تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 18 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4387 - عددالزوار : 836806 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3919 - عددالزوار : 379363 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11942 - عددالزوار : 191145 )           »          سحور يوم 19 رمضان.. ساندوتشات فول مخبوزة خفيفة ولذيذة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          واتس اب بلس الذهبي (اخر مشاركة : whatsapp Girl - عددالردود : 2 - عددالزوار : 2666 )           »          الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 660 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 945 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1094 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 854 )           »          صحتك فى شهر رمضان ...........يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 837 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #171  
قديم 06-01-2022, 03:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (169)

سُورَةُ النَّحْلِ(15)
صـ 396 إلى صـ 400


قوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ، بين - جل وعلا - في هذه الآية [ ص: 396 ] الكريمة : أن في الأنعام عبرة دالة على تفرد من خلقها ، وأخلص لبنها من بين فرث ودم ; بأنه هو وحده المستحق لأن يعبد ، ويطاع ولا يعصى . وأوضح هذا المعنى أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون [ 23 \ 21 ] ، وقوله : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون [ 16 \ 5 ] ، وقوله : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 36 \ 71 - 73 ] ، وقوله : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت [ 88 \ 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقد دلت الآيات المذكورة على أن الأنعام يصح تذكيرها وتأنيثها ; لأنه ذكرها هنا في قوله : نسقيكم مما في بطونه [ 16 \ 66 ] ، وأنثها في " سورة : قد أفلح المؤمنون " في قوله : نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة [ 23 \ 21 ] ، ومعلوم في العربية : أن أسماء الأجناس يجوز فيها التذكير نظرا إلى اللفظ ، والتأنيث نظرا إلى معنى الجماعة الداخلة تحت اسم الجنس . وقد جاء في القرآن تذكير الأنعام وتأنيثها كما ذكرناه آنفا . وجاء فيه تذكير النخل وتأنيثها ; فالتذكير في قوله : كأنهم أعجاز نخل منقعر [ 54 \ 20 ] ، والتأنيث في قوله : كأنهم أعجاز نخل خاوية [ 69 \ 7 ] ، ونحو ذلك . وجاء في القرآن تذكير السماء وتأنيثها ; فالتذكير في قوله : السماء منفطر به [ 73 \ 18 ] ، والتأنيث في قوله : والسماء بنيناها بأيد الآية [ 51 \ 47 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وهذا معروف في العربية ، ومن شواهده قول قيس بن الحصين الحارثي الأسدي وهو صغير في تذكير النعم :

في كل عام نعم تحوونه يلقحه قوم وتنتجونه .

وقرأ هذا الحرف نافع وابن عامر وشعبة عن عاصم " نسقيكم " ، بفتح النون . والباقون بضمها ، كما تقدم بشواهده " في سورة الحجر " .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة :

المسألة الأولى : استنبط القاضي إسماعيل من تذكير الضمير في قوله : مما في [ ص: 397 ] بطونه [ 16 \ 66 ] : أن لبن الفحل يفيد التحريم . وقال : إنما جيء به مذكرا ; لأنه راجع إلى ذكر النعم ; لأن اللبن للذكر محسوب ، ولذلك قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن لبن الفحل يحرم " ، حيث أنكرته عائشة في حديث أفلح أخي أبي القعيس ، فللمرأة السقى ، وللرجل اللقاح ; فجرى الاشتراك فيه بينهما . اه . بواسطة نقل القرطبي .

قال مقيده - عفا الله عنه - : أما اعتبار لبن الفحل في التحريم فلا شك فيه ، ويدل له الحديث المذكور في قصة عائشة مع أفلح أخي أبي القعيس ; فإنه متفق عليه مشهور . وأما استنباط ذلك من عود الضمير في الآية فلا يخلو عندي من بعد وتعسف . والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثانية : استنبط النقاش وغيره من هذه الآية الكريمة : أن المني ليس بنجس ، قالوا : كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا ، كذلك يجوز أن يخرج المني من مخرج البول طاهرا .

قال ابن العربي : إن هذا لجهل عظيم ، وأخذ شنيع ، اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ، ليكون عبرة ; فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة . وليس المني من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به ، أو مقيسا عليه .

قال القرطبي بعد أن نقل الكلام المذكور : قلت : قد يعارض هذا بأن يقال : وأي منه أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم ؟ وقد قال تعالى : يخرج من بين الصلب والترائب [ 86 \ 7 ] ، وقال : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة [ 16 \ 72 ] ، وهذا غاية في الامتنان .

فإن قيل : إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول .

قلنا : هو ما أردناه ; فالنجاسة عارضة وأصله طاهر . اه محل الغرض من كلام القرطبي .

قال مقيده - عفا الله عنه - : وأخذ حكم طهارة المني من هذه الآية الكريمة لا يخلو عندي من بعد . وسنبين إن - شاء الله - حكم المني : هل هو نجس أو طاهر ، ؟ وأقوال العلماء في ذلك ، مع مناقشة الأدلة . اعلم : أن في مني الإنسان ثلاثة أقوال للعلماء : الأول : أنه طاهر ، وأن حكمه حكم النخامة والمخاط ; وهذا هو مذهب الشافعي ، وأصح الروايتين عن أحمد ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وعطاء ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو ثور ، وداود ، [ ص: 398 ] وابن المنذر ، وحكاه العبدري ، وغيره عن سعد بن أبي وقاص ، وابن عمر ، وعائشة - رضي الله عنهم - . كما نقله النووي في " شرح المهذب " وغيره .

القول الثاني : أنه نجس ، ولا بد في طهارته من الماء سواء كان يابسا أو رطبا ; وهذا هو مذهب مالك ، والثوري ، والأوزاعي .

القول الثالث : أنه نجس ، ورطبه لا بد له من الماء ، ويابسه لا يحتاج إلى الماء بل يطهر بفركه من الثوب حتى يزول منه ; وهذا هو مذهب أبي حنيفة . واختار الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : أنه نجس ، وأن إزالته لا تتوقف على الماء مطلقا .

أما حجة من قال إنه طاهر كالمخلط فهي بالنص والقياس معا ، ومعلوم في الأصول : أن القياس الموافق للنص لا مانع منه ; لأنه دليل آخر عاضد للنص ، ولا مانع من تعاضد الأدلة .

أما النص فهو ما ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يذهب فيصلي فيه " ، أخرجه مسلم في صحيحه ، وأصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد . قالوا : فركها له يابسا ، وصلاته في الثوب من غير ذكر غسل دليل على الطهارة . وفي رواية عند أحمد : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ، ثم يصلي فيه ، ويحته من ثوبه يابسا ثم يصلي فيه . وفي رواية ، عن عائشة عند الدارقطني : " كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يابسا ، وأغسله إذا كان رطبا‌‌ " ، وعن إسحاق بن يوسف قال : حدثنا شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المني يصيب الثوب ; فقال : " إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق ، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة " .

قال صاحب ( منتقى الأخبار ) بعد أن ساق هذا الحديث كما ذكرنا : رواه الدارقطني ، وقال : لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك . قلت : وهذا لا يضر ; لأن إسحاق إمام مخرج عنه في الصحيحين ، فيقبل رفعه وزيادته .

قال مقيده - عفا الله عنه - : ما قاله الإمام المجد - رحمه الله - ( في المنتقى ) من قبول رفع العدل وزيادته ، هو الصحيح عند أهل الأصول وأهل الحديث كما بيناه مرارا ، إلى غير ذلك من الأحاديث في فرك المني وعدم الأمر بغسله .

وأما القياس العاضد للنص فهو من وجهين : أحدهما : إلحاق المني بالبيض ; [ ص: 399 ] بجامع أن كلا منهما مائع يتخلق منه حيوان حي طاهر ، والبيض طاهر إجماعا ; فيلزم كون المني طاهرا أيضا .

قال مقيده - عفا الله عنه - : هذا النوع من القياس هو المعروف بالقياس الصوري ، وجمهور العلماء لا يقبلونه ، ولم يشتهر بالقول به إلا إسماعيل ابن علية ; كما أشار له في مراقي السعود بقوله :


وابن علية يرى للصوري كالقيس للخيل على الحمير


وصور القياس الصوري المختلف فيها كثيرة ; كقياس الخيل على الحمير في سقوط الزكاة ، وحرمة الأكل للشبه الصوري . وكقياس المني على البيض لتولد الحيوان الطاهر من كل منهما في طهارته . وكقياس أحد التشهدين على الآخر في الوجوب أو الندب لتشابههما في الصورة . وكقياس الجلسة الأولى على الثانية في الوجوب لتشبهها بها في الصورة . وكإلحاق الهرة الوحشية بالإنسية في التحريم . وكإلحاق خنزير البحر وكلبه بخنزير البر وكلبه ، إلى غير ذلك من صوره الكثيرة المعروفة في الأصول . واستدل من قال بالقياس الصوري : بأن النصوص دلت على اعتبار المشابهة في الصورة في الأحكام ; كقوله : فجزاء مثل ما قتل من النعم [ 5 \ 95 ] ، والمراد المشابهة في الصورة على قول الجمهور . وكبدل القرض فإنه يرد مثله في الصورة . وقد استسلف - صلى الله عليه وسلم - بكرا ورد رباعيا كما هو ثابت في الصحيح . وكسروه - صلى الله عليه وسلم - بقول القائف المدلجي في زيد بن حارثة وابنه أسامة : " هذه الأقدام بعضها من بعض " ; لأن القيافة قياس صوري ; لأن اعتماد القائف على المشابهة في الصورة .

الوجه الثاني من وجهي القياس المذكور : إلحاق المني بالطين ، بجامع أن كلا منهما مبتدأ خلق بشر ; كما قال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة الآية [ 23 \ 12 - 13 ] .

فإن قيل : هذا القياس يلزمه طهارة العلقة ، وهي الدم الجامد ; لأنها أيضا مبتدأ خلق بشر ، لقوله تعالى : ثم خلقنا النطفة علقة [ 23 \ 14 ] ، والدم نجس بلا خلاف .

فالجواب : أن قياس الدم على الطين في الطهارة فاسد الاعتبار ; لوجود النص بنجاسة الدم . أما قياس المني على الطين فليس بفاسد الاعتبار ; لعدم ورود النص بنجاسة المني .

[ ص: 400 ] وأما حجة من قال بأن المني نجس فهو بالنص والقياس أيضا . أما النص فهو ما ثبت عن عائشة - رضي الله عنه - قالت : " كنت أغسل المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء " ، متفق عليه . قالوا : غسلها له دليل على أنه نجس . وفي رواية عند مسلم عن عائشة بلفظ : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل المني ، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه " .

قال مقيده - عفا الله عنه - : وهذه الرواية الثابتة في صحيح مسلم تقوي حجة من يقول بالنجاسة ; لأن المقرر في الأصول : أن الفعل المضارع بعد لفظة " كان " يدل على المداومة على ذلك الفعل ، فقول عائشة في رواية مسلم هذه : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل " ، تدل على كثرة وقوع ذلك منه ، ومداومته عليه ، وذلك يشعر بتحتم الغسل . وفي رواية عن عائشة في صحيح مسلم أيضا : أن رجلا نزل بها فأصبح يغسل ثوبه . فقالت عائشة : إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه . فإن لم تر نضحت حوله . ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركا فيصلي فيه . اه .

قالوا : هذه الرواية الثابتة في الصحيح عن عائشة ، صرحت فيها : بأنه إنما يجزئه غسل مكانه . وقد تقرر في الأصول ( في مبحث دليل الخطاب ) وفي المعاني ( في مبحث القصر ) : أن " إنما " من أدوات الحصر ; فعائشة صرحت بحصر الإجزاء في الغسل ; فدل ذلك على أن الفرك لا يجزئ دون الغسل ، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على غسله .

وأما القياس : فقياسهم المني على البول والحيض ، قالوا : ولأنه يخرج من مخرج البول ، ولأن المذي جزء من المني ; لأن الشهوة تحلل كل واحد منهما فاشتركا في النجاسة .

وأما حجة من قال : إنه نجس ، وإن يابسه يطهر بالفرك ولا يحتاج إلى الغسل فهي ظواهر نصوص تدل على ذلك ، ومن أوضحها في ذلك حديث عائشة عند الدارقطني الذي قدمناه آنفا : " كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يابسا ، وأغسله إذا كان رطبا " .

وقال المجد ( في منتقى الأخبار ) بعد أن ساق هذه الرواية ما نصه : قلت : فقد بان من مجموع النصوص جواز الأمرين .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #172  
قديم 06-01-2022, 03:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (170)

سُورَةُ النَّحْلِ(16)
صـ 401 إلى صـ 405


قال مقيده - عفا الله عنه - : إيضاح الاستدلال بهذا الحديث لهذا القول : أن الحرص [ ص: 401 ] على إزالة المني بالكلية دليل على نجاسته ، والاكتفاء بالفرك في يابسه يدل على أنه لا يحتاج إلى الماء . ولا غرابة في طهارة متنجس بغير الماء ; فإن ما يصيب الخفاف والنعال من النجاسات المجمع على نجاستها يطهر بالدلك حتى تزول عينه . ومن هذا القبيل قول الشوكاني : إنه يطهر مطلقا بالإزالة دون الغسل ، لما جاء في بعض الروايات من سلت رطبه بإذخرة ونحوها . ورد من قال : إن المني طاهر احتجاج القائلين بنجاسته ، بأن الغسل لا يدل على نجاسة شيء ، فلا ملازمة بين الغسل والتنجيس ; لجواز غسل الطاهرات كالتراب والطين ونحوه يصيب البدن أو الثوب . قالوا : ولم يثبت نقل بالأمر بغسله ، ومطلق الفعل لا يدل على شيء زائد على الجواز .

قال ابن حجر ( في التلخيص ) : وقد ورد الأمر بفركه من طريق صحيحة ، رواه ابن الجارود ، ففي ( المنتقى ) ، عن محسن بن يحيى ، عن أبي حذيفة ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث ، قال : كان عند عائشة ضيف فأجنب ، فجعل يغسل ما أصابه ; فقالت عائشة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بحته - إلى أن قال : وأما الأمر بغسله فلا أصل له .

وأجابوا عن قول عائشة : " إنما يجزئك أن تغسل مكانه " ، لحمله على الاستحباب ; لأنها احتجت بالفرك . قالوا : فلو وجب الغسل لكان كلامها حجة عليها لا لها ، وإنما أرادت الإنكار عليه في غسل كل الثوب ; فقالت : " غسل كل الثوب بدعة منكرة ، وإنما يجزئك في تحصيل الأفضل والأكمل أن تغسل مكانه . . . " إلخ .

وأجابوا عن قياس المني على البول والدم ; بأن المني أصل الأدمي المكرم فهو بالطين أشبه ، بخلاف البول والدم .

وأجابوا عن خروجه من مخرج البول بالمنع ، قالوا : بل مخرجهما مختلف ، وقد شق ذكر رجل بالروم ، فوجد كذلك ، فلا ننجسه بالشك . قالوا : ولو ثبت أنه يخرج من مخرج البول لم يلزم منه النجاسة ; لأن ملاقاة النجاسة في الباطن لا تؤثر ، وإنما تؤثر ملاقاتها في الظاهر .

وأجابوا عن دعوى أن المذي جزء من المني بالمنع أيضا ، قالوا : بل هو مخالف له في الاسم والخلقة وكيفية الخروج ; لأن النفس والذكر يفتران بخروج المني ، وأما المذي فعكسه ، ولهذا من به سلس المذي لا يخرج منه شيء من المذي . وهذه المسألة فيها للعلماء مناقشات كثيرة ، كثير منها لا طائل تحته . وهذا الذي ذكرنا فيها هو خلاصة أقوال [ ص: 402 ] العلماء وحججهم .

قال مقيده - عفا الله عنه ‌‌ - : أظهر الأقوال دليلا في هذه المسألة عندي - والله أعلم - : أن المني طاهر ; لما قدمنا من حديث إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق ، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة " ، وهذا نص في محل النزاع .

وقد قدمنا عن صاحب المنتقى أن الدارقطني قال : لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك ، وأنه هو قال : قلت : وهذا لا يضر ; لأن إسحاق إمام مخرج عنه في الصحيحين ، فيقبل رفعه وزيادته . انتهى .

وقد قدمنا مرارا : أن هذا هو الحق ; فلو جاء الحديث موقوفا من طريق ، وجاء مرفوعا من طريق أخرى صحيحة حكم برفعه ; لأن الرفع زيادة ، وزيادات العدول مقبولة ، قال في مراقي السعود :


والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ
- إلخ .

وبه تعلم صحة الاحتجاج برواية إسحاق المذكور المرفوعة ، ولا سيما أن لها شاهدا من طريق أخرى .

قال ابن حجر ( في التلخيص ) ما نصه : فائدة -

روى الدارقطني ، والبيهقي من طريق إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المني يصيب الثوب ؟ قال : " إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق " ، وقال : " إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إذخرة " ، ورواه الطحاوي من حديث حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مرفوعا ، ورواه هو والبيهقي من طريق عطاء عن ابن عباس موقوفا ، قال البيهقي : الموقوف هو الصحيح . انتهى .

فقد رأيت الطريق الأخرى المرفوعة من حديث حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، وهي مقوية لطريق إسحاق الأزرق المتقدمة .

واعلم أن قول البيهقي - رحمه الله - : والموقوف هو الصحيح ولا يسقط به الاحتجاج بالرواية المرفوعة ; لأنه يرى أن وقف الحديث من تلك الطريق علة في الطريق المرفوعة . وهذا قول معروف لبعض العلماء من أهل الحديث والأصول ، ولكن الحق : أن الرفع [ ص: 403 ] زيادة مقبولة من العدل ، وبه تعلم صحة الاحتجاج بالرواية المرفوعة عن ابن عباس في طهارة المني ، وهي نص صريح في محل النزاع ، ولم يثبت في نصوص الشرع شيء يصرح بنجاسة المني .

فإن قيل : أخرج البزار ، وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما ، وابن عدي في الكامل ، والدارقطني والبيهقي والعقيلي في الضعفاء ، وأبو نعيم في المعرفة من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بعمار فذكر قصة ، وفيها : " إنما تغسل ثوبك من الغائط ، والبول ، والمني ، والدم ، والقيء ، يا عمار ، ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواء " .

فالجواب : أن في إسناده ثابت بن حماد ، عن علي بن زيد بن جدعان ، وضعفه الجماعة المذكورون كلهم إلا أبا يعلى بثابت بن حماد ، واتهمه بعضهم بالوضع . وقال اللالكائي : أجمعوا على ترك حديثه . وقال البزار : لا نعلم لثابت إلا هذا الحديث . وقال الطبراني : تفرد به ثابت بن حماد ، ولا يروى عن عمار إلا بهذا الإسناد . وقال البيهقي : هذا حديث باطل ، إنما رواه ثابت بن حماد وهو متهم بالوضع ; قاله ابن حجر في ( التلخيص ) ، ثم قال : قلت ورواه البزار ، والطبراني من طريق إبراهيم بن زكريا العجلي ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، لكن إبراهيم ضعيف ، وقد غلط فيه ، إنما يرويه ثابت بن حماد . انتهى .

وبهذا تعلم أن هذا الحديث لا يصح الاحتجاج به على نجاسة المني . والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة : قال القرطبي : في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره . فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به ; لأنه مائع طاهر حصل في وعاء نجس . وذلك أن ضرع الميتة نجس ، واللبن طاهر ; فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس . فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه . فمن قال : إن الإنسان طاهر حيا وميتا فهو طاهر . ومن قال : ينجس بالموت فهو نجس . وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة ; لأن الصبي قد يتغذى به كما يتغذى من الحية . وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم " ، ولم يخص . انتهى كلام القرطبي .
قوله تعالى : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا الآية [ 16 \ 97 ] ، جمهور العلماء على أن المراد بالسكر في هذه الآية الكريمة : الخمر ; لأن [ ص: 404 ] العرب تطلق اسم السكر على ما يحصل به السكر ، من إطلاق المصدر وإرادة الاسم . والعرب تقول : سكر " - بالكسر - " سكرا [ 16 \ 67 ] ، " بفتحتين وسكرا " بضم فسكون " .

وقال الزمخشري في الكشاف : والسكر : الخمر ; سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا ، نحو رشد رشدا ورشدا . قال :


وجاءونا بهم سكر علينا فأجلى اليوم والسكران صاحي
ا هـ .

ومن إطلاق السكر على الخمر قول الشاعر :


بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء والسكر


وممن قال : بأن السكر في الآية الخمر : ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وأبو رزين ، والحسن ، ومجاهد ، والشعبي ، والنخعي ، وابن أبي ليلى ، والكلبي ، وابن جبير ، وأبو ثور ، وغيرهم . وقيل : السكر : الخل . وقيل : الطعم ، وقيل : العصير الحلو .

وإذا عرفت أن الصحيح هو مذهب الجمهور ، وأن الله امتن على هذه الأمة بالخمر قبل تحريمها فاعلم أن هذه الآية مكية ، نزلت بعدها آيات مدنية بينت تحريم الخمر ، وهي ثلاث آيات نزلت بعد هذه الآية الدالة على إباحة الخمر .

الأولى : آية البقرة التي ذكر فيها بعض معائبها ومفاسدها ، ولم يجزم فيها بالتحريم ، وهي قوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ 2 \ 219 ] ، وبعد نزولها تركها قوم للإثم الذي فيها ، وشربها آخرون للمنافع التي فيها .

الثانية : آية النساء الدالة على تحريمها في أوقات الصلوات ، دون الأوقات التي يصحو فيها الشارب قبل وقت الصلاة ، كما بين صلاة العشاء وصلاة الصبح ، وما بين صلاة الصبح وصلاة الظهر ، وهي قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية [ 4 \ 43 ] .

الثالثة : آية المائدة الدالة على تحريمها تحريما باتا ، وهي قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إلى قوله : فهل أنتم منتهون [ 5 \ 90 - 91 ] .

[ ص: 405 ] وهذه الآية الكريمة تدل على تحريم الخمر أتم دلالة وأوضحها ; لأنه تعالى صرح بأنها رجس ، وأنها من عمل الشيطان ، وأمر باجتنابها أمرا جازما في قوله : فاجتنبوه ، واجتناب الشيء : هو التباعد عنه ، بأن تكون في غير الجانب الذي هو فيه . وعلق رجاء الفلاح على اجتنابها في قوله : لعلكم تفلحون ، ويفهم منه أنه من لم يجتنبها لم يفلح ، وهو كذلك .

ثم بين بعض مفاسدها بقوله : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة [ 15 \ 91 ] ، ثم أكد النهي عنها بأن أورده بصيغة الاستفهام في قوله : فهل أنتم منتهون [ 5 \ 91 ] ، فهو أبلغ في الزجز من صيغة الأمر التي هي " انتهوا " ، وقد تقرر في فن المعاني : أن من معاني صيغة الاستفهام ، التي ترد لها ، الأمر ; كقوله : فهل أنتم منتهون ، وقوله : وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم الآية [ 3 \ 20 ] ، أي : أسلموا . والجار والمجرور في قوله : ومن ثمرات النخيل الآية [ 16 \ 67 ] ، يتعلق بـ تتخذون ، وكرر لفظ " من " للتأكيد ، وأفرد الضمير في قوله " منه " مراعاة للمذكور ; أي : تتخذون منه ، أي : مما ذكر من ثمرات النخيل والأعناب . ونظيره قول رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق


فقوله : " كأنه " ، أي : ما ذكر من خطوط السواد والبلق . وقيل : الضمير راجع إلى محذوف دل المقام عليه ، أي : ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ، أي : عصير الثمرات المذكورة ، وقيل : قوله : ومن ثمرات النخيل ، معطوف على قوله : مما في بطونه [ 16 \ 66 ] ، أي : نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل . وقيل : يتعلق بـ : نسقيكم ، [ 16 \ 66 ] محذوفة دلت عليها الأولى ; فيكون من عطف الجمل . وعلى الأول يكون من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل . وقيل : معطوف على " الأنعام " [ 16 \ 66 ] ، وهو أضعفها عندي .

وقال الطبري : التقدير : ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا ; فحذف " ما " .

قال أبو حيان البحر : وهو لا يجوز على مذهب البصريين . وقيل : يجوز أن يكون صفة موصوف محذوف ، أي : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه [ ص: 406 ] ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز :
ما لك عندي غير سوط وحجر وغير كبداء شديدة الوتر
جادت بكفي كان من أرمى البشر


أي : بكفي رجل كان " إلخ " ، ذكره الزمخشري وأبو حيان .

قال مقيده - عفا الله عنه - : أظهر هذه الأقوال عندي : أن قوله : ومن ثمرات ، يتعلق بـ : تتخذون ، أي : تتخذون من ثمرات النخيل ، وأن " من " ، الثانية : توكيد للأولى . والضمير في قوله : منه ، عائد إلى جنس الثمر المفهوم من ذكر الثمرات ، والعلم عند الله تعالى .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #173  
قديم 15-01-2022, 03:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (171)

سُورَةُ النَّحْلِ(17)
صـ 406 إلى صـ 410


تنبيه .

اعلم : أن التحقيق على مذهب الجمهور : أن هذه الآية الكريمة التي هي قوله - جل وعلا - : ومن ثمرات النخيل والأعناب [ 16 \ 67 ] منسوخة بآية " المائدة " المذكورة . فما جزم به صاحب مراقي السعود فيه وفي شرحه ( نشر البنود ) من أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها الأولى ; بناء على أن إباحتها الأولى إباحة عقلية ، والإباحة العقلية هي البراءة الأصلية ، وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي ، وهي ليست من الأحكام الشرعية ; فرفعها ليس بنسخ . وقد بين في المراقي : أنها ليست من الأحكام الشرعية بقوله :


وما من البراءة الأصلية قد أخذت فليست الشرعية


وقال أيضا في إباحة الخمر قبل التحريم :


أباحها في أول الإسلام براءة ليست من الأحكام


كل ذلك ليس بظاهر ، بل غير صحيح ; لأن إباحة الخمر قبل التحريم دلت عليها هذه الآية الكريمة ، التي هي قوله : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا الآية [ 16 \ 67 ] ، وما دلت على إباحته آية من كتاب الله لا يصح أن يقال : إن إباحته عقلية ، بل هي إباحة شرعية منصوصة في كتاب الله ، فرفعها نسخ . نعم ! على القول بأن معنى السكر في الآية : الخل أو الطعم أو العصير ; فتحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها ، وإباحتها الأولى : عقلية . وقد بينا هذا المبحث في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات [ ص: 407 ] الكتاب ) .

فإن قيل : الآية واردة بصيغة الخبر ، والأخبار لا يدخلها النسخ كما تقرر في الأصول :

فالجواب : أن النسخ وارد على ما يفهم من الآية من إباحة الخمر . الإباحة حكم شرعي كسائر الأحكام قابل للنسخ ; فليس النسخ واردا على نفس الخبر ، بل على الإباحة المفهومة من الخبر ; كما حققه ابن العربي المالكي وغيره .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ورزقا حسنا [ 16 \ 67 ] ، أي : التمر ، والرطب ، والعنب ، والزبيب ، والعصير ، ونحو ذلك .
تنبيه آخر .

اعلم : أن النبيذ الذي يسكر منه الكثير لا يجوز أن يشرب منه القليل الذي لا يسكر لقلته . وهذا مما لا شك فيه .

فمن زعم جواز شرب القليل الذي لا يسكر منه كالحنفية وغيرهم ، فقط غلط غلطا فاحشا ; لأن ما يسكر كثيره يصدق عليه بدلالة المطابقة أنه مسكر ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " كل مسكر حرام " ، وقد ثبت عنه في الصحيح - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام " ، ولو حاول الخصم أن ينازع في معنى هذه الأحاديث ، فزعم أن القليل الذي لا يسكر يرتفع عنه اسم الإسكار فلا يلزم تحريمه ، قلنا : صرح - صلى الله عليه وسلم - بأن " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ، وهذا نص صريح في محل النزاع لا يمكن معه كلام . وعن عائشة - رضي الله عنه - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كل مسكر حرام ، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام " ، رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن . وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ، رواه أحمد وابن ماجه ، والدارقطني وصححه . ولأبي داود وابن ماجه ، والترمذي مثله سواء من حديث جابر . وكذا لأحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده . وكذلك الدارقطني من حديث الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - . وعن سعد بن أبي وقاص : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن قليل ما أسكر كثيره " ، رواه النسائي والدارقطني . وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه قوم فقالوا : يا رسول الله ، إنا ننبذ النبيذ فنشربه على غدائنا وعشائنا ؟ فقال : " اشربوا فكل مسكر حرام " . فقالوا : يا رسول الله ، إنا نكسره بالماء ؟ [ ص: 408 ] فقال : " حرام قليل ما أسكر كثيره " ، رواه الدارقطني . اه . بواسطة نقل المجد في ( منتقى الأخبار ) .

فهذه الأحاديث لا لبس معها في تحريم قليل ما أسكر كثيره . وقال ابن حجر ( في فتح الباري ) في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم - عند البخاري : " كل شراب أسكر فهو حرام " ، ما نصه : فعند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ، وللنسائي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مثله ، وسنده إلى عمرو صحيح . ولأبي داود من حديث عائشة مرفوعا : " كل مسكر حرام ، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام " ، ولابن حبان والطحاوي من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره " ، وقد اعترف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث - إلى أن قال : وجاء أيضا عن علي عند الدارقطني ، وعن ابن عمر عند ابن إسحاق والطبراني ، وعن خوات بن جبير عند الدارقطني والحاكم والطبراني ، وعن زيد بن ثابت عند الدارقطني . وفي أسانيدها مقال ; لكنها تزيد الأحاديث التي قبلها قوة وشهرة .

قال أبو المظفر بن السمعاني ( وكان حنفيا فتحول شافعيا ) : ثبتت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم المسكر .

ثم ساق كثيرا منها ، ثم قال : والأخبار في ذلك كثيرة ، ولا مساغ لأحد في العدول عنها والقول بخلافه ; فإنها حجج قواطع . قال : وقد زل الكوفيون في هذا الباب ، ورووا فيه أخبارا معلولة ، لا تعارض هذه الأخبار بحال . ومن ظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب مسكرا فقد دخل في أمر عظيم ، وباء بإثم كبير . وإنما الذي شربه كان حلوا ولم يكن مسكرا . وقد روى ثمامة بن حزن القشيري : أنه سأل عائشة عن النبيذ ؟ فدعت جارية حبشية فقالت : سل هذه ، فإنها كانت تنبذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت الحبشية : كنت أنبذ له في سقاء من الليل ، وأوكثه وأعلقه فإذا أصبح شرب منه . أخرجه مسلم .

وروى الحسن البصري عن أمه عن عائشة نحوه . ثم قال : فقياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والاضطراب من أجل الأقيسة وأوضحها ، والمفاسد التي توجد في الخمر ‌‌توجد في النبيذ ، إلى أن قال : وعلى الجملة ، فالنصوص المصرحة بتحريم كل مسكر - قل أو كثر - مغنية عن القياس . والله أعلم .

وقد قال عبد الله بن المبارك : لا يصح في حل النبيذ الذي يسكر كثيره عن الصحابة [ ص: 409 ] شيء ولا عن التابعين ; إلا عن إبراهيم النخعي . انتهى محل الغرض من ( فتح الباري ) بحذف ما لا حاجة إليه .

قال مقيده - عفا الله عنه - : تحريم قليل النبيذ الذي يسكر كثيره لا شك فيه ; لما رأيت من تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " .

واعلم : أن قياس النبيذ المسكر كثيره على الخمر بجامع الإسكار لا يصح ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح بأن " كل مسكر حرام " ، والقياس يشترط فيه ألا يكون حكم الفرع منصوصا عليه كحكم الأصل . كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
وحيثما يندرج الحكمان في النص فالأمران قل سيان


وقال ابن المنذر : وجاء أهل الكوفة بأخبار معلولة ، وإذا اختلف الناس في الشيء وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . اه .
قوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل الآية ، المراد بالإيحاء هنا : الإلهام . والعرب تطلق الإيحاء على الإعلام بالشيء في خفية ; ولذا تطلقه على الإشارة ، وعلى الكتابة ، وعلى الإلهام ; ولذلك قال تعالى : وأوحى ربك إلى النحل [ 16 \ 68 ] ، أي : ألهمها . وقال : فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة الآية [ 19 \ 11 ] ، أي : أشار إليهم . وسمى أمره للأرض إيحاء في قوله : يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها [ 99 \ 4 ، 5 ] ، ومن إطلاق الوحي على الكتابة قول لبيد في معلقته :


فمدافع الريان عري رسمها خلقا كما ضمن الوحي سلامها


ف " الوحي " في البيت ( بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء ) جمع وحي بمعنى الكتابة . وسيأتي لهذه المسألة - إن شاء الله - زيادة إيضاح .
قوله تعالى : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن من الناس من يموت قبل بلوغ أرذل العمر ، ومنهم من يعمر حتى يرد إلى أرذل العمر . وأرذل العمر آخره الذي تفسد فيه الحواس ، ويختل فيه النطق والفكر ، وخص بالرذيلة ; لأنه حال لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد . بخلاف حال الطفولة ، فإنها حالة ينتقل منها إلى القوة وإدراك الأشياء . وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله في سورة الحج : ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا [ 22 \ 5 ] ، وقوله في الروم : الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من [ ص: 410 ] بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة الآية [ 30 \ 54 ] ، وأشار إلى ذلك أيضا بقوله : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ 35 \ 11 ] ، وقوله في سورة المؤمن : ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون [ 40 \ 67 ] .

وقال البخاري في صحيحه في الكلام على هذه الآية الكريمة : باب قوله تعالى : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر [ 16 \ 70 ] ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور ، عن شعيب ، عن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو : " أعوذ بالله من البخل والكسل ، وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة الدجال ، وفتنة المحيا والممات " ، اه . وعن علي - رضي الله تعالى عنه - : أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة . وعن قتادة : تسعون سنة . والظاهر أنه لا تحديد له بالسنين ، وإنما هو باعتبار تفاوت حال الأشخاص ; فقد يكون ابن خمس وسبعين أضعف بدنا وعقلا ، وأشد خرفا من آخر ابن تسعين سنة ، وظاهر قول زهير في معلقته :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم



أن ابن الثمانين بالغ أرذل العمر
، ويدل له قول الآخر :


إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان


وقوله : " لكيلا يعلم من بعد علم شيئا " [ 16 \ 70 ] ( أي يرد إلى أرذل العمر ، لأجل أن يزول ما كان يعلم من العلم أيام الشباب ، ويبقى لا يدري شيئا ; لذهاب إدراكه بسبب الخوف . ولله في ذلك حكمة .

وقال بعض العلماء : إن العلماء العاملين لا ينالهم هذا الخرف وضياع العلم والعقل من شدة الكبر ، ويستروح لهذا المعنى من بعض التفسيرات ) في قوله : ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية [ 95 \ 5 - 6 ] .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #174  
قديم 15-01-2022, 03:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (172)

سُورَةُ النَّحْلِ(18)
صـ 411 إلى صـ 415


قوله تعالى : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون ، أظهر التفسيرات في هذه الآية الكريمة : أن الله ضرب فيها مثلا للكفار ، بأنه فضل بعض الناس على بعض في الرزق ، ومن ذلك تفضيله المالكين على المملوكين في الرزق ، وأن المالكين لا يرضون لأنفسهم أن يكون المملوكون شركاءهم فيما رزقهم الله من [ ص: 411 ] الأموال والنساء وجميع نعم الله . ومع هذا يجعلون الأصنام شركاء لله في حقه على خلقه ، الذي هو إخلاص العبادة له وحده ، أي : إذا كنتم لا ترضون بإشراك عبيدكم معكم في أموالكم ونسائكم : فكيف تشركون عبيدي معي في سلطانيا ؟ ! .

ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم الآية [ 30 \ 28 ] ، ويؤيده أن " ما " في قوله : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم [ 16 \ 71 ] ، نافية ، أي : ليسوا برادي رزقهم عليهم حتى يسووهم مع أنفسهم . اه .

فإذا كانوا يكرهون هذا لأنفسهم : فكيف يشركون الأوثان مع الله في عبادتها مع اعترافهم بأنها ملكه ؟ ! ! كما كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك .

وهذه الآية الكريمة نص صريح في إبطال مذهب الاشتراكية القائل : بأنه لا يكون أحد أفضل من أحد في الرزق ، ولله في تفضيل بعضهم على بعض في الرزق حكمة ; قال تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا الآية [ 43 \ 32 ] ، وقال : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [ 13 \ 26 ] ، وقال : على الموسع قدره وعلى المقتر قدره [ 2 \ 236 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وفي معنى هذه الآية الكريمة قولان آخران :

أحدهما : أن معناها أنه جعلكم متفاوتين في الرزق ; فرزقكم أفضل مما رزق كلمة واحدة ، وهم بشر مثلكم وإخوانكم ; فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم ، حتى تساووا في الملبس والمطعم ; كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه أمر مالكي العبيد أن يطعموهم مما يطعمون ، ويكسوهم مما يلبسون " ، وعلى هذا القول فقوله تعالى : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم [ 16 \ 71 ] ، لوم لهم ، وتقريع على ذلك .

القول الثاني : أن معنى الآية أنه - جل وعلا - هو رازق المالكين والمملوكين جميعا ; فهم في رزقه سواء ، فلا يحسبن المالكون أنهم يردون على مماليكهم شيئا من الرزق ، فإنما ذلك رزق الله يجريه لهم على أيديهم . والقول الأول : هو الأظهر وعليه جمهور العلماء ، [ ص: 412 ] ويدل له القرآن كما بينا . والعلم عند الله تعالى .

وقوله أفبنعمة الله يجحدون [ 16 \ 71 ] ، إنكار من الله عليهم جحودهم بنعمته ; لأن الكافر يستعمل نعم الله في معصية الله ، فيستعين بكل ما أنعم به عليه على معصيته ، فإنه يرزقهم ويعافيهم ، وهم يعبدون غيره . وجحد : تتعدى بالباء في اللغة العربية ; كقوله : وجحدوا بها الآية [ 27 \ 14 ] ، وقوله : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] ، والجحود بالنعمة هو كفرانها .
قوله تعالى : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة الآية ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه امتن على بني آدم أعظم منة بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا من جنسهم وشكلهم ، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة .

ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورا وإناثا ، وجعل الإناث أزواجا للذكور ، وهذا من أعظم المنن ، كما أنه من أعظم الآيات الدالة على أنه - جل وعلا - هو المستحق أن يعبد وحده .

وأوضح في غير هذا الموضع : أن هذه نعمة عظيمة ، وأنها من آياته - جل وعلا - ; كقوله : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [ 30 \ 21 ] ، وقوله : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى [ 75 \ 36 - 39 ] ، وقوله تعالى : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها الآية [ 7 \ 189 ] .

واختلف العلماء في المراد بالحفدة في هذه الآية الكريمة ; فقال جماعة من العلماء : الحفدة : أولاد الأولاد ، أي : وجعل لكم من أزواجكم بنين ، ومن البنين حفدة . وقال بعض العلماء : الحفدة الأعوان والخدم مطلقا ; ومنه قول جميل :


حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال


أي : أسرعت الولائد الخدمة ، والولائد الخدم . الواحدة وليدة ، ومنه قول الأعشى :
كلفت مجهولها نوقا يمانية إذا الحداة على أكسائها حفدوا


أي : أسرعوا في الخدمة . [ ص: 413 ] ومنه قوله في سورة الحفد التي نسخت : وإليك نسعى ونحفد ، أي : نسرع في طاعتك . وسورة الخلع وسورة الحفد اللتان نسختا يسن عند المالكية القنوت بهما في صلاة الصبح ، كما هو معروف .

وقيل : الحفدة الأختان ، وهم أزواج البنات ، ومنه قول الشاعر :


فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد مما يعد كثير
.

ولكنها نفس علي أبية عيوف لأصهار اللئام قذور


والقذور : التي تتنزه عن الوقوع فيما لا ينبغي ، تباعدا عن التدنس بقذره .

قال مقيده - عفا الله عنه - : الحفدة : جمع حافد ، اسم فاعل من الحفد وهو الإسراع في الخدمة والعمل . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة قول بعض العلماء في الآية . فنبين ذلك .

وفي هذه الآية الكريمة قرينة دالة على أن الحفدة أولاد الأولاد ; لأن قوله : وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة [ 16 \ 72 ] ، دليل ظاهر على اشتراك البنين والحفدة في كونهم من أزواجهم ، وذلك دليل على أنهم كلهم من أولاد أزواجهم . ودعوى أن قوله : " وحفدة " معطوف على قوله : " أزواجا " [ 16 \ 72 ] ، غير ظاهرة . كما أن دعوى أنهم الأختان ، وأن الأختان أزواج بناتهم ، وبناتهم من أزواجهم ، وغير ذلك من الأقوال كله غير ظاهر . وظاهر القرآن هو ما ذكر ، وهو اختيار ابن العربي المالكي والقرطبي وغيرهما . ومعلوم : أن أولاد الرجل ، وأولاد أولاده : من خدمه المسرعين في خدمته عادة . والعلم عند الله تعالى .
تنبيه .

في قوله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا الآية [ 16 \ 72 ] ، رد على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوج الجن وتباضعها .

حتى روي أن عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك تزوج سعلاة منهم ، وكان يخبؤها عن سنا البرق لئلا تراه فتنفر . فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السعلاة ، فقالت : عمرو ! ونفرت . فلم يرها أبدا ; ولذا قال علباء بن أرقم يهجو أولاد عمرو المذكور :


ألا لحى الله بني السعلاة عمرو بن يربوع لئام النات .

[ ص: 414 ] ليسوا بأعفاف ولا أكيات


وقوله : " النات " ، أصله " الناس " أبدلت فيه السين تاء . وكذلك قوله " أكيات " أصله " أكياس " جمع كيس ، أبدلت فيه السين تاء أيضا . وقال المعري يصف مراكب إبل متغربة عن الأوطان : إذا رأت لمعان البرق تشتاق إلى أوطانها . فزعم أنه يستر عنها البرق لئلا يشوقها إلى أوطانها ، كما كان عمرو يستره عن سعلاته :
إذا لاح إيماض سترت وجوهها كأني عمرو والمطي سعالي


والسعلاة : عجوز الجن . وقد روي من حديث أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أحد أبوي بلقيس كان جنيا " .

قال صاحب الجامع الصغير : أخرجه أبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه في التفسير ، وابن عساكر : وقال شارحه المناوي : في إسناده سعيد بن بشر قال في الميزان عن ابن معين : ضعيف . وعن ابن مسهر : لم يكن ببلدنا أحفظ منه ، وهو ضعيف منكر الحديث ، ثم ساق من مناكيره هذا الخبر اه . وبشير بن نهيك أورده الذهبي في الضعفاء . وقال أبو حاتم : لا يحتج به . ووثقه النسائي . انتهى .

وقال المناوي في شرح حديث " أحد أبوي بلقيس كان جنيا " ، قال قتادة : ولهذا كان مؤخر قدميها كحافر الدابة . وجاء في آثار : أن الجني الأم ، وذلك أن أباها ملك اليمن خرج ليصيد فعطش ، فرفع له خباء فيه شيخ فاستسقاه ، فقال : يا حسنة ، اسقي عمك ; فخرجت كأنها شمس بيدها كأس من ياقوت . فخطبها من أبيها ، فذكر أنه جني ، وزوجها منه بشرط أنه إن سألها عن شيء عملته فهو طلاقها . فأتت منه بولد ذكر ، ولم يذكر قبل ذلك ، فذبحته فكرب لذلك ، وخاف أن يسألها فتبين منه . ثم أتت ببلقيس فأظهرت البشر ; فاغتم فلم يملك أن سألها ، فقالت : هذا جزائي منك ! باشرت قتل ولدي من أجلك ! وذلك أن أبي يسترق السمع فسمع الملائكة تقول : إن الولد إذا بلغ الحلم ذبحك ، ثم استرق السمع في هذه فسمعهم يعظمون شأنها ، ويصفون ملكها ، وهذا فراق بيني وبينك ; فلم يرها بعد . هذا محصول ما رواه ابن عساكر عن يحيى الغساني . اه من شرح المناوي للجامع الصغير .

وقال القرطبي في تفسير " سورة النحل " : كان أبو بلقيس وهو : السرح بن الهداهد بن شراحيل ، ملكا عظيم الشأن ، وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفأ لي . وأبى [ ص: 415 ] أن يتزوج منهم ; فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن ; فولدت له بلقمة وهي بلقيس ، ولم يكن له ولد غيرها .

وقال أبو هريرة : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كان أحد أبوي بلقيس جنيا " ‌‌ - إلى أن قال : ويقال : إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيرا لملك عات‌‌ ، يغتصب نساء الرعية ، وكان الوزير غيورا فلم يتزوج . فصحب مرة في الطريق رجلا لا يعرفه ، فقال : هل لك من زوجة ؟ فقال : لا أتزوج أبدا . فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن . فقال : لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبدا . قال : بل يغتصبها ! قال : إنا قوم من الجن لا يقدر علينا . فتزوج ابنته فولدت له بلقيس ، إلى غير ذلك من الروايات .

وقال القرطبي أيضا : وروى وهيب بن جرير بن حازم ، عن الخليل بن أحمد ، عن عثمان بن حاضر ، قال : كانت أم بلقيس من الجن ، يقال لها : بلعمة بنت شيصان .

قال مقيده - عفا الله عنه - : الظاهر أن الحديث الوارد في كون أحد أبوي بلقيس جنيا ضعيف .

وكذلك الآثار الواردة في ذلك ليس منها شيء يثبت .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #175  
قديم 15-01-2022, 03:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (173)

سُورَةُ النَّحْلِ(19)
صـ 416 إلى صـ 420


مسألة .

اختلف العلماء في جواز المناكحة بين بني آدم والجن . فمنعها جماعة من أهل العلم ، وأباحها بعضهم .

قال المناوي ( في شرح الجامع الصغير ) : ففي الفتاوى السراجية للحنفية : لا تجوز المناكحة بين الإنس والجن وإنسان الماء ; لاختلاف الجنس . وفي فتاوى البارزي من الشافعية : لا يجوز التناكح بينهما . ورجح ابن العماد جوازه . اه .

وقال الماوردي : وهذا مستنكر للعقول ; لتباين الجنسين ، واختلاف الطبعين ; إذ الآدمي جسماني ، والجني روحاني . وهذا من صلصال كالفخار ، وذلك من مارج من نار ، والامتزاج مع هذا التباين مدفوع ، والتناسل مع هذا الاختلاف ممنوع . اه .

وقال ابن العربي المالكي : نكاحهم جائز عقلا ; فإن صح نقلا فبها ونعمت .

قال مقيده - عفا الله عنه - : لا أعلم في كتاب الله ولا في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - نصا يدل على جواز مناكحة الإنس الجن ، بل الذي يستروح من ظواهر الآيات عدم جوازه . فقوله في هذه الآية الكريمة : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا الآية [ 16 \ 72 ] ، ممتنا على [ ص: 416 ] بني آدم بأن أزواجهم من نوعهم وجنسهم ، يفهم منه أنه ما جعل لهم أزواجا تباينهم كمباينة الإنس للجن ، وهو ظاهر .

ويؤيده قوله تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [ 30 \ 21 ] ، فقوله : أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ، في معرض الامتنان يدل على أنه ما خلق لهم أزواجا من غير أنفسهم ; ويؤيد ذلك ما تقرر في الأصول من أن : " النكرة في سياق الامتنان تعم " ، فقوله : جعل لكم من أنفسكم أزواجا [ 16 \ 72 ] ، جمع منكر في سياق الامتنان فهو يعم ، وإذا عم دل ذلك على حصر الأزواج المخلوقة لنا فيما هو من أنفسنا ، أي : من نوعنا وشكلنا . مع أن قوما من أهل الأصول زعموا " أن الجموع المنكرة في سياق الإثبات من صيغ العموم " ، والتحقيق أنها في سياق الإثبات لا تعم ، وعليه درج في مراقي السعود ; حيث قال في تعداده للمسائل التي عدم العموم فيها أصح :
منه منكر الجموع عرفا وكان والذي عليه انعطفا


أما في سياق الامتنان فالنكرة تعم . وقد تقرر في الأصول " أن النكرة في سياق الامتنان تعم " ، كقوله : وأنزلنا من السماء ماء طهورا [ 25 \ 48 ] ، أي : فكل ماء نازل من السماء طهور . وكذلك النكرة في سياق النفي أو الشرط أو النهي ; كقوله : ما لكم من إله غيره [ 7 \ 59 ] ، وقوله : وإن أحد من المشركين الآية [ 9 \ 6 ] ، وقوله : ولا تطع منهم آثما الآية [ 76 \ 24 ] ، ويستأنس لهذا بقوله : وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [ 26 \ 166 ] ، فإنه يدل في الجملة على أن تركهم ما خلق الله لهم من أزواجهم ، وتعديهم إلى غيره يستوجب الملام ، وإن كان أصل التوبيخ والتقريع على فاحشة اللواط ; لأن أول الكلام : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم [ 26 \ 165 - 166 ] ، فإنه وبخهم على أمرين ، أحدهما : إتيان الذكور . والثاني : ترك ما خلق لهم ربهم من أزواجهم .

وقد دلت الآيات المتقدمة على أن ما خلق لهم من أزواجهم ، هو الكائن من أنفسهم ، أي : من نوعهم وشكلهم ; كقوله : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا [ 16 \ 72 ] ، ، وقوله : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا الآية [ 30 \ 21 ] ، فيفيد أنه لم يجعل لهم أزواجا من غير أنفسهم . والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 417 ] قوله تعالى : ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات بإنزال المطر ، ولا من الأرض بإنبات النبات . وأكد عجز معبوداتهم عن ذلك بأنهم لا يستطيعون ، أي : لا يملكون أن يرزقوا ، والاستطاعة منفية عنهم أصلا ; لأنهم جماد ليس فيه قابلية استطاعة شيء .

ويفهم من الآية الكريمة : أنه لا يصح أن يعبد إلا من يرزق الخلق ; لأن أكلهم رزقه ، وعبادتهم غيره كفر ظاهر لكل عاقل . وهذا المعنى المفهوم من هذه الآية الكريمة بينه - جل وعلا - في مواضع أخر ، كقوله : إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون [ 29 \ 17 ] ، وقوله : أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور [ 67 \ 21 ] ، وقوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [ 51 \ 56 - 58 ] ، وقوله : قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم وقوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [ 20 \ 132 ] ، وقوله : هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض الآية [ 35 \ 3 ] ، وقوله : قل من يرزقكم من السماء والأرض الآية [ 10 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه .

في قوله : شيئا [ 16 \ 73 ] ، في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه من الإعراب :

الأول : أن قوله : رزقا ، مصدر ، وأن : ، شيئا ، مفعول به لهذا المصدر ; أي : ويعبدون من دون الله ما لا يملك أن يرزقهم شيئا من الرزق . ونظير هذا الإعراب قوله تعالى : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما الآية [ 90 \ 14 - 15 ] ، فقوله : يتيما مفعول به للمصدر الذي هو إطعام ، أي : أن يطعم يتيما ذا مقربة . ونظيره من كلام العرب قول المرار بن منقذ التميمي :
بضرب بالسيوف رءوس قوم أزلنا هامهن عن المقيل


فقوله : " رءوس قوم " مفعول به للمصدر المنكر الذي هو قوله " بضرب " ، وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله : [ ص: 418 ]
بفعله المصدر الحق في العمل مضافا أو مجردا أو مع ال


الوجه الثاني : أن قوله : شيئا ، بدل من قوله رزقا ، بناء على أن المراد بالرزق هو ما يرزقه الله عباده ; لا المعنى المصدري .

الوجه الثالث : أن يكون قوله : شيئا ما ناب عن المطلق من قوله : يملك ، أي : لا يملك شيئا من الملك ، بمعنى لا يملك ملكا قليلا أن يرزقهم . قوله تعالى : فلا تضربوا لله الأمثال .

نهى الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة خلقه أن يضربوا له الأمثال ، أي : يجعلوا له أشباها ونظراء من خلقه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ! .

وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله : ليس كمثله شيء الآية [ 42 \ 11 ] ، وقوله : ولم يكن له كفوا أحد [ 112 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وما أمر الساعة إلا كلمح البصر الآية ، أظهر الأقوال فيها : أن المعنى أن الله إذا أراد الإتيان بها فهو قادر على أن يأتي بها في أسرع من لمح البصر ; لأنه يقول للشيء كن فيكون . ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر [ 54 \ 50 ] .

وقال بعض العلماء : المعنى هي قريب عنده تعالى كلمح البصر وإن كانت بعيدا عندكم ; كما قال تعالى : إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا [ 70 \ 6 ، 7 ] ، وقال : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] ، واختار أبو حيان في ( البحر المحيط ) : أن " أو " في قوله " أو هو أقرب " للإبهام على المخاطب ، وتبع في ذلك الزجاج ، قال : ونظيره : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون [ 37 \ 114 ] ، وقوله : أتاها أمرنا ليلا أو نهارا [ 10 \ 24 ] .
قوله تعالى : شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أخرج بني آدم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ، وجعل لهم الأسماع والأبصار والأفئدة ; لأجل أن يشكروا له نعمه . وقد قدمنا : أن " لعل " للتعليل . ولم يبين هنا هل شكروا أو لم يشكروا ; ولكنه بين في مواضع أخر : أن أكثرهم لم يشكروا ; كما قال تعالى : ولكن أكثر الناس لا يشكرون [ 2 \ 243 ] ، وقال : قل [ ص: 419 ] هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ 67 \ 23 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

تنبيه .

لم يأت السمع في القرآن مجموعا ، وإنما يأتي فيه بصيغة الإفراد دائما ، مع أنه يجمع ما يذكر معه كالأفئدة والأبصار .

وأظهر الأقوال في نكتة إفراده دائما : أن أصله مصدر سمع سمعا ، والمصدر إذا جعل اسما ذكر وأفرد ; كما قال في الخلاصة :


ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا
قوله تعالى : ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن تسخيره الطير في جو السماء ما يمسكها إلا هو ، من آياته الدالة على قدرته ، واستحقاقه لأن يعبد وحده . وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير [ 67 \ 19 ] .

تنبيه .

لم يذكر علماء العربية الفعل ( بفتح فسكون ) من صيغ جموع التكسير . قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر لي من استقراء اللغة العربية : أن الفعل ( بفتح فسكون ) جمع تكسير لفاعل وصفا لكثرة وروده في اللغة جمعا له ; كقوله هنا : ألم يروا إلى الطير [ 16 \ 79 ] ، فالطير جمع طائر ، وكالصحب فإنه جمع صاحب . قال امرؤ القيس :


وقوفا بها صحبي على مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل


فقوله " صحبي " ، أي : أصحابي . وكالركب فإنه جمع راكب ; قال تعالى : والركب أسفل منكم [ 8 \ 42 ] ، وقال ذو الرمة :


أستحدث الركب عن أشياعهم خبرا أم راجع القلب من أطرابه طرب


فالركب جمع راكب . وقد رد عليه ضمير الجماعة في قوله : " عن أشياعهم " ، [ ص: 420 ] وكالشرب فإنه جمع شارب . ومنه قول نابغة ذبيان :


كأنه خارجا من جنب صفحته سفود شرب نسوه عند مفتأد


فإنه رد على الشرب ضمير الجماعة في قوله : " نسوه . . " إلخ ، وكالسفر فإنه جمع سافر ; ومنه حديث : " أتموا فإنا قوم سفر " ، وقول الشنفرى :


كأن وغاها حجرتيه وجاله أضاميم من سفر القبائل نزل


وكالرجل جمع راجل ; ومنه قراءة الجمهور : وأجلب عليهم بخيلك ورجلك [ 17 \ 64 ] ، بسكون الجيم . وأما على قراءة حفص عن عاصم بكسر الجيم ، فالظاهر أن كسرة الجيم إتباع لكسرة اللام ، فمعناه معنى قراءة الجمهور . ونحو هذا كثير جدا في كلام العرب ، فلا نطيل به الكلام . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم الآية ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة منته على خلقه ; بأنه جعل لهم سرابيل تقيهم الحر ، أي : والبرد ; لأن ما يقي الحر من اللباس يقي البرد . والمراد بهذه السرابيل : القمصان ونحوها من ثياب القطن والكتان والصوف . وقد بين هذه النعمة الكبرى في غير هذا الموضع ; كقوله : يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا الآية [ 7 \ 26 ] ، وقوله : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية [ 7 \ 31 ] ، أي : وتلك الزينة هي ما خلق الله لهم من اللباس الحسن . وقوله هنا : وسرابيل تقيكم بأسكم [ 16 \ 81 ] ، المراد بها الدروع ونحوها ، مما يقي لابسه وقع السلاح ، ويسلمه من بأسه . .

وقد بين أيضا هذه النعمة الكبرى ، واستحقاق من أنعم بها لأن يشكر له في غير هذا الموضع ; كقوله : وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون [ 21 \ 80 ] ، وإطلاق السرابيل على الدروع ونحوها معروف . ومنه قول كعب بن زهير :


شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #176  
قديم 15-01-2022, 03:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (174)

سُورَةُ النَّحْلِ(20)
صـ 421 إلى صـ 425






قوله تعالى : يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها الآية ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار يعرفون نعمة الله ; لأنهم يعلمون أنه هو الذي يرزقهم ويعافيهم ، ويدبر شؤونهم ، ثم ينكرون هذه النعمة ; فيعبدون معه غيره ، ويسوونه بما لا ينفع ولا يضر ، ولا يغني شيئا .

وقد أوضح - جل وعلا - هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : قل من يرزقكم من [ ص: 421 ] السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] .

فقوله : فسيقولون الله [ 10 \ 31 ] ، دليل على معرفتهم نعمته . وقوله : فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] ، دليل على إنكارهم لها . والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .

وروي عن مجاهد : أن سبب نزول هذه الآية الكريمة : أن أعرابيا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله ، فقرأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والله جعل لكم من بيوتكم سكنا [ 16 \ 80 ] ، فقال الأعرابي : نعم ! قال : وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا الآية [ 16 \ 80 ] ، قال الأعرابي : نعم ! ثم قرأ عليه ، كل ذلك يقول الأعرابي : نعم ! حتى بلغ : كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون [ 16 \ 81 ] ، فولى الأعرابي ; فأنزل الله : يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها [ 16 \ 83 ] ، وعن السدي - رحمه الله - : يعرفون نعمة الله ، أي : نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم ينكرونها ، أي : يكذبونه وينكرون صدقه .

وقد بين - جل وعلا - : أن بعثة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيهم من منن الله عليهم . كما قال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية [ 3 \ 164 ] ، وبين في موضع آخر : أنهم قابلوا هذه النعمة بالكفران ، وذلك في قوله : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار [ 14 \ 28 ] ، وقيل : يعرفون نعمة الله في الشدة ، ثم ينكرونها في الرخاء . وقد تقدمت الآيات الدالة على ذلك ، كقوله : فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون [ 29 \ 65 ] ، ونحوها من الآيات إلى غير ذلك من الأقوال في الآية .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأكثرهم الكافرون [ 16 \ 83 ] ، قال بعض العلماء : معناه أنهم كلهم كافرون . أطلق الأكثر وأراد الكل . قاله القرطبي والشوكاني . وقال الشوكاني : أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم . أو أراد كفر الجحود ، ولم يكن كفر كلهم كذلك ، بل كان كفر بعضهم كفر جهل .
قوله تعالى : ثم لا يؤذن للذين كفروا ; لم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة متعلق الإذن في قوله : لا يؤذن [ 16 \ 84 ] ، ولكنه بين في ( المرسلات ) أن متعلق الإذن الاعتذار ، أي : لا يؤذن لهم في الاعتذار ، لأنهم ليس لهم عذر يصح قبوله ، وذلك في قوله : هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون [ 77 \ 35 - 36 ] .

[ ص: 422 ] فإن قيل : ما وجه الجمع بين نفي اعتذارهم المذكور هنا ، وبين ما جاء في القرآن من اعتذارهم ؟ ; كقوله تعالى عنهم : والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله : ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، وقوله : بل لم نكن ندعو من قبل شيئا [ 40 \ 74 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

فالجواب من أوجه :

منها : أنهم يعتذرون حتى إذا قيل لهم : " اخسئوا فيها ولا تكلمون " [ 23 \ 108 ] ، انقطع نطقهم ولم يبق إلا الزفير والشهيق ; كما قال تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 \ 85 ] .

ومنها : أن نفي اعتذارهم يراد به اعتذار فيه فائدة . أما الاعتذار الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم ، يصدق عليه في لغة العرب : أنه ليس بشيء ، ولذا صرح تعالى بأن المنافقين بكم في قوله : صم بكم [ 2 \ 171 ] ، مع قوله عنهم :

وإن يقولوا تسمع لقولهم [ 63 \ 4 ] ، أي : لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم . وقال عنهم أيضا : فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] ، فهذا الذي ذكره - جل وعلا - من فصاحتهم وحدة ألسنتهم ، مع تصريحه بأنهم بكم يدل على أن الكلام الذي لا فائدة فيه كلا شيء ، كما هو واضح . وقال هبيرة بن أبي وهب المخزومي :

وإن كلام المرء في غير كنهه لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها .

وقد بينا هذا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في مواضع منه . والترتيب بـ " ثم " [ 16 \ 84 ] في قوله في هذه الآية الكريمة : ثم لا يؤذن للذين كفروا [ 16 \ 84 ] ، على قوله : ويوم نبعث من كل أمة شهيدا [ 16 \ 84 ] ، لأجل الدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع من الاعتذار المشعر بالإقناط الكلي أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم بكفرهم .
قوله تعالى : ولا هم يستعتبون ، اعلم أولا : أن استعتب تستعمل في اللغة بمعنى طلب العتبى ; أي : الرجوع إلى ما يرضي العاتب ويسره . وتستعمل أيضا في اللغة بمعنى أعتب : إذا أعطى العتبى ، أي : رجع إلى ما يحب العاتب ويرضى ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله : ولا هم يستعتبون [ 16 \ 84 ] ، وجهين من التفسير متقاربي المعنى .

[ ص: 423 ] قال بعض أهل العلم : ولا هم يستعتبون ، أي : لا تطلب منهم العتبى ، بمعنى لا يكلفون أن يرضوا ربهم ; لأن الآخرة ليست بدار تكليف ، فلا يردون إلى الدنيا ليتوبوا .

وقال بعض العلماء : ولا هم يستعتبون ، أي : يعتبون ، بمعنى يزال عنهم العتب ، ويعطون العتبى وهي الرضا ; لأن الله لا يرضى عن القوم الكافرين . وهذا المعنى كقوله تعالى في قراءة الجمهور : وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين [ 41 \ 24 ] ، أي : وإن يطلبوا العتبى - وهي الرضا عنهم لشدة جزعهم - فما هم من المعتبين ; بصيغة اسم المفعول ، أي : المعطين العتبى وهي الرضا عنهم ; لأن العرب تقول : أعتبه إذا رجع إلى ما يرضيه ويسره ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع


أي : لا يرجع الدهر إلى مسرة من جزع ، ورضاه . وقول النابغة :


فإن كنت مظلوما فعبد ظلمته وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب


وأما قول بشر بن أبي خازم :


غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعتبوا بالصيلم


يعني : أعتبناهم بالسيف ، أي : أرضيناهم بالقتل ; فهو من قبيل التهكم ، كقول عمرو بن معدي كرب :


وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع


لأن القتل ليس بإرضاء ، والضرب الوجيع ليس بتحية .

وأما على قراءة من قرأ : وإن يستعتبوا [ 41 \ 24 ] ، بالبناء للمفعول فما هم من المعتبين [ 41 \ 24 ] ، بصيغة اسم الفاعل ، فالمعنى : أنهم لو طلبت منهم العتبى وردوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله وطاعة رسله ، " فما هم من المعتبين " أي : الراجعين إلى ما يرضي ربهم ، بل يرجعون إلى كفرهم الذي كانوا عليه أولا . وهذه القراءة كقوله تعالى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون [ 6 \ 28 ] .
قوله تعالى : وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار إذا رأوا العذاب لا يخفف عنهم ، ولا ينظرون أي لا يمهلون ، وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر . وبين أنهم يرون النار وأنها [ ص: 424 ] تراهم ، وأنها تكاد تتقطع من شدة الغيظ عليهم ; كقوله تعالى : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون [ 21 \ 39 - 40 ] ، وقوله : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا [ 18 \ 53 ] ، وقوله : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا [ 25 \ 12 ] ، وقوله : إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ [ 67 \ 7 ، 8 ] ، وقوله : ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا [ 2 \ 165 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن المشركين يوم القيامة إذا رأوا معبوداتهم التي كانوا يشركونها بالله في عبادته قالوا لربهم : " ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك " [ 16 \ 86 ] وأن معبوداتهم تكذبهم في ذلك ، فيقولون لهم : كذبتم ! ما " كنتم إيانا تعبدون " [ 10 \ 28 ] .

وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 5 - 6 ] ، وقوله : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 81 - 82 ] ، وقوله : ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 29 \ 25 ] ، وقوله : وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم [ 28 \ 64 ] ، وقوله : فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون [ 10 \ 28 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

فإن قيل : كيف كذبتهم آلهتهم ونفوا أنهم عبدوهم ، مع أن الواقع خلاف ما قالوا ، وأنهم كانوا يعبدونهم في دار الدنيا من دون الله ! فالجواب : أن تكذيبهم لهم منصب على زعمهم أنهم آلهة ، وأن عبادتهم حق ، وأنها تقربهم إلى الله زلفى . ولا شك أن كل ذلك من أعظم الكذب وأشنع الافتراء . ولذلك هم صادقون فيما ألقوا إليهم من القول ، ونطقوا فيه بأنهم كاذبون . ومراد الكفار بقولهم لربهم : " هؤلاء شركاؤنا " ، قيل ليحملوا شركاءهم تبعة ذنبهم .

وقيل : ليكونوا [ ص: 425 ] شركاءهم في العذاب ، كما قال تعالى : ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار [ 7 \ 38 ] ، وقد نص تعالى على أنهم وما يعبدونه من دون الله في النار جميعا في قوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم . . . الآية [ 21 \ 98 ] ، وأخرج من ذلك الملائكة وعيسى وعزيرا بقوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون . . . الآية [ 21 \ 101 ] ; لأنهم ما عبدوهم برضاهم . بل لو أطاعوهم لأخلصوا العبادة لله وحده - جل وعلا - .
قوله تعالى : وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون ، إلقاؤهم إلى الله السلم : هو انقيادهم له ، وخضوعهم ; حيث لا ينفعهم ذلك كما تقدم في قوله : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة ; كقوله : بل هم اليوم مستسلمون [ 37 \ 26 ] ، وقوله : وعنت الوجوه للحي القيوم [ 20 \ 111 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وقد قدمنا طرفا من ذلك في الكلام على قوله : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] .

وقوله : وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 16 \ 87 ] ، أي : غاب عنهم واضمحل ما كانوا يفترونه . من أن شركاءهم تشفع لهم وتقربهم إلى الله زلفى ; كما قال تعالى : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله . . . الآية [ 10 \ 18 ] ، وكقوله : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، وضلال ذلك عنهم مذكور في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 10 \ 30 ] ، وقوله : فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 28 \ 75 ] ، وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن وفي اللغة بشواهدها .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #177  
قديم 15-01-2022, 03:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (175)

سُورَةُ النَّحْلِ(21)
صـ 426 إلى صـ 430



قوله تعالى : الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ، اعلم أولا أن " صد " تستعمل في اللغة العربية استعمالين أحدهما : أن تستعمل متعدية إلى المفعول ، كقوله تعالى : هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام . . . الآية [ 48 \ 25 ] ، ومضارع هذه المتعدية " يصد " بالضم على القياس ، ومصدرها " الصد " على القياس أيضا . والثاني : أن تستعمل " صد " لازمة غير متعدية إلى المفعول ، ومصدر هذه " الصدود " على القياس ، وفي مضارعها الكسر على القياس ، والضم على السماع ; وعليهما القراءتان السبعيتان في قوله : إذا قومك منه يصدون [ ص: 426 ] [ 43 \ 57 ] ، بالكسر والضم .

فإذا عرفت ذلك : فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وصدوا عن سبيل الله [ 16 \ 88 ] ، محتمل ; لأن تكون " صد " متعدية ، والمفعول محذوف لدلالة المقام عليه ; على حد قوله في الخلاصة :


وحذف فضلة أجز إن لم يضر كحذف ما سيق جوابا أو حصر


ومحتمل لأن تكون " صد " لازمة غير متعدية إلى المفعول ، ولكن في الآية الكريمة ثلاث قرائن تدل على أن " صد " متعدية ، والمفعول محذوف ، أي : وصدوا الناس عن سبيل الله .

الأولى : أنا لو قدرنا " صد " لازمة ، وأن معناها : صدودهم في أنفسهم عن الإسلام ; لكان ذلك تكرارا من غير فائدة مع قوله : الذين كفروا [ 16 \ 88 ] ، بل معنى الآية : كفروا في أنفسهم ، وصدوا غيرهم عن الدين فحملوه على الكفار أيضا .

القرينة الثانية : قوله تعالى : زدناهم عذابا فوق العذاب [ 16 \ 88 ] ، فإن هذه الزيادة من العذاب لأجل إضلالهم غيرهم . والعذاب المزيد فوقه : هو عذابهم على كفرهم في أنفسهم ; بدليل قوله في المضلين الذين أضلوا غيرهم : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم . . . الآية [ 16 \ 25 ] ، وقوله : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم . . . الآية [ 29 \ 13 ] ، كما تقدم إيضاحه .

القرينة الثالثة ، قوله : بما كانوا يفسدون [ 16 \ 88 ] ، فإنه يدل على أنهم كانوا يفسدون على غيرهم مع ضلالهم في أنفسهم ، وقوله : فوق العذاب [ 16 \ 88 ] ، أي : الذي استحقوه بضلالهم وكفرهم . وعن ابن مسعود : أن هذا العذاب المزيد : عقارب أنيابها كالنخل الطوال ، وحيات مثل أعناق الإبل ، وأفاعي كأنها البخاتي تضربهم . أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه يوم القيامة يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم ، يشهد عليهم بما أجابوا به رسولهم ، وأنه يأتي بنبينا - صلى الله عليه وسلم - شاهدا علينا . وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم [ ص: 427 ] الأرض . . . الآية [ 4 \ 41 ، 42 ] ، وكقوله : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم [ 5 \ 109 ] ، وكقوله : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اقرأ علي " ، قال : فقلت يا رسول الله ، أأقرأ عليك وعليك أنزل ؟ ! قال : " نعم ; إني أحب أن أسمعه من غيري " ، فقرأت " سورة النساء " ، حتى أتيت إلى هذه الآية : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] ، فقال : " حسبك الآن " ، فإذا عيناه تذرفان . اه .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ويوم نبعث [ 16 \ 89 ] ، منصوب بـ " اذكر " مقدرا . والشهيد في هذه الآية فعيل بمعنى فاعل ، أي : شاهدا عليهم من أنفسهم .
قوله تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه نزل على رسوله هذا الكتاب العظيم تبيانا لكل شيء . وبين ذلك في غير هذا الموضع ، كقوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 \ 38 ] ، على القول بأن المراد بالكتاب فيها القرآن . أما على القول بأنه اللوح المحفوظ . فلا بيان بالآية . وعلى كل حال فلا شك أن القرآن فيه بيان كل شيء . والسنة كلها تدخل في آية واحدة منه ; وهي قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .

وقال السيوطي في " الإكليل " في استنباط التنزيل ، قال تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ 16 \ 89 ] ، وقال : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 \ 38 ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " ستكون فتن " ، قيل : وما المخرج منها ؟ قال : " كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم " ، أخرجه الترمذي وغيره ، وقال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا خديج بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن مرة ، عن ابن مسعود ، قال : من أراد العلم فعليه بالقرآن ; فإن فيه خبر الأولين والآخرين . قال البيهقي : أراد به أصول العلم . وقال الحسن البصري : أنزل الله مائة وأربعة كتب ، أودع علومها أربعة : التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان . ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان ، ثم أودع علوم القرآن : المفصل ، ثم أودع علوم المفصل : فاتحة الكتاب ; فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير الكتب المنزلة . أخرجه البيهقي في الشعب .

[ ص: 428 ] وقال الإمام الشافعي - رضي الله عنه - : جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة ، وجميع شرح السنة شرح للقرآن .

وقال بعض السلف : ما سمعت حديثا إلا التمست له آية من كتاب الله .

وقال سعيد بن جبير : ما بلغني حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله . أخرجه ابن أبي حاتم .

وقال ابن مسعود : إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله . أخرجه ابن أبي حاتم .

وقال ابن مسعود أيضا : أنزل في القرآن كل علم ، وبين لنا فيه كل شيء ، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن . أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .

وأخرج أبو الشيخ في العظمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة " .

وقال الشافعي أيضا : جميع ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن .

قلت : ويؤيد هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه " ، رواه بهذا اللفظ الطبراني في الأوسط من حديث عائشة .

وقال الشافعي أيضا : ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها ، فإن قيل : من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة ؟ قلنا : ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة ; لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وفرض علينا الأخذ بقوله .

وقال الشافعي مرة بمكة : سلوني عما شئتم ، أخبركم عنه من كتاب الله . فقيل له : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور ؟ فقال : " بسم الله الرحمن الرحيم " [ 1 \ 1 ] ، قال الله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، وحدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة بن اليمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر ، وعمر " ، وحدثنا سفيان ، عن مسعر بن كدام ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب : أنه أمر بقتل المحرم الزنبور .

[ ص: 429 ] وروى البخاري ، عن ابن مسعود ، قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات لخلق الله ، فقالت له امرأة في ذلك . فقال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله . فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ؟ ! قال : لئن قرأتيه لقد وجدتيها ! أما قرأت وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، ؟ قالت : بلى . قال : فإنه قد نهى عنه .

وقال ابن برجان : ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء فهو في القرآن ، أو فيه أصله قرب أو بعد ، فهمه من فهم ، أو عمه عنه من عمه ، وكذا كل ما حكم أو قضى به .

وقال غيره : ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله تعالى ; حتى إن بعضهم استنبط عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا وستين من قوله " في سورة المنافقين " : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها [ 63 \ 11 ] ; فإنها رأس ثلاث وستين سورة ، وعقبها " بالتغابن " ، ليظهر التغابن في فقده .

وقال المرسي : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين ، بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ، ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خلا ما استأثر الله به سبحانه ، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم ; مثل الخلفاء الأربعة ، ومثل ابن مسعود ، وابن عباس حتى قال : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله . ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ، ثم تقاصرت الهمم ، وفترت العزائم ، وتضاءل أهل العلم ، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه ; فنوعوا علومه ، وقامت كل طائفة بفن من فنونه .

فاعتنى قوم بضبط لغاته ، وتحرير كلماته ، ومعرفة مخارج حروفه وعددها ، وعد كلماته وآياته ، وسوره وأجزائه ، وأنصافه وأرباعه ، وعدد سجداته ، إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة ، والآيات المتماثلة . من غير تعرض لمعانيه ، ولا تدبر لما أودع فيه . فسموا القراء .

واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال ، والحروف العاملة وغيرها . وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها ، وضروب الأفعال ، واللازم والمتعدي ، ورسوم خط الكلمات ، وجميع ما يتعلق به ; حتى إن بعضهم أعرب مشكله . وبعضهم أعربه كلمة كلمة .

[ ص: 430 ] واعتنى المفسرون بألفاظه ، فوجدوا منه لفظا يدل على معنى واحد ، ولفظا يدل على معنيين ، ولفظا يدل على أكثر ; فأجروا الأول : على حكمه ، وأوضحوا الخفي منه ، وخاضوا إلى ترجيح أحد محتمالات ذي المعنيين أو المعاني ، وأعمل كل منهم فكره ، وقال بما اقتضاه نظره .

واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية ، والشواهد الأصلية والنظرية ; مثل قوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة ; فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده ، وبقائه وقدمه ، وقدرته وعلمه ، وتنزيهه عما لا يليق به ; وسموا هذا العلم بـ " ، أصول الدين " .

وتأملت طائفة معاني خطابه ; فرأت منها ما يقتضي العموم ، ومنها ما يقتضي الخصوص ، إلى غير ذلك ; فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز ، وتكلموا في التخصيص والإضمار ، والنص والظاهر ، والمجمل والمحكم والمتشابه ، والأمر والنهي والنسخ ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة ، واستصحاب الحال والاستقراء ; وسموا هذا الفن " أصول الفقه " .

وأحكمت طائفة صحيح النظر ، وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام ، وسائر الأحكام ، فأسسوا أصوله وفروعه ، وبسطوا القول في ذلك بسطا حسنا ; وسموه ب " علم الفروع " وب " ، الفقه أيضا ‌‌ " .

وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة ، والأمم الخالية ، ونقلوا أخبارهم ، ودونوا آثارهم ووقائعهم . حتى ذكروا بدء الدنيا ، وأول الأشياء ; وسموا ذلك ب " التاريخ والقصص " .

وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال ، والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال ، وتكاد تدكدك الجبال ; فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد ، والتحذير والتبشير ، وذكر الموت والمعاد ، والنشر والحشر ، والحساب والعقاب ، والجنة والنار ، فصولا من المواعظ ، وأصولا من الزواجر . فسموا بذلك " الخطباء والوعاظ " .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #178  
قديم 15-01-2022, 03:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (176)

سُورَةُ النَّحْلِ(22)
صـ 431 إلى صـ 435


واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير ; مثل ما ورد في قصة يوسف : من البقرات السمان ، وفي منامي صاحبي السجن ، وفي رؤية الشمس والقمر والنجوم ساجدات ، وسموه " تعبير الرؤيا " ; واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب ، فإن عز عليهم إخراجها [ ص: 431 ] منه ، فمن السنة التي هي شارحة الكتاب ، فإن عسر فمن الحكم والأمثال . ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم ، وعرف عاداتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله : وأمر بالعرف [ 7 \ 199 ] .

وأخذ قوم مما في آيات المواريث من ذكر السهام وأربابها ، وغير ذلك " علم الفرائض " ، واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث ، والربع والسدس والثمن " حساب الفرائض " ، ومسائل العول ; واستخرجوا منه أحكام الوصايا .

ونظر قوم إلى ما فيه الآيات الدالات على الحكم الباهرة في الليل والنهار ، والشمس والقمر ومنازله ، والنجوم والبروج ، وغير ذلك ; فاستخرجوا " علم المواقيت " .

ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النظم ، وحسن السياق والمبادئ ، والمقاطيع والمخالص والتلوين في الخطاب ، والإطناب والإيجاز ، وغير ذلك ; فاستنبطوا منه " علم المعاني والبيان والبديع " .

ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة ; فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق ، جعلوا لها أعلاما اصطلحوا عليها ، مثل الغناء والبقاء ، والحضور والخوف والهيبة ، والأنس والوحشة ، والقبض والبسط ، وما أشبه ذلك .

هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه .

وقد احتوى على علوم أخر من علوم الأوائل ، مثل : الطب ، والجدل ، والهيئة ، والهندسة والجبر ، والمقابلة والنجامة ، وغير ذلك .

أما الطب : فمداره على حفظ نظام الصحة ، واستحكام القوة ; وذلك إنما يكون باعتدال المزاج تبعا للكيفيات المتضادة ، وقد جمع ذلك في آية واحدة وهي قوله : وكان بين ذلك قواما [ 25 \ 67 ] .

وعرفنا فيه بما يعيد نظام الصحة بعد اختلاله ، وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله في قوله : شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس [ 16 \ 69 ] .

ثم زاد على طب الأجساد بطب القلوب ، وشفاء الصدور .

وأما الهيئة : ففي تضاعيف سوره من الآيات التي ذكر فيها من ملكوت السماوات والأرض ، وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات منه .

[ ص: 432 ]

وأما الهندسة : ففي قوله : انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب [ 77 \ 30 ، 31 ] ، فإن فيه قاعدة هندسية ، وهو أن الشكل المثلث لا ظل له .

وأما الجدل : فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج ، والقول بالموجب ، والمعارضة ، وغير ذلك شيئا كثيرا ، ومناظرة إبراهيم أصل في ذلك عظيم .

وأما الجبر والمقابلة : فقد قيل : إن أوائل السور ذكر عدد وأعوام وأيام لتواريخ أمم سالفة ، وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة ، وتاريخ مدة الدنيا ، وما مضى وما بقي ، مضروبا بعضها في بعض .

وأما النجامة : ففي قوله : أو أثارة من علم [ 46 \ 4 ] ، فقد فسره ابن عباس بذلك .

وفيه من أصول الصنائع ، وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها ، فمن الصنائع الخياطة في قوله : وطفقا يخصفان . . . الآية [ 7 \ 22 ، 20 \ 121 ] ، والحدادة في قوله تعالى : آتوني زبر الحديد [ 18 \ 96 ] ، وقوله : وألنا له الحديد الآية [ 34 \ 10 ] ، والبناء في آيات ، والنجارة ، أن اصنع الفلك [ 23 \ 27 ] ، والغزل : نقضت غزلها [ 16 \ 92 ] ، والنسج : كمثل العنكبوت اتخذت بيتا [ 29 \ 41 ] ، والفلاحة : أفرأيتم ما تحرثون [ 56 \ 63 ] ، في آيات أخر ، والصيد في آيات ، والغوص : ، والشياطين كل بناء وغواص [ 38 \ 37 ] ، وتستخرجون حلية [ 16 \ 14 ] ، والصياغة واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا . . . الآية [ 7 \ 148 ] ، والزجاجة : صرح ممرد من قوارير [ 37 \ 44 ] ، المصباح في زجاجة [ 24 \ 35 ] ، والفخارة فأوقد لي ياهامان على الطين [ 28 \ 38 ] ، والملاحة أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر [ 18 \ 79 ] ، والكتابة علم بالقلم [ 96 \ 4 ] ، في آيات أخر ، والخبز والطحن : ، أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه [ 12 \ 36 ] ، والطبخ ، بعجل حنيذ [ 11 \ 69 ] ، والغسل والقصارة ، وثيابك فطهر [ 74 \ 4 ] ، قال الحواريون [ 3 \ 52 ] [ 5 \ 112 ] [ 61 \ 14 ] ، وهم القصارون ، والجزارة إلا ما ذكيتم [ 5 \ 3 ] ، والبيع والشراء في آيات كثيرة ، والصبغ ، صبغة الله . . . الآية [ 2 \ 138 ] ، جدد بيض وحمر . . . الآية [ 35 \ 27 ] ، والحجارة ، وتنحتون من الجبال بيوتا [ 26 \ 149 ] ، والكيالة [ ص: 433 ] والوزن في آيات كثيرة ، والرمي : وما رميت إذ رميت [ 8 \ 17 ] ، وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [ 8 \ 60 ] .

وفيه من أسماء الألات ، وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات ، وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 \ 38 ] ، انتهى كلام المرسي ملخصا مع زيادات .

قلت : قد اشتمل كتاب الله على كل شيء . أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل ، إلا وفي القرآن ما يدل عليها . وفيه علم عجائب المخلوقات ، وملكوت السماوات والأرض ، وما في الأفق الأعلى ، وما تحت الثرى ، وبدء الخلق ، وأسماء مشاهير الرسل والملائكة ، وعيون أخبار الأمم السالفة ; كقصة آدم مع إبليس في إخراجه من الجنة ، وفي الولد الذي سماه عبد الحارث ، ورفع إدريس وإغراق قوم نوح ، وقصة عاد الأولى والثانية ، وثمود ، والناقة ، وقوم لوط ، وقوم شعيب الأولين والآخرين فإنه أرسل مرتين ، وقوم تبع ، ويونس ، وإلياس ، وأصحاب الرس ، وقصة موسى في ولادته وفي إلقائه في اليم ، وقتله القبطي ، ومسيره إلى مدين وتزوجه ابنة شعيب ، وكلامه تعالى بجانب الطور ، وبعثه إلى فرعون ، وخروجه وإغراق عدوه ، وقصة العجل ، والقوم الذين خرج بهم وأخذتهم الصعقة ، وقصة القتال وذبح البقرة ، وقصته في قتال الجبارين ، وقصته مع الخضر والقوم الذين ساروا في سرب من الأرض إلى الصين ، وقصة طالوت وداود مع جالوت وقتله ، وقصة سليمان وخبره مع ملكة سبإ وفتنته ، وقصة القوم الذين خرجوا فرارا من الطاعون فأماتهم الله ثم أحياهم ، وقصة إبراهيم في مجادلته قومه ، ومناظرته النمروذ ، ووضعه إسماعيل مع أمه بمكة ، وبنائه البيت ، وقصة الذبيح ، وقصة يوسف وما أبسطها ، وقصة مريم وولادتها عيسى وإرساله ورفعه ، وقصة زكريا وابنه يحيى ، وأيوب وذي الكفل ، وقصة ذي القرنين ومسيره إلى مطلع الشمس ومغربها وبنائه السد ، وقصة أصحاب الكهف والرقيم ، وقصة بختنصر ، وقصة الرجلين اللذين لأحدهما الجنة ، وقصة أصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين ، وقصة مؤمن آل فرعون ، وقصة أصحاب الفيل ، وقصة الجبار الذي أراد أن يصعد إلى السماء .

وفيه من شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوة إبراهيم به ، وبشارة عيسى وبعثه وهجرته . ومن غزواته : غزوة بدر في ( سورة الأنفال ) ، وأحد في ( آل عمران ) ، وبدر الصغرى فيها ، والخندق في ( الأحزاب ) ، والنضير في ( الحشر ) ، والحديبية في ( الفتح ) ، وتبوك في [ ص: 434 ] ( براءة ) ، وحجة الوداع في ( المائدة ) ، ونكاحه زينب بنت جحش ، وتحريم سريته ، وتظاهر أزواجه عليه ، وقصة الإفك ، وقصة الإسراء ، وانشقاق القمر ، وسحر اليهود إياه .

وفيه بدء خلق الإنسان إلى موته ، وكيفية الموت ، وقبض الروح وما يفعل بها بعد صعودها إلى السماء ، وفتح الباب للمؤمنة وإلقاء الكافرة ، وعذاب القبر والسؤال فيه ، ومقر الأرواح ، وأشراط الساعة الكبرى العشرة ، وهي :

نزول عيسى ، وخروج الدجال ، ويأجوج ومأجوج ، والدابة ، والدخان ، ورفع القرآن ، وطلوع الشمس من مغربها ، وإغلاق باب التوبة ، والخسف .

وأحوال البعث : من نفخة الصور ، والفزع ، والصعق ، والقيام ، والحشر والنشر ، وأهوال الموقف ، وشدة حر الشمس ، وظل العرش ، والصراط ، والميزان ، والحوض ، والحساب لقوم ، ونجاة آخرين منه ، وشهادة الأعضاء ، وإيتاء الكتب بالأيمان والشمائل وخلف الظهور ، والشفاعة ، والجنة وأبوابها ، وما فيها من الأشجار والثمار والأنهار ، والحلي والألوان ، والدرجات ، ورؤيته تعالى ، والنار وما فيها من الأودية ، وأنواع العقاب ، وألوان العذاب ، والزقوم والحميم ، إلى غير ذلك مما لو بسط جاء في مجلدات .

وفي القرآن جميع أسمائه تعالى الحسنى كما ورد في حديث . وفيه من أسمائه مطلقا ألف اسم ، وفيه من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة .

وفيه شعب الإيمان البضع والسبعون .

وفيه شرائع الإسلام الثلاثمائة وخمس عشرة .

وفيه أنواع الكبائر وكثير من الصغائر .

وفيه تصديق كل حديث ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه جملة القول في ذلك . اه كلام السيوطي في ( الإكليل ) .

وإنما أوردناه برمته مع طوله ; لما فيه من إيضاح : أن القرآن فيه بيان كل شيء . وإن كانت في الكلام المذكور أشياء جديرة بالانتقاد تركنا مناقشتها خوف الإطالة المملة ، مع كثرة الفائدة في الكلام المذكور في الجملة .

وفي قوله تعالى : تبيانا لكل شيء [ 16 \ 89 ] ، وجهان من الإعراب :

أحدهما : أنه مفعول من أجله . والثاني : أنه مصدر منكر واقع حالا ; على حد قوله في الخلاصة [ ص: 435 ]


ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع


تنبيه .

أظهر القولين : أن التبيان مصدر ، ولم يسمع كسر تاء التفعال مصدرا إلا في التبيان والتلقاء . وقال بعض أهل العلم : التبيان اسم لا مصدر . قال أبو حيان في ( البحر ) : والظاهر أن " تبيانا " مصدر جاء على تفعال ، وإن كان باب المصادر يجيء على تفعال ( بالفتح ) كالترداد والتطواف . ونظير تبيان في كسر تائه : تلقاء ، وقد جوز الزجاج فتحه في غير القرآن . وقال ابن عطية : " تبيانا " اسم وليس بمصدر ; وهو قول أكثر النحاة . وروى ثعلب عن الكوفيين ، والمبرد عن البصريين : أنه مصدر ، ولم يجئ على تفعال من المصادر إلا ضربان :

تبيان وتلقاء . اه والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن هذا القرآن العظيم هدى ورحمة وبشرى للمسلمين ، ويفهم من دليل خطاب هذه الآية الكريمة - أي : مفهوم مخالفتها - : أن غير المسلمين ليسوا كذلك . وهذا المفهوم من هذه الآية صرح به - جل وعلا - في مواضع أخر ; كقوله : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى [ 41 \ 44 ] ، وقوله : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا [ 17 \ 82 ] ، وقوله - جل وعلا - : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون [ 9 \ 124 - 125 ] ، وقوله : وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا [ 5 \ 64 ] ، في الموضعين .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #179  
قديم 15-01-2022, 03:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (177)

سُورَةُ النَّحْلِ(23)
صـ 436 إلى صـ 440




قوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه يأمر خلقه بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وأنه ينهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغي ; لأجل أن يتعظوا بأوامره ونواهيه ، فيمتثلوا أمره ، ويجتنبوا نهيه . وحذف مفعول " يأمر " ، " وينهى " ; لقصد التعميم .

ومن الآيات التي أمر فيها بالعدل قوله تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا [ ص: 436 ] تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [ 5 \ 8 ] ، وقوله : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به [ 4 \ 58 ] .

ومن الآيات التي أمر فيها بالإحسان قوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين [ 2 \ 195 ] ، وقوله : وبالوالدين إحسانا [ 17 \ 23 ] ، وقوله : وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض [ 28 \ 77 ] ، وقوله : وقولوا للناس حسنا [ 2 \ 83 ] ، وقوله : ما على المحسنين من سبيل [ 9 \ 91 ] .

ومن الآيات التي أمر فيها بإيتاء ذي القربى قوله تعالى : فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون [ 30 \ 38 ] ، وقوله : وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا [ 17 \ 26 ] ، وقوله : وآتى المال على حبه ذوي القربى الآية [ 2 \ 177 ] ، وقوله : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة [ 90 \ 14 ، 15 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

ومن الآيات التي نهى فيها عن الفحشاء والمنكر والبغي قوله : ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن . . . الآية [ 6 \ 151 ] ، وقوله : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق . . . الآية [ 7 \ 33 ] ، وقوله : وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون [ 6 \ 120 ] ، والمنكر وإن لم يصرح باسمه في هذه الآيات ، فهو داخل فيها .

ومن الآيات التي جمع فيها بين الأمر بالعدل والتفضل بالإحسان ، قوله : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به [ 16 \ 126 ] ، فهذا عدل ، ثم دعا إلى الإحسان بقوله : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [ 16 \ 126 ] ، وقوله : ، وجزاء سيئة سيئة مثلها [ 42 \ 40 ] ، فهذا عدل ‌‌ . ثم دعا إلى الإحسان بقوله : فمن عفا وأصلح فأجره على الله [ 42 \ 40 ] .

وقوله : والجروح قصاص [ 5 \ 45 ] ، فهذا عدل . ثم دعا إلى الإحسان بقوله ، فمن تصدق به فهو كفارة له [ 5 \ 45 ] ، وقوله ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما [ ص: 437 ] عليهم من سبيل . . . الآية [ 42 \ 43 ] ، فهذا عدل . ثم دعا إلى الإحسان بقوله : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 \ 43 ] ، وقوله : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ 4 \ 148 ] ، فهذا عدل . ثم دعا إلى الإحسان بقوله : إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [ 4 \ 149 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

فإذا عرفت هذا ، فاعلم أن العدل في اللغة : القسط والإنصاف ، وعدم الجور . وأصله التوسط بين المرتبتين ; أي : الإفراط والتفريط . فمن جانب الإفراط والتفريط فقد عدل . والإحسان مصدر أحسن ، وهي تستعمل متعدية بالحرف نحو : أحسن إلى والديك ; ومنه قوله تعالى عن يوسف : وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن الآية [ 12 \ 100 ] ، وتستعمل متعدية بنفسها . كقولك : أحسن العامل عمله ، أي : أجاده وجاء به حسنا . والله - جل وعلا - يأمر بالإحسان بمعنييه المذكورين ، فهما داخلان في الآية الكريمة ; لأن الإحسان إلى عباد الله لوجه الله عمل أحسن فيه صاحبه . وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإحسان في حديث جبريل بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه . فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ، وقد قدمنا إيضاح ذلك في ( سورة هود ) .

فإذا عرفت هذا ، فاعلم أن أقوال المفسرين في الآية الكريمة راجعة في الجملة إلى ما ذكرنا ; كقول ابن عباس : العدل : لا إله إلا الله ، والإحسان : أداء الفرائض ; لأن عبادة الخالق دون المخلوق هي عين الإنصاف والقسط ، وتجنب التفريط والإفراط . ومن أدى فرائض الله على الوجه الأكمل فقد أحسن ; ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل الذي حلف لا يزيد على الواجبات : " أفلح إن صدق " ، وكقول سفيان : العدل : استواء العلانية والسريرة . والإحسان : أن تكون السريرة أفضل من العلانية . وكقول علي - رضي الله عنه - : العدل : الإنصاف . والإحسان : التفضل . إلى غير ذلك من أقوال السلف . والعلم عند الله تعالى . وقوله ، يعظكم لعلكم تذكرون [ 16 \ 90 ] ، الوعظ : : الكلام الذي تلين له القلوب .

تنبيه .

فإن قيل : يكثر في القرآن إطلاق الوعظ على الأوامر والنواهي ; كقوله هنا : يعظكم لعلكم تذكرون [ 16 \ 90 ] ، مع أنه ما ذكر إلا الأمر والنهي في قوله : إن الله [ ص: 438 ] يأمر بالعدل ، إلى قوله : وينهى عن الفحشاء . . . الآية [ 16 \ 90 ] ، وكقوله في ( سورة البقرة ) بعد أن ذكر أحكام الطلاق والرجعة : ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر [ 2 \ 232 ] ، وقوله ( في الطلاق ) في نحو ذلك أيضا : ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، وقوله في النهي عن مثل قذف عائشة : يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا . . . الآية [ 24 \ 17 ] ، مع أن المعروف عند الناس : أن الوعظ يكون بالترغيب والترهيب ونحو ذلك ، لا بالأمر والنهي .

فالجواب : أن ضابط الوعظ : هو الكلام الذي تلين له القلوب ، وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامر ربهم ونواهيه ; فإنهم إذا سمعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله ، وطمعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله . وإذا سمعوا النهي خافوا من سخط الله في عدم اجتنابه ، وطمعوا فيما عنده من الثواب في اجتنابه ; فحداهم حادي الخوف والطمع إلى الامتثال ، فلانت قلوبهم للطاعة خوفا وطمعا . والفحشاء في لغة العرب : الخصلة المتناهية في القبح . ومنه قيل لشديد البخل : فاحش ; كما في قول طرفة في معلقته :


أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد


والمنكر اسم مفعول أنكر ; وهو في الشرع : ما أنكره الشرع ونهى عنه ، وأوعد فاعله العقاب . والبغي : الظلم .

وقد بين تعالى : أن الباغي يرجع ضرر بغيه على نفسه في قوله : ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم [ 10 \ 23 ] ، وقوله : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] ، وقوله : ذي القربى [ 16 \ 90 ] ، أي : صاحب القرابة من جهة الأب أو الأم ، أو هما معا ; لأن إيتاء ذي القربى صدقة وصلة رحم . والإيتاء : الإعطاء . وأحد المفعولين محذوف ; لأن المصدر أضيف إلى المفعول الأول : وحذف الثاني . والأصل وإيتاء صاحب القرابة ; كقوله : وآتى المال على حبه ذوي القربى . . . الآية [ 2 \ 177 ] ، قوله تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم أمر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة عباده أن يوفوا بعهد الله إذا عاهدوا . وظاهر الآية أنه شامل لجميع العهود فيما بين العبد وربه ، وفيما بينه وبين الناس . وكرر هذا في مواضع أخر ; كقوله ( في الأنعام ) : ، وبعهد [ ص: 439 ] الله أوفوا ذلكم وصاكم به . . . الآية [ 6 \ 152 ] ، وقوله في ( الإسراء ) : وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا [ 17 \ 34 ] ، وقد قدمنا هذا ( في الأنعام ) .

وبين في مواضع أخر : أن من نقض العهد إنما يضر بذلك نفسه ، وأن من أوفى به يؤتيه الله الأجر العظيم على ذلك ; وذلك في قوله : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما [ 48 \ 10 ] ، وبين في مواضع أخر : أن نقض الميثاق يستوجب اللعن ; وذلك في قوله : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم . . . الآية [ 5 \ 13 ] .
قوله تعالى : ما عندكم ينفد وما عند الله باق . بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن ما عنده من نعيم الجنة باق لا يفنى . وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] ، وقوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] ، وقوله : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا [ 18 \ 2 - 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ، أقسم - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه سيجزي الذين صبروا أجرهم - أي : جزاء عملهم - بأحسن ما كانوا يعملون .

وبين في مواضع أخر : أنه جزاء بلا حساب ; كما في قوله : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ 39 \ 10 ] .

تنبيه .

استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة : أن فعل المباح حسن ; لأن قوله في هذه الآية : بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 96 ] ، صيغة تفضيل تدل على المشاركة ، والواجب أحسن من المندوب ، والمندوب أحسن من المباح ; فيجازون بالأحسن الذي هو الواجب والمندوب ، دون مشاركتهما في الحسن وهو المباح ; وعليه درج في مراقي السعود في قوله :


ما ربنا لم ينه عنه حسن وغيره القبيح والمستهجن


إلا أن الحسن ينقسم إلى حسن وأحسن ; ومن ذلك قوله تعالى لموسى : فخذها [ ص: 440 ] بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها . . . الآية [ 7 \ 145 ] ، فالجزاء المنصوص عليه في قوله : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به [ 16 \ 126 ] ، حسن . والصبر المذكور في قوله : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [ 16 \ 126 ] ، أحسن ; وهكذا وقرأ هذا الحرف ابن كثير وعاصم وابن ذكوان بخلف عنه : " ولنجزين " بنون العظمة . وقرأه الباقون بالياء ، وهو الطريق الثاني لابن ذكوان .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #180  
قديم 15-01-2022, 03:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (178)

سُورَةُ النَّحْلِ(24)
صـ 441 إلى صـ 445



قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن كل عامل سواء كان ذكرا أو أنثى عمل عملا صالحا فإنه - جل وعلا - يقسم ليحيينه حياة طيبة ، وليجزينه أجره بأحسن ما كان يعمل .

اعلم أولا : أن القرآن العظيم دل على أن العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة أمور :

الأول : موافقته لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن الله يقول : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .

الثاني : أن يكون خالصا لله تعالى ; لأن الله - جل وعلا - يقول : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ 98 \ 5 ] ، قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه [ 39 \ 14 ، 15 ] .

الثالث‌‌ : أن يكون مبنيا على أساس العقيدة الصحيحة ; لأن الله يقول : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن [ 16 \ 97 ] ، فقيد ذلك بالإيمان ، ومفهوم مخالفته أنه لو كان غير مؤمن لما قبل منه ذلك العمل الصالح .

وقد أوضح - جل وعلا - هذا المفهوم في آيات كثيرة ، كقوله في عمل غير المؤمن : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، وقوله : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 16 ] ، وقوله : أعمالهم كسراب بقيعة الآية [ 24 \ 39 ] ، وقوله : أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف [ 14 \ 18 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

واختلف العلماء في المراد بالحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة .

فقال قوم : لا تطيب الحياة إلا في الجنة ، فهذه الحياة الطيبة في الجنة ; لأن الحياة [ ص: 441 ] الدنيا لا تخلو من المصائب والأكدار ، والأمراض والألام والأحزان ، ونحو ذلك . وقد قال تعالى : وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [ 29 \ 64 ] ، والمراد بالحيوان : الحياة .

وقال بعض العلماء : الحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة في الدنيا ، وذلك بأن يوفق الله عبده إلى ما يرضيه ، ويرزقه العافية والرزق الحلال ; كما قال تعالى : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار [ 2 \ 201 ] .

قال مقيده - عفا الله عنه - : وفي الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بالحياة الطيبة في الآية : حياته في الدنيا حياة طيبة ; وتلك القرينة هي أننا لو قدرنا أن المراد بالحياة الطيبة : حياته في الجنة في قوله : فلنحيينه حياة طيبة [ 16 \ 97 ] ، صار قوله : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] ، تكرارا معه ; لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم ، بخلاف ما لو قدرنا أنها في الحياة الدنيا ; فإنه يصير المعنى : فلنحيينه في الدنيا حياة طيبة ، ولنجزينه في الآخرة بأحسن ما كان يعمل ، وهو واضح .

وهذا المعنى الذي دل عليه القرآن تؤيده السنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - .

قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية الكريمة : والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت . وقد روي عن ابن عباس وجماعة : أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب ، وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : أنه فسرها بالقناعة ، وكذا قال ابن عباس وعكرمة ، ووهب بن منبه - إلى أن قال - وقال الضحاك : هي الرزق الحلال ، والعبادة في الدنيا . وقال الضحاك : هي الرزق الحلال ، والعبادة في الدنيا . وقال الضحاك أيضا هي العمل بالطاعة والانشراح بها .

والصحيح : أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله ; كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني شرحبيل بن شريك ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا ، وقنعه الله بما أتاه " ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقري به . وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي هانئ . عن أبي علي الجنبي ، عن فضالة بن عبيد : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " قد أفلح من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به " ، وقال الترمذي : هذا حديث صحيح .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا همام ، عن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس بن [ ص: 442 ] مالك ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة . وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا " ، انفرد بإخراجه مسلم . اه من ابن كثير .

وهذه الأحاديث ظاهرة في ترجيح القول : بأن الحياة الطيبة في الدنيا ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أفلح " يدل على ذلك ; لأن من نال الفلاح نال حياة طيبة . وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " يعطى بها في الدنيا " ، يدل على ذلك أيضا . وابن كثير إنما ساق الأحاديث المذكورة لينبه على أنها ترجح القول المذكور . والعلم عند الله تعالى .

وقد تقرر في الأصول : أنه إذا دار الكلام بين التوكيد والتأسيس رجح حمله على التأسيس : وإليه أشار في مراقي السعود جامعا له مع نظائر يجب فيها تقديم الراجح من الاحتمالين بقوله :


كذاك ما قابل ذا اعتلال من التأصل والاستقلال ومن تأسس عموم وبقا
الإفراد والإطلاق مما ينتقى كذاك ترتيب لإيجاب العمل
بما له الرجحان مما يحتمل


ومعنى كلام صاحب المراقي : أنه يقدم محتمل اللفظ الراجح على المحتمل المرجوح ، كالتأصل ، فإنه يقدم على الزيادة : نحو : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] ، يحتمل كون الكاف زائدة .

ويحتمل أنها غير زائدة . والمراد بالمثل الذات ; كقول العرب : مثلك لا يفعل هذا ، يعنون أنت لا ينبغي لك أن تفعل هذا ، فالمعنى : ليس كالله شيء . ونظيره من إطلاق المثل وإرادة الذات : وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله [ 46 \ 10 ] ، أي : على نفس القرآن لا شيء آخر مماثل له ، وقوله : كمن مثله في الظلمات [ 6 \ 122 ] ، أي : كمن هو في الظلمات . وكالاستقلال ، فإنه يقدم على الإضمار ; كقوله تعالى : أن يقتلوا أو يصلبوا الآية [ 5 \ 33 ] ، فكثير من العلماء يضمرون قيودا غير مذكورة فيقولون : أن يقتلوا إذا قتلوا ، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم إذا أخذوا المال ولم يقتلوا . . إلخ .

فالمالكية يرجحون أن الإمام مخير بين المذكورات مطلقا ; لأن استقلال اللفظ أرجح من إضمار قيود غير مذكورة ; لأن الأصل عدمها حتى تثبت بدليل ; كما أشرنا إليه سابقا في ( المائدة ) وكذلك التأسيس يقدم على التأكيد وهو محل الشاهد ; كقوله : فبأي [ ص: 443 ] آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 59 ، 61 ، 63 ، 65 ، 67 ، 69 ، 71 ، 73 ، 75 ] ، في ( سورة الرحمن ) ، وقوله : ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 19 ، 24 ، 28 ، 34 ، 37 ، 40 ، 45 ، 47 ، 49 ] ، ( في المرسلات ) . قيل : تكرار اللفظ فيهما توكيد ، وكونه تأسيسا أرجح لما ذكرنا . فتحمل الآلاء في كل موضع على ما تقدم . قيل : لفظ ذلك التكذيب فلا يتكرر منها لفظ . وكذا يقال في ( سورة المرسلات ) فيحمل على المكذبين بما ذكر ، قيل كل لفظ إلخ . فإذا علمت ذلك فاعلم - أنا إن حملنا الحياة الطيبة في الآية على الحياة الدنيا كان ذلك تأسيسا . وإن حملناها على حياة الجنة تكرر ذلك مع قوله بعده : ولنجزينهم أجرهم الآية [ 16 \ 97 ] ; لأن حياة الجنة الطيبة هي أجرهم الذي يجزونه .

وقال أبو حيان في ( البحر ) : والظاهر من قوله تعالى : فلنحيينه حياة طيبة [ 16 \ 97 ] ، أن ذلك في الدنيا ; وهو قول الجمهور . ويدل عليه قوله : ولنجزينهم أجرهم [ 16 \ 97 ] ، يعني في الآخرة .
قوله تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، أظهر القولين في هذه الآية الكريمة : أن الكلام على حذف الإرادة ، أي : فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله . . الآية . وليس المراد أنه إذا قرأ القرآن وفرغ من قراءته استعاذ بالله من الشيطان كما يفهم من ظاهر الآية ، وذهب إليه بعض أهل العلم . والدليل على ما ذكرنا تكرر حذف الإرادة في القرآن وفي كلام العرب لدلالة المقام عليها ; كقوله : ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية [ 5 \ 6 ] ، أي : أردتم القيام إليها كما هو ظاهر . وقوله : إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم الآية [ 58 \ 9 ] ، أي : إذ أردتم أن تتناجوا فلا تتناجوا بالإثم ; لأن النهي إنما هو عن أمر مستقبل يراد فعله ، ولا يصح النهي عن فعل مضى وانقضى كما هو واضح .

وظاهر هذه الآية الكريمة : أن الاستعاذة من الشيطان الرجيم واجبة عند القراءة ; لأن صيغة افعل للوجوب كما تقرر في الأصول .

وقال كثير من أهل العلم : إن الأمر في الآية للندب والاستحباب ، وحكى عليه الإجماع أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة ، وظاهر الآية أيضا : الأمر بالاستعاذة عند القراءة في الصلاة لعموم الآية . والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 444 ] قوله تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الشيطان ليس له سلطان على المؤمنين المتوكلين على الله ، وأن سلطانه إنما هو على أتباعه الذين يتولونه ، والذين هم به مشركون .

وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع ، كقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] ، وقوله : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 39 - 40 ] ، وقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا [ 17 \ 65 ] ، وقوله : وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك الآية [ 34 \ 21 ] ، وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 14 \ 22 ] .

واختلف العلماء في معنى السلطان في هذه الآية .

فقال أكثر أهل العلم : هو الحجة ، أي : ليس للشيطان عليهم حجة فيما يدعوهم إليه من عبادة الأوثان .

وقال بعضهم : ليس له سلطان عليهم ، أي : تسلط وقدرة على أن يوقعهم في ذنب لا توبة منه . وقد قدمنا هذا ، والمراد : ب : الذين يتولونه [ 16 \ 100 ] ، الذين يطيعونه فيوالونه بالطاعة .

وأظهر الأقوال في قوله : هم به مشركون [ 16 \ 100 ] ، أن الضمير عائد إلى الشيطان لا إلى الله . ومعنى كونهم مشركين به هو طاعتهم له في الكفر والمعاصي ; كما يدل عليه قوله تعالى : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين [ 36 \ 60 ] ، وقوله عن إبراهيم : ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان [ 19 \ 44 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وأما سلطانه على الذين يتولونه فهو ما جعلوه له على أنفسهم من الطاعة والاتباع والموالاة ، بغير موجب يستوجب ذلك .

تنبيه .

فإنه قيل : أثبت الله للشيطان سلطانا على أوليائه في آيات ; كقوله هنا : إنما سلطانه [ ص: 445 ] على الذين يتولونه . . . الآية [ 16 \ 100 ] ، وقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] ، فالاستثناء يدل على أن له سلطانا على من اتبعه من الغاوين ; مع أنه نفى عنه السلطان عليهم في آيات أخر ; كقوله : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان الآية [ 34 \ 20 - 21 ] .

وقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 114 \ 22 ] .

فالجواب هو : أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه ، وذلك من وجهين :

الأول : أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه ، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة ، فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها ، غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان . وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن .

الثاني : أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة ، ولكنهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بطاعاته ودخولهم في حزبه ، فلم يتسلط عليهم بقوة ; لأن الله يقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفا [ 4 \ 76 ] ، وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم .

ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم - رحمه الله - ، وقد بينا هذا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 284.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 277.98 كيلو بايت... تم توفير 6.06 كيلو بايت...بمعدل (2.13%)]