موسوعة الشفاء للإعجاز العلمي فى القران والسنه .. بالإضافه الى اخر المقالات المنشوره - الصفحة 66 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12495 - عددالزوار : 213433 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          متعة الإجازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          التقوى وأركانها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #651  
قديم 12-05-2008, 04:41 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُونَ




قال الله تبارك وتعالى:﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ(الواقعة: 63- 65)
ثم قال:﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ*أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾(الواقعة: 68- 70)

فأدخل اللام على جواب ﴿ لَوْ في قوله:﴿ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾، ونزعها منه في قوله:﴿ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾.. ولسائل أن يسأل: لمَ أدخِلت اللام على الجواب الأول، ونزعت منه في الثاني ؟
وللنحاة والمفسرين في الإجابة عن ذلك أقوالٌ، ليس بعضها بأولى من بعض، وتتلخص في أن هذه اللام تدخل في جواب﴿لَوْزائدة، والغرض من زيادتها التوكيد، وأما خروجها منه فالغرض منه الإيجاز والاختصار. وأنه لما كان الوعيد بتحويل الزرع إلى حطام أشد وأصعب من الوعيد بتحويل الماء العذب إلى ماء ملح، احتاج الأول إلى تأكيده باللام، دون الثاني.
ويحتجون لذلك بأن الموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب، وأنه كثيرًا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة، أو السبخة أحالتها إلى الملوحة؛ فلذلك لم يحتج في جعل الماء العذب ملحًا إلى زيادة تأكيد. وأما الزرع فإن جعله حطامًا من الأشياء الخارجة عن المعتاد، وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديد؛ فلذلك قرن بلام التأكيد زيادة في تحقيق أمره، وتقريره إيجاده.. إلى غير ذلك من الأقوال، التي لا تفسِّر أسلوبًا، ولا توضح معنى.
ومما يدلك على ضعف هذه الأقوال، وتكلفها في التأويل والتعليل ما ذكره الزركشي من تشبيه التوعُّد بجعل الماء أجاجًا بتوعُّد الإنسان عبده بالضرب بالعصا ونحوه، وتشبيه التوعُّد بجعل الزرع حطامًا بتوعُّده بالقتل. ولما كان الأول أسهل وأيسر، لم يحتج إلى تأكيد، كاحتياج الثاني إليه.
ومما ذكره الدكتور فاضل السامرائي في لمسات بيانية محتجًّا به على أن العقوبة بجعل الزرع حطامًا أشد من عقوبة جعل الماء أجاجًا، أن الماء الأجاج يمكن أن يحول إلى ماء عذب. وذكر أن التهديد لم يأت في الآية بغور الماء كليًّا كما في تهديد جعل الزرع حطامًا، فجاء باللام لتأكيد التهديد في آية الزرع، وحذفها من آية التهديد بالماء.
ولست أدري ما وجه الشبَه بين توعُّد الله تعالى الكفار بجعل ماء السحاب أجاجًا، وتوعُّد الإنسان عبده بضربه بالعصا، وبين توعُّدهم بجعل الزرع حطامًا بتوعُّد العبد بالقتل، حتى يقاس أحدهما بالآخر ؟ ثم إذا كان لدى الناس القدرة على تحويل الماء الأجاج إلى ماء عذب، فما قيمة أن يتوعَّدهم الله تعالى بذلك ؟ ثم كيف يمكن أن نفهَم من جعل الماء أجاجًا أن التهديد في الآية لم يأت بغَوْر الماء كليًّا ؟ وهل جاء التهديد فيها بغور الماء أصلاً، حتى يقال مثل هذا القول ؟
وليت شعري ماذا يقول أولئك الذين لا همَّ لهم سوى الطعن في بلاغة القرآن، وفصاحته، عندما يقرؤون مثل هذه الأقوال في تفسير كلام الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، فضلاً عن أنه أنزل بلسان عربي مبين؛ ليبين للناس أمور دينهم، ويهديهم سنن الذين من قبلهم، ويرشدهم إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة ؟
ونعود بعد هذا إلى الإجابة عن السؤال، فنقول بعون الله وتعليمه: إن في نزع اللام من جواب ﴿لَوْفي قوله تعالى:
﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾
إشارة إلى التعجيل بوقوع العقوبة عقب المشيئة فورًا دون تأخير. وفي إدخالها عليه في قوله تعالى:
﴿ لَوْ نَشَاءُلَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾
إشارة إلى تأجيل العقوبة لعقوبة أشدَّ منها؛ كقوله تعالى:
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾(يونس:24)
وقد جعل الله تعالى هلاك المهلَكين من الأمم الطاغية حصيدًا عقوبة لهم، فقال سبحانه:
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ(هود:100)
أي: منها هلك أهله دونه فهو باقٍ، ومنها هلك بأهله، فلا أثر له؛ كالزرع المحصود بالمناجل، بعضه قائمٌ على ساقه، وبعضه حصيدٌ.وحصيدُ هو فَعيلٌ من الحصْد، بمعنى: مفعول، وهو قطع الزرع في إبَّانه، واستئصاله من جذوره. وقد أفاد في الآية السابقة قطع الزرع واستئصاله في غير إبَّانه على سبيل الإفساد، ومنه استعير قولهم: حصدَهم السيفُ.ومنه- كما في مسند أحمد- قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ:وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم.
وعليه يكون المعنى المراد من الآية: لو يشاء الله تعالى، لجعل الزرع، الذي ينبته من الحب حطامًا، عقوبة لهم على شركهم به، وتكذيبهم بآياته؛ ولكن اقتضت مشيئته سبحانه أن يؤجل هذه العقوبة لأشدَّ منها، كان ذلك ﴿وَعْدَ اللَّهِلَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ(الروم:6)، ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ(الحج: 47).
والمراد من جعل الزرع حطامًا جعله متكسِّرًا قبل الانتفاع به. وأما ما يؤول إليه الزرع من الحطام بعد الانتفاع به فذلك معلوم لكل أحد، ولا يكون التعبير عنه مشروطًا بـ( لو ) الشرطية؛ كما في قوله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾(الزمر:21)
فلإفادة هذا المعنى- أعني: تأجيل العقوبة لأشدَّ منها- أدخلت اللام على جواب﴿لَوْ . هذه اللام، التي أجمعوا على القول بزيادتها للتوكيد، وهم معذورون في ذلك، فأسرار القرآن الكريم أجلُّ، وأعظم من أن تحيط بها عقول البشر !
وأما قوله تعالى عن الماء:﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ فالمعنى المراد منه: لو يشاء الله تعالى، جعل الماء المنزَّل من المزن أجاجًا لوقته دون تأخير، فلا ينتفع به في شرب، ولا زرع، ولا غيرهما؛ ولكنه تعالى لم يشأ ذلك رحمة بعباده، وفضلاً منه تعالى عليهم.
أما ما يؤول إليه الماء من الملوحة بعد نزوله من المزن، وجريه على الأراضي المتغيرة التربة، أو السبخة- كما قالوا- فذلك ما لم يُرَدْ من الآية الكريمة، وليس في الإخبار عنه أية فائدة تذكر. ويبيِّن لك ذلك أن الله تعالى قال:
﴿ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾، ولم يقل:﴿ جَعَلْنَاهُ ملحًا ﴾؛ لأن مياه الأرض كلها تحتوي على نسب من الأملاح متباينة. ومن هنا قلَّ الاقتصار على وصف الماء، الذي لا ينتفع به، بالملح في لغة العرب، وكثيرًا ما كانوا يقرنون هذا الوصف بوصف الأجاج؛ كما كانوا يقرنون وصف الماء العذب بوصف الفرات. وفي ذلك قال الله تعالى:
﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا(فاطر: 12)
فقابل سبحانه بين العذب والملح، وبين الفرات والأجاج. والماء العذب هو الطيب البارد.والماء الملح هو الذي تغير طعمه، وإذا كان لا ينتفع به في شرب، فإنه ينتفع به في غيره. والماء الفرات ما كان مذاقه مستساغًا، يضرب طعمهإلى الحلاوة، بسبب انحلال بعض المعادن والغازات فيه. والماء الأجاج هو الماء الزُّعَاقُ، وهو المرُّ، الذي لا يطاق، ولا ينتفع به في شرب، ولا غيره، لشدَّة مرارته وحرارته، وهو من قولهم: أجيج النار.
فإذا عرفت ذلك، تبيَّن لك سر الجمع بين الملح، والأجاج في وصف ماء البحر؛ إذ لو اقتصر في وصفه على كونه ملحًا، كان مثل أي ماء يجري على التربة المتغيرة، ويستقر في أعماق الأرض. ولو اقتصر في وصفه على كونه أجاجًا، كان ماؤه فاسدًا، لا ينتفع به في شيء مطلقًا.
وكذلك جعل ماء المزن أجاجًا. والمزن هو السحاب الأبيض المثقل بماء المطر، وهو أنقى ماءوأعذب. ولئن اجتمع الإنس والجن بما أوتوا من قوة على أن يعيدوا هذا الماء بعد جعله أجاجًا إلى حالته الأولى، لعجزوا عن ذلك، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
ومن هنا كان جعل هذا الماء أجاجًا- أي: شديد المرارة والحرارة لوقته دون تأخير- أدلَّ على قدرة الله تعالى، من جعل الزرع حطامًا، وإن كان الكل أمام قدرة الله سواء. ويدلك على ذلك أن قوله تعالى:
﴿لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾
قيل على طريقة الإخبار؛ لأن جعل الماء المنزل من المزن أجاجًا لوقته عقب المشيئة، لم يشاهد في الواقع؛ لأنه لم يقع، بخلاف جعل الزرع حطامًا؛ فإنه كثيرًا ما وقع كونه حطامًا بعد أن كان أخضرَ يانعًا، خلافًا لمن زعم خلاف ذلك. فلو قيل: جعلناه حطامًا، بإسقاط اللام؛ كما قيل: جعلناه أجاجًا، لتُوُهِّم منه الإخبار.
ويدلك على ذلك أيضًا أن دخول هذه اللام على جواب ﴿ لَوْ ، لا يكون إلا في الأفعال، التي لا يُتخيَّل وقوعها؛ كما في قوله تعالى:
﴿ قَالُوا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ﴾(الأنفال: 31). أي: مثل القرآن.
﴿قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً(فصلت: 14)
﴿وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ(يس: 66)
﴿وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ(يس: 67)
﴿وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ(الزخرف: 60)
ونحو ذلك قوله تعالى:
﴿لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾
فجعل الزرع حطامًا ممّا لا يتخيل وقوعه، وإن كان يقع؛ ولهذا قال تعالى عقِبه:
﴿فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾
فأتى بفعل التفكُّه؛ لأن ذكر الحطام يلائم التفكُّه. ومعنى الاعتداد بالزرع، يقتضي الاعتداد بصلاحه وعدم فساده، فحصل التفكُّه.
والمعنى: فظلتم تعجبون من هلاك زرعكم، وتندمون على ما أنفقتم فيه. وقيل: تلاومون، وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله، التي أوجبت عقوبتكم، حتى نالتكم في زرعكم. والقولان مرادان يكمل أحدهما الآخر، والدليل على ذلك قوله تعالى:
﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَمَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾(الكهف:35)
إلى قوله تعالى:
﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً(الكهف: 42)
ألا ترى إلى قولهلفرط غفلته، وطول أمله، واغتراره بجنته:﴿مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾. إنه لم يتخيل هلاكها أبدًا، فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك، ندم على ما صنع.
أما جعل الماء العذب أجاجًا فهو مما يتخيل وقوعه، وإن لم يقع. ومثله في تخيل الوقوع، والتعجيل به عقب المشيئة قوله تعالى:
﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ(الأعراف: 100)
ولهذا عقَّب تعالى على جعل الماء أجاجًا بقوله:
﴿فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾
وهو تحضيض لهم على الشكر بإخلاص العبادة لله تعالى وحده على هذه النعمة، التي هي أعظم النعم.
ومثل تهديد الكفار بجعل الماء المنزل من المزن أجاجًا تهديدهم بجعل ماء الأرض غورًا. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ(الملك: 30)
فكيف يمكن القول بعد هذا: إن جعل الماء أجاجًا أسهل وأكثر من جعل الزرع حطامًا، وإنالوعيد بفقد الزرع أشد وأصعب من الوعيد بفقد الماء، فاحتاج الأول إلى تأكيده باللام، دون الثاني ؟ ألا ترى أنه لولا الماء، لما كان هناك زرع، ولا شجر، ولا حيوان، ولا بشر ؟ ألم يسمعوا قول الله تعالى:
﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ(الأنبياء: 30)؟
ومما يدلك أيضًا على فساد ما ذهبوا إليه أن من يتأمل الآيات، التي أدخلت اللام فيها على جواب ﴿لَوْ ، يجد أن هذه اللام تقوم مقام السين، وسوف في الدلالة على التسويف في إيقاع الفعل تارة، والمماطلة تارة أخرى. وأوضح ما يكون ذلك في قوله تعالىفي صفة الكافرين:
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الأنفال:31)
أي: لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن. وهم لم يقولوا، ولن يقولوا، ولا يمكنهم أن يقولوا؛ ولهذا أتوا بهذه اللام، التي دلت على تسويفهم، ومماطلتهم، وهذا بخلاف قولهم:
﴿لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا(الأنعام : 148 )
لاحظ كيف قرنوا شركهم بالله تعالى، وتحريمهم ما أحل بمشيئته سبحانه مباشرة دون تأخير. ولو قالوا: لما أشركنا.. لدل قولهم على أن شركهم جاء متأخرًا عن المشيئة، فيحتمل حينئذٍ أن يكونوا آمنوا، ثم أشركوا.
ثم تأمل ذلك في بقية الآيات، التي جاء فيها جواب الشرط مجردًا من اللام، والآيات، التي اقترن فيها جواب الشرط باللام، تجدها كلها على ما ذكرت، إن شاء الله ! وإن كنت ممن يتأملون الكلام، ويتلذذون بإدراك أسرار البيان، فتأمل قول كُثيِّر عَزَّةَ:
رهبانُ مَدينَ، والذين عهدتـهم ***يبكون من أثر السجود قعودا
لو يسمعون كما سمعت كلامها ***خرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعًا، وسجـودا
ثم لاحظ قوله( خرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعًا، وسجـودا )، تجده قد وقع عقِب سماعهم كلامها، دون تأخير. ثم تأمل قول توْبةَ بن الحُمَيِّر:
ولو أَنَّ لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةَ سَلَّمَـتْ ***علىَّ، ودُونِى جَنْدَلٌ وصَفائـــحُ
لَسَلَمْتُ تَسْليمَ البَشَاشَةِ، أَو زَقَا ***إِليْها صَدًى من جانب القَبْرِ صائحُ
ولاحظ قوله( لَسَلَمْتُ تَسْليمَ البَشَاشَةِ )، كيف أدخل فيه اللام، التي تدل على المماطلة والتسويف في إيقاع الفعل، الذي لا يتخيل وقوعه. ولو أردت أن تتبيَّن الفرق بين الموضعين، فقارن بين قول أحدهم:
لو جاءني زيد أكرمته... وبين قوله:
لو جاءني زيد لأكرمته.. تجد أن الأول صادق في قوله، والثاني مماطل مسوِّف، ثم تذكر أن القول بزيادة اللام في الثاني للتوكيد من أخطر الأقوال، التي يفسَّر بها كلام الله جل وعلا.. ولهذا أقول: ينبغي أن تسمَّى هذه اللام: لام التسويف؛ لأنها تفيد ما يفيده كلٌّ من السين وسوف، من دلالة على التأخير والتسويف والمماطلة في إيقاع الفعل.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، فلا علم لنا إلا ما علمتنا، لك الشكر على ما أنعمت، ولك الحمد على ما تفضلت به علينا من نعمة العلم والفهم والدين، وسلام على المرسلين !
بقلم محمد إسماعيل عتوك
[email protected]

  #652  
قديم 16-05-2008, 03:36 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

مثل الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ

بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
باحث لغوي في الإعجاز البياني
للقرآن الكريم ومدرس للغة العربية
قال الله تعالى:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ﴾ (إبراهيم 18)
ضرب الله تعالى هذه الآية الكريمة مثلاً، شبَّه فيه الأعمال التي تكون لغير الله تعالى برماد،اشتدت به الريح في يوم عاصف، فطيرته، وفرقت أجزاءه في جهات هبوبها، ولم تبق له على أثر، ولا خبر. كذلك تعصف رياح الكفر، والأهواء الفاسدة بالأعمال، التي تبنى على أساس غير صحيح، فتفسدها، وتجعلها مع أصحابها طعمة للنار.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الله تعالى، لمَّا ذكر أنواع عذاب الكافرين في الآية المتقدمة، بين في هذه الآية أن الأعمال، التي لا يقصد بها وجه لله تعالى هي أعمال باطلة، لا ينتفع أصحابها بشيء منها في الآخرة. وعند هذا يظهر كمال خسرانهم؛ لأنهم لا يجدون إلا العقاب الشديد، وكل ما عملوه في الدنيا يجدونه ضائعًا باطلاً، وذلك هو الخسران المبين.
ولفظ ﴿ مَثَلٍ ﴾عند الزمخشري وغيره مستعار للصفة، التي فيها غرابة. وارتفاعه في مذهب الجمهور على الابتداء، خبره محذوف، تقديره عند سيبويه والأخفش: فيما يتلى عليكم، أو يقصُّعليكم. وجملة﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ مستأنفة على تقدير سؤال؛ كأنه قيل: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد. وعليه يكون تقدير الكلام: صفة الذين كفروا بربهم، أعمالهم كرماد. كقولك: صفة زيد، عِرْضُه مَصُونٌ، ومالُه مَبذولٌ.
ومذهب الفراء: أن﴿ مَثَلمبتدأ، خبره﴿ كَرَمَادٍ . والتقدير عنده: مثل أعمال الذين كفروا كرماد. وفي تفسير ذلك والتعليل له قال الفرَّاء:وقوله:﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْأضاف المَثَل إليهم، ثم قال:﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ. والمَثَل للأعمال .
وحكى ابن عطية عن الكسائي والفراء أن المعنى على إلغاء لفظ ﴿ مَثَل، وأن أصل الكلام: ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْأَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ، بإسقاط لفظ ﴿ مَثَل، فيكون كقوله تعالى:﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ ﴾(النور:39).
ولكن ظاهر قوله تعالى:﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يقتضي أن يكون للَّذِينَ كَفَرُوابربهممَثلٌ. ومَثَلُهم هو المماثلُ لهم في تمام أحواهم وصفاتهم. أي: المطابق، أو المساوي. وهو كقولنا: مَثَلُ زيد، عملُه قبيحٌ. فالعمل القبيح- هنا- لا يعود على زيد؛ وإنما يعود على مَثلِ زيد. وهذا يعني أن لزيد مثلاً يماثله في تمام أحواله وصفاته. وهذا المَثَلُ قد يكون عمروًا، أو بكرًا، أو غيرهما. وكذلك قوله تعالى:﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يقتضي أن يكون للَّذِينَ كَفَرُوابربهممَثلٌ، يماثلهم في تمام أحواهم وصفاتهم. وعليه تكون الأعمال المشبهة بالرماد في قوله تعالى:﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ هي أعمال مَثَلِ الذين كفروا بربهم، لا أعمالهم هم، خلافًا للأعمال، التي في قوله تعالى:﴿أَعْمَـالُهُمْ كَسَرَابٍ﴾من آية النور. ويمكن ملاحظة الفرق بين الآيتين من خلال المقارنة بينهما:
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ ﴾(النور:39)
﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾(إبراهيم 18)
فالأعمال المشبهة بالسراب في آية النور هي أعمال الذين كفروا. والأعمال المشبهة بالرماد في آية إبراهيم هي أعمال مَثَل الذين كفروا بربهم. وهذا واضح جلي، وهو أحد أوجه الفرق بين الآيتين الكريمتين. ولو كانتا سيَّان، لمَا كان لذكر لفظ ﴿ مَثَلفي مطلع آية إبراهيم أيَّ معنى، ولكان زائدًا، دخوله في الكلام، وخروجه منه سواء- كما حكِيَ ذلك عن الكسائي والفراء- وهذا ما يأباه نظم القرآن الكريم وأسلوبه المعجز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه!
وعليه يكون قوله تعالى:﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ﴾مبتدأ، خبره جملة:﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾من المشبه، والمشبه به. وهذا من أحسن ما قيل في إعراب هذه الآية الكريمة.
وأما الفرق الثاني بين الآيتين فإن المراد بقوله تعالى:﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾-في آية النور- العموم، ويندرج في عمومه كل من كفر من الأمم السابقة، والأمم اللاحقة إلى يوم يبعثون. أماقوله تعالى:﴿ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ ﴾-في آية إبراهيم-فالمراد بـهم الكفار من الأمم السابقة؛ ولهذا جاء ذكرهم مقيدًا بقوله تعالى:﴿بِرَبِّهِمْ ﴾، تمييزًا لهم من غيرهم. فأولئك مثل لهؤلاء، وقد ورد ذكر بعضهم في سورة إبراهبم قبل هذه الآية على لسان موسى- عليه السلام- وذلك في معرض خطابه لقومه، يخوفهم بمثل هلاك من تقدمهم من الأمم المكذبة:
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾(إبراهيم:8- 9)
وبعد أن حكى الله تعالى عن الرسل- عليهم السلام- اكتفاءهم في دفع شرور هؤلاء الكفار بالتوكل على ربهم، والاعتماد على حفظه ورعايته، حكى سبحانه وتعالى عن بعض المتمردين في الكفر أنهم بالغوا في السفاهة، فكان مصيرهم الهلاك في الدنيا، ونار جهنم في الآخرة؛ وذلك قوله تعالى:
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ *وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ*وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ *مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ*يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾(إبراهيم:13-17)
وفي ظل هذا المصير، الذي انتهى إليه هؤلاء الكفار من الأمم الغابرة جاء التعقيب مثلاً، يصوِّر الله تعالى فيه أعمالهم على طريقة القرآن المبدعة بصورة رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، فقال سبحانه:
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ﴾(إبراهيم:18)
فجمع بين أعمالهم، وأعمال من جاء من بعدهم من الذين كفروا بربهم في هذا التمثيل العجيب؛ إذ بأولئك الكفار الغابرين تضرَب الأمثال لكل من ماثلهم ممَّنْ جاء بعدهم من الكفار اللاحقين، في كفرهم بالله سبحانه وبآياته، وإنكارهم للبعث، ومحاربتهم لرسله- عليهم السلام- وصدهم عن سبيله، ولكل مَنْ كانت أعماله مماثلة لأعمالهم من غير الكافرين بربهم.
ومن المعلوم أن الكفار المتأخرين قد سلكوا في الكفر والتكذيب مَسْلك من كان قبلهم، ومنهم كفار مكة، الذين أخبر الله تعالى في قوله مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم:
﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾(فاطر:25)
وكما حكى الله تعالى عن الفئة الضالة من الأمم السابقة قولهم لرسلهم:
﴿لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ﴾(إبراهيم:13)
كذلك أخبر سبحانه عن كفار مكة، فقال تعالى مخاطبًا نبيه عليه الصلاة والسلام:
﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ (الإسراء:76)
ثم بين سبحانه وتعالى أن ذلك سنته في رسله وعباده، فقال:
﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴾(الإسراء:76)
وتقتضي سنة الله تعالى في عباده أن يحكم على الفرع بحكم الأصل، فيما تكون فيه المماثلة. فإذا كان الأصل محكومًا عليه بالهلاك، وعلى أعماله بالفساد، فكذلك الفرع.
وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم:
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الأنفال:38)
فقوله تعالى:﴿فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴾عبارة تجمع الوعيد والتهديد، والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله. والمعنى المراد: مضت سنة الله تعالى فيمن سلف من الكافرين بالهلاك، فيصيب الآخرين مثل ما أصاب الأولين.
وكما يطلق لفظ { المَثَل }على الفرع، كذلك يطلق على الأصل، ومن ذلك قوله تعالى في حق كفار مكة:
﴿فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ﴾(الزخرف:8)
أي: مضى حالهم، الذي كانوا عليه من الكفر والتكذيب والإهلاك، وخلفه حال مماثل له؛ هو حال كفار مكة، وغيرهم. والأول أصل، والثاني فرع، والعلة الجامعة بينهما: الكفر والتكذيب، والحكم: الهلاك. والمعنى: أن كفار مكة سلكوا في الكفر، والتكذيب مَسْلك من كان قبلهم، فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم.
ونظير ذلك قوله تعالى في حق فرعون وجنوده:
﴿فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ*فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ ﴾ (الزخرف:55-56)
أي: فلما أغضبوا اللهسبحانه بأعمالهم القبيحة، انتقم منهم، بأن أغرقهم أجمعين. وهذا الانتقام قد جعله سلفًا يتعظ به الغابرون، ومثلاً يعتبر به المتأخرون، ويقيسون عليه أحوالهم.وقد قال الله تعالى محذِّرًا:
﴿ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ*ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ *كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ﴾(المرسلات:16- 18)
وإذا كان الأولون محكومًا عليهم بالهلاك، فمن باب أولى أن تكون أعمالهم محكومًا عليها بالفساد وعدم النفع. تأمل ذلك في قوله تعالى:
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ*إِنَّ هَؤُلَاءِمُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف:138-139)
أي: هم وما يعبدون هالك لا محالة، وأعمالهم ذاهبة مضمحلة. وهؤلاء القوم- على ما قيل- كانوا من العمالقة، الذين أمر موسى- عليه السلام- بقتالهم. وقال قتادة: كانوا من لَخْمٍ، وكانوا نزولاً بالرَّقَّة. وقيل: كانت أصنامهم تماثيل بقر؛ ولهذا قالوا:
﴿ يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ ﴾
فأخرج لهم السَّامِرِيُّ عجلاًُ.
ونظير قولهم هذا قول جهال الأعراب لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمَّى: ذات أنواط، يعظمونها في كل سنة يومًا- فقالوا:يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط؛ كما لهم ذات أنواط. فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر! قتلتم- والذي نفسي بيده- كما قال قوم موسى:
﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾
لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى إنهم لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه . وكان هذا في مخرجه صلى الله عليه وسلم إلى حنين.
ونظير هؤلاء المنافقون، الذين قال الله تعالى فيهم:
﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ *وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾(التوبة:53- 54)
وغير هؤلاء كثير.
وقوله تعالى:﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ الأعمال فيه جمع: عمل. والعمل يطلق على كل فعل، يكون من الإنسان بقصد، فهو أخصُّ من الفعل؛ لأن الفعل قد ينسب إلى الإنسان، الذي يقع منه فعل بغير قصد. وقد ينسب إلى الجماد. والعمل قلما ينسب إلى ذلك؛ ولهذا قال تعالى:﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ، ولم يقل سبحانه:﴿أَفْعَالُهُمْ كَرَمَادٍ .
يتبــــــــــــــــــع
  #653  
قديم 16-05-2008, 03:37 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع .. مثل الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ

أما الرماد فهو ما بقي بعد احتراق الشيء. وفي لسان العرب:الرمادُ: دُقاقُ الفحم من حُراقة النار، وما هَبَا من الجمر فطار دُقاقًا. وفي حديث أم زرع: زوجي عظيم الرماد. أي: كثير الأضياف؛ لأن الرماد يكثر بالطبخ. ولهذا كان تنكيره في الآية منبِئًا عن ضآلته وخفته، بخلاف ما لو كان معرَّفًا.
وتشبيه الأعمال بهذا الرماد الضئيل الخفيف ينطوي على سرٍّ بديع من أسرار البيان القرآني؛ وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم، وبين الرماد في إحراق النار، وإذهابها لأصل هذا وهذا؛ فكانت الأعمال التي لغير الله، وعلى غير مراده طعمة للنار، وبها تسعر النار على أصحابها، وينشىء الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارًا وعذابًا؛ كما ينشىء لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه، التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيمًا وروحًا. فأثرت النار في أعمال أولئك، حتى جعلتها رمادًا، فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار.
ولو شبهت هذه الأعمال بلفظ آخر غير الرماد، كالتراب مثلاً، فقيل:﴿أَعْمَالُهُمْ كَتُرَابٍ ، لما أفاد ذلك ما أفاده لفظ الرماد من معنى الخفة، والاحتراق، وعدم الانتفاع، والعجز عن الاستدراك.
وتأمل هذه الكاف في قوله تعالى:﴿كَرَمَادٍ ، كيف جعلت هذه الأعمال في مرتبة أدنى من مرتبة ذلك الرماد الضئيل في حقيقته وصفاته، ووراء ذلك ما وراءه من إزراء لها، واستخفاف بأصحابها. ولو قيل:﴿أَعْمَالُهُمْ مِثْلُ رَمَادٍ ، لما أفاد التشبيه هذا المعنى، الذي ذكرناه؛ لأن لفظ المِثْل يجعل الممثَّل، والممثَّل به في مرتبة واحدة؛ لأنه لفظ تَسْوِيَة، فيقتضي المساواة بينهما في تمام الصفات.
أما قوله تعالى:﴿اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُفهوكناية عن سرعة هذه الريح وقوتها. يقال: اشتدَّت الريح. أي: أسرعت بقوة. وتعدية الفعل بالباء، دون تعديته بعلى يفيد أن هذه الريح حملت الرماد، وأسرعت الذهاب به، وبددته في جهات هبوبها؛ بحيث لا يقدر أحد على الإمساك بشيء منه، بخلاف قولنا: اشتدت عليه؛ فقد تشتد الريح عليه، وهو ثابت في مكانه، لا يتبدد.
ومشهدالرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود, يجسم به السياق معنى ضياعالأعمالسدى, لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها, ولا الانتفاع به أصلاً..يجسمهفي هذا المشهد العاصف المتحرك, فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغهالتعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددًا.فكما تعصف الريح الشديدة بالرماد، وتذهب به في جهات هبوبها؛ كذلك تعصف رياح الكفر والنفاق بالأعمال، التي تكون لغير الله جل وعلا، وعلى غير طاعة الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى:
﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً (الفرقان:23)
و﴿الرِّيحُ- على ما قيل- هي الهواء المتحرك، وتجمع على: أرواح ورياح. وعامة المواضع، التي ذكر فيها لفظ ﴿الرِّيحِبصيغة المفرد في القرآن، فعبارة عن العذاب. وكل موضع ذكر فيه بصيغة الجمع فعبارة عن الرحمة؛ إلا في قوله تعالى:
﴿حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ﴾(يونس:22)
ورويَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول، إذا هبَّت الريح:اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا . وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء؛ كأنها جسم واحد. وريح الرحمة متقطعة؛ فلذلك هي رياح.. وأفردت مع الفلك في آية يونس؛ لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة، ثم وصفت بالطِّيب، فزال الاشتراك بينها، وبين ريح العذاب.
أما العَصْفُ في قوله تعالى:﴿فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فهو اشتداد الريح، ووَصْفُ اليومِ به- وهو زمانُ هبوبها- من إضافة الموصوف إلى صفته. والعصْف، وإن كان للريح، فإن اليوم قد يوصف به؛ لأن الريح تكون فيه، فجاز أن يقال: يوم عاصف؛ كما يقال: يوم بارد، ويوم حار، والبرد والحر فيهما.
وقرأ ابن أبي اسحق وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن:﴿فِي يَوْمٍ عَاصِفِالرِّيْحِ، على الإضافة. وذلك- عند أبي حيان- من حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه، والتقدير: في يوم ريح عاصف.
وقيل: إن عَاصِفًا صفة للريح، إلا أنه جُرَّ على الجِوار. وفيه أنه لا يصِحُّ وصفُ الريح به، لاختلافهما تعريفًا وتنكيرًا. وقرأ نافع وأبو جعفر:﴿فِي يَوْمٍ عَاصِفِالرِّيَاحِ،على الجمع، وبه يشتد فساد الوصفية.
والعَصْفُ يقال لحطام النبت المتكسر. وقيل: هو ساق الزرع. وقيل: هو ورق الزرع. وبهما فسر قوله تعالى:﴿وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ﴾(الرحمن:12). وقال تعالى:﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ﴾(الفيل:5)، تشبيهًا بذلك.
وقيل: العَصْفُ: السرعةُ. وعصفت الريح تعصِف عَصْفًا. أي: اشتدَّ هبوبُها. وهي ريحٌ عاصِفٌ وعاصِفةٌ. أي: شديدة الهبوب. وعصفت بهم الريح، تشبيهًا بذلك. أي: ذهبت بهم، وأهلكتهم. ومثل ذلك قولهم: الحرب تعصف بالقوم.
وقوله تعالى:﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ﴾(المرسلات:2)يعني الرياح الشديدة القاصفة للشجر وغيره.
فتأمل هذه الألفاظ الثلاثة الرماد، والريح المشتدَّة، واليوم العاصف ) التي تتكوَّن منها عناصر الصورة في المشبه به، تجد كل لفظ منها يجسم به السياق معنى ضياعالأعمالسدى, لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها, ولا الانتفاع به. يضاف إلى ذلك ما ينطوي عليه لفظ الرماد من معنى الاحتراق.
وقوله تعالى:﴿لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ﴾ تبيينٌ لوجه الشبه، واستحضار للكافرين جميعًا؛ ليشهدوا هذا الموقف، الذي يتعرَّون فيه من كل شيء.فإذا ما قدموا على ربهم يوم القيامة، لا يقدرون على الانتفاع بشيء مما كسبوا في الدنيا من أعمالهم عند حاجتهم إليه. أي: لا يجدون له أثرًا من ثواب، أو تخفيف عذاب؛ كما لا يقدر أحد على الانتفاع بشيء من ذلك الرماد، الذي اشتدت به الريح في اليوم العاصف، وكان جزاؤهم النار؛ كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله:
﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾(هود:16)
وقيل: المراد بقوله تعالى﴿لاَّ يَقْدِرُونَ﴾:التعميم. أي: لا يقدرون في الدنيا والآخرة على شيء مما كسبوا. ويؤيده ما ورد في الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله إن ابن جدعان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، هل ذلك نافعة؟ قال:لا ينفعه؛ لأنه لم يقل: ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
وقال تعالى فيالبقرة:
﴿لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾(البقرة:264)، وقال هنا:
﴿لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ﴾
فقدَّم﴿ عَلَى شَيْءٍ ﴾في الأول، وأخرَّه في الثاني، لأهمية كل منهما في آيته؛ وذلك ظاهر لمن له أدنى بصيرة.
وقال تعالى:﴿ مِمَّا كَسَبُوا ﴾، فعبَّر عن العمل بـالكسب؛ لأن كسب الرجل هو عمله، وعمله هو كسبه. روي أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم:أي الكسب أطيب؟ فقال:عمل الرجل بيده، فعبر عن كسب الرجل بعمله.
والكسب- كما قال الراغب في مفردات القرآن- هو ما يتحرَّاه الإنسان، ممَّا فيه اجتلاب نفع، وتحصيل حظٍّ؛ كاكتساب المال. وقد يستعمل فيما يظنُّ الإنسان أنه يجلب منفعة، ثم استُجلِب به مضرَّة.
أما قوله تعالى:﴿ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ﴾فهوإشارة إلى ضلالهم. أي: ما دل عليه التمثيل دلالة واضحة، من ضلالهم، مع حسبانهم أنهم على شيء، هو الضلال البعيد عن طريق الحق والصواب. وهو تعقيب يتفق ظله مع ظل الرماد المتطاير في يوم عاصف إلى بعيد؛ حيث يستحيل العثور على شيء منه !!
وفي وصف الضلال بالبعيد إشارة إلى كفرهم؛ وهو كقوله تعالى في الآية الثانية والثالثة من سورة إبراهيم:
﴿وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ*الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ﴾(إبراهيم:2-3)
والضلال هوالعدول عن الطريق المستقيم، والمنهج القويم؛ عمدًا كان، أوسهوًا. قليلاً كان، أو كثيرًا، ويضادُّه الهدى. فإذا كان عن عمد وقصد- وإن كان قليلاً- فهو كفر، وحينئذ يوصف بالبعيد.. تأمل ذلك في القرآن، تجده على ما ذكرنا، إن شاء الله!
محمد إسماعيل عتوك
لمراسلة المؤلف : [email protected]
  #654  
قديم 16-05-2008, 03:44 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

لم استخدم الله تعالى لفظ


وردنا السؤال التالي:(في سورة طه عندما ذكر الله قصة ام موسى وابنها نبي الله موسى عليه السلام قال :- بسم الله الرحمن الرحيم " اذ اوحينا الى امك ما يوحى ان اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل " صدق الله العظيم
السؤال هنا لم استخدم الله تعالى لفظ " ألقيه " ولم يقل " ضعيه" مثلا مع ان موسى عليه السلام كان رضيعا ؟ ولكم كل الشكر على الاجابة
علاء نصر الدين
مندوب طبي بشركة تبوك للصناعات الدوائية )
قام بالرد على السؤال:
فضيلة الأستاذ
محمد إسماعيل عتوك الباحث في الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم:
قال تعالى:﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ﴾( طه: 38- 39 ).
قيل: المراد بالقذف في التابوت: الوضع فيه. والمراد بالقذف في اليم: الإلقاء فيه ؛ كما قال تعالى في آية أخرى:﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾( القصص: 7 ). وقيل: يجوز أن يكون المراد بالقذف في الموضعين: الوضع. وعليه يكون معنى الآية: واذكر يا موسى إذ أوحينا إلى أمك أن ضعيه في التابوت، فضعيه في اليم، فليلقه اليم في الساحل.. هذا هو المشهور في كتب التفسير.
وحقيقة القول في ذلك:
أولاً- أن الوضع في اللغة هو الإلقاء. يقال: وضع الشيء: ألقاه، ووضعت المرأة ما في بطنها: ألقته، والفعل: وضع يضع وضعاً. والموضع: محل إلقاء الشيء.. أما الإلقاء فهو رميك الشيء برفق ولين، من أعلى إلى أسفل، حيث تلقاه. أي: تراه. يقال: ألقى الشيء يلقيه إلقاء.. وأما القذف فهو رميك الشيء بقوة وعنف، من غير مهلة، حيث لا تلقاه. أي: لا تراه. يقال: قذف الشيء يقذفه قذفًا. فهو أعم من الإلقاء، ومن الوضع. والإلقاء أعم من الوضع. فكل قذف هو إلقاء ووضع، وليس كل وضع وإلقاء بقذف.
ثانيًا- ولكون القذف أعم من الإلقاء والوضع، أطلق على الوضع في التابوت، وعلى الإلقاء في اليم ؛ لأن السياق يتطلب السرعة والقوة والشدة:﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾. فهنا إيحاء بالقذف في التابوت، وبالقذف في اليم، وهو أمر يتطلب السرعة والقوة والشدة ؛ وذلك لإخفاء الرضيع وأمره على فرعون وجنوده.
قال ابن عاشور:« القذف هنا مجاز عن المسارعة إلى الوضع، من غير تمهل لشيء أصلاً، إشارة إلى أنه فعل مضمون السلامة، كيفما كان ».
وهذا المعنى لا يصلح له فعل الوضع، ولا فعل الإلقاء، بخلاف الإيحاء بالإلقاء بالساحل:﴿ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ﴾، فهذا لا يتطلب قوة ولا شدة ولا سرعة ؛ لأن الطفل الرضيع قد أصبح في مكان آمن بعد أن أصبح في اليم.. وكذلك هو خلاف الإلقاء في اليم في قوله تعالى:﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾( القصص: 7 ) ؛ لأن خوف الأم على ابنها هنا لم يقع بعدُ، وقد سبقه الإيحاء إليها بإرضاعه ؛ ولهذا قال تعالى هنا: فإذا خفت عليه فألقيه، وقال هناك: فاقذفيه، عقب الإيحاء مباشرة، دون أن يسبق القذف شيء.
ثالثًا- ومثل ذلك قوله تعالى:﴿ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب ﴾(الأحزاب: 26 ).
وقوله تعالى:﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ ﴾(آل عمران: 151 ).
استعير فعل القذف في الآية الأولى لحصول الرعب بسرعة في قلوبهم دفعة واحدة، دون سابق تأمل، وبلا سبب. واستعير فعل الإلقاء في الآية الثانية لجعل الرعب في قلوب الذين كفروا مستقبلاً ؛ ولهذا قال تعالى: سنلقي، بالسين الدالة على المسقبل القريب، والتأكيد بحصول الرعب في قلوب الذين كفروا. ولو قيل: سنقذف أو سنضع، لكان خلفًا من الكلام، لا يتناسب مع بلاغة القرآن وبيانه.

البريد الإلكتروني:
[email protected]
  #655  
قديم 16-05-2008, 03:45 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

معنى الأحرف المفردة في القرآن الكريم





نص السؤال:
السلام عليكم و رحمة الله وبركاته
أحد الملحدين أراد مني أن أثبت له أن القرآن لا يحتوي كلمات لا معنى لها، و كان يقصد بتلك الأحرف مثل سورة يس و القرآن على حسب قوله ان أحرف " يس" هي مجرد أحرف لا معنى لها و جائت من عبث استغفر الله العظيم.
و أردت من فضيلتك بعض من الدلائل التي تثبت أن هذه الأحرف اعجاز عملي لكي يصدق هذا الملحد ولعلي أكون سبب في هدايته للدين الإسلامي
أرجو الرد للأهمية.
أخوكم
قام بالرد على هذا السؤال:
فضيلة الشيخ الدكتور المحامي مسلم محمد جودت اليوسف أستاذ الفقه الإسلامي.
أقول مستعيناً بالله العظيم :
ورد في القرآن الكريم تسع وعشرون سورة ا فتُتِحَت بحروف هجائية تُقرأ مقطعةً بأسمائها هكذا : ألف – لام – ميم.. و كان منها ما افتتح بحرف واحد مثل : ص – ق – ن.
و منها ما افتتح بحرفين مثل : طه – يس.
و منها ما افتتح بثلاثة أحرف مثل : ألم.
و منها ما افتتح بأكثر من ذلك مثل : كهيعص.
و ليس لهذه الحروف في اللغة العربية سوى مسمياتها التي ينطق بها في الكلمات المركبة. و لم يرد من طريق صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -بيان للمـراد منها , و لذلك اختلف أهل العلم فيها اختلافاً كثيراً , و هذه الأراء على كثرتها و تنوعها ترجع إلى رأيين اثنين :
أولاً : أنها جميعاً مما استأثر الله به و لا يعلم معناه أحد سواه و هذا رأي كثيرمن سلف هذه الأمة.
ثانياً : أن لها معنى , و ذهبوا في معناها مذاهب شتى نُثِرت في كتب التفسير و لعل أقرب هذه الآراء إليَّ هي : أن هذه الأحرف ما هي إلا زيادة في التحدي بالقرآن , بمعنى أن هذه الأحرف ليست مادة غريبة عليكم و لا مجهولة لكم , و رغم هذا فأنتم لا يمكن أن تأتوا بمثلها مما يدل على أن هذا القرآن ليس من صنع البشر إنما هو من عند الله تعالى , قال عز و جل : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23)
و قال أيضاً : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الاسراء:88).
و يقال عزو جل: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (هود:13)
( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء:192-193-194 )
و يدل قو لـه تعالى : ( نزل به الروح الأمين).
دلالة قطعية على عدة أمور عدة منها :
1- أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى و نزل به الروح الأمين و هو جبريل عليه السلام فأوحاه للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -.
2- أن هذا القرآن هو من عند الله عز و جل و ليس فيض من نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غير ذلك مما تقول طوائف من الفلاسفة و الملحدين و أمثالهم.
و قد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء عن بعض معاني الآيات مثل ( حم - ألم – ألمص – حم – عسق ) ( الفتوى رقم 6395) فأجابت بما يلي :
فيه آراء للعلماء , و الراجح أنها ذكرت هذه الحروف – و الله أعلم – في أول السور التي ذكرت فيها , بياناً لإعجاز القرآن , و أن الخلق عاجزون عن معارضة بمثله , هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها , و هذا هو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله و ارتضاه أبو الحجاج المزي رحمه الله.
و اعلم أخي الفاضل : أننا نبين الحق كما هو فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر والله الهادي إلى سواء السبيل.
قال تعالى في محكم التنزيل : ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) (الكهف:29).
فنحن يا أخي لا نملك إلا هداية الدلالة لمن في قلبه نور ، فنبين لـه الحق فيهديه الله , و أنت بِّين لهذا السائل الحق كما هو و اسأل الله لـه الهداية و لا تحزن إن لم يؤمن , فإن آمن فلله الحمد و المنة على هدايته و لك الأجر و الثواب لقاء هذا العمل الجليل , و إن لم يؤمن فا الله جعلك حجة عليه في الموقف العظيم.
و أختم مقالتي هذه بكلام نقلته من كتا ب الفوائد المشوِّق إلى علوم القرآن وعلم البيان لابن قيم الجوزية رحمه الله , حيث قال : ( روي أن يهودياً في مجلس المتوكل فأحسن الكلام , و ناظر فعلم أنه من حملة الإعلام و ناضل فتحققوا أنه مسدد السهام فدعاه المتوكل إلى الإسلام فأبى و أقام بفرط الإباء على مذهب الآباء بعد أ ن بذل له المتوكل ضروباً من الأنعام و صنوفاً من الرفعة والاكرام و راجعه في ذلك مرة بعد أخرى فلم يزده ذلك إلا طغياناً و كفراً فغاب عنه مدة ثم دخل إلى مجلسه و هو يعلن الإسلام و يدين دينه فقال لـه المتوكل : أسلمت ؟ قال : نعم. قال : ما سبب إسلامك ؟ فقال : لما قطعت من عنقي قلادة التقليد و صرتُ من رتبة الاجتهاد إلى مرتقى ما عليه مزيد نظرت في الأديان و طلبت الحق حيث كان فأخذت التوراة فنظرت فيها و تدبرت معانيها و كتبتها بخطي و زدت فيها و نقصت و دخلت بها السوق و بعتها فلم ينكر أحد من اليهود شيئاً , و أخذت الانجيل و زد ت فيه و نقصت و دخلت به السوق و بعته فلم ينكر أحد من النصارى منه شيئاً , و زدت فيه و نقصت و دخلت به السوق و بعته فلم ينكر أحد من النصارى منه شيئاً , و أخذت القرآن و قرأته و تأملته فإذا : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا لـه لحافظون ) فكتبت و زدت فيه و نقصت و دخلت السوق و بعته فنظر فيه المسلمون فعرفوا المواضع التي زدت فيها و نقصت , و ردوا كل كلمة إلى موضعها و كل حرف إلى مكانه , فعلمت أنه الحق لتحقيق وصفه بأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد فآمنت به و صدَّ قت ما جاء به.
و الله الهادي
يمكن مراسلة فضيلة الدكتور مسلم اليوسف
[email protected]

  #656  
قديم 16-05-2008, 03:47 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

سر تنكير لفظ ( السلام ) وتعريفه


قال الله عز وجل في تسليمه على يحيى:﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ﴾( مريم: 15 ). ثم قال سبحانه على لسان المسيح في تسليمه على نفسه:﴿ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾( مريم: 33 )، فأتى بلفظ السلام في الآية الأولى نكرة، وفي الآية الثانية معرفة، وقيَّد كلا السلامين بيوم الولادة، ويوم الموت، ويوم البعث.
فما السر في تسليم الله تعالى على يحيى- عليه السلام- بلفظ النكرة، وتسليم المسيح- عليه السلام- على نفسه بلفظ المعرفة، وأيهما أتم وأولى ؟ وما الحكمة في تقييد هذين السلامين بهذه الأيام الثلاثة: يوم الولادة، ويوم الموت، ويوم البعث ؟ وقبل الإجابة عن ذلك نقول، وبالله الاستعانة:
أولاً- لكل قوم من الأقوام تحيَّة يحيون بها بعضهم بعضًا.. فتحيَّة النصارى هي: وضع اليد على الفم، وتحية اليهود هي: الإشارة بالأصابع، وتحية المجوس هي: الانحناء. وتحية الفرس هي قولهم: هزا رساله ميمايي. أي: تعيش ألف سنة. وكل قوم لهم تحية من هذا الجنس، أو ما أشبهه، ولهم تحية يخصون بها ملوكهم من هيئات خاصة عند دخولهم عليهم، كالسجود، ونحوه، وألفاظ خاصة تتميز بها تحية الملك من تحية السوقة.
أما العرب فتحيتهم في جاهليتهم الأولى لملوكهم هي قولهم: أنعم، أو عم صباحًا، ومساء. وأما تحيتهم لبعضهم البعض فهي قولهم: حيَّاك الله ! وقد يزيد بعضهم فيقول: حياك الله، وبيَّاك. أي: أطال الله حياتك، وبوَّأك منزلاً حسنًا. وكل ذلك مقصودهم به الحياة ونعيمها ودوامها، ولهذا سميت: تحيَّة، وهي: تَفْعِلَةٌ من الحياة، كتكرمة من الكرامة، لكن أدغم المثلان فصار: تحيَّة.
ولما جاء الإسلام، أبدل المسلمين تلك التحية التي عرفوها في جاهليتهم الأولى بتحية أحسن منها، وهي عبارة: السلام عليكم، وشرعها تحيَّة للمسلمين، يحيي بها بعضهم بعضًا، وحضَّهم على إفشائها، والإكثار من تردادها، وإلقائها على من يعرفوا، ومن لم يعرفوا. وكانت أولى من جميع تحيات الأمم التي منها ما هو محال وكذب، كقولهم: تعيش ألف سنة، وما هو قاصر المعنى، كقولهم: أنعم صباحًا. ومنها ما لا ينبغي إلا لله، كالسجود، فكانت التحية بالسلام أولى من ذلك كله، وذلك لتضمن السلام معنيين: أحدهما: ذكر الله تعالى. والثاني: طلب المسلِّم السلامة من الله سبحانه للمسَلَّم عليه، وتأمينٌ له بالسلام، لأنه إذا دعا له بالسلامة، فهو مسالم له، فكان الخبر كناية عن التأمين. وإذا تحقق الأمران حصل خير كثير، لأن السلامة لا تجامع شيئًا من الشر في ذات المسلِّم، والأمان لا يجامع شيئًا من الشر يأتي من قِبل المعتدي، فكانت دعاء ترجى إجابته، وعهدًا بالأمن يجب الوفاء به.
ولما كانت الجنة هي دار السلامة من كل عيب وشر وآفة، بل قد سلمت من كل ما ينغص العيش والحياة، كانت تحية أهلها فيها سلام، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:﴿ َتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ﴾( براهيم: 23 )، وكانت تحيَّة الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين يوم اللقاء سلام، كما ينصُّ عليه قوله تعالى:﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ﴾( الأحزاب: 44 )؛ فهذه تحيتهم من الله تعالى يوم يلقونه، كما يحيِّى الحبيب حبيبه. ولولا قوله تعالى بعد ذلك:﴿ سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾( يس: 58 )، لاحتمل أن تكون التحيَّة لهم من الملائكة، كما في قوله تعالى:﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾( الرعد: 24- 25 ).
ولما كان الإسلام هو دين السلام، وكان لفظ السلام جامعًا للمعنيين السابقين: ذكر الله تعالى، وطلب السلامة، جعله الله تعالى تحيَّة الإسلام، وامتن بهذه التحيَّة على المسلمين بأن جعلها من عنده سبحانه مباركة طيبة، كما يشير قوله تعالى:﴿ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾(النور: 61 ). وقد أمر تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يعامل معارضيه وخصومه قائلاً:﴿ فاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾( الزخرف: 89 ). ومن هنا كان السلام أحد الأسباب المفضية إلى الإيمان، فالمحبة، فدخول الجنة. روى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:« لا تدخلوا الجنة حنى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه، تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ». وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:« يا أيها الناس ! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ».
ثانيًا- فلنرجع بعد هذا إلى المقصود، وهو الجواب عن السؤالين اللذين بدأنا بهما وما الحكمة في تقييد هذين السلامين بهذه الأيام الثلاثة: يوم الولادة، ويوم الموت، ويوم البعث ؟ فنقول
أما الجواب عن السؤال الأول: ما السر في تسليم الله تعالى على يحيى- عليه السلام- بلفظ النكرة، وتسليم المسيح- عليه السلام- على نفسه بلفظ المعرفة، وأيهما أتم وأولى ؟ فيجاب عنه بأن يقال: إن الأصل في الأسماء التنكير، فجاء تسليم الله تعالى على يحيى- عليه السلام- على الأصل. والعرب في ألفاظ الدعاء والطلب من المصادر والأحداث إنما يأتون بالنكرة إما منصوبة على المصدر، أو مرفوعة على الابتداء، فمن الأول قولهم:« سَقْيًا لهم ورَعْيًا »، ومن الثاني قولهم:« وَيْلٌ لهم ووَيْحٌ ». ولما كان لفظ السلام متضمنًا معنى الدعاء والطلب، جيء به بلفظ النكرة منصوبًا تارة، ومرفوعًا تارة أخرى، كما جاء سائر ألفاظ الدعاء. وسر ذلك أن هذه الألفاظ جرت مجرى النطق بالفعل، ألا ترى أن « سَقْيًا لهم ورَعْيًا » جرى مجرى:« سَقاهم الله ورعاهم «، وأن « وَيْلٌ لهم ووَيْح ٌ» معدول عن قولهم:« وَيْلاً لهم ووَيْحًا ». أي:« ألزمهك الله ويلاً وويحًا » ؟ وكذلك قولك:« سلامًا عليك » جار مجرى: « سلَّمك الله، و« سلامٌ عليك » معدولٌ به عن الأول، والفعل نكرة، فأحبوا أن يجعلوا اللفظ الذي هو جار مجراه وكالبدل منه، نكرةً مثلَه. وإنما عُدِل به من التنكير إلى التعريف، لأن الألف واللام إذا دخلت على اسم السلام، تضمنت أربع فوائد:
الفائدة الأولى: الإشعار بذكر الله تعالى، لأن السلام المعرف هو اسم من أسماء الله الحسنى كما تقدم تقريره.
والفائدة الثانية: الإشعار بطلب السلامة والأمان من المسلِّم للمسلَّم عليه، لأنك متى ذكرت اسمًا من أسماء الله جل وعلا، فقد تعرَّضْتَ لطلب المعنى الذي اشتق منه ذلك الاسم، وتوسَّلْتَ به إلى تحصيل المعنى الذي اشتق منه ذلك الاسم، نحو قولك: الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام.
والفائدة الثالثة: أن السلام- بالألف واللام- يشعر بعموم التحية، وأنها غير مقصورة على المتكلم وحده. فأنت ترى أن قولك: سلامٌ عليك، ليس بمنزلة قولك: السلامُ عليك، في العموم.
والفائدة الرابعة: أن الألف واللام تقوم مقام الإشارة إلى المعين، كما تقول لما هو حاضر بين يديك: ناولني الكتاب، واسقني الماء، واعطني الثوب،. فإنك تستغني بها عن قولك: هذا، فهي مؤدية معنى الإشارة.
وقد اجتمعت هذه الفوائد الأربعة في تسليم المسيح- عليه السلام- على نفسه بقوله:﴿ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ ﴾، ولم تكن واحدة من هذه الفوائد في تسليم الله تعالى على يحيى- عليه السلام- في قوله جل وعلا:﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ ﴾، لاستغناء المواطن الثلاثة عنها، وهي يوم الولادة، ويوم الموت، ويوم البعث، لأن المتكلم- هنا- هو الله جل جلاله، فلم يقصد تبركًا بذكر الاسم الذي هو السلام، ولا طلبًا لمعنى السلامة، كما يطلبه العبد، ولا عمومًا في التحية منه، لأن سلامًا منه سبحانه كاف عن كل سلام، ومُغْنٍ عن كل تحية، ومُرْبٍ عن كل أمنية.. ولهذا لم يكن لذكر الألف واللام ههنا معنى كما كان لهما هنالك، لأن المسيح يحتاج كلامه إلى هذه الفوائد، وأوكدها كلها: العموم، فلذلك كان لابد في تحيته من تعريف السلام بأل الجنسية التي تفيد معنى الاستغراق والعموم.
ومن هنا كان سلام الله تعالى على يحيى- عليه السلام- أتم وأوْلَى من سلام المسيح- عليه السلام- على نفسه، ويؤيِّد ذلك أيضًا: أن لفظ السلام بالتعريف يدل على أصل الماهيَّة، وبالتنكير يدل على أصل الماهيَّة، مع وصف التمام والكمال، ولهذا كان أتم وأولى. وعن الحسن رضي الله عنه:« التقى يحيى وعيسى عليهما السلام، فقال يحيى: استغفر لي، أنت خير مني. فقال عيسى: استغفر لي، أنت خير مني، سلَّمت على نفسي، وسلَّم الله عليك ».
وأما الجواب عن السؤال الثاني: ما الحكمة في تقييد السلام بهذه الأوقات الثلاثة: يوم الولادة، ويوم الموت، ويوم البعث، فقد أجاب عنه ابن قيِّم الجَوْزِيَّة بقوله:« إن طلب السلامة يتأكد في المواضع التي هي مظان العطب، ومواطن الوحشة. وكلما كان الموضع مظنَّة ذلك، تأكد طلب السلامة فيه، وتعلقت بها الهمة، فذكرت هذه المواطن الثلاثة، لأن السلامة فيها آكد، وطلبها أهم، والنفس عليها أحرص، لأن العبد فيها قد انتقل من دار كان مستقرًّا فيها، موطِّن النفس على صحبتها وسكناها، إلى دار هو فيها معرَّض للآفات والمحن والبلاء.. فكان طلب السلامة في هذه المواطن من آكد الأمور. فتأمل كيف خصَّ هذه المواطن بالسلام لشدة الحاجة إلى السلامة فيها، واعرف قدر القرآن وما تضمنه من الأسرار وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاء عشر معشارها، وتأمل ما في السلام مع الزيادة على السلامة من الأنس وذهاب الوحشة. فأيُّ موطن أحقُّ بطلب السلامة من هذه المواطن ؟ فنسأل الله السلامة فيها بمنِّه وكرمه ولطفه وجوده وإحسانه ».
ثالثَا- ومن فوائد هذا الفصل: إجماعهم في الرد على قول: السلام عليكم، بقول: وعليكم السلام، بالألف واللام، لأنها لو سقطت- ههنا- لصار الكلام خبرًا محضًا، كما في قولنا: عليكم دينٌ. وإذا صار الكلام خبرًا محضًا، بطل معنى التحية، والدعاء، لأن المسلم يبدأ بالأهم، وهو ذكر السلام، فليس بمحيٍّ من قال: عليكم سلام، وإنما المسلم من قال: السلام عليكم، فيجاب بقول: وعليكم السلام، لأن موضوع السلام للأحياء، إنما هو للأنس، ورفع الوحشة، والإشعار بسلامة الصدور. والدعاء لا بد فيه من ذكر المدعو، وهو السلام بالألف واللام. فإن نكرته، فلم يعد اسمًا من أسماء الله سبحانه، فعُرِّف بالألف واللام إشعارًا بالدعاء للمخاطب، وأنك رادٌّ عليه التحية، لا مخبرٌ. ومن هنا لم يكن بدٌّ من الألف واللام.
وقد يزيد كل من المسلِّم والمسلَّم عليه، فيقول:« ورحمة الله وبركاته ». عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:« هذا جبريل يقرأ عليك السلام ». قالت: قلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته. وروي أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليك. فقال عليه الصلاة والسلام:« وعليكم السلام ورحمة الله ». وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله. فقال:« وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ». وقال ثالث: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال:« وعليك ». فقال الرجل: نقصْتني، فأين ما قاله الله:﴿ وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم:« إنك لم تترك لنا فضلاً، فرددت عليك مثله » !

محمد إسماعيل عتوك
الباحث
في الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن
[email protected]
  #657  
قديم 18-05-2008, 08:55 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

مثل أصحاب القرية الذين كذبوا المرسلين




بقلم الأستاذ محمد عتوك
الباحث في الإعجاز البياني والبلاغي في القرآن
﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ* إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالثٍ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ*قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَىْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ*قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ*وَما عَلَيْنا إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبينُ*قالُوا إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ*قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ *وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ*اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ*وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ*ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ*إِنّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ* إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ*قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ*بِما غَفَرَ لي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ *وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلينَ*إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ*يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ ما يَأْتيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾(يس: 13- 30)
أولاً- هذا مثل من الأمثال القصصية ضربه الله تعالى لعُبَّاد الأصنام، يحذرهم فيه من مغبة الكفر والشرك، وينذرهم أن يحل بهم ما حل بكفار أهل هذه القرية، بعد أن أصروا على كفرهم وشركهم بالله سبحانه. ويتضمن قياسًا من قياس التمثيل الذي يقوم على التسوية بين المتماثلين في الحكم. ومناسبته لما قبله أن الله تعالى بعد أن عرض في بداية السورة قضية الوحي والرسالة وقضية البعث والحساب في صورة تقريرية، عاد ليعرضهما في صورة قصصية، تلمس القلب بما كان من مواقف التكذيب والإيمان وعواقبهما معروضة كالعيان.
ولم يذكر القرآن شيئًا عن هذه القرية، ولا عن أهلها سوى أنهم كانوا أصحاب شرك يعبدون الأصنام، فأرسل الله تعالى إليهم رسولين - كما أرسل موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وملئه - فكذبوهما، فعزز الله تعالى برسول ثالث ؛ ليؤكد أنه، وأنهما، مرسلون من عند الله تعالى، لا من عند غيره. وتقدم الثلاثة بدعواهم ودعوتهم من جديد، وهنا اعترض عليهم أصحاب القرية بالاعتراضات المكرورة في تاريخ الرسل والرسالات، فكذبوا دعواهم، وردوا دعوتهم بحجج واهية تدل على سذاجة تصورهم وإدراكهم لحقيقة الرسل ؛ كما تدل على جهلهم بحقيقة الرسالة التي أرسلوا إليهم من أجلها. ولما أسقط في أيديهم، لجئوا إلى التهديد والوعيد، ولم يؤمن منهم إلا رجل واحد كان يسكن في ناحية القرية، فلما سمع بدعوة هؤلاء المرسلين، استجاب لها بفطرته السليمة، بعد أن رأى فيها من دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه. وحينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان، تحركت هذه الحقيقة في ضميره، فلم يطق عليها سكوتًا، وجاء من أقصى المدينة يسعى ؛ ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفهم عن البغي، وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبُّوه على المرسلين. ولكن القوم لم يمهلوه حتى قتلوه، فكان جزاؤه الجنة، وكان جزاء قومه أن أهلكوا بالصيحة ؛ كما أخبر الله تعالى عنهم في نهاية القصة.
وقد ذكر كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً من عند المسيح عيسى بن مريم- عليه السلام- كما نصَّ عليه قتادة وغيره، ولم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غير هذا القول. وفي ذلك نظر من وجوه:
أحدهما: أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء الرسل كانوا رسل الله عز وجل، لا من جهة المسيح عليه السلام ؛ كما قال الله تعالى:﴿إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما * فَعَزَّزْنا بِثالثٍ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، إلى أن قالوا:﴿رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَما عَلَيْنا إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبينُ ﴾.ولو كان هؤلاء من الحواريين، لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح- عليه السلام- والله تعالى أعلم. ثم لو كانوا رسل المسيح، لما قالوا لهم:﴿ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا ﴾.
والثاني: أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وأن أنطاكية أول مدينة آمنت بالمسيح ؛ ولهذا كانت أنطاكية عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركةٌ ؛ وهنَّ: القدس ؛ لأنها بلد المسيح. وأنطاكية ؛ لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها. والإسكندرية ؛ لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة، والمطارنة، والأساقفة، والقساوسة، والشمامسة، والرهابين. ثم رومية ؛ لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم، وأطَّده. ولما ابتنى القسطنطينية، نقلوا البترك من رومية إليها، كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم ؛ كسعيد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين. فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم، والله أعلم.
الثالث: أن قصة أنطاكية مع الحواريين كانت بين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة. وقد ذكر أبو سعيد الخدري- رضي الله عنه- وغير واحد من السلف، أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة، لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم ؛ بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين. ذكروه عند قوله تبارك وتعالى:﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى(القصص: 43).فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية.
ثانيًا- وتبدأ قصة هذا المثل بقول الله عز وجل:﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴾، وهو خطاب من الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم، يأمره فيه بأن يضرب لقومه مثلاً بأصحاب هذه القرية ؛ إذ جاءهم المرسلون، فكذبوهم، فأنزل الله تعالى عليهم عذابه. و﴿ أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ﴾ بدل من ﴿ مَثَلاً ﴾، وتفسير له. و﴿ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴾ بدل من ﴿ أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ﴾.
وقال تعالى:﴿جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴾،بتأنيث الضمير،ولم يقل:﴿جَاءَهَمُ الْمُرْسَلُونَ ﴾، بتذكيره،مع أنه المراد، إشارة إلى أن المرسلين جاؤوهم في مقرِّهم. وفيه إشارة أيضًا إلى أن هذه القرية كانت من القرى الكبيرة المشهورة في غابر الأزمنة.
وليس في ذلك ما يدل على أن هذه القرية هيأنطاكية، أو يشير إلى أن هؤلاء المرسلين هم رسل المسيح- عليه السلام- كما ذكر أكثر المفسرين من السلف ؛ لأن قصة هذه القرية وأهلها كانت قبل المسيح- عليه السلام- ثم بعد هذا عمرت أنطاكية، وبقي أهلها على شركهم، إلى أن جاءهم من جاءهم من الحواريين، فآمنوا بالمسيح- عليه السلام- على أيديهم، ودخلوا دينه. وقد سبق أن ذكرنا أن أنطاكية كانت أول المدائن الأربعة الكبار التي آمن أهلها بالمسيح عليه السلام. وكان ذلك بعد رفعه إلى السماء ؛ ولكن ظن من ظن من المفسرين أن المرسلين المذكورين في هذه القصة أنهم رسل المسيح، وأنهم من الحواريين.
وقال تعالى:﴿ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴾، ولم يقل:﴿أَتَاهَا الْمُرْسَلُونَ ؛ لأن المجيء أعمُّ من الإتيان، ويقال: اعتبارًا بحصول الشيء. أما الإتيان فهو المجيء بسهولة، وقد يقال باعتبار القصد، وإن لم يكن منه الحصول. ويقال كل منهما في الأعيان والمعاني، ولِمَا يكون مجيئه بالذات، وبالأمر. ويقال المجيء لمن قصد مكانًا، أو عملاً، أو زمانًا.
والفرق بين قولنا:«جاء فلان»، و« أتى فلان»: أن الأول كلام تام لا يحتاج إلى صلة، وأن الثاني يقتضي مجيئه بشيء ؛ ولهذا يقال:«جاء فلان نفسُه»، ولا يقال:«أتى فلان نفسُه». ثم كثر ذلك حتى استعمل أحد اللفظين في موضع الآخر.
ومجيء المرسلين- هنا- هو مجيء بالأمر، قُصِد به المكان. ومثله في ذلك قول الله تعالى:﴿وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ ﴾(هود: 77). وفي ذلك دليل آخر على أن المرسلين كانوا رسل الله تعالى، ولم يكونوا رسل المسيح عليه السلام.
وقوله تعالى:﴿ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما ﴾ بدل من قوله:﴿ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴾. أي: إذ جاءها المرسلون ؛ إذ أرسلنا إليهم اثنين منهم. و﴿ إِذْلفظ يعبَّر به عما مضى من الزمان. وقال تعالى:﴿أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ ، ولم يقل:﴿أَرْسَلْنا إِلَيْهِا ؛ كما قال من قبل:﴿إذ جاءها ﴾. ولعل السر في ذلك أن الإرسال حقيقة ؛ إنما يكون إليهم، لا إليها، بخلاف المجيء. وأيضا التعقيب عليه بقوله تعالى:﴿ فكذبوهما ﴾ أظهر.
والفاء في قوله تعالى:﴿فَعَزَّزْنا بِثالثٍ عاطفة للتعقيب أيضًا. ونُزِّلَ الفعلُ منزلة اللازم لمعنى لطيف، وهو أن المقصود من إرسال الرسل هو نصرة الحق، لا نصرة الرسل ؛ولهذا لا يصح تفسيره بقولهم: فَعَزَّزْناهما. وقرأ عاصم في رواية أبى بكر والمفضل عن عاصم:﴿ فعزَزنا ﴾، خفيفة الزاي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم:﴿ فعزَّزنا ﴾، مشددة الزاي. وقيل: المعنى على قراءة التشديد: قوَّينا وشدَّدنا. يقال: تعزَّز لحم الناقة، إذا صلب. والمعنى على قراءة التخفيف: غلبنا وقهرنا. ومنه قوله تعالى:﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (ص: 23). أي: غلبني وقهرني.
والحقيقة أن المعنى على القراءتين يرجع إلى معنى واحد ؛ لأن الغالب القاهر لا يكون غالبًا وقاهرًا، إلا إذا كان قويًّا شديدًا،والله تعالى هو القوي الشديد الغالب لكل شيء، والقاهر لكل الخلق، وهو العزيز الذي ذلَّ لعزته كلُّ عزيز. ويفرَّق بين القراءتين بأن في قراءة التشديد مبالغة لم تكن في قراءة التخفيف.
وقوله تعالى:﴿ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ عطف على ما قبله للتفصيل. أي: فقال الثلاثة بعد تكذيب الاثنين، والتعزيز بثالث:﴿إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ . وقولهم هذا إلى نهاية القصة هو تفصيل تام للقصة بعد إجمال، وبعض تفصيل ؛ فقد ذُكِرَت أولاً إجمالاً بقوله تعالى:﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ﴾، ثم فُصِّلت بعض التفصيل بقوله تعالى:﴿ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴾ إلى قوله:﴿فَعَزَّزْنا بِثالثٍ ﴾، ثم فُصِّلت تفصيلاً تامًا بقوله تعالى:﴿ قالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾ إلى قوله:﴿ إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ﴾.

يتبـــــــــــــــــــــــــــــع
  #658  
قديم 18-05-2008, 09:04 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع ..... مثل أصحاب القرية الذين كذبوا المرسلين
ثالثًا-وهنا اعترض أصحاب القرية على الرسل، فأجابوهم بقولهم:﴿ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَىْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ ﴾.أي: ليس لكم علينا مزيَّة موجبة لاختصاصكم بما تدَّعونه من أنكم مرسلون، وما أنزل الرحمن شيئًا من وحي، أو غيره على أحد - كما تدَّعون - وما أنتم إلا تكذبون في دعواكم هذه.
ومثل هذا الإنكار والتكذيب هو خطاب المشركين لمن قال: إن الله أرسله، وأنزل عليه الوحي، لا لمن جاء رسولاً من عند رسول ؛ فقد جعلوا كونهم بشرًا مثلهم دليلاً على عدم إرسالهم. وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة ؛ كما أخبر الله تعالى عنهم، فقال:﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا ﴾(التغابن: 6). أي: استعجبوا من ذلك، وأنكروه ؛ ولهذا قال هؤلاء الكفرة:﴿ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَىْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ.
وقولهم:﴿ ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنانفي لكونهم رسلاً، وإثبات لكونهم بشرًا مماثلين لهم في حقيقة الذات البشرية على سبيل الحصر. ولفظ البَشَر يستوي فيه الواحد والجمع، وثُنِّيَ في قوله تعالى:﴿فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ﴾(المؤمنون: 47). ويقتضي حسن الهيئة ؛ لأنه مشتق من البشارة، وهي حسن الهيئة. يقال: رجل بِشْر وبشير، إذا كان حسَنَ الهيئة. وكذلك: امرأة بشيرة. وسمِّي البشر: بَشرًا ؛ لأنهم أحسن الحيوان هيئة.
ويجوز أن يقال: إن لفظ البشر، يقتضي الظهور. وسمُّوا: بشرًا ؛ لظهور شأنهم. ومنه قيل لظاهر الجلد: بشرة. فعُبِّر عن الإنسان بالبشر، اعتبارًا بظهور جلده من الشعر، بخلاف الحيوانات التي تكون بشرتها مغطاة بالصوف أو الوَبر أو الشعر.
ويُفَرَّق بين البشر، والحيوان من وجه آخر، وهو: أن البشر مخلوق من جسد ونفس وعقل، والحيوان مخلوق من جسد ونفس فقط.ومن هنا يمكن القول بأن البشر حيوان ناطق، خلافًا للمشهور من قولهم: الإنسان حيوان ناطق ؛ لأن الإنسان يمثل مرحلة متطورة من حياة البشر ؛ ولهذا قيل- كما ذكر الراغب الأصفهاني-: الإنسان مدنيُّ بالطبع.وقال أيضًا: وخُصَّ في القرآن كل موضع اعتُبِر من الإنسان جُثَّتُُهُ وظاهرُه بلفظ البشر ؛ نحو قوله تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً(الفرقان: 54). ولما أراد الكفار الغَضَّ من الأنبياء، اعتبروا ذلك فقالوا:﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾(المدثر: 25). وقالوا على سبيل الإنكار:﴿ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً(الإسراء: 94).
وأما قوله تعالى:﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴾(الكهف: 122) فهو تنبيهٌ على أن الناس يتساوون في الذات البشرية. وإنما يتفاضل الناس بما يختصُّون به من المعارف الجليلة، والأعمال الجميلة ؛ ولهذا قال عقبه:﴿ يُوحَى إِلَيَّ، تنبيهًا على أنه عليه الصلاة والسلام تميَّز بذلك عن غيره.وعلى هذا جاء قولهم:﴿ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا ﴾.
وأما قولهم:﴿وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَىْءٍفهو نَفْيٌ على سبيل الاستغراق والشمول لأن يكون الرحمن أنزل شيئًا من وحي، أو غيره على أحد ؛ كما يدَّعي المرسلون.وظاهر هذا القول يقتضي إقرارهم بالألوهية ؛ لكنهم كانوا ينكرون الرسالة، ويتوسلون بالأصنام.
وكان تخصيص هذا الاسم الجليل:﴿الرَّحْمنُ، من بين أسماء الله عز وجل ؛ لزعمهم أن الرحمة تأبى إنزال الوحي، لاستدعائه تكليفًا، لا يعود منه نفع له سبحانه، ولا يتوقف إيصاله تعالى الثواب إلى العبد عليه. وفيه إشارة إلى الرد عليهم ؛ لأن الله تعالى لما كان اسمه الرحمن، وكان إنزال الوحي رحمة، فكيف لا ينزل رحمته، وهو الرحمن ؟
وأما قولهم:﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ فهو تصريح بما قصدوه من الجملتين السابقتين. وفي اختيار صيغة المضارع﴿تَكْذِبُونَ على صيغة ﴿كَاذِبُون دلالة على أن تكذيبهم الرسل صفة متجدِّدة فيهم ومستمرة. وهذا ما عبَّر الله تعالى عنه بقوله:﴿كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ(المائدة: 70).
رابعًا-فكان جواب المرسلين لهم عن إنكارهم وتكذيبهم أن قالوا:﴿رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ﴾، وهو جار مجرى القسم في التوكيد، مع ما فيه من تحذيرهم من معارضة علم الله تعالى.استشهدوا به على صدقهم في قولهم:﴿ إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾، وزادوا- هنا- اللام المؤكدة ؛ لِمَا شاهدوا منهم من شدة الإنكار. وذكر العلماء: أن من يستشهد بعلم الله تعالى كاذبًا، يكفر. وليس كذلك الذي يقسم على كذب ؛ لأن من يقول:«يعلم الله »، فيما لا يكون، فقد نسب الله سبحانه إلى الجهل، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وفي اختيارهم عنوان الربوبية ﴿رَبُّنا ﴾ رمز إلى حكمة الإرسال، وهو إشارة إلى الرد على الكفار، حيث قالوا لهم:﴿ ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا؛ وذلك لأن الله جل وعلا، إذا كان يعلم أنهم لمرسلون، يكون كقوله سبحانه:﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾(الأنعام: 124).يعني: ربُّنا يعلم بالأمور، لا أنتم ؛ لانتفاء النظر في الآيات عنكم، فاختارنا الله تعالى بعلمه لرسالته. وفي تقديم المسند إليه ﴿ إِلَيْكُمْعلى المسند ﴿ مُرْسَلُونَ ﴾ تقوية للحكم، أو للحصر.
ثم حصروا مهمتهم بإبلاغ رسالة الله عز وجل بلاغًا مبينًا،فقالوا:﴿وَما عَلَيْنا إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبينُ ؛ وكأنهم قالوا: قد خرجنا عن عهدته، فلا مؤاخذة لنا بعد ذلك من جهة ربنا. أو: ما علينا شيء نطالب به من جهتكم،إلا تبليغ الرسالة على الوجه المذكور، وقد فعلناه، فأي شيء تطلبون منا حتى تصدقونا ؟
والمرادبـ﴿الْبَلاغُ الْمُبينُ: البلاغ المظهر للحق بكل ما يمكن، فإذا تمَّ ذلك ولم يقبلوا، فإنه يحق هنالك الهلاك. ولكون بلاغهم مبينًا، حَسُنَ منهم الاستشهاد بالعلم، وجاء كلامهم ثانيًا في غاية التأكيد لمبالغة الكفرة في الإنكار جدًّا، حيث أتوا بثلاث جمل، وكل منها دال على شدة الإنكار. قال الزمخشري:« فإن قلت: لم قيل:﴿إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾ أولاً، و﴿إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ﴾ثانيًا ؟ قلت: لأن الأول ابتداءُ إخبارٍ، والثاني جوابٌ عن إنكار.. وإنما حسُن منهم هذا الجواب الوارد على طريق التوكيد والتحقيق مع قولهم:﴿وَما عَلَيْنا إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبينُ﴾.أي: الظاهر المكشوف بالآيات الشاهدة لصحته ؛ وإلا فلو قال المدعي: والله إني صادق فيما أدعي، ولم يظهر البينة، كان قبيحًا».
خامسًا-ولما ضاقت الحيل على أصحاب القرية، وعيَّت بهم العلل، قالُوا:﴿إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ قَالُوْا ﴾. أي:تشاءمنا بكم. قالوا ذلك جَرْيًا على دَيْدَن الجهلة،حيث يتيمَّنون بكل ما يوافق شهواتهم، وإن كان مُسْتجْلِبًا لكل شرٍّ، ويتشاءمون بما لا يوافقها، وإن كان مُسْتتْبِعًا لكل خير. وهذه حجة العاجز الذي لا يستطيع أن يحتج بشيء، فيلوذ إلى اتهام خصومه بالتَّطَيُّر.ونظير ذلك قوله تعالى عن آل فرعون:﴿فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾(الأعراف: 131). وقال تعالى عن قوم صالح:﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾(النمل: 47).
وأصل التَّطَيُّر: التفاؤل بالطير البارِحُ والسَّانِحُ، ثم عمَّ. والطير البارِحُ هو الذي يجيء من على يسارك، فإن جاء من على يمينك فهو السَّانِحُ. وكان مَناطُ تطَيُّر الكفرة بالمرسلين مقالتُهم ؛ كما يشعر به قولهم مقسمين:﴿ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا ﴾ عن مقالتكم هذه، ﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ﴾.وهكذا أسفر الباطل عن غُشْمِه في وجه الحق، وأطلق على المرسلين تهديده وبغيه، وعربد في التعبير والتفكير.
وقولهم:﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ جواب لقسمهم أكَّدوه باللام، والنون الثقيلة. ويحتمل وجهين من التفسير: أحدهما: الرجم بالقول، وهو أن يكون بالشتم ونحوه. روي عن مجاهد أنه قال: لنشتمنكم. ثم قال: والرجم في القرآن كله: الشتم. والثاني: الرجم بالفعل، وهو أن يكون بالحجارة ونحوها.
أما قولهم:﴿وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ فعلى الوجه الأول يكون ترقيًّا من الشتم إلى الضرب والإيلام الحِسِّي ؛كالسلخ والقطع والصلب. وعلى الوجه الثاني يكون المراد منه القتل المتسبِّب عن الرجم بالحجارة. وقيل: هو الحريق. وقيل: عذابٌ، غيرُه تبقى معه الحياة. والمراد: لنقتلنكم بالحجارة، أو لنعذبنكم عذابًا أليمًا، لا يقادر قدره، تتمنون معه القتل.
ولكن الواجب المُلْقَى على عاتق الرسل يقضي عليهم بالمُضِيِّ في الطريق، فيردُّون على الطغاة البغاة، غير آبهين بتهديدهم ووعيدهم، فأجابوهم عن مقالتهم بقولهم:﴿طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ﴾.أي: شؤمكم معكم،وهو إقامتكم على الكفر. وأما نحن فلا شؤم معنا ؛ لأنا ندعو إلى التوحيد وعبادة الله تعالى، وفيه غاية اليمن والخير والبركة. وقيل: حظكم من الخير والشر معكم، ولازم في أعناقكم. قال معناه الضحاك. وقال قتادة: أعمالكم معكم. وقال ابن عباس: معناه: الأرزاق والأقدار تتبعكم. وقال الفراء: رزقكم وعملكم، والمعنى واحد.
وفي لسان العرب لابن منظور:« وطائر الإنسان: ما حصل له في علم الله، ممَّا قدَّر له. ومنه الحديث: بالميمون طائره. أي: بالمبارك حظه. ويجوز أن يكون أصله من الطير السانح والبارح. وقوله عز وجل:﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ (الإسراء: 13)، قيل: حظه. وقيل: عمله. وقال المفسرون: ما عمل من خير أو شر، ألزمناه عنقه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. والمعنى فيما يرى أهل النظر: أن لكل امرىء الخير والشر قد قضاه الله، فهو لازم عنقه. وإنما قيل للحظ من الخير والشر: طائر ؛ لقول العرب: جرى له الطائر بكذا من الشر، على طريق الفأل والطِّيَرَة، على مذهبهم في تسمية الشيء بما كان له سببًا، فخاطبهم الله بما يستعملون، وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يسمونه بالطائر يلزمه ».
وقراءة العامة:﴿طائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾. وقرىء:﴿طَيْرُكُمْ مَعَكُمْ ﴾، بياء ساكنة بعد الطاء.قال الزجاج: الطائر والطير بمعنى. وفي القاموس: الطير جمع: طائر، وقد يقع على الواحد. وذُكِر أن الطير لم يقع في القرآن إلا جمعًا ؛ كما في قول الله تعالى:﴿وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ(النور:41). فإذا كان في هذه القراءة كذلك، فلفظ الطائر، وإن كان مفردًا، فهو بالإضافة شامل لكل ما يتطير به، فهو في معنى الجمع، فتكون القراءتان متوافقتين.
وقيل: للشؤم طائر، وطَيْر، وطِيَرة ؛ لأن العرب كان من شأنها عيافة الطير وزجرها، والتطيُّر ببارحها، ونعيق غرابها، وأخذها ذات اليسار، إذا أثاروها. فسمُّوا الشُّؤْمَ: طيْرًا، وطائرًا، وطِيَرَةً ؛ لتشاؤمهم بها. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتفاءل، ولا يتطير.
وأصل الفَأْل: الكلمة الحسنة يسمعها عليل، فيتأوَّل منها ما يدل على بُرْئِهِ ؛ كأنْ يسمع مناديًا ينادي رجلاً اسمه: سالم، وهو عليل، فيوهمه سلامته من علته. وكذلك المُضِلُّ يسمع رجلاً يقول: يا واجد، فيجد ضالته. والطَّيَرَةُ مضادة للفأْل، وكانت العرب مذهبُها في الفأل والطيرة واحد، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الفألَ واستحسنه، وأبطل الطيرة ونهى عنها. فعن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:« الطَّيَرَةُ شرْكٌ، وما منَّا إلا..، ولكن الله يذهبه بالتوكل». رواه أبو داود والترمذي.
قال ابن الأثير: هكذا جاء الحديث مقطوعًا، ولم يذكر المستثنى. أي: إلا قد يعتريه التَّطَيُّر، ويسبق إلى قلبه الكراهة، فحذف اختصارًا واعتمادًا على فهم السامع.. وإنما جعل الطِّيَرَةَ من الشرك ؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الطير تجلب لهم نفعًا، أو تدفع عنهم ضرًا، إذا عملوا بموجبه ؛ فكأنهم أشركوه مع الله في ذلك، وهذا من الشرك الخفيِّ. وقوله:« ولكن الله يذهبه بالتوكل » معناه: أنه إذا خطر له عارضُ التطيُّر، فتوكَّل على الله تعالى وسلَّم إليه، ولم يعمل بذلك الخاطر، غفره له، ولم يؤاخذه به.
يتبـــــــــــع
  #659  
قديم 18-05-2008, 09:21 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع .....مثل أصحاب القرية الذين كذبوا المرسلين

وقولهم:﴿أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ ﴾ استفهام متضمِّن لمعنى الإنكار، جوابُه محذوفٌ، تقديره:« تطيرتم بنا ». أو قلتم هذا القول. وهو وجوابه المحذوف جوابٌ عن قول الكفرة:﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ. والمعنى: أتفعلون ذلك بمن يعظكم، ويدعوكم إلى عبادة الله الواحد الأحد، ويبيِّن لكم فساد عقيدتكم، وسوء أفعالكم بالأدلة والبراهين ؟
أما قولهم:﴿بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَفيدل على أنهم قوم عادتهم الإسراف في الضلال، ومجاوزة الحد في العصيان، فمن ثَمَّ أتاهم الشؤم، ولم يأتهم من قبل المرسلين، وتذكيرهم ؛ فهوإضراب عما تقتضيه العبارة الشرطية:﴿أَئِنْ ذُكّرْتُمْ من إنكار كون التذكير سببًا للشؤم، وإثبات الإسراف الذي هو أبلغ، وهو جالب الشؤم كله. والإسراف هو الإصرار على الكفر، بعد ظهور الحق بالحجة والبرهان، وتجاوز الحدود في التفكير والتقدير، والمجازة على الموعظة بالتهديد والوعيد، والرد على الدعوة بالرجم والتعذيب ؛ ولذلك وجب إهلاكهم،فإن الكافر مُسِيءٌ، فإذا تمَّ عليه الدليل، وأوضح له السبيل، وبقي مُصِرًّا على الكفر، يكون مُسْرفًا. والمُسْرِفُ هو المجاوز للحدِّ، بحيث يبلغ الضدَّ، وهم كانوا كذلك ؛ لأنهم جزَموا بالكفر بعد البرهان على الإيمان. ودلَّت الجملة الاسمية على أن الإسراف صفة ثابتة فيهم، ملازمة لهم، لا تفارقهم. تلك كانت الاستجابة من القلوب المغلقة على دعوة الرسل، وهي مثل للقلوب التي تحدثت عنها السورة في الجولة الأولى، وصورة واقعية لذلك النموذج البشري المرسوم هناك.
سادسًا- فأما النموذج الآخر الذي اتَّبع الذكر، وخشِي الرحمن بالغيب، فكان له مَسْلَكٌ آخرُ، وكانت له استجابة غير هذه الاستجابة، ويتمثل في هذا الرجل الذي أخبر الله عنه، وحكى قصته بقوله تعالى:
﴿وَجاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ
إنه رجل جاء من أقصى المدينة. أي: من أبعد مواضعها، جاء يسعى. أي: يسرع في مشيه ؛ لبعد محله ومزيد اهتمامه، حرصًا منه على نصح قومه، ونُصْرة المرسلين، وتعزيز دعوتهم، ملبيًا نداء الفطرة. والظاهر أن هذا الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان، ولم يكن في عزوة من قومه أو منعة من عشيرته ؛ ولكنها العقيدة الحيَّة في ضميره تدفعه وتجيء به من أقصى المدينة إلى أقصاها ؛ لينضم إلى موكب المرسلين. وليس مهمًّا بعد ذلك، إن كان هذا الرجل هو حبيب النجار- على ما قيل- أو غيره ؛ لأن معرفة ذلك لا يزيد شيئاً في دلالة القصة وإيحائها.
وقال الله تعالى هنا:﴿وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ﴾، وقال في سورة القصص:﴿ وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى(القصص:20)، فقدم الجارَّ والمجرور﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ على الفاعل ﴿رَجُل في الأول، وأخره عنه في الثاني. وجعل أبو حيان ذلك من التَّفَنُّن في البلاغة. أما الخفاجي فجعل تقديم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقديم، بيانًا لفضل هذا الرجل ؛ إذ هداه الله تعالى مع بعده عنهم، وأن بعده لم يمنعه عن ذلك ؛ ولذلك عبَّر عن القرية بـ﴿المدينة ﴾، بعد التعبير عنها بـ﴿القَرْيَة ﴾ إشارة إلى السعة، وأن الله تعالى يهدي من يشاء سواء قرُب، أو بعُد.
وقيل: قدِّم للاهتمام، حيث تضمَّن الإشارةَ إلى أن إنذارهم قد بلغ أقصى المدينة، فيشعر بأنهم أتوا بالبلاغ المبين.وقيل: إنه لو أخِّر، تُوُهِّمَ تعلُّقُه بـ﴿ يَسْعَى﴾، فلم يفد أنه من أهل المدينة، وأن مسكنه في طرفها، وهو المقصود.وقيل: قدِّم لاشتمال ما قبله من سوء معاملة أصحاب القرية الرسل، وإصرارهم على تكذيبهم،فكان مظنة التتابع على مجرى العبارة تلك القرية، ويبقى مخيلا في فكره: أكانت كلها كذلك، أم كان فيها على خلاف ذلك، بخلاف ما في سورة القصص.
وقوله تعالى:﴿مِنْ أَقْصَى يحتمل ثلاثة أوجه من الإعراب: أحدها: أنه صفة لـ﴿ رَجُل ﴾، قدِّم عليه، فصار حالاً منه. والثاني: أنه صلة لـ﴿جَاء. والثالث: أنه صلة لـ﴿ يَسْعَى﴾. والأظهر أن يكون صلة لـ﴿جَاء. والله أعلم !
وفي الإشارة إلى ﴿رَجُلبلفظ التنكيرفائدتان: الأولى: هي تعظيمٌ لشأنه. أي: رجل كامل الرجولة. والثانية: هي بيانٌ لظهور الحق من جانب المرسلين، حيث آمن بدعوتهم رجل من الرجال، لا معرفة لهم به، فلا يقال: إنهم تواطؤا معه.
وفي تقييد مجيء هذا الرجل بصيغة ﴿ يَسْعَى، دونصيغة ﴿ سَاعِيًا، إشارة إلى تجدُّد السَّعْيِ منه، واستمراره دون تعب أو ملل. وفيه تَبْصِرةٌ للمؤمنين، وهدايةٌ لهم ؛ ليكونوا في النصح باذلين جهدهم لنصرة الحق أينما كان.
وقد بدأ هذا الرجل خطابه لقومه بقوله:﴿يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ.وهو استئناف بياني وقع جوابًا عن سؤال نشأ من حكاية مجيئه ساعيًا ؛فكأنه قيل: فماذا قال عند مجيئه ؟ فقيل: قال:﴿يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ.وفيه إشارات لطيفة:
أولها: قوله:﴿يا قَوْمِ ﴾ ؛ فإنه ينبىء عن إشفاقه عليهم، وإنه لا يريد بهم إلا خيرًا ؛ ولهذا أضافهم إلى نفسه، ولم يقل: يا قومُ ! وأيضًا أراد تأليف قلوبهم، واستمالتها نحو قبول نصيحته.
وثانيها: قوله:﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ ؛ فإنه جمع بين إظهار نصحه لقومه، وإظهار إيمانه ؛ لأن قوله:﴿اتَّبِعُوا ﴾ إظهار للنصح، وأن قوله:﴿الْمُرْسَلينَ إظهار لإيمانه.
وثالثها:أنه قدَّم في قوله السابق إظهار النصح على إظهار الإيمان ؛ لأنه كان ساعيًا في النصح. وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل. وقوله تعالى في حقِّه:﴿رَجُلٌ يَسْعَى يدل على كونه مريدًا للنصح. وممَّا ذكر في حكاية هذا الرجل أنه كان يقول، وهو يقتل: اللهم ! اهدِ قومي. ونظير قوله هذا قول مؤمن آل فرعون:﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ(غافر: 38).
فإن قيل: هذا الرجل قال:﴿يا قومِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ، ومؤمن آل فرعون قال:﴿اتَّبِعُونِ ﴾، فما الفرق بين القولين ؟ والجواب: أن مؤمن آل فرعون كان فيهم، واتبع موسى عليه السلام، ونصح قومه مرارًا، فقال: اتبعوني في الإيمان بموسى، واعلموا أنه لو لم يكن خيرًا، لما اخترته لنفسي، وأنتم تعلمون أني اخترته. وأما صاحب ياسين فلم يكن مع قومه، ولم يعلموا شيئًا عن إيمانه، فبدأ نصحه لهم بقوله:﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ الذين أظهروا لكم الدليل، وأوضحوا لكم السبيل. وبهذا يظهر الفرق بين القولين.
وأما قوله:﴿اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَفليس بتكرير- كما قيل- لقوله:﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ؛لأنه نبَّه أولاً بقوله:﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ على موجب الاتباع، وهو كون المتبوع رسولاً لمن لا ينبغي أن يخالف ولا يعصى، وأنه على هداية. ثم نبَّه ثانيًا بقوله﴿اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً على انتفاء المانع منه،وهو عدم سؤال الأجر، فلا يريدون منهم دنيا، ولا رياسة. فموجب الاتباع كونهم مهتدين، والمانع منه منتف، وهو طلب العلو في الأرض والفساد وطلب الأجر.
وقوله:﴿مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً ﴾كلمة جامعة في الترغيب فيهم. والمعنى: لا تخسرون معهم شيئًا من دنياكم، وتربحون صحة دينكم.والتعبير عن كونهم مهتدين بالجملة الاسمية ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ يفيد أن الاهتداء صفة ثابتة فيهم، وملازمة لهم. والجملة حالية، فيها ما يؤكِّد كونَهم لا يسألون الأجر، ولا ما يتبعه من طلب جاه، أو سلطان، أو رياسة، أو نحو ذلك.
سابعًا- وأضاف الرجل المؤمن قائلاً:﴿وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ*ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ*إِنّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ* إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴾،فاحتج على قومه بما ركَّبه الله تعالى في فطر الناس وعقولهم من حسن عبادته وحده، وقبح عبادة غيره ؛ لأنه الفاطر لهم، ولا إله لهم غيره، ولا رب لهم سواه، وهو وحده المستحق للعبادة.وهذا ما قرَّره سبحانه وتعالى في كتابه، ودعا إليه، وأوحى به إلى رسله، فقال جل شأنه:﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾(الأنبياء: 25).
ولهذا افتتح الرسل جميعهم دعوتهم بهذا الأصل الذي يقوم عليه الدين كله ؛ كقول نوح- عليه السلام- لقومه:﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ (الأعراف: 95).وكذلك قال هود، وصالح، وشعيب- عليهم السلام- وغيرهم. كلٌّ كان يقول:﴿اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ ﴾،اقتداءً بإمام الحنفاء إبراهيم- عليه السلام- الذي حكى الله تعالى عنه مناظرته لقومه، فقال سبحانه وتعالى:﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ*إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ*وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الزخرف: 26- 28).
فهذه الكلمة هي كلمة الإخلاص لله جل وعلا، وهي البراءة من كل معبود ؛ إلا من الخالق الذي فطر الخلق جميعهم ؛ كما قال صاحب ياسين هنا:﴿وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾،فأخرج الحجة عليهم في معرض المخاطبة لنفسه،وهو يريد مناصحتهم تلطفًا بهم، ومداراة لهم ؛ ولأنه أدخل في إمحاض النصح، حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، ونبَّه العقول بذلك على أن عبادة العبد لمن فطره أمر واجب، وأن تركها مستهجن، والإخلال بها قبيح ؛ فإن خلق الله تعالى لعباده أصل إنعامه عليهم، ونعمه كلها بعد تابعة لإيجادهم وخلقهم، وقد جبل الله تعالى العقول والفطر على شكر المنعم، ومحبة المحسن.
ثم أقبل هذا الرجل المؤمن على قومه، مخوِّفًا لهم تخويف الناصح، بأن إليه تعالى مرجعهم جميعًا، فيعاقبهم على شركهم. وقدم الجار والمجرور ﴿ إِلَيْهِ على الفعل ﴿ِ تُرْجَعُونَ؛لإفادة الحصرمبالغة في تخويفهم بالرجوع إلى الله الخالق جل وعلا، لا إلى غيره. وإنما قال:﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾،ولم يقل:﴿وَإِلَيْهِأَرْجِعُ ﴾- كما يقتضيه نظم الكلام- تنبيهًا على أنهم هم المعنيون بهذا الخطاب.
يتبــــــــع
  #660  
قديم 18-05-2008, 09:41 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع .....مثل أصحاب القرية الذين كذبوا المرسلين

ومن الإشارات اللطيفة التي تضمنها هذا الخطاب قوله:﴿وَماليَ لا أَعْبُدُ؛فهو إشارة إلى عدم المانع من العبادة. أي: ما لي مانع من جانبي يمنعني من عبادته. أما قوله:﴿الّذي فَطَرَني فهو إشارة إلى وجود المقتضي للعبادة، وهو كونه فاطرًا. وقدَّم بيان عدم المانع من العبادة على بيان وجود المقتضي لها، لوجود الحاجة إلى الأول، وظهور الثاني.
وفي العدول عن مخاطبة قومه إلى مخاطبة نفسه لطيفة أخرى ؛ وهي أنه لو قال:﴿وَمَا لَكُمْ لا تَعْبُدُونَ الَّذي فَطَرَكُمْ،جاز أن يفهم منه أنه يطلب بيان العلة على امتناعهم عن عبادة فاطرهم ؛ كما فهِم ذلك من قول نوح- عليه السلام- لقومه:﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً( نوح:13)؛ ولهذا قال:﴿وَماليَ لا أَعْبُدُ، مشيرًا إلى بيان عدم المانع.
والفرق بين القولين: أن نوحًا- عليه السلام- كان داعيًا لقومه. أما صاحب ياسين فإنه كان مَدعوًّا إلى الإيمان من قبل المرسلين، فقال:﴿وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني، وقد طُلِبَ مني ذلك ؟ أي: لا يوجد عندي مانع يمنعني من الإيمان. فاختلف لذلك وجها الكلام.
قال ابن قيِّم الجوزيَّة:« فتأمل هذا الخطاب، كيف تجد تحته- على وجازته- أشرف معنى وأجله، وهو أن كونه سبحانه فاطرًا لعباده يقتضي عبادتهم له، وأن من كان مفطورًا مخلوقًا، فحقيق به أن يعبد فاطره وخالقه ؛ ولا سيما إذا كان مرده إليه، كما كان مبتدأه منه سبحانه. وهذا يوجب عليه التفرغ لعبادته سبحانه وتعالى وحده، لا شريك له ».
وهذا النوع من الخطاب يسميه علماء البيان: التعريض. ويعرفونه بأنه الدلالة على المعنى من طريق المفهوم. وإنما سمَّوْه: تعريضًا ؛ لأن المعنى باعتباره يُفْهَمُ من عرَض اللفظ. يقال: نظر إليه بعَرَض وجهه. أي:بجانبه.ويُسَمَّى: تلويحًا أيضًا ؛ لأن المتكلم يلوِّح منه للسامع ما يريده ؛ كقول تعالى يحكي قول إبراهيم عليه السلام:﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ(الأنبياء: 63)، جوابًا لقولهم:﴿أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ(الأنبياء: 62) ؛لأن غرضه بقوله:﴿ فَاسْأَلُوهُمْ الاستهزاء بهم، وإقامة الحجة عليهم بما عرض لهم به من عجز كبير الأصنام عن الفعل، مستدلاً على ذلك بعدم إجابتهم،إذا سألوا. ولم يرد بقوله:﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾ نسْبةَ الفعل الصادر عنه إلى الصنم، فدلالة هذا الكلام عجْزُ كبير الأصنام عن الفعل بطريق الحقيقة.
ومن أقسام هذا النوع من الخطاب:أن يخاطب الشخص، والمراد غيره ؛ سواء كان الخطاب مع نفسه، أو غيره ؛ كقوله تعالى:﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (الزمر: 65)،وقوله تعالى:﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ﴾(الرعد: 37). فالخطاب في هاتين الآيتين للنبي صلى الله عليه وسلم. والمراد به قومه، تعريضًا بأنهم أشركروا، واتَّبعوا أهواءهم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع منه ذلك، فأبرز غير الحاصل في معرض الحاصل ادِّعاء.
وعلى هذا ورد قوله تعالى:﴿وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني، والمراد: مالكم لا تعبدون الذي فطركم.هذا هو أصل الكلام ؛ ولكنه أبرزه في معرض المناصحة لنفسه، وهو يريد مناصحتهم ؛ ليتلطف بهم، ويريهم أنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه. ثم لما انقضى غرضه من ذلك، قال:﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ؛ ليدل على ما كان من أصل الكلام، ومقتضيًا له.ولولا التعريض، لكان المناسب أن يقول:﴿وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ ﴾.وهذا وجه حَسَنٌ من أوجه الخطاب في القرآن. ووَجْهُ حُسْنِهِ ظاهرٌ ؛ لأنه يتضمَّن إعلامَ السامع على صورة لا تقتضي مواجهته بالخطاب المُنكَر ؛ وكأنه لم يَعْنِِه هو. ثم هو أعلى في محاسن الأخلاق، وأقرب للقَبُول، وأدْعَى للتواضع. والكلام ممَّن هو رب العالمين، نزَّله بلغتهم، وتعليمًا للذين يعقلون.
وقال هنا:﴿فَطَرَني﴾، ولم يقل:﴿خَلَقَني؛ لأنه أنسب في مقام الحِجَاج ؛ لإثبات إلهية الخالق جل وعلا ووحدانيته، وهو من قولهم: فطَر الشيءَ، إذا ابتدأ إنشاءَه وفتحَه.وأصل الفَطْر: الشَّقُّ طولاً. ومنه قوله تعالى:﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ(الأنعام: 14).أي: مبدعهما ابتداءً على غير مثال سابق. وليس كذلك قولنا:« خالق السموات والأرض » ؛ لأن الأصل في الخَلْق أن يكون من شيء ؛ كقوله تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا (الروم: 21). وقد يكون من لا شيء كَالفَطْر ؛ نحو قوله تعالى:﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ﴾(آل عمران: 190).
وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:«ما كنت أدري ما﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها. أي: أنا ابتدأت حفرها». وذكر أبو العباس أنه سمع ابن الأعرابي، يقول:«أنا أول من فطر هذا. أي: أول من ابتدأه ».
ثم احتج عليهم بما تَقِرٌّ به عقولهم وفطرهم من قبْح عبادة غيره، وأنها أقبح شيء في العقل وأنكره، فقال:﴿أأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ، فبيَّن أن هذه الآلهة التي تعبد من دون الله تعالى باطلة، وأن عبادتها باطلة ؛ لأن العابد يريد من معبوده أن ينفعه وقت حاجته إليه. فإذا أراده الرحمن الذي فطره بضُرٍّ، لم يكن لهذه الآلهة من القدرة ما ينقذه بها من ذلك الضُّرّ، وليس لهذه الآلهة من الجاه والمكانة عند الله تعالى ما يشفع له إليه ؛ ليتخلص من ذلك الضُّرِّ. فبأي وجه من الوجوه تستحق هذه الآلهة الباطلة العبادة ؟
وقوله:﴿أأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةًإنكارٌ لاتخاذ جنسالآلهة على الإطلاق، ونَفْيٌ لوجود إله غير الله جل وعلا ؛ كما كان قوله:﴿ وَماليَ لا أَعْبُدُ إثباتًا لوجود الله عز وجل. ولا يتم التوحيد، ويتحقق معنى ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إلا بهما. وهذا تعريض بقومه الذين اتخذوا آلهة، وعبدوها من دون الله سبحانه،وفيه من تحميق من يعبد الأصنام ما فيه. وفي الآية أيضًا- كما قال الفخر الرازي- لطائف:
الأولى: ذِكْرُهُ على طريق الاستفهام، فيه معنى وضوح الأمر ؛ وذلك أن من أخبر عن شيء،فقال مثلاً:لا أتخذ، يصِحُّ من السامع أن يقول له: لِمَ لا تتخذ ؟ فيسأله عن السبب. فإذا قال: أأتخذ ؟ يكون كلامه أنه مستغن عن بيان السبب الذي يطالب به عند الإخبار ؛ كأنه يقول: استشرتك فدلني، والمستشار يتفكر ؛ فكأنه يقول: تفكر في الأمر،تفهم من غير إخبار مني.
الثانية:بيَّن أن ﴿مِنْ دُونِهِ لا تجوز عبادته. فإن عبد غير الله، وجب عبادة كل شيء مشارك للمعبود الذي اتخذ غير الله ؛ لأن الكل محتاج مفتقر حادث. فلو قال: لا أتخذ آلهة، لقيل له: ذلك يختلف، إن اتخذت إلهًا غير الذي فطرك، ويلزمك عقلاً أن تتخذ آلهة، لا حصر لها. وإن كان إلهك ربك وخالقك، فلا يجوز أن تتخذ آلهة.
الثالثة: قوله:﴿أأَتَّخِذُ إشارة إلى أن غيره ليس بإله ؛ لأن المُتَّخذَ لا يكون إلهًا ؛ ولهذا قال تعالى:﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ﴾(الإسراء: 111)؛ لأنه تعالى لا يكون له ولد حقيقة، ولا يجوز ؛ وإنما النصارى قالوا: تبنَّى الله عيسى وسمَّاه: ولدًا، فقال:﴿ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ﴾.
وأما قوله:﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِفهو جملة شرطية استئنافية، سيقت لتعليل النفي المذكور. وجعلها صفة لـ﴿ آلِهَةً- كما ذهب إليه بعض المفسرين- ربما يوهم أن هناك آلهة ليست كذلك.


يتبـــــــع
موضوع مغلق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 316.58 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 310.75 كيلو بايت... تم توفير 5.83 كيلو بايت...بمعدل (1.84%)]