جاسوس (قصة)

[ابوالوليد المسلم]

جاسوس (قصة)
أحمد بلقاسم







في الحقيقة، الضجيج الذي ملأ غرفة نومي، وأقضَّ مضجعي، ومزَّق شريط أحلامي، وجعلني أنهض غاضبًا، متوعدًا مُثيرَ هذه القلاقل الخبيثة بأشد العقوبات، ولم يذهب تخميني سدى في أني سأُمسك بمُثير الشغب في زمن قياسي، وبالفعل ألقيت القبض عليه في أسرع وقت ممكن، إنه فأر في ريعان شبابه، بعينيه اللامعتين، وشاربيه الراقصين، يقف أمامي وجهًا لوجه على غير عادته دون خوف أو حياء، في استفزاز سافر شرع يُحرِّك ذيله ذات اليمين وذات الشمال، ويَمسح وجهه الناتئ كقمع صَدِئ براحتيه الصغيرتين، غير مبال ولا مكترث لأوداجي المُنتفخة، غير آبه بما سأنزله عليه من عقاب شديد.

♦ تعال أيها المارد الصغير، ستدفع الثمن غاليًا.
• ولم يا رجل؟
♦ كل هذه الفوضى وهذا الإزعاج، وتتدثَّر بثوب البراءة؟
• ما خطبك يا رجل!
♦ دعنا من الزيادة التي يَعرفها القاصي والداني، إنما أعني أنها ضخت في رصيد سباتنا خلال شهر رمضان الفَضيل، ستين دقيقة بالتمام والكمال لنتصرَّف فيها كيفما نشاء!
• الآن فهمت، ولكن ما ذنبي أنا حتى تشدَّ بخناقي، وتَحبس عني رحمة الله؟!
تالله ما أنا من أثار هذه الفوضى!
♦ من إذًا؟ لا تُحاول الكذب؛ فحبله أقصر من ذيلك!
• سأقول الحقيقة، ولا شيء سوى الحقيقة.
♦ هيا قل كلمتك وامشِ، ومن العبث أن تُحاول تمطيط حبل عمرك بضعة سنتيمترات؟
• ماذا لو قلتُ لك الحقيقة؟
♦ سأُخلي سبيلك، هيا قل!
• أعطني الأمان بألا تُسلمني إلى أعدائي.
♦ لك ما شئت.
• إن العابثين بكُتبك الذين يفسدون عليك نومك هم...هم...
♦ تكلَّم دون تلعثُم.
• ما زلتَ على عهدك؟
♦ أجل، قل لي من هم هؤلاء الأوغاد الذين يُكدِّرون هدوء غرفتي، ويعبَثون بمدخرات مكتبتي.
• إنهم شخصيات القصص والرِّوايات.
♦ ما هذا الهراء؟ لن يُنجيك هذيانك من العقاب!
• أنا لا أَهذي يا رجل!
♦ إذن، واصل هذيانك، بل كلامك.
• إنهم يتسلَّلون لواذًا من كتبهم مع أول صيحة ديكٍ، فيَنزِلون مُهرولين نحو الشارع.
♦ أمر عجيب ومحيِّر! لأي غرض يفعلون ذلك؟!
• من أجل الكسب الحلال.
♦ ماذا؟
• كما سمعتَ، فمنهم من يَبيع الشباكية، ومنهم من يبيع الرغائف والفطائر، ومنهم من يتاجر بالبقدنوس والقزبر، وما إلى ذلك، إنهم يَنشطون طيلة النهار في الشهر الفضيل.
♦ كيف علمت ذلك؟
• سمعتُ أحدهم يقول: أيها الرفاق، أيتها الرفيقات، نحن أبطال مَرموقون، فمنَّا المُناضِلون، ومنَّا حاملو مبادئ وقِيَم نبيلة، ومنَّا الثوريون، ومنَّا ما دون ذلك، المهم أن شهرتنا تجاوزت حدود دَفَّات الكتب التي حُشرنا فيها أيها الرفاق، ليس من المعقول أن نظلَّ حبيسي هذه الدَّفات دون عمل، يجب أن نزيح عنَّا غطاء الخمول والكسل، ونُشمِّر عن سواعد الجد والكد؛ لنعيش بعرق الجبين بأنفة وكرامة.
♦ ثمَّ ماذا أيضًا؟
• صفَّق له الجميع، وشرعوا في مغادرة المجاميع القصصية والروايات إلا من رحم ربك.
♦ وماذا عنكَ أنت، كيف تسلَّلتَ إلى رفوف مكتبتي؟
• صراحة، زيارتي لبَيتِك تمَّت بمحض الصدفة، وليس عن سبق إصرار وترصد كما تتوهم.
♦ تأبى إلا أن تلبس رداء البراءة يا لعين!
• صدقني يا سيدي! لقد وجدتُ نفسي فوق هذا الرف، وبين هذا الركام من الكتب رغمًا عن أنفي.
♦ محاولة يائسة منك للانفلات من طوق المشنقة يا عدوَّ الله.
• صدِّقني! لقد صحبني أحدهم، وهو يُدعى عيسى الدباغ المقيم في رواية السمَّان والخريف.
♦ كيف تمَّ ذلك؟
• وأنا مُنهمك في البحث عن قطعة ثوب لأؤسِّس بها عش الزوجية كما أرادت شريكة حياتي في أحد الدكاكين، زلَّت بي قدمي، فولجت جيب معطفِه عن غير قصد، فغطستُ في غفوة، لما استيقظت وجدت نفسي بين هؤلاء القوم.
♦ ثم استهوتْك عشرتهم ونسيت فتاة أحلامك؟
• كلا، لقد حاولتُ العودة إليها على متن ذات الراحلة، لولا أن أحد شخصيات قصة قصيرة جدًّا ناشدني المساعدة من أجل الانعتاق مِن نِير اعتقاله.
♦ أيريد هو الآخر أن يعيش بعَرقِ جبينه؟
• المسكين حالته سيئة للغاية، وقد يلقى حتفه اختناقًا.
♦ بمعنى؟
• مشكلته أن صاحبه - أقصد كاتب القصة القصيرة جدًّا بالطبع - أمعن في تقزيم القصة، لدرجة أنه لا يستطيع المسكين تَسريح ساقيه فيها، فقامته أطول بكثير من السطر اليتيم الذي زُجَّ فيه.
♦ بم ساعدته؟
• صنعت له كوة في دفَّة المجموعة تُمكنه مِن استراق السمع من أبطال القصص والروايات المُجاورة، لكن لسوء حظه لم يجد في جواره سوى كتاب أخبار الحمقى والمجانين.
♦ جميل.
• أما آن الأوان لتُخلِّي سبيلي؟
♦ سأظلُّ مُمسكًا بتلابيبك إلى أن تُثبت براءتك.
• ممَّ يا سيدي؟
♦ مِن التجسُّس والتلصُّص عليَّ؛ صراحة أنا أشك في سبب وجودك في مكتبتي، وما يدريني، قد تكون عميلًا لخصومي؟!
• ألدَيك خصوم؟
♦ من هم؟
• أصدقاء حِرفتي، قد يكون أحدُهم أرسلك لتُحرِّض شخوص قصصي التي أزمع كتابتها على العصيان والثورة ضدِّي لا سمح الله، فتُصبح أوراق مسوَّدتي يبابًا.
♦ يا سيدي! أقسم لك، إنني بريء مما تتَّهمني به.
• اخرس، ما هذه الجلبة؟ ما هذا الذي أسمعه؟
♦ لا تقلق، هذا خوار بقرة محمد الهرَّادي تراها الآن أقفلت راجعةً إلى حظيرتها لتستأنف أحلامها.
• أقلتَ حظيرتها؟
♦ عفوًا، أودُّ أن أقول مكانها في رواية "أحلام بقرة".
• هي أيضًا تغادر المكتبة لتَشتغل بعرق جبينها؟
♦ أجل؛ إنما بعرق ضرعها، ففي الشهر الفضيل يزداد الطلب على الحليب، سيَعقبها رجوع حمار الحكيم.
• حمار الحكيم!
♦ يقول: إنه يخرج للمواساة والتضامن مع حمير الباعة المتجولين.
• وماذا عن هؤلاء الأطفال المُهرْوِلين في أثرها، سحنتُهم ليست غريبة عني؟
♦ أكيد أنك تعرفهم، إنهم أولاد نجيب محفوظ، وقد عادوا إلى حارتهم.
• أتراهم هم أيضًا من الفئة المعوزة؟

♦ كلا؛ فهم يحجُّون إلى الساحات العمومية لحضور الحلقة.
• الحلقة؟
♦ نعم الحلقة التي ينشطها القوقجيون.