تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 28 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وما أدراك ما ناشئة الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          كف الأذى عن المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          انشراح الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          فضل آية الكرسي وتفسيرها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          المسارعة في الخيرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          أمة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          الصحبة وآدابها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          البلاغة والفصاحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          مختارات من كتاب " الكامل في التاريخ " لابن الأثير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          ماذا لو حضرت الأخلاق؟ وماذا لو غابت ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #271  
قديم 01-04-2022, 12:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (269)

سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 487 إلى صـ 494





وأفعل التفضيل صله أبدا تقديرا أو لفظا بمن إن جردا فإن قيل : أين مرجع الضمير في هذه الآية الكريمة في قوله : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا ؟ الآية [ 19 \ 73 ] ، فالجواب : أنه راجع إلى الكفار [ ص: 487 ] المذكورين في قوله : ويقول الإنسان أئذا ما مت الآية [ 19 \ 66 ] ، وقوله : ونذر الظالمين فيها جثيا ، قاله القرطبي ، والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا .

في معنى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء ، وكلاهما يشهد له قرآن :

الأول : أن الله جل وعلا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول هذه الكلمات كدعاء المباهلة بينه وبين المشركين ، وإيضاح معناه : قل يا نبي الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المشركين الذين ادعوا أنهم خير منكم ، وأن الدليل على ذلك أنهم خير منكم مقاما وأحسن منكم نديا : من كان منا ومنكم في الضلالة - أي الكفر والضلال عن طريق الحق - فليمدد له الرحمن مدا ، أي : فأمهله الرحمن إمهالا فيما هو فيه حتى يستدرجه بالإمهال ويموت على ذلك ولا يرجع عنه ، بل يستمر على ذلك حتى يرى ما يوعده الله ، وهو : إما عذاب في الدنيا بأيدي المسلمين ، كقوله : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم [ 9 \ 14 ] ، أو بغير ذلك ، وإما عذاب الآخرة إن ماتوا وهم على ذلك الكفر ، وعلى ذلك التفسير فصيغة الطلب المدلول عليها باللام في قوله : فليمدد على بابها ، وعليه فهي لام الدعاء بالإمهال في الضلال على الضال من الفريقين ، حتى يرى ما يوعده من الشر وهو على أقبح حال من الكفر والضلال ، واقتصر على هذا التفسير ابن كثير وابن جرير ، وهو الظاهر من صيغة الطلب في قوله : فليمدد ، ونظير هذا المعنى في القرآن قوله تعالى : فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين [ 3 \ 61 ] ; لأنه على ذلك التفسير يكون في كلتا الآيتين دعاء بالشر على الضال من الطائفتين ، وكذلك قوله تعالى في اليهود : فتمنوا الموت إن كنتم صادقين [ 2 \ 94 ] ، في " البقرة والجمعة " عند من يقول : إن المراد بالتمني الدعاء بالموت على الكاذبين من الطائفتين ، وهو اختيار ابن كثير ، وظاهر الآية لا يساعد عليه .

الوجه الثاني أن صيغة الطلب في قوله : فليمدد ، يراد بها الإخبار عن سنة الله في الضالين ، وعليه فالمعنى : أن الله أجرى العادة بأنه يمهل الضال ويملي له فيستدرجه [ ص: 488 ] بذلك حتى يرى ما يوعده ، وهو في غفلة وكفر وضلال .

وتشهد لهذا الوجه آيات كثيرة ، كقوله : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما الآية [ 3 \ 178 ] ، وقوله : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة الآية [ 6 \ 44 ] ، كما قدمنا قريبا بعض الآيات الدالة عليه .

ومما يؤيد هذا الوجه ما أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال : في حرف أبي : " قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة " اهـ . قاله صاحب الدر المنثور ، ومثل هذا من جنس التفسير لا من جنس القراءة ، فإن قيل على هذا الوجه : ما النكتة في إطلاق صيغة الطلب في معنى الخبر ؟ فالجواب : أن الزمخشري أجاب في كشافه عن ذلك ، قال في تفسير قوله تعالى : فليمدد له الرحمن مدا ، أي : مد له الرحمن ، يعني أمهله وأملى له في العمر ، فأخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك ، وأنه مفعول لا محالة ، كالمأمور به الممتثل لتنقطع معاذير الضال ، ويقال له يوم القيامة : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر [ 35 \ 37 ] . انتهى محل الغرض منه ، وأظهر الأقوال عندي في قوله : حتى إذا رأوا ما يوعدون ، أنه متعلق بما قبله وما يليه ، والمعنى : فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأى ما يوعد علم أن الأمر على خلاف ما كان يظن .

وقال الزمخشري : إن حتى في هذه الآية هي التي تحكى بعدها الجمل ، واستدل على ذلك بمجيء الجملة الشرطية بعدها .

وقوله : ما يوعدون لفظة ما ، مفعول به لـ ما ، وقوله : إما العذاب وإما الساعة ، بدل من المفعول به الذي هو " ما " ولفظة من من قوله : فسيعلمون من هو ، قال بعض العلماء : هي موصولة في محل نصب على المفعول به لـ " يعلمون " وعليه فعلم هنا عرفانية تتعدى إلى مفعول واحد ، وقال بعض أهل العلم : من استفهامية والفعل القلبي الذي هو يعلمون معلق بالاستفهام ، وهذا أظهر عندي .

وقوله : شر مكانا وأضعف جندا ، في مقابلة قولهم : خير مقاما وأحسن نديا ; لأن مقامهم هو مكانهم ومسكنهم ، والندي : المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم ، والجند هم الأنصار والأعوان ، فالمقابلة المذكورة ظاهرة ، وقد دلت آية من كتاب الله على إطلاق شر مكانا ، والمراد اتصاف الشخص بالشر [ ص: 489 ] لا المكان ، وهو قوله تعالى : قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا [ 12 \ 72 ] ، فتفضيل المكان في الشر هاهنا الظاهر أن المراد به تفضيله إخوته في الشر على نفسه فيما نسبوا إليه من شر السرقة لا نفس المكان ، اللهم إلا أن يراد بذلك المكان المعنوي ، أي : أنتم شر منزلة عند الله تعالى .

وقوله في هذه الآيات المذكورة مقاما ، و نديا ، و أثاثا ، و مكانا ، و جندا ، كل واحد منها تمييز محول عن الفاعل ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كـ " أنت أعلى منزلا "

قوله تعالى : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا .

قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى [ 19 \ 76 ] ، دليل على رجحان القول الثاني في الآية المتقدمة ، وأن المعنى : أن من كان في الضلالة زاده الله ضلالة ، ومن اهتدى زاده الله هدى ، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة ، كقوله في الضلال : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] ، وقوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] ، وقوله : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم [ 63 \ 3 ] ، وقوله تعالى : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية [ 6 \ 110 ] ، كما قدمنا كثيرا من الآيات الدالة على هذا المعنى .

وقال في الهدى : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [ 47 \ 17 ] ، وقال : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم [ 48 \ 4 ] ، وقال : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا الآية [ 29 \ 69 ] ، وقد جمع بينهما في آيات أخر ، كقوله : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا [ 17 \ 82 ] ، وقوله تعالى : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى الآية [ 41 \ 44 ] ، وقوله تعالى : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون [ 9 \ 124 - 125 ] ، كما تقدم إيضاحه .

وقوله : والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا [ 19 \ 76 ] ، تقدم [ ص: 490 ] إيضاحه في سورة " الكهف " .

فإن قيل : ظاهر الآية أن لفظة خير في قوله : خير عند ربك ثوابا وخير مردا ، صيغة تفضيل ، والظاهر أن المفضل عليه هو جزاء الكافرين ، ويدل لذلك ما قاله صاحب الدر المنثور ، قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : خير عند ربك ثوابا ، يعني : خير جزاء من جزاء المشركين ، وخير مردا ، يعني مرجعا من مرجعهم إلى النار ، والمعروف في العربية أن صيغة التفضيل تقتضي مشاركة المفضل عليه ، والخيرية منفية بتاتا عن جزاء المشركين وعن مردهم ، فلم يشاركوا في ذلك المسلمين حتى يفضلوا عليهم .

فالجواب : أن الزمخشري في كشافه حاول الجواب عن هذا السؤال بما حاصله : أنه كأنه قيل ثوابهم النار ، والجنة خير منها على طريقة قول بشر بن أبي حازم :


غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار ، فأعتبوا بالصيلم
فقوله : " أعتبوا بالصيلم " يعني أرضوا بالسيف ، أي : لا رضا لهم عندنا إلا السيف لقتلهم به .

ونظيره قول عمرو بن معدي كرب :


وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
أي لا تحية بينهم إلا الضرب الوجيع

وقول الآخر :


شجعاء جرتها الذميل تلوكه أصلا إذا راح المطي غراثا
يعني : أن هذه الناقة لا جرة لها تخرجها من كرشها فتمضغها إلا السير ، وعلى هذا المعنى فالمراد : لا ثواب لهم إلا النار ، وباعتبار جعلها ثوابا بهذا المعنى فضل عليها ثواب المؤمنين ، هذا هو حاصل جواب الزمخشري مع إيضاحنا له .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ويظهر لي في الآية جواب آخر أقرب من هذا ، وهو أنا قدمنا أن القرآن والسنة الصحيحة دلا على أن الكافر مجازى بعمله الصالح في الدنيا ، فإذا بر والديه ونفس عن المكروب ، وقرى الضيف ، ووصل الرحم مثلا يبتغي بذلك وجه الله فإن الله يثيبه في الدنيا ، كما قدمنا دلالة الآيات عليه ، وحديث أنس عند مسلم ، فثوابه هذا الراجع إليه من عمله في الدنيا ، هو الذي فضل الله عليه في الآية ثواب المؤمنين ، وهذا واضح لا إشكال فيه ، والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 491 ] قوله تعالى : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ، أخرج الشيخان وغيرهما من غير وجه عن خباب بن الأرت رضي الله عنه ، قال : " جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقا لي عنده ، فقال : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقلت : لا ، حتى تموت ثم تبعث ، قال : وإني لميت ثم مبعوث ؟ قلت : نعم ، قال : إن لي هناك مالا فأقضيك ، فنزلت هذه الآية : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا " ، وقال بعض أهل العلم : إن مراده بقوله : لأوتين مالا وولدا الاستهزاء بالدين وبخباب بن الأرت رضي الله عنه ، والظاهر أنه زعم أنه يؤتى مالا وولدا قياسا منه للآخرة على الدنيا ، كما بينا الآيات الدالة على ذلك ، كقوله : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، وقوله : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات الآية [ 23 \ 55 - 56 ] ، وقوله : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه ، وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي : " وولدا " بضم الواو الثانية وسكون اللام ، وقرأه الباقون بفتح الواو واللام معا ، وهما لغتان معناهما واحد كالعرب والعرب ، والعدم والعدم ، ومن إطلاق العرب الولد بضم الواو وسكون اللام كقراءة حمزة والكسائي قول الحارث بن حلزة :


ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا
وقول رؤبة :


الحمد لله العزيز فردا لم يتخذ من ولد شيء ولدا
وزعم بعض علماء العربية : أن الولد بفتح الواو واللام مفرد ، وأن الولد بضم الواو وسكون اللام جمع له ، كأسد بالفتح يجمع على أسد بضم فسكون ، والظاهر عدم صحة هذا ، ومما يدل على أن " الولد " بالضم ليس بجمع قول الشاعر :


فليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلانا كان ولد حمار
لأن " الولد " في هذا البيت بضم الواو وسكون اللام ، وهو مفرد قطعا كما ترى .

قوله تعالى : أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا .

اعلم أن الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة رد على العاص بن وائل السهمي [ ص: 492 ] قوله : إنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا ، بالدليل المعروف عند الجدليين بالتقسيم والترديد ، وعند الأصوليين بالسبر والتقسيم ، وعند المنطقيين بالشرطي المنفصل .

وضابط هذا الدليل العظيم أنه متركب من أصلين : أحدهما حصر أوصاف المحل بطريق من طرق الحصر ، وهو المعبر عنه بالتقسيم عند الأصوليين والجدليين ، وبالشرطي المنفصل عند المنطقيين .

والثاني : هو اختيار تلك الأوصاف المحصورة ، وإبطال ما هو باطل منها وإبقاء ما هو صحيح منها كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى ، وهذا الأخير هو المعبر عنه عند الأصوليين " بالسبر " ، وعند الجدليين " بالترديد " ، وعند المنطقيين ، بالاستثناء في الشرطي المنفصل ، والتقسيم الصحيح في هذه الآية الكريمة يحصر أوصاف المحل في ثلاثة ، والسبر الصحيح يبطل اثنين منها ويصحح الثالث ، وبذلك يتم إلقام العاص بن وائل الحجر في دعواه أنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا .

أما وجه حصر أوصاف المحل في ثلاثة فهو أنا نقول : قولك أنك تؤتى مالا وولدا يوم القيامة لا يخلو مستندك فيه من واحد من ثلاثة أشياء :

الأول : أن تكون اطلعت على الغيب ، وعلمت أن إيتاءك المال والولد يوم القيامة مما كتبه الله في اللوح المحفوظ .

والثاني : أن يكون الله أعطاك عهدا بذلك ، فإنه إن أعطاك عهدا لن يخلفه .

الثالث : أن تكون قلت ذلك افتراء على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب .

وقد ذكر تعالى القسمين الأولين في قوله : أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] ، مبطلا لهما بأداة الإنكار ، ولا شك أن كلا هذين القسمين باطل ; لأن العاص المذكور لم يطلع الغيب ، ولم يتخذ عند الرحمن عهدا ، فتعين القسم الثالث وهو أنه قال ذلك افتراء على الله ، وقد أشار تعالى إلى هذا القسم الذي هو الواقع بحرف الزجر والردع وهو قوله : كلا ، أي : لأنه يلزمه ليس الأمر كذلك ، لم يطلع الغيب ، ولم يتخذ عند الرحمن عهدا ، بل قال ذلك افتراء على الله ; لأنه لو كان أحدهما حاصلا لم يستوجب الردع عن مقالته كما ترى ، وهذا الدليل الذي أبطل به دعوى ابن وائل هذه هو الذي أبطل به بعينه دعوى اليهود أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة في سورة " البقرة " ، وصرح في ذلك بالقسم الذي هو الحق ، وهو أنهم قالوا ذلك كذبا من غير علم .

[ ص: 493 ] وحذف في " البقرة " قسم اطلاع الغيب المذكور في " مريم " لدلالة ذكره في " مريم " على قصده في " البقرة " كما أن كذبهم الذي صرح به في " البقرة " لم يصرح به في " مريم " لأن ما في " البقرة " يبين ما في " مريم " لأن القرآن العظيم يبين بعضه بعضا ، وذلك في قوله تعالى : وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون [ 2 \ 80 ] ، فالأوصاف هنا هي الأوصاف الثلاثة المذكورة في " مريم " كما أوضحنا ، وما حذف منها يدل عليه ذكره في " مريم " فاتخاذ العهد ذكره في " البقرة ومريم " معا والكذب في ذلك على الله صرح به في " البقرة " بقوله : أم تقولون على الله ما لا تعلمون [ 2 \ 80 ] ، وأشار له في " مريم " بحرف الزجر الذي هو كلا ، واطلاع الغيب صرح به في " مريم " وحذفه في " البقرة " لدلالة ما في " مريم " على المقصود في " البقرة " كما أوضحنا .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة .

المسألة الأولى

اعلم أن هذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم تكرر وروده في القرآن العظيم ، وقد ذكرنا الآن مثالين لذلك أحدهما في " البقرة " والثاني في " مريم " كما أوضحناه آنفا ، وذكر السيوطي في الإتقان في كلامه على جدل القرآن مثالا واحدا للسبر والتقسيم ، ومضمون المثال الذي ذكره باختصار ، هو ما تضمنه قوله تعالى : ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين الآيتين [ 6 \ 143 ] ، فكأن الله يقول للذين حرموا بعض الإناث كالبحائر والسوائب دون بعضها ، وحرموا بعض الذكور كالحامي دون بعضها : لا يخلو تحريمكم لبعض ما ذكر دون بعضه من أن يكون معللا بعلة معقولة أو تعبديا ، وعلى أنه معلل بعلة فإما أن تكون العلة في المحرم من الإناث الأنوثة ، ومن الذكور الذكورة ، أو تكون العلة فيهما معا التخلق في الرحم ، واشتمالها عليهما ، هذه هي الأقسام التي يمكن ادعاء إناطة الحكم بها ، ثم بعد حصر الأوصاف بهذا التقسيم نرجع إلى سبر الأقسام المذكورة ، أي : اختبارها ليتميز الصحيح من الباطل فنجدها كلها باطلة بالسبر الصحيح ; لأن كون العلة الذكورة يقتضي تحريم كل ذكر وأنتم تحلون بعض الذكور ، فدل ذلك على بطلان التعليل بالذكورة لقادح النقض الذي هو عدم الاطراد ، وكون العلة الأنوثة يقتضي تحريم كل أنثى كما ذكرنا فيما قبله ، وكون العلة اشتمال الرحم عليهما يقتضي تحريم [ ص: 494 ] الجميع ، وإلى هذا الإبطال أشار تعالى بقوله : قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين [ 6 \ 144 ] ، أي : فلو كانت العلة الذكورة لحرم كل ذكر ، ولو كانت الأنوثة لحرمت كل أنثى ، ولو كانت اشتمال الرحم عليهما لحرم الجميع ، وكون ذلك تعبديا يقتضي أن الله وصاكم به بلا واسطة ، إذ لم يأتكم منه رسول بذلك ، فدل ذلك على أنه باطل أيضا ، وأشار تعالى إلى بطلانه بقوله : أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا [ 6 \ 144 ] ، ثم بين أن ذلك التحريم بغير دليل من أشنع الظلم ، وأنه كذب مفترى وإضلال ، بقوله : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ 6 \ 144 ] ، ثم أكد عدم التحريم في ذلك بقوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به [ 6 \ 145 ] .

والحاصل أن إبطال جميع الأوصاف المذكورة دليل على بطلان الحكم المذكور كما أوضحنا ، ومن أمثلة السبر والتقسيم في القرآن قوله تعالى : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ، فكأنه تعالى يقول : لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح ، الأولى : أن يكونوا خلقوا من غير شيء أي : بدون خالق أصلا ، الثانية : أن يكونوا خلقوا أنفسهم ، الثالثة : أن يكون خلقهم خالق غير أنفسهم ، ولا شك أن القسمين الأولين باطلان ، وبطلانهما ضروري كما ترى ، فلا حاجة إلى إقامة الدليل عليه لوضوحه ، والثالث هو الحق الذي لا شك فيه ، أنه هو جل وعلا خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه وحده جل وعلا .

واعلم أن المنطقيين والأصوليين والجدليين كل منهم يستعملون هذا الدليل في غرض ليس هو غرض الآخر من استعماله ، إلا أن استعماله عند الجدليين أعم من استعماله عند المنطقيين والأصوليين .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #272  
قديم 01-04-2022, 12:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (270)

سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 495 إلى صـ 500






المسألة الثانية

اعلم أن مقصود الجدليين من هذا الدليل معرفة الصحيح والباطل من أوصاف محل النزاع ، وهو عندكم يتركب من أمرين ، الأول : حصر أوصاف المحل ، والثاني : إبطال الباطل منها وتصحيح الصحيح مطلقا ، وقد تكون باطلة كلها فيتحقق بطلان الحكم المستند إليها ، كآية قل آلذكرين [ 6 \ 144 ] المتقدمة ، وقد يكون بعضها باطلا وبعضها [ ص: 495 ] صحيحا ، كآية " مريم والبقرة والطور " التي قدمنا إيضاح هذا الدليل في كل واحدة منها ، وهذا الدليل أعم نفعا ، وأكثر فائدة على طريق الجدليين منه على طريق الأصوليين والمنطقيين .

المسألة الثالثة

اعلم : أن السبر والتقسيم عند الأصوليين يستعمل في شيء خاص ، وهو استنباط علة الحكم الشرعي بمسلك السبر والتقسيم ، وضابط هذا المسلك عند الأصوليين أمران ، الأول : هو حصر أوصاف الأصل المقيس عليه بطريق من طرق الحصر التي سنذكر بعضها إن شاء الله تعالى ، والثاني : إبطال ما ليس صالحا للعلة بطريق من طرق الإبطال التي سنذكر أيضا بعضها إن شاء الله تعالى ، وزاد بعضهم أمرا ثالثا وهو الإجماع على أن حكم الأصل معلل في الجملة لا تعبدي ، والجمهور لا يشترطون هذا الأخير ، والحاصل : أن هذا الدليل يتركب عند الأصوليين من أمرين ، الأول : حصر أوصاف المحل ، والثاني : إبطال ما ليس صالحا للعلة ، فإن كان الحصر والإبطال معا قطعيين فهو دليل قطعي ، وإن كانا ظنيين أو أحدهما ظنيا فهو دليل ظني ، ومثال ما كان الحصر والإبطال فيه قطعيين قوله تعالى : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ; لأن حصر أوصاف المحل في الأقسام الثلاثة قطعي لا شك فيه ، لأنهم إما أن يخلقوا من غير شيء أو يخلقوا أنفسهم أو يخلقهم خالق غير أنفسهم ، ولا رابع ألبتة ، وإبطال القسمين الأولين قطعي لا شك فيه : فيتعين أن الثالث حق لا شك فيه ، وقد حذف في الآية لظهوره ، فدلالة هذا السبر والتقسيم على عبادة الله وحده قطعية لا شك فيها ، وإن كان المثال بهذه الآية للقطعي من هذا الدليل إنما يصح على المراد به عند الجدليين دون الأصوليين ; لأن المراد التمثيل للقطعي من هذا الدليل ولو بمعناه الأعم ، والقطعي منه لا يمكن الاختلاف فيه ، وأما الظني فإن العلماء يختلفون فيه لاختلاف ظنون المجتهدين عند نظرهم في المسائل ، وقد اختلفوا في الربا في أشياء كثيرة كالتفاح ونحوه ، والنورة ونحوها بسبب اختلافهم في إبطال ما ليس بصالح فيقول بعضهم : هذا وصف يصح إبطاله ، ويقول الآخر : هو ليس بصالح فيلزم إبطاله كقولهم مثلا في حصر أوصاف البر الذي هو الأصل مثلا المحرم فيه الربا إذا أريد قياس الذرة عليه مثلا : إما أن يكون علة تحريم الربا في البر الكيل أو الطعم أو الاقتيات والادخار أو هما وغلبة العيش به أو المالية والملكية . فيقول المالكي : غير الاقتيات والادخار باطل ، ويدعي أن دليل بطلانه عدم الاطراد الذي هو النقض ، ويقول [ ص: 496 ] الحنفي والحنبلي : غير الكيل من تلك الأوصاف باطل ، والكيل : هو العلة التي هي مناط الحكم ، ويستدل على ذلك بأحاديث كحديث حيان بن عبيد الله عند الحاكم ، وفيه بعد ذكر الستة التي يمنع فيها الربا : وكذلك كل ما يكال أو يوزن ، وبالحديث الصحيح الذي فيه ، وكذلك الميزان . كما قدمناه مستوفى في سورة البقرة في الكلام على آية الربا .

ويقول الشافعي : غير الطعم باطل ، والعلة في تحريم الربا في البر الطعم ، ويستدل بحديث معمر بن عبد الله عند مسلم " الطعام بالطعام مثلا بمثل " الحديث . كما تقدم إيضاحه أيضا في البقرة ، وهذا النوع من القياس الذي يختلف المجتهدون في العلة فيه هو المعروف عند أهل الأصول بمركب الأصل ، وأشار إليه في مراقي السعود بقوله :


وإن يكن لعلتين اختلفا تركب الأصل لدى من سلفا
وأشار إلى مركب الوصف بقوله :

مركب الوصف إذا الخصم منع وجود ذا الوصف في الأصل المتبع والقياس المركب بنوعيه المذكورين لا تنهض الحجة به على الخصم خلافا لبعض الجدليين ، وإلى كون رده بالنسبة للخصم المخالف هو المختار ، أشار في مراقي السعود بقوله :


ورده انتفى وقيل يقبل وفي التقدم خلاف ينقل والضمير
في قوله : " ورده " راجع إلى المركب بنوعيه ، وهذا هو الحق ، فلا تنهض الحجة بقول الشافعي : إن العلة في تحريم الربا في البر الطعم ، على الحنفي والحنبلي القائلين إنها الكيل كالعكس ، وهكذا ، أما في حق المجتهد ومقلديه فظنه المذكور حجة ناهضة له ولمقلديه ، واعلم أن لحصر أوصاف المحل طرقا ، منها أن يكون الحصر عقليا كما قدمنا في آية أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ، وكقولك : إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عالما بهذا الأمر الذي تدعو الناس إليه أو غير عالم به : كما يأتي إيضاحه ، فأوصاف المحل محصورة في الأمرين المذكورين - إذ لا ثالث ألبتة - أنه لا واسطة بين الشيء ونقيضه كما هو معروف ، ومنها أن يدل على الحصر المذكور إجماع ، ومثل له بعض الأصوليين بإجبار البكر البالغة على النكاح عند من يقول به ، فإن علة الإجبار إما الجهل بالمصالح ، وإما البكارة . فإن قال المعترض : أين دليل حصر الأوصاف في الأمرين ؟ أجيب بأنه الإجماع على عدم التعليل بغيرهما ، فلو ادعى [ ص: 497 ] المستدل حصر أوصاف المحل ، فقال المعترض : أين دليل الحصر ؟ فقال المستدل : بحثت بحثا تاما عن أوصاف المحل فلم أجد غير ما ذكرت ، أو قال : الأصل عدم غير ما ذكرت ، فالصحيح أن هذا يكفيه في إثبات الحصر ، فإن قال المعترض : أنا أعلم وصفا زائدا لم تذكره ، قيل له : بينه ، فإن لم يبينه سقط اعتراضه ، وإن بين وصفا زائدا على الأوصاف التي ذكرها المستدل بطل حصر المستدل بمجرد إبداء المعترض الوصف الزائد ، إلا أن يبين المستدل أنه لا يصلح للعلية فيكون إذا وجوده وعدمه سواء ، وقول من قال : إنه لا يكفيه قوله : بحثت فلم أجد غير هذا - خلاف التحقيق ، وأشار في مراقي السعود إلى هذا المسلك من مسالك العلة بقوله :


والسبر والتقسيم قسم رابع أن يحصر الأوصاف فيه جامع
ويبطل الذي لها لا يصلح فما بقي تعيينه متضح
معترض الحصر في دفعه يرد بحثت ثم بعد بحثي لم أجد
أو انفقاد ما سواها الأصل وليس في الحصر لظن حظل
وهو قطعي إذا ما نميا للقطع والظني سواه وعيا
حجية الظني عند الأكثر في حق ناظر وفي المناظر
إن يبد وصفا زائدا معترض وفى به دون البيان الغرض
وقطع ذي السبر إذا منحتم والأمر في إبطاله منبهم
وقوله في هذه الأبيات " في حق ناظر وفي المناظر " محله ما لم يدع المناظر علة غير علته ، وإن ادعاها فلا تكون علة أحدهما حجة على الآخر ، كما أوضحناه آنفا ، وكما أشار له بقوله المذكور آنفا " ورده انتفى . . . " إلخ .

وإذا حصل حصر أوصاف المحل فإبطال غير الصالح منها له طرق معروفة :

منها : بيان أن الوصف طردي محض ، إما بالنسبة إلى جميع الأحكام كالطول والقصر ، والبياض والسواد ، أو بالنسبة إلى خصوص الحكم المتنازع في ثبوته أو نفيه ، كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى باب العتق ، فإنه لا فرق في أحكام العتق بين الذكر والأنثى ; لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إليه وصفان طرديان ، وإن كانا غير طرديين في غير العتق كالإرث والشهادة والقضاء وولاية النكاح ، فإن الذكر في ذلك ليس كالأنثى ، ويعرف كون الوصف طرديا - أي : لا مدخل له في التعليل أصلا - باستقراء موارد الشرع ومصادره ، إما مطلقا ، وإما في بعض الأبواب دون بعضها كما قدمناه آنفا .

[ ص: 498 ] ومثال إبطال الطردي في جميع الأحكام ما جاء في بعض روايات الحديث في المجامع في رمضان ، فإن في بعض الروايات أنه أعرابي ، وفي بعضها أنه جاء ينتف شعره ويضرب صدره ، والقاعدة المقررة في الأصول : أن المثال لا يعترض ; لأن المراد منه بيان القاعدة ، ويكفي فيه الفرض ومطلق الاحتمال ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :


والشأن لا يعترض المثال إذ قد كفى الغرض والاحتمال


فإذا عرفت ذلك ، فاعلم أن كونه أعرابيا ، وكونه جاء يضرب صدره وينتف شعره من أوصاف المحل في هذا الحكم ، وهي أوصاف يجب إبطالها وعدم تعليل وجوب الكفارة بها ; لأنها أوصاف طردية لا تحصل من إناطة الحكم بها فائدة أصلا ، فالأعرابي وغيره في ذلك سواء ، ومن جاء في سكينة ووقار ومن جاء يضرب صدره وينتف شعره في ذلك سواء أيضا ، ومثال الإبطال بكون الوصف طرديا في الباب الذي فيه النزاع دون غيره ، حديث " من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل ، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد . . . " الحديث ، وهو متفق عليه من حديث ابن عمر ، وقد قدمناه في سورة " الإسراء والكهف " فلفظ العبد الذكر في هذا الحديث وصف طردي ، فمن أعتق شركا له في أمة فكذلك ; لأنه عرف من استقراء الشرع أن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا تناط بهما أحكام العتق ، وإن كانت الذكورة والأنوثة غير طرديين في غير العتق كالميراث والشهادة كما تقدم ، والوصف الطردي في اصطلاح أهل الأصول : هو ما علم من الشرع إلغاؤه وعدم اعتباره ; لأنه ليس في إناطة الحكم به مصلحة أصلا فهو خال من المناسبة ، ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر ألا تظهر للوصف مناسبة ، والمناسبة في اصطلاح أهل الأصول : هي كون إناطة الحكم بالوصف تترتب عليها مصلحة فعدم المناسبة المذكورة من طرق إبطاله في مسلك السبر ، وإن كان عدم ظهور المناسبة في الوصف لا يبطله في بعض المسالك - غير السبر - كالإيماء على الأصح والدوران ، فالأحوال ثلاثة :

الأول : أن تظهر المناسبة ، وظهورها لا بد منه في مسلك السبر ومسلك المناسبة والإخالة .

الثاني : ألا تظهر المناسبة ولا عدمها ، وهذا يكفي في الدوران والإيماء على الصحيح .

[ ص: 499 ] الثالث : أن يظهر عدم المناسبة ، فيكون الوصف طرديا كما تقدم قريبا .

ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر كون الوصف ملغى وإن كان مناسبا للحكم المتنازع فيه ، ويكون الإلغاء باستقلال الوصف المستبقى بالحكم دونه في صورة مجمع عليها ، حكاه الفهري ، ومثاله قول الشافعي : إن الكيل والاقتيات ونحو ذلك أوصاف ملغاة بالنسبة إلى تحريم الربا في ملء كف من البر ; لأنه لا يكال ولا يقات لقلته ، فعلة تحريم الربا فيه الطعم لاستقلال علة الطعم بالحكم دون غيرها من الأوصاف في هذه الصورة ، والقصد مطلق التمثيل ، لا مناقشة الأمثلة .

ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر كون الوصف الذي أبقاه المستدل متعديا من محل الحكم إلى غيره ، والوصف الذي يريد المعترض إبقاءه قاصر على محل الحكم ، قال صاحب ) الضياء اللامع ( : وذلك يشبه تعارض العلة المتعدية والقاصرة ، وهو كما قال ، ومثاله : اختلاف الأئمة رحمهم الله في علة الكفارة في الإفطار عمدا في نهار رمضان ، فبعضهم يقول : العلة في ذلك خصوص الجماع ، وبعضهم يقول : العلة في ذلك انتهاك حرمة رمضان ، فكون الوصف المعلل به في هذا الحكم الجماع يقتضي عدم التعدي عن محل الحكم إلى غيره ، فلا تكون كفارة إلا في الجماع خاصة ، وكونه في هذا الحكم انتهاك حرمة رمضان يقضي التعدي في محل الحكم إلى غيره ، فتلزم الكفارة في الأكل والشرب عمدا في نهار رمضان بجامع انتهاك حرمة رمضان في الجميع من جماع وأكل وشرب ، فيترجح هذا الوصف بكونه متعديا على الآخر لقصوره على حمل الحكم وقصدنا التمثيل لا مناقشة الأمثلة ، ولا ينافي ما ذكرنا أن يأتي من يقول : العلة الجماع ، بمرجحات أخر لعلته ، وأشار في مراقي السعود إلى طرق الإبطال المذكورة بقوله :


أبطل لما طردا يرى ويبطل غير مناسب له المنخزل
كذلك بالإلغا وإن قد ناسبا ويتعدى وصفه الذي اجتبى
هذا هو حاصل كلام أهل الأصول في المقصود عندهم بهذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم .
المسألة الرابعة

اعلم : أن المقصود من هذا الدليل المذكور عند المنطقيين يخالف المقصود منه عند الأصوليين والجدليين ، فالتقسيم عند المنطقيين لا يكون إلا في الأوصاف التي بينها تناف [ ص: 500 ] وتنافر ، وهذا التقسيم هو المعبر عنه عندهم بالشرطي المنفصل ، ومقصودهم من ذكر تلك الأوصاف المتنافية هو أن يستدلوا بوجود بعضها على عدم بعضها ، وبعدمه على وجوده ، وهذا هو المعبر عنه عندهم ) بالاستثناء في الشرطي المنفصل ( وحرف الاستثناء عندهم هو " لكن " والتنافي المذكور بين الأوصاف المذكورة يحصره العقل في ثلاثة أقسام :

لأنه إما أن يكون في الوجود والعدم معا ، أو الوجود فقط ، أو العدم فقط ، ولا رابع ألبتة .

فإن كان في الوجود والعدم معا ، فهي عندهم الشرطية المنفصلة المعروفة بالحقيقية ، وهي مانعة الجميع والخلو معا ، ولا تتركب إلا من النقيضين ، أو من الشيء ومساوي نقيضيه ، وضابطها أن طرفيها لا يجتمعان معا ولا يرتفعان معا ، بل لا بد من وجود أحدهما وعدم الآخر ، وعدم اجتماعهما لما بينهما من المنافرة والعناد في الوجود ، وعدم ارتفاعهما لما بينهما من المنافرة والعناد في العدم ، وضروبها الأربعة منتجة ، كما لو قلت : العدد إما زوج وإما فرد ، فلو قلت : لكنه زوج أنتج فهو غير فرد ، ولو قلت : لكنه فرد أنتج فهو غير زوج ، ولو قلت : ولكنه غير زوج أنتج فهو فرد ، ولو قلت : لكنه غير فرد أنتج فهو زوج ، وضابط قياسها أنه يرجع إلى الاستدلال بعدم النقيض أو مساويه على وجود النقيض ، أو مساويه كعكسه .

وإن كان التنافر والعناد بين طرفيها في الوجود فقط فهي مانعة الجمع المجوزة للخلو ، ولا يلزم فيها حصر الأوصاف ، ولا تتركب إلا من قضية وأخص من نقيضها ، وضابطها : أن طرفيها لا يجتمعان لما بينهما من المنافرة والعناد في الوجود ، ولا مانع من ارتفاعهما لعدم العناد والمنافرة بينهما في العدم ، ومانعة الجمع المذكورة ينتج من قياسها ضربان ، ويعقم منه ضربان ، ومثالها قولك : الجسم إما أبيض ، وإما أسود ، فإن استثناء عين كل واحد من الطرفين ينتج نقيض الآخر ، بخلاف استثناء نقيض أحدهما فلا ينتج شيئا ، فلو قلت : الجسم إما أبيض وإما أسود لكنه أبيض ، أنتج : فهو غير أسود ، وإن قلت : لكنه أسود أنتج فهو غير أبيض ، بخلاف ما لو قلت : لكنه غير أبيض فلا ينتج كونه أسود ; لأن غير الأبيض صادق بالأسود وغيره ، وكذلك لو قلت : لكنه غير أسود ، فلا ينتج كونه أبيض لصدق غير الأسود بالأبيض وغيره ، فلا مانع من انتفاء الطرفين وكون جسم غير أبيض وغير أسود ; لأن مانعة الجميع تجوز الخلو من الطرفين بأن يكونا معدومين معا ، وإنما جاز فيها الخلو من الطرفين معا لواحد من سببين .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #273  
قديم 14-04-2022, 11:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (271)

سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 501 إلى صـ 507





الأول : وجود واسطة أخرى غير طرفي القضية المذكورة ، فقولنا في المثال السابق : الجسم إما أبيض ، وإما أسود يجوز فيه الخلو عن البياض والسواد لوجود واسطة أخرى من الألوان غير السواد والبياض ، كالحمرة والصفرة مثلا ، فالجسم الأحمر مثلا غير أبيض ولا أسود .

السبب الثاني : ارتفاع المحل ، كقولك : الجسم إما متحرك ، وإما ساكن ، فإنه إن انعدم بعض الأجسام التي كانت موجودة ورجع إلى العدم بعد الوجود فإنه يرتفع عنه كل من طرفي القضية المذكورة ، فلا يقال للمعدوم : هو ساكن ولا متحرك ; لأن المعدوم ليس بشيء ، بدليل قوله تعالى : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا [ 19 \ 9 ] ، وقوله : أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 67 ] .

وإن كان العناد والمنافرة بين طرفيها في العدم فقط فهي مانعة الخلو المجوزة للجمع ، وهي عكس التي ذكرنا قبلها تصورا وإنتاجا ، ولا تتركب إلا من قضية وأعم من نقيضها ، وضابطها أن طرفيها لا يرتفعان لما بينهما من المنافرة والعناد في العدم ، ولا مانع من اجتماعهما لعدم المنافرة والعناد بينهما في الوجود ، ومثالها : الجسم إما غير أبيض ، وإما غير أسود ، فإن هذا المثال قد يجتمع فيه الطرفان فلا مانع من وجود جسم موصوف بأنه غير أبيض وغير أسود ، كالأحمر ، فإنه غير أبيض وغير أسود ، ولكنه لا يمكن بحال وجود جسم خال من طرفي هذه القضية التي مثلنا بها ، فيكون خاليا من كونه غير أبيض وغير أسود ; لأنك إذا نفيت غير أبيض أثبت أنه أبيض ; لأن نفي النفي إثبات ، وإذا أثبت أنه أبيض استحال ارتفاع الطرف الثاني الذي هو غير أسود ; لأن الأبيض موصوف ضرورة بأنه غير أسود ، وهكذا في الطرف الآخر ، لأنك إذا نفيت غير أسود أثبت أنه أسود ، وإذا أثبت أنه أسود لزم ضرورة أنه غير أبيض ، وهو عين الآخر من طرفي القضية المذكورة ، وقياس هذه ينتج منه الضربان العقيمان في قياس التي قبلها ، ويعقم منه الضربان المنتجان في قياس التي قبلها ، فتبين أن استثناء نقيض كل واحد من الطرفين في قياس هذه الأخيرة ينتج عين الآخر ، وأن استثناء عين الواحد منهما لا ينتج شيئا .

فقولنا في المثال السابق : الجسم إما غير أبيض وإما غير أسود ، لو قلت فيه : لكنه أبيض ، أنتج ، فهو غير أسود ، ولو قلت : لكنه أسود أنتج فهو غير أبيض ، بخلاف ما لو قلت : لكنه غير أبيض ، فلا ينتج نفي الطرف الآخر ولا وجوده ; لأن غير الأبيض يجوز أن يكون أسود ، ويجوز أن يكون غير أسود بل أحمر أو أصفر ، وكذلك لو قلت : لكنه غير [ ص: 502 ] أسود ، لم يلزم منه نفي الطرف الآخر ولا إثباته ; لأن غير الأسود يجوز أن يكون أبيض وغير أبيض لكونه أحمر مثلا .

هذه خلاصة موجزة عن هذا الدليل المذكور في نظر المنطقيين .
المسألة الخامسة

اعلم أن لهذا الدليل آثارا تاريخية ، وسنذكر هنا إن شاء الله بعضها .

فمن ذلك أن هذا الدليل العظيم جاء في التاريخ أنه أول سبب لضعف المحنة العظمى على المسلمين في عقائدهم بالقول بخلق القرآن العظيم ، وذلك أن محنة القول بخلق القرآن نشأت في أيام المأمون ، واستفحلت جدا في أيام المعتصم ، واستمرت على ذلك في أيام الواثق ، وهي في جميع ذلك التاريخ قائمة على ساق وقدم .

ومعلوم ما وقع فيها من قتل بعض أهل العلم الأفاضل وتعذيبهم ، واضطرار بعضهم إلى المداهنة بالقول خوفا .

ومعلوم ما وقع فيها لسيد المسلمين في زمنه " الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل " - تغمده الله برحمته الواسعة ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا - من الضرب المبرح أيام المعتصم ، وقد جاء أن أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة وكبح جماحها هو هذا الدليل العظيم .

قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في الكلام على ترجمة " أحمد بن أبي دؤاد " : أخبرنا محمد بن الفرج بن علي البزار ، أخبرنا عبد الله بن إبراهيم بن ماسي ، حدثنا جعفر بن شعيب الشاشي ، حدثني محمد بن يوسف الشاشي ، حدثني إبراهيم بن منبه قال : سمعت طاهر بن خلف يقول : سمعت محمد بن الواثق الذي يقال له المهتدي بالله يقول : كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرنا ذلك المجلس ، فأتي بشيخ مخضوب مقيد فقال أبي : ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه ) يعني ابن أبي دؤاد ( قال : فأدخل الشيخ والواثق في مصلاه فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فقال له : لا سلم الله عليك فقال : يا أمير المؤمنين ، بئس ما أدبك مؤدبك ، قال الله تعالى : وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها [ 4 \ 86 ] ، والله ما حييتني بها ولا بأحسن منها ، فقال ابن أبي دؤاد : يا أمير المؤمنين ، الرجل متكلم ، فقال له : كلمه ، فقال : يا شيخ ، ما تقول في القرآن ؟ قال الشيخ : لم تنصفني - يعني ولي السؤال - فقال له : سل : فقال [ ص: 503 ] له الشيخ : ما تقول في القرآن ؟ فقال : مخلوق ، فقال : هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون ، أم شيء لم يعلموه ؟ فقال : شيء لم يعلموه ، فقال : سبحان الله شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أبو بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا علي ، ولا الخلفاء الراشدون ، علمته أنت ؟ ! قال : فخجل ، فقال : أقلني والمسألة بحالها ، قال : نعم ، قال : ما تقول في القرآن ؟ فقال مخلوق ، فقال : هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون أو لم يعلموه ؟ فقال : علموه ولم يدعوا الناس إليه ، قال : أفلا وسعك ما وسعهم ؟ ! قال : ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول : هذا شيء لم يعلمه النبي ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون ، علمته أنت ؟ سبحان الله ، شيء علمه النبي وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، والخلفاء الراشدون ولم يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم ؟ ثم دعا عمارا الحاجب ، فأمره أن يرفع عنه القيود ويعطيه أربعمائة دينار ، ويأذن له في الرجوع ، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد ، ولم يمتحن بعد ذلك أحدا . انتهى منه .

وذكر ابن كثير في تاريخه هذه القصة عن الخطيب البغدادي ، ولما انتهى من سياقها قال : ذكره الخطيب في تاريخه بإسناد فيه بعض من لا يعرف . اهـ .

ويستأنس لهذه القصة بما ذكره الخطيب وغيره : من أن الواثق تاب من القول بخلق القرآن .

قال ابن كثير في البداية والنهاية : قال الخطيب : وكان ابن أبي دؤاد استولى على الواثق وحمله على التشديد في المحنة ، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن : قال : ويقال إن الواثق رجع عن ذلك قبل موته ، فأخبرني عبد الله بن أبي الفتح ، أنبأ أحمد بن إبراهيم بن الحسن ، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة ، حدثني حامد بن العباس ، عن رجل عن المهتدي : أن الواثق مات وقد تاب من القول بخلق القرآن ، وعلى كل حال فهذه القصة لم تزل مشهورة عند العلماء صحيحة الاحتجاج ، فيها إلقام الخصم الحجر .

وحاصل هذه القصة التي ألقم بها هذا الشيخ - الذي كان مكبلا بالقيود يراد قتله - أحمد بن أبي دؤاد حجرا ، هو هذا الدليل العظيم الذي هو السبر والتقسيم . فكان الشيخ المذكور يقول لابن أبي دؤاد : مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها لا تخلو بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين : إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون عالمين بها أو غير [ ص: 504 ] عالمين بها ولا واسطة بين العلم وغيره ، فلا قسم ثالث ألبتة ، ثم إنه رجع بالسبر الصحيح إلى القسمين المذكورين فبين أن السبر الصحيح يظهر أن أحمد بن أبي دؤاد ليس على كل تقدير من التقديرين .

أما على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بها هو وأصحابه ، وتركوا الناس ولم يدعوهم إليها ، فدعوة ابن أبي دؤاد إليها مخالفة لما كان عليه النبي وأصحابه من عدم الدعوة لها ، وكان يسعه ما وسعهم .

وأما على كون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه غير عالمين بها ، فلا يمكن لابن أبي دؤاد أن يدعي أنه عالم بها مع عدم علمهم بها ، فظهر ضلاله على كل تقدير ، ولذلك سقط من عين الواثق ، وترك الواثق لذلك امتحان أهل العلم ، فكان هذا الدليل العظيم أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة الكبرى ، حتى أزالها الله بالكلية على يد المتوكل رحمه الله ، وفي هذا منقبة تاريخية عظيمة لهذا الدليل المذكور .

ومن آثار هذا الدليل التاريخية ما ذكره بعض المؤرخين ، من أن عبد الله بن همام السلولي وشى به واش إلى عبيد الله بن زياد ، فأدخل ابن زياد الواشي في محل قريب من مجلسه ، ثم نادى ابن همام السلولي وقال له : ما حملك على أن تقول في كذا وكذا ؟ ! فقال السلولي : أصلح الله الأمير والله ما قلت شيئا من ذلك ، فأخرج ابن زياد الواشي ، وقال : هذا أخبرني أنك قلت ذلك ، فسكت ابن همام هنيهة ثم قال مخاطبا للواشي :


وأنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا فخنت وإما قلت قولا بلا علم فأنت من الأمر الذي كان بيننا
بمنزلة بين الخيانة والإثم
فقال ابن زياد : صدقت . وطرد الواشي .

وحاصل هذين البيتين الذين طرد بهما ابن زياد الواشي ولم يتعرض للسلولي بسوء بسببهما ، هو هذا الدليل العظيم المذكور ، فكأنه يقول له : لا يخلو قولك هذا من أحد أمرين : إما أن أكون ائتمنتك على سر فأفشيته ، وإما أن تكون قلته علي كذبا ، ثم رجع بالسبر إلى القسمين المذكورين فبين أن الواشي مرتكب ما لا ينبغي على كل تقدير من التقديرين ; لأنه إذا كان ائتمنه على سر فأفشاه فهو خائن له ، وإن كان قال عليه ذلك كذبا وافتراء فالأمر واضح .
المسألة السادسة

اعلم : أن هذا الدليل التاريخي العظيم يوضح غاية الإيضاح موقف المسلمين [ ص: 505 ] الطبيعي من الحضارة الغربية ، وبذلك الإيضاح التام يتميز النافع من الضار ، والحسن من القبيح ، والحق من الباطل ، وذلك أن الاستقراء التام القطعي دل على أن الحضارة الغربية المذكورة تشتمل على نافع وضار : أما النافع منها فهو من الناحية المادية ، وتقدمها في جميع الميادين المادية أوضح من أن أبينه ، وما تضمنته من المنافع للإنسان أعظم مما كان يدخل تحت التصور ، فقد خدمت الإنسان خدمات هائلة من حيث إنه جسد حيواني ، وأما الضار منها فهو إهمالها بالكلية للناحية التي هي رأس كل خير ، ولا خير ألبتة في الدنيا بدونها ، وهي التربية الروحية للإنسان وتهذيب أخلاقه ، وذلك لا يكون إلا بنور الوحي السماوي الذي يوضح للإنسان طريق السعادة ، ويرسم له الخطط الحكيمة في كل ميادين الحياة الدنيا والآخرة ، ويجعله على صلة بربه في كل أوقاته .

فالحضارة الغربية غنية بأنواع المنافع من الناحية الأولى ، مفلسة إفلاسا كليا من الناحية الثانية .

ومعلوم أن طغيان المادة على الروح يهدد العالم أجمع بخطر داهم ، وهلاك مستأصل ، كما هو مشاهد الآن ، وحل مشكلته لا يمكن ألبتة إلا بالاستضاءة بنور الوحي السماوي الذي هو تشريع خالق السماوات والأرض ; لأن من أطغته المادة حتى تمرد على خالقه ورازقه لا يفلح أبدا .

والتقسيم الصحيح يحصر أوصاف المحل الذي هو الموقف من الحضارة الغربية في أربعة أقسام لا خامس لها ، حصرا عقليا لا شك فيه :

الأول : ترك الحضارة المذكورة نافعها وضارها .

الثاني : أخذها كلها ضارها ونافعها .

الثالث : أخذ ضارها وترك نافعها .

الرابع : أخذ نافعها وترك ضارها .

فنرجع بالسبر الصحيح إلى هذه الأقسام الأربعة ، فنجد ثلاثة منها باطلة بلا شك ، وواحدا صحيحا بلا شك .

أما الثلاثة الباطلة : فالأول منها تركها كلها ، ووجه بطلانه واضح ; لأن عدم الاشتغال بالتقدم المادي يؤدي إلى الضعف الدائم ، والتواكل والتكاسل ، ويخالف الأمر السماوي في قوله جل وعلا : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة الآية [ 18 \ 60 ] .


لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
[ ص: 506 ] القسم الثاني من الأقسام الباطلة أخذها ; لأن ما فيها من الانحطاط الخلقي وضياع الروحية والمثل العليا للإنسانية أوضح من أن أبينه ، ويكفي في ذلك ما فيها من التمرد على نظام السماء ، وعدم طاعة خالق هذا الكون جل وعلا : آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [ 42 \ 21 ] ، والقسم الثالث من الأقسام الباطلة هو أخذ الضار وترك النافع ، ولا شك أن هذا لا يفعله من له أقل تمييز ، فتعينت صحة القسم الرابع بالتقسيم والسبر الصحيح ، وهو أخذ النافع وترك الضار .

وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يفعل ، فقد انتفع بحفر الخندق في غزوة الأحزاب ، مع أن ذلك خطة عسكرية كانت للفرس ، أخبره بها سلمان فأخذ بها ، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها للكفار ، وقد هم صلى الله عليه وسلم بأن يمنع وطء النساء المراضع خوفا على أولادهن ; لأن العرب كانوا يظنون أن الغيلة - وهي وطء المرضع - تضعف ولدها وتضره ، ومن ذلك قول الشاعر :


فوارس لم يغالوا في رضاع فتنبو في أكفهم السيوف
فأخبرته صلى الله عليه وسلم فارس والروم بأنهم يفعلون ذلك ولا يضر أولادهم ، فأخذ صلى الله عليه وسلم منهم تلك الخطة الطبية ، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها من الكفار .

وقد انتفع صلى الله عليه وسلم بدلالة ابن الأريقط الدؤلي له في سفر الهجرة على الطريق ، مع أنه كافر .

فاتضح من هذا الدليل أن الموقف الطبيعي للإسلام والمسلمين من الحضارة الغربية هو أن يجتهدوا في تحصيل ما أنتجته من النواحي المادية ، ويحذروا مما جنته من التمرد على خالق الكون جل وعلا فتصلح لهم الدنيا والآخرة ، والمؤسف أن أغلبهم يعكسون القضية ، فيأخذون منها الانحطاط الخلقي ، والانسلاخ من الدين ، والتباعد من طاعة خالق الكون ، ولا يحصلون على نتيجة مما فيها من النفع المادي ، فخسروا الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين .

وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل وقد قدمنا طرفا نافعا في كون الدين لا ينافي التقدم المادي في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] ، فأغنى ذلك [ ص: 507 ] عن إعادته هنا ، وقد عرف في تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم كانوا يسعون في التقدم في جميع الميادين مع المحافظة على طاعة خالق السموات والأرض جل وعلا .

وأظهر الأقوال عندي في معنى العهد في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] ، أن المعنى : أم أعطاه الله عهدا أنه سيفعل له ذلك ، بدليل قوله تعالى في نظيره في سورة " البقرة " : قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده [ 2 \ 80 ] ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن ، وقيل : العهد المذكور : العمل الصالح ، وقيل شهادة أن لا إله إلا الله .
قوله تعالى : سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه سيكتب ما قاله ذلك الكافر افتراء عليه ، من أنه يوم القيامة يؤتى مالا وولدا مع كفره بالله ، وأنه يمد له من العذاب مدا ، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى : ونمد له من العذاب مدا [ 19 \ 79 ] أي : نزيده عذابا فوق عذاب ، وقال الزمخشري في الكشاف : ونمد له من العذاب مدا أي : نطول له من العذاب ما يستأهله ، ونعذبه بالنوع الذي يعذب به المستهزئون ، أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد ، يقال : مده وأمده ، بمعنى ، وتدل عليه قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه " ونمد له " ، بالضم .

وأكد ذلك بالمصدر ، وذلك من فرط غضب الله ، نعوذ به من التعرض لما يستوجب غضبه . اهـ .

وأصل المدد لغة : الزيادة ، ويدل لذلك المعنى قوله تعالى في أكابر الكفار الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله : زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون [ 16 \ 88 ] ، وقوله في الأتباع والمتبوعين : قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون [ 7 \ 38 ] .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #274  
قديم 14-04-2022, 11:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (272)

سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 508 إلى صـ 514




وقوله في هذه الآية : ونرثه ما يقول [ 19 \ 80 ] ، أي : ما يقول إنه يؤتاه يوم القيامة من مال وولد ، أي : نسلبه منه في الدنيا ما أعطيناه من المال والولد بإهلاكنا إياه ، وقيل : نحرمه ما تمناه من المال والولد في الآخرة ، ونجعله للمسلمين ، ويدل للمعنى الأول قوله تعالى : إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون [ 19 \ 40 ] ، وقوله : وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون [ 15 \ 23 ] ، كما تقدم إيضاحه في [ ص: 508 ] هذه السورة الكريمة .

وقوله : ويأتينا فردا ، أي : منفردا لا مال له ولا ولد ولا خدم ولا غير ذلك ، كما قال تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة الآية [ 6 \ 94 ] ، وقال تعالى : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [ 19 \ 95 ] كما تقدم إيضاحه .

فإن قيل : كيف عبر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بحرف التنفيس الدال على الاستقبال في قوله : سنكتب ما يقول مع أن ما يقوله الكافر يكتب بلا تأخير ، بدليل قوله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] .

فالجواب : أن الزمخشري في كشافه تعرض للجواب عن هذا السؤال بما نصه : .

قلت : فيه وجهان ، أحدهما : سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله ، على طريقة قول زائد بن صعصعة الفقعسي :


إذ ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري بها بدا
أي : تبين وعلم بالانتساب أني لست بابن لئيمة .

والثاني : أن المتوعد يقول للجاني : سوف أنتقم منك ، يعني أنه لا يخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان واستأخر ، فجردها هنا لمعنى الوعيد . انتهى منه بلفظه ، إلا أنا زدنا اسم قائل البيت وتكملته .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه يكتب ما يقول هذا الكافر ، ذكر نحوه في مواضع متعددة من كتابه ، كقوله تعالى : قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون [ 10 \ 21 ] وقوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] ، وقوله تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 29 ] وقوله تعالى : ستكتب شهادتهم ويسألون [ 43 \ 19 ] وقوله تعالى : سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق [ 3 \ 181 ] ، وقوله تعالى : كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 9 - 11 ] وقوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها [ 18 \ 49 ] ، وقوله تعالى : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 509 ] قوله تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار المتقدم ذكرهم في قوله : ونذر الظالمين فيها جثيا [ 19 \ 72 ] ، اتخذوا من دون الله آلهة أي معبودات من أصنام وغيرها يعبدونها من دون الله ، وأنهم عبدوهم لأجل أن يكونوا لهم عزا ، أي : أنصارا وشفعاء ينقذونهم من عذاب الله ، كما أوضح تعالى مرادهم ذلك في قوله : والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ 39 \ 3 ] ، فتقريبهم إياهم إلى الله زلفى في زعمهم هو عزهم الذي أملوه بهم ، وكقوله تعالى عنهم : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله الآية [ 10 \ 18 ] ، فالشفاعة عند الله عز لهم بهم يزعمونه كذبا وافتراء على الله ، كما بينه بقوله تعالى : قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ 10 \ 18 ] .

وقوله في هذه الآية الكريمة : كلا ، زجر وردع لهم عن ذلك الظن الفاسد الباطل ، أي : ليس الأمر كذلك ، لا تكون المعبودات التي عبدتم من دون الله عزا لكم ، بل تكون بعكس ذلك ، فتكون عليكم ضدا ، أي : أعوانا عليكم في خصومتكم وتكذيبكم والتبرؤ منكم ، وأقوال العلماء في الآية تدور حول هذا الذي ذكرنا ، كقول ابن عباس : ضدا أي : أعوانا ، وقول الضحاك : ضدا ، أي : أعداء ، وقول قتادة : ضدا ، أي : قرناء في النار يلعن بعضهم بعضا ، وكقول ابن عطية : ضدا يجيئهم منهم خلاف ما أملوه فيئول بهم ذلك إلى الذل والهوان ، ضد ما أملوه من العز .

وهذا المعنى الذي ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، بينه أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 5 - 6 ] ، وقوله تعالى : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 13 - 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وضمير الفاعل في قوله : سيكفرون فيه وجهان للعلماء ، وكلاهما يشهد له قرآن ، إلا أن لأحدهما قرينة ترجحه على الآخر .

[ ص: 510 ] الأول : أن واو الفاعل في قوله : سيكفرون ، راجعة إلى المعبودات التي كانوا يعبدونها من دون الله ، أما العاقل منها فلا إشكال فيه ، وأما غير العاقل فالله قادر على أن يخلق له إدراكا يخاطب به من عبده ويكفر به بعبادته إياه ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى عنهم : تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون [ 28 \ 63 ] ، وقوله تعالى : وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون [ 16 \ 86 ] ، وقوله تعالى : وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين [ 10 \ 28 - 29 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

الوجه الثاني : أن العابدين هم الذين يكفرون بعبادتهم شركاءهم وينكرونها ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله عنهم : بل لم نكن ندعو من قبل شيئا الآية [ 40 \ 74 ] إلى غير ذلك من الآيات .

والقرينة المرجحة للوجه الأول ، أن الضمير في قوله : ويكونون ، راجع للمعبودات ، وعليه فرجوع الضمير في يكفرون للمعبودات أظهر ; لانسجام الضمائر بعضها مع بعض .

أما على القول الثاني : فإنه يكون ضمير يكفرون للعابدين ، وضمير يكونون للمعبودين ، وتفريق الضمائر خلاف الظاهر ، والعلم عند الله تعالى .

وقول من قال من العلماء : إن كلا في هذه الآية متعلقة بما بعدها لا بما قبلها ، وأن المعنى : كلا سيكفرون ، أي : حقا سيكفرون بعبادتهم - محتمل ، ولكن الأول أظهر منه وأرجح ، وقائله أكثر ، والعلم عند الله تعالى ، وفي قوله : كلا قراءات شاذة تركنا الكلام عليها لشذوذها .

وقوله في هذه الآية : ليكونوا لهم عزا ، أفرد فيه العز مع أن المراد الجمع ; لأن أصله مصدر على حد قوله في الخلاصة :

ونعتوا بمصدر كثير فالتزموا الإفراد والتذكير والإخبار بالمصدر يجري على حكم النعت به ، وقوله : ضدا مفردا أيضا أريد به الجمع ، قال ابن عطية : لأنه مصدر في الأصل ، حكاه عنه أبو حيان في البحر ، وقال [ ص: 511 ] الزمخشري : الضد : العون ، وحد توحيد قوله عليه السلام ، " هم يد على من سواهم " لاتفاق كلمتهم ، وأنهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم .
قوله تعالى : ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا .

قوله : أرسلنا الشياطين الآية [ 19 \ 83 ] ، أي : سلطناهم عليهم وقيضناهم لهم ، وهذا هو الصواب ، خلافا لمن زعم أن معنى أرسلنا الشياطين الآية ، أي : خلينا بينهم وبينهم ، ولم نعصمهم من شرهم ، يقال : أرسلت البعير ، أي : خليته .

وقوله : تؤزهم أزا : الأز والهز والاستفزاز بمعنى ، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج ، فقوله : تؤزهم أزا ، أي : تهيجهم وتزعجهم إلى الكفر والمعاصي .

وأقوال أهل العلم في الآية راجعة إلى ما ذكرنا : كقول ابن عباس تؤزهم أزا ، أي : تغريهم إغراء " ، وكقول مجاهد تؤزهم أزا ، أي : تشليهم إشلاء ، وكقول قتادة تؤزهم أزا أي : تزعجهم إزعاجا .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه سلط الشياطين على الكافرين ، وقيضهم لهم يضلونهم عن الحق بينه في مواضع أخر من كتابه ، كقوله تعالى : وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم الآية [ 41 \ 25 ] ، وقوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل الآية [ 43 \ 36 ] وقوله تعالى : ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس الآية [ 6 \ 128 ] وقوله : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا .

قوله : فلا تعجل عليهم [ 19 \ 84 ] ، أي : لا تستعجل وقوع العذاب بهم فإن الله حدد له أجلا معينا معدودا ، فإذا انتهى ذلك الأجل جاءهم العذاب ، فقوله : إنما نعد لهم عدا ، أي : نعد الأعوام والشهور والأيام التي دون وقت هلاكهم ، فإذا جاء الوقت المحدد لذلك أهلكناهم ، والعرب تقول : عجلت عليه بكذا : إذا استعجلته منه .

ومما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن هلاك الكفار حدد له أجل معدود ذكره في مواضع كثيرة من كتابه ، كقوله تعالى : [ ص: 512 ] ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار [ 46 \ 35 ] وقوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب الآية [ 29 \ 53 ] وقوله : وما نؤخره إلا لأجل معدود [ 11 \ 104 ] وقوله : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه [ 11 \ 8 ] وقوله : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] وقوله تعالى : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 24 ] ، وقوله : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار الآية [ 2 \ 126 ] ، وقوله : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [ 86 \ 17 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وروي أن المأمون قرأ هذه السورة الكريمة فمر بهذه الآية وعنده جماعة من الفقهاء ، فأشار إلى ابن السماك أن يعظه ، فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ، ولم يكن لها مدد ، فما أسرع ما تنفد .

والأظهر في الآية هو ما ذكرنا من أن العد المذكور عد الأعوام والأيام والشهور من الأجل المحدد .

وقال بعض أهل العلم : هو عد أنفاسهم ، كما أشار إليه ابن السماك في موعظته للمأمون التي ذكرنا إن صح ذلك ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما " أنه كان إذا قرأها بكى ، وقال : آخر العدد خروج نفسك ، آخر العدد : فراق أهلك ، آخر العدد : دخول قبرك " .

وقال بعض أهل العلم : إنما نعد لهم عدا أي : نعد أعمالهم لنجازيهم عليها ، والظاهر هو ما قدمنا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المتقين الذين كانوا يتقونه في دار الدنيا بامتثال أمره واجتناب نهيه يحشرون إليه يوم القيامة في حال كونهم وفدا ، والوفد على التحقيق : جمع وافد كصاحب وصحب ، وراكب وركب ، وقدمنا في سورة " النحل " أن التحقيق أن الفعل بفتح فسكون من صيغ جموع الكثرة للفاعل وصفا ، وبينا شواهد ذلك من العربية ، وإن أغفله الصرفيون ، والوافد : من يأتي إلى الملك مثلا إلى أمر له شأن ، وجمهور المفسرين على أن معنى قوله : وفدا [ 19 \ 85 ] ، أي : ركبانا ، وبعض العلماء يقول : هم ركبان على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة ، وبعضهم يقول : [ ص: 513 ] يحشرون ركبانا على صور من أعمالهم الصالحة في الدنيا في غاية الحسن وطيب الرائحة .

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن خالد عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن مرزوق يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، قال : يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحا ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أما تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد طيب ريحك ، وحسن وجهك ، فيقول : أنا عملك الصالح ، وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه ، فطالما ركبتك في الدنيا فهلم اركبني ، فذلك قوله : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، قال : ركبانا " ، وقال ابن جرير : حدثني ابن المثنى ، حدثني ابن مهدي عن سعيد عن إسماعيل عن رجل عن أبي هريرة " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، قال : على الإبل ، وقال ابن جريج : على النجائب ، وقال الثوري : على الإبل النوق ، وقال قتادة يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا قال : إلى الجنة ، وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثنا سويد بن سعيد ، أخبرنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق ، حدثنا النعمان بن سعد قال : كنا جلوسا عند علي رضي الله عنه فقرأ هذه الآية : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، قال : والله ما على أرجلهم يحشرون ، ولا يحشر الوفد على أرجلهم ، ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها ، عليها رحائل من ذهب فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة ! ! وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني به ، وزاد " عليها رحائل من ذهب ، وأزمتها الزبرجد . " والباقي مثله ، وروى ابن أبي حاتم هنا حديثا غريبا جدا مرفوعا عن علي قال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي ، حدثنا سلمة بن جعفر البجلي ، سمعت أبا معاذ البصري يقول : إن عليا كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، فقال : ما أظن الوفد إلا الركب يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون - أو : يؤتون - بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحائل الذهب ، شراك نعالهم نور يتلألأ ، كل خطوة منها مد البصر ، فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم من دنس ، ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدا ، وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون - أو : فيأتون - باب الجنة فإذا حلقة من ياقوت [ ص: 514 ] حمراء على صفائح الذهب ، فيضربون بالحلقة على الصفحة فيسمع لها طنين يا علي ، فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل فتبعث قيمها ليفتح له فإذا رآه خر له ) قال سلمة : أراه قال ساجدا ( فيقول : ارفع رأسك فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك ، فيتبعه ويقفو أثره فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه . " إلى آخر الحديث بطوله ، وفي آخر السياق : هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعا ، وقد رويناه في المقدمات من كلام علي رضي الله عنه ، وهو أشبه بالصحة ، والله أعلم . اهـ .

وركوبهم المذكور إنما يكون من المحشر إلى الجنة ، أما من القبر فالظاهر أنهم يحشرون مشاة ، بدليل حديث ابن عباس الدال على أنهم يحشرون حفاة عراة غرلا ، هذا هو الظاهر وجزم به القرطبي ، والله تعالى أعلم .

وقوله في هذه الآية الكريمة : ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا [ 19 \ 86 ] ، السوق معروف ، والمجرمون : جمع تصحيح للمجرم ، وهو اسم فاعل الإجرام ، والإجرام : ارتكاب الجريمة ، وهي الذنب الذي يستحق صاحبه به النكال والعذاب ، ولم يأت الإجرام في القرآن إلا من " أجرم " الرباعي على وزن أفعل ، ويجوز إتيانه في اللغة بصيغة الثلاثي فتقول : جرم يجرم كضرب يضرب ، والفاعل منه جارم ، والمفعول مجروم ، كما هو ظاهر ، ومنه قول عمرو بن البراقة النهمي :

وننصر مولانا ونعلم أنه كما الناس مجروم عليه وجارم وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة وردا ، أي : عطاشا ، وأصل الورد : الإتيان إلى الماء ، ولما كان الإتيان إلى الماء لا يكون إلا من العطش أطلق هنا اسم الورد على الجماعة العطاش ، أعاذنا الله والمسلمين من العطش في الآخرة والدنيا ، ومن إطلاق الورد على المسير إلى الماء قول الراجز يخاطب ناقته :


ردي ردي ورد قطاة صما كدرية أعجبها برد الما
واختلف العلماء في العامل الناصب لقوله : يوم نحشر المتقين ، فقيل منصوب بـ يملكون بعده ، أي : لا يملكون الشفاعة يوم نحشر المتقين ، واختاره أبو حيان في البحر ، وقيل : منصوب بـ " اذكر " أو احذر ، مقدرا ، وفيه أقوال غير ذلك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #275  
قديم 14-04-2022, 11:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (273)

سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 515 إلى صـ 519




وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى في سورة " الزمر " : [ ص: 515 ] وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ 39 \ 71 - 73 ] .
قوله تعالى : لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 87 ] .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون في الآية وجهان أو أوجه من التفسير كلها حق ، وكل واحد منها يشهد له قرآن ، فإنا نذكر الجميع وأدلته من كتاب الله تعالى ; لأنه كله حق ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه الآية الكريمة من ذلك النوع ، قال بعض أهل العلم : الواو في قوله : لا يملكون راجعة إلى المجرمين المذكورين في قوله : ونسوق المجرمين إلى جهنم أي : لا يملك المجرمون الشفاعة ، أي : لا يستحقون أن يشفع فيهم شافع يخلصهم مما هم فيه من الهول والعذاب .

وهذا الوجه من التفسير تشهد له آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين [ 74 \ 48 ] ، وقوله تعالى : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم [ 26 \ 100 - 101 ] وقوله تعالى : وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع الآية [ 40 \ 18 ] وقوله : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [ 21 \ 28 ] مع قوله : ولا يرضى لعباده الكفر [ 39 \ 7 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وهذا الوجه يفهم منه بالأحرى أن المجرمين لا يشفعون في غيرهم ; لأنهم إذا كانوا لا يستحقون أن يشفع فيهم غيرهم لكفرهم فشفاعتهم في غيرهم ممنوعة من باب أولى ، وعلى كون الواو في لا يملكون راجعة إلى المجرمين فالاستثناء منقطع و " من " في محل نصب ، والمعنى : لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا يملكون الشفاعة ، أي : بتمليك الله إياهم وإذنه لهم فيملكون الشفاعة بما ذكرنا ويستحقها به المشفوع لهم ، قال تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ 2 \ 255 ] وقال : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [ 21 \ 28 ] وقال : وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى [ 53 \ 26 ] .

[ ص: 516 ] وقال بعض أهل العلم : الواو في قوله : لا يملكون الشفاعة راجعة إلى " المتقين " ، " والمجرمين " جميعا المذكورين في قوله : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ، وعليه فالاستثناء في قوله : إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 87 ] متصل ، و من بدل من الواو في " لا يملكون " ، أي : لا يملك من جميعهم أحد الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا وهم المؤمنون ، والعهد : العمل الصالح والقول بأنه لا إله إلا الله ، وغيره من الأقوال يدخل في ذلك ، أي : إلا المؤمنون فإنهم يشفع بعضهم في بعض ، كما قال تعالى : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا [ 20 \ 109 ] ، وقد بين تعالى في مواضع أخر : أن المعبودات التي يعبدونها من دون الله لا تملك الشفاعة ، وأن من شهد بالحق يملكها بإذن الله له في ذلك ، وهو قوله تعالى : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق الآية [ 43 \ 86 ] ، أي : لكن من شهد بالحق يشفع بإذن الله له في ذلك ، وقال تعالى : ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء الآية [ 30 \ 12 - 13 ] وقال تعالى : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم الآية [ 10 \ 18 ] ، والأحاديث في الشفاعة وأنواعها كثيرة معروفة ، والعلم عند الله تعالى .

وفي إعراب جملة لا يملكون وجهان ، الأول : أنها حالية ، أي : نسوق المجرمين إلى جهنم في حال كونهم لا يملكون الشفاعة ، أو : نحشر المتقين ونسوق المجرمين في حال كونهم لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ منهم عند الرحمن عهدا ، والثاني أنها مستأنفة للإخبار ، حكاه أبو حيان في البحر ، ومن أقوال العلماء في العهد المذكور في الآية : أنه المحافظة على الصلوات الخمس ، واستدل من قال ذلك بحديث عبادة بن الصامت الذي قدمناه عند الكلام على قوله تعالى فخلف من بعدهم خلف الآية [ 19 \ 59 ] .

وقال بعضهم : العهد المذكور : هو أن يقول العبد كل صباح ومساء : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، فلا تكلني إلى نفسي ، فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير وتقربني من الشر ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، [ ص: 517 ] فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد ، فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعا ووضعها تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين لهم عند الله عهد ؟ فيقوم فيدخل الجنة . انتهى ، ذكره القرطبي بهذا اللفظ مرفوعا عن ابن مسعود ، وذكر صاحب الدر المنثور أنه أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن مسعود موقوفا عليه ، وليس فيه قوله : فإذا قال ذلك . . . إلخ ، وذكر صاحب الدر المنثور أيضا : أن الحكيم الترمذي أخرج نحوه مرفوعا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، والظاهر أن المرفوع لا يصح ، والذي يظهر لي أن العهد في الآية يشمل الإيمان بالله وامتثال أمره واجتناب نهيه ، خلافا لمن زعم أن العهد في الآية كقول العرب : عهد الأمير إلى فلان بكذا ، أي : أمره به ، أي : لا يشفع إلا من أمره الله بالشفاعة ، فهذا القول ليس صحيحا في المراد بالآية وإن كان صحيحا في نفسه ، وقد دلت على صحته آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ 2 \ 255 ] ، وقوله : وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى [ 53 \ 26 ] ، وقوله : ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له [ 34 \ 23 ] ، وقوله : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن الآية [ 20 \ 109 ] ، وقوله تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا الآيات [ 2 \ 116 ] ، وقد تكلمنا عليها وعلى الآيات التي بمعناها في القرآن في مواضع متعددة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا الآية .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر في القرآن لفظ عام ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه ، وقد قدمنا أمثلة متعددة لذلك ، فإذا علمت ذلك فاعلم أنه جل وعلا في هذه الآية الكريمة ذكر أنه سيجعل لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات ودا ، أي محبة في قلوب عباده ، وقد صرح في موضع آخر بدخول نبيه موسى عليه السلام وعلى نبينا الصلاة والسلام في هذا العموم ، وذلك في قوله : وألقيت عليك محبة مني الآية [ 20 \ 39 ] ، وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه ، قال : فيحبه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه ، قال : فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإن الله إذا أبغض عبدا دعا جبريل ، فقال يا جبريل إني أبغض فلانا فأبغضه ، قال : فيبغضه جبريل ، [ ص: 518 ] ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه ، قال : فيبغضه أهل السماء ، ثم يوضع له البغضاء في الأرض " اهـ .
قوله تعالى : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه إنما يسر هذا القرآن بلسان هذا النبي العربي الكريم ، ليبشر به المتقين ، وينذر به الخصوم الألداء ، وهم الكفرة ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في مواضع أخر ، أما ما ذكر فيها من تيسير هذا القرآن العظيم فقد أوضحه في مواضع أخر ، كقوله في سورة " القمر " مكررا لذلك : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ 54 \ 32 ] ، وقوله في آخر " الدخان " : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون [ 44 \ 58 ] ، وأما ما ذكر فيها من كونه بلسان هذا النبي العربي الكريم فقد ذكره في مواضع أخر ، كقوله : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 192 - 195 ] ، وقوله تعالى : الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [ 12 \ 1 - 2 ] ، وقوله تعالى : حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [ 43 \ 1 ] ، وقوله تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله في هذه الآية الكريمة : لتبشر به المتقين الآية ، قد أوضحنا الآيات الدالة عليه في سورة " الكهف " وغيرها فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وأظهر الأقوال في قوله : لدا أنه جمع الألد ، وهو شديد الخصومة ، ومنه قوله تعالى : وهو ألد الخصام [ 2 \ 204 ] ، وقول الشاعر :

أبيت نجيا للهموم كأنني أخاصم أقواما ذوي جدل لدا
قوله تعالى : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا [ الآية 98 ] .

" وكم " في هذه الآية الكريمة هي الخبرية ، وهي في محل نصب ; لأنها مفعول أهلكنا ، و من هي المبينة لـ " كم " كما تقدم إيضاحه .

وقوله : هل تحس منهم من أحد ، أي : هل ترى أحدا منهم ، أو تشعر به ، أو تجده أو تسمع لهم ركزا ، أي : صوتا ، وأصل الركز : الصوت الخفي ، ومنه ركز [ ص: 519 ] الرمح : إذا غيب طرفه وأخفاه في الأرض ، ومنه الركاز : وهو دفن جاهلي مغيب بالدفن في الأرض ، ومن إطلاق الركز على الصوت قول لبيد في معلقته :


فتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها
وقول طرفة في معلقته :


وصادقتا سمع التوجس للسرى لركز خفي أو لصوت مندد
وقول ذي الرمة :


إذا توجس ركزا مقفر ندس بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
والاستفهام في قوله : هل يراد به النفي ، والمعنى : أهلكنا كثيرا من الأمم الماضية فما ترى منهم أحدا ولا تسمع لهم صوتا ، وما ذكره في هذه الآية من عدم رؤية أشخاصهم ، وعدم سماع أصواتهم ذكر بعضه في غير هذا الموضع ، كقوله في عاد : فهل ترى لهم من باقية [ 69 \ 8 ] ، وقوله فيهم : فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم [ 46 \ 25 ] ، وقوله : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد [ 22 \ 45 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ طه


[ ص: 3 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : طه .

أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ الطَّاءَ وَالْهَاءَ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ ، جَاءَتَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ لَا نِزَاعَ فِيهَا فِي أَنَّهُمَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ ، أَمَّا الطَّاءُ فَفِي فَاتِحَةِ " الشُّعَرَاءِ " طسم [ 26 1 ] وَفَاتِحَةِ " النَّمْلِ " طس [ 27 1 ] . وَفَاتِحَةِ " الْقَصَصِ " وَأَمَّا الْهَاءُ فَفِي فَاتِحَةِ " مَرْيَمَ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كهيعص [ 19 1 ] وَقَدْ قَدَّمَّنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ .

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : قَوْلُهُ طه : مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ . قَالُوا : وَهِيَ لُغَةُ بَنِي عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ ، وَبَنِي طَيِّئٍ ، وَبَنِي عُكْلٍ ، قَالُوا : لَوْ قُلْتَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عَكِّ : يَا رَجُلُ ، لَمْ يَفْهَمْ أَنَّكَ تُنَادِيهِ حَتَّى تَقُولَ طه ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ التَّمِيمِيِّ :
دَعَوْتُ بِطه فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُوَائِلًا

وَيُرْوَى مُزَايِلًا ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : مَعْنَى ( طه ) بِلُغَةِ عَكٍّ يَا حَبِيبِي ، ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ . وَقَالَ قُطْرُبٌ : هُوَ بِلُغَةِ طَيِّئٍ ، وَأَنْشَدَ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلْهِلِ :


إِنَّ السَّفَاهَةَ طه فِي شَمَائِلِكُمْ لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الْقَوْمِ الْمَلَاعِينِ


وَيُرْوَى :
إِنَّ السَّفَاهَةَ طه مِنْ خَلَائِقِكُمْ لَا قَدَّسَ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْمَلَاعِينِ


وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ مَعْنَى " طه " : يَا رَجُلُ ، ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ ، وَأَبُو مَالِكٍ ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَابْنُ أَبْزَى ، وَغَيْرُهُمْ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَغَيْرُهُ . وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ " طه " يَعْنِي طَأِ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْكَ يَا مُحَمَّدُ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْهَاءُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْهَمْزَةِ ، وَالْهَمْزَةُ خُفِّفَتْ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا كَقَوْلٍ فِي الْفَرَزْدَقِ :

[ ص: 4 ]
رَاحَتْ بِمُسْلِمَةِ الْبِغَالِ عَشِيَّةً فَارْعَيْ فَزَارَةَ لَا هَنَاكَ الْمَرْتَعُ


ثُمَّ بُنِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ . وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ التَّعَسُّفِ ، وَالْبُعْدِ عَنِ الظَّاهِرِ .

وَفِي قَوْلِهِ طه أَقْوَالٌ أُخَرُ ضَعِيفَةٌ ، كَالْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الطَّاءَ مِنَ الطَّهَارَةِ ، وَالْهَاءَ مِنَ الْهِدَايَةِ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ : يَا طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ ، يَا هَادِيَ الْخَلْقِ إِلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ . وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ هُوَ مَا صَدَّرْنَا بِهِ ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ .
قوله تعالى : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى

. في قوله تعالى : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وجهان من التفسير ، وكلاهما يشهد له قرآن :

الأول أن المعنى : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى . أي لتتعب التعب الشديد بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم ، وتحسرك على أن يؤمنوا . وهذا الوجه جاءت بنحوه آيات كثيرة ، كقوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات الآية [ 35 8 ] ، وقوله تعالى فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 18 6 ] وقوله لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 6 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وقد قدمنا كثيرا منها في مواضع من هذا الكتاب المبارك .

الوجه الثاني أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بالليل حتى تورمت قدماه ، فأنزل الله ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى أي تنهك نفسك بالعبادة ، وتذيقها المشقة الفادحة . وما بعثناك إلا بالحنيفية السمحة . وهذا الوجه تدل له ظواهر آيات من كتاب الله ، كقوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 78 ] ، وقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ 2 185 ] . والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #276  
قديم 14-04-2022, 11:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (274)

سُورَةُ طه

صـ 5 إلى صـ 11




ويفهم من قوله : لتشقى أنه أنزل عليه ليسعد . كما يدل له الحديث الصحيح : " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " وقد روى الطبراني عن ثعلبة بن الحكم رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله يقول للعلماء يوم القيامة : " إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي " وقال ابن كثير : إن إسناده جيد ، ويشبه معنى الآية على هذا القول الأخير قوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الآية [ ص: 5 ] [ 73 20 ] . وأصل الشقاء في لغة العرب : العناء ، والتعب ، ومنه قول أبي الطيب :


ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم


ومنه قوله تعالى : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [ 20 117 ] .
وقوله تعالى : إلا تذكرة لمن يخشى .

أظهر الأقوال فيه : أنه مفعول لأجله ، أي ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة ، أي إلا لأجل التذكرة لمن يخشى الله ويخاف عذابه . والتذكرة : الموعظة التي تلين لها القلوب . فتمتثل أمر الله ، وتجتنب نهيه . وخص بالتذكرة من يخشى دون غيرهم ، لأنهم هم المنتفعون بها ، كقوله تعالى : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد [ 50 \ 45 ] ، وقوله : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب [ 36 11 ] وقوله : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 45 ] . فالتخصيص المذكور في الآيات بمن تنفع فيهم الذكرى لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم . وما ذكره هنا من أنه ما أنزل القرآن إلا للتذكرة بينه في غير هذا الموضع كقوله : إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم [ 81 27 - 28 ] ، وقوله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين [ 6 90 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وإعراب إلا تذكرة بأنه بدل من لتشقى لا يصح ، لأن التذكرة ليست بشقاء . وإعرابه مفعولا مطلقا أيضا غير ظاهر . وقال الزمخشري في الكشاف : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى :

ما أنزلنا عليك هذا التعب الشاق إلا ليكون تذكرة . وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون تذكرة حالا ومفعولا له .
قوله تعالى : تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا

.

في قوله تنزيلا أوجه كثيرة من الإعراب ذكرها المفسرون . وأظهرها عندي أنه مفعول مطلق ، منصوب بنزل مضمرة دل عليها قوله : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى أي نزله الله تنزيلا ممن خلق الأرض أي فليس بشعر ، ولا كهانة ، ولا سحر ، ولا أساطير الأولين ، كما دل لهذا المعنى قوله تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين [ 69 41 ] ، والآيات المصرحة بأن القرآن منزل من رب العالمين كثيرة جدا معروفة ، [ ص: 6 ] كقوله وإنه لتنزيل رب العالمين [ 26 192 ] ، وقوله : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم [ 39 1 ] وقوله : تنزيل من الرحمن الرحيم [ 41 2 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى

.

تقدم إيضاح الآيات الموضحة لهذه الآية وأمثالها في القرآن في سورة الأعراف مستوفى فأغنى عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى

. خاطب الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة بأنه : إن يجهر بالقول أي يقوله جهرة في غير خفاء ، فإنه جل وعلا يعلم السر وما هو أخفى من السر . وهذا المعنى الذي أشار إليه هنا ذكره في مواضع أخر ، كقوله : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور [ 67 13 ] ، وقوله : والله يعلم ما تسرون وما تعلنون [ 16 19 ] ، وقوله تعالى : والله يعلم إسرارهم [ 47 26 ] ، وقوله تعالى : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية [ 25 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وفي المراد بقوله في هذه الآية وأخفى أوجه معروفة كلها حق ويشهد لها قرآن . قال بعض أهل العلم يعلم السر : أي ما قاله العبد سرا وأخفى أي ويعلم ما هو أخفى من السر ، وهو ما توسوس به نفسه . كما قال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ 50 \ 16 ] . وقال بعض أهل العلم : فإنه يعلم السر : أي ما توسوس به نفسه وأخفى من ذلك ، وهو ما علم الله أن الإنسان سيفعله قبل أن يعلم الإنسان أنه فاعله ، كما قال تعالى : ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون [ 23 63 ] ، وكما قال تعالى : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 32 ] فالله يعلم ما يسره الإنسان اليوم . وما سيسره غدا . والعبد لا يعلم ما في غد كما قال زهير في معلقته :


وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم


وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأخفى صيغة تفضيل كما بينا ، أي [ ص: 7 ] ويعلم ما هو أخفى من السر . وقول من قال : إن " أخفى " فعل ماض بمعنى أنه يعلم سر الخلق ، وأخفى عنهم ما يعلمه هو . كقوله : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 110 ] ظاهر السقوط كما لا يخفى .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر أي فلا حاجة لك إلى الجهر بالدعاء ونحوه ، كما قال تعالى : ادعوا ربكم تضرعا وخفية [ 7 55 ] ، وقال تعالى : واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول [ 7 205 ] . ويوضح هذا المعنى الحديث الصحيح . لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع أصحابه رفعوا أصواتهم بالتكبير قال - صلى الله عليه وسلم - : " أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ، ولا غائبا ، إنما تدعون سميعا بصيرا . إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " .
قوله تعالى : الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى

.

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه المعبود وحده ، وأن له الأسماء الحسنى . وبين أنه المعبود وحده في آيات لا يمكن حصرها لكثرتها ، كقوله : الله لا إله إلا هو الحي القيوم [ 2 255 ] ، وقوله : فاعلم أنه لا إله إلا الله الآية [ 47 19 ] .

وبين في مواضع أخر أن له الأسماء الحسنى ، وزاد في بعض المواضع الأمر بدعائه بها ، كقوله تعالى : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [ 7 180 ] ، وقوله : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى [ 17 110 ] وزاد في موضع آخر تهديد من ألحد في أسمائه . وهو قوله : وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون [ 7 180 ] .

قال بعض العلماء : ومن إلحادهم في أسمائه أنهم اشتقوا العزى من اسم العزيز ، واللات من اسم الله وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة " وقد دل بعض الأحاديث على أن من أسمائه جل وعلا ما استأثر به ولم يعلمه خلقه ، كحديث : " أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك " الحديث .

وقوله : الحسنى تأنيث الأحسن ، وإنما وصف أسماءه جل وعلا بلفظ المؤنث المفرد ، لأن جمع التكسير مطلقا وجمع المؤنث السالم يجريان مجرى المؤنثة الواحدة [ ص: 8 ] المجازية التأنيث ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :


والتاء مع جمع سوى السالم من مذكر كالتاء من إحدى اللبن


ونظير قوله هنا الأسماء الحسنى من وصف الجمع بلفظ المفرد المؤنث قوله : من آياتنا الكبرى [ 20 23 ] ، وقوله : مآرب أخرى [ 20 18 ] .
قوله تعالى : وهل أتاك حديث موسى الآيات [ 20 9 ] .

قد بينا الآيات الموضحة لها في سورة " مريم " في الكلام على قوله تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا [ الآية 52 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي

.

قال بعض العلماء : دل قوله عقدة من لساني بالتنكير ، والإفراد ، وإتباعه لذلك بقوله يفقهوا قولي على أنه لم يسأل إزالة جميع ما بلسانه من العقد ، بل سأل إزالة بعضها الذي يحصل بإزالته فهم كلامه مع بقاء بعضها . وهذا المفهوم دلت عليه آيات أخر ، كقوله تعالى عنه : وأخي هارون هو أفصح مني لسانا الآية [ 28 34 ] ، وقوله تعالى عن فرعون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [ 43 52 ] ، والاستدلال بقول فرعون عن موسى ، فيه أن فرعون معروف بالكذب ، والبهتان . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة . أنه من على موسى مرة أخرى قبل منه عليه بالرسالة ورسالة أخيه معه ، وذلك بإنجائه من فرعون وهو صغير ، إذ أوحى إلى أمه أي ألهمها وقذف في قلبها ، وقال بعضهم : هي رؤيا منام . وقال بعضهم : أوحى إليها ذلك بواسطة ملك كلمها بذلك . ولا يلزم من الإيحاء في أمر خاص أن يكون الموحى إليه نبيا ، و " أن " في قوله أن اقذفيه هي المفسرة ، لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه . والتعبير بالموصول في قوله ما يوحى للدلالة على تعظيم شأن الأمر المذكور .

كقوله : فغشيهم من اليم ما غشيهم [ 20 78 ] ، وقوله فأوحى إلى عبده ما أوحى [ 53 10 ] ، والتابوت : الصندوق . واليم : البحر . والساحل : شاطئ البحر . والبحر المذكور : نيل مصر . والقذف : الإلقاء ، والوضع ، ومنه قوله تعالى : وقذف في قلوبهم الرعب [ 33 26 ] ومعنى اقذفيه في التابوت أي ضعيه في الصندوق . [ ص: 9 ] والضمير في قوله أن اقذفيه راجع إلى موسى بلا خلاف . وأما الضمير في قوله فاقذفيه في اليم وقوله فليلقه فقيل : راجع إلى التابوت . والصواب رجوعه إلى موسى في داخل التابوت ، لأن تفريق الضمائر غير حسن ، وقوله يأخذه عدو لي وعدو له [ 20 39 ] هو فرعون ، وصيغة الأمر في قوله فليلقه اليم بالساحل فيها وجهان معروفان عند العلماء :

أحدهما أن صيغة الأمر معناها الخبر ، قال أبو حيان في البحر المحيط : فليلقه أمر معناه الخبر ، وجاء بصيغة الأمر مبالغة ، إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها .

الوجه الثاني أن صيغة الأمر في قوله فليلقه أريد بها الأمر الكوني القدري ، كقوله إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 82 ] فالبحر لا بد أن يلقيه بالساحل ، لأن الله أمره بذلك كونا وقدرا . وقد قدمنا ما يشبه هذين الوجهين في الكلام على قوله تعالى : فليمدد له الرحمن مدا [ 19 75 ] .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله في " القصص " : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا [ 28 7 - 8 ] وقد بين تعالى شدة جزع أمه عليه لما ألقته في البحر ، وألقاه اليم بالساحل ، وأخذه عدوه فرعون في قوله تعالى : وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين [ 28 10 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة يأخذه مجزوم في جواب الطلب الذي هو فليلقه اليم بالساحل وعلى أنه بمعنى الأمر الكوني فالأمر واضح . وعلى أنه بمعنى الخبر فالجزم مراعاة لصيغة اللفظ . والعلم عند الله تعالى . وذكر في قصتها أنها صنعت له التابوت وطلته بالقار وهو الزفت لئلا يتسرب منه الماء إلى موسى في داخل التابوت ، وحشته قطنا محلوجا . وقيل : إن التابوت المذكور من شجر الجميز ، وأن الذي نجره لها هو مؤمن آل فرعون ، قيل : واسمه حزقيل . وكانت عقدت في التابوت حبلا فإذا خافت على موسى من عيون فرعون أرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها ، فإذا أمنت جذبته إليها بالحبل . فذهبت مرة لتشد الحبل في منزلها فانفلت منها وذهب البحر بالتابوت الذي فيه موسى فحصل لها بذلك من الغم ، والهم ما ذكره الله تعالى في قوله وأصبح فؤاد أم موسى فارغا الآية [ 28 10 ] .

[ ص: 10 ] وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من مننه المتتابعة على موسى حيث قال ولقد مننا عليك مرة أخرى [ 20 37 ] أشار إلى ما يشبهه في قوله : ولقد مننا على موسى وهارون الآية [ 37 114 ] .
قوله تعالى : وألقيت عليك محبة مني

.

من آثار هذه المحبة التي ألقاها الله على عبده ونبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما ذكره جل وعلا في " القصص " في قوله : وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه [ 28 9 ] ، قال ابن عباس وألقيت عليك محبة مني : أي أحبه الله وحببه إلى خلقه . وقال ابن عطية : جعل عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه . وقال قتادة : كانت في عيني موسى ملاحة ، ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه . قال القرطبي
قوله تعالى إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن

.

اختلف في العامل الناصب للظرف الذي هو " إذ " من قوله إذ تمشي أختك فقيل : هو " ألقيت " أي ألقيت عليك محبة مني حين تمشي أختك . وقيل : هو " تصنع " أي " تصنع على عيني " حين تمشي أختك . وقيل : هو بدل من " إذ " في قوله إذ أوحينا إلى أمك [ 20 38 ] .

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف يصح البدل ، والوقتان مختلفان متباعدان ؟ قلت : كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل : لقيت فلانا سنة كذا . فتقول : وأنا لقيته إذ ذاك . وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها .

وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من كون أخته مشت إليهم ، وقالت لهم هل أدلكم على من يكفله أوضحه جل وعلا في سورة " القصص " فبين أن أخته المذكورة مرسلة من قبل أمها لتتعرف خبره بعد ذهابه في البحر ، وأنها أبصرته من بعد وهم لا يشعرون بذلك . وأن الله حرم عليه المراضع غير أمه تحريما كونيا قدريا . فقالت لهم أخته هل أدلكم على من يكفله أي على مرضع يقبل هو ثديها وتكفله لكم بنصح وأمانة وذلك في قوله تعالى : وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 28 11 - 13 ] [ ص: 11 ] فقوله تعالى في آية " القصص " هذه وقالت لأخته أي قالت أم موسى لأخته وهي ابنتها قصيه أي اتبعي أثره ، وتطلبي خبره حتى تطلعي على حقيقة أمره .

وقوله : فبصرت به عن جنب أي رأته من بعيد كالمعرضة عنه ، تنظر إليه وكأنها لا تريده وهم لا يشعرون بأنها أخته جاءت لتعرف خبره فوجدته ممتنعا من أن يقبل ثدي مرضعة ، لأن الله يقول : وحرمنا عليه المراضع أي تحريما كونيا قدريا ، أي منعناه منها ليتيسر بذلك رجوعه إلى أمه ، لأنه لو قبل غيرها أعطوه لذلك الغير الذي قبله ليرضعه ويكفله فلم يرجع إلى أمه . وعن ابن عباس : أنه لما قالت لهم هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون أخذوها وشكوا في أمرها وقالوا لها : ما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه ؟

فقالت لهم : نصحهم له ، وشفقتهم عليه رغبة في سرور الملك ، ورجاء منفعته ، فأرسلوها . فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم ، ذهبوا معها إلى منزلهم فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه ففرحوا بذلك فرحا شديدا وذهب البشير إلى امرأة الملك فاستدعت أم موسى ، وأحسنت إليها ، وأعطتها عطاء جزيلا وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة ، ولكن لكونه قبل ثديها . ثم سألتها " آسية " أن تقيم عندها فترضعه فأبت عليها وقالت : إن لي بعلا وأولادا ، ولا أقدر على المقام عندك ، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك ، وأجرت عليها النفقة ، والصلات ، والكساوى ، والإحسان الجزيل . فرجعت أم موسى بولدها قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا في عز وجاه ، ورزق دار . ا ه من ابن كثير .

وقوله تعالى في آية " القصص " : ولتعلم أن وعد الله حق [ 28 13 ] وعد الله المذكور هو قوله : ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين [ 28 7 ] ، والمؤرخون يقولون : إن أخت موسى المذكورة اسمها " مريم " وقوله كي تقر عينها إن قلنا فيه : إن " كي " حرف مصدري فاللام محذوفة ، أي لكي تقر . وإن قلنا : إنها تعليلية ، فالفعل منصوب بأن مضمرة . وقوله تقر عينها قيل : أصله من القرار . لأن ما يحبه الإنسان تسكن عينه عليه ، ولا تنظر إلى غيره : كما قال أبو الطيب :


وخصر تثبت الأبصار فيه كأن عليه من حدق نطاقا


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #277  
قديم 14-04-2022, 11:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (275)

سُورَةُ طه
صـ 12 إلى صـ 18


وقيل : أصله من القر بضم القاف وهو البرد ، تقول العرب : يوم قر بالفتح أي بارد ، ومنه قول امرئ القيس :
تميم بن مر وأشياعها وكندة حولي جميعا صبر
إذا ركبوا الخيل واستلأموا تحرقت الأرض واليوم قر


ومنه أيضا قول حاتم الطائي الجواد :


أوقد فإن الليل ليل قر والريح يا واقد ريح صر
عل يرى نارك من يمر إن جلبت ضيفا فأنت حر


وعلى هذا القول : فقرة العين من بردها . لأن عين المسرور باردة ، ودمع البكاء من السرور بارد جدا ، بخلاف عين المحزون فإنها حارة ، ودمع البكاء من الحزن حار جدا . ومن أمثال العرب : أحر من دمع المقلات . وهي التي لا يعيش لها ولد ، فيشتد حزنها لموت أولادها فتشتد حرارة دمعها لذلك .
قوله تعالى : وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا

.

لم يبين هنا جل وعلا في هذه الآية الكريمة سبب قتله لهذه النفس ، ولا ممن هي ، ولم يبين السبب الذي نجاه به من ذلك الغم ، ولا الفتون الذي فتنه ، ولكنه بين في سورة " القصص " خبر القتيل المذكور في قوله تعالى : ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم [ 28 15 - 16 ] وأشار إلى القتيل المذكور في قوله : قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون [ 28 33 ] وهو المراد بالذنب في قوله تعالى عن موسى : فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون [ 26 13 - 14 ] وهو مراد فرعون بقوله لموسى فيما ذكره الله عنه : وفعلت فعلتك التي فعلت الآية [ 26 19 ] . وقد أشار تعالى في " القصص " أيضا إلى غم موسى ، وإلى السبب الذي أنجاه الله به منه في قوله : وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال ياموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل [ ص: 13 ] إلى قوله قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين [ 28 20 - 25 ] . وقوله وفتناك فتونا ، قال بعض أهل العلم : الفتون مصدر ، وربما جاء مصدر الثلاثي المتعدي على فعول . وقال بعضهم : هو جمع فتنة . وقال الزمخشري في الكشاف فتونا يجوز أن يكون مصدرا على فعول في المتعدي كالثبور ، والشكور ، والكفور . وجمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداء بتاء التأنيث كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي فتناك ضروبا من الفتن . وقد جاء في تفسير الفتون المذكور حديث معروف عند أهل العلم بحديث " الفتون " ، أخرجه النسائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وساقه ابن كثير في تفسيره عن النسائي بسنده . وهو حديث طويل يقتضي أن الفتون يشمل كل ما جرى على موسى من المحن من فرعون في صغره وكبره ، كالخوف عليه من الذبح وهو صغير ، ومن أجل ذلك ألقي في التابوت وقذف في اليم فألقاه اليم بالساحل . وكخوفه وهو كبير من أن يقتله فرعون بالقبطي الذي قتله . وعلى هذا فالآيات التي ذكرت فيها تلك المحن مبينة للفتون على تفسير ابن عباس للفتون المذكور . وقال ابن كثير بعد أن ساق حديث الفتون بطوله : هكذا رواه النسائي في السنن الكبرى . وأخرجه أبو جعفر بن جرير ، وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به ، وهو موقوف من كلام ابن عباس ، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه ، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنه مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره . والله أعلم . وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضا ا ه .
قوله تعالى : فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر

. السنين التي لبثها في مدين هي المذكورة في قوله تعالى : قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك [ 28 27 ] وقد قدمنا في سورة " مريم " أنه أتم العشر ، وبينا دليل ذلك من السنة . وبه تعلم أن الأجل في قوله : فلما قضى موسى الأجل [ 28 29 ] أنه عشر سنين لا ثمان . وقال بعض أهل العلم : لبث موسى في مدين ثماني وعشرين سنة ، عشر منها مهر ابنة صهره ، وثمان عشرة أقامها هو اختيارا ، والله تعالى أعلم .

وأظهر الأقوال في قوله تعالى : ثم جئت على قدر ياموسى [ 20 40 ] أي جئت على القدر الذي قدرته وسبق في علمي أنك تجيء فيه فلم تتأخر عنه ولم تتقدم ، كما قال تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 49 ] وقال : وكل شيء عنده بمقدار [ 13 8 ] ، [ ص: 14 ] وقال وكان أمر الله قدرا مقدورا [ 33 38 ] . وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز :


نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر


قوله تعالى : اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى .

قال بعض أهل العلم : المراد بالآيات في قوله هنا : اذهب أنت وأخوك بآياتي الآيات التسع المذكورة في قوله تعالى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات الآية [ 17 101 ] ، وقوله : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات الآية [ 27 12 ] . والآيات التسع المذكورة هي : العصا ، واليد البيضاء . . . إلى آخرها . وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة " بني إسرائيل " .

وقوله تعالى : إنه طغى .

أصل الطغيان : مجاوزة الحد ، ومنه : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية [ 69 11 ] وقد بين تعالى شدة طغيان فرعون ومجاوزته الحد في قوله عنه : فقال أنا ربكم الأعلى [ 79 24 ] ، وقوله عنه ما علمت لكم من إله غيري [ 28 38 ] ، وقوله عنه أيضا : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 29 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا تنيا مضارع ونى يني ، على حد قول ابن مالك في الخلاصة :


فا أمر ومضارع من كوعد احذف وفي كعدة ذاك اطرد


والونى في اللغة : الضعف ، والفتور ، والكلال ، والإعياء ، ومنه قول امرئ القيس في معلقته :


مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن غبارا بالكديد المركل


وقول العجاج :


فما ونى محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وما غبر


فقوله : ولا تنيا في ذكري أي لا تضعفا ، ولا تفترا في ذكري . وقد أثنى الله على من يذكره في جميع حالاته في قوله : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ 3 191 ] ، وأمر بذكر الله عند لقاء العدو في قوله : إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا [ 8 45 ] [ ص: 15 ] كما تقدم إيضاحه .

وقال ابن كثير في تفسيره هذه الآية الكريمة : والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله في حال مواجهة فرعون . ليكون ذكر الله عونا لهما عليه ، وقوة لهما وسلطانا كاسرا له ، كما جاء في الحديث : " إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه " اه منه .

وقال بعض أهل العلم : ولا تنيا في ذكري لا تزالا في ذكري . واستشهد لذلك بقول طرفة :


كأن القدور الراسيات أمامهم قباب بنوها لا تني أبدا تغلي


أي لا تزال تغلي . ومعناه راجع إلى ما ذكرنا . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى

.

أمر الله جل وعلا نبيه موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام : أن يقولا لفرعون في حال تبليغ رسالة الله إليه " قولا لينا " أي كلاما لطيفا سهلا رقيقا ، ليس فيه ما يغضب وينفر . وقد بين جل وعلا المراد بالقول اللين في هذه الآية بقوله : اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى [ 79 17 - 18 ] وهذا ، والله غاية لين الكلام ولطافته ورقته كما ترى . وما أمر به موسى وهارون في هذه الآية الكريمة أشار له تعالى في غير هذا الموضع ، كقوله ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 125 ] .

مسألة

يؤخذ من هذه الآية الكريمة : أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالرفق ، واللين . لا بالقسوة ، والشدة ، والعنف . كما بيناه في سورة " المائدة " في الكلام على قوله تعالى : عليكم أنفسكم [ الآية 105 ] . وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية : قال يزيد الرقاشي عند قوله فقولا له قولا لينا [ 20 44 ] : يا من يتحبب إلى من يعاديه ، فكشف بمن يتولاه ويناديه ؟ اه ولقد صدق من قال :


ولو أن فرعون لما طغى وقال على الله إفكا وزورا أناب إلى الله مستغفرا
لما وجد الله إلا غفورا


[ ص: 16 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لعله يتذكر أو يخشى قد قدمنا قول بعض العلماء : إن " لعل " في القرآن بمعنى التعليل ، إلا التي في سورة " الشعراء " : وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 129 ] فهي بمعنى كأنكم . وقد قدمنا أيضا أن " لعل " تأتي في العربية للتعليل . ومنه قوله :


فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب بالملا متألق


فقوله : " لعلنا نكف " أي لأجل أن نكف .

وقال بعض أهل العلم : لعله يتذكر أو يخشى معناه على رجائكما وطمعكما ، فالترجي ، والتوقع المدلول عليه بلعل راجع إلى جهة البشر . وعزا القرطبي هذا القول لكبراء النحويين كسيبويه ، وغيره .
قوله تعالى : فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى

.

ألف الاثنين في قوله " فأتياه " راجعة إلى موسى وهارون . والهاء راجعة إلى فرعون . أي فأتيا فرعون " فقولا " له : " إنا رسولان إليك من ربك فأرسل معنا بني إسرائيل " أي خل عنهم وأطلقهم لنا يذهبون معنا حيث شاءوا ، ولا تعذبهم .

العذاب الذي نهى الله فرعون أن يفعله ببني إسرائيل : هو المذكور في سورة " البقرة " في قوله : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ 2 49 ] ، وفي سورة " إبراهيم " في قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم [ 14 6 ] ، وفي سورة " الأعراف " في قوله تعالى : وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم [ 7 141 ] . وفي سورة " الدخان " في قوله : ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين [ 44 20 ] وفي سورة " الشعراء " في قوله : وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل [ 26 22 ] .

[ ص: 17 ] وما أمر به الله موسى وهارون في آية " طه " هذه من أنهما يقولان لفرعون إنهما رسولا ربه إليه ، وأنه يأمره بإرسال بني إسرائيل ، ولا يعذبهم أشار إليه تعالى في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة " الشعراء " : فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل [ 26 16 - 17 ] .

تنبيه

فإن قيل ، ما وجه الإفراد في قوله إنا رسول رب العالمين في " الشعراء " ؟ مع أنهما رسولان ؟ كما جاء الرسول مثنى في " طه " فما وجه التثنية في " طه " ، والإفراد في " الشعراء " ، وكل واحد من اللفظين : المثنى ، والمفرد يراد به موسى وهارون ؟

فالذي يظهر لي ، والله تعالى أعلم أن لفظ الرسول أصله مصدر وصف به ، والمصدر إذا وصف به ذكر وأفرد كما قدمنا مرارا . فالإفراد في " الشعراء " نظرا إلى أن أصل الرسول مصدر . والتثنية في " طه " اعتدادا بالوصفية العارضة وإعراضا عن الأصل ، ولهذا يجمع الرسول اعتدادا بوصفيته العارضة ، ويفرد مرادا به الجمع نظرا إلى أن أصله مصدر . ومثال جمعه قوله تعالى : تلك الرسل الآية [ 2 253 ] ، وأمثالها في القرآن . ومثال إفراده مرادا به الجمع قول أبي ذؤيب الهذلي :


ألكني إليها وخير الرسول أعلمهم بنواحي الخبر


ومن إطلاق الرسول مرادا به المصدر على الأصل قوله :


لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بقول ولا أرسلتهم برسول


أي برسالة .

وقول الآخر :


ألا بلغ بني عصم رسولا بأني عن فتاحتكم غني


يعني أبلغهم رسالة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قد جئناك بآية يراد به جنس الآية الصادق بالعصا ، واليد ، وغيرهما . لدلالة آيات أخر على ذلك .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والسلام على من اتبع الهدى يدخل فيه السلام على فرعون إن اتبع الهدى . ويفهم من الآية : أن من لم يتبع الهدى لا سلام عليه ، وهو كذلك . ولذا كان في أول الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل عظيم الروم :

[ ص: 18 ] " بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى . أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام . . . " إلى آخر كتابه - صلى الله عليه وسلم - . قوله تعالى : إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى

.

ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن موسى وهارون . أن الله أوحى إليهما أن العذاب على من كذب وتولى أشير إلى نحوه في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى . كقوله : فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى [ 79 37 - 39 ] ، وقوله تعالى : فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى [ 92 14 - 16 ] . وقوله تعالى : فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى [ 75 31 - 35 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى

.

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن موسى وهارون لما بلغا فرعون ما أمرا بتبليغه إياه قال لهما : من ربكما الذي تزعمان أنه أرسلكما إلي ؟ زاعما أنه لا يعرفه . وأنه لا يعلم لهما إلها غير نفسه ، كما قال : ما علمت لكم من إله غيري [ 28 38 ] ، وقال : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 29 ] . وبين جل وعلا في غير هذا الموضع أن قوله فمن ربكما تجاهل عارف بأنه عبد مربوب لرب العالمين ، وذلك في قوله تعالى : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر الآية [ 17 102 ] ، وقوله : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ 27 13 - 14 ] كما تقدم إيضاحه . وسؤال فرعون عن رب موسى ، وجواب موسى له جاء موضحا في سورة " الشعراء " بأبسط مما هنا ، وذلك في قوله : قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين [ 26 23 - 33 ] إلى آخر القصة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #278  
قديم 14-04-2022, 11:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (276)

سُورَةُ طه
صـ 19 إلى صـ 25




[ ص: 19 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [ 20 \ 50 ] فيه للعلماء أوجه لا يكذب بعضها بعضا ، وكلها حق ، ولا مانع من شمول الآية لجميعها . منها أن معنى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أنه أعطى كل شيء نظير خلقه في الصورة ، والهيئة ، كالذكور من بني آدم أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجا . وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها في صورتها وهيئتها من الإناث أزواجا . فلم يعط الإنسان خلاف خلقه فيزوجه بالإناث من البهائم ، ولا البهائم بالإناث من الإنس ، ثم هدى الجميع لطريق المنكح الذي منه النسل ، والنماء ، كيف يأتيه ، وهدى الجميع لسائر منافعهم من المطاعم ، والمشارب ، وغير ذلك .

وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق علي بن أبي طلحة ، وعن السدي وسعيد بن جبير ، وعن ابن عباس أيضا : ثم هدى أي هداه إلى الألفة ، والاجتماع ، والمناكحة .

وقال بعض أهل العلم أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أي : أعطى كل شيء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه ، وهذا مروي عن الحسن وقتادة .

وقال بعض أهل العلم : أعطى كل شيء خلقه ثم هدى : أي أعطى كل شيء صورته المناسبة له . فلم يجعل الإنسان في صورة البهيمة ، ولا البهيمة في صورة الإنسان ، ولكنه خلق كل شيء على الشكل المناسب له فقدره تقديرا ، كما قال الشاعر :


وله في كل شيء خلقة وكذاك الله ما شاء فعل


يعني بالخلقة : الصورة ، وهذا القول مروي عن مجاهد ومقاتل ، وعطية وسعيد بن جبير ثم هدى كل صنف إلى رزقه وإلى زوجه .

وقال بعض أهل العلم : أعطى كل شيء خلقه : أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به ، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع . وكذلك الأنف ، والرجل ، واللسان ، وغيرها ، كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه . وهذا القول روي عن الضحاك . وعلى جميع هذه الأقوال المذكورة فقوله تعالى كل شيء هو المفعول الأول لـ " أعطى " ، و " خلقه " هو المفعول الثاني .

وقال بعض أهل العلم : إن " خلقه " هو المفعول الأول ، و " كل شيء " هو [ ص: 20 ] المفعول الثاني . وعلى هذا القول فالمعنى : أنه تعالى أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه ، ثم هداهم إلى طريق استعماله . ومعلوم أن المفعول من مفعولي باب كسا ومنه " أعطى " في الآية لا مانع من تأخيره وتقديم المفعول الأخير إن أمن اللبس ، ولم يحصل ما يوجب الجري على الأصل كما هو معلوم في علم النحو . وأشار له في الخلاصة بقوله :


ويلزم الأصل لموجب عرا وترك ذاك الأصل حتما قد يرى


قال مقيده - عفا الله عنه - : ولا مانع من شمول الآية الكريمة لجميع الأقوال المذكورة . لأنه لا شك أن الله أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا ، ثم هداهم إلى طريق الانتفاع به . ولا شك أنه أعطى كل صنف شكله وصورته المناسبة له ، وأعطى كل ذكر وأنثى الشكل المناسب له من جنسه في المناكحة ، والألفة ، والاجتماع . وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به فسبحانه جل وعلا ! ما أعظم شأنه وأكمل قدرته ! !

وفي هذه الأشياء المذكورة في معنى هذه الآية الكريمة براهين قاطعة على أنه جل وعلا رب كل شيء ، وهو المعبود وحده جل وعلا :

لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 88 ] .

وقد حرر تقي الدين أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرآن : أن مثل هذا الاختلاف من اختلاف السلف في معاني الآيات ليس اختلافا حقيقيا متضادا يكذب بعضه بعضا ، ولكنه اختلاف تنوعي لا يكذب بعضه بعضا ، والآيات تشمل جميعه ، فينبغي حملها على شمول ذلك كله ، وأوضح أن ذلك هو الجاري على أصول الأئمة الأربعة رضي الله عنهم ، وعزاه لجماعة من خيار أهل المذاهب الأربعة . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى .

قرأ هذا الحرف عاصم وحمزة ، والكسائي " مهدا " بفتح الميم وإسكان الهاء من غير ألف . وقرأ الباقون من السبعة بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف . والمهاد : الفراش . والمهد بمعناه . وكون أصله مصدرا لا ينافي أن يستعمل اسما للفراش .

وقوله في هذه الآية : الذي جعل لكم الأرض في محل رفع نعت لـ " ربي " [ ص: 21 ] من قوله قبله قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 52 ] أي لا يضل ربي الذي جعل لكم الأرض مهدا . ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف . أي هو الذي جعل لكم الأرض . ويجوز أن ينصب على المدح ، وهو أجود من أن يقدر عامل النصب لفظة أعني ، كما أشار إلى هذه الأوجه من الإعراب في الخلاصة بقوله :


وارفع أو انصب إن قطعت مضمرا مبتدأ أو ناصبا لن يظهرا


هكذا قال غير واحد من العلماء . والتحقيق أنه يتعين كونه خبر مبتدأ محذوف . لأنه كلام مستأنف من كلام الله . ولا يصح تعلقه بقول موسى لا يضل ربي لأن قوله فأخرجنا يعين أنه من كلام الله ، كما نبه عليه أبو حيان في البحر ، والعلم عند الله تعالى .

وقد بين جل وعلا في هاتين الآيتين أربع آيات من آياته الكبرى الدالة على أنه المعبود وحده . ومع كونها من آيات على كمال قدرته واستحقاقه العبادة وحده دون غيره فهي من النعم العظمى على بني آدم .

الأولى : فرشه الأرض على هذا النمط العجيب .

الثانية : جعله فيها سبلا يمر معها بنو آدم ويتوصلون بها من قطر إلى قطر .

الثالثة : إنزاله الماء من السماء على هذا النمط العجيب .

الرابعة : إخراجه أنواع النبات من الأرض .

أما الأولى التي هي جعله الأرض مهدا فقد ذكر الامتنان بها مع الاستدلال بها على أنه المعبود وحده في مواضع كثيرة من كتابه . كقوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا الآية [ 43 9 - 10 ] ، وقوله تعالى : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [ 78 6 - 7 ] ، وقوله تعالى : والأرض فرشناها فنعم الماهدون [ 51 48 ] ، وقوله تعالى : وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا [ 13 3 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .

وأما الثانية التي هي جعله فيها سبلا فقد جاء الامتنان ، والاستدلال بها في آيات كثيرة . كقوله في " الزخرف " : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون [ 43 9 ] ، [ ص: 22 ] وقوله تعالى : وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 21 31 ] وقد قدمنا الآيات الدالة على هذا في سورة " النحل " في الكلام على قوله : وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون [ 16 15 ] .

وأما الثالثة ، والرابعة وهما إنزال الماء من السماء وإخراج النبات به من الأرض فقد تكرر ذكرهما في القرآن على سبيل الامتنان ، والاستدلال معا . كقوله تعالى : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب الآية [ 16 10 ] . وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأنزل من السماء ماء فأخرجنا التفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم . ونظيره في القرآن قوله تعالى في " الأنعام " : وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا [ 6 99 ] ، وقوله في " فاطر " : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها [ 35 27 ] ، وقوله في " النمل " : أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة [ 27 60 ] .

وهذا الالتفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم في هذه الآيات كلها في إنبات النبات يدل على تعظيم شأن إنبات النبات لأنه لو لم ينزل الماء ولم ينبت شيء لهلك الناس جوعا وعطشا . فهو يدل على عظمته جل وعلا ، وشدة احتياج الخلق إليه ولزوم طاعتهم له جل وعلا .

وقوله في هذه الآية : أزواجا من نبات شتى أي أصنافا مختلفة من أنواع النبات . فالأزواج : جمع زوج ، وهو هنا الصنف من النبات ، كما قال تعالى في سورة " الحج " : وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج [ 22 5 ] أي من كل صنف حسن من أصناف النبات ، وقال تعالى في سورة " لقمان " : خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم [ 31 10 ] أي من كل نوع حسن من أنواع النبات ، وقال تعالى في سورة " يس " : [ ص: 23 ] سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [ 36 36 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله شتى نعت لقوله : أزواجا [ 20 53 ] . ومعنى قوله : أزواجا من نبات شتى أي أصنافا مختلفة الأشكال ، والمقادير ، والمنافع ، والألوان ، والروائح ، والطعوم . وقيل شتى جمع لـ " نبات " أي نبات مختلف كما بينا . والأظهر الأول ، وقوله شتى جمع شتيت . كمريض ومرضى . والشتيت : المتفرق . ومنه قول رؤبة يصف إبلا جاءت مجتمعة ثم تفرقت ، وهي تثير غبارا مرتفعا :


جاءت معا وأطرقت شتيتا وهي تثير الساطع السختيتا


وثغر شتيت : أي متفلج لأنه متفرق الأسنان . أي ليس بعضها لاصقا ببعض .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وسلك لكم فيها سبلا قد قدمنا أن معنى السلك : الإدخال . وقوله سلك هنا معناه أنه جعل في داخل الأرض بين أوديتها وجبالها سبلا فجاجا يمر الخلق معها . وعبر عن ذلك هنا بقوله : وسلك لكم فيها سبلا [ 20 53 ] وعبر في مواضع أخر عن ذلك بالجعل ، كقوله في " الأنبياء " : وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 21 31 ] وقوله في " الزخرف " : الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون [ 43 10 ] وعبر في بعض المواضع عن ذلك بالإلقاء كقوله في " النحل " : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون [ 31 15 ] لأن عطف السبل على الرواسي ظاهر في ذلك .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كلوا وارعوا أنعامكم أي كلوا أيها الناس من الثمار ، والحبوب التي أخرجناها لكم من الأرض بالماء الذي أنزلنا من جميع ما هو غذاء لكم من الحبوب ، والفواكه ونحو ذلك ، وارعوا أنعامكم . أي أسيموها وسرحوها في المرعى الذي يصلح لأكلها . تقول : رعت الماشية الكلأ ، ورعاها صاحبها : أي أسامها وسرحها . يلزم ويتعدى . والأمر في قوله كلوا وارعوا للإباحة . ولا يخفى ما تضمنه من الامتنان ، والاستدلال على استحقاق المنعم بذلك للعبادة وحده .

وما ذكره في هذه الآية الكريمة : من الامتنان على بني آدم بأرزاقهم وأرزاق أنعامهم جاء موضحا في مواضع أخر . كقوله في سورة " السجدة " : فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 27 ] ، وقوله في " النازعات " : أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 31 - 33 ] ] ، [ ص: 24 ] وقوله في " عبس " : ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 25 - 32 ] وقوله في " النحل " : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون [ 31 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة لأولي النهى أي لأصحاب العقول . فالنهى : جمع نهية بضم النون ، وهي العقل . لأنه ينهى صاحبه عما لا يليق . تقول العرب : نهو الرجل بصيغة فعل بالضم : إذا كملت نهيته أي عقله . وأصله نهي بالياء فأبدلت الياء واوا لأنها لام فعل بعد ضم . كما أشار له في الخلاصة بقوله :


وواوا إثر الضم رد اليا متى ألفي لام فعل أو من قبل تا

قوله تعالى : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى

.

الضمير في قوله " منها " معا ، وقوله فيها راجع إلى " الأرض " المذكورة في قوله الذي جعل لكم الأرض مهدا .

وقد ذكر في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :

الأولى : أنه خلق بني آدم من الأرض .

الثانية : أنه يعيدهم فيها .

الثالثة : أنه يخرجهم منها مرة أخرى . وهذه المسائل الثلاث المذكورة في هذه الآية جاءت موضحة في غير هذا الموضع .

أما خلقه إياهم من الأرض فقد ذكره في مواضع من كتابه . كقوله ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 5 ] ، وقوله تعالى : ومن آياته أن خلقكم من تراب الآية [ 30 20 ] ، وقوله في سورة " المؤمن " : هو الذي خلقكم من تراب [ 40 67 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

والتحقيق أن معنى خلقه الناس من تراب أنه خلق أباهم آدم منها . كما قال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية [ 3 59 ] . ولما خلق أباهم من تراب وكانوا تبعا له في الخلق صدق عليهم أنهم خلقوا من تراب . وما يزعمه [ ص: 25 ] بعض أهل العلم من أن معنى خلقهم من تراب أن النطفة إذا وقعت في الرحم انطلق الملك الموكل بالرحم فأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق الله النسمة من النطفة ، والتراب معا فهو خلاف التحقيق . لأن القرآن يدل على أن مرحلة النطفة بعد مرحلة التراب بمهلة . فهي غير مقارنة لها بدليل الترتيب بينهما بـ " ثم " في قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة [ 22 5 ] ، وقوله تعالى : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة الآية [ 40 67 ] ، وقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين [ 23 12 - 13 ] ، وقوله تعالى : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين [ 32 6 - 8 ] وكذلك ما يزعمه بعض المفسرين من أن معنى خلقهم من تراب أن المراد أنهم خلقوا من الأغذية التي تتولد من الأرض فهو ظاهر السقوط كما ترى .

وأما المسألة الثانية فقد ذكرها تعالى أيضا في غير هذا الموضع . وذلك في قوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء ‎وأمواتا [ 77 25 - 26 ] فقوله كفاتا [ 77 26 ] أي موضعهم الذي يكفتون فيه أي يضمون فيه : أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطنها . وهو معنى قوله وفيها نعيدكم .

وأما المسألة الثالثة : وهي إخراجهم من الأرض أحياء يوم القيامة فقد جاءت موضحة في آيات كثيرة . كقوله : ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 19 ] أي من قبوركم أحياء بعد الموت ، وقوله تعالى : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ 50 \ 11 ] أي من القبور بالبعث يوم القيامة ، وقوله تعالى : ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون [ 30 25 ] ، وقوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 57 ] ، وقوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ 70 43 ] ، وقوله تعالى : يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج [ 50 \ 42 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #279  
قديم 14-04-2022, 11:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (277)

سُورَةُ طه
صـ 26 إلى صـ 32



وقوله في هذه الآية الكريمة : منها خلقناكم الآية ، كقوله تعالى : قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون [ 7 25 ] . والتارة في قوله تارة أخرى بمعنى [ ص: 26 ] المرة . وفي حديث السنن : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حضر جنازة ، فلما أرادوا دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال " منها خلقناكم " ثم أخذ أخرى وقال " وفيها نعيدكم " ثم أخرى وقال " ومنها نخرجكم تارة أخرى " .
قوله تعالى : ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى

.

أظهر القولين أن الإضافة في قوله آياتنا مضمنة معنى العهد كالألف ، واللام . والمراد بآياتنا المعهودة لموسى كلها وهي التسع المذكورة في قوله : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات الآية [ 17 101 ] ، وقوله تعالى : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه الآية [ 27 12 ] . وقال بعضهم : الآيات التسع المذكورة هي : العصا ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، والحجر الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة . وقد قدمنا كلام أهل العلم في الآيات التسع في سورة " الإسراء " . وقال بعض أهل العلم : العموم على ظاهره ، وإن الله أرى فرعون جميع الآيات التي جاء بها موسى ، والتي جاء بها غيره من الأنبياء ، وذلك بأن عرفه موسى جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء . والأول هو الظاهر .

وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع : أن الآيات التي أراها فرعون وقومه بعضها أعظم من بعض ، كما قال تعالى في سورة " الزخرف " : وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها [ 48 ] ، وقوله : لنريك من آياتنا الكبرى [ 20 23 ] ، وقوله : فأراه الآية الكبرى [ 79 20 ] لأن الكبرى في الموضعين تأنيث الأكبر ، وهي صيغة تفضيل تدل على أنها أكبر من غيرها .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فكذب وأبى يعني أنه مع ما أراه الله من الآيات المعجزات الدالة على صدق نبيه موسى ، كذب رسول ربه موسى ، وأبى عن قبول الحق . وقد أوضح جل وعلا في غير هذا الموضع شدة إبائه وعناده وتكبره على موسى في مواضع كثيرة من كتابه . كقوله : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [ 7 132 ] ، وقوله تعالى : فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون [ 43 47 ] وقوله : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 29 ] ، وقوله تعالى : ونادى فرعون في قومه قال ياقوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين [ 43 51 - 53 ] ، [ ص: 27 ] ومقصوده بذلك كله تعظيم أمر نفسه وتحقير أمر موسى ، وأنه لا يمكن أن يتبع الفاضل المفضول .

وقد بين جل وعلا : أن فرعون كذب وأبى ، وهو عالم بأن ما جاء به موسى حق . وأن الآيات التي كذب بها وأبى عن قبولها ما أنزلها إلا الله ، وذلك في قوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ 27 14 ] . وقوله قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا [ 17 102 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله أريناه أصله من رأى البصرية على الصحيح .
قوله تعالى : قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى

.

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه لما أرى فرعون آياته على يد نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال : إن الآيات التي جاء بها موسى سحر ، وإنه يريد بها إخراج فرعون وقومه من أرضهم .

أما دعواه هو وقومه أن موسى ساحر فقد ذكره الله جل وعلا في مواضع كثيرة من كتابه . كقوله : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين [ 27 13 ] ، وقوله : فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين [ 10 76 ] ، وقوله : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر [ 20 71 ] ، وقوله : وقالوا ياأيها الساحر ادع لنا ربك الآية [ 43 49 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وأما ادعاؤهم أنه يريد إخراجهم من أرضهم بالسحر فقد ذكره الله جل وعلا أيضا في مواضع من كتابه . كقوله تعالى في هذه السورة : قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى [ 20 57 ] ، وقوله في " الأعراف " : قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون [ 7 109 - 110 ] ، وقوله في " الشعراء " : قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون [ 26 34 ] ، وقوله في " يونس " : قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض [ 10 78 ] ، وقال سحرة فرعون : إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى [ 20 63 ] .
[ ص: 28 ] قوله تعالى : فلنأتينك بسحر مثله

.

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن فرعون لعنه الله ، لما رأى آيات الله ومعجزاته الباهرة ، وادعى أنها سحر أقسم ليأتين موسى بسحر مثل آيات الله التي يزعم هو أنها سحر . وقد بين في غير هذا الموضع : أن إتيانهم بالسحر وجمعهم السحرة كان عن اتفاق ملئهم على ذلك . كقوله في " الأعراف " : قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم [ 7 109 - 110 ] . وقوله في " الشعراء " : قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم [ الآيات 34 - 37 ] ، لأن قوله فماذا تأمرون في الموضعين يدل على أن قول فرعون فلنأتينك بسحر مثله وقع بعد مشاورة واتفاق الملأ منهم على ذلك .
قوله تعالى : فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى

.

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن فرعون لما وعد موسى بأنه يأتي بسحر مثل ما جاء به موسى في زعمه قال لموسى فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت والإخلاف : عدم إنجاز الوعد . وقرر أن يكون مكان الاجتماع المناظرة والمغالبة في السحر في زعمه مكانا سوى . وأصح الأقوال في قوله سوى على قراءة الكسر والضم : أنه مكان وسط تستوي أطراف البلد فيه . لتوسطها بينها ، فلم يكن أقرب للشرق من الغرب ، ولا للجنوب من الشمال . وهذا هو معنى قول المفسرين مكانا سوى أي نصفا وعدلا ليتمكن جميع الناس أن يحضروا . وقوله : سوى أصله من الاستواء . لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين لا تفاوت فيها بل هي مستوية . وقوله سوى فيه ثلاث لغات : الضم ، والكسر مع القصر ، وفتح السين مع المد . والقراءة بالأوليين دون الثالثة هنا ومن القراءة بالثالثة إلى كلمة سواء بيننا وبينكم [ 3 64 ] ومن إطلاق العرب مكانا سوى على المكان المتوسط بين الفريقين قول موسى بن جابر الحنفي ، وقد أنشده أبو عبيدة شاهدا لذلك :


وإن أبانا كان حل ببلدة سوى بين قيس عيلان والفزر


[ ص: 29 ] والفزر : سعد بن زيد مناة بن تميم . يعني : حل ببلدة مستوية مسافتها بين قيس عيلان ، والفزر . وأن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أجاب فرعون إلى ما طلب منه من الموعد ، وقرر أن يكون وقت ذلك يوم الزينة . وأقوال أهل العلم في يوم الزينة راجعة إلى أنه يوم معروف لهم ، يجتمعون فيه ويتزينون . سواء قلنا : إنه يوم عيد لهم ، أو يوم عاشوراء ، أو يوم النيروز ، أو يوم كانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون فيه بأنواع الزينة .

قال الزمخشري : وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه ، وكبت الكافر وزهوق الباطل على رءوس الأشهاد في المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق ، ويكل حد المبطلين وأشياعهم ، ويكثر المحدث بذلك الأمر . ليعلم في كل بدو وحضر ، ويشيع في جميع أهل الوبر ، والحضر . اه منه .

والمصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله وأن يحشر الناس ضحى في محل جر عطفا على الزينة أي موعدكم يوم الزينة وحشر الناس ، أو في محل رفع عطفا على قوله يوم الزينة على قراءة الجمهور بالرفع . والحشر : الجمع ، والضحى : من أول النهار حين تشرق الشمس . والضحى يذكر ويؤنث . فمن أنثه ذهب إلى أنه جمع ضحوة . ومن ذكره ذهب إلى أنه اسم مفرد جاء على فعل بضم ففتح كصرد وزفر . وهو منصرف إذا لم ترد ضحى يوم معين بلا خلاف . وإن أردت ضحى يومك المعين فقيل يمنع من الصرف كسحر . وقيل لا .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من كون المناظرة بين موسى ، والسحرة عين لوقتها يوم معلوم يجتمع الناس فيه . ليعرفوا الغالب من المغلوب أشير له في غير هذا الموضع . كقوله تعالى في " الشعراء " : فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين [ 26 38 - 40 ] .

فقوله تعالى : لميقات يوم معلوم .

اليوم المعلوم : هو يوم الزينة المذكور هنا . وميقاته وقت الضحى منه المذكور في قوله وأن يحشر الناس ضحى .
تنبيه

اعلم أن في تفسير هذه الآية الكريمة أنواعا من الإشكال معروفة عند العلماء ، وسنذكر إن شاء الله تعالى أوجه الإشكال فيها ، ونبين إزالة الإشكال عنها .

اعلم أولا أن الفعل الثلاثي إن كان مثالا أعني واوي الفاء كوعد ووصل ، [ ص: 30 ] فالقياس في مصدره الميمي واسم مكانه وزمانه كلها المفعل ( بفتح الميم وكسر العين ) ما لم يكن معتل اللام . فإن كان معتلها فالقياس فيه المفعل ( بفتح الميم والعين ) كما هو معروف في فن الصرف .

فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فاجعل بيننا وبينك موعدا صالح بمقتضى القياس الصرفي لأن يكون مصدرا ميميا بمعنى الوعد ، وأن يكون اسم زمان يراد به وقت الوعد ، وأن يكون اسم مكان يراد به مكان الوعد . ومن إطلاق الموعد في القرآن اسم زمان قوله تعالى : إن موعدهم الصبح [ 11 81 ] أي وقت وعدهم بالإهلاك الصبح . ومن إطلاقه في القرآن اسم مكان قوله تعالى : وإن جهنم لموعدهم أجمعين [ 15 43 ] أي مكان وعدهم بالعذاب .

وأوجه الإشكال في هذا أن قوله : لا نخلفه نحن ولا أنت يدل على أن الموعد مصدر . لأن الذي يقع عليه الإخلاف هو الوعد لا زمانه ، ولا مكانه .

وقوله تعالى : مكانا سوى .

يدل على أن الموعد في الآية اسم مكان .

وقوله : قال موعدكم يوم الزينة يدل على أن الموعد في الآية اسم زمان . فإن قلنا إن الموعد في الآية مصدر أشكل على ذلك ذكر المكان في قوله : مكانا سوى والزمان في قوله : يوم الزينة وإن قلنا : إن الموعد اسم مكان أشكل عليه قوله لا نخلفه لأن نفس المكان لا يخلف وإنما يخلف الوعد ، وأشكل عليه أيضا قوله : قال موعدكم يوم الزينة .

وإن قلنا : إن الموعد اسم زمان أشكل عليه أيضا قوله : لا نخلفه وقوله مكانا سوى هذه هي أوجه الإشكال في هذه الآية الكريمة . وللعلماء عن هذا أجوبة منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف قال : لا يخلو الموعد في قوله فاجعل بيننا وبينك موعدا من أن يجعل زمانا أو مكانا أو مصدرا . فإن جعلته زمانا نظرا في أن قوله موعدكم يوم الزينة مطابق له لزمك شيئان : أن تجعل الزمان مخلفا وأن يعضل عليك ناصب مكانا وإن جعلته مكانا لقوله تعالىمكانا سوى لزمك أيضا أن توقع الإخلاف على المكان ، ولا يطابق قوله موعدكم يوم الزينة إلى أن قال : فبقي أن يجعل مصدرا بمعنى الوعد ويقدر مضاف محذوف ، أي مكان الوعد ، ويجعل الضمير في نخلفه للموعد و مكانا بدل من المكان المحذوف .

[ ص: 31 ] فإن قلت : كيف طابقه قوله موعدكم يوم الزينة ولا بد من أن تجعله زمانا ، والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان ؟

قلت : هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظا . لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك اليوم . فبذكر الزمان علم المكان . انتهى محل الغرض منه . ولا يخفى ما في جوابه هذا من التعسف ، والحذف ، والإبدال من المحذوف .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر ما أجيب به عما ذكرنا من الإشكال عندي في هذه الآية الكريمة أن فرعون طلب من موسى تعيين مكان الموعد ، وأنه يكون مكانا سوى . أي وسطا بين أطراف البلد كما بينا . وأن موسى وافق على ذلك وعين زمان الوعد وأنه يوم الزينة ضحى . لأن الوعد لا بد له من مكان وزمان . فإذا علمت ذلك فاعلم أن الذي يترجح عندي المصير إليه هو قول من قال في قوله فاجعل بيننا وبينك موعدا إنه اسم مكان أي مكان الوعد ، وقوله مكانا بدل من قوله موعدا . لأن الموعد إذا كان اسم مكان صار هو نفس المكان فاتضح كون مكانا بدلا . ولا إشكال في ضمير نخلفه على هذا . ووجه إزالة الإشكال عنه أن المعروف في فن الصرف : أن اسم المكان مشتق من المصدر كاشتقاق الفعل منه ، فاسم المكان ينحل عن مصدر ومكان . فالمنزل مثلا مكان النزول ، والمجلس مكان الجلوس ، والموعد مكان الوعد . فإذا اتضح لك أن المصدر كامن في مفهوم اسم المكان فالضمير في قوله لا نخلفه راجع إلى المصدر الكامن في مفهوم اسم المكان ، كرجوعه للمصدر الكامن في مفهوم الفعل في قوله اعدلوا هو أقرب للتقوى [ 5 8 ] : فقوله هو أي العدل المفهوم من اعدلوا وكذلك قوله تعالى : لا نخلفه أي : الوعد الكامن في مفهوم اسم المكان الذي هو الموعد . لأنه مكان الوعد ، فمعناه مركب إضافي وآخر جزأيه لفظ الوعد وهو مرجع الضمير في لا نخلفه .

فإذا عرفت معنى هذا الكلام الذي أخبر الله أن فرعون قاله لموسى فاعلم أن قوله عن موسى قال موعدكم يوم الزينة يدل على أنه وافق على طلب فرعون ضمنا ، وزاد تعيين زمان الوعد بقوله قال موعدكم يوم الزينة ولا إشكال في ذلك . هذا هو الذي ظهر لنا صوابه . وأقرب الأوجه التي ذكرها العلماء بعد هذا عندي قول من قال : إن [ ص: 32 ] الموعد في الآية مصدر وعليه فـ لا نخلفه راجع للمصدر ، و مكانا منصوب بفعل دل عليه الموعد . أي : عدنا مكانا سوى . ونصب المكان بأنه مفعول المصدر الذي هو موعدا أو أحد مفعولي فاجعل غير صواب فيما يظهر لي ، والله تعالى أعلم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة مكانا سوى قرأه ابن عامر وعاصم وحمزة " سوى " بضم السين ، والباقون بكسرها . ومعنى القراءتين واحد كما تقدم .
قوله تعالى : فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى

.

قوله تعالى في هذه الآية الكريمة فتولى فرعون قال بعض العلماء : معناه فتولى فرعون ، انصرف مدبرا من ذلك المقام ليهيئ ما يحتاج إليه مما تواعد عليه هو وموسى . ويدل لهذا الوجه قوله تعالى في سورة " النازعات " في القصة بعينها ثم أدبر يسعى فحشر فنادى [ 79 22 - 23 ] وقوله فحشر أي : جمع السحرة .

وقال بعض العلماء : معنى قوله فتولى فرعون أي : أعرض عن الحق الذي جاء به موسى . ومن معنى هذا الوجه قوله تعالى : إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى [ 20 48 ] .

وقوله تعالى : فجمع كيده الظاهر أن المراد بـ كيده ما جمعه من السحر ليغلب به موسى في زعمه . وعليه فالمراد بقوله فجمع كيده هو جمعه للسحرة من أطراف مملكته ، ويدل على هذا أمران : أحدهما تسمية السحر في القرآن كيدا . كقوله إنما صنعوا كيد ساحر الآية [ 20 69 ] ، وقوله تعالى عن السحرة : فأجمعوا كيدكم [ 20 64 ] وكيدهم سحرهم . الثاني أن الذي جمعه فرعون هو السحرة كما دلت عليه آيات من كتاب الله . كقوله تعالى في " الأعراف " : وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم [ 7 111 - 112 ] . وقوله حاشرين أي : جامعين يجمعون السحرة من أطراف مملكته ، وقوله في " الشعراء " : وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم [ 26 36 ] ، وقوله في " يونس " : وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم [ 10 79 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ثم أتى أي : جاء فرعون بسحرته للميعاد ليغلب نبي الله موسى بسحره في زعمه .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #280  
قديم 14-04-2022, 11:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (278)

سُورَةُ طه
صـ 33 إلى صـ 39



[ ص: 33 ] قوله تعالى : قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى

.

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن السحرة لما جمعهم فرعون واجتمعوا مع موسى للمغالبة قالوا له متأدبين معه : إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى وقد بين تعالى مقالتهم هذه في غير هذا الموضع . كقوله في " الأعراف " : قالوا ياموسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين [ 7 115 ] . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يحذف مفعول فعل في موضع ، ثم يبين في موضع آخر ، فإنا نبين ذلك ، وقد حذف هنا في هذه الآية مفعول تلقي ومفعول أول من ألقى وقد بين تعالى في مواضع أخر أن مفعول إلقاء موسى هو عصاه وذلك في قوله في " الأعراف " : وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 7 117 ] ، وقوله في " الشعراء " : فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 26 45 ] ، وقوله هنا : وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا الآية [ 20 69 ] . وما في يمينه هو عصاه . كما قال تعالى : وما تلك بيمينك ياموسى قال هي عصاي الآية [ 20 17 ] .

وقد بين تعالى أيضا في موضع آخر : أن مفعول إلقائهم هو حبالهم وعصيهم ، وذلك في قوله في " الشعراء " : فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون [ 26 44 ] . وقد أشار تعالى إلى ذلك أيضا بقوله هنا قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى [ 20 66 ] ، لأن في الكلام حذفا دل المقام عليه ، والتقدير : قال بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . والمصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله أن تلقي وفي قوله أن نكون فيه وجهان من الإعراب : الأول أنه في محل نصب بفعل محذوف دل المقام عليه ، والتقدير : إما أن تختار أن تلقي أي : تختار إلقاءك أولا ، أو تختار إلقاءنا أولا . وتقدير المصدر الثاني : وإما أن تختار أن نكون أي : كوننا أول من ألقى ، والثاني أنه في محل رفع ، وعليه فقيل هو مبتدأ ، والتقدير إما إلقاؤك أولا ، أو إلقاؤنا أولا . وقيل خبر مبتدأ محذوف ، أي : إما الأمر إلقاؤنا أو إلقاؤك .
قوله تعالى : قال بل ألقوا

.

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما خيره سحرة فرعون أن يلقي قبلهم أو يلقوا قبله قال لهم : ألقوا يعني ألقوا [ ص: 34 ] ما أنتم ملقون كما صرح به في " الشعراء " في قوله تعالى : قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون [ 26 43 ] وذلك هو المراد أيضا بقوله في " الأعراف " قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس [ 7 116 ] .

تنبيه

قول موسى للسحرة : ألقوا المذكور في " الأعراف ، وطه ، والشعراء " فيه سؤال معروف ، وهو أن يقال : كيف قال هذا النبي الكريم للسحرة ألقوا . أي : ألقوا حبالكم وعصيكم ، يعني اعملوا السحر وعارضوا به معجزة الله التي أيد بها رسوله ، وهذا أمر بمنكر ؟ ، والجواب : هو أن قصد موسى بذلك قصد حسن يستوجبه المقام ، لأن إلقاءهم قبله يستلزم إبراز ما معهم من مكائد السحر ، واستنفاد أقصى طرقهم ومجهودهم . فإذا فعلوا ذلك كان في إلقائه عصاه بعد ذلك وابتلاعها لجميع ما ألقوا من إظهار الحق وإبطال الباطل ما لا جدال بعده في الحق لأدنى عاقل . ولأجل هذا قال لهم : ألقوا ، فلو ألقى قبلهم وألقوا بعده لم يحصل ما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى

.

قرأ هذا الحرف ابن ذكوان عن ابن عامر " تخيل " بالتاء ، أي : تخيل هي أي : الحبال ، والعصي أنها تسعى . والمصدر في " أنها تسعى " بدل من ضمير الحبال ، والعصي الذي هو نائب فاعل لـ " تخيل " بدل اشتمال . وقرأ الباقون بالياء التحتية . والمصدر في سحرهم أنها تسعى نائب فاعل لـ " تخيل " .

وفي هذه الآية الكريمة حذف دل المقام عليه ، والتقدير : قال بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم ، فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . وبه تعلم أن الفاء في قوله فإذا حبالهم عاطفة على محذوف كما أشار لنحو ذلك ابن مالك في الخلاصة بقوله :


وحذف متبوع بدا هنا استبح


و " إذا " هي الفجائية ، وقد قدمنا كلام العلماء فيها فأغنى ذلك عن إعادته هنا . والحبال : جمع حبل ، وهو معروف . و " العصي " جمع عصا ، وألف العصا منقلبة عن واو ، ولذا ترد إلى أصلها في التثنية : ومنه قول غيلان ذي الرمة :

[ ص: 35 ]
فجاءت بنسج العنكبوت كأنه على عصويها سابري مشبرق


وأصل العصي عصوو على وزن فعول جمع عصا . فأعل بإبدال الواو التي في موضع اللام ياء فصار عصويا ، فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء ، فالياءان أصلهما واوان . وإلى جواز هذا النوع من الإعلال في واوي اللام مما جاء على فعول أشار في الخلاصة بقوله :


كذاك ذا وجهين جا الفعول من ذي الواو لام جمع أو فرد يعن


وضمة الصاد في وعصيهم أبدلت كسرة لمجانسة الياء ، وضمة عين " عصيهم " أبدلت كسرة لاتباع كسرة الصاد . والتخيل في قوله يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى هو إبداء أمر لا حقيقة له ، ومنه الخيال . وهو الطيف الطارق في النوم . قال الشاعر :


ألا يا لقومي للخيال المشوق وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي


وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى يدل على أن السحر الذي جاء به سحرة فرعون تخييل لا حقيقة له في نفس الأمر . وهذا الذي دلت عليه آية " طه " هذه دلت عليه آية " الأعراف " وهي قوله تعالى : فلما ألقوا سحروا أعين الناس [ 7 116 ] ، لأن قوله : سحروا أعين الناس يدل على أنهم خيلوا لأعين الناظرين أمرا لا حقيقة له . وبهاتين الآيتين احتج المعتزلة ومن قال بقولهم على أن السحر خيال لا حقيقة له .

والتحقيق الذي عليه جماهير العلماء من المسلمين : أن السحر منه ما هو أمر له حقيقة لا مطلق تخييل لا حقيقة له ، ومما يدل على أن منه ما له حقيقة قوله تعالى : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه [ 2 102 ] فهذه الآية تدل على أنه شيء موجود له حقيقة تكون سببا للتفريق بين الرجل وامرأته وقد عبر الله عنه بما الموصولة وهي تدل على أنه شيء له وجود حقيقي . ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى : ومن شر النفاثات في العقد [ 113 4 ] يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن . فلولا أن السحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه . وسيأتي إن شاء الله أن السحر أنواع : منها ما هو أمر له حقيقة ، ومنها ما هو تخييل لا حقيقة له . وبذلك يتضح عدم التعارض بين الآيات الدالة على أن له حقيقة ، والآيات الدالة على أنه خيال .

[ ص: 36 ] فإن قيل : قوله في " طه " : يخيل إليه من سحرهم [ 20 66 ] ، وقوله في " الأعراف " : سحروا أعين الناس [ 7 116 ] الدالان على أن سحر سحرة فرعون خيال لا حقيقة له ، يعارضهما قوله في " الأعراف " : وجاءوا بسحر عظيم [ 7 116 ] لأن وصف سحرهم بالعظم يدل على أنه غير خيال . فالذي يظهر في الجواب ، والله أعلم أنهم أخذوا كثيرا من الحبال ، والعصي ، وخيلوا بسحرهم لأعين الناس أن الحبال ، والعصي تسعى وهي كثيرة . فظن الناظرون أن الأرض ملئت حيات تسعى ، لكثرة ما ألقوا من الحبال ، والعصي فخافوا من كثرتها ، وبتخييل سعي ذلك العدد الكثير وصف سحرهم بالعظم . وهذا ظاهر لا إشكال فيه . وقد قال غير واحد : إنهم جعلوا الزئبق على الحبال ، والعصي ، فلما أصابها حر الشمس تحرك الزئبق فحرك الحبال ، والعصي ، فخيل للناظرين أنها تسعى . وعن ابن عباس : أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحرا ، مع كل ساحر منهم حبال وعصي . وقيل : كانوا أربعمائة . وقيل كانوا اثني عشر ألفا . وقيل أربعة عشر ألفا . وقال ابن المنكدر : كانوا ثمانين ألفا . وقيل : كانوا مجمعين على رئيس يقال له شمعون . وقيل : كان اسمه يوحنا معه اثنا عشر نقيبا ، مع كل نقيب عشرون عريفا ، مع كل عريف ألف ساحر . وقيل : كانوا ثلاثمائة ألف ساحر من الفيوم ، وثلاثمائة ألف ساحر من الصعيد وثلاثمائة ألف ساحر من الريف فصاروا تسعمائة ألف ، وكان رئيسهم أعمى ا ه . وهذه الأقوال من الإسرائيليات ، ونحن نتجنبها دائما ، ونقلل من ذكرها ، وربما ذكرنا قليلا منها منبهين عليه .
قوله تعالى : وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر .

قرأ هذا الحرف نافع ، وأبو عمرو وحمزة ، والكسائي وقنبل عن ابن كثير ، وهشام عن ابن عامر ، وشعبة عن عاصم بتاء مفتوحة مخففة بعدها لام مفتوحة ثم قاف مفتوحة مشددة بعدها فاء ساكنة ، وهو مضارع تلقف وأصله تتلقف بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

وما بتاءين ابتدي قد يقتصر فيه على تا كتبين العبر

والمضارع مجزوم ، لأنه جزاء الطلب في قوله وألق وجمهور علماء العربية على أن الجزم في نحو ذلك بشرط مقدر دلت عليه صيغة الطلب ، وتقديره هنا : إن تلق ما في يمينك تلقف ما صنعوا . وقرأه البزي عن ابن كثير كالقراءة التي ذكرنا ، إلا أنه يشدد [ ص: 37 ] تاء تلقف وصلا . ووجه تشديد التاء هو إدغام إحدى التاءين في الأخرى ، وهو جائز في كل فعل بدئ بتاءين كما هنا ، وأشار إليه في الخلاصة بقوله :


وحيي افكك وادغم دون حذر كذاك نحو تتجلى واستتر


ومحل الشاهد منه أوله نحو " تتجلى " ومثاله في الماضي قوله :


تولي الضجيج إذا ما التذها خصرا عذب المذاق إذا ما اتابع القبل


أصله تتابع ، وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر كالقراءة المذكورة للجمهور إلا أنه يضم الفاء ، فالمضارع على قراءته مرفوع ، ووجه رفعه أن جملة الفعل حال ، أي : ألق بما في يمينك في حال كونها متلقفة ما صنعوا . أو مستأنفة ، وعليه فهي خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهي تلقف ما صنعوا . وقرأ حفص عن عاصم تلقف بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف مخففة مع الجزم ، مضارع لقفه بالكسر يلقفه بالفتح ومعنى القراءتين واحد ، لأن معنى تلقفه ولقفه إذا تناوله بسرعة ، والمراد بقوله تلقف ما صنعوا على جميع القراءات أنها تبتلع كل ما زوروه وافتعلوه من الحبال ، والعصي التي خيلوا للناس أنها تسعى وصنعهم في قوله تعالى : ما صنعوا واقع في الحقيقة على تخييلهم إلى الناس بسحرهم أن الحبال والعصي تسعى ، لا على نفس الحبال ، والعصي لأنها من صنع الله تعالى . ومن المعلوم أن كل شيء كائنا ما كان بمشيئته تعالى الكونية القدرية .

وهذا المعنى الذي ذكره جل وعلا هنا في هذه الآية الكريمة : من كونه أمر نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن يلقي ما في يمينه أي : يده اليمنى ، وهو عصاه فإذا هي تبتلع ما يأفكون من الحبال ، والعصي التي خيلوا إليه أنها تسعى أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله في " الأعراف " : وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين [ 7 117 - 119 ] ، وقوله تعالى في " الشعراء " : فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 26 45 ] فذكر العصا في " الأعراف ، والشعراء " يوضح أن المراد بما في يمينه في " طه " أنه عصاه كما لا يخفى .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ما يأفكون أي : يختلقونه ويفترونه من الكذب ، وهو زعمهم أن الحبال ، والعصي تسعى حقيقة ، وأصله من قولهم : أفكه عن شيء يأفكه عنه ( من باب ضرب ) : إذا صرفه عنه وقلبه . فأصل الأفك بالفتح [ ص: 38 ] القلب والصرف عن الشيء . ومنه قيل لقرى قوم لوط والمؤتفكات .

لأن الله أفكها أي : قلبها . كما قال تعالى : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا [ 15 74 ] . ومنه قوله تعالى : يؤفك عنه من أفك [ 51 9 ] أي : يصرف عنه من صرف ، وقوله : قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا [ 46 22 ] أي : لتصرفنا عن عبادتها ، وقول عمرو بن أذينة :


إن تك عن أحسن المروءة مأفوكا ففي آخرين قد أفكوا


وأكثر استعمال هذه المادة في الكذب لأنه صرف وقلب للأمر عن حقيقته بالكذب ، والافتراء . كما قال تعالى : ويل لكل أفاك أثيم [ 45 7 ] ، وقال تعالى : وذلك إفكهم وما كانوا يفترون [ 46 28 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنما صنعوا كيد ساحر " ما " موصولة وهي اسم " إن " ، و " كيد " خبرها ، والعائد إلى الموصول محذوف . على حد قوله في الخلاصة : .

. . . . . . . . . . . .
والحذف عندهم كثير منجلي


في عائد متصل إن انتصب بفعل أو وصف كمن نرجو يهب

والتقدير : إن الذي صنعوه كيد ساحر . وأما على قراءة من قرأ كيد ساحر بالنصب فـ " ما " كافة و " كيد " مفعول " صنعوا " وليست سبعية ، وعلى قراءة حمزة ، والكسائي " كيد سحر " بكسر السين وسكون الحاء ، فالظاهر أن الإضافة بيانية . لأن الكيد المضاف إلى السحر هو المراد بالسحر . وقد بسطنا الكلام في نحو ذلك في غير هذا الموضع . والكيد : هو المكر .
قوله تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى

.

وقد قدمنا في سورة " بني إسرائيل " أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم . لأنه ينحل عند بعض أهل العلم عن مصدر وزمان ، وعند بعضهم عن مصدر وزمان ونسبة . فالمصدر كامن في مفهومه إجماعا ، وهذا المصدر الكامن في مفهوم الفعل في حكم النكرة فيرجع ذلك إلى النكرة في سياق النفي وهي صيغة عموم عند الجمهور . فظهر أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم ، وكذلك الفعل في سياق الشرط . لأن النكرة في سياق الشرط أيضا صيغة عموم . وأكثر أهل العلم على ما ذكرنا من أن الفعل في سياق النفي أو الشرط من صيغ العموم ، خلافا لبعضهم فيما إذا لم يؤكد الفعل المذكور بمصدر . فإن أكد به فهو [ ص: 39 ] صيغة عموم بلا خلاف ، كما أشار إلى ذلك في مراقي السعود بقوله عاطفا على صيغ العموم :


ونحو لا شربت أو إن شربا واتفقوا إن مصدرا قد جلبا

والتحقيق في هذه المسألة : أنها لا تختص بالفعل المتعدي دون اللازم ، خلافا لمن زعم ذلك ، وأنه لا فرق بين التأكيد بالمصدر وعدمه . لإجماع النحاة على أن ذكر المصدر بعد الفعل تأكيد للفعل ، والتأكيد لا ينشأ به حكم ، بل هو مطلق تقوية لشيء ثابت قبل ذلك كما هو معروف . وخلاف العلماء في عموم الفعل المذكور هل هو بدلالة المطابقة أو الالتزام معروف . وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا يفلح الساحر الآية . يعم نفي جميع أنواع الفلاح عن الساحر ، وأكد ذلك بالتعميم في الأمكنة بقوله : حيث أتى وذلك دليل على كفره . لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفيا عاما إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر . ويدل على ما ذكرنا أمران :

الأول هو ما جاء من الآيات الدالة على أن الساحر كافر . كقوله تعالى : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر الآية [ 2 102 ] . فقوله وما كفر سليمان يدل على أنه لو كان ساحرا وحاشاه من ذلك لكان كافرا . وقوله ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر صريح في كفر معلم السحر ، وقوله تعالى عن هاروت وماروت مقررا له : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر [ 2 102 ] ، وقوله : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق [ 2 102 ] أي : من نصيب ، ونفي النصيب في الآخرة بالكلية لا يكون إلا للكافر عياذا بالله تعالى . وهذه الآيات أدلة واضحة على أن من السحر ما هو كفر بواح ، وذلك مما لا شك فيه .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 431.88 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 425.99 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (1.36%)]