السلام جل جلاله، وتقدست أسماؤه - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 439 - عددالزوار : 12593 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12854 - عددالزوار : 227524 )           »          لتنعمي بالحياة مع ( حماتك) عامليها كوالدتك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          الدعوة في ساعة الأزمات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          إلى ولدي الجامعي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          كيف عامل النبي صلى الله عليه وسلم خدمه؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          نصائح ذهبية في الامتحانات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          عجيب أمر هذا الدين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          المستقبل لهذا الدين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          الحسين عليه السلام في ذكرى استشهاده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15-02-2024, 11:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,934
الدولة : Egypt
افتراضي السلام جل جلاله، وتقدست أسماؤه

السلام جل جلاله، وتقدست أسماؤه
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي

السَّلامُ في لغةِ العربِ:
السَّلامُ في اللغةِ مصدرٌ استُعمل اسمًا للموصوفِ بالسَّلامةِ، فعلُه سَلِم يسلَمُ سَلَامًا وسَلَامةً، والسَّلامةُ الأمنُ والأمانُ والحصَانةُ والاطمئنانُ، والبراءةُ من كلِّ آفةٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ، والخلاصُ مِن كلِّ مكروهٍ وعيبٍ[1].

ومادَّةُ السَّلامِ تدلُّ على الخلاصِ والنجاةِ، وقيل للجَنَّةِ دارُ السَّلامِ لأنها دارُ السَّلامةِ مِن الهمومِ والآفاتِ، باقيةٌ بنعيمِها وأهلِها في أمانٍ ما دامت السماواتُ والأرضُ، قال تعالى: ﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 127][2].

ومن السَّلامةِ أيضًا التحيَّةُ الخالصةُ مِنْ سُوءِ الطَوِيَّةِ وخُبْثِ النيةِ، فسُمِّيَتِ التحيةُ في الإسلام سَلامًا، روى البخاري من حدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَلقَ الله آَدَمَ وَطُولُهُ ستُّونَ ذرَاعًا، ثمَّ قَال اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أَولَئِكَ مِنَ الَملائِكَة فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، تَحيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللهِ»[3].

وَالله عز وجل هُوَ السَّلامُ لسَلامتهِ من النقائصِ والعيوبِ، فهو الذي سَلِم في ذاتهِ بنُورِهِ وجلالِهِ، فمِنْ جَمالِهِ وسُبُحاتِ وجهِهِ احتجبَ عن خلْقِهِ رحمةً بهم وابتلاءً لهم، رَوَى مسلمٌ مِن حديثِ أبي مُوسَى رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»[4].

وهو الَّذي سَلِم في صفاتِهِ بِكَمَالِها وعلوِّ شأنِها، وسَلِمَ أيضًا في أفعالِه بإطَلَاقِ قُدرتهِ وَإِنفاذِ مشيئتِه، وكمالِ عدلِه وبالغِ حكمتِهِ.

وهو سُبحانه الذي يدعو عبادَهُ إلى السَّلامةِ وإفشاءِ السَّلامِ، فأثنى على عبادهِ في قولِه تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63].

وَهُوَ الذي يدعو إلى سُبلِ السَّلامِ باتَباعِ منهجِ الإِسلامِ كما قال تعالى: ﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ [المائدة: 16].

وهو سبحانه الذي يدعو عبادَهُ إلى دَارِ السَّلامِ ويبلغ منِ استجابَ منهم إليها فقال: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس: 25]، فكلُّ سلامةٍ مَنْشَؤُهَا منه، وتمامُها عليه، ونسبتُها إليه[5].

معنى الاسمِ في حَقِّ اللهِ تعالى[6]:
قال ابنُ كثيرٍ: «السَّلامُ أي: مِن جميعِ العيوبِ والنقائصِ لكمالهِ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ»[7].

وقال الألوسي في تفسيرهِ: «السَّلامُ ذو السَّلامةِ من كلِّ نقصٍ وآفةٍ»[8].

وقال البيهقيُّ: «السلامُ هو الذي سَلِمَ مِن كلِّ عيبٍ وَبرِئَ مِنْ كلِّ آفةٍ، وهذه صفةٌ يستحقُّها بذاتِهِ.

وقِيلَ: هو الذي سَلِمَ المؤمنون من عقوبتِه»[9].

وقال القرطبيُّ: «(السَّلامُ) أي: ذو السلامةِ من النقائصِ».

ونَقَلَ عن ابنِ العربِيِّ قَولَهُ: «اتفقَ العلماءُ - رحمةُ اللهِ عليهم - على أَنَّ معنى قولِنا في اللهِ (السَّلام) النِّسْبَةُ، تقديرُه ذو السَّلامةِ، ثم اختلفوا في ترجمةِ النِّسبةِ على ثلاثةِ أقوالٍ:
الأَول: مَعناهُ الذي سَلِمَ من كلِّ عيبٍ، وبَرِئَ مِن كلِّ نقصٍ.

الثَّاني: مَعناهُ ذو السَّلامِ؛ أي: الُمسلِّمُ على عبادهِ في الجَنَّةِ، كما قال: ﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58].

الثَّالثُ: أَنَّ مَعنَاهُ الذي سَلِمَ الخلْقُ مِن ظُلمِهِ.

قُلْتُ – أي: القرطبيُّ -: وهذا قولُ الخطابيِّ وعليه والذي قبْلَهُ يكونُ صِفَةَ فعلٍ، وعلى أنه البريءُ مِنَ العيوبِ والنقائصِ يكونُ صفةَ ذاتٍ، وقيل: السلامُ معناه المسلِّم لعبادِهِ»[10].

وقال ابنُ القيِّم في النُّونيةِ:
وَهُوَ السَّلامُ على الحقيقةِ سالمٌ
مِنْ كلِّ تمثيلٍ ومِن نُقصانِ[11]





ثَمراتُ الإِيمَانِ بِهَذَا الاسم[12]:
1- الله سبحانه وتعالى هو (السَّلامُ):
أي: السَّالِـمُ من كلِّ نقصٍ وآفةٍ وعيبٍ، فمعناه قريبٌ من القُدُّوسِ.

وقيل: إِنَّ القُدُّوسَ: إِشارةٌ إلى براءته عن جميعِ العيوبِ في الماضي وَالْحَاضرِ، والسَّلامُ: إِشارةٌ إلى أنه لا يطرأُ عليه شيءٌ من العيوبِ في الزَّمانِ المستقبلِ، فإِنَّ الذي يَطرأُ عليه شيءٌ من العيوبِ تزولُ سلامتُه ولا يبقى سليمًا[13].

2- سلامُ اللهِ علَى أَهلِ الجَنَّةِ:
اللهُ سُبحانَهُ هو الُمسَلِّم على عبادِهِ وأوليائِهِ في الجَنَّة، قال تعالى: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ [إبراهيم: 23].

وقال سبحانه: ﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب: 44].

وقال: ﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58].

فالله تعالى يُحيِّي عبادَهُ في الجَنَّةِ بالسَّلامِ عليهم، والجَنَّةُ هي دارُ السَّلامِ من الموتِ والمرضِ وسائرِ الآفاتِ.

قال تعالى: ﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الأنعام: 127].

وقال: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ [يونس: 25].

3- سَلامُ اللهِ عَلَى الأنبيَاءِ والمرسلينَ:
واللهُ تعالى هو المُسَلِّم على أنبيائِهِ ورُسلِه، لإيمانِهم وإِحْسَانِهمْ وطاعتِهم له وتحمُّلِهم في سبيلِه أعظمَ الشدائِد، فيؤمِّنُهم في الآخرةِ فلا يخافون ولا يفزعون.

وقِيْلَ: سلَّم اللهُ تعالى عليهم ليقتديَ بذلك البشرُ فلا يذكرُهم أحدٌ بسوءٍ[14].
قال تعالى: ﴿ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات: 79].
وقال: ﴿ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 109].
وقال: ﴿ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات: 120].
وقال: ﴿ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ [الصافات: 130].
وقال: ﴿ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 181].
وقال سبحانه: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل: 59].

قال الخطابيُّ: «أخبرني أحمدُ بنُ إبراهيمَ بنِ مالكٍ، حدثنا موسى بنُ إسحاقَ الأنصاريُّ، عن صدقةَ بنِ الفَضْلِ قال: سمعتُ سفيانَ بنَ عُيينةَ يقولُ: أوحشُ ما تكونُ الخلقُ في ثلاثةِ مواطنَ: يومَ يُولدُ فيرى نفسَهُ خارجًا مما كانَ، ويومَ يموتُ فيرى قومًا لَمْ يكنْ عايَنَهُمْ، ويومَ يُبعثُ فيرى نفسَهُ فِي مَحْشرٍ عظيمٍ.

قال: «فأكرمَ اللهُ فيها يحيى فخصَّهُ بالسَّلامِ فقال: ﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 15]، كأنه أشار إلى أَنَّ اللهَ جَلَّ وعزَّ سلَّم يَحيى مِنْ شرِّ هذه المواطنِ الثلاثةِ، وأمَّنه مِن خوفِها»[15].

وكذا عبادَهُ المؤمنين فإِنَّ الملائِكَةَ تسلِّمُ عليهم عند قبضِ أرواحِهم وتُطَمْئِنُهم وتؤمِّنُهم؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 32]، فالملائكة تُبشّرُهم بالفوزِ بالجَنَّةِ والنجاةِ من عقابِ اللهِ والنارِ.

4- الأمرُ بإِفشاءِ هذا الاسمِ، وأنه سببٌ في دخولِ الجنَّةِ:
وقد وَرَدَ الأمرُ مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بإفشاءِ السلامِ بين المسلمينَ، كما جَاءَ في حديثِ أبي هُريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»[16].

قال النَّوويُّ: «وفيه الحَثُّ العظيمُ على إفشاءِ السَّلامِ وبذلِهِ للمسلمين كلِّهم مَنْ عرفْتَ ومَنْ لم تَعرِفْ».

وقال: «والسَّلامُ أوَّلُ أسبابِ التآلفِ، ومِفتاحُ استجلابِ الَمودَِّةِِ، وفي إفشائِه تَمَكُّنُ أُلفةِ المسلمينَ بعضِهم لبعضٍ، وإظهارُ شعارِهم الُمميِّزِ لهم عَنْ غيرِهم من أهلِ الِمللِ، مع ما فيه مِن رياضةِ النفسِ، ولزومِ التواضُعِ، وإعظامِ حُرماتِ المسلمين» اهـ[17].

وإِفشاءُ السَّلامِ مِن شعائرِ الإسلامِ العظيمةِ التي يتهاونُ فيها كثيرٌ مِن المسلمين، وهي مِن أوائلِ ما دعا إليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عندما وَصَلَ إلى المدينةِ، فَعَنْ عَبْدِ الله بن سَلامٍ قَالَ: أوَّلَ ما قَدِمَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ انجفَلَ النَّاسُ إليه، فكنتُ فيمن جاءَهُ، فَلَمَّا تَأملتُ وجهَهُ واستثبتُّه علمتُ أَنَّ وجَهَهُ ليس بوَجهِ كذَّابٍ، قال: وكان أوَّلَ ما سمعتُ من كلامهِ أَنْ قَالَ: «أَيُّها النَّاسُ أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وصَلُّوا بِاللَّيْلِ والناسُ نِيامٌ تَدْخُلوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ»[18].

5- لاَ يُقَالُ السَّلامُ عَلَى الله:
جَاءَ ذَلِكَ في حديث عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: كُنَّا نُصلي خلفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فنقولُ: السَّلامُ على اللهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلامُ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ للهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّها النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»[19].

قال البيضاويُّ ما حاصِلُهُ؛ أنه صلى الله عليه وسلم أنكرَ التسليمَ على اللهِ، وبيَّن أَنَّ ذلكَ عكسُ ما يجبُ أَنْ يُقالَ، فإِنَّ كلَّ سلامٍ ورحمةٍ له ومنه وهو مالِكُها ومُعطِيها[20].

وقال الخطابيُّ: «الُمرادُ أَنَّ اللهَ هو ذو السَّلامِ، فلا تقولوا السلامُ على اللهِ؛ فإنَّ السَّلامَ منه بَدَأَ وإليه يعُودُ»[21].

ولذلك أَمَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسلمينَ أَنْ يقولوا: التَّحياتُ لله.

قال ابنُ حَجرٍ: «جمعُ تحيَّةٍ، ومعناها السَّلامُ، وقيل: البقاءُ، وقِيل: العظمَةُ، وقيل: السَّلامةُ من الآفاتِ والنقصِ، وقيل: الُملْكُ».

وقال ابنُ قُتيبةَ: «لَمْ يَكُنْ يُحيَّا إلا الملِكُ خاصَّةً، وكان لكلِّ مَلِكٍ تحيةٌ تخصُّهُ فلهذا جُمِعَتْ، فكان المعنى: التحيَّاتُ التي كانوا يُسَلِّمُون بها على الملوكِ كلُّها مُسْتحِقَّةٌ للهِ».

وقال المحبُّ الطبريُّ: «يُحتمل أَنْ يكونَ لفظُ التحيةِ مشتركًا بين الَمعَانِي المقدَّمِ ذكْرُها، وكونُها بمعنى السَّلامِ أنسَبُ هُنَا»[22].

وَجَاءَ في حديثِ أنسٍ قال: قال جبريلُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إن الله يُقرِئُ خديجةَ السَّلامَ – يعني: فَأَخْبِرْها - قالت: إِنَّ الله هُوَ السَّلَامُ، وَعَلَى جِبْرِيلَ السَّلامُ وعليك يا رسولَ اللهِ السلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه[23].

قَالَ العُلَمَاءُ: في هذه القصةِ دليلٌ عَلَى وُفُورِ فقهِها لأنها لم تَقُلْ «وَعَلَيْهِ السَّلامُ» كما وقع لبعضِ الصحابة حيثُ كانوا يقولون في التَّشَهُّدِ «السَّلامُ على اللهِ» فنهاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَعَرَفَتْ خَدِيْجَةُ رضي الله عنها لصِحَّةِ فهمِها أَنَّ الله لا يُردُّ عليه السَّلَامُ كما يُردُّ على المخلوقينَ؛ لأَنَّ السَّلامَ اسمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الله تَعَالَى.

المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ:
ما حقيقةُ هذِهِ اللَّفظةِ؟ حقيقتُها البراءةُ والخَلاصُ والنَّجاةُ منْ الشَّرِّ والعيوبِ، وعلى هذا المعنى تدورُ تصاريفُها فمِنْ ذلك، قولك: سلَّمكَ اللهُ وسَلِمَ فلانٌ من الشرِّ.

ومنه دعاءُ المؤمنينَ على الصِّراطِ: رَبِّ سلِّمْ، اللهُمَّ سلِّم[24].

ومنه سَلِمَ الشيءُ لِفلانٍ؛ أي: خَلَصَ له وَحْدَهُ، فخَلُصَ مِن ضَرَر الشَّركةِ فيه قال تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ [الزمر: 29]؛ أي: خالصًا له وَحْدَهُ لا يَملكُه معه غيرُهُ.

ومنه السَّلْمُ ضدُّ الحربِ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا [الأنفال: 61]؛ لأَنَّ كُلًّا مِنَ المتحارِبَيْنِ يَخلصُ ويسْلَمُ مِن أذى الآخرِ؛ ولهذا يُبنى منه على المفاعَلَةِ، فيقال: المسالَمةُ، مثلُ المشاركَةِ.

ومنه القلبُ السَّليمُ وهو النقِيُّ من الغِلِّ والدَّغَلِ، وحقيقتُه الذي قد سَلِمَ للهِ وَحْدَهُ، فَخَلُصَ مِن دَغَلِ الشِّركِ وِغِلِّهِ، ودَغَلِ الذُّنوبِ والمُخَالفاتِ، بَلْ هُوَ المستقيمُ على صِدْقِ حُبِّهِ، وحُسْنِ معاملته، فهذا هو الذي ضمِنَ لَهُ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِهِ، وَالفوزَ بكرامتِهِ.

ومنه أُخِذَ الإسلامُ فإنَّه مِن هذه المادَّةِ؛ لأَنَّه الاستسلامُ والانقيادُ للهِ، والتخلُّصُ مِن شوائبِ الشِّركِ فَسَلِمَ لربِّهِ، وخَلَصَ له كالعبدِ الذي سَلِمَ لمولاه ليس فيه شُرَكاءُ مُتَشَاكِسُونَ، ولهذا ضربَ سُبحَانَهُ هذين المَثَلَيْنِ للمُسلمِ المُخلَصِ الخالِصِ لربِّه والمؤمنِ به.

ومنه السَّلَمُ للسَّلَفِ، وحقيقته العِوَض الُمسلَّم فيه؛ لأَنَّ مَنْ هو في ذِمَّتِهِ قد ضمِنَ سلامتَهُ لربِّه، ثم سُمِّي العَقدُ سَلمًا وحقيقتُه ما ذكرناه.

فإن قيل: فهذا ينتقضُ بقولِهم للَّدِيغِ: سليمًا، قيل: ليسَ هذا بنقضٍ له، بل طردٌ لِما قُلناهُ فإنهم سَمَّوْهُ سليمًا باعتبار ما يَهمُّه ويطلُبُه، ويرجو أَنْ يؤول إليه حالهُ مِن السَّلامَةِ، فليسَ عنده أهمُّ مِن السَّلامةِ، ولا هو أشَدُّ طلبًا منه لغيرِها، فسُمِّى سليمًا لذلك.

وهذا مِن جنْس تسميتِهم المَهْلَكةَ مَفَازةً؛ لأنه لا شَيْءَ أَهَمُّ عند سالِكِهَا مِن فوزهِ منها؛ أي: نجاتِهِ، فَسُميتْ مفازةً لأنه يطلبُ الفَوزَ منها، وهذا أحسنُ مِن قولهم: إنما سُمِّيَتْ مفازةً وسُمِّي اللديغُ سليمًا تفاؤلًا، وإنْ كان التفاؤلُ جُزْءَ هذا المعنى الذي ذكرناهُ وداخلًا فيه؛ فهو أعمُّ وأحسَنُ.

فإِنْ قِيلَ: فكيف يُمكنكُم ردُّ السُّلَّمِ إلى هذا الأصل، قيل: ذلك ظاهرٌ، لأن الصَّاعِدَ إلى مكانٍ مُرتفعٍ لمَّا كان مُتعرِّضًا للهَوِيِّ والسُّقوطِ طالبًا للسَّلامةِ راجيًا لها، وسُمِّيتِ الآلةُ التي يَتوصَّلُ بها إلى غَرَضِهِ سُلَّمًا لتضمّنِها سلامَتهُ، إذ لو صَعَدَ بتكلُّفٍ من غير سُلَّمٍ لكانَ عَطبُه متوقعًا، فَصَحَّ أَنَّ السُّلمَ من هذا المعنى.

ومنه تسميةُ الجَنَّةِ بدارِ السلام وفي إضافتِها إلى السَّلامِ ثلاثَةُ أقوالٍ:
أحدهما: أنها إضافةٌ إلى مالِكها السَّلامِ سُبْحَانَهُ.

الثاني: أنها إضافةٌ إلى تحيَّةِ أهلِها فإِنَّ تحيَّتَهُم فيها سَلامٌ.

الثالث: أنها إضافةٌ إلى معنى السَّلامَةِ؛ أي: دارِ السَّلامةِ من كلِّ آفةٍ ونقصٍ وشَرٍّ، والثلاثةُ متلازِمَةٌ.

وإِنْ كَان الثالثُ أظهرَها؛ فإنه لو كَانتِ الإضَافَةُ إِلَى مالِكها لأضيفتْ إلى اسمٍ من أسمائِهِ غيرِ السَّلامِ، وكان يُقال دارُ الرحمنِ، أو دارُ اللهِ، أو دارُ الَملكِ، ونَحْوُ ذَلِكَ.

فإذا عُهِدَتْ إضافتُها إليه، ثم جاء دَارَ السَّلامِ حُمِلَتْ على المَعْهُودِ، وأيضًا فإنَّ المعهودَ في القرآنِ إضافتُها إلى صفتِها، أو إلى أهلِها.

أما الأول: فنحوُ دارِ القرار، دار الخُلدِ، جَنَّةِ المأوى، جَنَّاتِ النَّعيمِ، جنَّاتِ الفردوسِ.

وأما الثاني: فنحوُ دارِ المتقين، ولم تُعهدْ إضافتُها إلى اسمٍ من أسماءِ اللهِ في القرآنِ؛ فالأَوْلى حَمْلُ الإِضافةِ على المعهودِ في القرآنِ، وكذلك إِضَافَتُهَا إلى التحيَّةِ ضعيفٌ مِن وجهين:
أحدُهما: أَنَّ التحيَّةَ بالسَّلامِ مشتركةٌ بين دارِ الدُّنيا والآخرةِ وما يُضافُ إلى الجَنَّةِ لا يكونُ إلا مُختصًّا بها كالخُلدِ والقَرارِ والبقاءِ.

الثاني: أَنَّ مِن أَوْصَافِها غيرِ التحيَّةِ ما هو أكْملُ منها؛ مثلُ كونِها دائمةً وباقيةً ودارَ الخُلدِ، والتحيَّةُ فيها عارضةٌ عند التلاقي والتزاور بخلافِ السَّلامةِ مِن كل عيبٍ ونقصٍ وشرٍّ، فإنها مِن أكْمَلِ أوصافِهَا المقصودةِ على الدَّوامِ، التي لا يتمُّ النعيمُ فيها إلا بِهِ فإِضَافتُها إليه أَوْلَى وهذا ظَاهِرٌ[25].

فإذا عُرِفَ هذا فإطلاقُ السَّلامِ على اللهِ تعالى اسمًا مِن أسمائِهِ هو أَوْلى مِن هذا كلِّه، وأحقُّ بهذا الاسمِ مِن كلِّ مُسمًّى به لِسلامتِهِ سُبحانه مِن كلِّ عيبٍ ونقصٍ، مِن كلِّ وَجْهٍ.

فَهُوَ السَّلامُ الحقُّ بكلِّ اعتبارٍ والمخلوقُ سلامٌ بالإضافةِ فهو سُبحانه سَلَامٌ في ذاتِهِ عن كل عيبٍ ونقصٍ يتخيَّله وَهْمٌ، وسلامٌ في صفاتِهِ مِن كلِّ عيبٍ ونقصٍ، وسلامٌ في أفعالِهِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ وشرٍّ وظُلْمٍ وفعْلٍ واقعٍ على غيرِ وَجْهِ الحكمةِ، بل هو السَّلامُ الحقُّ مِنْ كُلِّ وجهٍ وبكلِّ اعتبارٍ، فعُلِم أن استحقاقَهُ تعالى لهذا الاسمِ أكملُ مِن استحقاقِ كل ما يُطلقُ عليه.

وهذا هو حقيقةُ التَّنزيهِ الذي نَزَّهَ بِهِ نفسَهُ، ونزَّهَهُ به رسولُه فهو السَّلامُ من الصاحبةِ والولدِ، والسَّلامُ مِن النَّظيرِ والكُفْءِ والسَّمِيِّ والمماثلِ، والسَّلامُ مِن الشَّريكِ.

ولذلك إذا نظرتَ إلى أفرادِ صفاتِ كمالِهِ وَجَدْتَ كُلَّ صِفَةٍ سلامًا مِمَّا يُضَادُّ كَمَالَها؛ فَحياتهُ سلامٌ مِنَ الموتِ، ومِن السِّنَةِ والنومِ، وكذلك قيوميَّتُه، وقُدْرتُهُ سَلامٌ مِن التَّعَبِ واللُّغُوبِ، وعِلْمُه سلامٌ مِن عُزوبِ شيءٍ عنه أو عُروضِ نسيانٍ أو حاجةٍ إلى تذكُّرٍ وَتَفَكُّرٍ، وإرادتُهُ سلامٌ مِنْ خُروجِها عَنِ الحكمةِ والمَصلَحةِ، وكلماتُه سلامٌ مِن الكَذِبِ والظُّلمِ، بل تَمَّتْ كلماتُه صِدقًا وعَدْلًا، وغِناه سلامٌ مِن الحاجةِ إلى غيرِهِ بوجهٍ ما، كلُّ ما سِواه مُحتاجٌ، وهو غنيٌّ عَن كلِّ ما سِواه، ومُلْكُهُ سلامٌ مِن مُنازِعٍ فيه، أو مشارِكٍ أو مُعاوِنٍ مُظاهِرٍ أو شافعٍ عنده بدونِ إذنهِ، وإلهيَّتُه سلامٌ مِن مُشارِكٍ له فيها، بل هو اللهُ الذي لا إله إلا هو، وحِلْمُهُ وعفوهُ وصفحُهُ ومغفرتُهُ وتجاوزُه سلامٌ مِن أَنْ تكُونَ عن حاجةٍ منه أو ذُلٍّ أو مُصانعةٍ كما يكُونُ مِن غيرهِ، بل هو مَحْضُ جُودِهِ وإحسانِهِ وَكَرَمِهِ، وكذلك عذابهُ وانتقامهُ وشدَّةُ بطشِه وسرعةُ عقابِه سلامٌ مِن أَنْ يكُون ظُلمًا أو تَشَفِّيًا أو غِلْظَةً أو قسوةً، بل هو محضُ حكمتِهِ وعَدْلِهِ، وَوَضْعُهُ الأَشْيَاءَ مواضِعَها وهو مما يستحقُّ عليه الحمْدَ والثناءَ كما يستحقُّه على إحسانهِ وثوابِهِ ونِعَمِهِ، بل لو وُضِعَ الثَّوابُ موضِعَ العقوبةِ لكان مُناقِضًا لحِكْمَتِهِ ولعزَّتِهِ، فوضْعُه العقوبةَ موضعَها هو مِن حمْدِه وحِكْمَتِهِ وَعِزَّتِهِ فَهُوَ سَلَامٌ مِمَا يَتوَهَّمُ أعداؤه والجاهلون به مِن خِلافِ حكمتِهِ.

وقضاؤُهُ وقدرُهُ سلامٌ مِن العبثِ والجَوْرِ والظُّلْمِ ومِنْ تَوهُّمِ وقوعِهِ على خلافِ الحكمةِ البالغةِ، وشرعُهُ ودينُهُ سلامٌ مِن التناقضِ والاختلافِ والاضطرابِ، وخلافِ مصلحةِ العبادِ ورحمتِهم، والإحسانِ إليهم وخلافِ حكمتِهِ. بل شرعهُ كلُّه حكمةٌ وَرحمةٌ ومصلحةٌ وعدلٌ، وكذلك عطاؤهُ سلامٌ من كونِهِ معارضةً أو لحاجةٍ إلى الُمعطِي، ومَنْعُهُ سلامٌ من البُخْلِ وخَوفِ الإملاقِ، بل عطاؤهُ إحسانٌ محضٌ لا لمعارضةٍ ولا لحاجةٍ، ومَنْعُهُ عدلٌ مَحْضٌ وَحِكْمَةٌ لا يَشُوبُهُ بُخْلٌ ولا عَجْزٌ، واستواؤهُ وعلوُّهُ على عَرشِهِ سلامٌ مِن أَنْ يكونَ مُحتاجًا إلى ما يحمله أو يستوي عليه، بل العرشُ محتاجٌ إليه وحَمَلَتُهُ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فهو الغَنيُّ عَن العرشِ وعن حَمَلَتِهِ وعن كلِّ ما سِواهُ فهو استواءٌ وعلوٌّ لا يَشُوبُهُ حَصْرٌ، ولا حاجةٌ إلى عرشٍ ولا غيرِهِ، وَلَا إِحَاطةِ شيءٍ به سبحانه وتعالى، بل كان سُبحانه ولا عرشَ ولم يكن به حاجةٌ إليه وهو الغَنِيُّ الحَمِيدُ بِلْ استواؤُهُ على عرشِهِ واستيلاؤهُ على خلقِهِ مِن موجباتِ مُلكِهِ وقَهْرِه مِن غيرِ حاجةٍ إلى عَرْشٍ ولا غَيْرِهِ بوجهٍ ما، ونزولُه كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدُّنْيَا سلامٌ مما يُضادُّ علوَّه وسلامٌ مما يضادُّ غناه، وكمالُهُ سلامٌ مِن كلِّ ما يَتوهَّمُ مُعَطِّلٌ أو مشبِّهٌ وسَلامٌ مِن أَنْ يَصِيرَ تَحتَ شيءٍ، أو مَحْصُورًا في شيءٍ، تعالى اللهُ ربُّنا عن كلِّ ما يُضادُّ كمالَهُ وغِناه وسَمْعَهُ وبَصَرَهُ، سلامٌ مِن كلِّ ما يتخيَّلُه مُشَبِّهٌ، أو يتقوَّلَهُ مُعَطِّلٌ، وموالاتُهُ لأوليائِهِ سلامٌ مِن أَنْ تكونَ عن ذُلٍّ كما يوالي المخلوقُ المخلوقَ، بل هي موالاةُ رحمةٍ وخيرٍ وإحسانٍ وبرٍّ.

كما قال: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ [الإسراء: 111]، فَلم يَنفِ أَنْ يَكونَ له وليٌّ مطلقًا، بل نفى أَنْ يكونَ له وليٌّ مِن الذُّلِّ.

وكذلك محبتُه لمحبِّيهِ وأوليائِهِ سلامٌ مِن عوارضِ محبَّةِ المخلوقِ للمخلوقِ؛ مِن كونِهَا محبَّةَ حاجةٍ إليه، أو تملُّقًا له، أو انتفاعًا بقُربهِ، وسلامٌ مما يتقوَّلُهُ المعطِّلُون فيها، وكذلك ما أضافه إلى نفسِه مِن اليدِ والوجهِ فإنه سلامٌ عَمَّا يتخيّلُهُ مشبِّهٌ، أو يتقوَّلُهُ مُعطِّلٌ.

فتأمَّلْ كيف تضمَّنَ اسمُه السلامُ كلَّ ما نُزِّهَ عنه تبارك وتعالى، وكم مِمَّنْ حَفِظَ هذا الاسمَ لا يَدري ما تَضَمَّنهُ مِن هذهِ الأسرار والمعاني، والله المستعان المسؤول أنْ يُوفِّقَ للتعليقِ على الأسماء الحسنى على هذا النمطِ إنه قريبٌ مجيبٌ[26].

هل السلامُ مَصْدرٌ؟
فالجواب: أَنَّ السَّلامَ الذي هو التحيَّةُ اسمُ مصدرٍ، ومنه المصدرُ الجاري عليه تَسليمٌ كعلَّمَ تعليمًا، وفهَّم تفهيمًا وكلَّمَ تكليمًا، والسَّلامُ مِن سلَّم كالكلام من كلَّمَ.

فإن قِيلَ: وما الفرقُ بين المصدرِ والاسمِ؟
قلنا: بينهما فرقانِ: لفظيٌّ ومعنويٌّ:
أمَّا اللفظيُّ: فإِنَّ المصدَر هو الجارِي على فعلِه الذي هو قياسُه كالإفعالِ مِن أفعل، والتفعيل من فَعّل، والانفعال مِن انفعَل، والتفعلُل مِن تفعلل وبابِه، وأما السَّلام والكلام، فليسا بجاريين على فِعْلَيْهما، ولو جريا عليه لقيل: تسليمٌ وتكليمٌ.

وأما الفرقُ المعنويُّ: فهو أَنَّ المصدرَ دالٌّ على الحَدَثِ وفاعلِه، فإذا قُلْتَ: تكليمٌ وتَسْلِيمٌ وَتَعْليمٌ ونحوُ ذلك دَلَّ على الحدَثِ ومَنْ قام به فيدلُّ التسليمُ على السَّلامِ والُمسلِّمِ، وكذلك التكليمُ والتعليمُ.

وأما اسمُ الَمصْدرِ فإنَّما يدلُّ على الحَدَثِ وَحْدَهُ، فالسَّلامُ والكلامُ لا يدلُّ لفظُه على مُسلِّمٍ ولا مكلِّمٍ بِخلاف التكليمِ والتسليمِ، وسرُّ هذا الفرْقِ أَنَّ المصدرَ في قَولِك سلَّم تسليمًا وكلَّم تكليمًا بمنزِلَةِ تكرارِ الفعلِ، فكأنَّك قلتَ سلَّمَ سلَّمَ وتكلَّمَ تكلَّمَ، والفعلُ لا يخلو عن فاعِله أبدًا، وأما اسمُ المصدرِ فإنَّهم جرَّدُوه لمجرَّدِ الدَّلالةِ على الحدَثِ.

وهذه النُّكتةُ مِن أسرارِ العربيَّةِ، فهذا السلام الذي هو التحيَّةُ.

وأما السَّلامُ الذي هو اسمٌ مِن أسماءِ الله ففيه قولانِ:
أحدُهما: أَنَّهُ كذلك اسمُ مصدرٍ، وإطلاقُه عليه كإطلاقِ العَدْلِ عليه، والمعنى: أَنَّهُ ذو السَّلامِ، وذو العَدْلِ على حذفِ المضافِ.

والثاني: أَنَّ المَصدَر بمعنى الفاعلِ هنا؛ أي: السَّالمِ، كما سُمِّيَتْ ليلةُ القدرِ سَلامًا؛ أي: سالمةٌ مِنْ كُلِّ شَرٍّ، بل هي خيرٌ لا شرَّ فيها، وأحسَنُ مِن القولين وأقيسُ في العربيةِ أَنْ يكُونَ نفسُ السَّلامِ مِن أسمائِهِ تعالى كالعدلِ، وهو مِن باب إطلاقِ المَصْدرِ على الفاعِلِ لكونِهِ غَالِبًا عليه مُكرَّرًا منه؛ كقولِهم رُجُلٌ صومٌ وعدلٌ وزورٌ وبابِهِ.

وأما السلامُ الذي هو بمعنى السَّلامةِ فهو مصدرُ نفسِه، وهو مثلُ الجلالِ والجلالةِ، فإذا حَذفْتَ التَّاءَ كان المرادُ نفسَ المصدرِ، وإذا أتيتَ بالتاءِ كان فيه إيذانٌ بالتحديدِ بالمرَّةِ مِن المَصْدَرِ كالحَبِّ، والحَبَّةِ.

فالسلامُ والجمالُ والجلال كالجِنسِ العامِّ مِن حيثُ لم يكُنْ فيها تاءُ التحديدِ.

والسلامةُ والجلالةُ والملاحةُ والفصَاحةُ كلُّها تدلُّ على الخَصلةِ الواحدةِ. ألا ترى أن الملاحَةَ خَصلةٌ مِن خصالِ الكمالِ، والجلالَةَ مِن خِصال الجلالِ. ولهذا لم يقولوا: كمالةٌ كما قالوا: ملاحةٌ وفصاحةٌ، لأَنَّ الكمالَ اسمٌ جامعٌ لصفاتِ الشَّرفِ والفَضْلِ، فلو قالوا: كمالةٌ لنقَضُوا الغرضَ المقصودَ من اسمِ الكمالِ فتأمَّلْهُ، وعلى هذا جاءَ الحلاوةُ والأصالةُ والرزانَةُ والرَّجاحَةُ، لأنها خَصْلَةٌ مِن مُطْلقِ الكمالِ والجمالِ محدودةٌ، فجاءوا فيها بالتَّاءِ الدالةِ على التحديدِ، وعكسُه الحماقةُ والرّقاعَةُ والنذالةُ والسَّفاهةُ فإنها خِصالٌ محدودةٌ من مطلقِ العيبِ والنقصِ، فجاءوا في الجنسِ الذي يَشملُ الأنواعَ بغيرِ تاءٍ، وجاءوا في أنواعهِ وأفرادهِ بالتاءِ وقد تَقَدَّمَ تقريرُ هذا المعنى، وأيضًا فلا حاجةَ إلى إِعادتِهِ.

فتأمَّلْ الآنَ كيفَ جاء السَّلامُ مجرَّدًا عن التَّاءِ إيذانًا بحُصولِ المُسمَّى التَّامِ، إذْ لا يَحْصُلُ المقصودُ إلا به؛ فإنَّهُ لو سَلِمَ مِن آفةٍ ووقع في آفةٍ لم يكنْ قد حَصَل له السلامُ، فوضحَ أَنَّ السَّلامَ لم يَخْرُجْ عن المصدريَّةِ في جميعِ وجوهِهِ.

فإن قيل: فما الحكمةُ في مجيئهِ اسمَ مصدرٍ ولم يجئْ على أَصلِ الَمصْدَرِ؟
قيلَ: هذا السِّرُّ بديعٌ، وهو أَنَّ المقصودَ الحصولُ مُسَمَّى السَّلامةِ للمُسلَّمِ عليه على الإطلاقِ من غيرِ تقييدٍ بفاعلٍ، فلمَّا كان المرادُ مطلقَ السَّلامةِ مِن غيرِ تعرُّضٍ لفاعلٍ أَتَوْا باسم المصدرِ الدَّالِّ على مجردِ الفعلِ، ولم يأتوا بالمصدَرِ الدالِّ على الفعلِ والفاعلِ معًا فتأمَّلْهُ[27].

هل قَولُ الُمسلمِ سلامٌ عليكم هل هو إنشاءٌ أم خبرٌ؟
فجوابُه: أَنَّ هذا ونحوَهُ مِن ألفاظِ الدُّعاءِ مُتضمِّنٌ للإنشاءِ والإِخبارِ فجهةُ الخبريَّةِ فيه لا تُناقِضُ جهةَ الإنشائيةِ، وهذا موضعٌ بديعٌ يحتاجُ إلى كشفٍ وإيضاح.

فنقولُ: الكَلامُ له نِسبتانِ: نسبةٌ إلى المتكلَّمِ به نفسِه، ونسبةٌ إلى المتكلَّم فيه إمَّا طلبًا، وإمَّا خَبرًا، وله نسبةٌ ثالثةٌ إلى المخاطَبِ لا يتعلَّقُ بها هذا الغرَضُ، وإنما يتعلَّقُ تحقيقُهُ بالنسبتين الأُوليَيْنِ فباعتبارِ تَيْنِكَ النِّسبتين نشأَ التقسيمُ إلى الخبرِ، والإِنشاءِ ويُعلمُ أين يجتمعانِ وأين يفترِقانِ، فله بنسبتِهِ إلى قصدِ المتكلِّمِ وإرادتِهِ لثبوتِ مضمونِه وصفُ الإِنشاءِ، وله بنسبتِهِ إلى الُمتكلَّم فيه والإعلامِ بتحقُّقِهِ في الخارجِ وَصْفُ الإِخبارِ، ثم تجتمعُ النسبتانِ في موضعٍ وتفترقانِ في موضعٍ، فكلُّ موضعٍ كان المعنى فيه حاصلًا بقصْدِ المتكلِّم وإرادتِهِ فقط؛ فإنه لا يُجامعُ فيه الخبرُ الإنشاءَ نحو قوله: بعتُكَ كذا، ووهبتُكَهُ وأعتقتُ وطلَّقتُ، فإن هذه المعاني لم يثبتْ لها وجودٌ خارجيٌّ إلا بإرادةِ المُتَكلِّم وقصْدِه، فهي إنشاءاتٌ وخبريَّتُها مِن جهةٍ أخرى وهي تضمُّنُها إخبارَ المتكلِّمِ عن ثبوتِ هذه النسبةِ في ذهْنِهِ، لَكِنْ ليسَتْ هذه هي الخبريَّةَ التي وُضِعَ لها لفظُ الخَبرِ وكلِّ موضعٍ كان المعنى حاصلًا فيه مِن غيرِ جهةِ المتكلِّمِ.

وليس للمتكلِّمِ إلا دعاؤهُ بحصولِهِ ومحبَّتِهِ، فالخبرُ فيه لا يُناقِضُ الإنشاءَ وهذا نحو سلامٌ عليكم، فإن السلامةَ المطلوبَةَ لم تحصُلْ بفعل المسَلِّمِ، وليس للمسلِّمِ إلا الدعاءُ بها ومَحبَّتُها فإذا قال: سلامٌ عليكم تضمنَ الإِخبارَ بحصولِ السَّلامةِ والإنشاءَ للدُّعاءِ بها وإرادتِها وتمنِّيها، وكذلك ويلٌ له قال سيبويهِ: هو دعاءٌ وخبرٌ، ولم يَفهمْ كثيرٌ مِن الناسِ قولَ سيبويهِ على وجهِهِ، بل حرَّفوه عمَّا أراده به.

وإنما أراد سيبويهِ هذا المعنى؛ أنها تتضمَّنُ الإخبارَ بحصولِ الويلِ له مع الدعاءِ به، فتدبَّرْ هذه النُّكتةَ التي لا تجدُها محرَّرةً في غير هذا الموضعِ هكذا، بل تَجدُهم يُطلقون تقسيمَ الكلامِ إلى خبرٍ وإنشاءٍ مِن غيرِ تحريرٍ، وبيانٍ لمواضعِ اجتماعِهِمَا وافتراقِهما، وقد عَرفْتَ بهذا أن قولَهم سلامٌ عليكم وويلٌ له وما أشبه هذا أبلَغُ مِن إخراجِ الكلامِ في صورةِ الطَّلبِ المجرَّدِ نحوُ اللهُمَّ سلِّمْهُ[28].

ما معنى السلامِ المطلوبِ عند التَّحيَّةِ؟
ففيه قولانِ مشهورانِ:
أحدُهما: أَنَّ المعنى اسمُ السَّلامِ عليكم والسَّلامُ هنا هو اللهُ عز وجل، ومعنى الكلامِ: نزلَتْ بركةُ اسمِهِ عليكم، وحلَّتْ عليكم ونحْوُ هذا، واختيرَ في هذا المعنى من أسمائِهِ عز وجل اسمُ السَّلامِ دونَ غيرهِ من الأسماءِ لِما يأتي في جوابِ السُّؤالِ الذي بعدَهُ.

واحتجَّ أصحابُ هذا القولِ بحُجَجٍ؛ منها: ما ثبت في الصحيحِ: أنهم كانوا يقولون في الصَّلاةِ: السلامُ على الله قبل عبادِهِ، السلامُ على جبريلَ، السلامُ على فلانٍ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُولُوا السَّلَامُ عَلَى اللهِ؛ فَإِنَّ اللَه هُوَ السَّلامُ، وَلَكِنْ قُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحينَ»[29]، فنهاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يقولوا: السلامُ على اللهِ؛ لأَنَّ السلامَ على المسلَّمِ عليه دعاءٌ له، وطلَبُ أَنْ يَسْلَمَ، واللهُ تعالى هو المطلوبُ منه، لا المطلوبُ له، وهو المدعوُّ لا المدعوُّ له، فيستحيلُ أَنْ يُسلِّمَ عليه، بل هو المسلِّمُ على عبادِهِ كما سلَّم عليهم في كتابِهِ، حَيْثُ يقولُ: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 180، 181]، وقوله: ﴿ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 109]، ﴿ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ [الصافات: 79]، ﴿ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ[الصافات: 130]، وقال في يحيى: ﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ [مريم: 15]، وقال لنوحٍ: ﴿ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ [هود: 48].

ويُسلِّمُ يومَ القيامةِ على أهل الجَنَّةِ كما قال تعالى: ﴿ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 57، 58]، فقولًا منصوبٌ على المصدرِ، وفعلُه ما تضمَّنهُ سلامٌ مِن القولِ، لأَنَّ السلامَ قَوْلٌ.

قال تعالى: ﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [الأحزاب: 44]، فهذا تحيَّتُهم يَومَ يلقونَهُ تبارك وتعالى، ومُحالٌ أن تكونَ هذه تحيَّةً منهم له، فإنَّهم أعرَفُ به مِن أَنْ يُسَلِّموا عليه، وقد نُهوا عن ذلك في الدُّنيا، وإنما هذا تحيَّةٌ منه لهم.

والتحيَّةُ هنا مضافةٌ إلى المفعولِ فهي التحيَّةُ التي يُحيَّونَ بها، لا التحيَّةُ التي يُحَيُّونَهُ هم بها، ولولا قولُه تعالى في سورة يس: ﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58]، لاحتَملَ أن تكونَ التحيَّةُ لهم مِنَ الَملائِكَةِ كما قال تعالى: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 23، 24].

ولكِنْ هذا سلامُ الملائكةِ إذا دخلوا عليهم وهم في مَنازلهِم مِن الجَنَّةِ يَدْخلون مُسَلِّمين عليهم، وأما التحيةُ المذكورةُ في قولِهِ: ﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [الأحزاب: 44]، فتِلْكَ تحيَّةٌ لهُم وقتَ اللقاءِ كما يحيِّي الحبيبُ حبيبَهُ، إذا لَقِيَهُ، فماذا حُرِمَ المحجوبون عن ربِّهم يومئذٍ؟
يَكْفِي الَّذِي غَابَ عَنْكَ غَيْبَتُهُ
فَذَاكَ ذَنْبٌ عِقابُهُ فِيهِ




والمقصود أَنَّ اللهَ تعالى يُطلبُ منه السَّلامُ، فلا يمتنعُ في حقِّه أن يُسلِّم على عبادِهِ ولا يُطلبُ له، فلذلك لا يُسلَّمُ عليه، وقولُهصلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلامُ»[30] صريحٌ في كَونِ السلامِ اسمًا مِن أسمائِهِ، قالوا: فإذا قال الُمسْلمُ: سلامٌ عليكم كان معناها اسمُ السلامِ عليكم.

ومِنْ حُجَجِهِم ما رواه أبو داود مِن حديثِ ابن عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سلَّم على النبيِّصلى الله عليه وسلم وهوَ يَبُولُ، لم يَرُدَّ عليه حتى استَقبلَ الجدارَ، ثم تيمَّمَ وردَّ عليه وقال: «إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللهَ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ»[31]، قالوا: ففي هذا الحديثِ بيانُ أنَّ السلامَ ذِكْرُ الله، وإنما يكونُ ذِكْرًا إذا تضمَّن اسمًا مِن أسمائِهِ.

ومِن حُجَجهِم أيضًا، أَنَّ الكُفَّارَ مِنْ أَهْلِ الكتابِ لا يُبدؤون بالسَّلامِ[32]، فلا يقال لهم: سلام عليكم، ومعلوم أنه لا يُكره أن يُقالَ لأحدهم: سلَّمك الله، وما ذاك إلا أَنَّ السلامَ اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ، فلا يسوغُ أَنْ يُطلَبَ للكافرِ حصولُ بركةِ ذلك الاسمِ عليه، فهذه حُجَجٌ كما ترى قويَّةٌ ظاهرةٌ.

القول الثاني: أَنَّ السَّلامَ مصدرٌ بمعنى السَّلامةِ وهو المطلوبُ المدْعُوُّ به عِنْدَ التَّحيَّةِ.

ومن حُجَّةِ أصحابِ هذا القولِ أَنْ يُذكرَ بلا ألفٍ ولامٍ، بل يقولُ الُمسلمُ سلامٌ عليكم، ولو كان اسمًا مِن أسماءِ الله لم يُستعملْ كذلك.

بل كان يُطلقُ عليه مُعرَّفًا كما يُطلقُ عليه سائرُ أسمائهِ الحُسنى فيقالُ: السَّلامُ المؤمنُ الُمهيمنُ العزيزُ الجبَّارُ المتكبِّرُ، فإِنَّ التنكيرَ لا يصرِفُ اللفظَ إلى معيَّنٍ، فضلًا عن أَنْ يصرفَهُ إلى اللهِ وَحْدَهُ، بخلافِ المعرَّفِ فِإنه ينصرِفُ إليه تعيينًا إذا ذُكِرَتْ أسماؤهُ الحُسنى.

ومِنْ حُجَجِهم أيضًا أَنَّ عطْفَ الرَّحمةِ والبركةِ عليه في قولهِ: سلامٌ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُهُ يدلُّ على أَنَّ المرادَ به المصدرُ، ولهذا عَطفَ عليه مصدرين مثلَهُ، ومِن حُجَجِهم أيضًا أَنَّهُ لو كان السلامُ هنا اسمًا مِن أسماءِ اللهِ لم يستقِمِ الكلامُ إلا بإِضمارٍ وتقديرٍ يكونُ به مُقيَّدًا، ويكونُ المعنى: بركةُ اسمِ السَّلامِ عليكم.

فإِنَّ الاسمَ نفسَه ليسَ عليهم، ولو قُلتَ: اسمُ اللهِ عليك كان معناه بَركةَ هذا الاسمِ ونحوَ ذلك مِن التقديرِ، ومعلوم أَنَّ هذا التقديرَ خلافُ الأصلِ ولا دليلَ عليه.

ومِنْ حُججهم أيضًا أَنَّهُ ليس المقصودُ مِن السَّلامِ هذا المعنى، وإِنَّما المقصودُ منه الإيذانُ بالسَّلامةِ خبرًا ودُعاءً كما يأتي في جوابِ السؤالِ الذي بعد هذا.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15-02-2024, 11:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,934
الدولة : Egypt
افتراضي رد: السلام جل جلاله، وتقدست أسماؤه


ولهذا كان السلامُ أمانًا لِتَضَمُّنِهِ معنى السلامةِ وأمنِ كُلِّ واحدٍ مِن المسلِّم والرادِّ عليه مِنْ صاحبهِ.

قالوا: فهذا كلُّه يدلُّ على أَنَّ السلامَ مصدرٌ بمعنى السَّلامةِ، وحُذِفَتْ تاؤهُ، لأَنَّ المطلوبَ هذا الجنسُ لا المرَّةُ الواحِدةُ منه، والتاءُ تفيدُ التحديدَ كما تقدَّمَ.

وَفَصْلُ الخِطابِ في هذه المسألةِ أن يُقالَ: الحقُّ في مجموعِ القَولين فكلٌّ منهما بعضُ الحقِّ، والصوابُ في مجموعِهِما وإِنما نبيِّنُ ذلك بقاعدةٍ قد أشرْنا إليها مِرارًا؛ وهي أَنَّ مَن دَعا اللهَ بأسمائِهِ الحُسْنَى أن يسألَ في كلِّ مطلوبٍ ويتوسلَ إليه بالاسمِ المقتضِي لذلِكَ المطلوبِ المناسبِ لحصولِهِ.

حَتَّى كأنَّ الداعيَ مستشفِعٌ إليه متوسِّلٌ إليه به، فإذا قال: رَبِّ اغفرْ لي وتُبْ عليَّ إِنَّكَ أنتَ التَّوابُ الغفورُ، فقد سأله أمْرين وتوسَّلَ إليه باسمين مِن أسمائهِ مُقتَضيَين لحصُولِ مطلوبِهِ، وكذلك قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعائشةَ، وقد سأَلتْهُ ما تدعو به إِنْ وافقَتْ ليلةَ القَدْرِ: «قُولي: اللهُمَّ إنَّك عفوٌّ كريمٌ تُحِبُّ العفوَ فَاعْفُ عَنِّي»[33]، وكذلك قولُه للصِّدِّيقِ وقَدْ سأله أَنْ يُعلِّمَه دعاءً يدعو به: «اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ؛ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي؛ إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ»[34]، وهذا كثيرٌ جدًّا فلا نطوّلُ بإيرادِ شواهِدِهِ.

وإذا ثَبَتَ هذا فالمقامُ لـمَّا كان مقامَ طلبِ السَّلامةِ التي هي أهمُّ ما عندَ الرَّجُلِ، أتى في لفظِهَا بصيغةِ اسمٍ مِن أسماءِ اللهِ وهو السَّلامُ الذي يُطلبُ منه السَّلامةُ، فتضمَّنَ لفظ السلامِ معنيين:
أحدهما: ذكرُ اللهِ كما في حديث ابنِ عُمَرَ.

والثاني: طَلبُ السَّلامةِ وهو مقصودُ المسلِّم، فقد تضَمَّنَ سلامٌ عليكم اسمًا مِن أسماءِ اللهِ، وطلبَ السلامةِ منه[35].

إذا عُرِفَ هذا، فالحكمةُ في طلبهِ عند اللقاءِ دونَ غيرهِ مِن الدُّعاءِ، إنَّ عادةَ الناسِ الجارِيةَ بينهم أَنْ يُحيِّي بعضُهم بعضًا عند لقائِه، وكلُّ طائفةٍ لهم في تحيَّتهِم ألفاظٌ وأمورٌ اصْطَلَحُوا عليها.

وكانتِ العَربُ تقولُ في تحيَّتِهم بينهم في الجاهلية: أَنِعمْ صَباحًا، وأنعموا صباحًا، فيأتون بلفظةِ أنعموا مِن النَّعمةِ بفتح النون: وهي طيبُ العيشِ والحياةِ، ويَصِلونها بقولهِم صَباحًا؛ لأنَّ الصباحَ في أول النهارِ، فإذا حصلتْ فيه النَّعمةُ استصْحبَ حكمُها واستمرَّتِ اليومَ كلَّه؛ فخصُّوها بأولهِ إيذانًا لتعجيلِها وعدمِ تأخُّرِها إلى أَنْ يتعالى النَّهارُ.

وكذلك يقولون: أنعموا مساءً؛ فإِنَّ الزمانَ هو صباحٌ ومساءٌ، فالصَّباحُ في أولِ النهارِ إلى بعد انتصافِهِ، والمساءُ مِن بعدِ انتصافهِ إلى اللَّيلِ.

ولهذا يقولُ النَّاسُ: صبَّحك اللهُ بخيرٍ، ومسَّاك اللهُ بخيرٍ، فهذا معنى أنعم صباحًا ومساء، إلا أَنَّ فيه ذكرَ اللهِ.

وكانتِ الفُرسُ يقولون في تحيَّتهِم: (هزا رساله ميمابي)؛ أي: تعيشُ ألفَ سنةٍ.

وكُلُّ أمةٍ لهم تحيةٌ مِن هذا الجنْسِ أو ما أشبَهَهُ، ولهم تحيَّةٌ يخُصُّون بها مُلوكَهم مِن هيئاتٍ خاصَّةٍ عند دخولهِم عليهم، كالسُّجودِ ونحوهِ، وألفاظٌ خاصَّةٌ تتميَّزُ بها تحيَّةُ الملِكِ مِن تحيَّةِ السُّوقةِ، وكل ذلك مقصودُهم به الحياةُ ونعيمُها ودوامُها.

ولهذا سُمِّيَتْ تحيَّةً، وهي تَفعِلَةٌ مِن الحياةِ كتَكْرُمةٍ مِن الكرامةِ، لكِنْ أُدْغِمَ المثلان فصارَ تحيَّةً فشَرَعَ الملِكُ القدوسُ السلامُ تبارك وتعالى لأهلِ السَّلامِ تحيَّةً بينهم سَلامٌ عليكم، وكانت أوْلى مِن جميعِ تحيَّاتِ الأممِ، التي منها ما هو مُحَالٌ وكَذِبٌ نحوُ قولِهم تعيشُ ألفَ سَنةٍ، وما هو قاصِرُ المعنى، مثلُ أَنعِمْ صباحًا، ومنها ما لا ينبغي إلا للهِ مثلُ السُّجودِ، فكانت التحيَّةُ بالسلامِ أوْلى مِن ذلك كلِّه لتضمُّنهِا السَّلامةَ التي لا حياةَ ولا فلاحَ إلَّا بها، فهي الأصلُ المقدَّم على كلِّ شيءٍ.

ومقصودُ العبدِ مِن الحياةِ: إنما يحصُلُ بشيئينِ: بسلامتِهِ مِن الشَّرِّ، وحُصولِ الخَيرِ كُلِّه، والسَّلامةُ مِن الشرِّ مقدَّمةٌ على حُصولِ الخيرِ وهي الأصلُ، ولهذا إنما يَهتمُّ الإنسانُ بل كلُّ حيوانٍ بسلامتِهِ أولًا، ثم غنيمتِهِ ثانيًا.

على أَنَّ السَّلامَةَ الُمطلقَةَ تضمَّنُ حصولَ الخيرِ، فإِنَّهُ لو فاته حصَلَ له الهلاكُ والعَطَبُ أو النقصُ والضَّعْفُ، ففواتُ الخيرِ يمنعُ حصولَ السلامةِ الُمطلقةِ فتضمَّنَتِ السَّلامةُ نجاتَهُ مِن كلِّ شرٍّ وفوزَهُ بالخَيرِ.

فانتظمَ الأصلينِ اللذين لا تتمُّ الحياةُ إلا بهما مع كونِها مشتقَّةً مِن اسمهِ السَّلامِ ومُتضمّنةً له، وحُذِفتِ التاءُ منها لِما ذكرْنَا مِن إرادةِ الجنسِ لا السَّلامةِ الواحدةِ، ولمَّا كانتِ الجَنَّةُ دارَ السلامةِ مِن كل عيبٍ وشرٍّ وآفةٍ، بل قد سَلِمَتْ مِن كلِّ ما يُنغِّصُ العيشَ والحياةَ، كانت تحيةُ أهلِها فيها سلامٌ، والربُّ يحيَّيهم فيها بالسَّلامِ، والملائِكةُ يدخلونَ عليهم مِن كلِّ بابٍ سلامٌ عليكم بما صبرتُمْ فنِعم عُقبى الدَّارِ، فهذا سِرُّ التحيَّةِ بالسَّلام عند اللقاءِ.

وأما عند الُمكاتبةِ فلمَّا كان المراسِلان كلٌّ منهما غائبٌ عن الآخر، ورسولُه إليه كتابُه يقومُ مقامَ خِطابِهِ له، استَعمَلَ في مكاتبته له مِن السَّلامِ ما يَستعملُه معه لو خاطبَهُ لِقيامِ الكتابِ مقامَ الخِطَابِ[36].

وهنا سؤالٌ وهو ما سببُ تعدِيَةِ هذا المعنى بـ (على)؟
فجوابٌ بذكرِ مقدِّمةٍ؛ وهي: ما معنى قولِهِ سلَّمتُ. فإذا عُرف معناها عُرِفَ أَنَّ حَرْفَ «على» أليقُ به، فاعلم أَنَّ لفظَ سلَّمتُ عليه، وصليتُ عليه، ولعنتُ فلانًا موضوعُها ألفاظٌ هي جملٌ طلبيَّة، وليس موضُوعُها معاني مفردةً، فقولك: سلمتُ موضوعُه، قلتُ: السَّلامُ عليك، وموضوعُ صلّيتُ عليه، قلتُ: اللهم صلِّ عليه أو دعوتُ له، وموضوعُ لعنتُه قلتُ: اللهُمَّ العنْهُ.

ونظيرُ هذا سَبَّحتُ اللهَ قلتُ: سُبحانَ اللهِ، ونظيرُه وإِنْ كانَ مُشتقًّا من لفظِ الجُملَةِ هَلَّلَ إذا قال: لا إله إلا اللهُ، وحمدَلَ إذا قال: الحمدُ للهِ، وحوقَلَ إذا قال: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ، وحَيْعَلَ إذا قال: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، وبسمَلَ إذا قال: باسمِ اللهِ، قال:
وقد بَسْمَلَتْ ليلى غَدَاةَ لَقِيتُها
ألا حَبَّذا ذَاكَ الحبيبُ الُمبسْمِلُ




وإذا ثبتَ هذا فقولُك: سلَّمتُ عليه؛ أي: ألقيتُ عليه هذا اللَّفظَ وأوضعتُه عليه إيذانًا باشتمالِ معناه عليه، كاشتمالِ لباسِهِ عليه، وكان حرفُ (على) أليقَ الحروفِ به فتأمَّلْهُ.

وأما قولُهُ تعالى: ﴿ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة: 90، 91]، فليس هذا سلامَ تحيَّةٍ، ولو كان تحيَّةً لقال: فسلامٌ عليه كما قال: ﴿ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 109]، ﴿ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ [الصافات: 79].

ولكِنَّ الآيةَ تضمَّنَتْ ذِكْرَ مراتبِ النَّاسِ وأقسامِهم عند القيامةِ الصُّغرى حالَ القُدومِ على اللهِ، فذكرَ أنهم ثلاثةُ أقسامٍ: مُقرَّبٌ لَه الرَّوحُ والريحانُ وجَنَّةُ النعيمِ، ومُقتصِدٌ مِن أصحابِ اليَمينِ له السَّلامةُ، فوعده بالسَّلامةِ، ووعد المقرَّبَ بالغنيمةِ والفَوْزِ، وإِنْ كان كلٌّ منهما سَالمًا غَانِمًا، وظالمٌ بتكذيبهِ وضلالِهِ، فأوعده بنُزلٍ مِن حميمٍ وتَصْلِيَةِ جحيمٍ، فلمَّا لم يكُنِ المقامُ مقامَ تحيَّةٍ، وإنما هو مقامُ إخبارٍ عن حالهِ ذكرَ ما يحصُلُ له مِن السَّلامةِ. فإن قيل: فهذا فرقٌ صحيحٌ.

لكن ما معنى اللام في قوله ﴿ لَكَ ﴾؟ ومن هو المخاطَبُ بهذا الخطابِ؟ وما معنى حَرْفِ ﴿ مِنْ ﴾ في قولِهِ ﴿ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴾؟

فهذه ثلاثَةُ أسئلةٍ في الآية، قيل: قد وفَّينا بحمدِ اللهِ بذكرِ الفرقِ بين هذا السَّلامِ في الآية، وبين سلامِ التحيَّةِ وهو الذي كان المقصودَ.

وهذه الأسئلةُ وإنْ كانتْ مُتعلِّقةً بالآية فهي خارجةٌ عن مقصودِنا، ولكن نجيبُ عنها إكمالًا للفائدةِ بحولِ اللهِ وقوَّتِه، وإنْ كنَّا لم نرَ أحدًا مِن المفسِّرينَ شفى الغليلَ في هذا الموضِعِ، ولا كشفَ حقيقةَ المعنى واللفظِ، بل منهم مَنْ يقولُ المعنى فمُسلَّم لكَ أَنَّك مِن أصحابِ اليمينِ، ومنهُمْ مَنْ يقولُ غيرَ ذلك مما هو حرم على معناها مِن غيرِ وُرودٍ.

فاعلم أَنَّ المدعوَّ به مِن الخيرِ والشَّرِّ مضافٌ إلى صاحبهِ بلامِ الإضافةِ الدالة على حُصولِهِ له، ومن ذلك قولُه تعالى: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ [الرعد: 25]، ولم يَقُلْ عليهم اللعنةُ إيذانًا بحصولِ معناها وثُبوتِهِ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء: 18]، ويقولُ في ضدِّ هذا: لك الرَّحمةُ، ولك التَّحيَّةُ، ولك السَّلامُ، ومنه هذه الآيَةُ ﴿ فَسَلَامٌ لَكَ [الواقعة: 91]؛ أي: ثبتَ لك السَّلامُ وحصلَ لك، وعلى هذا فالخِطَابُ لكلِّ مَنْ هُوَ مِنْ هذا الضَّربِ فهو خِطابٌ للجنسِ؛ أي: فسَلامٌ لك يا مَنْ هو مِنْ أصحابِ اليمين، كما تقول: هنيئًا لك يا مَنْ هو مِنْهُمْ، ولهذَا - واللهُ أعلمُ - أتى بحرفِ «مِن» في قوله: ﴿ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة: 91]، والجارُّ والمجرُورُ في موضعِ حالٍ؛ أي: سلامٌ لك كائنًا مِن أصحابِ اليمينِ، كما تقول: هنيئًا لك مِن أتباعِ رسولِ اللهِ وحزبهِ؛ أي: كائنًا منهم، والجارُّ والمجرورُ بعد المعرفة ينتصبُ على الحالِ كما تقول: أحببتُك مِن أهلِ الدِّينِ والعِلمِ؛ أي: كائنًا منهم، فهذا معنى هذه الآية، وهو وإِنْ خلَتْ عنه كُتُبُ أهلِ التَّفْسيرِ، فقد حام عليه منهم مَنْ حام وما وَردَ ولا كشفَ المعنى ولا أَوْضَحَهُ، فراجع ما قالوه والله الموفق الَمانُّ بفضلِه[37].

ولَكِنْ ما الحكمةُ في تسليمِ اللهِ على أنبيائهِ ورسُلهِ؟ والسَّلامُ هو طلبٌ ودعاءٌ فكيف يُتَصوَّرُ مِنَ اللهِ؟ فهذا سؤالٌ له شأنٌ يَنبغي الاعتناءُ به، ولا يُهمَلُ أمرُهُ، وقلَّ مَنْ يُدرِكُ سرَّهُ إلَّا مَنْ رَزَقه اللهُ فهمًا خاصًّا وعنايةً، وليس هذا مِن شأنِ أبناءِ الزمانِ الذين غايةُ فاضلهم نقلًا أن يحكي قِيلًا وقالًا، وغايةُ فاضِلهم بحثًا أَنْ يُبديَ احتمالًا، ويبرِزَ إشكالًا، وأما تحقيقُ العِلمِ كما ينبغي:
فَلِلْحُرُوبِ أُنَاسٌ قَائِمُونَ بِهَا
وَلِلدَّوَاوِينِ كُتَّابٌ وَحُسَّابُ




وقد كان الأولى بنا الإمساكُ وكفُّ عنانِ القَلمِ، وأَنْ نجريَ معهم في ميدانِهم ونخاطبَهم بما يألفُونَهُ، وألَّا نَجْلوَ عرائِسَ المعاني على ضريرٍ، ولا نزفَّ خَودَها إلى عِنّينٍ، ولكِنْ هذه سِلعةٌ وبِضاعةٌ لها طُلَّابٌ وعروسٌ لها خُطَّابٌ فستصيرُ إلى أَهْلِهَا، وَتُهْدَى إلى بعْلِها ولا تستطيلُ الخطابةُ، فإنها نفثةُ مصدورٍ، فلنرجعْ إلى المقصودِ فنقولُ: لا ريبَ أَنَّ الطلبَ يتضمَّنُ أمورًا ثلاثةً طالبًا ومطلوبًا ومطلوبًا منه، ولا تتقوَّم حقيقتُه إلا بهذِهِ الأركانِ الثلاثةِ، وتَغايُرُ هذه ظاهِرٌ إذا كان الطالِبُ يَطلبُ شيئًا مِن غيرِهِ، كما هو الطلبُ المعروفُ، مثل مَنْ يأمرُ غيرَه وينهاه ويستفهِمُه.

وأما إذا كان طالبًا مِنْ نفسِه فهنا يكونُ الطالِبُ هو المطلوبَ منه، ولم يكُنْ هنا إلا رُكنانِ: طالبٌ ومطلوبٌ منه هو الطالِبُ نفسُه، فإِنْ قيلَ: كيف يُعقلُ اتِّحادُ الطالبِ والمطلوبِ منه وهما حقيقتانِ متغايرتانِ، فكما لا يتَّحدُ المطلوبُ والمطلوبُ منه ولا المطلوبُ والطالِبُ فكذلك لا يتَّحِدُ الطالِبُ والمطلوبُ منه، فكيف يُعقَلُ طلبُ الإنسانِ مِن نفسِهِ؟ قيل: هذا هو الذي أوجبَ غُموضَ المسألةِ وإشكالها، ولا بُدَّ مِن كشْفِه وبيانِهِ، فنقولُ: الطلبُ من بابِ الإراداتِ، والمرُيدُ كما يُريدُ مِن غيرِهِ أَنْ يفعَلَ شيئًا، فكذلك يريدُ مِن نفسِهِ هو أَنْ يفعلَهُ، والطلبُ النَّفسي وإِنْ لم يَكُنِ الإرادةَ فهو أخصُّ منها، والإرادةُ كالجنْسِ له، فكما يُعقلُ أَنْ يكونَ المريد ُيريدُ مِن نفسِه، فكذلك يطلُبُ مِن نفسِهِ، وللفرْقِ بين الطَّلبِ والإرادةِ وما قِيلَ في ذلك مَكانٌ غيرُ هذا.

والمقصود أَنَّ طلبَ الحيِّ مِن نفسِه أمرٌ معقولٌ يَعلمه كلُّ أحدٍ مِن نفسهِ، وأيضًا فمِن المعلومِ أَنَّ الإنسانَ يكُون آمرًا لنفسِه ناهيًا لنفسِه قال تعالى ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53].

وقال: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات: 40]. وقال الشاعر:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتَي مِثْلَهُ
عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غيِّها
فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ


وهذا أكثرُ مِن إيرادِ شواهِدِهِ، فإذا كان معقولًا أَنَّ الإنسانَ يأمرُ نفسَه وينهاها، والأمرُ والنهيُ طلبٌ مع أَنَّ فوقه آمِرًا وناهيًا، فكيف يَستحيلُ ممَّنْ لا آمر فَوْقَهُ ولا ناهٍ أَنْ يَطلبَ مِن نفسِه فعْلَ ما يُحِبُّه، وترْكَ ما يَبغضُه، وإذا عُرِفَ هذا عُرِفَ سِرُّ سلامِهِ تبارك وتعالى على أنبيائِهِ ورُسلِه، وأَنَّه طلَب مِن نفسِه لهم السلامَة[38].

ولكِنْ ما السّرُّ في كونهِ سلَّم عليهم بلفظِ النكرةِ، وشرعَ لعبادهِ أَنْ يُسلِّموا على رسولِه بلفظِ المعرفةِ؟ وكذلك تسليمُهم على نفوسهِم وعلى عبادِه الصالحين؟

فقد تقدَّمَ بَيانُ الحكمَةِ في كونِ السَّلامِ ابتداءً بلفظِ النَّكرةِ، ونزيدُ هنا فائدةً أخرى وهي أَنَّهُ قد تقدَّم أَنّ في دُخولِ اللام في السَّلامِ أربعةَ فوائدَ، وهذا المقامُ مُستغنٍ عنها، لأنَّ المتكلِّمَ بالسَّلامِ هو اللهُ تعالى، فلم يقصِدْ تبرُّكًا بذكرِ الاسمِ كما يقصِدُه العبدُ فإنَّ التبرُّكَ استدعاءُ البركةِ واستِجْلابُها، والعبدُ هو الذي يَقصِدُ ذلك، ولا قَصَدَ أيضًا تعرُّضًا وطلبًا على ما يَقصِدُه العبدُ، ولا قصَد العُمومَ.

وهو أيضًا غيرُ لائقٍ هنا، لأَنَّ سلامًا منه سُبحانه كافٍ مِن كلِّ سلامٍ، ومُغنٍ عن كُلِّ تحيَّةٍ، ومقرِّبٌ مِن كلِّ أمْنيةٍ، فأدنى سلامٍ منه، ولا أدنى هناك يَستغرقُ الوصفَ، ويتمُّ النعمةَ، ويدفعُ البؤسَ، ويُطيِّبُ الحياةَ، ويَقطعُ موادَّ العطبِ والهلاكِ، فلم يَكُنْ لذكْرِ الألفِ واللامِ هناك معنى، وتأمَّلْْ قولَه تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] كيف جاءَ بالرِّضوانِ مبتدأً منكَّرًا مُخبِرًا عنه بأَنَّه أكبرُ مِن كلِّ ما وُعدوا به.

فأيسرُ شيءٍ مِن رِضوانهِ أكبرُ مِن الجنَّاتِ وما فيها مِن المساكنِ الطَّيبةِ وما حَوَتْهُ، وَلهذا لمَّا يَتجلَّى لأوليائهِ في جَنَّاتِ عَدْنٍ، ويمنِّيهم أيَّ شيءٍ يُريدون، فيقولون: ربَّنا وأيُّ شيءٍ نُريدُ أفضلُ مما أعطيتَنا، فيقولُ تبارك وتعالى: إِنَّ لكم عندي أفضلَ مِن ذلك؛ أُحِلُّ عليكم رِضواني فلا أسخَطُ عليكم بعدَه أبدًا، وقد بان بهذا الفرْقُ بين سلامِ اللهِ على رسلِهِ وعبادِه وبين سلامِ العِبادِ عليهم.

فإِنَّ سلامَ العبادِ لمَّا كان متضمِّنًا لفوائدِ الألفِ واللَّامِ والتي تقدَّمتْ من قصدِ التَّبرُّكِ باسمِهِ السلامِ والإشارةِ إِلى طلبِ السلامِ له وسؤالهِا من اللهِ باسم السَّلامِ، وقصدِ عُمومِ السلامِ كان الأَحسنُ في حقِّ المسلِّمِ على الرسولِ، أَنْ يقولَ السلامُ عليك أيها النبيُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، وإِنْ كان قَدْ وردَ سلامٌ عليك، فالمعرفةُ أكثرُ وأصحُّ وأتمُّ معنى، فلا ينبغي العدولُ عنه ويشحُّ في هذا المقامِ بالألفِ واللامِ والله أعلم[39].

ولكِنْ في قولِه ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل: 59]، هل السلامُ مِن اللهِ فيكونُ المأمورُ به الحمدَ والوقفَ التَّامَّ عليه، أو هو داخِلٌ في القولِ والأمرِ بهما جميعًا؟

فالجوابُ عنه: أَنَّ الكلامَ يَحتَملُ الأمْرين، ويَشهَدُ لكلٍّ منهما هذا ضَرْبٌ مِن الترجيحِ، فيرجحُ كونُه داخلًا في جملةِ القولِ بأمورٍ؛ منها: اتصالُه به، وعطفُه عليه مِن غيرِ فاصلٍ، وهذا يَقتضي أَنْ يكُونَ فعلُ القولِ واقعًا على كلِّ واحدٍ منهما، هذا هو الأصلُ ما لم يمنَعْ منه مانعٌ، ولهذا إذا قُلتَ: الحمدُ للهِ وسُبحانَ اللهِ، فإِنَّ التسبيحَ هنا داخلٌ في المقُولِ، ومنها: أَنَّهُ إذا كان معطوفًا على المقُولِ كان عطْفَ خبرٍ على خبرٍ وهو الأصلُ، ولو كان مُنقطِعًا عنه كان عطفًا على جملةِ الطلَب ِ، وليس بالحسَنِ عطْفُ الخبرِ على الطَّلبِ، ومنها أن قولَهُ ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل: 59]، ظاهرٌ في أَنَّ الُمسلِّم هو القائلُ: الحمد للهِ، ولهذا أتى بالضميرِ بلفظِ الغَيبةِ، ولم يَقُلْ سلامٌ على عبادي، ويشهدُ لكونِ السَّلامِ مِن اللهِ تعالى أمورٌ:
أحدُها: مطابقتُه لنظائرِه في القرآنِ مِن سلامهِ تعالى بنفسِه على عبادِه الذين اصطفى كَقَوْلِهِ: ﴿ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات: 79].

﴿ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 109].
﴿ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات: 120].
﴿ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ [الصافات: 130].

ومنها: أَنَّ عبادَه الذين اصطفى هم الُمرسلون، واللهُ سُبحانه يَقرِنُ بين تسبيحِه لنفسِه، وسلامِه عليهم، وبين حَمدِه لنفسِه، وسلامهِ عليهم، أما الأوَّلُ فقال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 180، 181]، وقد ذَكَرَ تنزيهَهُ لنفسِه عمَّا لا يليقُ بجلالِهِ، ثم سلامَه على رُسُلِهِ، وفي اقترانِ السَّلامِ عليهم بتسبيحِه لنفسِه سرٌّ عظيمٌ مِن أسرارِ القرآنِ يَتضمَّن الردَّ على كلِّ مُبْطلٍ ومبتدعٍ فإنه نزَّه نفسَه تنزيهًا مُطلقًا.

كما نَزَّه نَفْسَه عمَّا يقولُ خلْقُه فيه، ثم سلَّم المرسلين، وهذا يقتضي سلامتَهُم مِن كلِّ ما يقولُ المكذِّبون المخالِفون لهم، وإذا سلِموا مِن كلِّ ما رماهم به أعداؤهم لزم سلامةُ كلِّ ما جاءوا به مِن الكذبِ والفسادِ، وأعظم ما جاءوا به التوحيدُ ومعرفةُ اللهِ ووصفُه بما يليقُ بجلالِه مما وصَفَ به نفسَهُ على ألسِنتهم، وإذا سَلِمَ ذلك مِن الكذبِ والُمحالِ والفسادِ فهو الحقُّ المحضُ، وما خالفهُ هو الباطِلُ والكَذِبُ الُمحالُ.

وهذا المعنى بعينِهِ في قوله: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل: 59]، فِإنَّهُ يَتضمَّنُ حمدَهُ بما فيه مِن نعوتِ الكمالِ وأوصافِ الجلالِ والأفعالِ الحميدةِ، والأسماءِ الحُسنى، وسلامةِ رُسلهِ مِن كلِّ عيبٍ ونقصٍ وكذبٍ، وذلك يَتضمَّنُ سلامةَ ما جاؤوا به ضدَّ كلِّ باطلٍ.

فتأمَّلْ هذا السِّرَّ في اقترانِ السلامِ على رُسلِهِ بحمدِه وتسبيحِه، فهذا يَشهدُ لِكَونِ السَّلام هنا مِن اللهِ تعالى، كما هو في آخر الصَّافَّاتِ.

وأما عطفُ الخبرِ على الطلبِ فما أكْثر، فمِنه قولُه تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [الأنبياء: 112].

وقوله: ﴿ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون: 118].

وقوله: ﴿ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف: 89]، ونظائِرُه كثيرةٌ جدًّا.

وفَصْلُ الخطابِ في ذلك أَنْ يُقال الآية تتضمَّنُ الأمْرين جميعًا، وتَنتَظمُهُمَا انتظامًا واحدًا، فَإِنَّ الرَّسولَ هو المبلِّغُ عن اللهِ كلامَهُ وليس فيه إلا البلاغُ، والكلامُ كلامُ الربِّ تَبارك وتعالى فهو الذي حَمِدَ نفسَهُ وسلَّم على عبادِه، وأمرَ رسولَهُ بتبليغِ ذلك، فإذا قال الرَّسولُ: الحمدُ للهِ وسلامٌ على عبادِهِ الذين اصطفى كان قد حَمِدَ اللهَ وسَلَّم على عبادِهِ بما حَمِدَ به نفسَهُ، وسلَّم به هو على عبادِه، فهو سلامٌ مِن اللهِ ابتداءً ومِن المبلِّغِ بلاغًا، ومِنَ العبادِ اقتداءً وطاعةً.

فنحنُ نقولُ كما أمَرَنا ربُّنا تعالى: الحمدُ للهِ وسلامٌ على عبادهِ الذين اصطفى، ونظيرُ هذا قولُه تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]، فهو توحيدٌ منه لنفسِه وأمرٌ للمخاطَبِ بتوحيدهِ، فإذا قال العبدُ: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ كان قد وَحَّدَ اللهَ بما وَحَّدَ بِهِ نَفْسَهُ وأتى بلفظةِ: «قل» تحقيقًا لهذا المعنى.

وأَنَّهُ مبلِّغٌ محضُ قائلٍ لما أُمِرَ بقولِه، والله أعلم.

وهذا بخلافِ قولهِ: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس: 1]، فَإِنَّ هذا أمرٌ مَحْضٌ بإنشاءِ الاستعاذةِ لا تبليغَ لقولهِ أَعوذُ بربِّ الناسِ، فإِنَّ الله لا يَستعيذُ مِن أحدٍ، وذلك عليه مُحالٌ بخلافِ قولِه: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]، فإنه خبرٌ عن توحيدِه، وهو سُبحانه يُخبِرُ عن نفسِه بأَنَّهُ الواحِدُ الأحدُ، فتأمَّلْ هذه النُّكتَة البديعةَ واللهُ المستعانُ[40].

ولكن ما الحكمةُ في اقترانِ الرَّحمةِ والبركةِ بالسَّلامِ؟
فالجوابُ عنه: أَنْ يُقالَ لمّا كان الإنسانُ لا سبيلَ له إلى انتفاعِه بالحياةِ إلا بثلاثةِ أشياءَ:
أحدُها: سلامتُه مِن الشرِّ ومِن كلِّ ما يُضادُّ حياتَه وعيشَهُ.
والثاني: حصولُ الخيرِ له.

والثالث: دوامُه وثباتُه له، فإِنَّ بهذهِ الثلاثةِ يَكْملُ انتفاعُه بالحياةِ وشُرِعتِ التحِيَّةُ متضمنةً للثلاثةِ، فقوله: سلامٌ عليكم يَتضَمَّنُ السلامةَ مِن الشرِّ، وقولُهُ: ورحمةُ اللهِ يتضمَّنُ حصولَ الخيرِ، وقولُه: وبركاتُه يتضمَّن دوامَه وثباتَهُ كما هو موضُوع لفظِ البركةِ، وهو كثرةُ الخيرِ واستمرارُه، ومن هنا يُعلَمُ حكمهُ اقترانِ اسمِه الغفورِ الرَّحيمِ في عامَّةِ القرآنِ.

ولمَّا كَانت هذه الثلاثةُ مطلوبةً لكلِّ أحدٍ، بل هي متضمّنةٌ لكل مطالبهِ وَكلُّ المطالبِ دونَها وسائلٌ إليها وأسبابٌ لتحصيلِها جاء لفظُ التحيَّةِ دالًّا عليها بالمطابقَةِ تارةً وهو كمالُها، وتارةً دالًّا عليها بالتضمُّنِ، وتارةً دالًّا عليها باللُّزُومِ؛ فدلالةُ اللَّفظِ عليها مطابقةً إذا ذُكِرَتْ بلفظِها، ودلالتُه بالتضمُّنِ إذا ذُكِرَ السَّلامُ والرَّحمةُ فإنهما يتضمَّنانِ الثالثَ، ودلالتُه عليها باللزومِ إذا اقتَصر على السَّلامِ وَحْدَهُ، فإنَّه يستلزِمُ حصولَ الخَيرِ وثباتَه إذ لو عُدِمَ لم تحصُلْ السَّلامةُ المطلقَةُ، فالسلامةُ مُستلزِمَةٌ لحصولِ الرَّحمةِ كما تقدَّم تقريرُه.

وقد عُرِفَ بهذا فَضْلُ هذه التحيَّةِ وكمالُها على سائر تحيَّاتِ الأُممِ، ولهذا اختارَها اللهُ لعبادهِ وجعَلَها تحيَّتَهم بينهم في الدنيا وفي دار السَّلامِ، وقد بان لك أنها مِنْ محاسنِ الإسلامِ وكمالِهِ.

فإذا كان هذا في فرْعٍ مِن فُروعِ الإسلامِ، وهو التَّحيَّةُ التي يَعرِفُها الخاصُّ والعامُّ، فما ظَنُّك بسائرِ محاسنٍ الإسلامِ وجلالتِه وعظَمتِه وبهْجتِه التي شَهدتْ بها العقولُ والفِطَرُ، حتى إنها مِن أكبرِ الشَّواهِد وأظهرِ البراهينِ الدَّالَّةِ على نُبُوَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكمالِ دِينه وفضلهِ وشرَفهِ على جميعِ الأديانِ، وأنَّ معجزتَهُ في نفسِ دعوتِه، فلو اقتصرَ عليها كانت آيةً وبُرهانًا على صِدْقِه، وأنه لا يحتاجُ معها إلى خارقٍ، ولا آيةٍ مُنفصِلَةً، بل دِينُه وشريعتُه ودعوتُه وسيرَتُه مِن أعظمِ معجزاتِه عند الخاصَّةِ مِن أُمَّتِهِ حتى إِنَّ إيمانَهم به، إنما هو مُستَنِدٌ إلى ذلك، والآياتُ في حقِّهم مقوّياتٌ بمنزلةِ تظاهرِ الأدلةِ.

ومَنْ فَهِمَ هذا انفتَحَ له بابٌ عظيمٌ مِن أبوابِ العِلمِ والإِيمانِ، بل بابٌ مِن أبوابِ الجَنَّةِ العاجلةِ يَرقصُ القلبُ فيها طربًا، ويتمنَّى أنَّهُ له بالدُّنيا وما فيها.

وعسى اللهُ أنْ يأتي بالفتحِ أو أمْرٍ مِن عنده فيُساعدُ على تعليقِ كتابٍ يتضمَّن ذكْرَ بعضِ محاسنِ الشَّريعةِ وما فيها مِن الحِكم البالغةِ، والأسرارِ الباهرةِ، التي هي مِن أكبرِ الشَّواهدِ على كمالِ عِلم الرَّبِّ تعالى وحكمتِه ورحمتِه، وبِرِّهِ بعبادهِ ولُطْفِه بهم، وما اشتَملتْ عليه مِن بيانِ مصالحِ الدَّارَين والإرشادِ إليها، وبيان مفاسدِ الدَّارين والنَّهْي عنها، وأنَّه سُبحانه لم يَرْحمْهم في الدُّنيا برحمةٍ، ولم يُحسِنْ إليهم إحسانًا أعظمَ مِن إِحسانِه إليهم بهذا الدِّين القيِّم، وهذه الشريعةِ الكاملِة.

ولهذا لم يذكرْ في القرآن لفظةَ المنِّ عليهم إلَّا في سياقِ ذكْرِها كقوله: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [آل عمران: 164].

وقَولِهِ: ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17]، فهي محضُ الإحسانِ إليهم، والرأفةِ بهم، وهدايتِهم إلى ما به صلاحُهم في الدُّنيا والآخرةِ، لا أنها محضُ التكليفِ والامتِحانِ الخالي عن العواقبِ الحميدةِ، التي لا سبيلَ إليها إلا بهذهِ الوسيلةِ، فهي لغاياتِها المجرَّبةِ المطلوبةِ بمنزلةِ الأكْلِ للشِّبَعِ، والشُّربِ للرِّيِّ، والجماعِ لطلبِ الولد، وغيرِ ذلك مِن الأسبابِ التي رُبِطتْ بها مسبَّبَاتُها بمقتضى الحِكمة والعِزَّةِ.

فلذلك نُصِبَ هذا الصراطُ المستقيمُ وسيلةً وطريقًا إلى الفوزِ الأكبرِ والسَّعادةِ، ولا سبيلَ إلى الوصُولِ إليه إلَّا مِنْ هذه الطريقِ، كما لا سبيلَ إلى دخولِ الجَنَّةِ إلَّا بالعبورِ على الصراطِ.

فالشَّريعةُ هي حياةُ القلوبِ، وبهجةُ النفوسِ، ولذَّةُ الأرواحِ، والَمشقَّةُ الحاصِلَةُ فيها والتكليفُ وقعَ بالقصدِ الثاني كوقوعِه في الأسبابِ المفْضِيَةِ إلى الغاياتِ المطلوبةِ، لا أَنَّه مقصودٌ لذاته فضلًا عن أن يكونَ هو المقصودَ لا سِواه.

فتأمَّلْ هذا الموضِعَ وأَعْطِه حقَّه مِن الفِكَرِ في مصادِرها وموارِدِها يَفتحْ لك بابًا واسعًا مِن العلمِ والإيمانِ، فتكُونَ مِن الراسخين في العِلمِ لا مِن الذين يَعلمون ظاهرًا مِن الحياة الدُّنيا وهم عن الآخرةِ هم غافلون.

وكما أنها آيةٌ شاهِدَةٌ له على ما وَصَفَ به نفسَه مِن صفاتِ الكمالِ، فهي آيةٌ شاهدةٌ لرسولهِ بأنه رسولُه حقًّا، وأنه أَعرَفُ الخَلْقِ وأكملُهم وأفضلُهم وأقواهم إلى اللهِ وسيلةً، وأنه لم يؤتَ عبدٌ مثل ما أوتي...

فوالهفاه على مُساعدٍ على سلوكِ هذه الطريقِ، واستِفتاحِ هذا البابِ والإفضاءِ إلى ما وراءَهُ ولو بشطْرِ كلمةٍ.

بل والهفاه على مَنْ لا يَتَصَدَّى لقطْعِ الطريقِ والصدِّ عن هذا المطلبِ العظيمِ ويدعُ المطيَّ وحادِيَها، ويُعطي القوسَ بارِيَها.

ولكن إذا عظُمَ المطلوبُ قلَّ المساعِدُ، وكثُرَ المعارِضُ والمعانِدُ، وإذا كان الاعتمادُ على مجرَّدِ مواهبِ اللهِ وفضلِه يُغنيه ما يتحمَّلهُ المتحمِّلُ مِن أجْلهِ، فلا يُثنِكَ شَنَآنُ مَنْ صَدَّ عن السبيلِ وصَدَفَ، ولا تَنقطعْ مع مَنْ عجزَ عن مواصلةِ السُّرى ووقفَ، فإنما هي مُهجةٌ واحدةٌ فانظرْ فيما تجعلُ تلَفَها، وعلى مَنٍْ تحتسبُ خلَفَها.
أَنْتَ القَتِيلُ بِكُلِّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ
فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ فِي الهَوَى مَنْ تَصْطَفِي




وأنفِقْ أنفاسَك فيما شئتَ، فإِنَّ تلك النفقَةَ مردودةٌ بعينِها عليك، وصائِرَةٌ لا سواها إليك، وبين العبدِ وبين السعادةِ والفلاحِ صبرُ ساعةٍ للهِ وتحمُّلُ ملامةٍ في سبيلِ اللهِ.
وَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي
وَيَذْهَبُ هَذَا كُلُّهُ وَيَزُولُ




وقد أطلْنا ولكِنْ ما أملَلْنا، فإِنَّ قلبًا فيه أدنى حياةٍ يهتزُّ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَرَسولُه، ويودُّ أَنْ لو كان المتكلِّمُ كلُّه ألسنةً تاليةً، والسامعُ كلُّه آذانًا واعيةً، ومَنْ لم يَجِدْ قلبَه ثَمَّ فليشتغلْ بما يُناسبه، فكُلُّ ميسَّرٌ لِـمَا خُلِقَ لَهُ، وكلُّ يَعملُ على شاكلتِه.
وَكُلُّ امْرِئٍ يَهْفُو إِلَى مَنْ يُحِبُّهُ
وَكُلُّ امْرِئٍ يَصْبُو إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ




وقد عَرفتَ بهذا جوابَ السؤالِ الحادي والعشرين، وأنَّ كمال التحيَّةِ عند ذِكْرِ البركاتِ؛ إذ قد استَوعَبَتْ هذه الألفاظُ الثلاثةُ جميعَ المطالبِ مِن دفْعِ الشرِّ، وحصولِ الخيرِ وثباتهِ وكثرتهِ ودوامِهِ، فلا معنى للزيادةِ عليها؛ ولهذا جاء في الأثر المعروف انتهى السلامُ إلى وبركاتُه[41].

ولكِنْ مَا الحكمةُ في إضافةِ الرَّحمةِ والبركةِ إلى اللهِ تعالى، وتجريدِ السَّلامِ عن الإضافةِ؟
فجوابُه أَنَّ السلامَ لمَّا كان اسمًا مِن أسماءِ اللهِ تعالى، استغنى بذكْرِه مطلقًا عن الإضافةِ إلى الُمسمَّى، وأما الرَّحمةُ والبرَكةُ فلو لم يُضافا إلى اللهِ لم يُعلمْ رحمةُ مَنْ، ولا برَكةُ مَنْ تَطْلبُ، فلو قيل: السلام عليكم ورحمةٌ وبرَكةٌ لم يكن في هذا اللفظِ إشعارٌ بالراحمِ المباركِ الذي تُطْلب الرَّحمةُ والبركةُ منه، فقيل: رحمةُ اللهِ وبركاتُه، وجوابٌ ثانٍ: أن السَّلامَ يُرادُ به قولُ المسلِّمِ: سلامٌ عليكم.

وهذا في الحقيقةِ مُضافٌ إليه، ويُرادُ به حقيقةُ السلامةِ المطلوبةِ مِن السَّلامِ سبحانه وتعالى، وهذا يُضافُ إلى اللهِ فيضافُ هذا المصدرُ إلى الطالبِ الذاكرِ تارةً، وإلى المطلوبِ منه تارةً، فأُطلِقَ ولم يُضَفْ.

وأما الرَّحمةُ والبركةُ فلا يُضافان إلَّا إلى اللهِ وَحْدَهُ، ولهذا لا يُقالُ: رحمتي وبركتي عليكم، ويُقالُ: سلامٌ مني عليكم، وسلامٌ مِن فلانٍ على فلانٍ.

وسِرُّ ذلك، أنَّ لفظَ السَّلامِ اسمٌ للجملةِ القوليةِ، بخلافِ الرَّحمةِ والبرَكةِ، فإنهما اسمانِ لمعناهما دون لفظهِما، فتأَمَّلْه فإنه بديعٌ.

وجوابٌ ثالثٌ: وهو أنَّ الرحمةَ والبرَكةَ أتمُّ مِن مجرَّدِ السَّلامةِ، فإنَّ السلامَةَ تُبعِدُ عن الشرِّ، وأمَّا الرحمةُ والبرَكةُ فتحصيلٌ للخيرِ، وإدامةٌ لَهُ، وتثبيتٌ وتنميةٌ، وهذا أكْملُ؛ فإنه هو المقصودُ لذاتهِ، والأوَّلُ وسيلةٌ إليه.

ولهذا كان ما يحصُلُ لأهلِ الجَنَّةِ مِن النعيم أكْملَ مِنْ مُجرَّدِ سلامتِهم مِن النارِ، فأُضِيفَ إلى الرَّبِّ تبارك وتعالى أكْمَلُ المعنيَين وأتـمُّهما لفظًا، وأُطلِق الآخرُ وفُهِمتْ إضافتُه إليه مِن العطفِ وقرينةِ الحالِ، فجاء اللفظُ على أتمِّ نظامٍ، وأحسنِ سياقٍ[42].

ولكن ما الحكمةُ في إفرادِ السَّلامِ والرَّحمةِ وجمعِ البَّركةِ؟
فجوابُه: إنَّ السَّلامَ إمَّا مصدرٌ محضٌ فهو شيءٌ واحدٌ فلا معنى لجمعِه، وإما اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ فيستحيلُ أيضًا جمعُه، فعلى التقديرين لا سبيل إلى جمعِه.

وأما الرَّحْمَةُ فمصدرٌ أيضًا بمعنى العطفِ والحنانِ فلا تُجمع أيضًا، والتَّاءُ فيها بمنزلتِها في الخُلَّةِ والمحبَّةِ.

والرِّقَّةُ ليست للتحديدِ بمنزلتِها في ضربةٍ وتمرةٍ، فكما لا يقال: رِقَّاتٌ، ولا خُلَّاتٌ، ولا رأفاتٌ، لا يُقال: رحماتٌ، وهنا دخولُ الجمعِ يُشعرُ بالتحديدِ والتقييدِ بعددٍ، وإفرادُهُ يُشعِرُ بالمسمَّى مُطلقًا مِن غيرِ تحديدٍ، فالإفراد هنا أكملُ وأكثرُ معنىً مِن الجمعِ، وهذا بديعٌ جدًّا أَنْ يكونَ مدلُولُ المفردِ أكثرَ مِن مدلولِ الجَمْعِ.

ولهذا كان قولٌه تعالى: ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ [الأنعام: 149]، أَعمُّ وأَتمُّ معنًى مِن أَنْ يُقالَ: فلله الحُجَجُ البوالغُ، وكان قولُه: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34]، أتمَّ معنىً مِن أَنْ يُقالَ: وإِنْ تعدُّوا نِعَم اللهِ لا تُحصوها.

وقوله: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة: 201]، أتمُّ معنًى مِنْ أَنْ يُقالَ حسناتٍ.

وكذا قولُه: ﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [آل عمران: 171]، ونظائِرهُ كثيرةٌ جدًّا، وسنذكٌر سرَّ هذا فيهما بعدُ إِنْ شاءَ اللهُ تعالى.

وأما البرَكةُ فإنها لمَّا كان مسمَّاها كثرةَ الخيرِ واستمرَارَه شيئًا بعدَ شَيْءٍ، كُلَّما انقَضى منه فَرْدٌ خلَفَه فرْدٌ آخرُ، فهو خيرٌ مُستمرٌّ بتَعاقُبِ الأفرادِ على الدوامِ شيئًا بعدَ شيءٍ كان لفظُ الجمعِ أولى بها لدلالتِهِ على المعنى المقصودِ بها.

ولهذا جاءَتْ في القرآن، كذلك في قولِهِ تعالى: ﴿ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود: 73]، فأفْرَد الرحمةَ وجمَعَ البركةَ، وكذلك في السَّلامِ في التشهُّدِ: السلامُ عليك أيُّها النبيُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه[43].

[1] لسان العرب (12/ 289)، والمغرب في ترتيب المعرب (1/ 411).

[2] اشتقاق أسماء الله للزجاج (ص: 216).

[3] البخاري في أحاديث الأنبياء، باب خلْق آدم صلوات الله عليه (3/ 1210) (3148).

[4] مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله عليه السلام: إن الله لا ينام (1/ 161) (179).

[5] شرح أسماء الله الحسنى للرازي (ص: 196)، والأسماء والصفات للبيهقي (ص: 53)، والمقصد الأسنى (ص: 67).

[6] النهج الأسمى (1/ 116 - 117).

[7] تفسير ابن كثير (4/ 343).

[8] روح المعاني (28/ 63).

[9] الاعتقاد (ص: 55).

[10] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (18/ 46)، وانظر: كذلك فتح القدير (5/ 207)، وانظر قول الخطابي في شأن الدُّعاء (ص: 41).

[11] النونية (2/ 233).

[12] النهج الأسمى (1/ 117 - 122).

[13] انظر: التفسير الكبير للرازي (29/ 293).

[14] ذكره الألوسي (23/ 99) عن أبي حيان.

[15] أخرجه الخطابي في شأن الدُّعاء (ص: 42) وسندُه صحيح، وقد أخرج مثلَه ابنُ جرير في تفسيره (16/ 45) عن أحمد بن منصور الفيروزي كذا، والظاهر أنه المروزي المعروف بزاج، قال: أخبرني صدقة بنُ الفضلِ، قال: سمعتُ ابنَ عطية يقول... فذكره.

[16] أخرجه مسلم (54).

[17] شرح مسلم للنووي (2/ 36).

[18] حديث صحيح: أخرجه أحمد (5/ 451)، والترمذي (2603) وصحَّحه، وابن ماجه (1334، 3251)، والدارمي (1/ 340)، والحاكم (3/ 13)، ومحمد بن نصر المروزي في قيام الليل (ص: 21) - من المختصر - بطُرق عن عوف بن أبي جميلة، عن زرارة بن أوفى، عن عبد الله بن سلام، مرفوعًا به.

[19] متفق عليه: أخرجه البخاري (831، 835، 1202، 6230، 6265، 6328، 7381)، ومسلم في الصلاة (56).

[20] الفتح (2/ 312).

[21] الفتح (2/ 312).

[22] المصدر السابق، وانظر كذلك: النهاية لابن الأثير (1/ 183).

[23] أخرجه النسائي في فضائل الصحابة (254) عن أحمد بن فضالة، أنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس به، وإسناده حسَن؛ فإنَّ جعفر بن سليمان صدوق، وقد تابع عبد الرزاق قتيبة بن سعيد، وذلك عند الحاكم (3/ 186)، والحديث سكت عليه الحافظ في الفتح (7/ 139)، وهو دليل على التصحيح منه أو التحسين كما نص في المقدِّمة.
فائدة: يُستفاد منه ردُّ السلامِ على مَنْ أرسَل السلامَ وعلى مَنْ بلّغه.

[24] وهو جزء من حديثٍ طويل أخرجه البخاري (806) في الأذان، باب: فضل السجود، ومسلم (182) في الإيمان، باب: معرفة طريق الرُّؤية، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[25] بدائع الفوائد (2/ 289).

[26] بدائع الفوائد (2/ 294).

[27] بدائع الفوائد (2/ 295).

[28] بدائع الفوائد (2/ 297).

[29] أخرجه البخاري (831) في الأذان، باب: التشهُّد في الآخرة، ومسلم (402) في الصلاة، باب: التشهُّد في الصلاة، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

[30] صحيح: وقد تقدَّم قريبًا.

[31] صحيح: أخرجه أبو داود (16) في الطَّهارة، باب: أَيَرُدُّ السلامَ وهو يَبُول؟، وأصلُه عند مسلم (370) في الحيض، باب: التيمُّم، وما بين المعقوفتين زيادة عند أبي داود.

[32] للحديث الصحيح الذي رواه مسلم (2167) في السلام، باب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «لا تبدؤوا اليهودَ ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتُم أحدَهم في طريق فاضطروه إلى أضْيَقِه».

[33] صحيح: أخرجه الترمذي (3513) في الدعوات، باب: رقم (89)، وابن ماجه (3850) في الدعاء، باب بالعفو والعافية، وقال الألباني في صحيح سُنن ابن ماجه: صحيح.

[34] أخرجه البخاري (834) في الأذان، باب: الدعاء قبل السلام، ومسلم (2705) في الذكْر والدُّعاء، باب: استحباب خفْض الصوت بالذكْر.

[35] بدائع الفوائد (2/ 298).

[36] بدائع الفوائد (2/ 301).

[37] بدائع الفوائد (2/ 302).

[38] بدائع الفوائد (2/ 314).

[39] بدائع الفوائد (2/ 319).

[40] بدائع الفوائد (2/ 322).

[41] بدائع الفوائد (2/ 328).

[42] بدائع الفوائد (2/ 330).

[43] بدائع الفوائد (2/ 331).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 117.14 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 114.97 كيلو بايت... تم توفير 2.17 كيلو بايت...بمعدل (1.85%)]