تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 16 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وما أدراك ما ناشئة الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          كف الأذى عن المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          انشراح الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          فضل آية الكرسي وتفسيرها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          المسارعة في الخيرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          أمة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          الصحبة وآدابها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          البلاغة والفصاحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          مختارات من كتاب " الكامل في التاريخ " لابن الأثير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          ماذا لو حضرت الأخلاق؟ وماذا لو غابت ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #151  
قديم 07-12-2021, 04:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (149)

سُورَةُ الْحِجْرِ(10)
صـ 296 إلى صـ 300




وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ، ولا تتخذوها قبورا " أخرجه الشيخان ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، إلا ابن ماجه ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : " ولا تتخذوها قبورا " دليل على أن القبور ليست محل صلاة ، وقال بعض العلماء : يحتمل أن يكون معنى الحديث : صلوا ولا تكونوا كالأموات في قبورهم ; فإنهم لا يصلون . وأخرج الإمام أحمد بسند جيد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعا : " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد " . ورواه ابن أبي حاتم أيضا .

والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة لا مطعن فيها ، وهي تدل دلالة واضحة على تحريم الصلاة في المقبرة ; لأن كل موضع صلي فيه يطلق عليه اسم المسجد ; لأن المسجد في اللغة مكان السجود ، ويدل لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " وجعلت لي الأرض مسجدا " . الحديث . أي : كل مكان منها تجوز الصلاة فيه . وظاهر النصوص المذكورة العموم ، سواء نبشت المقبرة واختلط ترابها بصديد الأموات أو لم تنبش ; لأن علة النهي ليست بنجاسة المقابر كما يقوله الشافعية ; بدليل اللعن الوارد من النبي - صلى الله عليه وسلم - على من اتخذ قبور الأنبياء مساجد . ومعلوم أن قبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ليست نجسة ، فالعلة للنهي سد الذريعة ; لأنهم إذا عبدوا الله عند القبور آل بهم الأمر إلى عبادة القبور .

فالظاهر من النصوص المذكورة : منع الصلاة عند المقابر مطلقا ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وفي صحتها عنده روايتان وإن تحققت طهارتها . وذهب مالك : إلى أن الصلاة فيها مكروهة . وذهب الشافعية : إلى أنها إذا كانت نجسة لاختلاط أرضها بصديد الأموات لأجل النبش ; فالصلاة فيها باطلة ، وإن كانت لم تنبش ; فالصلاة فيها مكروهة عندهم . وذكر النووي عن ابن المنذر : أنه قال : روينا عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء ، والنخعي ، أنهم كرهوا الصلاة في المقبرة . قال : ولم يكرهها أبو هريرة ، وواثلة بن الأسقع ، والحسن البصري ، ونقل صاحب الحاوي عن داود : أنه قال : تصح الصلاة وإن تحقق نبشها . وذكر ابن حزم النهي عن الصلاة في المقبرة عن خمسة من الصحابة وهم : عمر ، وعلي ، وأبو هريرة ، وأنس [ ص: 297 ] وابن عباس . وقال : ما نعلم لهم مخالفا ، وحكاه عن جماعة من التابعين : إبراهيم النخعي ، ونافع بن جبير بن مطعم ، وطاوس ، وعمرو بن دينار ، وخيثمة ، وغيرهم . وقد حكى الخطابي " في معالم السنن " عن عبد الله بن عمر : أنه رخص في الصلاة في المقبرة . وحكي أيضا عن الحسن : أنه صلى في المقبرة .

وعن ابن جريج ، قال : قلت لنافع : أكان ابن عمر يكره أن يصلى وسط القبور ؟ قال : لقد صلينا على عائشة ، وأم سلمة - رضي الله عنهما - وسط البقيع والإمام يوم صلينا على عائشة أبو هريرة - رضي الله عنه - ، وحضر ذلك عبد الله بن عمر . رواه البيهقي وغيره . وممن كره الصلاة في المقبرة : أبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي . واحتج من قال بجواز الصلاة في المقبرة : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على المسكينة السوداء بالمقبرة . وسيأتي قريبا - إن شاء الله - حكم الصلاة إلى جهة القبر .

قال مقيده - عفا الله عنه - : أظهر الأقوال دليلا في هذه المسألة عندي قول الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - ; لأن النصوص صريحة في النهي عن الصلاة في المقابر ، ولعن من اتخذ المساجد عليها ، وهي ظاهرة جدا في التحريم . أما البطلان فمحتمل ; لأن النهي يقتضي الفساد لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من أحدث من أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " . والصلاة في المقابر منهي عنها ، فليست من أمرنا فهي رد . ويحتمل أن يقال : الصلاة من أمرنا فليست ردا ، وكونها في المكان المنهي عنه هو الذي ليس من أمرنا .

كما علم الخلاف بين العلماء في كل منهي عنه له جهتان : إحداهما مأمور به منها : ككونه صلاة ، والأخرى منهي عنه منها : ككونه في موضع نهي ، أو وقت نهي ، أو أرض مغصوبة ، أو بحرير ، أو ذهب ، ونحو ذلك ; فإنهم يقولون : إن انفكت جهة الأمر عن جهة النهي لم يقتض النهي الفساد ، وإن لم تنفك عنها اقتضاه . ولكنهم عند التطبيق يختلفون ، فيقول أحدهم : الجهة هنا منفكة . ويقول الآخر : ليست منفكة كالعكس ، فيقول الحنبلي مثلا : الصلاة في الأرض المغصوبة لا يمكن أن تنفك فيها جهة الأمر عن جهة النهي ; لكون حركة أركان الصلاة كالركوع والسجود والقيام كلها يشغل المصلي به حيزا من الفراغ ليس مملوكا له ، فنفس شغله له ببدنه أثناء الصلاة حرام ، فلا يمكن أن يكون قربة بحال . فيقول المعترض كالمالكي والشافعي : الجهة منفكة هنا ; لأن هذا الفعل من حيث كونه صلاة قربة ، ومن حيث كونه غصبا حرام ، فله صلاته وعليه غصبه كالصلاة بالحرير . وإلى هذا المسألة وأقوال العلماء فيها أشار في مراقي السعود بقوله :


دخول ذي كراهة فيما أمر به بلا قيد وفصل قد حظر [ ص: 298 ] فنفي صحة ونفي الأجر
في وقت كره للصلاة يجري وإن يك النهي عن الأمر انفصل
فالفعل بالصحة لا الأجر اتصل وذا إلى الجمهور ذو انتساب
وقيل بالأجر مع العقاب وقد روي البطلان والقضاء
وقيل ذا فقط له انتفاء مثل الصلاة بالحرير والذهب
أو في مكان الغصب والوضو انقلب ومعطن ومنهج ومقبره
كنيسة وذي حميم مجزره


وأما الصلاة إلى القبور فإنها لا تجوز أيضا ، بدليل ما أخرجه مسلم في صحيحه ، والإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، عن أبي مرثد الغنوي - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها " . هذا لفظ مسلم . وفي لفظ له أيضا : " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها " . والقاعدة المقررة في الأصول : أن النهي يقتضي التحريم . فأظهر الأقوال دليلا منع الصلاة في المقبرة وإلى القبر ; لأن صيغة النهي المتجردة من القرائن تقتضي التحريم . أما اقتضاء النهي الفساد إذا كان للفعل جهة أمر وجهة نهي ، ففيه الخلاف الذي قدمناه آنفا ، وإن كانت جهته واحدة اقتضى الفساد . وقال صاحب المراقي في اقتضاء النهي الفساد :


وجاء في الصحيح للفساد إن لم يجي الدليل للسداد


وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح عن الصلاة إلى القبور ، وقد قال : " وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " ، وقال تعالى : وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، وقد قدمنا أن لعنه - صلى الله عليه وسلم - من اتخذ القبور مساجد يدل دلالة واضحة على التحريم . واحتج من قال بصحة الصلاة في المقابر وإلى القبور بأدلة منها : عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيح : " وجعلت لي الأرض مسجدا " الحديث . قالوا : عمومه يشمل المقابر ، ويجاب عن هذا الاستدلال من وجهين :

أحدهما : أن أحاديث النهي منه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في المقبرة وإلى القبر خاصة ، وحديث " جعلت لي الأرض مسجدا " عام ، والخاص يقضى به على العام كما تقرر في الأصول عند الجمهور .

والثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثنى من عموم كون الأرض مسجدا المقبرة والحمام ، فقد أخرج أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والشافعي ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، وصححاه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الأرض كلها مسجد [ ص: 299 ] إلا المقبرة والحمام " ، قال ابن حجر في " فتح الباري " في الكلام على قول البخاري باب " كراهية الصلاة في المقابر " في حديث أبي سعيد هذا : رواه أبو داود والترمذي ، ورجاله ثقات ، لكن اختلف في وصله وإرساله ، وحكم مع ذلك بصحته الحاكم وابن حبان . وقال الشوكاني - رحمه الله - في " نيل الأوطار " : صححه الحاكم في المستدرك ، وابن حزم الظاهري ، وأشار ابن دقيق العيد إلى صحته .

قال مقيده - عفا الله عنه - : التحقيق أن الحديث إذا اختلف في وصله وإرساله ، وثبت موصولا من طريق صحيحة حكم بوصله ، ولا يكون الإرسال في الرواية الأخرى علة فيه ; لأن الوصل زيادة وزيادات العدل مقبولة . وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " :


والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ


من أدلة من قال : تصح الصلاة في القبور - ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة : أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابا ، فقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها أو عنه ، فقالوا : مات قال : " أفلا آذنتموني " ، قال : فكأنهم صغروا أمرها أو أمره . فقال : " دلوني على قبره " فدلوه فصلى عليها . ثم قال : " هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم " . وليس للبخاري : " إن هذه القبور مملوءة ظلمة " إلى آخر الخبر ، قالوا : فهذا الحديث يدل على مشروعية الصلاة إلى القبر .

ومن أدلتهم أيضا ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ، قال : انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قبر رطب ، فصلى عليه ، وصفوا خلفه ، وكبر أربعا .

ومن أدلتهم أيضا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر .

ومن أدلتهم ما قدمنا من الصلاة على عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما - وسط البقيع ، وهذه الأدلة يستدل بها على جواز الصلاة إلى القبور وصحتها ; لا مطلق صحتها دون الجواز .

ومن أدلتهم ما ذكره البخاري تعليقا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بلفظ : " ورأى عمر أنس بن مالك - رضي الله عنه - يصلي عند قبر . فقال : القبر ، القبر ، ولم يأمره بالإعادة " اهـ . وقال ابن حجر في الفتح : أورد أثر عمر الدال على أن النهي في ذلك لا يقتضي فساد الصلاة . والأثر المذكور عن عمر رويناه موصولا في كتاب الصلاة لأبي [ ص: 300 ] نعيم شيخ البخاري . ولفظه : " بينما أنس يصلي إلى قبر ناداه عمر : القبر ، القبر ; فظن أنه يعني القمر . فلما رأى أنه يعني القبر ، جاوز القبر وصلى " وله طرق أخرى بينتها في تعليق التعليق . منها : من طريق حميد عن أنس نحوه ، زاد فيه : فقال بعض من يليني : إنما يعني القبر فتنحيت عنه . وقوله : القبر القبر ، بالنصب فيهما على التحذير . وقوله : ولم يأمره بالإعادة استنبطه من تمادي أنس على الصلاة . ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف . اهـ منه بلفظه .

قال مقيده - عفا الله عنه - : هذه الأدلة يظهر للناظر أنها متعارضة ، ومعلوم أن الجمع واجب إذا أمكن ، وإن لم يمكن وجب الترجيح ، وفي هذه المسألة يجب الجمع والترجيح معا . أما وجه الجمع : فإن جميع الأدلة المذكورة في الصلاة إلى القبور كلها في الصلاة على الميت ، وليس فيها ركوع ولا سجود ، وإنما هي دعاء للميت : فهي من جنس الدعاء للأموات عند المرور بالقبور .

ولا يفيد شيء من تلك الأدلة جواز صلاة الفريضة أو النافلة التي هي صلاة ذات ركوع وسجود . ويؤيده تحذير عمر لأنس من الصلاة عند القبر . نعم تتعارض تلك الأدلة مع ظاهر عموم : " لا تجلسوا على القبور ، ولا تصلوا إليها " ; فإنه يعم كل ما يصدق عليه اسم الصلاة ، فيشمل الصلاة على الميت ، فيتحصل أن الصلاة ذات الركوع والسجود لم يرد شيء يدل على جوازها إلى القبر أو عنده ، بل العكس . أما الصلاة على الميت : فهي التي تعارضت فيها الأدلة . والمقرر في الأصول : أن الدليل الدال على النهي مقدم على الدليل على الجواز ، وللمخالف أن يقول : لا يتعارض عام وخاص . فحديث : " لا تصلوا إلى القبور " عام في ذات الركوع والسجود والصلاة على الميت . والأحاديث الثابتة في الصلاة على قبر الميت خاصة ، والخاص يقضى به على العام .

فأظهر الأقوال بحسب الصناعة الأصولية : منع الصلاة ذات الركوع والسجود عند القبر وإليه مطلقا ; للعنه - صلى الله عليه وسلم - لمتخذي القبور مساجد ، وغير ذلك من الأدلة ، وأن الصلاة على قبر الميت - التي هي للدعاء له الخالية من الركوع والسجود - تصح ; لفعله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيح ، من حديث أبي هريرة ، وابن عباس ، وأنس ، ويومئ لهذا الجمع حديث لعن متخذي القبور مساجد ; لأنها أماكن السجود . وصلاة الجنازة لا سجود فيها ; فموضعها ليس بمسجد لغة ; لأنه ليس موضع سجود .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #152  
قديم 07-12-2021, 04:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (150)

سُورَةُ الْحِجْرِ(11)
صـ 301 إلى صـ 305


تنبيه .

[ ص: 301 ] اعلم أن ما يزعمه بعض من لا علم عنده : من أن الكتاب والسنة دلا على اتخاذ القبور مساجد ، يعني بالكتاب قوله تعالى : قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا [ 18 \ 21 ] ، ويعني بالسنة ما ثبت في الصحيح من أن : موضع مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان فيه قبور المشركين ، في غاية السقوط ، وقائله من أجهل خلق الله .

أما الجواب عن الاستدلال بالآية فهو أن تقول : من هؤلاء القوم الذين قالوا : " لنتخذن عليهم مسجدا " ؟ أهم ممن يقتدى به ؟ أم هم كفرة لا يجوز الاقتداء بهم ؟ ، وقد قال أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله تعالى - في هؤلاء القوم [ 18 \ 21 ] ، ما نصه : " وقد اختلف في قائل هذه المقالة ، أهم الرهط المسلمون أم هم الكفار ؟ فإذا علمت ذلك فاعلم أنهم على القول بأنهم كفار فلا إشكال في أن فعلهم ليس بحجة ; إذ لم يقل أحد بالاحتجاج بأفعال الكفار كما هو ضروري . وعلى القول : بأنهم مسلمون كما يدل له ذكر المسجد ; لأن اتخاذ المساجد من صفات المسلمين ، فلا يخفى على أدنى عاقل أن قول قوم من المسلمين في القرون الماضية : إنهم سيفعلون كذا ، لا يعارض به النصوص الصحيحة الصريحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من طمس الله بصيرته فقابل قولهم : لنتخذن عليهم مسجدا [ 18 \ 21 ] بقوله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى بخمس : " لعن الله اليهود والنصارى ; اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . الحديث . يظهر لك أن من اتبع هؤلاء القوم في اتخاذهم المسجد على القبور ، ملعون على لسان الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - كما هو واضح ، ومن كان ملعونا على لسانه - صلى الله عليه وسلم - ، فهو ملعون في كتاب الله كما صح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ; لأن الله يقول : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] ; ولهذا صرح ابن مسعود - رضي الله عنه - : بأن الواصلة والواشمة ومن ذكر معهما في الحديث ، كل واحدة منهن ملعونة في كتاب الله . وقال للمرأة التي قالت له : قرأت ما بين الدفتين فلم أجد ، إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه ، ثم تلا الآية الكريمة ، وحديثه مشهور في الصحيحين وغيرهما ، وبه تعلم أن من اتخذ المساجد على القبور ملعون في كتاب الله - جل وعلا - على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا دليل في آية : لنتخذن عليهم مسجدا [ 18 \ 21 ] .

وأما الاستدلال : بأن مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة مبني في محل مقابر المشركين فسقوطه ظاهر ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بها فنبشت وأزيل ما فيها . ففي الصحيحين من حديث أنس - رضي [ ص: 302 ] الله عنه - : " فكان فيه ما أقول لكم : قبور المشركين ، وفيه خرب ، وفيه نخل ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين ، فنبشت ، ثم بالخرب فسويت ، وبالنخل فقطع ، فصفوا النخل قبلة المسجد ، وجعلوا عضادتيه الحجارة . . . . . " . الحديث . هذا لفظ البخاري . ولفظ مسلم قريب منه بمعناه . فقبور المشركين لا حرمة لها ; ولذلك أمر - صلى الله عليه وسلم - بنبشها وإزالة ما فيها . فصار الموضع كأن لم يكن فيه قبر أصلا لإزالته بالكلية . وهو واضح كما ترى ا هـ .

والتحقيق الذي لا شك فيه : أنه لا يجوز البناء على القبور ولا تجصيصها . كما رواه مسلم في صحيحه ، وغيره عن أبي الهياج الأسدي : أن عليا - رضي الله عنه - قال له : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; ألا تدع تمثالا إلا طمسته ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته " .

ولما ثبت في صحيح مسلم وغيره أيضا عن جابر - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر ، وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه " .

فهذا النهي ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال : " وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " . وقال - جل وعلا - : وما نهاكم عنه فانتهوا .

وقد تبين مما ذكرنا حكم الصلاة في مواضع الخسف ، وفي المقبرة ، وإلى القبر ، وفي الحمام .

وأما أعطان الإبل : فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا النهي عن الصلاة فيها ، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - : أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أأتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : " إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا توضأ " ، قال : أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : " نعم ; توضأ من لحوم الإبل " . قال : أصلي في مرابض الغنم ؟ قال : " نعم " ، قال : أصلي في " مبارك الإبل " : قال " لا " . هذا لفظ مسلم في صحيحه .

وأخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه ، وابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " صلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في أعطان الإبل " .

وأخرج النسائي ، والبيهقي ، وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في أعطان الإبل .

وقال النووي في ( شرح المهذب ) : إن الإسناد الذي أخرجه به البيهقي حسن . وأخرج أبو داود في سننه في ( باب الوضوء من لحوم الإبل ) ، وفي ( باب النهي عن الصلاة في مبارك [ ص: 303 ] الإبل ) ، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في مبارك الإبل ، فقال : " لا تصلوا في مبارك الإبل ; فإنها من الشياطين " ، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم ، فقال : " صلوا فيها ; فإنها بركة " .

وأخرج ابن ماجه ، عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " صلوا في مراح الغنم ; ولا تصلوا في معاطن الإبل " .

وأخرج ابن ماجه ، عن سبرة بن معبد الجهني - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يصلى في أعطان الإبل ، ويصلى في مراح الغنم " .

وترجم البخاري - رحمه الله - في صحيحه لهذه المسألة ، فقال : ( باب الصلاة في مواضع الإبل ) ، ثم قال : حدثنا صدقة بن الفضل ، قال : أخبرنا سليمان بن حيان ، قال : حدثنا عبيد الله عن نافع ، قال : رأيت ابن عمر يصلي إلى بعيره ، وقال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله .

وقال ابن حجر في الفتح في الكلام على هذه الترجمة ، التي لم يأت البخاري بحديث يطابقها ما نصه : كأنه يشير إلى أن الأحاديث الواردة في التفرقة بين الإبل والغنم ليست على شرطه ، ولكن لها طرق قوية ، منها حديث جابر بن سمرة عند مسلم ، وحديث البراء بن عازب عند أبي داود ، وحديث أبي هريرة عند الترمذي ، وحديث عبد الله بن مغفل عند النسائي ، وحديث سبرة بن معبد عند ابن ماجه ، وفي معظمها التعبير بمعاطن الإبل . ووقع في حديث جابر بن سمرة والبراء : " مبارك الإبل " ، ومثله في حديث سليك عند الطبراني ، وفي حديث سبرة ، وكذا في حديث أبي هريرة عند الترمذي : " أعطان الإبل " . وفي حديث أسيد بن حضير عند الطبراني : " مناخ الإبل " ، وفي حديث عبد الله بن عمرو ، عند أحمد : " مرابد الإبل " فعبر المصنف بالمواضع لأنها أشمل ، والمعاطن أخص من المواضع ; لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء خاصة .

وقد ذهب بعضهم إلى أن النهي خاص بالمعاطن دون غيرها من الأماكن التي تكون فيها الإبل . وقيل مأواها مطلقا ، نقله صاحب المغني عن أحمد . ا هـ كلام ابن حجر .

وقال ابن حزم : إن أحاديث النهي عن الصلاة في أعطان الإبل متواترة بنقل تواتر يوجب العلم .

فإذا علمت ذلك ; فاعلم أن العلماء اختلفوا في صحة الصلاة في أعطان الإبل .

فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنها لا تصح فيها ، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد ، وعليه جل أصحابه .

[ ص: 304 ] قال صاحب ( الإنصاف ) : هذا المذهب وعليه الأصحاب . وفي الفروع هو أشهر وأصح في المذهب . وقال المصنف وغيره : هذا ظاهر المذهب وهو من المفردات .

وممن قال بهذا القول ( ابن حزم ) .

وذهب جمهور أهل العلم إلى أن النهي للكراهة ، وأنه لو صلى فيها لصحت صلاته . وقد قدمنا كلام أهل الأصول في مثل هذه المسألة .

واعلم أن العلماء اختلفوا في علة النهي عن الصلاة في أعطان الإبل .

فقيل : لأنها خلقت من الشياطين ، كما تقدم في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو الصحيح في التعليل ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تصلوا في مبارك الإبل ; فإنها خلقت من الشياطين " ، وترتيبه كونها خلقت من الشياطين بالفاء على النهي ، يدل على أنه هو علته كما تقرر في مبحث مسلك النص ، ومسلك الإيماء والتنبيه .

وقال جماعة من أهل العلم : معنى كونها : " خلقت من الشياطين " ، أنها ربما نفرت وهو في الصلاة فتؤدي إلى قطع صلاته ، أو أذاه ، أو تشويش خاطره . وقد قدمنا أن كل عات متمرد تسميه العرب شيطانا . والإبل إذا نفرت فهي عاتية متمردة ، فتسميتها باسم الشياطين مطابق للغة العرب .

والعرب تقول : خلق من كذا للمبالغة ، كما يقولون : خلق هذا من الكرم ، ومنه قوله : خلق الإنسان من عجل [ 21 \ 37 ] ، على أصح التفسيرين .

وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في معاطنها ، وبين غيبتها عنها ; إذ يؤمن نفورها حينئذ .

قال الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : ويرشد إلى صحة هذا حديث ابن مغفل عند أحمد بإسناد صحيح بلفظ : " لا تصلوا في أعطان الإبل ; فإنها خلقت من الجن ، ألا ترون إلى عيونها وهيئاتها إذا نفرت " .

وقد يحتمل أن علة النهي أن يجاء بها إلى معاطنها بعد شروعه في الصلاة فيقطعها ، أو يستمر فيها مع شغل خاطره ، ا هــ كلام الشوكاني .

ومن هذا التعليل المنصوص ; فهم العلماء القائلون بعدم بطلانها أنه : لما كانت علة النهي ما ذكر ; دل ذلك على أن الصلاة إذا فعلها تامة أنها غير باطلة .

[ ص: 305 ] وقيل : العلة أن أصحاب الإبل يتغوطون في مباركها بخلاف أهل الغنم .

وقيل : العلة أن الناقة تحيض ، والجمل يمني .

وكلها تعليلات لا معول عليها . والصحيح التعليل المنصوص عنه - صلى الله عليه وسلم - بأنها خلقت من الشياطين . والعلم عند الله تعالى .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #153  
قديم 14-12-2021, 01:48 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (151)

سُورَةُ الْحِجْرِ(12)
صـ 306 إلى صـ 310




تنبيه .

فإن قيل : ما حكم الصلاة في مبارك البقر ؟ .

فالجواب أن أكثر العلماء يقولون : إنها كمرابض الغنم . ولو قيل : إنها كمرابض الإبل ; لكان لذلك وجه .

قال ابن حجر ( في فتح الباري ) : وقع في مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في مرابض الغنم ، ولا يصلي في مرابض الإبل والبقر ، اهـ . قال : وسنده ضعيف . فلو ثبت لأفاد أن حكم البقر حكم الإبل . بخلاف ما ذكره ابن المنذر : أن البقر في ذلك كالغنم . اهـ كلام ابن حجر .

وما يقوله أبو داود - رحمه الله - : من أن العمل بالحديث الضعيف خير من العمل بالرأي له وجه وجيه . والعلم عند الله تعالى .

وأما الصلاة في المزبلة ، والمجزرة ، وقارعة الطريق ، وفوق ظهر بيت الله الحرام ، فدليل النهي عنها هو ما تقدم من حديث زيد بن جبيرة ، عن داود بن حصين ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قدمنا ما في إسناده من الكلام .

وأما الصلاة إلى جدار مرحاض عليه نجاسة ، فلما روي من النهي عن ذلك عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - .

قال العلامة الشوكاني - رحمه الله - في ( نيل الأوطار ) : وأما الصلاة إلى جدار مرحاض ; فلحديث ابن عباس في سبعة من الصحابة بلفظ : " نهى عن الصلاة في المسجد تجاهه حش " ، أخرجه ابن عدي . قال العراقي ولم يصح إسناده .

وروى ابن أبي شيبة في المصنف ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : لا يصلى إلى الحش .

وعن علي قال : لا يصلى تجاه حش .

[ ص: 306 ] وعن إبراهيم : كانوا يكرهون ثلاثة أشياء . . فذكر منها الحش .

وفي كراهة استقباله خلاف بين العلماء . اهـ كلام الشوكاني .

والمراد بالحش - بضم الحاء وفتحها - بيت الخلاء .

وأما الصلاة في الكنيسة والبيعة - والمراد بهما متعبدات اليهود والنصارى - ، فقد كرهها جماعة من أهل العلم .

قال النووي في ( شرح المذهب ) : حكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، ومالك - رضي الله عنهم - .

قال الشوكاني : وقد رويت الكراهة أيضا عن الحسن .

قال مقيده - عفا الله عنه - : الظاهر أن ما روي من ذلك عن عمر وابن عباس ليس على إطلاقه ، وإنما هو في الكنائس والبيع التي فيها الصور خاصة . ومما يدل على ذلك ما ذكره البخاري - رحمه الله - في صحيحه ، قال : ( باب الصلاة في البيعة ) ، وقال عمر - رضي الله عنه - : " إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور " . وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل .

وقال ابن حجر في ( الفتح ) : إن الأثر الذي علقه البخاري عن عمر ، وصله عبد الرزاق من طريق أسلم - مولى عمر - . والأثر الذي علق عن ابن عباس ، وصله البغوي في الجعديات . اهـ .

ومعلوم أن البخاري لا يعلق بصيغة الجزم إلا ما هو ثابت عنده .

ورخص في الصلاة في الكنيسة والبيعة جماعة من أهل العلم ، منهم : أبو موسى ، وعمر بن عبد العزيز ، والشعبي ، وعطاء بن أبي رباح ، وابن سيرين ، والنخعي ، والأوزاعي ، وغيرهم .

قال العلامة الشوكاني - رحمه الله - : ولعل وجه الكراهة هو ما تقدم من اتخاذ قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد ; لأنه يصير جميع البيع والكنائس مظنة لذلك .

قال مقيده - عفا الله عنه - : ويحتمل أن تكون العلة أن الكنيسة والبيعة : موضع يعصى الله فيه ويكفر به فيه ، فهي بقعة سخط وغضب . وأما النهي عن الصلاة إلى التماثيل : فدليله ثابت في الصحيح .

[ ص: 307 ] فمن ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه ( في كتاب الصلاة ) ، قال : ( باب إن صلى في ثوب مصلب ، أو تصاوير : هل يفسد صلاته ؟ وما ينهى عن ذلك ، حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس : كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أميطي عنا قرامك هذا ; إنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي " .

وقال البخاري أيضا ( في كتاب اللباس ، باب كراهية اللباس في التصاوير ) : حدثنا عمران بن ميسرة ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس - رضي الله عنه - ، قال : كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أميطي عني ; فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي " .

وقال مسلم في صحيحه : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، قال : سمعت القاسم يحدث عن عائشة : أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إليه ، فقال : " أخريه عني " ، قالت : فأخرته فجعلته وسائد .

والثوب في هذه الرواية هو القرام المذكور ، والقرام - بالكسر - : ستر فيه رقم ونقوش ، أو الستر الرقيق ، ومنه قول لبيد في معلقته يصف الهودج :


من كل محفوف يظل عصيه زوج عليه كلة وقرامها


وقول الآخر يصف دارا :


على ظهر جرعاء العجوز كأنها دوائر رقم في سراة قرام


والكلة في بيت لبيد : هي القرام إذا خيط فصار كالبيت .

فهذه النصوص الصحيحة تدل على أنه لا تجوز الصلاة إلى التماثيل . ومما يدل لذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة - رضي الله عنها - : أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة ، فيها تصاوير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات ، بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " . اهـ . هذا لفظ مسلم ، ولفظ البخاري قريب منه . اهـ .

أما بطلان صلاة من صلى إلى التماثيل ، ففيه اختلاف بين العلماء ، وقد أشار له [ ص: 308 ] البخاري بقوله الذي قدمنا عنه ( باب إن صلى في ثوب مصلب ، أو تصاوير : هل تفسد صلاته ؟ ) الخ .

وقد قدمنا أن منشأ الخلاف في البطلان هو الاختلاف في انفكاك جهة النهي عن جهة الأمر . والعلم عند الله تعالى .

وأما منع تصوير الحيوان ، وتعذيب فاعليه يوم القيامة أشد العذاب ، وأمرهم بإحياء ما صوروا ، وكون الملائكة لا تدخل محلا فيه صورة أو كلب ، فكله معروف ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وأما الصلاة في المكان المغصوب : فإنها لا تجوز بإجماع المسلمين ; لأن اللبث فيها حرام في غير الصلاة ، فلأن يحرم في الصلاة أولى .

وذهب جمهور أهل العلم : إلى أنه لو صلى في أرض مغصوبة فصلاته صحيحة ; لانفكاك الجهة أنه آثم بغصبه ، مطيع بصلاته : كالمصلي بحرير .

وذهب الإمام أحمد في أصح الروايات عنه ، والجبائي وغيره من المعتزلة : إلى أنها باطلة ; لعدم انفكاك جهة الأمر عن جهة النهي كما قدمنا ، وقد قدمنا أقوال عامة العلماء في هذه المسألة في أبيات مراقي السعود التي استشهدنا بها . وأما النهي عن الصلاة إلى النائم والمتحدث : فدليله ما أخرجه أبو داود في سننه ، قال : ( باب الصلاة إلى المتحدثين والنيام ) ، حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ، حدثنا عبد الملك بن محمد بن أيمن ، عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق ، عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قلت له - يعني لعمر بن عبد العزيز - : حدثني عبد الله بن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث " . اهـ .

وهذا الحديث لا يخفى ضعفه ; لأن الراوي في هذا الإسناد عن محمد بن كعب لا يدرى من هو كما ترى .

وقال ابن ماجه في سننه : حدثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا زيد بن الحباب ، حدثني أبو المقدام ، عن محمد بن كعب ، عن ابن عباس ، قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلى خلف المتحدث ، أو النائم " . وإسناد ابن ماجه هذا لا يحتج به أيضا ; لأن الراوي فيه عن محمد بن كعب : أبو المقدام وهو هشام بن زياد بن أبي يزيد ، وهو هشام بن أبي هشام ، ويقال له أيضا : هشام بن أبي الوليد المدني ، وهو لا يحتج بحديثه . قال فيه ابن حجر في التقريب : [ ص: 309 ] متروك . وقال في تهذيب التهذيب : قال عبد الله بن أحمد ، وأبو زرعة : ضعيف الحديث . وقال الدوري عن ابن معين : ليس بثقة . وقال في موضع آخر : ضعيف ، ليس بشيء . وقال البخاري : يتكلمون فيه . وقال أبو داود : غير ثقة . وقال الترمذي : يضعف . وقال النسائي وعلي بن الجنيد الأزدي : متروك الحديث . وقال النسائي أيضا : ضعيف . وقال النسائي : ليس بثقة ، ومرة : ليس بشيء . وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث ليس بالقوي ، وكان جارا لأبي الوليد ، فلم يرو عنه ، وكان لا يرضاه . ويقال : إنه أخذ كتاب حفص المنقري ، عن الحسن فروى عن الحسن . وعنده عن الحسن أحاديث منكرة .

قلت : وقال ابن حبان : يروي الموضوعات عن الثقات : لا يجوز الاحتجاج به . وقال الدارقطني : ضعيف ، وترك ابن المبارك حديثه . وقال ابن سعد : كان ضعيفا في الحديث . وقال أبو بكر بن خزيمة : لا يحتج بحديثه . وقال العجلي : ضعيف . وقال يعقوب بن سفيان : ضعيف لا يفرح بحديثه . اهـ كلام ابن حجر . وبه تعلم أن الصلاة إلى النائم والمتحدث لم يثبت النهي عنها من طريق صحيح .

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن الصلاة إلى النائم ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعلها . قال البخاري في صحيحه ( باب الصلاة خلف النائم ) : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا هشام ، قال : حدثني أبي ، عن عائشة قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه ، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت .

وقال ابن حجر في الفتح : أورد فيه حديث عائشة أيضا من وجه آخر بلفظ آخر ; للإشارة إلى أنه قد يفرق مفرق بين كونها نائمة أو يقظى . وكأنه أشار أيضا إلى تضعيف الحديث الوارد في النهي عن الصلاة إلى النائم ، فقد أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس . اهـ . وقال أبو داود : طرقه كلها واهية - يعني حديث ابن عباس - اهـ .

وفي الباب عن ابن عمر أخرجه ابن عدي . وعن أبي هريرة أخرجه الطبراني في الأوسط ، وهما واهيان أيضا . وكره مجاهد وطاوس ومالك الصلاة إلى النائم ; خشية أن يبدو منه ما يلهي المصلي عن صلاته ، وظاهر تصرف المصنف : أن عدم الكراهة حيث يحصل الأمن من ذلك ، انتهى كلام ابن حجر في ( فتح الباري ) .

قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر - والله تعالى أعلم - أنه لم يثبت نص خاص في [ ص: 310 ] النهي عن الصلاة إلى النائم والمتحدث ، ولكن ذلك لا ينافي أخذ الكراهة من عموم نصوص أخر ، كتعليل كراهة الصلاة إلى النائم بما ذكر من خشية أن يبدو منه ما يلهي المصلي عن صلاته ; لأن النائم لا يدري عن نفسه .

وكتعليل كراهة الصلاة إلى المتحدث ; بأن الحديث يشوش على المصلي في صلاته ، - والله تعالى أعلم - .

وأما كراهة الصلاة في بطن الوادي ; فيستدل لها بما جاء في بعض روايات حديث زيد بن جبيرة المتقدم في المواضع التي نهي عن الصلاة فيها " وبطن الوادي " بدل " المقبرة " ، قال الشوكاني قال الحافظ : وهي زيادة باطلة لا تعرف .

وقال بعض العلماء : كراهة الصلاة في بطن الوادي مختصة بالوادي الذي حضر فيه الشيطان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فناموا عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس .

وأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يتأخروا عن ذلك الموضع الذي حضرهم فيه الشيطان .

ويجاب عن هذا : بأن الشيطان يمكن أن يكون ذهب عن الوادي . - والله تعالى أعلم - .

وأما النهي عن الصلاة في مسجد الضرار ; فدليله قوله تعالى : لا تقم فيه أبدا [ 9 \ 108 ] ، وقوله - جل وعلا - : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل الآية [ 9 \ 107 ] . وقوله : أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم الآية [ 9 \ 109 - 110 ] . فهذه الآيات تدل على التباعد عن موضع ذلك المسجد ، وعدم القيام فيه كما هو ظاهر .

وأما كراهة الصلاة إلى التنور ; فلما رواه ابن أبي شيبة في المصنف ، عن محمد بن سيرين : أنه كره الصلاة إلى التنور ، وقال : هو بيت نار .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #154  
قديم 14-12-2021, 01:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (152)

سُورَةُ الْحِجْرِ(13)
صـ 311 إلى صـ 315




وظاهر صنيع البخاري : أن الصلاة إلى التنور عنده غير مكروهة ، وأن عرض النار على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته يدل على عدم الكراهة . قال البخاري في صحيحه ( باب من صلى وقدامه تنور أو نار ، أو شيء مما يعبد فأراد به الله ) ، وقال الزهري : أخبرني أنس ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " عرضت علي النار وأنا أصلي " ، حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عباس ، قال : " انخسفت الشمس فصلى [ ص: 311 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : " رأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع " . اهـ .

وعرض النار عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو في صلاته ، دليل على عدم الكراهة ; لأنه لم يقطع .

وقد دل بعض الروايات الثابتة في الصحيح على أن النار عرضت عليه من جهة وجهه ، لا من جهة اليمين ولا الشمال ، ففي بعض الروايات الصحيحة : أنهم قالوا له بعد أن انصرف : يا رسول الله ، رأيناك تناولت شيئا في مقامك ، ثم رأيناك تكعكعت - أي : تأخرت - إلى خلف ؟ وفي جوابه : أن ذلك بسبب كونه " أري النار . . " إلخ .

فهذا هو حاصل كلام العلماء في الأماكن التي ورد نهي عن الصلاة فيها ، التي لها مناسبة بآية الحجر التي نحن بصددها . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين .

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه آتى أصحاب الحجر - وهم ثمود - آياته فكانوا عنها معرضين . والإعراض : الصدود عن الشيء وعدم الالتفات إليه . كأنه مشتق من العرض - بالضم - وهو الجانب ; لأن المعرض لا يولي وجهه ، بل يثني عطفه ملتفتا صادا .

ولم يبين - جل وعلا - هنا شيئا من تلك الآيات التي آتاهم ، ولا كيفية إعراضهم عنها ، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر . فبين أن من أعظم الآيات التي آتاهم : تلك الناقة التي أخرجها الله لهم . بل قال بعض العلماء : إن في الناقة المذكورة آيات جمة : كخروجها عشراء ، وبراء ، جوفاء من صخرة صماء ، وسرعة ولادتها عند خروجها ، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة ، وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعا ، وكثرة شربها ; كما قال تعالى : لها شرب ولكم شرب يوم معلوم [ 26 \ 155 ] ، وقال : ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر [ 54 \ 28 ] .

فإذا علمت ذلك ; فاعلم أن مما يبين قوله تعالى : وآتيناهم آياتنا [ 15 \ 81 ] ، قوله : فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم [ 26 \ 154 - 155 ] ، وقوله : قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء الآية [ 7 \ 73 ] . وقوله : وآتينا ثمود الناقة مبصرة [ 17 \ 59 ] . وقوله : إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر [ 54 \ 27 ] ، وقوله : ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب [ 11 \ 64 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 312 ] وبين إعراض قوم صالح عن تلك الآيات في مواضع كثيرة ; كقوله : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين [ 7 \ 77 ] ، وقوله : فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام . . . الآية [ 11 \ 65 ] . وقوله : كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها . . . . [ 91 \ 11 - 14 ] ، وقوله : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] . وقوله : وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها [ 17 \ 59 ] ، وقوله : قالوا إنما أنت من المسحرين ما أنت إلا بشر مثلنا الآية [ 26 \ 185 - 186 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن أصحاب الحجر - وهم ثمود قوم صالح - كانوا آمنين في أوطانهم ، وكانوا ينحتون الجبال بيوتا .

وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله تعالى : أتتركون في ما هاهنا آمنين في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين [ 26 \ 147 - 149 ] ، وقوله تعالى : واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله الآية [ 7 \ 74 ] ، وقوله : وثمود الذين جابوا الصخر بالواد [ 89 \ 9 ] ، أي : قطعوا الصخر بنحته بيوتا .
قوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق .

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ; أي : ليدل بذلك على أنه المستحق لأن يعبد وحده ، وأنه يكلف الخلق ويجازيهم على أعمالهم .

فدلت الآية على أنه لم يخلق عبثا ولا لعبا ولا باطلا . وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة ، كقوله : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] ، وقوله ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار [ 3 \ 191 ] ، وقوله : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق الآية [ 44 \ 38 - 39 ] ، وقوله : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ، [ ص: 313 ] [ 23 \ 115 - 116 ] ، وقوله : ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] ، وقوله : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى [ 75 \ 36 - 37 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإن الساعة لآتية .

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الساعة آتية ، وأكد ذلك بحرف التوكيد الذي هو " إن " ، وبلام الابتداء التي تزحلقها إن المكسورة عن المبتدأ إلى الخبر . وذلك يدل على أمرين :

أحدهما : إتيان الساعة لا محالة .

والثاني : أن إتيانها أنكره الكفار ; لأن تعدد التوكيد يدل على إنكار الخبر ، كما تقرر في فن المعاني .

وأوضح هذين الأمرين في آيات أخر . فبين أن الساعة آتية لا محالة في مواضع كثيرة ; كقوله : إن الساعة آتية أكاد أخفيها [ 20 \ 15 ] ، وقوله : وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 7 ] ، وقوله : إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها . . . . الآية [ 22 \ 1 - 2 ] ، وقوله : وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة الآية [ 45 \ 32 ] ، وقوله : ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون [ 30 \ 12 ] ، وقوله : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة [ 30 \ 55 ] ، وقوله : قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة [ 7 \ 178 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .

وبين - جل وعلا - إنكار الكفار لها في مواضع أخر ; كقوله : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم [ 34 \ 3 ] ، وقوله : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا [ 64 \ 7 ] ، وقوله : إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين [ 44 \ 34 - 35 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : فاصفح الصفح الجميل .

أمر الله - جل وعلا - نبيه - عليه الصلاة والسلام - في هذه الآية الكريمة أن يصفح عمن أساء الصفح الجميل ; أي : بالحلم والإغضاء . وقال علي وابن عباس : الصفح الجميل : الرضا بغير عتاب . وأمره صلى الله عليه وسلم يشمل حكمة الأمة ; لأنه قدوتهم والمشرع لهم .

وبين تعالى ذلك المعنى في مواضع أخر ; كقوله : فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون [ 43 \ 89 ] ، [ ص: 314 ] وقوله : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ 25 \ 63 ] ، وقوله : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 28 \ 55 ] ، وقوله : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره . . . . الآية [ 2 \ 109 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقال بعض العلماء : هذا الأمر بالصفح منسوخ بآيات السيف . وقيل : هو غير منسوخ . والمراد به حسن المخالفة ، وهي : المعاملة بحسن الخلق .

قال الجوهري في صحاحه : والخلق : السجية ، يقال : خالص المؤمن ، وخالق الفاجر .
قوله تعالى : فاصفح الصفح الجميل .

أمر الله - جل وعلا - نبيه - عليه الصلاة والسلام - في هذه الآية الكريمة أن يصفح عمن أساء الصفح الجميل ; أي : بالحلم والإغضاء . وقال علي وابن عباس : الصفح الجميل : الرضا بغير عتاب . وأمره صلى الله عليه وسلم يشمل حكمة الأمة ; لأنه قدوتهم والمشرع لهم .

وبين تعالى ذلك المعنى في مواضع أخر ; كقوله : فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون [ 43 \ 89 ] ، [ ص: 314 ] وقوله : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ 25 \ 63 ] ، وقوله : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 28 \ 55 ] ، وقوله : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره . . . . الآية [ 2 \ 109 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقال بعض العلماء : هذا الأمر بالصفح منسوخ بآيات السيف . وقيل : هو غير منسوخ . والمراد به حسن المخالفة ، وهي : المعاملة بحسن الخلق .

قال الجوهري في صحاحه : والخلق : السجية ، يقال : خالص المؤمن ، وخالق الفاجر .
قوله تعالى : إن ربك هو الخلاق العليم .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه الخلاق العليم . والخلاق والعليم : كلاهما صيغة مبالغة .

والآية تشير إلى أنه لا يمكن أن يتصف الخلاق بكونه خلاقا إلا وهو عليم بكل شيء ، لا يخفى عليه شيء ، إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه أن يخلقه .

وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 79 ] ، وقوله : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [ 67 \ 14 ] ، وقوله : ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم [ 2 \ 29 ] ، وقوله : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [ 65 \ 12 ] ، وقوله تعالى مجيبا للكفار لما أنكروا البعث وقالوا : أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد [ 50 \ 3 ] ، مبينا أن العالم بما تمزق في الأرض من أجسادهم قادر على إحيائهم : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ [ 50 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه أتى نبيه - صلى الله عليه وسلم - سبعا من المثاني والقرآن العظيم ، ولم يبين هنا المراد بذلك .

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن الآية الكريمة إن كان لها بيان في كتاب الله غير واف بالمقصود ، أننا نتمم ذلك البيان من السنة ، فنبين الكتاب بالسنة من حيث إنها بيان للقرآن المبين باسم الفاعل . فإذا علمت ذلك ; فاعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين في الحديث الصحيح : أن المراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم في هذه الآية الكريمة : هو فاتحة الكتاب . ففاتحة الكتاب مبينة للمراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم ، وإنما بينت ذلك [ ص: 315 ] بإيضاح النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك في الحديث الصحيح .

قال البخاري في صحيحه في تفسير هذه الآية الكريمة : حدثني محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي سعيد بن المعلى ، قال : مر بي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أصلي ، فدعاني فلم آته حتى صليت ، ثم أتيت فقال : " ما منعك أن تأتيني ؟ " فقلت : كنت أصلي . فقال : " ألم يقل الله : ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول [ 8 \ 24 ] ، ثم قال : ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد ، فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخرج ، فذكرته ، فقال : الحمد لله رب العالمين [ 1 \ 2 ] ، هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيته " . حدثنا آدم ، حدثنا ابن أبي ذئب ، حدثنا سعيد المقبري ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أم القرآن هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم " .

فهذا نص صحيح من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم : فاتحة الكتاب ، وبه تعلم أن قول من قال : إنها السبع الطوال ، غير صحيح ، إذ لا كلام لأحد معه - صلى الله عليه وسلم - ومما يدل على عدم صحة ذلك القول : أن آية الحجر هذه مكية ، وأن السبع الطوال ما أنزلت إلا بالمدينة . والعلم عند الله تعالى .

وقيل لها : " مثاني " ; لأنها تثنى قراءتها في الصلاة .

وقيل لها : " سبع " ; لأنها سبع آيات .

وقيل لها : " القرآن العظيم " ; لأنها هي أعظم سورة ; كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المذكور آنفا .

وإنما عطف القرآن العظيم على السبع المثاني ، مع أن المراد بهما واحد وهو الفاتحة ; لما علم في اللغة العربية : من أن الشيء الواحد إذا ذكر بصفتين مختلفتين جاز عطف إحداهما على الأخرى ، تنزيلا لتغاير الصفات منزلة تغاير الذوات . ومنه قوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى [ 87 \ 4 ] ، وقول الشاعر :


إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #155  
قديم 14-12-2021, 01:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (153)

سُورَةُ الْحِجْرِ(14)
صـ 316 إلى صـ 320




قوله تعالى : لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم .

لما بين تعالى أنه آتى النبي - صلى الله عليه وسلم - السبع المثاني والقرآن العظيم ، وذلك أكبر نصيب ، وأعظم حظ عند الله تعالى ، [ ص: 316 ] نهاه أن يمد عينيه إلى متاع الحياة الدنيا الذي متع به الكفار ; لأن من أعطاه ربه - جل وعلا - النصيب الأكبر والحظ الأوفر ، لا ينبغي له أن ينظر إلى النصيب الأحقر الأخس ، ولا سيما إذا كان صاحبه إنما أعطيه لأجل الفتنة والاختبار . وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله في ( طه ) : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقىوأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [ 20 \ 130 - 132 ] ، والمراد بالأزواج هنا : الأصناف من الذين متعهم الله بالدنيا .
قوله تعالى : ولا تحزن عليهم .

الصحيح في معنى هذه الآية الكريمة : أن الله نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الحزن على الكفار إذا امتنعوا من قبول الإسلام . ويدل لذلك كثرة ورود هذا المعنى في القرآن العظيم . كقوله : ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون [ 16 \ 127 ] ، وقوله : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات [ 35 \ 8 ] ، وقوله : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ، وقوله : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 18 \ 6 ] ، وقوله : وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

والمعنى : قد بلغت ولست مسئولا عن شقاوتهم إذا امتنعوا من الإيمان ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ، فلا تحزن عليهم إذا كانوا أشقياء .
قوله تعالى : واخفض جناحك للمؤمنين .

أمر الله - جل وعلا - نبيه في هذه الآية الكريمة بخفض جناحه للمؤمنين . وخفض الجناح كناية عن لين الجانب والتواضع ، ومنه قول الشاعر :


وأنت الشهير بخفض الجناح فلا تك في رفعه أجدلا


وبين هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله في " الشعراء " : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين [ 26 \ 215 ] ، وكقوله : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر [ 3 \ 159 ] إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 317 ] ويفهم من دليل خطاب الآية الكريمة - أعني مفهوم مخالفتها - أن غير المؤمنين لا يخفض لهم الجناح ، بل يعاملون بالشدة والغلظة .

وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر . كقوله تعالى : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم [ 9 \ 73 و 66 \ 9 ] ، وقوله : أشداء على الكفار رحماء بينهم [ 48 \ 29 ] ، وقوله : أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [ 5 \ 54 ] ، كما قدمناه في " المائدة " .
قوله تعالى : كما أنزلنا على المقتسمين .

في المراد بالمقتسمين أقوال للعلماء معروفة ، وكل واحد منها يشهد له قرآن ، إلا أن في الآية الكريمة قرينة تضعف بعض تلك الأقوال :

الأول : أن المراد بالمقتسمين : الذين يحلفون على تكذيب الرسل ومخالفتهم ، وعلى هذا القول ; فالاقتسام افتعال من القسم بمعنى اليمين ، وهو بمعنى التقاسم .

ومن الآيات التي ترشد لهذا الوجه قوله تعالى عن قوم صالح : قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله الآية [ 27 \ 49 ] ، أي : نقتلهم ليلا ، وقوله : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت [ 16 \ 38 ] ، وقوله : أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال [ 14 \ 44 ] ، وقوله : أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة [ 7 \ 49 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه ; فسموا مقتسمين .

القول الثاني : أن المراد بالمقتسمين : اليهود والنصارى . وإنما وصفوا بأنهم مقتسمون ; لأنهم اقتسموا كتبهم فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها .

ويدل لهذا القول قوله تعالى : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض الآية [ 2 \ 85 ] ، وقوله : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض الآية [ 4 \ 150 ] .

القول الثالث : أن المراد بالمقتسمين : جماعة من كفار مكة اقتسموا القرآن بأقوالهم الكاذبة ; فقال بعضهم : هو شعر . وقال بعضهم : هو سحر . وقال بعضهم : كهانة . وقال بعضهم : أساطير الأولين ، وقال بعضهم : اختلقه محمد ، - صلى الله عليه وسلم - .

وهذا القول تدل له الآيات الدالة على أنهم قالوا في القرآن تلك الأقوال المفتراة [ ص: 318 ] الكاذبة ، كقوله تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون [ 69 \ 41 - 42 ] ، وقوله : فقال إن هذا إلا سحر يؤثر [ 74 \ 24 ] ، وقوله : إن هذا إلا اختلاق [ 38 \ 7 ] ، وقوله : وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين [ 16 \ 24 ] ، وقوله : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا [ 25 \ 5 ] إلى غير ذلك من الآيات . والقرينة في الآية الكريمة تؤيد هذا القول الثالث ، ولا تنافي الثاني بخلاف الأول ; لأن قوله : الذين جعلوا القرآن عضين [ 15 \ 91 ] أظهر في القول الثالث ; لجعلهم له أعضاء متفرقة بحسب اختلاف أقوالهم الكاذبة ، كقولهم : شعر ، سحر ، كهانة ، إلخ .

وعلى أنهم أهل الكتاب : فالمراد بالقرآن كتبهم التي جزؤوها ، فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها ، أو القرآن ; لأنهم آمنوا بما وافق هواههم منه وكفروا بغيره .

وقوله عضين [ 15 \ 91 ] جمع عضة ، وهي العضو من الشيء ، أي : جعلوه أعضاء متفرقة . واللام المحذوفة أصلها واو . قال بعض العلماء : اللام المحذوفة أصلها هاء ، وعليه فأصل العضة عضهة . والعضه : السحر ; فعلى هذا القول فالمعنى : جعلوا القرآن سحرا ; كقوله : إن هذا إلا سحر يؤثر [ 74 \ 24 ] ، وقوله : قالوا سحران تظاهرا [ 28 \ 48 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

والعرب تسمي الساحر عاضها ، والساحرة عاضهة . والسحر عضها . ويقال : إن ذلك لغة قريش . ومنه قول الشاعر :


أعوذ بربي من النافثا ت في عقد العاضه المعضه .


تنبيه .

فإن قيل : بم تتعلق الكاف في قوله : كما أنزلنا على المقتسمين ؟ [ 15 \ 90 ] .

فالجواب : ما ذكره الزمخشري في كشافه ، قال : فإن قلت بم تعلق قوله : كما أنزلنا ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يتعلق بقوله : ولقد آتيناك [ 15 \ 87 ] ، أي : أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب ، وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين ، حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم : بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما ، فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه . وقيل : كانوا يستهزئون به فيقول [ ص: 319 ] بعضهم : " سورة البقرة " لي ، ويقول الآخر : " سورة آل عمران " لي ، إلى أن قال : الوجه الثاني : أن يتعلق بقوله : وقل إني أنا النذير المبين [ 15 \ 89 ] ، أي : وأنذر قريشا مثل ما أنزلناه من العذاب على المقتسمين ( يعني اليهود ) ، وهو ما جرى على قريظة والنضير . جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإعجاز ; لأنه إخبار بما سيكون وقد كان ، انتهى محل الغرض من كلام صاحب الكشاف .

ونقل كلامه بتمامه أبو حيان في " البحر المحيط " ثم قال أبو حيان :

أما الوجه الأول وهو تعلق : كما [ 15 \ 90 ] ب : أتيناك [ 15 \ 87 ] ، فذكره أبو البقاء على تقدير ، وهو أن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف تقديره : آتيناك سبعا من المثاني إيتاء كما أنزلنا ، أو إنزالا كما أنزلنا ; لأن " آتيناك " بمعنى : أنزلنا عليك .
قوله تعالى : فاصدع بما تؤمر .

أي : فاجهر به وأظهره من قولهم : صدع بالحجة ; إذا تكلم بها جهارا ، كقولك : صرح بها .

وهذه الآية الكريمة أمر الله فيها نبيه - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ ما أمر به علنا في غير خفاء ولا مواربة . وأوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة ، كقوله : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك [ 5 \ 67 ] .

وقد شهد له تعالى بأنه امتثل ذلك الأمر فبلغ على أكمل وجه في مواضع أخر ; كقوله : اليوم أكملت لكم دينكم [ 5 \ 3 ] ، وقوله : فتول عنهم فما أنت بملوم [ 51 \ 54 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

تنبيه .

قوله : فاصدع [ 15 \ 94 ] ، قال بعض العلماء : أصله من الصدع بمعنى الإظهار ، ومنه قولهم : انصدع الصبح : انشق عنه الليل . والصديع : الفجر لانصداعه ، ومنه قول عمرو بن معديكرب :


ترى السرحان مفترشا يديه كأن بياض لبته صديع


أي : فجر ، والمعنى على هذا القول : أظهر ما تؤمر به ، وبلغه علنا على رءوس الأشهاد ، وتقول العرب : صدعت الشيء : أظهرته . ومنه قول أبي ذؤيب :

[ ص: 320 ]
وكأنهن ربابة وكأنه يسر يفيض على القداح ويصدع


قاله صاحب اللسان .

وقال بعض العلماء : أصله من الصدع بمعنى التفريق والشق في الشيء الصلب : كالزجاج والحائط . ومنه بمعنى التفريق : قوله تعالى : من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون [ 30 \ 43 ] ، أي : يتفرقون ، فريق في الجنة وفريق في السعير ; بدليل قوله تعالى : ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون [ 30 \ 14 ] ومنه قول غيلان ذي الرمة : عشية قلبي في المقيم صديعه وراح جناب الظاعنين صديع

يعني : أن قلبه افترق إلى جزءين : جزء في المقيم ، وجزء في الظاعنين .

وعلى هذا القول : فاصدع بما تؤمر [ 15 \ 94 ] ، أي : فرق بين الحق والباطل بما أمرك الله بتبليغه . وقوله : بما تؤمر يحتمل أن تكون ( ما ) موصولة . ويحتمل أن تكون مصدرية ، بناء على جواز سبك المصدر من أن والفعل المبني للمفعول ، ومنع ذلك جماعة من علماء العربية . قال أبو حيان في ( البحر ) : والصحيح أن ذلك لا يجوز .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #156  
قديم 14-12-2021, 01:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (154)

سُورَةُ الْحِجْرِ(15)
صـ 321 إلى صـ 325




قوله تعالى : وأعرض عن المشركين .

في هذه الآية الكريمة قولان معروفان للعلماء :

أحدهما : أن معنى : وأعرض عن المشركين ، أي : لا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ، ولا يصعب عليك ذلك . فالله حافظك منهم .

والآية على هذا التأويل معناها : ( فاصدع بما تؤمر ) أي : بلغ رسالة ربك ، ( وأعرض عن المشركين ) ، أي : لا تبال بهم ولا تخشهم . وهذا المعنى كقوله تعالى : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس [ 5 \ 67 ] .

الوجه الثاني وهو الظاهر في معنى الآية : أنه كان في أول الأمر مأمورا بالإعراض عن المشركين ، ثم نسخ ذلك بآيات السيف . ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين [ 6 \ 106 ] ، وقوله : فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون [ 32 \ 30 ] ، وقوله : فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا [ 53 \ 29 ] ، وقوله : ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم [ 33 \ 48 ] [ ص: 321 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إنا كفيناك المستهزئين .

بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه كفى نبيه - صلى الله عليه وسلم - المستهزئين الذين كانوا يستهزئون به وهم قوم من قريش . وذكر في مواضع أخر أنه كفاه غيرهم . كقوله في أهل الكتاب : فسيكفيكهم الله الآية [ 2 \ 137 ] ، وقوله : أليس الله بكاف عبده . . . . الآية [ 39 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

والمستهزئون المذكورون هم : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والحارث بن قيس السهمي ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب .

والآفات التي كانت سبب هلاكهم مشهورة في التاريخ .
قوله تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يعلم أن نبيه - صلى الله عليه وسلم - يضيق صدره بما يقول الكفار فيه من : الطعن ، والتكذيب ، والطعن في القرآن . وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون [ 6 \ 33 ] ، وقوله : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك [ 11 \ 12 ] ، وقوله : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 18 \ 6 ] ، وقوله : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد قدمنا شيئا من ذلك من " الأنعام " .
قوله تعالى : فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين .

أمر - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية بأمرين : أحدهما قوله : فسبح بحمد ربك [ 15 \ 98 ] ، والثاني قوله : وكن من الساجدين [ 15 \ 98 ] .

وقد كرر تعالى في كتابه الأمر بالشيئين المذكورين في هذه الآية الكريمة ، كقوله في الأول : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [ 110 \ 3 ] ، وقوله : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها [ 20 \ 130 ] ، وقوله : فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار [ 40 \ 55 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وأصل التسبيح في اللغة : الإبعاد عن السوء . ومعناه في عرف الشرع : تنزيه الله [ ص: 322 ] - جل وعلا - عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله . ومعنى : " سبح " : نزه ربك - جل وعلا - عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله . وقوله بحمد ربك ، أي في حال كونك متلبسا بحمد ربك ، أي : بالثناء عليه بجميع ما هو أهله من صفات الكمال والجلال ; لأن لفظة : بحمد ربك أضيفت إلى معرفة فتعم جميع المحامد من كل وصف كمال وجلال ثابت لله - جل وعلا - . فتستغرق الآية الكريمة الثناء بكل كمال ; لأن الكمال يكون بأمرين :

أحدهما : التخلي عن الرذائل ، والتنزه عما لا يليق ، وهذا معنى التسبيح .

والثاني التحلي بالفضائل والاتصاف بصفات الكمال ، وهذا معنى الحمد ، فتم الثناء بكل كمال .

ولأجل هذا المعنى ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( ( كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم ) ) ، وكقوله في الثاني وهو السجود : كلا لا تطعه واسجد واقترب [ 96 \ 19 ] ، وقوله : ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا [ 76 \ 26 ] ، وقوله : واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون [ 41 \ 37 ] ، ويكثر في القرآن العظيم إطلاق التسبيح على الصلاة .

وقالت جماعة من العلماء : المراد بقوله : فسبح بحمد ربك [ 15 \ 98 ] ، أي : صل له ، وعليه فقوله : وكن من الساجدين ، من عطف الخاص على العام ، والصلاة تتضمن غاية التنزيه ومنتهى التقديس . وعلى كل حال فالمراد بقوله : وكن من الساجدين ، أي : من المصلين ، سواء قلنا إن المراد بالتسبيح الصلاة ، أو أعم منها من تنزيه الله عما لا يليق به ; ولأجل كون المراد بالسجود الصلاة لم يكن هذا الموضع محل سجدة عند جمهور العلماء ، خلافا لمن زعم أنه موضع سجود .

قال القرطبي في تفسيره : قال ابن العربي : ظن بعض الناس أن المراد بالأمر هنا السجود نفسه ، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن ، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس - طهره الله - يسجد في هذا الموضع ، وسجدت معه فيه ، ولم يره جماهير العلماء .

قلت : قد ذكر أبو بكر النقاش : أن هاهنا سجدة عند أبي حذيفة ويمان بن رئاب ، ورأى أنها واجبة . انتهى كلام القرطبي .

وقد تقدم معنى السجود في سورة ( ( الرعد ) ) ، وعلى أن المراد بالتسبيح الصلاة ; فالمسوغ لهذا الإطناب الذي هو عطف الخاص على العام هو أهمية السجود ; لأن أقرب [ ص: 323 ] ما يكون العبد من ربه في حال كونه في السجود .

قال مسلم في صحيحه : وحدثنا هارون بن معروف ، وعمرو بن سواد ، قالا : حدثنا عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن عمارة بن غزية ، عن سمي مولى أبي بكر ، أنه سمع أبا صالح ذكوان يحدث عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ; فأكثروا الدعاء " .

تنبيه

اعلم أن ترتيبه - جل وعلا - الأمر بالتسبيح والسجود على ضيق صدره - صلى الله عليه وسلم - بسبب ما يقولون له من السوء ، دليل على أن الصلاة والتسبيح سبب لزوال ذلك المكروه ; ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة . وقال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة الآية [ 2 \ 45 ] .

ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، من حديث نعيم بن همار - رضي الله عنه - : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " قال الله تعالى : يا ابن آدم ، لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره " ، فينبغي للمسلم إذا أصابه مكروه ; أن يفزع إلى الله تعالى بأنواع الطاعات من صلاة وغيرها .
قوله تعالى : واعبد ربك

. أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يعبد ربه ، أي : يتقرب له على وجه الذل والخضوع والمحبة ، بما أمر أن يتقرب له به من جميع الطاعات على الوجه المشروع . وجل القرآن في تحقيق هذا الأمر الذي هو حظ الإثبات من لا إله إلا الله ، مع حظ النفي منها . وقد بين القرآن أن هذا لا ينفع إلا مع تحقيق الجزء الثاني من كلمة التوحيد ، الذي هو حظ النفي منها ، وهو خلع جميع المعبودات سوى الله تعالى في جميع أنواع العبادات ; قال تعالى : فاعبده وتوكل عليه [ 11 \ 123 ] ، وقال فاعبده واصطبر لعبادته [ 19 \ 65 ] ، وقال : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا [ 4 \ 36 ] ، وقال فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 2 \ 256 ] ، وقال : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ 12 \ 106 ] ، والآيات في مثل ذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : حتى يأتيك اليقين .

قالت جماعة من أهل العلم ، منهم سالم بن عبد الله بن عمر ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم : [ ص: 324 ] اليقين : الموت ، ويدل لذلك قوله تعالى : قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين [ 74 \ 43 - 47 ] ، وهو : الموت .

ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث الزهري ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أم العلاء ( امرأة من الأنصار ) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات ، قالت أم العلاء : رحمة الله عليك أبا السائب ! فشهادتي عليك لقد أكرمك الله . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وما يدريك أن الله قد أكرمه " ؟ فقالت : بأبي وأمي يا رسول الله ، فمن يكرمه الله ؟ فقال : " أما هو فقد جاءه اليقين ، وإني لأرجو له الخير . . " الحديث . وهذا الحديث الصحيح يدل على أن اليقين الموت . وقول من قال : إن المراد باليقين انكشاف الحقيقة ، وتيقن الواقع لا ينافي ما ذكرنا ; لأن الإنسان إذا جاءه الموت ظهرت له الحقيقة يقينا . ولقد أجاد التهامي في قوله :



والعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال ساري


وقال صاحب الدر المنثور : أخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، والحاكم في التاريخ ، وابن مردويه ، والديلمي ، عن أبي مسلم الخولاني ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين ، ولكن أوحي إلي أن : ( فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [ 15 \ 98 - 99 ] .

وأخرج ابن مردويه ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين ، ولكن أوحي إلي أن : " فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " .

وأخرج ابن مردويه والديلمي ، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما أوحي إلي أن أكون تاجرا ولا أجمع المال متكاثرا ، ولكن أوحي إلي أن : " فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " .

تنبيهان

الأول : هذه الآية الكريمة تدل على أن الإنسان ما دام حيا وله عقل ثابت يميز به ، فالعبادة واجبة عليه بحسب طاقته . فإن لم يستطع الصلاة قائما فليصل قاعدا ، فإن لم [ ص: 325 ] يستطع فعلى جنب ، وهكذا قال تعالى عن نبيه عيسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - : ‎وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا [ 19 \ 31 ] ، وقال البخاري في صحيحه " باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب " ، وقال عطاء : إن لم يقدر أن يتحول إلى القبلة ، صلى حيث كان وجهه ، حدثنا عبدان عن عبد الله ، عن إبراهيم بن طهمان ، قال : حدثني الحسين المكتب ، عن بريدة ، عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - ، قال : كانت بي بواسير ، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة ، فقال : " صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب " . اه .

ونحو هذا معلوم ; قال تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، وقال تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم . . . " الحديث .

التنبيه الثاني : اعلم أن ما يفسر به هذه الآية الكريمة بعض الزنادقة الكفرة المدعين للتصوف ، من أن معنى اليقين المعرفة بالله - جل وعلا - ، وأن الآية تدل على أن العبد إذا وصل من المعرفة بالله إلى تلك الدرجة المعبر عنها باليقين ، أنه تسقط عنه العبادات والتكاليف ; لأن ذلك اليقين هو غاية الأمر بالعبادة .

إن تفسير الآية بهذا كفر بالله وزندقة ، وخروج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين . وهذا النوع لا يسمى في الاصطلاح تأويلا ، بل يسمى لعبا كما قدمنا في " آل عمران " . ومعلوم أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم هم وأصحابه - هم أعلم الناس بالله ، وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم ، وكانوا مع ذلك أكثر الناس عبادة لله - جل وعلا - ، وأشدهم خوفا منه وطمعا في رحمته . وقد قال - جل وعلا - : إنما يخشى الله من عباده العلماء [ 35 \ 28 ] . والعلم عند الله تعالى .







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #157  
قديم 14-12-2021, 01:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (155)

سُورَةُ النَّحْلِ(1)
صـ 326 إلى صـ 330




بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ النَّحْلِ


قوله تعالى : أتى أمر الله .

أي : قرب وقت إتيان القيامة .

وعبر بصيغة الماضي ; تنزيلا لتحقق الوقوع منزلة الوقوع . واقتراب القيامة المشار إليه هنا بينه - جل وعلا - في مواضع أخر ، كقوله : اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون [ 21 \ 1 ] ، وقوله - جل وعلا - : اقتربت الساعة وانشق القمر [ 54 \ 1 ] ، وقوله : وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا [ 33 \ 63 ] ، وقوله : وما يدريك لعل الساعة قريب [ 42 \ 17 ] ، وقوله - جل وعلا - : أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة [ 53 \ 75 - 58 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

والتعبير عن المستقبل بصيغة الماضي ; لتحقق وقوعه كثير في القرآن ، كقوله : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات الآية [ 39 \ 68 ] ، وقوله : ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار . . . الآية [ 7 \ 44 ] ، وقوله : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون وسيق الذين كفروا . . الآية [ 39 \ 69 - 71 ] .

فكل هذه الأفعال الماضية بمعنى الاستقبال ، نزل تحقق وقوعها منزلة الوقوع .
قوله تعالى : فلا تستعجلوه ، نهى الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة عن استعجال ما وعد به من الهول والعذاب يوم القيامة ، والاستعجال هو طلبهم أن يعجل لهم ما يوعدون به من العذاب يوم القيامة .

والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة ، كقوله - جل وعلا - : ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون " [ 29 \ 53 ] ، وقوله : يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين [ 29 \ 54 ] ، وقوله : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها [ 42 \ 18 ] ، وقوله : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه الآية [ 11 \ 8 ] ، وقوله : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب [ 38 \ 16 ] ، [ ص: 327 ] وقوله : قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون [ 10 \ 50 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

والضمير في قوله : فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] في تفسيره وجهان :

أحدهما : أنه العذاب الموعد به يوم القيامة ، المفهوم من قوله : أتى أمر الله [ 16 \ 1 ] .

والثاني : أنه يعود إلى الله ; أي : لا تطلبوا من الله أن يعجل لكم العذاب . قال : معناه ابن كثير .

وقال القرطبي في تفسيره : قال ابن عباس : لما نزلت : اقتربت الساعة وانشق القمر [ 54 \ 1 ] ، قال الكفار : إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت ! فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون ، فأمسكوا فانتظروا فلم يروا شيئا ، فقالوا : ما نرى شيئا ! فنزلت : اقترب للناس حسابهم الآية [ 21 \ 1 ] ، فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة ; فامتدت الأيام ، فقالوا : ما نرى شيئا ، فنزلت : أتى أمر الله [ 16 \ 1 ] ، فوثب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون وخافوا ، فنزلت : فلا تستعجلوه فاطمأنوا . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " بعثت أنا والساعة كهاتين " ، وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها " . اه محل الغرض من كلام القرطبي ، وهو يدل على أن المراد بقوله : فلا تستعجلوه ، أي : لا تظنوه واقعا الآن عن عجل ، بل هو متأخر إلى وقته المحدد له عند الله تعالى .

وقول الضحاك ومن وافقه : إن معنى : أتى أمر الله ، أي : فرائضه وحدوده ، قول مردود ولا وجه له ، وقد رده الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره قائلا : إنه لم يبلغنا أن أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعجل فرائض قبل أن تفرض عليهم ، فيقال لهم من أجل ذلك : قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها . أما مستعجلو العذاب من المشركين فقد كانوا كثيرا . اه .

والظاهر المتبادر من الآية الكريمة : أنها تهديد للكفار باقتراب العذاب يوم القيامة مع نهيهم عن استعجاله .

قال ابن جرير في تفسيره : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : هو تهديد من الله لأهل الكفر به وبرسوله ، وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك ، وذلك [ ص: 328 ] أنه عقب ذلك بقوله : سبحانه وتعالى عما يشركون [ 16 \ 1 ] ، فدل بذلك على تقريعه المشركين به ووعيده لهم . اه .
قوله تعالى : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده .

أظهر الأقوال في معنى الروح في هذه الآية الكريمة : أن المراد بها الوحي ; لأن الوحي به حياة الأرواح ، كما أن الغذاء به حياة الأجسام . ويدل لهذا قوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان [ 42 \ 52 ] ، وقوله : رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 15 ، 16 ] .

ومما يدل على أن المراد بالروح الوحي ; إتيانه بعد قوله : ينزل الملائكة بالروح [ 16 \ 2 ] بقوله : أن أنذروا [ 16 \ 2 ] ; لأن الإنذار إنما يكون بالوحي ، بدليل قوله : قل إنما أنذركم بالوحي الآية [ 21 \ 45 ] ، وكذلك إتيانه بعد قوله : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده [ 40 \ 15 ] ، بقوله : لينذر يوم التلاق الآية [ 40 \ 15 ] ; لأن الإنذار إنما يكون بالوحي أيضا . وقرأ هذا الحرف ابن كثير وأبو عمرو : " ينزل " - بضم الياء وإسكان النون وتخفيف الزاي - . والباقون بالضم والتشديد . ولفظة : " من " [ 16 \ 2 ] في الآية تبعيضية ، أو لبيان الجنس .

وقوله : على من يشاء من عباده [ 26 \ 2 ] ، أي : ينزل الوحي على من اختاره وعلمه أهلا لذلك .

كما بينه تعالى بقوله : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس [ 22 \ 75 ] ، وقوله : الله أعلم حيث يجعل رسالته [ 6 \ 124 ] ، وقوله : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده [ 40 \ 15 ] ، وقوله : بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده [ 2 \ 90 ] .

وهذه الآيات وأمثالها رد على الكفار في قولهم : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [ 43 \ 31 ] .
قوله تعالى : أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون .

الأظهر في " أن " من قوله : أن أنذروا أنها هي المفسرة ; لأن إنزال الملائكة بالروح ، أي : بالوحي فيه معنى القول دون حروفه . فيكون المعنى : أن الوحي الذي أنزلت به الملائكة مفسر بإنذار الناس " [ ص: 329 ] بلا إله إلا الله " وأمرهم بتقواه .

وقد أوضح - جل وعلا - هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] ، وقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 26 \ 36 ] ، وقوله : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [ 43 \ 45 ] ، وقوله : قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون [ 21 \ 108 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد قدمنا معنى الإنذار ، ومعنى التقوى .
قوله تعالى : خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون .

بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه هو خالق السماوات والأرض ، وأن من يخلق هذه المخلوقات العظيمة يتنزه ويتعاظم أن يعبد معه ما لا يخلق شيئا ، ولا يملك لنفسه شيئا .

فالآية تدل على أن من يبرز الخلائق من العدم إلى الوجود ، لا يصح أن يعبد معه من لا يقدر على شيء ; ولهذا أتبع قوله : خلق السماوات والأرض بالحق [ 16 \ 3 ] بقوله : تعالى عما يشركون [ 16 \ 3 ] .

وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم الآية [ 2 \ 21 ] ; فدل على أن المعبود هو الخالق دون غيره ، وقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] ، وقوله : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] ، وقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا [ 25 \ 1 - 3 ] ، وقوله - جل وعلا - : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين [ 31 \ 11 ] ، وقوله : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات الآية [ 35 \ 40 ] ، وقوله : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين [ 46 \ 4 ] ، وقوله - جل وعلا - : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ، [ ص: 330 ] [ 7 \ 191 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له [ 22 \ 73 ] ، وقوله : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض . . . الآية [ 52 \ 35 - 36 ] ، وقوله : والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء الآية [ 16 \ 20 - 21 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

فهذه الآيات تبين أن الذي يستحق أن يعبد هو من يخلق الخلق ، ويبرزهم من العدم إلى الوجود . أما غيره فهو مخلوق مربوب ، محتاج إلى من يخلقه ، ويدبر شئونه .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #158  
قديم 14-12-2021, 01:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (156)

سُورَةُ النَّحْلِ(2)
صـ 331 إلى صـ 335




قوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه خلق الإنسان من نطفة ، وهي مني الرجل ومني المرأة ; بدليل قوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج [ 76 \ 2 ] ، أي : أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة .

وقال صاحب الدر المنثور بعد ذكر بعض الروايات في تفسير الأمشاج بالأخلاط : من ماء الرجل وماء المرأة . وأخرج الطستي عن ابن عباس : أن نافع بن الأزرق ، قال : أخبرني عن قوله : من نطفة أمشاج ، قال : اختلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم . قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم . أما سمعت أبا ذؤيب وهو يقول :


كأن الريش والفوقين منه خلال النصل خالطه مشيج


ونسب في اللسان هذا البيت لزهير بن حرام الهذلي ، وأنشده هكذا :


كأن النصل والفوقين منها خلال الريش سيط به مشيج


قال : ورواه المبرد :


كأن المتن والشرجين منه خلاف النصل سيط به مشيج


قال : ورواه أبو عبيدة :


كأن الريش والفوقين منها خلال النصل سيط به المشيج


ومعنى " سيط به المشيج " : خلط به الخلط .

إذا عرفت معنى ذلك ، فاعلم أنه تعالى بين أن ذلك الماء الذي هو النطفة ، منه ما هو خارج من الصلب ، أي : وهو ماء الرجل ، ومنه ما هو خارج من الترائب وهو : ماء المرأة ، وذلك في قوله - جل وعلا - : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب [ 86 \ 5 - 7 ] [ ص: 331 ] لأن المراد بالصلب صلب الرجل وهو ظهره ، والمراد بالترائب : ترائب المرأة وهي موضع القلادة منها ، ومنه قول امرئ القيس :
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل


واستشهد ابن عباس لنافع بن الأزرق : على أن الترائب موضع القلادة بقول المخبل ، أو ابن أبي ربيعة :
والزعفران على ترائبها شرقا به اللبات والنحر


فقوله هنا : " من بين الصلب والترائب " [ 86 \ 7 ] ، يدل على أن الأمشاج هي الأخلاط المذكورة ، وأمر الإنسان بأن ينظر مم خلق في قوله : فلينظر الإنسان مم خلق [ 86 \ 5 ] تنبيه له على حقارة ما خلق منه ; ليعرف قدره ، ويترك التكبر والعتو ، ويدل لذلك قوله : ألم نخلقكم من ماء مهين الآية [ 77 \ 20 ] .

وبين - جل وعلا - حقارته بقوله : أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون [ 70 \ 38 ] ، والتعبير عن النطفة بما الموصولة في قوله : مما يعلمون [ 70 \ 39 ] ، فيه غاية تحقير ذلك الأصل الذي خلق منه الإنسان . وفي ذلك أعظم ردع ، وأبلغ زجر عن التكبر والتعاظم .
وقوله - جل وعلا - : فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] ، أظهر القولين فيه : أنه ذم للإنسان المذكور . والمعنى : خلقناه ليعبدنا ويخضع لنا ويطيع ، ففاجأ بالخصومة والتكذيب ، كما تدل عليه : " إذا " الفجائية . ويوضح هذا المعنى قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] ، مع قوله - جل وعلا - : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 77 - 79 ] ، وقوله : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا [ 25 \ 54 ] ، وقوله : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 66 - 67 ] إلى غير ذلك من الآيات . وسيأتي - إن شاء الله تعالى - زيادة إيضاح لهذا المبحث في " سورة الطارق " .

[ ص: 332 ] تنبيه .

اختلف علماء العربية في : " إذا " الفجائية ; فقال بعضهم : هي حرف . وممن قال به الأخفش . قال ابن هشام في " المغني " : ويرجح هذا القول قولهم : خرجت فإذا إن زيدا بالباب ( بكسر إن ) ; لأن " إن " - المكسورة - لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . وقال بعضهم : هي ظرف مكان . وممن قال به المبرد . وقال بعضهم : هي ظرف زمان . وممن قال به الزجاج . والخصيم : صيغة مبالغة ، أي : شديد الخصومة . وقيل : الخصيم المخاصم . وإتيان الفعيل بمعنى المفاعل كثير في كلام العرب ، كالقعيد بمعنى المقاعد ، والجليس بمعنى المجالس ، والأكيل بمعنى المؤاكل ، ونحو ذلك .

وقوله : " مبين " [ 16 \ 4 ] الظاهر أنه اسم فاعل أبان اللازمة ، بمعنى بان وظهر ; أي بين الخصومة . ومن إطلاق أبان بمعنى بان قول جرير :


إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب


أي : ظهر . وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :


لو دب ذر فوق ضاحي جلدها لأبان من آثارهن حدور


يعني : لظهر من آثارهن ورم في الجلد . وقيل : من أبان المتعدية والمفعول محذوف ; أي : مبين خصومته ومظهر لها . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه خلق الأنعام لبني آدم ينتفعون بها تفضلا منه عليهم . وقد قدمنا في " آل عمران " : أن القرآن بين أن الأنعام هي الأزواج الثمانية التي هي : الذكر والأنثى من الإبل ، والبقر ، والضأن ، والمعز . والمراد بالدفء على أظهر القولين : أنه اسم لما يدفأ به ، كالملء اسم لما يملأ به ، وهو الدفاء من اللباس المصنوع من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها . .

ويدل لهذا قوله تعالى : والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين [ 16 \ 80 ] ، وقيل : الدفء نسلها . والأول أظهر ; والنسل داخل في قوله : ومنافع [ 16 \ 5 ] ، أي : من نسلها ودرها : ومنها تأكلون .

[ ص: 333 ] ومنافع الأنعام التي بين الله - جل وعلا - امتنانه بها على خلقه في هذه الآية الكريمة ، بينها لهم أيضا في آيات كثيرة ، كقوله : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون [ 23 \ 21 ، 22 ] ، وقوله : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون [ 40 \ 79 - 81 ] ، وقوله : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 36 \ 71 - 73 ] ، وقوله : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [ 43 \ 12 ، 13 ] ، وقوله : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج [ 39 \ 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

والأظهر في إعراب : والأنعام [ 16 \ 5 ] ، أن عامله وهو : خلق اشتغل عنه بالضمير فنصب بفعل مقدر وجوبا ، يفسره : " خلق " المذكور ، على حد قول ابن مالك في الخلاصة :


فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهر


وإنما كان النصب هنا أرجح من الرفع ; لأنه معطوف على معمول فعل ، وهو قوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة الآية [ 16 \ 4 ] ، فيكون عطف الجملة الفعلية على الجملة الفعلية أولى من عطف الاسمية على الفعلية لو رفع الاسم السابق ; وإلى هذا أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله عاطفا على ما يختار فيه النصب :


وبعد عاطف بلا فصل على معمول فعل مستقر أولا


وقال بعض العلماء : إن قوله : والأنعام معطوف على الإنسان ، من قوله خلق الإنسان [ 16 \ 4 ] ، والأول أظهر كما ترى .

وأظهر أوجه الإعراب في قوله : لكم فيها دفء [ 16 \ 5 ] أن قوله : دفء مبتدأ خبره لكم فيها ، وسوغ الابتداء بالنكرة ; اعتمادها على الجار والمجرور قبلها وهو الخبر كما هو معروف ، خلافا لمن زعم أن : دفء فاعل الجار والمجرور الذي هو [ ص: 334 ] لكم .

وفي الآية أوجه أخرى ذكرها بعض العلماء تركنا ذكرها ; لعدم اتجاهها عندنا ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله في هذه الآية الكريمة : ولكم فيها جمال [ 16 \ 6 ] ، يعني : أن اقتناء هذه الأنعام وملكيتها فيه لمالكها عند الناس جمال ; أي : عظمة ورفعة ، وسعادة في الدنيا لمقتنيها . وكذلك قال في الخيل والبغال والحمير : لتركبوها وزينة [ 16 \ 8 ] ، فعبر في الأنعام بالجمال ، وفي غيرها بالزينة . والجمال : مصدر جمل فهو جميل وهي جميلة . ويقال أيضا : هي جملاء . وأنشد لذلك الكسائي قول الشاعر :


فهي جملاء كبدر طالع بذت الخلق جميعا بالجمال


والزينة : ما يتزين به . وكانت العرب تفتخر بالخيل والإبل ونحو ذلك كالسلاح ، ولا تفتخر بالبقر والغنم . ويدل لذلك قول العباس بن مرداس يفتخر بمآثر قبيلته بني سليم :
واذكر بلاء سليم في مواطنها ففي سليم لأهل الفخر مفتخر
قوم هم نصروا الرحمن واتبعوا دين الرسول وأمر الناس مشتجر
لا يغرسون فسيل النخل وسطهم ولا تخاور في مشتاهم البقر
إلا سوابح كالعقبان مقربة في دارة حولها الأخطار والعكر


والسوابح : الخيل . والمقربة : المهيأة المعدة قريبا . والأخطار : جمع خطر - بفتح فسكون ، أو كسر فسكون - وهو عدد كثير من الإبل على اختلاف في قدره . والعكر - بفتحتين - : جمع عكرة ، وهي القطيع الضخم من الإبل أيضا على اختلاف في تحديد قدره . وقول الآخر :


لعمري لقوم قد ترى أمس فيهم مرابط للأمهار والعكر الدثر
أحب إلينا من أناس بقنة يروح على آثار شائهم النمر


وقوله : " العكر الدثر " ، أي : المال الكثير من الإبل . وبدأ بقوله : حين تريحون [ 16 \ 6 ] ; لأنها وقت الرواح أملأ ضروعا وبطونا منها وقت سراحها للمرعى .

وأظهر أوجه الإعراب في قوله : وزينة [ 16 \ 8 ] ، أنه مفعول لأجله ، معطوف على ما قبله ; أي : لأجل الركوب والزينة .
قوله تعالى : ويخلق ما لا تعلمون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه [ ص: 335 ] يخلق ما لا يعلم المخاطبون وقت نزولها ، وأبهم ذلك الذي يخلقه ; لتعبيره عنه بالموصول ، ولم يصرح هنا بشيء منه ، ولكن قرينة ذكر ذلك في معرض الامتنان بالمركوبات تدل على أن منه ما هو من المركوبات ، وقد شوهد ذلك في إنعام الله على عباده بمركوبات لم تكن معلومة وقت نزول الآية : كالطائرات ، والقطارات ، والسيارات .

ويؤيد ذلك إشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك في الحديث الصحيح . قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ليث ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عطاء بن ميناء ، عن أبي هريرة ، أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب ، وليقتلن الخنزير ، وليضعن الجزية ، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد ، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد " . اهـ .

ومحل الشاهد من هذا الحديث الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها " ; فإنه قسم من النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ستترك الإبل فلا يسعى عليها ، وهذا مشاهد الآن للاستغناء عن ركوبها بالمراكب المذكورة .

وفي هذا الحديث معجزة عظمى ، تدل على صحة نبوته - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كانت معجزاته - صلوات الله عليه وسلامه - أكثر من أن تحصر .

وهذه الدلالة التي ذكرنا تسمى دلالة الاقتران ، وقد ضعفها أكثر أهل الأصول ، كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله :


أما قران اللفظ في المشهور فلا يساوي في سوى المذكور


وصحح الاحتجاج بها بعض العلماء ، ومقصودنا من الاستدلال بها هنا أن ذكر : ويخلق ما لا تعلمون [ 16 \ 8 ] في معرض الامتنان بالمركوبات لا يقل عن قرينة دالة على أن الآية تشير إلى أن من المراد بها بعض المركوبات ، كما قد ظهرت صحة ذلك بالعيان .

وقد ذكر في موضع آخر : أنه يخلق ما لا يعلمه خلقه غير مقترن بالامتنان بالمركوبات ، وذلك في قوله : سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [ 36 \ 36 ] .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #159  
قديم 14-12-2021, 01:52 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (157)

سُورَةُ النَّحْلِ(3)
صـ 336 إلى صـ 340




قوله تعالى : وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ، اعلم أولا : " أن قصد السبيل " [ 16 \ 9 ] : هو الطريق المستقيم القاصد ، الذي لا اعوجاج فيه ، وهذا المعنى معروف في كلام العرب ، ومنه قول زهير بن أبي سلمى المزني : [ ص: 336 ]
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله وعري أفراس الصبا ورواحله وأقصرت عما تعلمين وسددت
علي سوى قصد السبيل معادله


وقول امرئ القيس :
ومن الطريقة جائر وهدى قصد السبيل ومنه ذو دخل
فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن في معنى الآية الكريمة وجهين معروفين للعلماء ، وكل منهما له مصداق في كتاب الله ، إلا أن أحدهما أظهر عندي من الآخر . الأول منهما : أن معنى ( وعلى الله قصد السبيل : أن طريق الحق التي هي قصد السبيل على الله ، أي : موصلة إليه ، ليست حائدة ، ولا جائرة عن الوصول إليه وإلى مرضاته ، ( ومنها جائر ) أي : ومن الطريق جائر لا يصل إلى الله ، بل هو زائغ وحائد عن الوصول إليه ، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، وقوله : ( وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ) . ويؤيد هذا التفسير قوله بعده : ومنها جائر وهذا الوجه أظهر عندي ، واستظهره ابن كثير وغيره ، وهو قول مجاهد . الوجه الثاني : أن معنى الآية الكريمة : ( وعلى الله قصد السبيل ) ، أي : عليه جل وعلا أن يبين لكم طريق الحق على ألسنة رسله . ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وقوله : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ، وقوله : ( فإنما على رسولنا البلاغ المبين ) ، إلى غير ذلك من الآيات . وعلى هذا القول ، فمعنى قوله : ( ومنها جائر ) ، غير واضح لأن المعنى : ومن الطريق جائر عن الحق ، وهو الذي نهاكم الله عن سلوكه . والجائر : المائل عن طريق الحق ، والوجهان المذكوران في هذه الآية جاريان في قوله : ( إن علينا للهدى . . . ) الآية . قوله تعالى ( ولو شاء لهداكم أجمعين ) بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لو شاء هداية جميع خلقه لهداهم أجمعين ، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر ، كقوله : [ ص: 337 ] ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين [ 6 \ 35 ] ، وقوله : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها . . . [ 32 \ 13 ] ، وقوله : ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 \ 107 ] ، وقوله : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا . . . الآية [ 10 \ 99 ] ، وقوله : ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة . . . الآية [ 11 \ 118 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقد قدمنا هذا في " سورة يونس " .
قوله تعالى : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ، تقدم الكلام على ما يوضح معنى هذه الآية الكريمة في " سورة الحجر " .
وقوله - جل وعلا - : ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون .

بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن : إنباته بالماء ما يأكله الناس من الحبوب والثمار ، وما تأكله المواشي من المرعى من أعظم نعمه على بني آدم ، ومن أوضح آياته الدالة على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده ، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 \ 27 ] ، وقوله : الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى [ 20 \ 53 ، 54 ] ، وقوله : والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 30 - 33 ] ، وقوله : ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد الآية [ 50 \ 9 - 11 ] ، وقوله : أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون [ 27 \ 60 ] ، وقوله : وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا [ 78 \ 14 - 16 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .

تنبيهان .

الأول : اعلم أن النظر في هذه الآيات واجب ، لما تقرر في الأصول : " أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب إلا لدليل يصرفها عن الوجوب " . والله - جل وعلا - أمر الإنسان أن ينظر [ ص: 338 ] إلى طعامه الذي به حياته ، ويفكر في الماء الذي هو سبب إنبات حبه من أنزله ؟ ثم بعد إنزال الماء وري الأرض من يقدر على شق الأرض عن النبات وإخراجه منها ؟ ثم من يقدر على إخراج الحب من ذلك النبات ؟ ثم من يقدر على تنميته حتى يصير صالحا للأكل ! ؟ : انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه . . . الآية [ 6 \ 9 ] ، وذلك في قوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 \ 24 - 32 ] .

وكذلك يجب على الإنسان النظر في الشيء الذي خلق منه ; لقوله تعالى : فلينظر الإنسان مم خلق [ 86 \ 5 ] ، وظاهر القرآن : أن النظر في ذلك واجب ، ولا دليل يصرف عن ذلك .

التنبيه الثاني : اعلم أنه - جل وعلا - أشار في هذه الآيات من أول سورة " النحل " إلى براهين البعث الثلاثة ، التي قدمنا أن القرآن العظيم يكثر فيه الاستدلال بها على البعث . الأول : خلق السماوات والأرض المذكور في قوله : خلق السماوات والأرض بالحق . . . . الآية [ 64 \ 3 ] ، والاستدلال بذلك على البعث كثير في القرآن ، كقوله : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها [ 79 \ 27 - 28 ] ، إلى قوله : متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 33 ] ، وقوله : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى [ 46 \ 33 ] ، وقوله : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس . . . الآية [ 40 \ 57 ] ، وقوله : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم [ 36 \ 81 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم .

البرهان الثاني : خلق الإنسان أولا المذكور في قوله : خلق الإنسان من نطفة [ 16 \ 4 ] ; لأن من اخترع قادر على الإعادة ثانيا . وهذا يكثر الاستدلال به أيضا على البعث ، كقوله : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 79 ] ، وقوله : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون . . . . الآية [ 30 \ 27 ] ، وقوله : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] ، وقوله : أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد [ 50 \ 15 ] ، إلى غير ذلك من [ ص: 339 ] الآيات كما تقدم .

البرهان الثالث : إحياء الأرض بعد موتها المذكور هنا في قوله : ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب . . . [ 16 \ 11 ] ، فإنه يكثر في القرآن الاستدلال به على البعث أيضا ، كقوله : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى [ 41 \ 39 ] ، وقوله : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ 50 \ 11 ] ، أي : كذلك الأحياء خروجكم من قبوركم أحياء بعد الموت ، وقوله : ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 \ 19 ] ، أي : من قبوركم أحياء بعد الموت ، وقوله : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 \ 57 ] ، وقوله : وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير [ 22 \ 5 ، 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم .

فهذه البراهين الثلاثة يكثر جدا الاستدلال بها على البعث في كتاب الله ، كما رأيت وكما تقدم .

وهناك برهان رابع يكثر الاستدلال به على البعث أيضا ولا ذكر له في هذه الآيات ، وهو إحياء الله بعض الموتى في دار الدنيا ، كما تقدمت الإشارة إليه في : " سورة البقرة " ; لأن من أحيا نفسا واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة [ 31 \ 28 ] .

وقد ذكر - جل وعلا - هذا البرهان في : " سورة البقرة " في خمسة مواضع :

الأول قوله : ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون [ 2 \ 56 ] .

الثاني قوله : فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون [ 2 \ 73 ] .

الثالث قوله - جل وعلا - : فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم [ 2 \ 243 ] .

الرابع قوله : فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير [ 2 \ 259 ] .

[ ص: 340 ] الخامس قوله تعالى : قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم [ 2 \ 260 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ومنه شجر فيه تسيمون [ 16 \ 10 ] ، أي : ترعون مواشيكم السائمة في ذلك الشجر الذي هو المرعى . والعرب تطلق اسم الشجر على كل ما تنبته الأرض من المرعى ; ومنه قول النمر بن تولب العكلي :
إنا أتيناك وقد طال السفر نقود خيلا ضمرا فيها صعر نطعمها اللحم
إذا عز الشجر


والعرب تقول : سامت المواشي ; إذا رعت في المرعى الذي ينبته الله بالمطر . وأسامها صاحبها : أي رعاها فيه ، ومنه قول الشاعر :


مثل ابن بزعة أو كآخر مثله أولى لك ابن مسيمة الأجمال


يعني يا ابن راعية الجمال التي تسيمها في المرعى .

وقوله : ينبت لكم به الزرع [ 16 \ 11 ] ، قرأه شعبة عن عاصم : " ننبت " بالنون ، والباقون بالياء التحتية .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #160  
قديم 14-12-2021, 01:52 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (158)

سُورَةُ النَّحْلِ(4)
صـ 341 إلى صـ 345





قوله تعالى : وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه سخر لخلقه خمسة أشياء عظام ، فيها من عظيم نعمته ما لا يعلمه إلا هو ، وفيها الدلالات الواضحات لأهل العقول : على أنه الواحد المستحق لأن يعبد وحده .

والخمسة المذكورة هي : الليل ، والنهار ، والشمس ، والقمر ، والنجوم .

وكرر في القرآن ذكر إنعامه بتسخير هذه الأشياء ، وأنها من أعظم أدلة وحدانيته واستحقاقه للعبادة وحده ; كقوله تعالى إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين [ 7 \ 54 ] ، وإغشاؤه الليل النهار : هو تسخيرهما ، وقوله : وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار الآية [ 14 \ 33 ] ، وقوله : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم . [ 36 \ 37 - 39 ] ، [ ص: 341 ] وقوله : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين الآية [ 67 \ 5 ] ، وقوله : وبالنجم هم يهتدون [ 16 \ 16 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وفي هذه الآية الكريمة ثلاث قراءات سبعيات في الأسماء الأربعة الأخيرة ، التي هي : " الشمس " ، و " القمر " ، و " النجوم " ، و " مسخرات " [ 16 \ 12 ] ; فقرأ بنصبها كلها نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية شعبة . وقرأ برفع الأسماء الأربعة ابن عامر ، على أن : والشمس مبتدأ وما بعده معطوف عليه و : مسخرات خبر المبتدأ . وقرأ حفص عن عاصم بنصب : ، والشمس والقمر عطفا على الليل والنهار ، ورفع : ، والنجوم مسخرات على أنه مبتدأ وخبر . وأظهر أوجه الإعراب في قوله : مسخرات على قراءة النصب أنها حال مؤكدة لعاملها . والتسخير في اللغة : التذليل .
قوله تعالى : وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون .

قوله : وما [ 16 \ 13 ] ، في محل نصب عطفا على قوله : وسخر لكم الليل والنهار ، أي : وسخر لكم ما ذرأ لكم في الأرض ، أي : ما خلق لكم فيها في حال كونه مختلفا ألوانه .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : امتنانه على خلقه بما سخر لهم مما خلق لهم في الأرض ; منبها على أن خلقه لما خلق لهم في الأرض مع ما فيه من النعم العظام ، فيه الدلالة الواضحة لمن يذكر ويتعظ على وحدانيته واستحقاقه لأن يعبد وحده . وكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة ، كقوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا الآية [ 2 \ 29 ] ، وقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه الآية [ 45 \ 13 ] ، وقوله : والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 10 - 13 ] ، وقوله : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور [ 67 \ 15 ] .

وأشار في هذه الآية الكريمة إلى أن اختلاف ألوان ما خلق في الأرض من الناس والدواب وغيرهما ، من أعظم الأدلة على أنه خالق كل شيء ، وأنه الرب وحده ، المستحق [ ص: 342 ] أن يعبد وحده .

وأوضح هذا في آيات أخر ; كقوله في " سورة فاطر " : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك [ 35 \ 27 ] ، وقوله : ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم [ 30 \ 22 ] ، ولا شك أن اختلاف الألوان والمناظر والمقادير والهيئات وغير ذلك ; فيه الدلالة القاطعة على أن الله - جل وعلا - واحد ، لا شبيه له ولا نظير ولا شريك ، وأنه المعبود وحده .

وفيه الدلالة القاطعة على أن كل تأثير فهو بقدرة وإرادة الفاعل المختار ، وأن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته - جل وعلا - .

كما أوضح ذلك في قوله : وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون [ 13 \ 4 ] ، فالأرض التي تنبت فيها الثمار واحدة ; لأن قطعها متجاورة ، والماء الذي تسقى به ماء واحد ، والثمار تخرج متفاضلة ، مختلفة في الألوان والأشكال والطعوم ، والمقادير والمنافع .

فهذا أعظم برهان قاطع على وجود فاعل مختار ، يفعل ما يشاء كيف يشاء ، سبحانه - جل وعلا - عن الشركاء والأنداد .

ومن أوضح الأدلة على أن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته - جل وعلا - : أن النار مع شدة طبيعة الإحراق فيها ; ألقي فيها الحطب وإبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ، ولا شك أن الحطب أصلب وأقسى وأقوى من جلد إبراهيم ولحمه ، فأحرقت الحطب بحرها ، وكانت على إبراهيم بردا وسلاما ; لما قال لها خالقها : قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم [ 21 \ 69 ] ، فسبحان من لا يقع شيء كائنا ما كان إلا بمشيئته - جل وعلا - ، فعال لما يريد .

وقوله في هذه الآية الكريمة : يذكرون [ 16 \ 13 ] ، أصله : يتذكرون ، فأدغمت التاء في الذال . والادكار : الاعتبار والاتعاظ .
قوله تعالى : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ، [ ص: 343 ] ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه سخر البحر ، أي : ذلله لعباده حتى تمكنوا من ركوبه ، والانتفاع بما فيه من الصيد والحلية ، وبلوغ الأقطار التي تحول دونها البحار ، للحصول على أرباح التجارات ونحو ذلك .

فتسخير البحر للركوب من أعظم آيات الله كما بينه في مواضع أخر ; كقوله : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ 36 \ 41 ، 42 ] ، وقوله : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ 45 \ 12 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وذكر في هذه الآية أربع نعم من نعمه على خلقه بتسخير البحر لهم :

الأولى : قوله : لتأكلوا منه لحما طريا [ 16 \ 14 ] ، وكرر الامتنان بهذه النعمة في القرآن ; كقوله : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة الآية [ 5 \ 96 ] ، وقوله : ومن كل تأكلون لحما طريا الآية [ 35 \ 12 ] .

الثانية : قوله : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] ، وكرر الامتنان بهذه النعمة أيضا في القرآن ; كقوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 22 ، 23 ] ، واللؤلؤ والمرجان : هما الحلية التي يستخرجونها من البحر للبسها ، وقوله : ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها [ 35 \ 12 ] .

الثالثة : قوله تعالى : وترى الفلك مواخر فيه [ 16 \ 14 ] ، وكرر في القرآن الامتنان بشق أمواج البحر على السفن ، كقوله : وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون الآية [ 36 \ 42 ] ، وقوله : وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره [ 14 \ 32 ] .

الرابعة : الابتغاء من فضله بأرباح التجارات بواسطة الحمل على السفن المذكور في قوله هنا : ولتبتغوا من فضله [ 16 \ 14 ] ، أي : كأرباح التجارات . وكرر في القرآن الامتنان بهذه النعمة أيضا .

كقوله في " سورة البقرة " : والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس [ 2 \ 164 ] ، وقوله في " فاطر " : وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ 35 \ 12 ] ، وقوله في " الجاثية " : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ 45 \ 12 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 344 ] مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة :

المسألة الأولى : لا مفهوم مخالفة لقوله : لحما طريا [ 16 \ 14 ] ، فلا يقال : يفهم من التقييد بكونه طريا أن اليابس كالقديد مما في البحر لا يجوز أكله ; بل يجوز أكل القديد مما في البحر بإجماع العلماء .

وقد تقرر في الأصول : أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون النص مسوقا للامتنان ; فإنه إنما قيد بالطري ; لأنه أحسن من غيره فالامتنان به أتم .

وقد أشار إلى هذا صاحب مراقي السعود ، بقوله عاطفا على موانع اعتبار مفهوم المخالفة : أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع .

ومحل الشاهد قوله : " أو امتنان " ، وقد قدمنا هذا في " سورة المائدة " .
المسألة الثانية : اعلم أن علماء المالكية قد أخذوا من هذه الآية الكريمة : أن لحوم ما في البحر كلها جنس واحد ; فلا يجوز التفاضل بينها في البيع ، ولا بيع طريها بيابسها ; لأنها جنس واحد .

قالوا : لأن الله عبر عن جميعها بلفظ واحد ، وهو قوله في هذه الآية الكريمة : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا [ 16 \ 14 ] ، وهو شامل لما في البحر كله .

ومن هنا جعل علماء المالكية لللحوم أربعة أجناس لا خامس لها :

الأول : لحم ما في البحر كله جنس واحد ، لما ذكرنا .

الثاني : لحوم ذوات الأربع من الأنعام والوحوش كلها عندهم جنس واحد . قالوا : لأن الله فرق بين أسمائها في حياتها ، فقال : من الضأن اثنين ومن المعز اثنين [ 6 \ 143 ] ، ثم قال : ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين [ 6 \ 144 ] ، أما بعد ذبحها فقد عبر عنها باسم واحد ، فقال : أحلت لكم بهيمة الأنعام [ 5 \ 1 ] ، فجمعها بلحم واحد . وقال كثير من العلماء : يدخل في بهيمة الأنعام الوحش كالظباء .

الثالث : لحوم الطير بجميع أنواعها جنس واحد ; لقوله تعالى : ولحم طير مما يشتهون [ 56 \ 21 ] ، [ ص: 345 ] فجمع لحومها باسم واحد .

الرابع : الجراد هو جنس واحد عندهم ، وقد قدمنا في " سورة البقرة " الإشارة إلى الاختلاف في ربويته عندهم ، ومشهور مذهب مالك عدم ربويته ، بناء على أن غلبة العيش بالمطعوم من أجزاء العلة في الربا ; لأن علة الربا في الربويات عند مالك : هي الاقتيات والادخار . قيل : وغلبة العيش . وقد قدمنا : أن الاختلاف في اشتراط غلبة العيش تظهر فائدته في أربعة أشياء : وهي الجراد ، والبيض ، والتين ، والزيت ، وقد قدمنا تفصيل ذلك في " سورة البقرة " .

فإذا علمت ذلك ; فاعلم أن كل جنس من هذه الأجناس المذكورة يجوز بيعه بالجنس الآخر متفاضلا يدا بيد . ويجوز بيع طريه بيابسه يدا بيد أيضا في مذهب مالك - رحمه الله تعالى - .

ومذهب الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - : أن اللحوم تابعة لأصولها ، فكل لحم جنس مستقل كأصله : فلحم الإبل عنده جنس مستقل ، وكذلك لحم الغنم ولحم البقر ، وهكذا ; لأن اللحوم تابعة لأصولها وهي مختلفة كالأدقة والأدهان .

أما مذهب الشافعي ، وأحمد ، في هذه المسألة فكلاهما عنه فيها روايتان . أما الروايتان عن الشافعي ، فإحداهما : أن اللحوم كلها جنس واحد ; لاشتراكها في الاسم الخاص الذي هو اللحم . الثانية : أنها أجناس كأصولها : كقول أبي حنيفة .

وقال صاحب المهذب : إن هذا قول المزني وهو الصحيح .

وأما الروايتان في مذهب الإمام أحمد ; فإحداهما : أن اللحوم كلها جنس واحد . وهو ظاهر كلام الخرقي ، فإنه قال : وسائر اللحمان جنس واحد . قال صاحب المغني : وذكره أبو الخطاب وابن عقيل رواية عن أحمد . ثم قال : وأنكر القاضي أبو يعلى كون هذا رواية عن أحمد ، وقال : الأنعام والوحوش ، والطير ، ودواب الماء أجناس ، يجوز التفاضل فيها رواية واحدة ، وإنما في اللحم روايتان .

إحداهما : أنه أربعة أجناس كما ذكرنا . الثانية : أنه أجناس باختلاف أصوله . انتهى من المغني بتصرف يسير ، بحذف ما لا حاجة له ، فهذه مذاهب الأربعة في هذه المسألة .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 273.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 267.48 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (2.15%)]