أثر تجديد العلوم العربية الغابرة في انتشار اللغة وانحسارها - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12522 - عددالزوار : 213704 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          متعة الإجازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          التقوى وأركانها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-09-2022, 02:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي أثر تجديد العلوم العربية الغابرة في انتشار اللغة وانحسارها

أثر تجديد العلوم العربية الغابرة في انتشار اللغة وانحسارها
أسامة بن عبدالرزاق شيراني


غيرُ خافٍ على كثيرٍ من دارسي العربيَّة في زماننا تتابعُ دعوات التجديد بين حينٍ وآخر، بيدَ أن هذه الدعوات تغفل معنى ما تطلقه حقًّا، وتنحو به نحوَ التغيير والتبديل؛ فإن لازمَ معنى (التجديد) في اللغة إعادة الجِدَّة والقوة لشيء كان على صورةٍ مَّا في غابر الزّمان، وقد اسْتُحْسِنَتْ هيئتُه آنذاك، ثم توالى عليها ما توالى حتى ضَمُرَ أمرُها، فأراد المجدِّدُون ردَّها إلى ما كانت عليه.

وشأن العُلُوم كما يعبّر المناطقة أنها (أعراض) لا (جواهر)، والأعراض إنما تقوم بالنفوس لا السطور، فالعِلْم عَرَضٌ متعلّقٌ بها، وتجديده يكون بإعادة بنائه فيها كما كان في نفوس المتقدمين، أما تغييره عمّا كان عليه فلا يصحّ أن يسمّى تجديدا، بل هو تبديل أو تطوير، وليس معنى ذا رفضَه، فإنه قد يستحسن ما لم يَمَسَّ أصْلَ الماهيّة، أما إن غَمَرَها فقد أصَارَ العلم إلى حالة أخرى.

وقد جاء الإسلام والعربُ أمّة أمّيّة لا تقرأ ولا تكتب، فما لبثَ حتى انقلبَ حالها إلى قلوب وعقول أعجزت أمم الشرق والغرب في زمان لم يطُلْ، وكان من مظاهر تأييد الله لهذا الدين أن فتح لأهله من صنوف العلوم والفنون ما أعلى مقامهم، وثبّت أقدامهم في تلك البلاد، ونال شرف حمل جملة من علوم العربيّة أعاجم الشرق والغرب.

ومَثَلُ حال العربيّة وعلومها كمدينة أُحْكِمَ تشييدها، ثم شرَعَ أهلُها في تقوية آصِرَتِهِمْ بإيجاد كلِّ ما يحتاجونه بينهم، فترى الصَّانعَ والحائك والدقَّاقَ والصائغَ والساقيَ وغيرهم من أهل الصنائع، ولم تزد على طول الزمان إلا ثباتًا ورسوخا، ثم شاء الله أن يضعُفَ أهلها لتقصيرهم في حقِّه، وبدأت هذه الصنائع تقلّ بينهم بموت أهلها شيئا فشيئا، حتى آل بهم الأمر إلى جَلْبِ كلِّ دخيلٍ لا تنفك إساءتُه عن إحسانه!

وقد عُنِيَ سلفُ الأمّة من علماءِ العربيّة بعلوم كثيرة، كان لها الأثر في انتشار العربيّة، وصرنا في هذا الزَّمَان نراها ترفًا فكْريًّا أو علومًا دخيلة، وسأعرض لأربعة من العلوم الداثرة التي جهل الناس أصولها، إما لاستقلالها بعدُ وعلاجها في غير مظانها، أو لاستقرار فروعها على وجهٍ واحدٍ لم يطلع كثير من أهل العصور المتأخرة على غيره، أو لامتزاجها بغيرها من العلوم امتزاجا لا يكاد ينماز إذ ذاك عنها.

أولاً: علم الخط والهجاء:
ويسمّيه بعضهم بعلم (الرسم والنقط)، وهو قديم قدم الكتابة في الإسلام، ويسميه المعاصرون: (الإملاء).
وكان كَتَبَةُ المصحف من الصحابة بادئ أمرهم قد أخذوا الخطّ وتعلموه عن غيرهم من الأمم، وفي ذلك يقول ابن خَلْدُون (808هـ) في (مقدمته): «فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسط؛ لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع، وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف؛ حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخط عند أهلها...».

وجرى التابعون وعلماءُ الأمة آنذاك في الكتابة على رسم المصحف، ثم انتحى اللغويون منحى الرسم الاصطلاحي المعنيِّ بضبط قوانين الباب وتعليله وبناء الفروع عليه، وثبتَ رسمُ المصحف على ما كتبه الصحابة، وظهر حينها مسلكان في دراسة هذا العلم:
مسلك الوصف: وهو الذي جرى عليه علماء الرسم والضبط المعتنين بالمصاحف، وكان من أوائل من صنف فيه ابن عامر اليحصبي (118هـ)، وراويته يحيى الذماري (145هـ)، وأبو عمرو بن العلاء (154هـ)، والكسائي (180هـ)، ومن المطبوع الذي بلغنا: إشارات الفرّاء (207هـ) إلى ظواهر الكتابة في المصحف واختلافها في (معاني القرآن)، ومن الكتب المختصة المطبوعة: (المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار) لأبي عمرو الدّاني (444هـ)، وهو كتابٌ حافل لم يأت أحدٌ بعده إلا وقد أخذ عنه، ومن الكتب كذلك: (أصول الضبط وكيفيته على جهة الاختصار)، و(مختصر التبيين في هجاء التنزيل) لأبي داود سليمان بن نجاح (469هـ)، والأوّل في رسم الحركات والثاني في رسم الحروف، وكان الحديثُ في هذه الكتـب حول ست قواعد: (الحذف، والزيادة، والهمزة، والإبدال، والوصل، والفصل، وما فيه قراءتان فكتب على إحداهما تغليبا لها في جميع المصاحف مما يحتمله الرسم). ومبدأ هذا العلم ومنتهاه الوصْف، والقواعد المشار إليها هي في وصف هذه الظواهر فحسب، وممـن عني بتدريس هذا العلم في أخَرَة: الكليات والمعاهد المختصة بالقرآن وعلومه.

مسلك التقعيد: ولم يتأخر عن قرينِه، فمن أوائل ما أفردَ فيه: (مختصر النقط) لأبي الأسود الدؤلي (69هـ) وهو أصل هذا العلم ولم أدخله في المسلك الأوّل –مع أنه في نقط القرآن ابتداء- لأنه عني بوضع الحركات الإعرابية في مواضعها فعمله تقعيد لا وصف، و(كتاب الخط) للخليل بن أحمد (170هـ تقريبًا)، و(النقط والشكل) لليزيدي (202هـ)، وللزّيادي (249هـ)، وهذه كلُّها في حكم المفقود، أما المطبوع أو المخطوط: فمنه ما هو مضموم إلى غيره كما عند ابن قتيبة (267هـ) في (أدب الكاتب) إذ خصص له عنوانًا سماه: (كتاب تقويم اليد)، وأقدمُ ما وقفتُ عليه مفرَدًا في هذا المسلك –وكان في حكم المفقود-: (كتاب الخط والهجاء) لأبي العبَّاس المبرَّد (286هـ)، وقد حققته بحمد الله ولم أنشره بعدُ، ومن المطبوع: (كتاب الخطّ والهجاء) لابن السرّاج (316هـ)، حققه الدكتور الفتلي ونشره في مجلة المورد قديمًا، وكتاب (الهجاء) للزجاجي (337هـ)، و(كتاب الكتَاب) لابن درستويه (347هـ)، ومما جاءَ مقرونًا بغيره ما عند النَّحَّاس (383هـ) في (صناعة الكتاب)، وأبواب (الخط) في الكتب النحوية، من المطولات والمختصرات –وقد طبعت بعض هذه الأبواب مفردة-، وكتب المقصور والممدود وشروحها، وكتب الهمز، ومن الكتب المتأخرة: (المطالع النصرية للمطابع المصرية في الأصول الخطية)، لعلامة عصره نصر الهويريني (1291هـ)، وهو مطبوع، وقد عنيت كتب هذا المسلك ببيان العلل وأوجه الكتابة، وخرجت بقواعد كلّيّة، منها على سبيل المثال: «خطّان لا يقاس عليهما: خط المصحف، وخط العروض»، و«الهجاء مبني على الوقف»، و«إن اجتمع متماثلان فصل بينهما وإن كانت النظائر تقتضي الحذف»، و«الكتابة على مقدار ما يلفظ به»، وغيرها، وبعضها قواعد تعليمية وبعضها علميّة، إلا أنَّ هذه الكتب لم تخصَّ بالتأليف –حسب تتبعي- ما يتعلّق بالحركات (الضبط) كما حصل في المسلك الأول، وقمِنٌ به أن يُخَصّ.

ومن آثار التقصير في هذا العلم: ما وقع في القرن الماضي حين هاجم المستعربون والمستغربون الخطَّ العربيّ، ورموه بكل نقيصة، ورام بعض الصُّلَحاء تطويره وتحسينه، فشارك في تلك الهجمة من حسنت نيّته ومن ساءت، فما كان من مجمع القاهرة إلا أن أعلن عن قبول الاقتراحات بشأن تحسينه، وقُدِّم نحو من ألفي اقتراح من العالم العربي والإسلامي، ثم ما لبث الموضوع أن طوِيَ، وبقي في النفوس ما بقي!

ثانيًا: علم النَّغَمِ واللُّحُون:
ويسمى كذلك (علم التأليف) و(علم الموسيقى)، ومنزلته من النغم كمنزلة العروض من الشعر، فهو ميزانه ومعياره، وقد كان الغرض من التأليف فيه أول الأمر: تمييز لحون العرب عن لحون الأمم الأخرى؛ لمقاصد شرعية ولغوية، ثم اتسع بعدُ، فقد كانت لحون العرب تجري على سلائقهم دون تكلّف وتصنّع، وكانت موازين أشعارهم صورة لهذا النَّغَم، فما لبث أن تغيَّر الأمرُ بعد اختلاطهم بغيرهم، فاحتاج أهل العلم بالعربيّة تمييز ذلك وبيانه، حفظا لقراءة القرآن على صورتها الأولى، ودار الحديث في كتب الفقه والأحكام عن حكم قراءة القرآن بالألحان أو لحون الأعاجم، وعرضوا كذلك لحكم الغناء -المجرد عن آلات العزف- على هذه اللحون، والحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره، فكيف يكون إن أغفِلَتْ دراسته ومعرفة دقائقه؟ ويَذْكُر أبو الفرج الأصفهاني (356هـ) في (الأغاني) أن أوّل من أدخل لحون العجم في لحون العرب هو سعيد بن مسجح (85هـ تقريبًا) فقد قال: «ونقل غناء الفرس إلى غناء العرب، ثم رحل إلى الشام وأخذ ألحان الروم ...، وانقلب إلى فارس فأخذ بها غناء كثيرا وتعلّم الضرب، ثم قدم إلى الحجاز وقد أخذ محاسن تلك النّغم، وألقى منها ما استقبحه من النّبرات والنغم التي هي موجودة في نغم غناء الفرس والروم خارجة عن غناء العرب، وغنّى على هذا المذهب، فكان أوّل من أثبت ذلك ولحنّه وتبعه الناس بعد»، وقد أدرك العلماء الحاذقون أثرَ هذه الأنغام الدخيلة على الشعر العربيّ أيضا، حتى قال الأخفش الأوسط (214هـ) في كتابه (العروض): «وأما من زعم أنه يأخذه [أي العروض] بالترنم والغناء، فإن الترنُّم يكسر الشعر، وذلك لأنه لا يقدر على المد إلا في حروف المد، وليس في كل موضع يمد فيه من البيت فيه حرف مَدٍّ، فإذا لم يجد حرف مد زاد حرف مَدٍّ من عنده، ولابدَّ من ذلك، فالزيادة في الحروف كسر، فإن قال: هو تعديل للترنم، قلت: وإن كان كذلك أليس هو كسرًا للبيت؟!».

ومن الكتب القديمة في هذا العلم: (كتاب النغم واللحون) للخليل بن أحمد (170هـ)، و(كتاب النغم) لابن قتيبة (276هـ)، وكلاهما في حكم المفقود، ثم لما اتسع سمّيَ قسم منه بعلم التأليف؛ لبحثه في كيفية صناعة النغمات والربط بينها.
ومن مظانه أو كتبه المطبوعة: رسالة الكندي (260هـ) في (خبر صناعة التأليف)، و(الموسيقى الكبير) للفارابي (339هـ)، في ثلاثة آلاف صحيفة تقريبا، وقسم من رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، وعدة رسائل لابن سينا (428هـ)، وللأرموي (693هـ)، وللصفدي (764هـ)، ومن الكتب المتأخرة (روض المسرات في علم النغمات) للشيخ عثمان الجندي (بعد 1313هـ) شاعر العائلة الخديوية.

وقد آل اليوم قدر وافر منه لكليات الموسيقى، وضاع جزء كبير من جهد اللغويين فيه، ولم يبق منه بين المنتسبين للعلوم الشرعية إلا علم المقامات القرآنية، أو المقامات الصوتية، أو المقامات الموسيقية، ومن اطلع على بعض كتب هذا الفن هاله حجم التخليط في المتكلمين عليه وفيه إلا ما ندر.

ثالثًا: علم جدل النَّحْو:
يخلط كثيرٌ من المنتسبين لعلوم العربيّة وغيرها بين علم البحث وعلم المناظرة، ومن أسباب هذا أن كثيرًا من المصنفين جمع بين هذين العلمَيْن في كتاب واحدٍ، ولا يخفى على ذي لبٍّ ما لعلم أصول النحو من أثر في بناء الحكم النَّحْوي وقبوله وردّه، والجِلَّة من أهل العربية في زماننا إنما يعوّلون فيه على (الخصائص) لابن جني (393هـ)، و(لمع الأدلة) لابن الأنباري (575هـ)، و(الاقتراح في علم أصول النحو) للسيوطي (911هـ)، ويظنّون أن كتاب ابن الأنباري الآخر (الإغراب في جدل الإعراب) هو في الميدان نفسِه، وهذا خلل في التصوّر؛ إذ إن علم (جدل النحو) علمٌ مستقلٌّ تمام الاستقلال عن علم (أصول النحو)، وإفراد التأليف في (جدل النحو) سبق علوما كثيرة؛ لمسيس الحاجة إليه، وقد صنّف ابن الأنباري هذا الكتاب بعد تلخيصه (الإنصاف في مسائل الخلاف) وأشار إلى أنّه وضعه بطلب من بعضهم ليكون أول كتاب مفرد في علم جدل النحو، ومن أسفٍ أنه آخر كتاب مفرد فيه أيضا -فيما أعلم-! والفرق بين (أصول النحو) و(جدل النحو): أن الأول يُعْنى بالبحث في الأدلّة الكلّيّة التي يُرْجَع إليها في هذا العلم من سماعٍ وقياسٍ واستحسانِ واستصحاب حالٍ، مع بيان ما يعرض لها من قوّة وضعف، والثاني يعنى ببيان الاعتراضات على القضايا ونقضها وردّها وتصحيح السؤال والجواب، ويسمّيه بعضهم: (آداب البحث والمناظرة)، وهو إن كان يدخل في علوم كثيرة كعلم الكلام والفقه والأصول إلا أن دخوله في النحو لازم لطبيعته؛ فكل علم من علوم الناس قامت أصوله ورَسخت فروعه في عهده الأول على أمر من الأمور، وتتابع أهله عليه أعجازا على كلاكل، ومثاني على أوائل=فإن هذا الأمر حالٌّ محل الطبع، وبالغ مبلغ العِماد، وإن لم يكن في تفرّده -إن تفرد- ذا أثر بيّن، والشأن معه حينها أن ينزل منزلة المرء الذي عالج طبعه معالجة الصعب، حتى استقام أوَده على حال، إن لم يرض بها ويرضاها ذووه = فهم يسوسون منازعهم فيها، ويقبلونها قبولَ الراضي بما لا بد منه.

وعلى هذا قام علم النحو - بلِفْقَيْه: الإعراب والتصريف -، فبني بناءً محكما على التعليل، والجدل، وإيراد الحجة، ونقض الدليل، وإخراجه عما بني عليه إماتة له، وقد خلت أقوام جهِدت فسلكت المسالك، وظنت أنها حصَّلَتْ شيئا، فما لبثت حتى دارت عليها عجلة النحو الْمُعَلَّلِ الْمُبَجَّل، وعاد العلم إلى منزعِه، غضًّا طريًّا كما أنزل على قلوب أفذاذه الأُوَل.

ولمّا ضعفت العناية بهذا الفنّ رأينا ضعفًا في كثيرٍ من الرسائل العلمية المتخصصة في النحو خاصّة، وأصبح الباحث يتغنى بمثل (الحياد) و(التحرير) و(الإشكال) و(التجريد) دون إعمال حقيقيّ لها، ويبلغ الأمر مبلغه حين تُدَرِّسُ كثيرٌ من كتب مناهج البحث هذا على أنّه عِلْمٌ غربيٌّ مترجم!

رابعًا: علم الوِرَاقة والكِتَابة:
وهذا العلمُ يعنى بأدوات الكتابة من أقلام ومحابر وأوراق، وقد كانت الحاجة إليه قديمًا ملحَّة، ولما عظم شأن الكتابة في الإسلام اختصّ به بعض الناس، وألّف فيه جمعٌ من اللغويين لعلاقته الوثيقة باللغة وانتشارها؛ إذ القلم أحدُ اللِّسَانَيْن، وفي هذا يقول الجاحظ في إحدى رسائله: «ولولا الكِتَاب لاختلَّت أخبار الماضين، وانقطعت آثار الغائبين، وإنما اللسان للشاهد لك، والقلم للغائب عنك، وللماضي قبلك والغابر بعدك، فصار نفعه أعم، والدواوين إليـه أفقر»، والتفريط في هذا العلم تفريط فـي نقلِه وحمله وتأدية أمانته حقَّ الأداء، ومن لطيف ما يؤثر عن عليٍّ رضـي الله عنه أنه كان يقول لكاتبه: «أطِلْ جلفة قلمك وأسمِنْها، وأيمِن قَطَّتَك، وأسمعني طنين النون وخرير الخاء، أسمن الصاد، وعرج العين، واشقق الكاف، وعظم الفاء، ورتل اللام، واسلس الباء والتاء والثاء، وأقم الواو على ذنبها، واجعل قلمك خلف أذنك يكن أذكر لك»، وسئل بعض كتاب المقتدر: «متى يجوز أن يوصف الخط بالجودة؟»، فقال: «إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه، وتفتحت عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه، وأشرق قرطاسه، وأظلمت أنقاشه، ولم تختلف أجناسه... كان حينئذ كما قلت في حسن الخط:
إذا ما تجلَّل قرطاسُه
وساوَرَه القلم الأَبرَشُ

تَضمَّن من خطِّه حلة
كنقش الدنانير بل أَنقَشُ

حروف تعيد لعين الكليل
نشاطاً ويقرؤها الأخْفَشُ»


وقد ألف -في هذا العلم من المتقدمين- ابن قتيبة (267هـ): (رسالة في الخط والقلم) وهي مطبوعة حققها د. هلال ناجي، تحدث فيها عن البَرْيِ والدَّواة وأدوات الكتابة، ومنهم: ابنُ مقلة (328هـ)، وابنُ البوَّاب (413هـ)، وياقوت الحمويّ (626هـ)، وغيرهم كثيرٌ. وكان جلُّ من تعرّض لهذا العلم من اللغويين أو الخطّاطين وكانوا كتّابًا عند الولاة والوزراء والخلفاء.

ثم لما أطلّ العصر الحديثُ بالآلات الطباعيّة صادفَ ذلك ضعفا عامًّا في الأمّة فَخَفَتَ الاعتناء بهذا الأمر بين أهل العلم وحملته، وصارت الكتابة صناعة اختص بها بعض المعتنين بالأجهزة الحديثة ممن يجهل العربيّة وعلومها، وكانت المطابع في العالم العربيّ تعنى بمضمون المكتوب أكثر من عنايتها بطريقة أدائه، وتقلد المخطوطاتِ كثيرا في شكل الكتاب وزخارفه وطُغُرّته، فظهرت الطبعات الحجريّة للكتب وهي ذات خطٍّ رديءٍ متعب للبصر وكثيرٌ من المخطوطات أجمل منه، وبقيت الجهود في هذا الميدان فرديّة يقوم بها بعض شُداة العربية من هنا وهناك، واستمر الأمر في أطوار مليئة بالإشكالات، وظهرت البرامج الحاسوبيّة بعدُ فكان البرنامجُ العربيُّ الوحيد المعنيُّ بصفِّ الكتب بصورة جيّدة هو برنامج (3B2)، الذي ظهر في النصف الثاني من القرن الماضي وعَمِلَتْ عليه أكثر دور النشر العربية العريقة كدار الغرب الإسلامي ومكتبة الخانجي وغيرها، ولا يزال إلى اليوم بصورته القُدْمى لم يتقدَّمْ خُطْوة، وظهر برنامج أفضل منه في أدوات كثيرة، وهو برنامج (Adobe InDesign) غير أنّه معرّب القوالب، وفي التعريب عقبات أخرى، واعتمد كثيرٌ من الباحثين برنامج (Word) للكتابة، وهو أسوأ من سابِقَيْه، ولا يزال الكَتَبةُ يعانون من إشكالات هذه البرامج؛ لأنها وقفت عند حدٍّ معيّن، وصرنا فيها تبعًا للغرْب، إن تقدَّم وجاد علينا بشيء تقدَّمْنا وإلا فنحن في مكاننا باقون، ومن أبرز ما في هذه البرامج من قصور: أنواع الخطوط المستخدمة وعدم مطابقتها للخطوط القديمة، وصعوبة الضبط والتشكيل وعدم وجود غالب علامات الضبط المكمّلة، وإشكالات الفهرسة والترقيم، وغيرها، وأرى أن السَّعْي في تطوير هذا الجانب ينبغي أن يقع على عاتق اللغويين والمجامع والمعاهد والكليات اللغوية، لتمدَّ المتخصصين في هذا المجال التِّقْنِيِّ بما ينقصهم وتطلب منهم ما يكمّل أدوات الكتابة وفنونها، أما الاعتماد على مجرد الرَّقْن والتنضيد والصَّفِّ دون نظر إلى نوع الخطِّ ودقّته فهذا فيه ما فيه.


والله الهادي إلى سواء السبيل




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 66.32 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 64.43 كيلو بايت... تم توفير 1.89 كيلو بايت...بمعدل (2.85%)]