نعم، ومن يعمل حسنة يجز بها عشرا، فهلك من غلب واحدته عشراته .
القول في تأويل قوله تعالى:

ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا [125]

ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله أي: أخلص نفسه له تعالى فلم يتخذ ربا سواه وهو محسن أي: آت بالحسنات تارك للسيئات، أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي، وقد فسر النبي - صلى الله [ ص: 1577 ] عليه وسلم - الإحسان بقوله: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

واتبع ملة إبراهيم الموافقة لدين الإسلام، المتفق على صحتها وقبولها حنيفا أي: مائلا عن الشرك قصدا، أي: تاركا له عن بصيرة، ومقبل على الحق بكليته، لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه راد.

قال الرازي : اعلم أنه تعالى لما شرط حصول النجاة والفوز بالجنة بكون الإنسان مؤمنا - شرح الإيمان وبين فضله من وجهين:

أحدهما: أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والخضوع والانقياد لله تعالى.

والثاني: أنه الدين الذي كان عليه إبراهيم - عليه السلام - وكل واحد من هذين الوجهين سبب مستقل بالترغيب في دين الإسلام.

أما الوجه الأول: فاعلم أن دين الإسلام مبني على أمرين: الاعتقاد، والعمل.

أما الاعتقاد: فإليه الإشارة بقوله: أسلم وجهه لله وذلك لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع، والوجه أحسن أعضاء الإنسان، فالإنسان إذا عرف بقلبه ربه، وأقر بربوبيته وعبودية نفسه - فقد أسلم وجهه لله.

وأما العمل: فإليه الإشارة بقوله: وهو محسن ويدخل فيه فعل الحسنات وترك السيئات، فتأمل في هذه اللفظة [ ص: 1578 ] المختصرة واحتوائها على جميع المقاصد والأغراض.

وأيضا فقوله: أسلم وجهه لله يفيد الحصر، معناه أنه أسلم نفسه لله، وما أسلم لغير الله، وهذا تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلا عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق، وإظهار التبري من الحول والقوة، وأيضا ففيه تنبيه على فساد طريقة من استعان بغير الله، فإن المشركين كانوا يستعينون بالأصنام ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، والدهرية والطبيعيون يستعينون بالأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها.

واليهود كانوا يقولون في دفع عقاب الآخرة عنهم: إنهم من أولاد الأنبياء، والنصارى كانوا يقولون: ثالث ثلاثة، فجميع الفرق استعانوا بغير الله.

وأما الوجه الثاني في بيان فضيلة الإسلام فهو أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - إنما دعا الخلق إلى دين إبراهيم - عليه السلام - وقد اشتهر عند كل الخلق أن إبراهيم ما كان يدعو إلا إلى الله تعالى كما قال: وإنني بريء مما تشركون [الأنعام: 19] وما كان يدعو إلى عبادة فلك ولا طاعة كوكب، ولا سجدة لصنم، ولا استعانة بطبيعة، بل كان ديدنه الدعوة إلى الله والإعراض عن كل ما سوى الله، وهكذا دعوة محمد، صلى الله عليه وسلم.

ثم إن شرع إبراهيم مقبول عند الكل، وذلك لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم، وأما اليهود والنصارى فلا شك في كونهم مفتخرين به، وإذا ثبت هذا لزم أن يكون شرع محمد مقبولا عند الكل.

واتخذ الله إبراهيم خليلا أي: صفيا خالص المحبة له، وإظهاره - عليه السلام- في موضع الإضمار؛ لتفخيم شأنه والتنصيص على أنه الممدوح، وسر هذه الجملة الترغيب في اتباع ملته - عليه الصلاة والسلام - فإن من بلغ من الزلفى عند الله تعالى مبلغا مصححا لتسميته خليلا [ ص: 1579 ] حقيق بأن يكون اتباع طريقته أهم ما يمتد إليه أعناق الهمم، وأشرف ما يرمق نحوه أحداق الأمم، فإن درجة الخلة أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه، كما وصفه به في قوله: وإبراهيم الذي وفى [النجم: 37].

قال كثير من علماء السلف: أي: قام بجميع ما أمر به، وفي كل مقام من مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير، ولا كبير عن صغير، وقال تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن [البقرة: 124] الآية، وقال تعالى: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين [النحل: 120] الآية.

والخليل لغة: الصديق المختص، وقال ابن الأعرابي : الخليل: الصادق.

وقال الزجاج : هو المحب الذي لا خلل في محبته، وبه فسر الآية، أي: أحبه محبة تامة لا خلل فيها.

وقال ابن دريد: الخليل من أصفى المودة وأصحها، قال: ولا أزيد فيه شيئا؛ لأنها في القرآن. انتهى.

قال الرازي : ذكروا في اشتقاق الخليل وجوها:

منها أن خليل الإنسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره، والذي دخل حبه في خلال أجزاء قلبه، ولا شك أن ذلك هو الغاية في المحبة، قيل: لما أطلع الله إبراهيم - عليه السلام - على الملكوت الأعلى والأسفل، ودعا القوم مرة بعد أخرى إلى توحيد الله، ومنعهم عن عبادة النجم والقمر والشمس، ومنعهم عن عبادة الأوثان، ثم سلم للنيران، وولده للقربان، وماله للضيفان - جعله الله إماما للخلق، ورسولا إليهم، وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته، فلهذه الاختصاصات سماه خليلا؛ لأن محبة الله لعبده عبارة عن إرادته لإيصال الخيرات والمنافع إليه. انتهى.

وقوله: (لأن محبة الله لعبده ... إلخ منزع كلامي لا سلفي).

[ ص: 1580 ] ثم قال الرازي : وعندي وجه آخر، وهو أن جوهر الروح إذا كان مضيئا مشرقا علويا قليل التعلق بالذات الجسمانية والأحوال الجسدانية، ثم انضاف إلى مثل هذا الجوهر المقدس الشريف أعمال تزيده صقالة عن الكدورات الجسمانية، وأفكار تزيده استنارة بالمعارف القدسية والجلايا الإلهية -صار مثل هذا الإنسان متوغلا في عالم القدس والطهارة، متبرئا عن علائق الجسم والحس، ثم لا يزال هذا الإنسان يتزايد في هذه الأحوال الشريفة إلى أن يصير بحيث لا يرى إلا الله، ولا يسمع إلا الله، ولا يتحرك إلا بالله، ولا يسكن إلا بالله، ولا يمشي إلا بالله، فكأن نور جلال الله قد سرى في جميع قواه الجسمانية، وتخلل فيها وغاص في جواهرها، وتوغل في ماهياتها، فمثل هذا الإنسان هو الموصوف حقا بأنه خليل؛ لما أنه تخللت محبة الله في جميع قواه، وإليه الإشارة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: اللهم! اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا، وفي عصبي نورا انتهى.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #259  
قديم 08-09-2022, 01:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,932
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1581 الى صـ 1588
الحلقة (259)




[ ص: 1581 ] قال الإمام العلامة شمس الدين بن القيم في كتابه "الجواب الكافي": الخلة تتضمن كمال المحبة ونهايتها، بحيث لا يبقى في القلب سعة لغير محبوبه، وهي منصب لا يقبل المشاركة بوجه ما، وهذا المنصب خاصة للخليلين - صلوات الله وسلامه عليهما - إبراهيم ومحمد، كما قال صلى الله عليه وسلم: إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا .

وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله .

وفي حديث آخر: إني أبرأ إلى كل خليل من خلته .

ولما سأل إبراهيم - عليه السلام - [ ص: 1582 ] الولد، فأعطيه، فتعلق حبه بقلبه، فأخذ منه شعبة، غار الحبيب على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره، فأمر بذبحه، وكان الأمر في المنام ليكون تنفيذ المأمور به أعظم ابتلاء وامتحانا، ولم يكن المقصود ذبح الولد، ولكن المقصود ذبحه من قلبه؛ ليخلص القلب للرب، فلما بادر الخليل - عليه الصلاة والسلام - إلى الامتثال، وقدم محبة الله على محبة ولده حصل المقصود، فرفع الذبح وفدي بذبح عظيم، فإن الرب تعالى ما أمر بشيء ثم أبطله رأسا، بل لا بد أن يبقي بعضه أو بدله، كما أبقى شريعة الفداء، وكما أبقى استحباب الصدقة بين يدي المناجاة، وكما أبقى الخمس الصلوات بعد رفع الخمسين، وأبقى ثوابها، وقال: ما يبدل القول لدي [ق: 29]، هي خمس في الفعل وخمسون في الأجر.

ثم قال ابن القيم قدس سره: وأما ما يظنه بعض الظانين أن المحبة أكمل من الخلة وأن إبراهيم خليل الله، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حبيب الله - فمن جهله، فإن المحبة عامة والخلة خاصة، والخلة نهاية المحبة، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله اتخذ إبراهيم خليلا، ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب وغيرهم.

وأيضا فإن الله سبحانه: يحب التوابين ويحب المتطهرين [البقرة: 222] و: يحب الصابرين [آل عمران: 146] و: يحب المحسنين [البقرة: 195] [ ص: 1583 ] و: يحب المتقين [آل عمران: 76] و: يحب المقسطين [الممتحنة: 8] وخلته خاصة بالخليلين - عليهما الصلاة والسلام - والشاب التائب حبيب الله، وإنما هذا عن قلة العلم والفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وقد تمسك من زعم أن المحبة أصفى من الخلة بما رواه ابن مردويه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول: عجبا إن الله اتخذ من خلقه خليلا، فإبراهيم خليله. وقال آخر: ماذا بأعجب من أن كلم موسى تكليما. وقال الآخر: فعيسى روح الله وكلمته. وقال آخر: آدم اصطفاه الله.

فخرج عليهم فسلم وقال: قد سمعت كلامكم وتعجبكم، إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه الله، وهو كذلك، وكذلك محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا وإني حبيب الله ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله لي ويدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر
.

قال ابن كثير : وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها. انتهى.

قلت: ورواه الترمذي أيضا في جامعه في فضائله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: هذا حديث غريب.

[ ص: 1584 ] وظاهر أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ألا وإني حبيب الله - لا يدل على أن درجة المحبة أرفع؛ لأنه لم يورد للتفاضل بينهما، وإنما سيقت هذه الجملة مع ما بعدها للتعريف بقدره الجسيم، وفضله العظيم، وبيان خصائصه التي لم تجتمع قبل في مخلوق، وما يدان الله تعالى به من حقه الذي هو أرفع الحقوق ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا [المدثر: 31].

وروى ابن أبي حاتم ، عن إسحاق بن يسار قال: "لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ألقى في قلبه الوجل، حتى إن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء" وهكذا جاء في صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل - إذا اشتد غليانها - من البكاء.
القول في تأويل قوله تعالى:

ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا [126]

ولله ما في السماوات وما في الأرض جملة مبتدأة، سيقت لتقرير وجوب طاعة الله تعالى على أهل السماوات والأرض، ببيان أن جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى خلقا وملكا، لا يخرج عن ملكوته شيء منها، فيجازي كلا بموجب أعماله خيرا وشرا.

وقيل: لبيان أن اتخاذه - عز وجل - لإبراهيم - عليه السلام - خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك في شأن من شؤونه كما هو دأب الآدميين - فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم - بل لمجرد تكرمته وتشريفه عليه السلام.

وقيل: لبيان أن الخلة لا تخرجه عن رتبة العبودية.

[ ص: 1585 ] وقيل: لبيان أن اصطفاءه - عليه السلام – للخلة بمحض مشيئته تعالى، أي: له تعالى ما فيهما جميعا، يختار منهما ما يشاء لمن يشاء، أفاده أبو السعود .

وكان الله بكل شيء محيطا يعني عالما علم إحاطة، لا تخفى عليه خافية من عباده: لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر [يونس: 61].
القول في تأويل قوله تعالى:

ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما [127]

ويستفتونك في النساء أي: ويسألونك الإفتاء في النساء، والإفتاء تبيين المبهم قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب ذكروا في (ما) وجوها: المختار منها أنها في موضع رفع بالعطف على المبتدأ، وهو لفظ الجلالة، أي: والمتلو في الكتاب يفتيكم فيهن أيضا، أو بالعطف على ضميره في: " يفتيكم " وساغ لمكان الفصل بالمفعول والجار والمجرور، وذلك المتلو في الكتاب هو قوله تعالى: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء

قال الرازي : وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن [ ص: 1586 ] أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبين الحكم ذكر أن الله يفتيهم فيها، وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها، وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب، ألا ترى أنه يقال في المشهور: إن كتاب الله بين لنا هذا الحكم، وكما جاز هذا جاز أيضا أن يقال: إن كتاب الله أفتى بكذا.

قال أبو السعود : وإيثار صيغة المضارع للإيذان باستمرار التلاوة ودوامها، و(في الكتاب) إما متعلق بـ(يتلى) أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه، أي: يتلى كائنا فيه.

في يتامى النساء متعلق بـ(يتلى) أي: ما يتلى عليكم في شأنهن، وهذه الإضافة بمعنى (من) لأنها إضافة الشيء إلى جنسه، وقيل: من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: النساء اليتامى.

اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن أي: ما وجب لهن من الميراث وغيره وترغبون أن تنكحوهن روى البخاري ومسلم ، عن عائشة - رضي الله عنها – قالت في هذه الآية: هو الرجل تكون عنده اليتيمة، هو وليها ووارثها، فأشركته في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها، ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذه الآية.

وعنها أيضا قالت: وقول الله عز وجل: [ ص: 1587 ] وترغبون أن تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن.

وهذا المروي عن عائشة يدل على أن الآية نزلت في المعدمة، وأن الجار المقدر مع (أن) هنا هو (عن) وقد تأولها سعيد بن جبير على المعنيين، أي: تقدير (عن) و(في) فقال نزلت في المعدمة والغنية.

قال الحافظ ابن حجر : والمروي عن عائشة أوضح في أن الآية الأولى - أي: التي في أول السورة - نزلت في الغنية، وهذه الآية نزلت في المعدمة.

قال ابن كثير : والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزوجها فتارة يرغب في أن يتزوجها فأمره الله أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء، فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء، فقد وسع الله عز وجل - وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة - وتارة لا يكون له فيها رغبة لدمامتها عنده - أو في نفس الأمر - فنهاه الله عز وجل أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في الآية، وهي قوله: في يتامى النساء الآية: كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا، فإن كانت [ ص: 1588 ] جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فحرم الله ذلك ونهى عنه.

تنبيه: ما ذكرناه عن ابن جبير من حمل الآية على المعنيين، أي: أن حرف الجر المقدر مع (أن) هو (عن) و(في) وأن كلا منهما مراد منها على سبيل البدل لصلاحيتها لهما بالاعتبارين المتقدمين.

قال الخفاجي: مثله لا يعد لبسا بل إجمالا، كما ذكره بعض المحققين. انتهى.

قلت: وهذا بناء على أن اللبس هو أن يدل اللفظ على غير المراد، والإجمال أن لا تتضح الدلالة، وبعبارة أخرى: إيراد الكلام على وجه يحتمل أمورا متعددة، وقد نظم بعضهم الفرق بينهما فقال:


والفرق بين اللبس والإجمال مما به يهتم في الأقوال فاللفظ إن أفهم غير القصد
فاحكم على استعماله بالرد لأنه اللبس. وأما المجمل
فربما يفهمه من يعقل وذاك أن لا تفهم المخالفا
ولا سواه بل تصير واقفا وحكمه القبول في الموارد
فاحفظه نظما أعظم الفوائد


والمستضعفين من الولدان عطف (على يتامى النساء) وما يتلى في حقهم: قوله تعالى: يوصيكم الله إلخ، وقد كانوا في الجاهلية لا يورثونهم، كما لا يورثون الرجال القوام.

قال ابن عباس في الآية: كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله: لا تؤتونهن ما كتب لهن فنهى الله عن ذلك، وبين لكل ذي سهم سهمه، فقال: للذكر مثل حظ الأنثيين صغيرا أو كبيرا، وكذا قال سعيد بن جبير .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #260  
قديم 08-09-2022, 01:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,932
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1589 الى صـ 1596
الحلقة (260)




وأن تقوموا لليتامى بالقسط بالجر، عطف على ما قبله، وما يتلى في حقهم: قوله تعالى: [ ص: 1589 ] ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم [النساء: 2] ونحو ذلك مما لا يكاد يحصر.

قال سعيد بن جبير : المعنى: كما أنها إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها كذلك إذا لم تكن ذات مال وجمال فانكحها واستأثر بها، والخطاب للولاة أو للأولياء والأوصياء.
تنبيه:

استنبط من الآية أحكام:

الأول: جواز نكاح الصغيرة؛ لأن اليتيم: الصغير الذي لم يبلغ، وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا يتم بعد احتلام رواه أبو داود .

وعن الأصم : أراد البوالغ قبل التزوج، وسماهن باليتم لقرب عهدهن باليتم، والأول أظهر؛ لأنه الحقيقة، قالوا: قد يطلق اليتيم على البالغة، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها رواه أهل السنن، والاستئمار لا يكون إلا من البالغة، وقد ورد قول الشاعر:


إن القبور تنكح الأيامى النسوة الأرامل اليتامى


[ ص: 1590 ] فسمى البالغات يتامى؛ لانفرادهن عن الأزواج، وكل شيء منفرد لا نظير له يقال له يتيم، كقولهم: "درة يتيمة" وهذه المسألة فيها أقوال للعلماء:

الأول: جواز نكاح الصغيرة لجميع الأولياء، وهذا مذهب الهادوية ومالك وأبي حنيفة وصاحبيه.

الثاني: للناصر والشافعي : لا يجوز ذلك إلا للأب والجد.

والثالث: لا يجوز ذلك إلا للأب فقط، وهذا قول الأوزاعي ، ومروي عن القاسم .

دليل الأولين ما اقتضاه قوله تعالى: وترغبون أن تنكحوهن وهي نزلت في شأن اليتيمة ينكحها وليها ولا يقسط لها في المهر، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يقسطوا في المهر بقوله في سورة النساء: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء واليتم الحقيقي مع الصغر، وغيره مجاز، وأدنى الأولياء الذي يجوز له النكاح ابن العم، فإذا صح فيه صح.

وحجة القول الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: تستأمر اليتيمة الحديث المتقدم، والإذن لا يكون إلا بعد البلوغ.

وروى الإمام أحمد والدارقطني أن قدامة بن مظعون زوج ابنة أخيه - وكان وصيها - ممن أبته، فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها كذا ذكره بعض مفسري الزيدية.

وتخريج الأحاديث من زيادتي، وما نقله من أن الإذن لا يكون إلا بعد البلوغ يحتاج إلى دليل؛ إذ لا يدل عليه الخبر بمنطوقه ولا مفهومه.

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وفي حديث: لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن : ظاهر الحديث اشتراط رضاء المزوجة بكرا كانت أو ثيبا، صغيرة أو كبيرة. انتهى.

قال الترمذي في "جامعه": وقال بعضهم: لا يجوز نكاح اليتيمة حتى تبلغ.

وقال [ ص: 1591 ] أحمد وإسحاق : إذا بلغت اليتيمة سبع سنين فزوجت فرضيت فالنكاح جائز، ولا خيار لها إذا أدركت، واحتجا بحديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى بها وهي بنت تسع سنين. وقد قالت عائشة : إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. انتهى.

الحكم الثاني: أنه يجوز أن يتولى طرفي العقد واحد في النكاح ؛ لقوله: وترغبون أن تنكحوهن

وقد روى ابن سعد من طريق ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن خالد ، أن أم حكيم بنت قارظ قالت لعبد الرحمن بن عوف : إنه قد خطبني غير واحد، فزوجني أيهم رأيت، قال: وتجعلين ذلك إلي؟ فقالت: نعم، قال: قد تزوجتك، قال ابن أبي ذئب : فجاز نكاحه.

وروى عبد الرزاق ، ووكيع، والبيهقي أن المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوج امرأة وهو وليها، فأمر أبعد منه، فزوجه.

وروى عبد الرزاق أيضا، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء : امرأة خطبها ابن عم لها، لا رجل لها غيره، قال: فلتشهد أن فلانا خطبها، وإني أشهدكم أني قد نكحته، ولتأمر رجلا من عشيرتها.

[ ص: 1592 ] أخرج هذه الآثار الثلاثة البخاري في "صحيحه" تعليقا في (باب إذا كان الولي هو الخاطب) أي: هل يزوج نفسه أو يحتاج إلى ولي آخر.

قال ابن المنير : ذكر في الترجمة ما يدل على الجواز والمنع معا؛ ليكل الأمر في ذلك إلى نظر المجتهد.

قال الحافظ ابن حجر : لكن الذي يظهر من صنيعه أنه يرى الجواز، فإن الآثار التي فيها أمر الولي غيره أن يزوجه - ليس فيها التصريح بالمنع من تزويجه نفسه.

ثم قال: وقد اختلف السلف في ذلك، فقال الأوزاعي وربيعة والثوري ومالك وأبو حنيفة وأكثر أصحابه: يزوج الولي نفسه، ووافقهم أبو ثور .

وعن مالك : لو قالت الثيب لوليها: زوجني بمن رأيت، فزوجها من نفسه أو ممن اختار لزمها ذلك، ولو لم تعلم عين الزوج.

وقال الشافعي : يزوجهما السلطان أو ولي آخر مثله، أو أقعد منه، ووافقه زفر وداود ، وحجتهم أن الولاية شرط في العقد، فلا يكون الناكح منكحا، كما لا يبيع من نفسه. انتهى.

الحكم الثالث: أنه يجوز للأولياء التصرف في المال؛ لأن القيام بالقسط لا يتم إلا بذلك .

وما تفعلوا من خير لا سيما في حق الضعفاء من حفظ أموالهم والقيام بتدبيرهم والإقساط لهم فإن الله كان به عليما فيجزيكم به.
[ ص: 1593 ] القول في تأويل قوله تعالى:

وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [128]

وإن امرأة خافت من بعلها أي: زوجها نشوزا أي: تجافيا عنها وترفعا عن صحبتها، بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها أو إعراضا أي: تطليقا، أو أن يقل محادثتها ومجالستها؛ كراهة لها أو لطموح عينه إلى أجمل منها.

فلا جناح أي: لا إثم عليهما حينئذ أن يصلحا بينهما صلحا بحط شيء من المهر أو النفقة، أو هبة شيء من مالها أو قسمها؛ طلبا لبقاء الصحبة إن رضيت بذلك، وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها.

قال في "الإكليل": الآية أصل في هبة الزوجة حقها من القسم وغيره، استدل به من أجاز لها بيع ذلك.

والصلح خير أي: من الفرقة والنشوز والإعراض.

قال ابن كثير : بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه ، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبغض الحلال إلى الله الطلاق .

قال بعض مفسري الزيدية: وفي هذه الآية حث على الصبر على نفس الصحبة ؛ لقوله تعالى: والصلح خير أي: من الفرقة وسوء العشرة، أو خير من الخصومة، أو خير من الخيور، كما أن الخصومة شر من الشرور، وقد كان من كرم [ ص: 1594 ] أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يكرم صواحب خديجة بعد موتها، وعنه صلى الله عليه وسلم: إنه من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه وهذا فيه صبر، وفي الصبر ما لا يحصر من [ ص: 1595 ] المحاسن والفضائل، والصلح فيه من أنواع الترغيب.

روي عنه صلى الله عليه وسلم: من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد ، وعن أنس : من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة . انتهى.

وفي "الإكليل" قوله تعالى: والصلح خير عام في كل صلح، أصل فيه.

وفي الحديث: الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا واستدل بعموم الآية من أجاز الصلح على الإنكار والمجهول.

وأحضرت الأنفس الشح بيان لما جبل عليه الإنسان، أي: جعلت حاضرة له مطبوعة عليه، لا تنفك عنه أبدا، فلا تكاد المرأة تسمح بالنشوز والإعراض وحقوقها من الرجل، ولا الرجل في إمساكها مع القيام بحقوقها على ما ينبغي، إذا كرهها أو أحب غيرها، والجملة الأولى للترغيب في المصالحة، والثانية لتمهيد العذر في المشاحة، وللحث على الصلح، فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته، وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقتنع من قبلها بشيء يسير، ولا يكلفها بذل الكثير، فيتحقق بذلك الصلح.

وإن تحسنوا في العشرة وتتقوا النشوز والإعراض ونقص الحق فإن الله كان بما تعملون من تحمل المشاق في ذلك خبيرا فيجازيكم ويثيبكم.

قال أبو السعود : وفي خطاب الأزواج بطريق الالتفات، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان، ولفظ (التقوى) المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وترتيب الوعد الكريم عليه - من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة ما لا يخفى.

وما قدمنا في تفسير الآية هو زبدة ما نقل عن السلف، صحابة وتابعين في معناها.

قال ابن كثير : ولا أعلم في ذلك خلافا.

وفي البخاري عن عائشة في هذه الآية [ ص: 1596 ] قالت: «الرجل تكون عنده المرأة المسنة ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حل» فنزلت هذه الآية.

وروى ابن أبي حاتم ، عن خالد بن عرعرة قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب - عليه السلام - فسأله عن قول الله عز وجل: وإن امرأة الآية، قال علي: يكون الرجل عنده المرأة، فتنبو عينه عنها من دمامتها أو كبرها، أو سوء خلقها، أو قذذها، فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج.

وكذا رواه أبو داود الطيالسي وابن جرير .

وروى ابن جرير - أيضا - عن عمر - رضي الله عنه - أنه سئل عن هذه الآية فقال: هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.

وروى سعيد بن منصور ، عن عروة قال: أنزل في سودة وأشباهها: وإن امرأة الآية، وذلك أن سودة كانت امرأة قد أسنت، ففرقت أن يفارقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضنت بمكانها منه، وعرفت من حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة ومنزلتها منه، فوهبت يومها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة فقبل ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وروى نحوه أبو داود الطيالسي والترمذي ، عن ابن عباس .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 423.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 417.68 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (1.43%)]