من مشاهير علماء المسلمين .. - الصفحة 10 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         السيول والأمطار دروس وعبر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          مضى رمضان.. فلا تبطلوا أعمالكم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          فضل علم الحديث ورجاله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          سورة العصر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          الترهيب من قطيعة الرحم من السنة النبوية المباركة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          لمحات في عقيدة الإسماعيلية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          عقيدة الشيعة فيك لم تتغير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          شرح حديث: تابِعوا بينَ الحجِّ والعمرةِ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          كيف تعود عزة المسلمين إليهم؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          أدومه وإن قل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #91  
قديم 15-10-2022, 02:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

علوم أخرى منسية في تراث المسلمين



إن في تراث المسلمين علوماً لم يولها الباحثون اهتماماً كافياً، إما لندرة مصادرها، أو لتفرق موضوعاتها في مراجع تراثية شتى يتعذر الحصول على أغلبها، أو لصعوبة مصطلحاتها التي تبدو لغير المتخصصين غريبة عما هو شائع في لغة العلوم العاصرة، أو لغياب المنهجية السليمة في التعامل مع التراث بصورة عامة، أو لكل هذه الأسباب مجتمعة وربما لأسباب أخرى غيرها.

وسوف نعرض للتعريف ببعض هذه العلوم المنسية، ونشير إلى أهم مصادرها التراثية، عسى أن تجد من بين أهل الاختصاص من يتناولها بمزيد من التحليل المنهجي الدقيق والدراسة العلمية المتانية.
علم الوراثة

يبدو للكثير ان علم الوراثة Genetics ماهو إلا علم حديث النشأة، ولد بين علوم الحياة الأساسية الكبري: كالفسيولوجيا Physiology، وعلم الخلايا Cytology، وبيولوجيا التناسل Re-productive Biology ، والهندسة الوراثية Genetic Engineering وعلم التحسين الوراثي Eugenics، وغيرها.
ويعزى المؤرخون نشأة علم الوراثة إلى الراهب النمساوي «مندل» الذي ابتكر أسسه وقوانينه، وينسبون تطوره إلى كوكبة من علماء البيولوجيا أمثال «دي فريز» و«باتيسون» و «مورجان» وغيرهم.
كان التاريخ الحقيقي لعلم الوراثة يشهد بما لا يدع مجالا للشك بان علماء الحضارة الإسلامية هم أول من استخدم مصطلح «القيافة»، وتحدثوا عن تحسين النسل والولد، وأشاروا في مؤلفاتهم إلى دور الفرسان العرب في مجال الانتقاء الوراثي Heredity Selection الذي مارسوه على الخيول العربي، وعنوا بدراسة ظاهرة «التهجين» Crossing في الانسان والحيوان والطيور، وفطنوا إلى حكمة التشريع الإسلامي في تحريم زواج الأقارب.
والأدلة الدامغة على هذه الحقيقة الناصعة عن دور علماء المسلمين في تأسيس علم الوراثة يمكن استخلاصها من أمهات الكتب التراثية للقزوني والجاحظ وشريف الدين الدمياطي وابن قيم الجوزية وابن الجزار القيرواني وغيرهم.
1- القيافة أساس علم الوراثة: ورد مصطلح «قيافة البشر» في كتب التراث الإسلامي لتفسيرالتشابه بين الخلف والسلف، فقد جاء في كتاب «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» للقزويني ما نصه: «القيافة على ضربين: قيلفة البشر، وقيافة الأثر فالاستدلال بهيئات الأعضاء على الانسان، وأما قيافة الأثر فالاستدلال بآثار الأقدام والخفاف والحوافر».
وقد اشتهر بقيافة البشر قوم من العرب يقال لهم «بنو مدلج» يعرض على أحدهم مولود في عشرين امرأة فيهن أمه يلحقه بها. وحكى بعض التجار قال: ورثت من أبي مملوكاً أسود شيخاً، فكنت في بعض أسفاري راكباً على بعير والمملوك يقوده، فاجتاز علينا رجل من بني مدلج أمعن فينا نظره، وقال: ما أشبه الراكب بالراجل، فوقع من قلبي من قوله ما وقع، حتى رجعت
إلى أي وأخبرتها بما قال المدلجي، فقالت: صدق والله المدلجي، إعلم يابني انه كان زوجي شيخاً كبيراً ذا مال لم يولد له ولد، فخشيت ان يفوت مله عنا بموته، فمكنت نفسي من هذا المملوك الأسود فحملت بك، ولولا ان هذا شئ ستعمه في الآخرة ما أخبرتك به في الدنيا.
2- علم الأجنة: تعرض ابن قيم الجوزية لقضية خلق الأجنة، حيث قرر في كتابه «تحفة المورود بأحكام المولود» ان أصل التشكيل الصحيح للكائن الحي ما هو إلا اتحاد نظف الذكر ببيضة الأنثى، واستشهد بقوله تعالى في كتابه العزيز: (بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} (سورة الانعام:101). فالولد إذن لا يتكون إلا من الذكر وصاحبته. والحق ان الخالق العظيم العليم قد أخبر بهذه الحقيقة الهامة في مواضع كيرة من القران الكريم، وذكر «النطفة الأمشاج» كأساس لخلق الجنين، وكعامل وراثي ف عملية التكاثر البشري، فقال تعالى: { إنا خلقنا الانسان من نظفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً} (سورة الانسان:2).
والنطفة الأمشاج تتألف من اندماج بويضة الانثي وخلية الرجل (الحيوان المنوي)، ويسميها العلم الحديث «الزيجوت» Zygote، ويكون مقرها رحم المرأة، مصداقاً لقوله تعالى: {ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} (سورة المؤمنون:12) وقوله جل شانه: { ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى } (سورة الحج: 5).
وتظهر أهمية هذا التأصيل الإسلامي واضحة جلية إذا علمنا ان البشرة لم تعلم شيئاً عن النطفة الأمشاج (أو الزيجوت) المكونة من أخلاط الرجل والمرأة إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بعد ان توارت طرق التشخيص وتقنية المجاهر (الميكروسكوبات)
فقد تخب الغرب قروناً طويلة حيل موضوع تكوين الجنين، واعتقد البعض بان المولود الجديد ولد من بيضة الانثي فقط، بينما اعتقد آخرون بان الكائن الحي ينشأ ويتطور من الحيوان لمنوي فقط، بل ان أحدهم وهو «هارتسوكر» Hartsoeker عندما كان ينظر عبر المجهر إلى السائل المنوي للرجل تخيل انه يرى في رأس الحيوان المنوي كائناً صغيراً Homancules يذكر بالمظهر الخارجي للرجل وهذا الكائن الصغير الملتف ذو أعضاء قادرة على النمو في وجود الظروف الملائمة، و دور المرأة في تكوينه لا يعدو كونها حاضنة فقط
3- الوحدات الوراثية: ذكر ابن قيم الجوزية في كتابه «تحفة المورود بأحكام المولود» ان في نطفة الرجل «عناصر» مختلفة صغيرة جداً من أجزاء الجسم كله، وان في بذرة الأنثى مثل ذلك . وإذا علمنا ان ابن قيم الجزية عاش بين 691-751هـ أو 1291-1350م، فان كلامه هذا يعد أساساً لنشأة نظرية المورثات (أو الجينات Genes) التي قال بها علماء الوراثة حديثاً.
ففي عام 1860م تقريباً توصل «مندل»، من خلال أبحاثه على نبتة البازلاء، إلى نظرية تفسر الصفات الظاهرة في الكائنات الحية على أساس وجود «وحدات غامضة» تنتقل بين أجيال النوع الواحد، وتسبب الفروق الحادة في امتلاك صفات معينة. ذلك ان كون البازلاء طويلة أو قصيرة يتوقف على هذه الواحدات. فإذا خلطنا بين هاتين الصفتين من خلال تزاوج البازلاء، فان ظهور إحدى الصفتين بصورة غالبة يتوقف على سيادة إحدى الوحدتين، ويطلق على الصفة الغالبة باسم «الصفة السائدة» Dominant، أما الصفة غير الظاهرة فتسمى «الصفة المتنحية» Recessive. وهذا يعني إن الجيل الجديد من البازلاء لا يزال يحمل إحدى صفتي الأبوين أو كليهما على أساس ان هناك صفة ظاهرة وأخرى متنحية، ومن ثم فان الجيل الجديد يكون خليطاً من الاثنين.
وقد أطلق العلم المعاصر على هذه «العناصر» التي قال بها ابن قيم الجوزية، أو «الوحدات الغامضة» التي ذكرها مندل، اسم المورثات (أو الجينات Genes)، وأثبتت أجهزة الفحص الدقيقة ان هذه الموروثات تحملها أجسام برتينية دقيقة جداً (حوالي جزء من الملين من الملليمتر) تسمى الصبغيات (أو الكروموسومات Chromosomes) وقد تأكد مؤخراً ان هذه الكروموسومات والموروثات هي المسئولة عن الصفات والملامح التي تعطي الانسان صفته وشكله واستعداده كثير من الصفات البدنية النفسية والخلقية. فقد تبين ان صفات الرجل تتضامن عن طريق الصبغيات والموروثات الخاصة بها مع صفات الأنثى لتنتج جنيناً يجمع بين صفاتهما، وقد تتغلب صفة سائدة عند الأب فتظهر في الطفل، وأما الصفات المتنحية فتظهر حسب قوانين علمة معروفة تم اكتشافها في علم الوراثة الحديث، ويترتب عليها في بعض الأحيان ان يكون الشبه بين المولود ووالديه غر طاهر، بل ربما كون الشبه معدوماً بين الطفل ووالديه.
ومن المصطلحات العلمية الحديثة في هذا الشان صطلح «النزوع إلى الأصل في الصفات الوراثية» Atavism، ويمكن التدليل بما رواه الطبري في متابه «فردوس الحكمة» من ان امرأة ولدت بنتاً بيضاء من رجل حبشي، وأدركت ابنتها تلك وتزوجت من رجل أبيض فولدت ولداً أسود، لان الولد – كما يقول الطبري ـ نزع إلى لون الجد (أبي الأم).
بل ان الرسول الأمي العربي محمداً صلي الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، قال في الحديث الشريف: «تخيروا لنطفكم فان العرق دساس» (أخرجه ابن ماجه والحاكم)، وخير دليل نسوقه من قصة الرجل الذي جاء إلى الرسول صلي الله عليه وسلم شاكياً من ان امرأته ولدت غلاماً أسود، فقال له الرسول صل الله عليه سلم: هل لك إبل ؟ قال: نعم، قال: فما لونها ؟ قال: أسود، قال: هل منها من أورق ؟، قال: نعم، قال: فأنى له ذلك ؟ قال: عسى ان يكون نزعه عرق. قال: وهذا (يعني ولده) عسي ان يكون نزعه عرق. قال الرجل: فتقدم عجائز من بني عجل أخبرته انه كان لامرأة جدة سوداء. فسر ابن قيم الجوزية هذا الحديث تفسيراً علمياً على أساس انتقال ما أسماه «الأجزاء» من السلف البعيد إلى الخلف، وذلك قبل ان يأتي العلم بمصطلحات «الموروثات» و «النزوع إلى الأصل»،و«الصفات السائدة »، و«الصفات المتنحية» بزمن طويل.
4- التهجين وتحسين النسل: يزخر التراث العلمي الإسلامي بالعديد من الأمثلة على انماط التهجين المختلفة، فنجد الفزويني ـ على سبيل المثال ـ يشرح خصائص الحيوانات الهجينة بقوله:«ان الحيوانات المركبة تتولد بين حيوانين مختلفين في النوع ويكون شكلها عجيباً بين هذا وذاك.
فاعتبر حال البغل، فان ما من عضو منه إلا وهو دائر بين الحمار والفرس”
ويعلق الجاحظ على ظاهرة التهجين تعليقاً علمياً صحيحاً فيقول:«اننا وجدنا بعض النتاج المركب وبعض الفروع المستخرجة منه أعظم من الأصل” .
ويعترف العالم بإسهامات علماء المسلمين في مجال تحسين النسل عن طريق انتقاء صفات وراثية معينة، وهو ما يندرج اليوم تحت علم التحسين الوراثي (الأيوجينيا Eugenics). فقد كانوا يحرصون على أنساب الخيول العربية بحصر التزاوج فيما بينهما وبين أفراس أصيلة ذات صفات وراثية محددة، وتابعوا اصطفاء الصفات على الأنسال القادمة، ومنعوا أي تزاوجات عشوائية مع أفراد مغمورة أو وضيعة النسب. وكانهم بهذا التحديد يحصرون حدود الصفات الوراثية الممتازة كالرشاقة والجمال وضمور البطن والعدو السريع والحس المرهف، والذكاء المفرط والعرف الغزير المتدلي وصغر الآذان، وغيرها من الصفات المرغوبة في مجموعة معينة من الأفراس ما لبثت ان كبرت وزادت أعدادها مع مرور الزمن، بحيث شكلت نواة ممتازة لنشوء سلالة الخيول العربية التي عمت شهرتها العالم كله وكان لهذا التكوين الوراثي Genotype أكبر الأثر في لفت الانظار بعد ذلك إلى استيراد الخيول العربية ودخولها في التهجين مع سلالات أخرى لرفد مورثاتها بخصائصها الفذة.
من ناحية أخرى، كان الزواج بالأقارب شائعاً عند كثير من الأقوام والشعوب، ولما جاء الإسلام حرم زواج الأقارب الملتصقين لحكم نفسية واجتماعية وطبية ووراثية أوضح العلم الحديث جوانب كثيرة منها. قال تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم اللاتي وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي دخلتم بهن فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وان تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ان الله كان غفوراً رحيماً } (سورة النساء: 23)
وحبب الإسلام إلى المسلمين الزواج بالأباعد في النسب ، فرغبوا فيه، لانه انجب للولد وأبهى للخلقة، واتضح ذلك من أقوالهم المأثورة وأشعارهم المنظومة، منها قول شاعرهم:
تجاوزت بنت العم وهي حبيبة مخافة أن يضوي على سليليويتفق هذا المطلب الإسلامي في الحث على الزواج بالأباعد مع معطيات على الوراثة والتحسين الوراثي اتفاقاً كاملاً. وذلك ان استمرار تزاوج الذرية بالأقارب يفضي إلى إقلال درجة التناسل حتى قد تصل أخيراً إلى العقم، كما يؤدي إلى إضعاف السلالة، ويزيد من احتمال ظهور الصفات والأمراض الوراثية المتنحية التي يُحصي منها المتخصصون ما يزيد عن مائة مرض معروف، مثل: البرص الوراثي، والبول الأسود، وبعض الأمراض الشبكية، ومرض السكر، وارتفاع ضغط الدم، وغير ذلك من أمراض الجهاز العصبي وأمراض التخلف العقلي وكثير من العيوب الخلقية والخلقية.
وهكذا يتضح ان عدداً من المفاهيم الأساسية السليمة لمباحث الوراثة الحديثة يمكن التأصيل لها بالرجوع إلى التراث الإسلامي، حيث نجد الكثير مما يدحض زعم القائلين بان علم الوراثة بمباحثة المختلفة على غربي حديث النشأة وليست له أرومة تاريخية عند العرب أو غيرهم من الأمم.
علم المراعي

كان الانسان منذ القدم يهاجر من أرض إلى أرض بحثاً عن انسب الأماكن التي تصلح للرعي والزراعة والتجارة واستيفاء ما ينقصه من وسائل العيش وتهيئة ظروف الأمن والاستقرار.
ويسود الان اعتقاد خاطئ بان علم المراعي من العلوم الحديثة، ويعود المؤرخون بنشأته الأولى إلى أوائل القرن العشرين، حيث انشئت أول محطة لأبحاث المراعي في «سانتاريتا Santa Rita بالولايات المتحدة الأمريكية نحو عام1903 م في ولاية أريزونا، وينسبون الفضل في تأسيس هذا العلم إلى الأمريكي «آرثر سامبسون» A.W.Sampson الذي صنف كتاباً عام 1923 م عن «إدارة المراعى الطبيعية والأصطناعية» Range and Pasture Manage ثم أعاد كتابته من جديد في عام 1952م تحت عنوان «إدارة المراعي، أسس وتطبيقات» Range Management، Principles and Practice وفي عام 1947 تم تأسيس أول جمعية لإدارة المراعي الطبيعية في الولايات المتحدة الأمريكية، وظهرت أول مجلة لإدارة المراعي باسم Journal Of Range Management: وتوالى بعد ذلك ظهور الكثير من الأبحاث والنشرات والكتب العلمية التي تبحث في المجالات المتعددة لعلم المراعي الطبيعية وإدارتها، وزاد التوجه العالمي نحو الاهتمام بدراسة المناطق الرعوية والمحافظة عليها وإدارتها وتطويرها بعد تشكيل الهيئة الاستشارية الخاصة بأبحاث المناطق الجافة التابعة لمنظمة اليونسكو.
لكن الباحث المدقق في تراث المسلمين لا يجد صعوبة في تصحيح هذا الاعتقاد الخاطئ بان علم المراعي حديث النشأة، وذلك بإظهار حقيقة علمية تاريخية مؤداها ان أبا حنيفة الدينوري المتوفى عام 282هـ إلى 895 م قد سبق الأمريكي سامبسون بكتابه المعروف عن «النبات» باباً بعنوان «الرعي والمراعي» يقول في آخره، ملخصاً لما ورد فيه:«قد أتيت بما حضرني ذكره في وصف الرعي والمراعي وما يعرض لها من الآفات وحال السائمة فيها وما يعتريها من الأمراض على ما استحسنت وضعه في هذا الكتاب» .
وقد أوضح الدينوري بعض المصطلحات الرعوية البيئية الهامة مثل: الأرض الحمضية، أي كثيرة الحمض، و«الخلة» أي الأرض التي ليس فيها حمض وان لم يكن بها من شئ، و «السهب» أي الأرض الواسعة البعيدة التي لا نبات فيها، و«الصمان» أي الصحراء الحجرية الكلسية ذات القبعان، و «الحزن»، وهي الأرض البعيدة عن المياه ولا ترعاها الشاة ولا الحمر، فليس فيها دمن ولا أرواث.
وصنف الدينوري نباتات المراعي، استناداً إلى خبرة العرب الواسعة، على أساس الصفات المتعلقة بالطعم واللون والملمس والشكل الظاهر وموسم النمو، وغير ذلك من الصفات، فتحدث عن «مجموعة الحمض» التي تتميز بالطعم الحامض أو المالح، وهي التابعة «للفصيلة الرمرامية» Chenopodiaceae ، حسب التقسيم النباتي المعروف حالياً، ومن أمثلتها نباتات الرمث والغضي والحاذ. وتحدث عن «مجموعة الخلة» التي لا ملوحة فيها، مثل السبط، «ومجموعة العضاة» التي تضم الأشجار الشائكة، مثل الطلح والعرفط، و «مجموعة العض» التي تضم ما صغر من شجر الشوك، مثل القتاد،«مجموعة المرار» ومجموعة البقول ومجموعة الحرف، وأخيراً مجموعة الأرواث والدمن التي تضم النباتات السيئة في المرعى والمحبة للنتروجين، وهي من دلائل الرعي الجائر.
وعلى هذا الأساس قدم الدينوري تعريفاً محدداً للمرعى بقوله:«وقد بينت فيما مضي ان المرعي كله خلة وحمض، فالحمض ما كانت فيه ملوحة، والخلة ما لا ملوحة فيه، حلواً كان أو مراً، والعرب تسمى الأرض إذا لم يكن بها حمض خلة وان لم يكن بها حمض خلة وان لم يكن بها من النبات شئ».
وبذلك يكون المرعى عبارة عن مجموع النباتات التي تنمو طبيعية في منطقة معينة ولا تستخدم لأغراض أخرى غير الرعي.
كذلك أوضح الدينوري معرفة العرب لانواع المراعي المختلفة وتحديد درجة جودتها، وتأثير ذلك على الحيوانات الرعوية، فذكر «المرعى المرئي الناجع» أي الجيد، و«المرعى الخصبة»، أي متوسط الجودة، ليس بالخصب ولا بالجدب، و «المرعى الوبيل الموخم » ؟، أي المتدهور الخرب الذي تعرض عنه السائمة. وفطن العرب إلى العلاقة بين جودة المرعى وقربه من مصادر الماء أو بعده عنها، وطوروا اصطلاحات خاصة بذلك. فقد روى الدينوري عن ابن الأعرابي انه قال:«إذا ما كان حول الماء مكلئا قيل ماء قاصر، فان كان ما حوله قد أكل قيل ماء مدرع، لانه أبيض ما حوله بمنزلة الشاة الدرعاء، قال: وإذا بعد كلؤه بقدر ميلين أو ثلاثة فهو ماء مطل، فان كان مسيرة يوم أو يومين فهو مطلب إبل» .
ولم يفت الدينوري ان يدون في كتابه «النبات» ما يعكس إدراك الرعاة الواعي لقيمة النباتات الرعوية الغذائية واستجابة الحيوانات لها، فذكر ما قاله الأصمعي من ان الخلة هي خبز الإبل، والحمض أدمها، وأطيب الإبل لبناً ما أكل السعدان وروى عن أبي النصر قوله:«إذا أكلت الإبل الخلة صلُب لحمها واشتد طرفها.. وإذا أكلت الحمض اندلقت بطونها وكثرت أوبارها..» وقالوا عن السعدان: انه ناجع في المال، يطيب لحومه ويعزر ألبانه ويخثرها، وبه ضرب المثل فقيل: مرعى ولا كالسعدان.
ولفت الدينوري الانظار إلى أهمية مواسم الرعي وخصائص الدورات الرعوية، فقال:«إذا كان الربيع أحلت الغنم، وإحلالها ان تنزل ألبانها من غير ولاد بعد ان كانت انقطعت ويبست» وبين كيف كان الرعاة يلجأون إلى الانتقال من مكان لآخر طلباً للكلأ في الفصول المختلفة من العام.
أما عن إدارة المراعي وانشاء محميات بيئية كوسيلة من وسائل تطوير المناطق الرعوية، فنذكر المراجع ان الرسول صلي الله عليه وسلم كان أول من أصدر تشريعاً لحماية البيئة حين أمر بحماية النقيع وعضاة الدينة، كما منع الصيد عبر الحمى، وحدد مناطق محمية أخرى من الرعي فيها وحملت بحمولات حيوانية معتدلة من خيول الجهاد أو انعام الزكاة، جاعلاً الحمى بصفة عامة لله ورسوله، وقد حمى الخليفة عمر بن الخطاب الربذة وضربة اللتين قال فيهما أبو النصر: «حمى الربذة غليظ الموطئ كثير الخلة، وحمى ضربة سهل الموطئ كثير الحمض، تطول عنه الأوبار وتتفتق الخواصر ويرهل الحم» .
إن مثل هذه الأفكار والمفاهيم لا ينبغى إغفالها عند التأصيل لعلم الرعي والمراعي، لما لها من فيمة علمية وتطبيقية كبيرة.
يتبع






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #92  
قديم 15-10-2022, 02:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

علم الشفرة

يعنى علم الشفرة Cryptology بتحويل نص واضح إلى نص آخر غير مفهوم باستعمال طريقة معينة يستطيع من يعرفها ان يفهم النص والعملية العكسية التي يتم بها تحويل النص المكتوب بالشفرة إلى نص واضح مفهوم تعرف باس «تحليل الشفرة».Cryptanalysis
ويحظى هذا العلم باهتمام كبير في عصرنا الحاضر بالنسبة لحكومات والمؤسسات والأفراد على حد سواء، نظراً للحاجة إليه في الحفاظ على المعلومات في المجالات العسكرية، وفي الميادين الصناعية والتجارية والسياسية والاقتصادية، وفي أغراض الاتصالات، وغير ذلك. وتستخدم الدول المتقدمة أحدث التقنيات والحاسبات العملاقة لتطوير قدراتها وتحقيق تميزها في هذا العمل .
وقد عرف علم الشفرة وتحليلها عند العرب باسم «التعمية واستخراج المعمى» ، وكان لهم دور رائد في تأسيسه وتطويره والتاليف فيه من زوايا مختلفة، فصنفوا عدداً لا بأس به من المخطوطات، منها:« رسالة الكندي في علم التعمية واستخراج المعمى» وهي أول رسالة عربية يعود تاليفها إلى النصف الأول من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وكتاب «المؤلف للملك الأشرف في حل المترجم» (ت 666هـ إلى 1268م)، وكتاب «حل الرموز ومفاتيح الكنوز» لجابر بن حيان الكيميائي (ت 200هـ إلى 815 م) وكتاب «حل الرموز وبرء الأسقام في كشف أصول اللغات والأقلام» لذي النون المصري ثوبان بن إبراهيم (ت 245هـ إلى 859 م)، وكتاب «شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام» لأحمد بن علي بن وحشية (ت بعد 291 هـ إلى 914 م)، وكتاب «خصائص المعرفة في المعميات» لأسعد بن مهدى بن مماتي (ت 606 هـ إلى 1209 م)، وكتاب «مقاصد الفصول المترجمة عن حل الترجمة» لإبراهيم بن محمدين (ت 627 هـ إلى 1228 م)، وغير ذلك كثير. هناك من اشتهر بخبرته وكثرة مؤلفاته في هذا العلم، مثل علي بن محمد الدريهم (ت 762 هـ إلى 1361م) صاحب كتب «مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز» و «إيضاح المبهم في حل المترجم»، و «مختصر المبهم في حل المترجم» و «نظم القواعد في المترجم وضوابطه».
وقد اعترف كبير مؤرخي علم الشفرة المعاصرين «دافيد كان» D. Kahn في كتابه The Code Breakers بان هذا العلم ولد بشقيه بين العرب، ونسب اليهم الفضل الأول في اكتشاف طرق حل الشفرة وتدرينها قبل الغرب بمدة طويلة، وأقر بان هذه الحقيقة التي توصل إليها عن ريادة العرب في علم الشفرة تعتبر أهم انجاز تاريخي في كل ما احتواه كتابه .
It showed that the Arab had practiced cryptanalysis long before the west، and provided me with the most important historical break through in my whole book.
والباحث عن مؤلفات المسلمين الأوائل في علم الشفرة (أو التعمية) يجد انهم استحدثوا عدة طرائق ، لعل أبسطها طريقة القلب أو البعثرة، وتكون بتغيير مواقع حروف الرسالة وفق قاعدة معينة، كان تبدل الأول من الكلمة بالآخر منها، مثل: (رضوان ـ نضوار)، أو تقدم الحرف الأخير، نحو: (قاسم ـ مقاس)، أو تقلب حروف كل كلمة ضمنها، أي تكتبها معكوسة، مثل: (أحمد أخو علي ـ دمحا وخا يلع).
وهناك أيضاً طريقة التعمية بالاستبدال أو التعويض، وتقوم على ان يبدل كل حرف بحرف أخر، أو رمز من خارج النص وفق قاعدة محددة كان يبدل الحرف بما قبله على ترتيب حروف المعجم، مثل: (محمد ـ لجلخ)، أو يبدل كل حرف بما بعد، مثل: (محمد ـ نخنذ). وقد يكون التبديل بوضع الحروف على أسماء الأعلام، فيجعل لكل حرف اسم رجل أو غيره، أو على أسماء النجوم، أو الشهور، أو البلدان، أو الأذهان، أو العقاقير، أو الأشجار. ويمكن ان يكون التبديل على أسماء الأجناس، فيجعل لكل حرف اسم جنس مثل: الانام، والبشر، و البقول، والتراب والتوابل، والثياب، والجلود، والحديد، أو الحبوب، والخشب… إلى آخره.
وأشهر أنواع التعمية بالتبديل استعمال أشكال مبتكرة للحروف يخترعها المترجم أبجدية جديدة له على ترتيب حروف المعجم، وطريق ذلك كما يقول ابن الدريهم: ان «يثبت حروف المعجم، ثم يرتب تحت كل واحد شكلاً لا يماثل الآخر، فكلما جاء في اللفظ ذلك الحرف كتبه بحيث لا يقع له غلط، ثم يفصل بين الكلمات إما بخط أو بنقط أو ببياض أو دائرة أو غير ذلك» .
وعرف المسلمون طرائق أخرى مركبة أكثر تعقيداً تشمل تعمية المعاني بالتورية، واستعمال الصفات الكمية أو الكيفية للحروف، واستعمال الكلمات المحتملة، وغيرها ولعل الكندي كان أول من قام بإحصاء الحروف في الكلام المزيد لاستعمالها في حل الشفرة، وذلك اعتماداً على ما ورد في نص معين، فيكون الأول لأكثرها عداً، والثاني للذي يليه، وهكذا تتوالى مراتب الحروف في الاستعمال لتقابل بمراتب الرموز المستخدمة في الرسالة المعماة.
وتجدر الإشارة هنا إلى ان مراتب الحروف تختلف باختلاف المادة اللغوية المحصاة، فمراتبها في إحصاء حروف القران ـ وهو أسبق من إحصاء أهل التعمية، لانه يعود إلى عصر الصحابة رضوان الله عليهم ـ تختلف قليلاً عن مراتبها في إحصاء الكلام العادي لنصوص فيها المزيد والمجرد، ومراتبها في كلا الإحصائين تختلف عما هي عليه في إحصاء الحروفذ إذا كانت مادة الإحصاء هي الجذور العربية لاشتمالها على الأصلي من الحروف دون الزائد.
وقد توفر المسلمون على العناية بحل الشفرة على أساس علمي تلبية لضرورات حضارية إبان استقرار الدولة الإسلامية واستحبار العمران ونشاط حركة الترجمة، بغية كشف ما رمزه الأقدمون من علومهم وكنوزهم في آثارهم التي ترجمت انذاك. وتشهد كنوز التراث الإسلامي ان الكندى سبق الإيطالي «ألبرتو» بسبعة قرون إلى وضع أول مخطوط في استخراج المعمي، وهو أيضاً أول من عرف مبدأ استعمال الكلمة المحتملة، وأول من فرق بين طريقتي التعمية بالبعثرة والاستبدال قبل «بورتا» في القرن السادس عشر الميلادي. كذلك كان ابن الدريهم أول من عرض طريقة التعمية باستعمال شبكة بسيطة، سابقاً بذلك «كاردانو» بقرنين من الزمان.
انها صفحات منسية من تراث المسلمين تنتظر من بعيد قراءتها بلغة عصرية، ليؤكد قيمتها التاريخي في سيرة علم الشفرة الذي بلغت أهميته الذروة في عصرنا الحاضر، عصر الحاسبات الإلكترونية وما تحويه نظم المعلومات من قواعد بيانات تحتاج إلى الحفظ من العبث أو السرقة عن طريق تعميتها، سواء أثناء تخزينها أو عند نقلها عبر خطوط شبكات الحاسبات .
علم البيزرة

تتفق المصادر على أن ـ كلمة البيزرة مأخوذة من اسم «الباز» أو «البازي» وهو نوع من الصقور، ولعل الاقتصار في إطلاق اسمه على هذا العلم دون غيره، يرجع إلى كونه أشهر طيور الصيد وأمهرها في الإمساك بالفريسة. وقد وصفه أبو عبد الله القزويني في كتابه «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» بانه أشد الجوارح تكبراً وأضيقها خلقاً (مزاجاً)، ويوجد بأرض الترك، والغالب عليه بياض اللون.
و «البيزرة» هي حرفة «البيزار» الذي يدرب جوارح الطير على الصيد، وهي كلمة فارسية الأصل، أخذت من كلمة «البازيار»، أو «البازدار»، وهما تعنيان: القائم بأمر «البازى» أو الحامل له في الصيد، ثم عربت الكلمة إلى «البيزار» ويري الدميري في كتابه >. حياة الحيوان الكبرى» ان كلمة «البيزرة» عربية الأصل.
و« علم البيزرة» ، هو الذي يبحث فيه عن أحوال الجوارح من حيث أصنافها، وتربيتها، وحفظ صحتها ومداوتها من الأسقام والأمراض التي تعرض لها، ومن حيث صفاتها وعلاماتها الدالة على قوتها في الصيد أو ضعفها فيه، وقد ألحق البعض هذا العلم بطب الحيوان (البيطرة). وقالوا: هو فرع منه، داخل فيه، ومن جملته.
ولا يعرف على وجه الدقة أول واضع لقواعد علم البيزرة وفنونه، فقيل: انه علم هندي المنشأ، وقيل: ان «بطليموس» الذي خلف «الإسكندر» هو أول من اقتنى البزاة، ولعب بها وضراها على الصيد، ثم لعب بها الملوك بعده.
وكان الصيد عند العرب حرفة وهواية مشهورة وقد أشار القران الكريم إلى تدريب الجوارح، فقال تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله) (المائدة: 4).
وقد عني الأمويون والعباسيون بتربية الجوارح، وجعلوا لها أعطيات من بين المال، وكان يطلق على «البازيار» في عهد الدولة الأموية «صاحب الصيد»، كما عرفت في الدولة العباسية وظيفة «أمير الصيد» الذي يدبر أمر الصيد ويقوم عليه، واقتدت الدولة الفاطمية بالدولة العباسية في باب العناية بالطيور وصيدها بالجوارح وما يصلحها. ثم ثار للصيد بالطير أهمية كبري في عصر المماليك، وكانت وظيفة «صاحب الصيد» أو «أمير الصيد» من الوظائف التي يشغلها العسكريون، وكان القائم بها يضطلع بالإشراف على الجوارح من الطيور وغيرها وسائر انواع الصيد السلطانية، وكما كان يقوم بتنظيم جميع أمور الصيد، ويعاونه غلمان يكلفون بتزويد بيوت الطيور بالحمام وغيره من طيور الصيد لتغذية الصقور والجوارح وتدريبها ولم تكن وظيفة «أمير الصيد» تقتصر على رسوم السلطانية وحدها دون غيرها، بل كان عند بعض الأمراء في العصر المملوكي من يشغل تلك الوظيفة.
وقد تنوعت مساهمات العلماء المسلمين في علم البيزرة وتوسعوا في مباحثه التي اتصلت بعلوم أخرى، كالطب، والصيدلة، ووظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) واللغة، والفقه، ومن ثم نشأ عن ذلك تراث ثري في مجال البيزرة، فمنه ما عني بالجانب اللغوي، مثل: كتاب «الطير» للسجستاني، وكتاب «الوحوش» للأصمعي، وكتاب «البازي» وكتاب «الحمام»، وكتاب «العقاب» لأبي عبيدة ومنه ماعني بالناحية الفقهية وحكم الشرع في اصيد بالجوارح، مثل: كتاب «الصيد والذبائح» للإمام الشافعي، وكتاب «الصيد والذبائح» لمحمد بن الحاسب صاحب «أبي حنيفة». ومنه ما تناول علم البيزرة العام، مثل كتاب «الكافي في البيزرة» لعبد الرحمن بن محمد البلدي، وكتاب «الجمهرة في البيزرة» لعيسي الأزدي، وكتاب «المصايد والمطارد» لكشاجم، وكتب «البيزرة» لبازيار العزيز بالله الفاطمي، وكتاب «نزهة الملوك والسادات بالطيور والجوارح والجياد الصافنات» لمؤلف مجهول (وهو مطبوع) وكتأبي «البيزرة» و «ضواري الطير» «للغطريف بن قدامة الغساني» . ونجد «البلدي» على سبيل المثال في كتابه «الكافي في البيزرة» قد أوضح الأسس المنهجية لهذا العلم، فذكر ان البيزرة صناعة تنقسم إلى أربعة أقسام يقع كل منها في أربعة أبواب:
أما القسم الأول فيتناول معرفة أجناس الجوارح، ويبحث الباب الأول منه في عدد أصناف الجوارح، والباب الثاني في الفرق بين كل جنس منها والآخر، والباب الثالث في ذكر النافع من أصنافها، والباب الرابع في عدد ألوانها.
ويعني القسم الثاني بمعرفة النوع الفاضل المختار من الجنس النافع من الجوارح، ومعرفة الردئ منها. وبتناول الباب الأول من هذا القسم معرفة الجيد والردئ من قبل معدنه. والثاني معرفة الجيد والردئ من قبل صورته وهيئته، والثالث معرفة الجيد والردئ من قبل لونه، والرابع عرفة الجيد والردئ من قبل أخلاقه وأفعاله.
ويعني القسم الثالث بمعالجة «تدبير الجوارح النافعة ورياضنتها» ويبحث الباب الأول منه في ذكر أول من لعب بالضواري وتصيد بها، والثاني في وصية المتعلم لهذه الصناعة والمتعرض لها، والثالث في نعت الإجابة والتعلم لكل نوع، والرابع في تقدير طعم الضواري على طبيعة كل واحد منها.
ويتناول القسم الرابع «مداواة أمراض الجوارح» وفيه أربعة أبواب: الأول: في صفة طبائع الجوارح الضواري وأمزجتها وامتحانها عند ابتياعها، والثاني: في ذكر أسباب أمراضها وعلامات كل مرض، والثالث: في صفة مداواتها وعلاج أمراضها وتدبير أدويتها، والرابع: في تدبير قرنصتها وعلامات موتها وهلاكها.
ويتضح من هذا العرض المنهجي لموضوعات علم البيزرة انه متصل بعلوم أخرى أهمها علم البيطرة، وقد عني «البلدي» بالبحث في طب الطيور الجارحة، وسجل ملاحظات قيمة عن انواع الطفيليات التي تصيبها، منها قوله عن الديدان في دبر الطائر:«علامة الدود إذا كان في دبر الجارح، ان تراه يحك دبره دائماً وذرقه متصل على حاله لا خضرة فيه بل متغير الشكل الطبيعي، وربما خرج الكبار يأكل القمل الصغار. والقمل ينشف رطوبة الطير حتى يتركه جلداً وعظماً ان لم يعالج».
كذلك عني الغطريف الغسائي في كتابه «ضواري الطير» بطب الطيور الجارحة، وسجل ملاحظات دقيقة، منها قوله عن ديدان الحوصلة:«إذا رأيت الطائر قد ألقي ريمحه فكان له الدود، فاعلم ان في حوصلته دوداً». وقوله عن الديدان المعوية:« إذا رأيت الطير قد ورم ما فوق كتفيه، فاعلم ان في بطنه ديداناً عراضاً مثل حب القرع (الديدان الشريطية) التي تكون في الصبيان» وقوله أيضاً: «ان ترى الطير ينتف ريش مراقه، أو ينتف ريش فخذيه، فذلك يدل على العراض، أمثال دود الخل يعرض للصبيان في بطنه» .
إلى جانب المؤلفات التراثية التي استقلت بموضوعات علم «البيزرة» من جوانبه المختلفة، هناك من عرض فصولاً مطولة عنه، كالجاحظ ي كتابه «الحيوان»، والقزويني في كتابه «عجائب المخلوقات» والدميري في كتابه «حياة الحيوان الكبرى».
وقد صيغ علم «البيزرة» شعراً، فوضع «ابن نباتة» أرجوزته «فرائد السلوك في مصايد الملوك»، وألف الفحيمي قصيدة في البيزرة.
ومن الجدير بالذكر ان عدداً من الكتب التراثية المعنية بعلم البيزرة قد ترجم في عصر النهضة الأوربية الحديثة إلي اللغة اللاتينية، ثم انتشرت هذه الترجمات بعد ذلك في مختلف بلدان أوروبا، وانتشرت معها رياضة الصيد بواسطة الصقور.
علم الطفيليات

هناك من بين المعنيين بدراسة إسهامات المسلمين في الحضارة الانسانية من أعطى اهتماماً كبيراً لعلوم الطب والصيدلة والأحياء في التراث الإسلامي بصورة عامة، ولا شك في ان الأبحاث والدراسات المعاصرة في كشفت عن الكثير من انجازات علماء الحضارة العربية الإسلامية في هذه الميادين التي أصبحت في عصرنا تتألف من فروع عديدة يشكل كل منها علماً مستقلاً. وهنا نجد ان مبحثاً حديثاً مثل «علم الطفيليات» Parasitology يكاد يكون منسياً أو مغموراً في المؤلفات التراثية، اللهم إلا من بعض الدراسات المحدودة التي تحتاج إلى مزيد من التطوير والتعميق .
ومن يتناول مؤلفات علماء الحضارة الإسلامية باحثاً عن أصول علم الطفيليات، سوف يجد الكثير من الحقائق العلمية والمنهجية التي تنسب زوراً وبهتاناً لعلماء الغرب دون أدنى إشارة إلى مكتشفيها الأصليين في العصر الإسلامي، فقد عرضت مراجع التراث الطبي للمسلمين ملاحظات دقيقة عن انواع الطفيليات التي تعيش داخل الجسم والتي تعرف اليوم «بالطفيليات الباطنية» Endoparasites التي تعيش على ظاهر الجسم، ولا يقلل من أهمية هذه الملاحظات الدقيقة انها كانت تعتمد في اكتشافها على ملاحظة الديدان الطفيلية بالعين المجردة، أو على الأعراض المرضية الدالة على وجودها. من ذلك ما جاء في المراجع التراثية عن أوصاف بعض «الطفيليات الأولية» Protozoa، مثل انواع الأميبا التي تعيش في جدار وتجويف الأمعاء الغليظة وتسبب مرض الدوسنتاريا Dysentry ، وما جاء عن أعراض بعض الأمراض، مثل حمى الملاريا التي كشف العلم الحديث عن طفيليانها التي تصيب الانسان من جنس «البلازموديوم» Plasmodium.
وتوافق المراجع الحديثة ما جاء في كتاب «الحاوي» لأبي بكر الرازي عندما ربط في ملاحظاته السريرية للإصابة بالملاريا بين نوبات الحمى وبين حالة تضخم الطحال المعروفة علمياً باسم Splenomegaly ، حيث قال:«…. الحميات التي تبتدئ بنافض أعلم انها من التي تنوب بأدوار، وذلك ان الغب والربع في الأكثر تحدث مع نافض شديد، ولكن يعقب حميات مختلفة، أما النائبة كل يوم فلا تكاد تحدث إلا مع علة في فم المعدة، على أن (حمى) الربع لا تكاد تحدث إلا مع علة الطحال» .
أما الديدان الطفيلية المعوية فقد تحدث عنها الرازي في كتابه «القانون مراجع التراث الطبي الإسلامي بين أربعة من هذه الديدان. هي الديدان العراض (المعترضة). أو الشريطية Taenia والديدان العظام (الكبار)، المعروفة حالياً «الإسكارس» Ascaris والديدان الصغار التي تشبه الدود المتولد في الخل وتسبب داء «الدبوسيات» Enterobiasis والديدان المستديرة، أو الشصية Hook Warm ، لاسيما الانكلستوما. وقد أشارت المراجع الحديثة إلى أنواع الديدان الشصية التي تعيش في الأمعاء الدقيقة وتتغذى على الدم والانسجة مسببة داء الانسيلوستوما (الشصيات) Ancylostomiasis .
وتجدر الإشارة في هذا الشان إلى ما اكتشف حديثاً من ان الدودة المستديرة التي ذكرها ابن سينا في كتابه «القانون في الطب» هي ما نسميه الان «الانكلستوما» وقد أعاد دوبيني اكتشافها بإيطاليا عام 1838 م، أي بعد اكتشاف ابن سينا لها بأكثر من ثمانية قرون، ولقد أخذ جميع المؤلفين في علم الطفيليات بهذا الرأي في المؤلفات الحديثة، كما أخذت به مؤسسة «روكفلر» الأمريكية التي تعنى بجمع كل ما يكتب عن هذا المرض .
وتطرقت المراجع التراثية أيضاً إلى بعض انواع الديدان الطفيلية التي تعيش بعيداً عن القناة الهضمية، مثل ديدان العين التي تفضل منطقة العين، و«ديدان الفلاريا» المسببة لداء الفيل الذي وصفه الرازي في كتابه «المنصوري» بقوله:«ان هذا الداء إذا استحكم لم يبرأ، أما إذا لوحق في ابتدائه وعولج بما ينبغي برأ ووقف ولم يتزايد»، وقال عنه يعقوب الكشكري في كتابه «كناش في الطب» الذي وصفه في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي): «إذا امتلأت عروق الدوالي بالدم العكر في الساقين وورمتا ورماً عظيماً حتى صارتا أشبه برجل الفيل، ولا يتهيأ للمريض ان ينهض بهما من عظمتهما، فان هذه العلة تسمى داء الفيل» .
أما بالنسبة لأنواع الطفيليات الخارجية التي تصيب جسم الانسان، فقد كثر الحديث عنها في مؤلفات الأطباء والعشابين، خاصة الصئبان والقمل الذي يتولد في الرأس وسائر الجسد.
من ناحية أخرى، لم يقتصر علم الطفيليات في التراث الإسلامي على تناول الطفيليات التي تصيب الانسان، بل انه امتد ليشمل بعض انواع الطفيليات التي تصيب الحيوان والطيور .
وليشمل أيضاً طرق المكافحة والعلاج وتحضير الأدوية من الأعشاب والنباتات الطبية التي ورد ذكرها للإفادة، بعد إجراء الاختبارات اللازمة على ما فيها من مواد فعالة باستخدام تقنيات العصر المتطورة.
وإذا كانت كل هذه المعلومات تؤكد دور علماء المسلمين الرائد في تأسيس علم الطفيليات استناداً إلى منهج تجريبي رائد، فإن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال اننا نعمد إلى مقارنته بالحالة المتقدمة التي وصل إليها في عصرنا الراهن، وان كنا ندعو أهل الاختصاص إلى بذل المزيد من الجهد لاستيفاء المعلومات التراثية الناقصة في هذا المجال، وذلك بالقراءة المتانية لمؤلفات الرازي وابن سينا والبغدادي والقيرواني والجاحظ، والبلدي والغطريف الغساني وابن زهر وغيرهم.

أحمد فؤاد باشا

المراجع :

1- زكريا بن محمد بن محمود القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، شركة الحلبي بمصر، الطبعة الخامسة، 1401 هـ – 198 م، ص 204.

2- محمد مروان السبع، أعمال ندوة التراث العلمي العربي في العلوم الأساسية، طرابلس – ليبيا، 1990 م.

3- ناهد البقصمي، الهندسة الوراثية والأخلاق، عالم المعرفة، الكويت 1413 هـ – 1993 م.

4- عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ، الحيوان، بيروت، 1978 م.

5- Sampson، A. W.، Range Management، Practices، John Wiley & Sons. New York، 1952.

6- محيي الدين قواس، أعمال الندوة “التراث العلمي العربي في العلوم الأساسية” – طرابلس -ليبيا، 1990 م.

7- علي علي السكري، البيئة من منظور إسلامي، منشأت المعارف – الإسكندرية : 1995.

8- Ali، S. I، Hima – The Protected – area Concept in Islam، Journal of Islamic Thought and Scientific Creativity، OIC، vol. 7، No 1، 1996.

9- David Kahn، The Code Breakers، New Yourk، 1976.

10- J. H. Finch & E. G. Daugall، Computer Security: A Global Challenge، North Holland، 1984.

11- بازيار العزيز بالله الفاطمي، البيزرة، تحقيق : محمد كرد علي، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق 1409 هـ – 1988م.

12 – أحمد فؤاد باشا، “مدخل البيزرة” دائرة سفير للمعارف الإسلامية، الجزءان 39 – 40، القاهرة، 1990.

13- عبد الرحمن محمد البلدي، “الكافي في البيزرة” ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1983.

14- الغطريف بن قدامة الغساني، كتاب ضواري الطير، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت 1984.

15- إسماعيل الحديثي وآخرون، علم الطفيليات، مديرية دار الكتب، جامعة الموصل، 1984.

16- محمد حسن الحمود، علم الطفيليات في التراث العربي، ندوة التراث العلمي العربي في العلوم الأساسية، طرابلس – ليبيا، ديسمبر 1990.

17- أحمد فؤاد باشا، التراث العلمي للحضارة ال؟إسلامية ومكانته في تاريخ العلم والحضارة، القاهرة، ط 2، 1984.

18- يعقوب الكشكري، كناش في الطب، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت، 1985.


19- أحمد فؤاد باشا، “علوم منسية في تراث المسامين” (1)، مجلة المسلم المعاصر، ع 81 بيروت : 1996.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #93  
قديم 17-10-2022, 01:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

“ماذا قدم المسلمون للعالم؟”
د. راغب السرجاني



تنفرد المدونة قبل كل المواقع الإخبارية بنشر خبر فوز الدكتور راغب السرجاني بالجائزة الأولى لمسابقة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، عن كتابه “ماذا قدم المسلمون للعالم”، وهذا الكتاب الذي كان قد صدر منذ أربعة شهور تقريبا.
وكنت قد أعددت عرضا لهذا الكتاب ونشر في مجلة الفسطاط التاريخية
وأعيد نشر هذا العرض في المدونة.
———————-
الصفحات: 847
الناشر: مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة – القاهرة - مصر
الطبعة: الأولي مايو 2009 = جمادى الأولى 1430
“لا يمكن أن نستوعب ما وصلت إليه البشرية من تَقَدُّم في أي مجال من مجالات الحياة إلا بدراسة الحضارة الإسلامية”.
“ماذا عسانا فاعلين بعد هذه المعرفة ؟”
يقع الكتاب ذي المجلدين بين هذين الكلمتين، أولاهما في مقدمة الكتاب، والأخرى في خاتمته، وهما يلخصان مافيه وما بعده.
وإذا حاولنا التعريف بالكتاب في عبارة واحدة لقلنا إن مفتاح الكتاب وهدفه هو التعريف بالإسهامات الحضارية للعصور الإسلامية في مسار الحضارة الإنسانية، ثم تأتي الخاتمة لتفتح باباً آخر، فتتحدث عن الواجب الذي يتحمله من قرأ هذا الكتاب.
***
وإذا كان كل كتاب يعبر عن نوع من الاختلاف أو حتى الاشتباك بين المؤلف وبين سابقيه وأقرانه، فإن هذا الاشتباك بدأ مبكرا مع د. السرجاني، حيث كان في تعريف معنى “الحضارة”، وهو التعريف الذي اخْتُلِف فيه، فبعضهم جعل الإنسان محور تعريفه للحضارة فيراها نضوج المبادئ والأفكار والمعتقدات، ومنهم من يجعل المحور هو التطور المادي فيعرفها بأنها الرقي في العلوم العلمية والتجريبية، بل وصل الحال إلى أن عرفها البعض في الغرب بأنها “القضاء على العدل والأخلاق، وترك العِنان لطبيعتنا الحرة السافرة لتفعل ما تشاء، ولو أدَّى ذلك إلى أن تسير على الجماجم”.
ثم يقرر رأيه فيرى أن “الحضارة هي قدرة الإنسان على إقامة علاقة سوية مع ربه، والبشرِ الذين يعيش معهم، وكذلك البيئة بكل ما فيها من ثروات”.
وعلى هذا التعريف ذي الثلاث شُعَب، يقرر أن الحضارة الإسلامية هي الحضارة الوحيدة التي استطاعت إقامة علاقة سوية في التصور والسلوك مع الله، ومع البشر، ومع البيئة المحيطة بما فيها من كائنات حية بل وجمادات.
ولهذا يقول د. السرجاني: إن الكتاب لا يتحدث عن حضارة عادية لها مثيلات أو أشباه، إنما نتحدَّث عن “الحضارة النموذج”، وهو يقرر أنه لم يفعل إلا أن فتح أبوابا في الموضوع، وذكر بعض المداخل فقط.
***
وإذا كان المؤلف يقرر أنه في مجلدين قد فتح بعض الأبواب وذكر بعض المداخل، فما عسى أن يفعله من يستعرض الكتاب، فمن يستطيع أن يجمع البحر في قدح؟!!
يأتي الباب الأول بعنوان (الحضارة الإسلامية بين الحضارات السابقة) وفيه يستعرض المؤلف بإيجاز –عبر الفصل الأول- ما وصلت إليه حضارات اليونان والهند وفارس والروم، وكذلك حال العرب قبل الإسلام، وهي تلك الأحوال التي يلخصها قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ” (رواه مسلم). فلقد كان الفساد يصبغ وجه الأرض، فساد الأفكار والتصورات وغلبة الوثنيات، وفساد اجتماعي يتجسد في طبقيات عنيفة وحقوق مهضومة وانحلال أخلاقي مقيت، وقوانين تلبي رغبات الأقوياء، ومجادلات دينية لا تنتهي، ولا تنتهي عند الجدال بل تستحيل حروبا واضطهادات عنيفة.
ويأتي الفصل الثاني متحدثا عن (أصول وروافد الحضارة الإسلامية)، حيث يقول بأن التميز الذي يجعل حضارة الإسلام تختلف عن غيرها من الحضارات ثلاثة أشياء: تأسسها على القرآن والسنة، حيث منهما انطلقت ومنهما انبثقت التصورات والأفكار، وكذلك النظم والمناهج والأعراف وطريقة الحياة. والثاني: هو أن الشعوب الإسلامية كانت مزيجا فريدا من كل الأعراق والألوان والأجناس، بما جعل الحضارة الإسلامية كمصب كبير وضعت فيه كل تلك الشعوب خلاصاتها وخبراتها ورحيق حضاراتها بعد أن تهذبت بالإسلام، ولم يكن ليتأتى هذا لولا هذه المساواة التي جعلت لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح. والثالث: هو الانفتاح على جميع الحضارات والأخذ منها دون تأنف أو تكبر أو استغناء، بما جعل الأمر لا يستغرق وقتا طويلا حتى تتم ترجمة الكتب والموسوعات العلمية من لغاتها الأصلية إلى العربية، بما جعل عاصمة الإسلام بعد بضعة أجيال هي عاصمة العلم والثقافة العالمية بلا منافس.
ثم يتحدث الفصل الثالث عن خصائص الحضارة الإسلامية، ويراها المؤلف في أربعة أمور: أولها: العالمية، إذ أن رسالة الإسلام لا تفرق بين جنس وجنس ولا بين عرق وعرق ولا تتوقف عند حدود، بل تتأسس على أن الإنسان هو خير المخلوقات على هذه الأرض، وأن جميع الكون مسخر له، وأن مصلحته ورفاهيته هي غاية الشريعة. ومن هذا المنطلق كانت المساواة بين البشر أساسا معلنا منذ أول يوم، وثانيها: الوحدانية، تلك الخصيصة التي سمت بالإنسان فوق عبادة أي شئ، وفوق الخوف من أي شئ، بل ليعرف أن كل شئ في هذا الكون مسخر له هو، وبوقوف حضارة الإسلام على مبدأ التوحيد تحققت المساواة بين البشر بشكل عملي، فكل البشر عبيد لله الواحد، بلا وسيط ولا معبد له سدنة وله كهنة، وبهذا انتهى تماما مبدأ أن الحاكم إله أو نصف إله أو حتى يسري فيه دم فوق بشري، وهو ليس إلا وكيل عن الأمة منوط بتنفيذ شرع من عند الله لا دخل له في وضعه وتقنينه، وانتهى وجود فوارق المراتب الكهنوتية بين البشر أو احتكار الصلة مع الآلهة، وانتفت كل مظاهر الوثنية، وساد تصور أن الإنسان هو سيد هذا الكون. وثالثها: التوازن والوسطية، بين الروح والجسد، بين علوم الشرع وعلوم الحياة، بين الدنيا والآخرة، بين المثالية والواقعية، بين الحقوق والواجبات. ورابع خصائص حضارة الإسلام –كما يرى المؤلف- هي: الصبغة الأخلاقية، فالأخلاق هي غاية الرسالة، كما قال –صلى الله عليه وسلم- “إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِمَ مَكَارَمَ الأَخْلاَقِ”، وهكذا روعي الجانب الأخلاقي في العلم والحكم والتشريع بل حتى في الحرب وضع الإسلام “أخلاق الحروب”، وأهم ما في جانب الأخلاق أن مصدرها هو الوحي الإلهي فهي تامّة بعكس النظريات البشرية في الأخلاق، كما أن الالتزام بها ينبع من داخل الضمير باعتبار الأخلاق دينا يحاسب عليها المرء. وما يجعل الحضارة الإسلامية متفردة بين الحضارات أن خصائصها تلك هي خصائص دين فهي غير قابلة للتبدل أو التغير مهما تغيرت الأحوال والظروف، ولذا فهي خصائص خالدة لحضارة الإسلام.
***
يناقش الباب الثاني من الكتاب (إسهامات المسلمين في مجال الأخلاق والقيم)، وذلك من خلال خمسة فصول (الحقوق – الواجبات – الأسرة – المجتمع – العلاقات الدولية).
إن الأخلاق هي جوهر وأساس أي حضارة، وهي سرَّ بقائها عبر التاريخ والأجيال، وهو الجانب الذي إذا اختفى يومًا فإنه يُؤْذِنُ بزوال الدفء المعنوي للإنسان، الذي هو رُوح الحياة والوجود؛ والحضارات السابقة وحتى المعاصرة لم تحظ بقدر بارز أو إسهام مؤثر في هذا الجانب الأخلاقي، والحضارة الغربية المعاصرة نموذج واضح للاختلال بين القوة والأخلاق.
غاص المؤلف مستعرضا بما أمكنه من إيجاز غير مخل بما يشرعه الإسلام من حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الخدم والعُمَّال، وحقوق المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة، وحقوق اليتامى والمساكين والأرامل، وحقوق الأقليات، وحقوق الحيوان، وحقوق البيئة. في فصل يثبت القفزة الهائلة وغير المسبوقة بل وغير الملحوقة التي أتت بها شريعة الإسلام.
ثم ثنَّى باستعراض الإسهامات الإسلامية في جانب الحريات، فناقش: حرية العقيدة في الإسلام إذ لا إكراه في الدين، بل لقد كفل الإسلام فوق حرية العقيدة حرية التعبير عنها ولكن بعيدا عن السخرية والمهاترات (وجادلهم بالتي هي أحسن). وكفل الإسلام حرية التفكير حين دعا بكل قوة لإعمال العقل وعاب على الذين يعطلون عقولهم وقواهم الحسية عن إدراك الواضحات فوصفهم بالأنعام بل هم أضل، والتفكير في الإسلام فريضة وهذا الذي تجسد من خلال “الاجتهاد” الذي أثرى الفقه الإسلامي عبر القرون. وحرص الإسلام على التمتع بحرية الرأي، بل بما هو أعلى من هذا وهو واجب النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكم شهدت سيرة النبي من مواقف تدلنا على هذه الحرية. وأتى الإسلام أيضا بحرية النفس، حيث كل الناس أبناء لآدم، ولكنه سلك في تحرير العبيد وإلغاء الرق سياسة واقعية، بتجفيف منابع الرق، والحض على الإعتاق، وإيجاد الوسائل التي تساعد العبد لنيل حريته. وأخيرا حرية التملك: حيث كان النموذج الإسلامي في الموازنة بين الفرد والمجتمع نموذجا وسطا، يعطي الأفراد الحق في التملك ولكنه يحارب تضخم النزعة الفردية ويراعي مصلحة المجموع، فيمنع الفرد مما فيه ضرر لمصلحة الجماعة، ثم جعل ملكيات أخرى عامة هي للجماعة يستفيد منها عموم الناس.
وفي فصل الأسرة يركز المؤلف على أن الأسرة ” حصن هذا المجتمع وقلعته وصمام أمنه وأمانه”، ولهذا اهتم الإسلام بها حيث شرع الزواج وجعله الأصل وأعلن ان لا رهبانية في الإسلام، واهتم بعقد الزواج وأوصى الزوجان بحسن الاختيار، وجعل لكل منهما على الآخر حقوقا وواجبات، ثم جعل عليهما حقوقا نحو الأبناء منذ تسمية الله قبل اجتماعهما في الفراش، مرورا بحمله إذ يصبح حينئذ كائن له حق الحياة ولا يجوز إجهاضه، وولادته والاستبشار به وتحنيكه والأذان في أذنه، وإحسان تسميته، وإعطائه حقه من الرضاعة الطبيعية، وقد أجاز الإسلام للحامل والمرضع ألا تؤديا فريضة الصوم رعاية للمولود، وحقه من الحضانة والنفقة، ثم الحق في حسن التربية والتعليم والرعاية، وبهذا فاق الإسلام كل القوانين الوضعية في رعاية الأبناء.
ثم أوصى الأبناء بالآباء، فللآباء حق البر والطاعة والإحسان، ونهى عن مجرد قول “أُف”، ولم يقف الإسلام عند حدود الأسرة الصغيرة بل أولى رعايته أيضا الأسرة الكبيرة (الرَحِم)، فلكل أُولِي القربى من الإخوة والأخوات، والأعمام والعمَّات، والأخوال والخالات، وأبنائهم وبناتهم؛ حقُّ البِرِّ والصِّلَة، وجعل هذا من أسباب سعة الرزق وطول العمر وخلود الذكر، وتوعد قاطع الرحم، وجعل قطع الرحم من أكبر الذنوب، وبهذا توسع الإسلام فشمل باب القيم فيه الأسرة الواسعة.
وفي جانب المجتمع أقام الإسلام مجتمعا يرتكز على أربعة ركائز: المؤاخاة، والتكافل، والعدل، والرحمة. وفي الفصل الخامس والأخير الذي يتحدث عن الإسهام الأخلاقي من خلال العلاقات الدولية بين الدولة الإسلامية وغيرها، يركز المؤلف على أن السلام هو الأصل بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول، وبالتالي ” فالمعاهدات تكون إمَّا لإنهاء حربٍ عارضة والعود إلى حال السلم الدائم، أو إنها تقرير للسلم وتثبيت لدعائمه”، وبالنظر إلى معاهدات النبي وخلفائه نجد أن المسلمين إنما يحاولون العيش في جَوٍّ هادئ مسالِمٍ مع مَنْ يجاورونهم، وأنهم لم يَسْعَوْا لقتال قَطُّ، بل كانوا دائمًا مؤْثِرين السلم على الحرب، والوفاق على الشقاق، وتحدث المؤلف عن ضوابط المعاهدات وشروطها وإلزامية الوفاء بها في الإسلام، وبعدئذ فإذا كان الحال هكذا فلا يفوت المؤلف أن يتكلم في مبحث عن أسباب وأهداف الحرب في الإسلام والتي عددها في: الدفاع عن النفس والدين، أو لدفع ظلم عن النفس، ولكن حتى في الحرب تظل للإسلام صبغته الأخلاقية في الحروب، والتي أفرد لها المؤلف مبحثا أنهى به هذا الفصل، وهذا الباب جميعا لينتقل إلى الباب الثالث.
***
الباب الثالث عن المؤسسة العلمية في الإسلام، وهو خمسة فصول:
الأول عن الرؤية الجديدة التي أتى بها الإسلام بشأن العلم، حيث لا نزاع ولا مشكلة بالأساس بين العلم والدين، وحيث أصبحت قضية العلم عامة لكل الناس، وطلبه فريضة على كل المسلمين، وبهذا تطورت الحركة العلمية بعد اكتسابها القوة الشعبية لتكثر المكتبات وتتكاثر وتتضخم حلقات العلم في المجتمع الإسلامي.
والفصل الثاني عن التغيير الإسلامي لتفكير العلماء، إذ بدأ في الحضارة الإسلامية استخدام المنهج العلمي التجريبي، وتطور العلم ليكون عمليا يخدم واقع الحياة ويبتعد عن القضايا غير ذات الصلة بالفائدة الفعلية، وكذلك بدأ في عصر الحضارة الإسلامية تشكل الفرق العلمية بعد أن كان واقع الحال فرديا، ثم إلزام الإسلام أبناءه بالأمانة العلمية فالمسلمون لم ينسبوا لأنفسهم آراء من سبقهم بل أعلنوها منسوبة إلى أصحابها أرسطو وأفلاطون وإقليدس وأبقراط وغيرهم، في حين أن الغرب في نهضته الأولى سرق روادها أفكار واختراعات علماء المسلمين ونسبوها لأنفسهم بعد ذاك بتسعة قرون، حتى كان اكتشاف هذا تعرية لهم بعد موتهم بقرون.
والفصل الثالث كان حديثا عن المؤسسة التعليمية الإسلامية، والتي تبدأ بالكتاتيب التي تشبه في عصرنا الآن المدارس الابتدائية، وأفاض المؤلف نسبيا في الحديث عن طريقة التعليم والتدريس التي كانت متبعة في تلك الكتاتيب، وهي طريقة متطورة حتى بمقاييس يومنا هذا، وفي المرحلة الثانية كانت حلقات المساجد هي أبرز قطاعات المؤسسة التعليمية الإسلامية، وإذا عرفنا أن المساجد كانت أول ما يبنى في كل بلد مفتوح كان لنا أن نتخيل إلى أي حد انتشرت حلقات العلم على طول الرقعة الإسلامية، ثم وبعد أن غصت المساجد بحلقات العلم بدأ إنشاء المدارس التي يُنفق عليها من اموال الأوقاف، فمنذ القرن الرابع الهجري وُجدت المدارس الكبرى في الحضارة الإسلامية.
وفي الفصل الرابع يتحدث المؤلف عن المكتبات في الحضارة الإسلامية وأنواعها، ثم يركز الحديث على مكتبة بغداد التي اعتبرها “جامعة إسلامية متطورة”، وفي الفصل الخامس تابع حياة العلماء، منذ تنشئة العالم، ثم المكانة التي كانت للعلماء في الدولة الإسلامية، ثم ابتكار فكرة “الإجازة”، وهي الشهادة التي تُجيز لطالب العلم في هذا الفن أن يمارسه، فهذه الإجازة هي اختراع إسلامي أضيف للحضارة الإنسانية.
***
وفي الباب الرابع جولة مع الإسهامات الإسلامية في علوم الحياة، وهو ينقسم إلى فصلين: الأول عن تطوير العلوم الموجودة مثل الطب والفيزياء والبصريات والهندسة والجغرافيا والفلك، أما الثاني فعن العلوم التي ابتكرها المسلمون، وهي الكيمياء والصيدلة والجيولوجيا والجبر والميكانيكا، وأفرد المؤلف مبحثا لكل علم من هذا وضح فيه الإضافة الإسلامية أو الابتكار الإسلامي وأسماء العلماء الرواد فيه.
وفي الباب الخامس جولة عن الإسهامات الإسلامية في جانب العلوم الإنسانية، وبنفس المنهج في تطوير العلوم الموجودة وهي علم الفلسفة والتاريخ والأدب، ثم الابتكارات الإسلامية لعلوم جديدة مثل علم الاجتماع وعلوم الشريعة (علم أصول الحديث- علم الجرح والتعديل - علم أصول الفقه) وعلوم اللغة (علم النحو – علم العروض – علم المعاجم)، وأعطى نبذات وافية عن هذه العلوم، غير أنه استبق هذين الفصلين بفصل استعرض فيه الإصلاح الإسلامي للتصورات والأفكار العقدية التي كانت موجودة عند الأمم السابقة.
***
تحدث الباب السادس عن المؤسسات والنظم في الحضارة الإسلامية، فتحدث عن مؤسسة الخلافة والإمارة: شروط الخلافة في الإسلام، وكيفية اختيار الخلفاء، وماهي البيعة وولاية العهد، وكيف كانت علاقة الحاكم بعموم الناس من خلال تعاليم الإسلام. وتحدث عن الإسهامات الإسلامية في مسألة نظام الحكم، إذ بدأ التأليف في المجال السياسي مبكرا منذ عهد الرشيد بكتاب الخراج لأبي يوسف تلميذ أبي حنيفة، ثم تطورت المؤلفات فظهر كتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة، ثم نضجت الكتابة واستبانت النظرية السياسية الإسلامية بكتاب الماوردي (الأحكام السلطانية)، وكتاب (سراج الملوك) لأبي بكر الطرطوشي، ثم كتاب (المنهج المسلوك في سياسة الملوك لعبد الرحمن الشيزري)، وكتاب شيخ الإسلام ابن تيمة (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية)، ثم تكون مقدمة ابن خلدون قمة التطور الكتابي في هذا الموضوع. وكانت الميزة الإسلامية في هذه النظرية أنها مستمدة من كتاب الله وتهدف للإصلاح ابتغاء رضوانه فلا أثر فيها لما يمكن أن يوجد عند ميكيافيللي حيث الغاية تبرر الوسيلة.
وأفرد المؤلف مبحثا عن “الفتن السياسية من المنظور الحضاري”، وكيف كان التعامل الإسلامي معها إسهاما حضاريا جديدا، فلقد كان الهدف الذي تتوجه له الأنظار –كما يرى- هو الواقعية لتحقيق حماية الأمة ووحدتها واجتماعها، ولهذا كان النهي عن الخوض في الفتن، وإقرار ولاية المتغلب وإن لم يكن الأفضل من بين المسلمين، وأفرد مبحثا عن مبدأ الشورى في الإسلام من حيث هي أصل “من الأصول الأولى للنظام السياسي الإسلامي”، ولقد كانت إسهاما إسلاميا ظهر في وقت لم تعرف فيه البشرية سوى الديكتاتوريات الملكية.
وكان الفصل الثاني عن إسهامات الحضارة الإسلامية في مؤسسة الوزارة، فاستعرض مكانة المؤسسة في النظام السياسي للحضارة الإسلامية، وكيف أن النظرية السياسية الإسلامية أولت تلك المؤسسة عناية ومكانة ووضعت لها الشروط والواجبات بل وما نسميه الآن البروتوكول.
وتحدث الفصل الثالث عن مؤسسة الدواوين، فأفرد مباحث لديوان الرسائل والإنشاء (وهو الآن خليط من منصب المتحدث الرسمي ووزارة الخارجية وكذلك شيئا من وزارة الإعلام)، وديون الجند والعطاء، وديوان الاوقاف، وديوان البريد والاتصالات، وديوان بيت المال، والشرطة، والحسبة، والجيش. متحدثا عن الإسهامات الإسلامية في تنظيم وترتيب هذه المؤسسات.
ثم جاء الفصل الرابع عن مؤسسة القضاء، بدأه بمبحث عن قيمة مبدأ العدل في المنظومة الإسلامية، ثم تحدث عن الوسائل التي ابتكرتها الحضارة الإسلامية لكفالة العدل، وكيف سار تطور المؤسسة القضائية الإسلامية، وتحدث عن معايير اختبار القضاة واختيارهم، وتحدد مهماتهم، ولربما يدهش القارئ حين يعلم أن ظهور القضاء المتخصص كان من الإسهامات الإسلامية، فمنذ بواكير الخلافة العباسية ظهر القضاء العسكري المختص بقضايا الجند والعسكر، وفي الإسلام ظهرت المحاكم الخاصة بأهل الذمة، وتحدث العلماء عن “القضاء المستعجل” حين رتبوا أولوية الفصل في قضايا المسافرين، وتحقق في الحضارة الإسلامية كذلك مبدأ الرقابة على القضاء منعا لاستغلال أحد القضاة نفوذه بالباطل، وخُتِم هذا الفصل بالحديث عن مبدأ خضوع الخلفاء والأمراء لسلطة القضاء، فلا أحد فوق القانون، وحكم القاضي كان نافذا على الجميع، ثم تحدث عن ديوان المظالم (مايشبه الآن القضاء الإداري أو مجلس الدولة) كيف نشأ وتطور في ظل الحضارة الإسلامية.
وفي الفصل الخامس، جاء استعراض المؤسسة الصحية من خلال مبحثين: الأول تحدث عن المستشفيات كيف كانت في الحضارة الإسلامية مؤسسة متكاملة توفر للمريض الحد الأقصى من أسباب العناية والرعاية منذ اختيار موقع بنائها وحتى ممارسة العلاج بالدعم النفسي، والثاني: يتحدث بشكل عام عن المبدأ الإسلامي الإنساني في أمر المرض والمرضى.
واختتم المؤلف هذا الباب الضخم الذي استغرق منه قرابة المائة والخمسين صفحة بالحديث عن الخانات والفنادق التي انتشرت في أرجاء الحضارة الإسلامية وتطورت، وشكلت الحل العصري للمجتمع الذي كثر فيه المسافرون بين الأقطار من التجار وطلبة العلم، وهو أيضا مبحث ربما دهش له القارئ الذي سيكتشف أن الفنادق هي –بهذا المستوى الذي وصلت إليه- إسهام إسلامي في مسيرة الحضارة الإنسانية.
***
وفي الباب السابع يكون القارئ مع رحلة ممتعة في باب يتحدث عن الجمال في الحضارة الإسلامية، الجمال فقط، وعبر سبعة فصول يحاول المؤلف لمَّ جوانب الجمال الذي زخرت به حضارة الإسلام، ففصل عن الفنون الإسلامية يتحدث عن فن العمارة الإسلامية، وفن الزخرفة، وفن الخط العربي. ثم فصل يتحدث عن جمال الآلات والمصنوعات وكيف اهتم المسلمون يتجميل مخترعاتهم العلمية كذلك (في هذا المبحث سنعلم أن المسلمين أول من اخترعوا الساعات ذاتية الحركة، والإنسان الآلي، بل وحامل مصحف إليكتروني)، وكيف شملت الزينة كل الآلات والمصنوعات والمواد التي وجدت في البيئة الإسلامية حتى تم تزيين كل شئ من القصور وحتى الدبابيس ومفاتيح الأبواب. ثم فصل عن جماليات البيئة ناقش كيف أن القرآن والسنة كانا المؤثر الأول والأعظم في تشكيل الحس الجمالي لدى المسلمين من خلال صورة الجنة حتى حاولوا إقامتها أو إقامة أشباهها على الأرض، فتحدث عن الحدائق الإسلامية التي تبهر أوصافُ المؤرخين لها القارئَ بعد كل تلك السنين، وكيف انتشرت على طول الإمبراطورية الإسلامية من الأندلس شرقا وحتى الهند غربا مرورا بالمغرب ومصر والشام والاناضول والعراق وفارس، وتحدث في مبحث خاص عن النافورات التي انتشرت في الحدائق والمساجد والبيوت وكانت حلا معماريا لمشكلات البيئة الحارة، كما كانت تُحفا فنية بديعة، وأحيانا كانت اختراعا علميا كنافورة الأسود في قصر الحمراء التي كانت أيضا ساعة تعين الوقت وتنبه للساعات من خلال خروج الماء من أفواه الأسود.
وأفرد المؤلف فصلا عن اهتمام الإسلام بالجمال الظاهري من حيث النظافة والعناية بالجسد والملبس والمسكن والشارع والمدينة، والعناية بدقائق الذوق مثل خفض الصوت والاستئذان في الزيارة وفي الجلوس، وفي مداعبة الزوجة، واهتمامه كذلك بالجمال المعنوي، ووصيته بالتبسم وطلاقة الوجه، وحرصه على سلامة الصدر وشيوع الحب لكل الناس، وعنايته برسوخ حسن الخلق، وبدقائق ذوقية معنوية أيضا.
وتحدث الفصل السادس عن جمال الألقاب التي اتخذها الخلفاء والوزراء والقادة أمثال (نور الدين والمسترشد بالله) بل جمال الكتب التي ألفت في الفقه والعقيدة والجدل والتفسير، أمثال (كنز الدرر وجامع الغرر) أو (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان)، وختم الباب بفصل عن مدينة قرطبة وما تمتعت به من جمال ورقي.
***
وينتهي الكتاب بالباب الثامن، وفيه يتناول المؤلف أثر الحضارة الإسلامية في الحضارة الأوروبية المعاصرة، فيستعرض معابر الحضارة الإسلامية إلى الغرب من خلال الأندلس، وجزيرة صقلية التي عاشت قرنين من الزمان تحت الحكم الإسلامي، وكذلك من خلال الحروب الصليبية حيث تم الاحتكاك الكبير بين الصليبيين وعالم الإسلام.
ويتحدث عن مظاهر تأثر الحضارة الغربية بالحضارة الإسلامية في ميادين العقيدة والتشريع، العلوم، اللغة والأدب، التربية والمعاملات، ومجال الفنون. ثم يختم الباب بذكر مجموعة من شهادات علماء الغرب ومفكريه للحضارة الإسلامية دورها وأثرها، فيذكر شهادات المؤرخ الأمريكي دانييل بريفولت، وعميدة المستشرقين الألمان في وقتها زيجريد هونكه، والمؤرخ الشهير ول ديورانت، ورونالد هيل، وجوستاف لوبون، والزعيم الهندي نهرو، ولويس سيديو، وكارا دي فو، وغيرهم وغيرهم. في أجمل خاتمة تستطيع أن تقضي على ما قد يكون تبقى من شك في نفس قارئ الكتاب الذي سيدهش إلى درجة الصدمة حتما إن لم يكن من قبل ذا علم بالحضارة الإسلامية وعظمتها وتأثيرها.
***
إن هذا الكتاب يقترب من أن يكون موسوعة ولا أروع في الحضارة الإسلامية، وسيكون موسوعة ضافية إذا توفر على أبوابه وفصوله من يتوسع فيه –وهو المكتنز بالنصوص- بالشرح والتحليل، وإضافة تعليقات العلماء والفقهاء والإكثار من الأمثلة التاريخية لعصور الحضارة الإسلامية.
ومن الصعوبة الحقيقية إعداد عرض يمثل الخلاصة لمثل هذا الكتاب، الذي تشعر أن مؤلفه كان يسابق الصفحات واللحظات ويحاول كالمحارب التقاط جوانب المواضيع الكثيرة والمتشعبة، فيوجزها في أقصى ما يمكن إيجازه، فلربما جاءت أبواب الكتاب كأنما تحشر المعلومات حشرا تريد أن تجمع البحر في قدح أو الريح في زجاجة.
ولكن لا يسع المرء إلا أن يلح بكل قوة على القارئ الكريم أن يقتنيه ويقرأه بعين العناية، ليؤمن حقا أن المسلمين هم (خير أمة أخرجت للناس).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #94  
قديم 24-10-2022, 12:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

أبو الريحان البيروني وبلاد الهند



د. مصطفى عطية جمعة




لا يمكن النظر إلى شخصية أبي الريحان محمد بن أحمد البيروني (362هـ/ 973م - 440هـ/ 1048م) على أنه رحالة فحسب، ولا سبيل لقراءة رحلته إلى الهند بمعزل عن تكوينه العلمي؛ فهو عالم فذٌّ عبقري، متعدد المواهب والقدرات والمعارف والعلوم؛ بل إنه أتقن كلَّ ما ألَّف فيه في مجالات: الفلسفة، والفَلَك، والجغرافيا، والجيولوجيا، والصيدلة، والرياضيات، والترجمة، والتاريخ والتأريخ. فجاء منجزُه في مدونات الرحلات بعضاً من مشروعاته ومؤلفاته العلمية. وبعبارة أدقَّ: فإنه لا يمكننا فهم البيروني الرحالةِ والمؤرخِ بمعزل عن فهم نبوغه وعطائه في علوم أخرى.

وُلِدَ البيروني في ضاحية من ضواحي خَوارزم (من جمهوريات آسيا الوسطى تسمى الآن أوزبكستان)، وقام برحلات لطلب العلم إلى بلدان مختلفة حوله، وقد أتقن عدداً من اللغات غير العربية، مثل الفارسية والسنسكريتية والسريانية واليونانية.

لقد اعتنى البيروني مبكراً بالبحث والتأليف في حياة الشعوب: تقاليدها، وصناعاتها، والتعريف بأهلها، بجانب الميدان الجغرافي المتعلق بالسهول والجبال والوديان والأنهار والبحار، الذي ينعكس - بلا شك - على حياة السكان وطبائعهم ونشاطهم الاقتصادي، وحياتهم الاجتماعية، مع دراسة وتوثيق علومهم ومعارفهم.

ونظراً لإجادته اللغة السنسكريتية، فإن السلطان محمود الغزنوي اصطحبه معه في فتوحاته إلى الهند، ثم طلب إليه تأليف كتاب يشتمل على تعريف ببلاد الهند، وثقافتها، وتاريخها، وعادات أهلها، ودياناتها، بهدف مساعدة دعاة المسلمين في نشر الإسلام بين ربوعها، وهو ما قام به البيروني بالفعل.

في ضوء هذه الغاية جاء كتاب البيروني (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) فريداً في صياغته ومعلوماته والمستهدف منه؛ فموسوعية البيروني العالم والأديب والفيلسوف أهَّلَته ليقرأ المجتمع الهندي قراءة علمية، ويقدِّم معلومات وافية مفصلة تتجاوز المفهوم البصري الذي يعتمده الرحالة عادة في تسجيل ما يشاهدونه أو يعيشونه بأنفسهم، إلى تقديم كتاب علمي متكامل عن مجتمع الهند بكل اتساعه وضخامته؛ خدمة لمشروع السلطان محمود الغزنوي الذي أقام سلطنة ضخمـة في أفغانستان، وكان له طموحه الأكبر في فتح الهند ونشر الإسلام فيها، فطلب إلى البيروني مرافقتـه في غزواته للهنـد، ومن ثَمَّ وَضْعَ مؤلَّفٍ جامع عنها، ليتواكب الفتح مع العلم، ويمتلك دعاة الإسلام في الهند معرفةً كافية على أسس علمية، ووَفْقَ معلومات دقيقة.

وقد توسعت الدولة الغزنوية في شمال الهند، من خلال حملات عسكرية متتابعة، وصل عددها إلى تسع عشرة حملة، خلال المدة من (367هـ/ 977م - 422هـ/ 1032م). في الوقت نفسه ربطت صداقة وطيدة بين البيروني والسلطان محمود الغزنوي، والأخير كان أكبر من البيروني بعامين فقط، وكان ذا همة عالية، ورغبة في تكوين مملكة قوية، وهذا ما حققه في عام 1020م؛ إذ امتدت حدود مملكته ألف ميل من الشمال إلى الجنوب، ونحو ضعفي ذلك من الشرق إلى الغرب.

أما الإسلام في الهند، فتذكر المراجع التاريخية أن الثقافة الإسلامية وردت إلى الهند من جهة خراسان وبلاد ما وراء النهر، فشعوبها هي الأقرب في الجغرافيا إلى الهنود، وكان جنود الفتح الإسلامي من أبنائها. ولما بلغ الإسلامُ الهند، أنتج حضارة إسلامية امتاحت من حضارة الهند القديمة وفلسفاتها وعلومها، كما نهض من بلاد الهند جَمْعٌ كثير من العلماء المسلمين؛ خاصة عندما صارت لاهور قاعدة الملك في أيام الدولة الغزنوية وتطورت لتكون مركزاً للعلوم والفنون. وتتابع الأمر مع جهود ملوك المملكة الغورية الذين فتحوا مدينة دلهي واتخذوها عاصمة للهند، وأصبحت قبلةً ومآباً للعلماء، حتى وفد إليها أرباب الفضل والكمال من كل ناحية وبلدة، فدرسوا وأفادوا عهداً بعد عهد، ولم تزل كذلك إلى آخر عهد الملوك التيمورية.

وهو ما يفسر لنا طبيعة كتاب البيروني عن الهند، وما فيه من تفصيل وتعميق وإحاطة بكل علـوم الهند ومعارفها وفنونها، ليكون مرجعاً للدعاة المسلمين. فالهند أمة عظيمة التاريخ والحضارة والثقافة، ولا بد من فهم هذا لمن أراد الولوج إلى عالمها، ونشر ديانة جديدة مثل الإسلام مصحوبة بثقافة وعلوم ومنجز حضاري كبير. وبعبارة أخرى: لا يمكن غزو أمة متحضرة، ونشر دين ومعارف وثقافة جديدة فيها، دون الفهم العلمي والموضوعي لثقافتها وحضارتها، وإلا ستبتلع الأمة المتحضرة الغزاة وتشبعهم بثقافتها، إذا كان الغزاة همجاً رَعاعاً لا حضارة ولا ثقافة راقية عندهم. والمثل الواضح على ذلك: التتار، الذين كانوا شعباً بدائياً لا يعرفون استقراراً ولا حضارة، بضاعتهم ونشاطهم منحصر في الغزو والنهب، وإسقاط الدول، وقد تمكنوا من تكوين إمبراطورية ضخمة، بعدما أفنوا شعوباً، وهدموا ممالك، إلا أنهم سرعان ما تأثروا ثم ذابوا في شعوب دار الإسلام، بحضارته الزاهرة التي غزوها في بلاد فارس والمشرق العربي والشام، بفعل عوامل متعددة منها: إعجابهم واتباعهم التصوف الإسلامي، وزواجهم من المسلمات، واقتداؤهم بما رأوه من تحضر السكان المسلمين في وسط آسيا وفارس والعراق، فأسلموا وخدموا الإسلام عندما حكموا.

وقد استبق البيروني كتابه عن الهند بالاطلاع على تراث الهند العلمي، من خلال مصاحبته للسلطان محمود الغزنوي ثلاث عشرة مرة إبَّان حملات السلطان على الهند، فخالط البيروني المجتمعَ الهنديَّ، نخبةً وعامَّةً وقرأ أسفارهم، وعرف تقاليدهم وشرائعهم، وألمَّ بطرائق تفكيرهم وحكمتهم.

كما قام البيروني بترجمة اثنين وعشرين كتاباً من اللغة السنسكريتية إلى العربية، ومن أبرز هذه الكتب: (جوامع الموجود لخواطر الهنود)، (قانون الأركنـد)، (خيال الخسوفيين)، (راشيكات الهند)، (الساماكاليتا) وفيه نظام الأعداد الهندي وترجمة النظريات الرياضية لبراهما سدهانتا. كما قام أيضاً بترجمة كتب من العربية إلى السنسكريتية، وجلُّها من التراث الإغريقي، ومن أبرزها: (أصول إقليدس)، (كتاب المجسطي لبطليموس)، (كتاب عن صنعة الإسطرلاب). وهو ما يعني أن رحلات البيروني لم تكن للمشاهدة والسياحة والتعرف على أحوال شعوب الهند فقط؛ وإنما اندمج في الحياة العلمية الهندية، وغشي مكتباتها ومجالسها العلمية، فقام بما يشبه عملية الحوار الحضاري والثقافي، عبر الترجمة والاطلاع والحوار، في جهدٍ دؤوبٍ متميزٍ.

فجاء كتابه عن الهند متميزاً في إضافته العلمية والأدبية. وكما قال أحد الرحالة: «إذا لم تضف الرحلات فائدة إلى قائمة المعرفة البشرية، فإنها تصبح ضارة». لأنها شهادة على العصر والمجتمع الذي عاشه المؤلف الرحالة، فيجب أن تكون شاملة لكافة جوانبه ويحركها هدف نبيل. ويجب أن تكون دقيقة في معلوماتها، وإحصاءاتها، وتواريخها، وحوادثها، وتفصيلاتها، وأيضاً في خرائطها ورسومها وصورها. فالرحلة وثيقة حيَّة، ونتاج معاينة ومعاناة، وأذواق منقحة، وهو ما يجعلها مصدراً هامّاً للدراسات التاريخية المقارنة، والدراسات الثقافية بجانب كونها من أدب الرحلات. فمدونات أدب الرحلات الرصينة تتأسس على الإضافة المعرفية العميقة، التي تتجاوز الفردانية والأحاديث السائرة عن أحوال الملوك قصورِهم وخَدَمِهم، ومظاهر العمران وأحوال الشعوب في البلدان، إلى تقديم نشاط الإنسان وإبداعه وابتكاراته وثقافته، وهذا لا بد أن يكون في أمامية الصورة، أما ما عداه فيكون في خلفيتها. فبعض الرحالة دوَّنوا الطرائف ووصفوا العجائب في حياة الشعوب، وبالغوا في ذلك من أجل جذب القراء لكتبهم، ولكن البيروني نأى عن ذلك ليقدم لنا كتاباً جمع العلم في منتهاه، والتاريخ وأخباره، وعرَّفنا بطبائع الهنود النفسية والاجتماعية، ولم يهمل معالم الهند، وما تتميز به في طبيعتها، وأيضاً في مبتكراتها العمرانية والعلمية، ليكون كتابه فريداً يجمع التاريخ والعلوم وأدب الرحلات والفنون.

تبقى نقطةٌ مهمة تجب الإشارة إليها، تتعلق بتنازع دول عديدة جنسيةَ البيروني؛ فأوزبكستان تتفاخر به، وهي التي تضم سمرقند وطشقند وبخارى وترمذ، وأخرجت كبار علماء الحديث أمثال: البخاري ومسلم والترمذي... كما تدعي إيران نسبته إليها، فقد أجاد لغتها وعاش فيها، وكذلك جمهوريتا طاجيكستان وأفغانستان، وقد قضى البيروني فيهما شطراً من حياته، كما تتفاخر القومية التركية بنسبته إليها، لأنه ولد في خوارزم التي هي من أعمال جمهورية تركستان حالياً، ونتمسك به نحن العرب لأن جلَّ مؤلفاته كانت باللغة العربية. وفي الحقيقة هذا التنازع مبني على أساس التعصب للهويات القومية وجنسيات الدول التي رسمت حدودها حديثاً، وكل هذا لم تعرفه الحضارة الإسلامية، وقد عاشت في كنفها عرقيات وشعوب وجنسيات كثيرة، اعتنقوا الإسلام، وتعلَّموا علومه، وأبدعوا باللغة العربية مثلما دوَّنوا كتباً بلغاتهم الأصلية، وفي جميع الأحوال كان التفاخر الشعوبي نزعة مدانة ديناً وأخلاقاً، ولا يمكن قراءة المنجز الحضاري الإسلامي على أسس قومية أو حدودية.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #95  
قديم 18-11-2022, 01:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي دور العرب في الرياضيات

دور العرب في الرياضيات
اللواء المهندس أحمد عبدالوهاب علي



لقد نبغ العرب في الرياضيات؛ فكان (الخوارزمي) أولَ مَن جعل الحساب علمًا قابلًا للتطبيق العملي، وهو الذي علَّم أوروبا طريقة الأعداد الجديدة، وكتابتها من اليمين إلى اليسار - كما يكتب العرب لغتهم - وأهمية استخدام الصفر، وخاصة في تبسيطه لعمليات الجمع والطرح.


و(الخوارزمي) هو صاحب الفضل الأكبر على علم الجبر، الذي خلق منه العرب علمًا مستقلًّا بفضل مؤلفات ودراسات أبو كامل، والبيروني، وابن سينا، والكراديسي وغيرهم - تلك المؤلفات التي نقل عنها كلٌّ من: (ليوناردو فون بيزا) ما خطَّه عن المعادلات التربيعية والتكعيبية، وكذلك (الجراف فون إيبرشتين) الألماني زعيم طائفة الدومنيكان - نقل عنها رسائلَه التي علَّمت أوروبا حساب العرب وجبرهم.


وفي عام 1845 أثبت الفرنسي (رينان) أن علم اللُّوغريتمات ينتسب إلى اسم العالم العربي: الخوارزمي.


كذلك نهَض العرب بحساب المثلَّثات، فكان الفلكي (القباني) أول من استبدل الأقواس بالأوتار، واستخدام تعبير: جيب/تمام الجيب الذي لم يعرفه الإغريق من قبل، وكان الفلكي (جابر) الذي برَع في علم المثلَّثات الكُروية، واستنبط من القوانين ما ساعد على حلِّ المثلث، والتقدم في علم الفلك.
••••

إن علماء الغرب يعترِفون بأن أوروبا قد بَنَتْ صرحها العلمي "على المجهودات العربية؛ فعن الفلكيين العرب أخذت أوروبا الحساب المعروف باسم الطريقة الستينية، وهو النظام القائم على اتخاذ الوحدة ستين قسمًا...، والعرب فقط هم الذين استكملوا الحساب الستيني، وبذلك أصبح حساب الفلكيين.


والعرب أيضًا هم الذين سبقوا أوروبا بنحو سبعمائة عام قبل إنجلترا وألمانيا، إلى إيجاد الحساب الخلافي (التفاضلي)، وصاحبَا الفضل في إيجاده: الطبيب الفيلسوف ابن سينا (890 - 1038)، واللاهوتي الغزالي (1053 - 1111)...، لقد أضاف ابن سينا - عن طريق بحوثه العلمية التي لم يسبقه إليها أحد - الكثير من النظريات الطبيعية، كذلك عالج اللانهائي ... في الطبيعة والرياضيات، ولا شك أن أوروبا لم تنتبه إلى مثل هذه النظريات الخاصة باللا نهائي... إلا في القرن السابع عشر الميلادي، بفضل أمثال: نيوتن، وليبنيتز...


فالعرب بأعدادِهم وآلاتهم، وحساباتهم وجبرهم، ونظرياتهم حول المثلَّثات الكروية، وعلوم البصريات، وغيرها - نهضوا بأوروبا، ودفعوها إلى الحركة العلمية دفعًا، ومن ثم استقلَّت، واكتشفت واخترعت، وتسلَّمت زعامة العلوم الطبيعية"[1].

[1] المرجع 6، ص 119 - 121.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #96  
قديم 26-11-2022, 11:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

طب الأسنان في الحضارة الإسلامية


مصطفى عاشور



مع تقدم الحضارة، وطبيعتها الاستهلاكية، تكثر أمراض الأسنان، نظرا للمأكولات والمشروبات المستحدثة التي قد تضر بالأسنان، وعندها يبزغ طب الأسنان، فمع توسع المسلمون عالميا في القرون الأولى للهجرة، أخذت الأمراض والآفات تتسلل للأسنان، وهو ما فرض على الأطباء أن يولوا عناية خاصة بهذا الطب تشخصيا وعلاجا وتطويرا وابتكارا، ففي الصدر الأول للإسلام، كان المنهج الوقائي هو الغالب، فكانت المضمضة واستخدام السواك، وتنظيف الأسنان قبل الصلاة والنوم، والحرص أن تكون بيضاء نظيفة، فكانت تلك وسائل شرعية وصحية ووقائية لإبعاد الآلام والأمراض.
ومع التقدم في مضمار الحضارة، رفد الأطباء المسلمون طبَ الأسنان بالكثير من الجهود في الوقاية والعلاج وابتكار المواد والتركيبات والأدوات الجراحية لحشو الأسنان، أو خلعها إذا اقتضت الحاجة، وما وصل إلينا من إسهامات ليس كل ما كتبه الأطباء المسلمون، ولكن ما استطاع الإفلات من يد الزمن.
من الوقاية حتى زراعة الأسنان

عرفت الحضارة الإسلامية كل ما يتعلق بطب الأسنان والعناية بها، بدءا من التشخيص إلى الوقاية والعلاج، إلى عمليات التقويم والخلع والعلاجات المختلفة، وصولا إلى استبدال الأسنان المخلوعة بأخرى من عظام الأبقار أو الذهب والفضة، ويلاحظ أن طب الفم والأسنان لم يكن تخصصا متفردا بذاته، كما هو الحال في العصر الحديث، ولكنه كان مُتضمنا في الطب العام، وهذا ما منحه الكثير من الاهتمام، إذ حضرت الأسنان في غالبية الكتب الطبية، فكانت أحد مباحثهم، التي ينظرون إليها وفق منظور كُلي للحفاظ على صحة الجسد وعافيته، فخُصص فصل وأكثر في الكتب الطبية للأسنان.
“فردوس الحكمة في الطب “وقد تناول الأطباء المسلمون أمراضَ الأسنان، والعلاقة بين الأسنان وعمر الإنسان، كما أنهم لم يستسلموا لآراء الطب اليوناني القديم، ولكنهم نقدوها وأضافوا إليها، واستحدثوا الكثير من العلاجات والمطهرات والجراحات، وأجادوا التشخيص والوقاية والعلاج،
ومن الابتكارات التي تميزت بها الحضارة الإسلامية علاج تسوس الأسنان من خلال ثقب السِن التالف من المنتصف ثم حقنه ببعض المواد والتركيبات لوقف الآلام، ولوضع الحشوات، المكونة من خليط من مواد غير قابلة للصدأ، لتعويض ما تلف من الأسنان، وكان من ابتكاراتهم نحت أسنان صناعية من العاج وعظام البقر لتكون بديلا عن الأسنان المخلوعة، كما ابتكروا خيوطا من الذهب لربطها بالأسنان حتى لا تسقط.
كتاب ” التيسير في المداوة والتدبير”اهتم الفيلسوف والطبيب “ابن سينا” بعلاج الأسنان، ووصف أمراضها وكيفية علاجها، والتركيبات الطبية لوقف النخر، ومما استخدمه في حشو الأسنان مادة “الكافور” والتي كانت تُسكِن الألم وتوقف التسوس، يقول ابن اسينا:”وقد جُرب الكافور في الحشو فكان نافعا ويمنع التآكل ومسكن للألم”، كما تحدث “ابن سينا” عن العلاقة بين تغير لون الأسنان والأمراض التي تصيبها، والمواد التي تستخدم لإماتت العصب حتى تتوقف آلام الأسنان، ومن المواد التي استخدمها الأطباء المسلمون “العلك الرومي” وهي مادة كانت تُحشى بها الأسنان التالفة.
“هداية المتعلمين في الطب”كان “زين الدين الجُرْجَاني” الشهير بـ”الخوارزمشاهي”، وهو من أطباء القرن السادس الهجري، والذي لقب بـ”أبقراط الثاني” تناول علاج الأسنان في كتابه “زبدة الطب” فتناول تأثير تقدم العمر على صحة الأسنان، فتحدث عن ضمور اللثة كلما تقدم العمر، وعرض لبعض العلاجات والتركيبات لمداوة الأسنان لتستعيد قوتها، وفي القرن الثاني الهجري تكلم “علي بن سهل ربَّن الطبري” عن الأسنان، ولقبة “ربن” بالفارسية تعني الأستاذ، ومن أشهر مؤلفاته الطبية ” فردوس الحكمة “، حيث خصص فصلا عن أمراض الفم والأسنان، أما الطبيب “ابن القف” موفق الدين يعقوب ابن اسحق، وكان طبيبا مسيحيا، فتحدث عن الأسنان وخلعها في كتابه “العمدة في الجراحة”، وفي القرن التاسع الهجري شرح “نفيس بن عوض الكرماني” في كتابه “شرح الأسباب والعلامات في الأمراض ومعالجتها” بعضا من أمراض الأسنان، خاصة سقوط الأسنان، أما الطبيب “أبو بكر ربيع بن أحمد الأخويني” في القرن العاشر الهجري، فخصص في كتابه “هداية المتعلمين في الطب” فصلين عن الفم والأسنان، ويعد أول من كتب في علاج الأقواس الضرسية وتشوهات الفم، ودور بعض الأعصاب في إثارة ألم الأسنان، كذلك قدم بعض المطهرات العطرية للفم، وتحدث عن خلع الأسنان كحل أخير في حال فشل العلاجات.
كتاب ” العمدة في الجراحة “أما تحدث الطبيب “أبو بكر الرازي” فكتب عن الأسنان والأمراض التي تصيب الفم خاصة التجويفات، والأطعمة والمشروبات الضارة بالأسنان، أما “ابن البيطار” المتوفى 646هـ والمختص بعلوم النبات والعقاقير، فقدم وصفات وتركيبات لعلاج أمراض الأسنان، وتحدث الأطباء المسلمون عن أسنان الأطفال، منذ بداية نموها، والأمراض التي تصيبها، وكيفية علاجها مثل: “أحمد بن محمد البلدي” وهو من أطباء القرن الرابع الهجري في كتابه “تدبير الحبالى والأطفال والصبيان”، وفي الأندلس كان الطبيب”عٌريب بن سعيد القرطبي” المتوفى (370هـ) في كتابه “خلق الجنين وتدبير الحبالى والمولودين” حيث خصص الباب العاشر من الكتاب لطب أسنان الأطفال وتنقلهم في مراحل العمر المختلفة.
” تدبير الحبالى والأطفال والصبيان “ابتكارت في طب الأسنان

من الابتكارات، استعمال الأطباء المسلمون للتخدير عند علاج الأسنان، وكان يُسمى “المرقد”، فكانوا يضعون مواد مخدرة على إسفنجة ثم تجفف، ثم توضع على أنف المريض، ليدخل بعدها في نوم عميق، وكانت حلا للتغلب على آلام خلع الأسنان، أما “ابن سينا” فتحدث عن إصلاح كسور الفك.
وقد عرف الأطباء المسلمون خلع الأسنان، وكانت حالة لا يلجأ إليها الطبيب إلا مع استحالة شفاء السن أو الضرس، ولوقف الآلام التي يسببها، وبعد استنزاف سُبُل المداواة والعلاج، فكان “الزهراوي” يعتبر الخلع أمرا لا يقع إلا مع الضرورة القصوى، وكان يصف الأسنان الطبيعية بأنها “جوهر شريف”، وربما هذه الرؤية ما صرفت اهتمام الأطباء المسلمون للبحث عن العلاجات، فـ “الزهراوي” من أوائل من كتبوا عن خلع الأسنان، وحالاتها المختلفة، وكذلك مضاعفاته، والحلول الطبيبة لمواجهة ذلك، وهو ما دفعه إلى ابتكار آلات لحشو الأسنان وخلعها، والسعى لتقليل الألم أثناء الخلع، مثل الكلابات، والمعروف أن كتابه “التصريف” احتوى على رسم ووصف لأكثر من مائتي آلة، اختص بعضها بالأسنان، فقد كان الأطباء المسلمون يراعون الحالة الصحية للمريض قبل خلع الأسنان وخلو المريض من الالتهابات الحادة في اللثة أوالفك، منعا للمضاعفات.

كتاب “خلق الجنين وتدبير الحبالى والمولودين”وفي الأندلس ابتكروا نوعا من المضمضة وغسول الفم يسمى “السنونات” وهو دواء لتقوية اللثة وتطهير الفم والحفاظ على سلامتها، وابتكر الطبيب “أبو الحسن علي بن محمد التجيبي” المتوفى 636هـ وصفات أسماها “الغاسولات”، وسبق “الزهراوي” غيره من الأطباء في الحديث عن الألم المتنقل في الأسنان، والذي يمثل إشكالا للطبيب المعالج، وربما دفعه للخطأ، فيخلع السن الصحيح ويترك الأسنان العليلة.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #97  
قديم 13-12-2022, 04:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي الطب والصيدلة في عصر الحضارة الإسلامية

الطب والصيدلة في عصر الحضارة الإسلامية
أ. د. عبدالحليم عويس

إن الإحاطة بمآثر العرب ومنجزاتهم في علمَي الطب والصيدلة أمرٌ شاقٌّ جدًّا لا تتَّسِع لإبرازه هذه الدراسة الموجزة؛ ولذا فسوف نقتصر على إيراد بعض هذه المآثر أو المنجزات، وذلك فيما يلي:
أولًا: في مجال الطب:
أ- الالتزام بالمنهج التجريبي: سواء في التأليف والبحث، أم عند التطبيق والممارسة العلمية، ويقصد بالمنهج التجريبي في علم الطب (مجموعة الطرق والأساليب والقواعد، التي اهتدى إليها الأطباء المسلمون والعرب من خلال ممارستهم للمهنة)، فلم يكتفوا بالخبرة العملية، وما ورِثوه عن الأوائل، وإنما اعتمدوا على التشريح وعلم وظائف الأعضاء، كما استخدموا أسلوب التشخيص، بالإضافة إلى منهج العلة والمعلول واختبار الأدوية.

وينقسِم الأطباء المسلمون من هذه الزاوية إلى مجموعتين:
الأولى: مجموعة الممارسين الذين اهتموا في المقام الأوَّل بتشخيص المرض وعلاجه؛ معتمِدين على المشاهدات والملاحظات، وتأتي الفلسفة عندهم وسيلة لبلوغ هذه لغاية، ويمثل هذه المجموعة أبو بكر الرازي (المتوفى 320ه/ 932م)، وكان رئيس البيمارستان ببغداد في عهد الخليفة المعتضد (279 - 289ه/ 892 - 901م).

أما الفريق الثاني: فهم الذين درَسوا الطب على أنه جزء من المعرفة لا غنى عنه، وسَعْيُهم إلى استكمال المعرفة هو الذي دفعهم إلى تحصيل الطب بأسلوب منطقي؛ ولهذا أطلق عليهم "الفلاسفة الأطباء"، ويمثلهم ابن سينا (المتوفى 428ه/ 1036م)، وكلا الفريقين اتَّبع المنهج العلمي التجريبي، بصرف النظر عن كونه غاية أو وسيلة.

وإمعانًا من الأطباء العرب والمسلمين في عصر النهضة الإسلامية، وتقديرهم لأهمية الطريقة العملية - إلى جانب الدراسة النظرية في تعليم الطب والوصول إلى الحقائق العلمية - فإنهم لم يكونوا ليسمحوا بممارسة الطب إلا بعد اجتياز امتحان في كتب التخصص المعروفة في ذلك العصر، والتأكد من سَعَة ثقافة الطلاب النظرية والعملية في مجال تخصُّصهم، والوثوق من مهارتهم ومقدرتهم على التشخيص والعلاج، مثال ذلك ما ذكره ابن أبي أُصَيْبعة في "عيون الأنباء" أن الخليفة العباسي المقتدر بالله (295 - 320ه/ 907 - 932م) عهِد في عام (319ه/ 931م) إلى الطبيب سنان بن ثابت بن سنان بن قرة الحراني البغدادي بامتحان المتطبِّبين في بغداد، إثر وفاة أحد العامة نتيجةَ جهل أحد الأطباء، "وحدَّد لكلِّ واحد منهم ما يصلح له، وما يمكن أن يتصدى له، وبلغ عددهم في جانبي بغداد ثمانمائة ونيفًا وستين رجلًا، سوى مَن استُغني عن محنته (امتحانه) باشتهاره بالتقدُّم في صناعته، وسوى مَن كان في خدمة السلطان".

هذا، وقد اهتمَّ كبار الأطباء المسلمين بتأليف كتبٍ خاصة بامتحان الأطباء، وممن صنف في ذلك الطبيبُ الكبير والمترجِم القدير حُنين بن إسحاق العبادي البغدادي (المتوفى 260ه/ 873م)[1].

(ب) الميل إلى التخصص في أحد فروع الطب:
فكان مِن بين الأطباء المسلمين متخصصون في مداواة الأمراض الباطنية، ويسمون "الطبائعيين"، ومتخصصون في الجراحة يطلق عليهم "الجرائحيون"، ومتخصصون في علاج العظام وتجبيرها يسمون "المجبِّرين"، وهناك مَن تخصص في طب العيون وهم "الكحالون"، أو في طب الأسنان، أو في طب النساء، إلى غير ذلك من فروع التخصص المختلفة.

وفيما يلي إشارة سريعة إلى تخصصينِ من هذه التخصصات؛ هما:
طب العيون:
تناول أطباء (بغداد/ المشرق) أمراضَ العيون بكلِّ عناية واهتمام؛ حتى قيل: "إن طب العيون من اختراع العرب"؛ حيث بلغ هذا العلم ذروته، بجهودهم التي ظلت الحجة الأولى خلال عصور طويلة، فلم يطاوِلهم في هذا الميدان لا اليونان من قبلهم ولا اللاتين الذين عاصروهم أو أتَوا من بعدهم.

ولا شك في أنَّ علماء العرب والمسلمين اعتمدوا على معلومات الإغريق (اليونان) في هذا العلم المهم، وقد ظهر أثر ذلك واضحًا في مؤلفاتهم، ولكنهم توصَّلوا بتجاربهم الخاصة إلى تطورات جديدة، مما جعل هذا الفرع يتطور على أيديهم تطورًا هائلًا، وأثمر مؤلفات هامة يأتي في مقدمتها كتاب "العشر مقالات في العين"، الذي صنَّفه الطبيب والمترجِم الكبير حنين بن إسحاق العبادي البغدادي (المتوفى 260ه/ 873م)، وهذا الكتاب اكتسب شهرةً واسعة في مجال الكحالة، بدليلِ أن المحتسب كان لا يسمح لأحدٍ بممارسة هذه الصنعة قبل التأكُّد مِن معرفته بمضمون هذا الكتاب[2].

وقد صنَّف علي بن عيسى الكحال (المتوفى سنة 430ه/ 1039م) كتاب "تذكرة الكحالين"، وهو مِن أشهر كتب العراقيينَ التي سطرت في هذا المجال.

قال عنه ابن أبي أصيبعة: "وهو الذي لا بد لكل مَن يعاني صناعة الكحل (طب العيون) أن يحفظه، وقد اقتصر الناس عليه دون غيره من سائر الكتب التي ألفت في هذا الفن وصار معروفًا عندهم".

ويتضمَّن هذا الكتاب معلومات قيِّمة عن تشريح العين وطبقاتها، ووصفًا مفصلًا لمائة وثلاثين مرضًا من أمراض العين، وعلاماتها، وطرق مداواتها بمائة وثلاثة وأربعين دواءً، كل ذلك ضمن ثلاث مقالات يتكون منها الكتاب: الأولى في تشريح أعضاء العين ووظائفها، والثانية في أمراض العين الظاهرة، والثالثة في الأمراض الباطنة للعين.

طب الجراحة:
حيث برع المسلمون في إجراء العمليات الجراحية، وأبدَوا مهارة فائقة في التعامل مع الأجزاء الدقيقة من جسم الإنسان؛ كالأعصاب، والعيون والأسنان، واستطاعوا تفتيت الحصيات داخل المثانة، واستئصال الأورام بأنواعها المختلفة؛ مستخدِمين في ذلك كلِّه الآلات والأدوات الجراحية المناسبة، والخيوط المصنعة من أمعاء الحيوانات، في تخييط الجروح بعد العمليات الجراحية.

ويرتبط التشريح بالجراحة ارتباطًا وثيقًا؛ ولذلك اشترط الأطباء العرب والمسلمون - على اختلاف تخصصاتهم - أن تكون لمَن يريد مزاولةَ الطب معرفةٌ بعلم التشريح ووظائف الأعضاء، وكان منهم مَن زاول التشريح بالفعل؛ إما للغاية العلمية، أو ابتغاء معرفة العلل والأمراض، وقد اختلفوا مع أطباء اليونان في كثير من آرائهم حول تشريح الأعضاء.

ويُعَدُّ الرازي (المتوفى 320ه/ 932م) مِن أوائل الأطباء المسلمين الذين كتبوا في علم التشريح ومارَسوه عن دراية واقتدار، وكان يؤكد على أن الطبيب يحتاج - لمعرفة علل الأعضاء الباطنة - إلى العلم بجواهرها أولًا، بأن تكون شوهدت بالتشريح، وإلى العلم بمواضعها من البدن، والعلم بأفعالها (الفسيولوجيا)، وبما تحتوي عليه (المورفولوجيا)، وبفضولِها التي تدفع عنها (طبائع الأمراض)؛ "لأن مَن لم يعرف ذلك لم يكن علاجه على صوب".

وممن مارَس التشريح على الحيوانات، الطبيب البغدادي يوحنا بن ماسويه (المتوفى 234ه/ 857م)، فقد قام بتشريح قردٍ كبير، وسجَّل ما توصل إليه من نتائج في كتاب له، قال عنه: "لم يوضع في الإسلام مثله"، وقد ذكر له ابن أبي أصيبعة من بين كتبه الطبية الكثيرة كتابًا يحمل عنوان "التشريح".

ج- بناء البيمارستانات:
عُنِي المسلمون عنايةً فائقة ببناء "البيمارستانات" لا في بغداد وحدها، ولكن في مختلف أنحاء العالم الإسلامي؛ تأسيسًا على إيمانهم بأن الرعاية الطبية حق لكل المواطنين، فقاموا بإنشاء البيمارستانات المتنقلة بجانب البيمارساتانات الثابتة، وملؤوا بها بقاع الإمبراطورية الإسلامية من بغداد شرقًا إلى بلاد المغرب والأندلس غربًا، كما عمَّت هذه المستشفيات بلاد الشام ومصر، حتى السجون كان الأطباء يدخلونها لعلاج المرضى فيها، وكانت البيمارستانات تنقسم إلى قسمين: ثابت ومتنقِّل؛ فالثابت ما كان يشيد في مدينة من المدنِ أو حي من الأحياء، وأما المتنقل، فهو الذي يُحمل ويُنقل مِن مكان إلى مكان بحسب الظروف والأمراض والأماكن المنتشرة فيها الأوبئة، وكذلك ظروف الحرب، فقد كانوا يُقيمون مستشفيات متنقِّلة في ميدان القتال في الخطوط الخلفية.

وقد شهِدت بغداد حاضرة العباسيين البداية الأولى لبناء البيمارستانات، ثم ما لبثت سائر المدن الإسلامية الكبرى أن تأثَّرت بها شرقًا وغربًا، وكانت تلك البيمارستانات مُعَدَّة لعلاج المرضى على اختلاف حالاتهم؛ فضلًا عن تدريس الطب فيها نظريًّا وعمليًّا، من خلال نخبة متخصصة من الأطباء والصيادلة.

وهكذا فلم تكن تلك البيمارستانات مؤسسات علاجية فقط، وإنما كانت معاهد علمية لتدريس الطب بالمعنى الصحيح، يَفِدُ إليها الطلاب من كل ناحية، يتلقَّون فيها العلوم الطبية، ويستمعون إلى شرح الأساتذة في حلقات تعقد في قاعات خاصة ملحقة بالبيمارستانات، أو في قاعات المرضى لملاحظة ما يقوم به الأطباء من تشخيص الأمراض، وإعطاء الأدوية اللازمة، وإجراء العمليات الجراحية.

مخطط البيمارستان:
بغضِّ النظر عن سَعَة البيمارستان التي تختلف من بيمارستان إلى آخر، ومقدار الزخرفة، ومساحة الحدائق الملحقة، وعدد النوافير الذي قد يختلف أيضًا؛ فإن البيمارستانات العربية الإسلامية كان لها مخطط أساسي يحتوي على:
1 - أقسام خاصة بالرجال، وأخرى خاصة بالنساء منفصلة عن الأولى.

2 - قاعات مرضى حسب التخصصات؛ فهناك قاعات أو عنابر مخصصة للمرضى المصابين بالحمَّى، وأخرى للأمراض العقلية والنفسية، وغيرها لمرضى الرمد، وهكذا.

3 - عنابر خاصة للناقهين من المرضى إلى أن يتم شفاؤهم، تحكى لهم فيها الحكايات المسلية.

4 - غرف للأطباء، للكشف على المرضى غير المنومين "عيادات خارجية".

5 - غرف لرئيس الأطباء وبقية الإداريين.

6 - قاعة محاضرات، يُلقِي فيها رئيس الأطباء دروسه، ويجتمع فيها مع تلاميذه.

7 - مطبخ لطبخ الأغذية الصحية؛ حيث كان الغذاء أحد طرق العلاج الرئيسية، وكذلك لطبخ الأشربة وغيرها من المواد العلاجية.

9 - صيدلية لتحضير الأدوية.
10 - مخازن.
11 - قاعة لغسل الموتى.
12 - مصلى "مسجد".
13 - مراحيض وحمامات.

بالإضافة إلى الباحات والأفنية والحدائق التي تحتوي على الأشجار والشمومات والمأكولات، وكثير من هذه البيمارستانات كانت تحتوي على سكن للعاملين فيها[3].

أما عدَّة الأطباء بالبيمارستان؛ فكانت تتوقَّف على سَعَته؛ فقد يكون به أربعة أو ستة أو عشرة أطباء أو كثر من ذلك، ويذكر أن البيمارستان المنسوب إلى عضد الدولة البُوَيهي في بغداد كان يضم أربعة وعشرين طبيبًا، ما بين طبائعيين وكحالين ومجبرين للعظام، وأطباء عيون، وذلك فضلًا عن الموظفين الإداريين، والفراشين والطباخين، وخدم المرضى، والصيادلة.

وكان الأطباء يتناوبون العمل في البيمارستان، فكان لكل طبيب وقت معين لزيارة قاعته التي يقوم فيها بمعالجة المرضى، وكان بعضهم يلازم البيمارستان يومًا واحدًا في الأسبوع، أو يومين، أو أكثر حسب عدد الأطباء، وربما لازم بعضهم البيمارستان ليلًا ونهارًا.

أقسام البيمارستان:
حيث إن الغاية من تشييد هذا البيمارستان تقديم الخدمات العلاجية للمحتاجين إليها، من الرجال والنساء، والأغنياء والفقراء، على اختلاف أجناسهم وأوصافهم وسائر أمراضهم؛ من أمراض الأجسام قلَّت أو كثرت، اتَّفَقت أو اختلفت، وأمراض الحواس خفَّت أو ظهرت، واختلال العقول، التي حفظها أعظم المقاصد - فإن البيمارستان يحتوي على جميع التخصصات المتوفرة، ويقسم مبناه إلى أقسام حسب هذه التخصصات؛ ليحتوي كل قسم على عدة عنابر لإيواء مرضاه، وبحيث تكون عنابر النساء منفصلة عن عنابر الرجال.

نظام المعالجة في البيمارستان:
تتم المعالجة في البيمارستان والحصول على العلاج بإحدى ثلاث طرق:
1 - العلاج الداخلي:
إذا رأى الطبيب المعالج أن حالة المريض تستدعي التنويم في البيمارستان لتلقي العلاج، تعرض الحالة على رئيس الأطباء، الذي بعد موافقته يتم تحويل المريض إلى القسم المختص لحالته؛ حيث يقيم فيه لتلقي العلاج.

2 - العلاج الخارجي في عيادات البيمارستان:
هنا يتم حضور المريض إلى البيمارستان؛ حيث يقوم الطبيب المعالج بالكشف عليه في الأماكن المخصصة لذلك، ثم يصف له الدواء المناسب، ويقوم المريض بصرفه من صيدلية البيمارستان.

3 - الزيارات المنزلية:
في الحالات التي يصعب فيها نقل المريض إلى البيمارستان يتم تقديم العلاج للمريض في منزله؛ علمًا بأن الأولوية في العلاج للمرضى المقيمين، وقد ورد في وقفية الأمير عبدالرحمن كتخدا: "ومَن كان مريضًا في بيته وهو فقير، كان للناظر أن يصرف ما يحتاج إليه من حاصل هذا البيمارستان، والأشربة والأدوية والمعاجين وغيرها، مع عدم التضييق في الصرف على مَن هو مقيم (بالبيمارستان)".

يتم تسجيل المرضى المنومين (المقيمين) في ملَّفات خاصة بذلك.

قال ابن جبير في وصف البيمارستان النوري بدمشق: "وله قومة وبأيديهم الأزمة المحتوية على أسماء المرضى".

وعلى جميع أطباء البيمارستان أن يقوموا بعد الكشف على المريض، سواء في العيادات الخارجية أو في عنابر الأقسام، بتدوين نتائج كشفهم، وما يستجد في حالته، وما يصرف له من علاج وغذاء وشراب، في دستور المريض (ملفه الطبي).

البيمارستانات الشهيرة في بلاد الإسلام:
يقول الدكتور "جوزيف جارلند" في كتابه (قصة الطب): "... وقد أسس العرب عددًا من المستشفيات الممتازة جعلوها مراكز لدراسة الطب ولعلاج المرضى، كأحدث المستشفيات، وقد بلغ عدد هذه المستشفيات أربعة وثلاثين، موزَّعة بين أنحاء الإمبراطورية، وإن كان أهمها مستشفيات بغداد ودمشق، وقرطبة والقاهرة".

البيمارستانات في بلاد الإسلام:
أول مستشفى ثابت أقيم في بلاد الشام كان في دمشق، أمر بإقامته الخليفة الأموي (الوليد بن عبدالملك).

بيمارستان أنطاكية: بناه المختار بن الحسن بن بطلان، الذي توفي عام (455ه).

البيمارستان الكبير النوري: بناه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وقد توفي هذا الملك عام (569ه)، واشترط أن يخصص للفقراء والمساكين، ولكنه إذا وجد فيه دواء ليس موجودًا في البلاد، فلا يمنع عن الأغنياء حالة تعذُّر حصولهم عليه، وقد جاء وصف هذا البيمارستان في كتاب "رحلة ابن جبير"، قال: "دخلت دمشق عام (580ه) وبها مارستانان: قديم وحديث، والحديث أحفلهما وأكبرهما، والأطباء يبكرون إليه في كل يوم، ويتفقدون المرضى، ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الدواء والغذاء.

وفي مدينة "حلب" بنى الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بيمارستان داخل باب أنطاكية، ووقف عليه الأموال لنفقات المرضى والأطباء، وقد عمل في هذا البيمارستان الطبيب ابن بطلان، وهاشم بن محمود ناصر السروجي الحسيني.

وفي "القدس" بنى الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي بيمارستان كبيرًا، وقد عمل فيه من الأطباء: يعقوب بن صقلاب المقدس، ورشيد الدين أبو المنصور بن أبي الفضل بن علي الصوري.

وبيمارستان عكا، فقد أمر الناصر صلاح الدين الأيوبي أن تكون أسقف عكا (بعض الأماكن التي هجرها الصليبيون) مستشفى لعلاج المواطنين.

وفي شبه الجزيرة العربية: كان يوجد في مكة بيمارستان يعرف بالبيمارستان المستنصري العباسي، وبيمارستان المدينة، وقد خدم فيه بأمرِ الملك الظاهر بيبرس الطبيبُ محيي الدين أحمد بن الحسين بن تمام.

وفي الريِّ وجد بيمارستان، وعمل فيه الرازي صاحب كتاب "الحاوي"، وهناك بيمارستان محمد الفاتح الذي أنشأه الفاتح بالقسطنطينية.

وفي بلاد العراق: بيمارستان بغداد الذي أمر ببنائه هارون الرشيد، وسماه بيمارستان الرشيد، وقد تولى إدارته: ماسويه الخوزي، انتدبه الرشيد لذلك من جنديسابور، وتولَّى مراقبته جبرائيل بن بختيشوع، وبيمارستان أبي الحسن علي بن عيسى الجراح، وبيمارستان بدر، غلام المعتضد بالله تعالى، أنشأه من ماله الخاص، وكذلك علي بن عيسى أنشأه من ماله الخاص.

وبيمارستان السيدة أم المقتدر التي توفيت عام (321ه)، وقد تولى رعايته الطبيبُ سعيد بن سنان بن ثابت.

والبيمارستان المقتدري؛ وذلك أن سنان بن ثابت بن قرة أشار على الخليفة المقتدر بالله أن يبني مستشفى للمرضى وتسمى باسمه، ومن الأطباء الذين علموا فيه: جبرائيل بن بختيشوع، ويوسف الواسطي.

وبيمارستان ابن الفرات وزير المقتدر، وبيمارستان أبي الحسن بجكم؛ الذي توفي عام (329ه).

والبيمارستان العضدي: أنشأه عضد الدولة البُوَيهي عام (732ه)، وعين فيه الأطباء والخدم للعناية بالمرضى، ومن الأطباء الذين عملوا فيه: جبرائيل بن عبدالله بن بختيشوع ونظيف الرومي، وأبو الحسن علي بن بكس، وأبو يعقوب الأهوازي، وأبو الحسن بن كشكرايا، وأمين الدولة بن التلميذ، وجمال الدين أبو الغنايم سعيد بن هبة الله بن أثردي، وأبو الفرج بن الطيب.

ومن البيمارستانات بالعراق: البيمارستان الفاروقي، وبيمارستان الموصل الذي بناه الأمير مجاهد قايماز، نائب قلعة الموصل عام (572ه).

وفي بلاد المغرب والأندلس:
كان لوصولِ التراث العلمي الطبي عند الأمم القديمة إلى الأمة العربيةِ عن طريق الفتوحات الإسلامية - أثرٌ كبير في تطوير الطب في الدولة الإسلامية، فنبغ عدد كبير من الأطباء في مختلف العصور والبلدان:
ففي "قرطبة" ولد رائد علم الجراحة الطبية أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي عام (936م)، وكان مِن أعظم الأطباء الذين ساهموا بعلمهم في النهضة الطبية، واعتبره علماء الشرق والغرب أستاذَ علم الجراحة، فهو أول مَن جعل الجراحة علمًا حقيقيًّا، وكان له الفضل في تلخيص جميع المعارف الجراحية في عصره.

وفي مدينة "إشبيلية" من بلاد الأندلس برز أبو العلاء زهر بن عبدالملك بن محمد بن مروان بن زهر، المتوفى عام (525ه).
وفي مراكش نبغ أبو بكر محمد بن مروان بن زهر الحفيد، المتوفى عام (596ه).
وفي القيروان ولد أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد الجزار، أحد مفاخر بلاد تونس والمغرب العربي والعالم الإسلامي.

وفي هذه البلدان تتابع إنشاء المستشفيات، وكانت تُعرف "بالبيمارستانات"، وكثر عددُها، ويذكر أن قرطبة وحدَها كان فيها خمسون مستشفى.

وبالمغرب الأقصى بيمارستان مراكش، الذي بناه المنصور أبو يوسف، وكان كل يوم جمعة بعد الصلاة يخرج ويذهب إلى المرضى، ويسألهم عن أحوالهم، وما زال مستمرًّا على هذا حتى توفي عام (595ه).

وفي تونس:
بيمارستان "تونس": ومن الأطباء الذين عمِلوا فيه الطبيب محمد الشريف الحسني الزكراوي، المتوفى عام (874 ه).
ومن بيمارستانات بلاد الأندلس أيضًا، بيمارستان "غرناطة" الذي بدأ السلطان محمد الخامس في بنائه عام (767 ه).

وفي مصر:
بيمارستان زُقاق القناديل، من أزقَّة فسطاط مصر، وبيمارستان المعافر في حي المعافر بالفسطاط قرب القرافية، بناه الفتح بن خان في أيام الخليفة المتوكل على الله.

والبيمارستان العتيق: أنشأه أحمد بن طولون عام (259ه) في مدينة الفسطاط، وسمي أيضًا "المارستان الأعلى"، واعتبره بعض المؤرخين أولَ بيمارستان أنشئ في مصر، وأوقف عليه ابن طولون دخل بعض الأبنية، منها دُوره في الأساكفة، والقيسارية، وسوق الرقيق، وشرط ألا يعالج فيه "جندي ولا مملوك"، وجعل له حمَّامينِ: أحدهما للرجال والآخر للنساء، وأدخل ابن طولون في هذا البيمارستان ضروبًا من النظام، جعلته في مستوى أرقى المستشفيات في الوقت الحاضر، فكان إذا دخله مريض تنزع ثيابه، ويودع ما معه من المال عند أمين البيمارستان، وتقدم له ثياب خاصة من البيمارستان، وكان المرضى يتناولون الأدوية والأغذية مجانًا، ويظل المريض في البيمارستان حتى يتم شفاؤه، فيقدم له فرُّوج ورغيف، فإذا أكلهما أذن له بمغادرة البيمارستان، بعد أن تُرَد إليه ثيابه ونقوده.

وبلغ من عناية أحمد بن طولون بهذا البيمارستان أنه كان يتفقَّده بنفسه يومًا في كل أسبوع، كان في الغالب يوم الجمعة، فيطوف على خزائن الأدوية، ويتفقَّد أعمال الأطباء، ويشرف على سائر المرضى، ويعمل على مواساتهم وإدخال السرور عليهم، بما في ذلك المحبوسين من المجانين، حتى غافله في يوم أحدهم ورماه برمانة كادت تقضي على ابن طولون، فلم يعاود البيمارستان بعد ذلك.

ولعلَّ أشهر البيمارستانات في العصرين الأيوبي والمملوكي، تلك التي أُنشئت في عهد كل من صلاح الدين الأيوبي، والمنصور قلاوون، فقد افتتح السلطان صلاح الدين الأيوبي ثلاثة بيمارستانات:
الأول في إحدى قاعات القصر الفاطمي الكبير، وهو البيمارستان العتيق.
كما أمر بإعادة فتح مارستان الفسطاط القديم.
وفي أثناء زيارته للإسكندرية عام (577 ه/ 1182م) أمر بإقامة مدرسة، وألحق بها بيمارستانًا.
وتولَّى الإنفاق على هذه البيمارستانات ديوانُ الأحباس (الأوقاف)، على اعتبار أن الرعاية الصحية في ذلك العهد كانت من أعمال البر والخير، أكثر منها من مهامِّ الدولة الحاكمة.

أما في العصر المملوكي، فمِن أشهر البيمارستانات التي أُنشِئت في ذلك العهد، وذاع صِيتها في أنحاء مصر وخارجها، وحَظِيت برعاية سلاطين المماليك، وأمرائهم، البيمارستان المنصوري الذي أنشأه الملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي، وذلك في موضع قاعة ست الملك ابنة الملك العزيز بالله الخليفة الفاطمي، والتي عُرِفت فيما بعد باسم دار الأمير فخر الدين جهاركس، ثم دار موسك، ثم عُرفت بالدار القطبية، نسبة إلى الملك المفضل قطب الدين أحمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فقد ظلت في ورثته حتى أخذها السلطان قلاوون من ابنة الملك العادل مؤنسة خاتون، وعوَّضها عن ذلك بقصر الزمرد برحبة باب العيد، في 18 ربيع الأول (682 ه/ 1283م)، ورسم السلطان بعمارتها مارستان وقُبَّة ومدرسة، وتولَّى الإشراف على هذه العمارة الأمير علم الدين سنجر بن عبدالله الشجاعي، فأبقى القاعة على حالها، وجعلها مارستان[4].

وتجدر الإشارة إلى أن الأطباء المسلمين قاموا بوضع مؤلَّفات خاصة بتشييد البيمارستانات، وبيان نظام العمل بها، وطرق إدارتها، ولعلَّ أشهر هذه المؤلفات: كتاب "صفات البيمارستان" لأبي بكر الرازي الطبيب البغدادي (ت 320ه/ 932م)، وقد سجَّل فيه ما كان يلاحظه من أحوال المرضى الذين كانوا يُعالَجون تحت يدَيْه في البيمارستان الذي كان يشرف عليه ببغداد في عهد الخليفة المعتضد (279/ 289 ه - 892/ 901م).

ثانيًا في مجال الصيدلة:
أ- بالإضافة ما تقدَّمت الإشارة إليه من اهتمام الصيادلة والأطباء المسلمين بتحضير الأدوية المفرَدة والمركبة، وأنهم قد عرَّفوا الأدوية المفردة بالعقاقير الأصلية، أما الأدوية المركبة فسموها الأقرباذين، وقد أشاروا في مؤلفاتهم إلى وسائل تحضير هذه الأدوية؛ مثل: (الطبخ، والنقع، والسحق، والدق، والإحراق "التحميص"، والتبريد، والغربلة)، وغير ذلك.

ب - ابتكار المعالجة المعتمدة على الكيمياء الطبية؛ حيث لجأ الأطباء والصيادلة إلى إثارة تفاعل كيميائي في جسم المريض يحدثه دواء معين، ويعد الرازي رائد هذا الاتجاه.

ج - إجراء البحوث والاختبارات على الأدوية قبل استخدامها؛ لمعرفة خصائصها، ومدى صلاحيتها وتأثيرها، وآثارها الجانبية، وقوتها الشفائية.

ويعني هذا أن الأطباء والصيادلة المسلِمين قد اعتمدوا على التجرِبة أساسًا لاختبار الأدوية ومعرفة خصائصها، بل كانت التجرِبة هي الطريقة الوحيدة لتحضير الأدوية المركبة.

د - إنشاء الصيدليات العامة والخاصة؛ ففي بغداد أُنشئتْ أول صيدلية سنة (149ه - 766م) في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور، وهناك كذلك الصيدليات المتنقلة التي ألحقت بالبيمارستانات المتنقلة المصاحبة للجيوش أثناء المعارك الحربية، أو تلك التي كانت تَجُوب المناطق النائية والسجون أثناء انتشار الأمراض والأوبئة.

ه - إخضاع مهنة الصيدلة لرقابة الدولة وتفتيش حوانيتها بشكل دَوْري، كما اقتضت المصلحة العامة فرض امتحان، ومنح ترخيص بمزاولة مهنة الصيدلة لكل مَن يريد الاشتغال بها، كما كان الحال مع الأطباء[5].

[1] د/ طه عبدالمقصود: الحضارة الإسلامية، ص (216، 217).

[2] المرجع السابق، ص (218، 219).

[3] د/ أحمد عوف عبدالرحمن: الأوقاف والحضارة الطبية الإسلامية، ص (69، 70).

[4] د/ أحمد عوف عبدالرحمن: الأوقاف والحضارة الطبية الإسلامية، ص (80 - 88).

[5] د/ طه عبدالمقصود: الحضارة الإسلامية، ص (234، 235).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #98  
قديم 13-12-2022, 04:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي أثر الطب الإسلامي في الحضارة الإنسانية

أثر الطب الإسلامي في الحضارة الإنسانية
أ. د. عبدالحليم عويس


لكي ندرك الأثر الحضاري على أوروبا في الطب الإسلامي نورد هنا قصة طبيب (ريتشارد) قلب الأسد، الذي كان يُعالَج بالوسائل البدائية لتخرج منه الجن، وكاد يموت لولا أن أرسَل إليه عدوُّه صلاح الدين الأيوبي - بدافع من دينه وإنسانيته وفروسيته - طبيبَه الخاص ليعالجه بالعقاقير، ويصل به إلى درجة الشفاء.

كما أن صفحات الحروب الصليبية تضمُّ قصصًا طبية تدل على أن الصليبين لم يكن لدى أطبائهم إلا ضرب المريض أو قطع عضوه المريض، وغالبًا ما يموت المريض أثناء العلاج نظرًا لعدم استعمالهم التخدير.

ونظن أنَّ الحروب الصليبية في فتراتها - سلمِها وحربها - الطويلة، بالإضافة إلى الأندلس والترجمة، كانت أهم معابر الطب العربي الإسلامي إلى أوروبا وغيرها.

لقد تُرجمت الآثار الطبية للزهراوي؛ خلف بن عباس (ت 1107هـ) الأندلسي، الذي عاش في عصر الخليفة عبدالرحمن الثالث، وابنه الحكم الثاني (300 - 366هـ)، إلى اللغات الأوروبية، ودرست في معاهد الطب، كما تأثر به الجراحون واقتبسوا عنه، معترفين له باختراعاته لآلات جراحية عديدة.

قال ابن أبي أصيبعة عن الزهراوي في طبقات الأطباء: (كان طبيبًا فاضلًا، خبيرًا بالأدوية المفردة والمركبة، جيد العلاج، ومع أنه اشتَهَر خصوصًا بالجراحة؛ فإننا نراه قد جمع بين فروع الطب والصناعة، وكان فيها جميعًا ماهرًا؛ فصحَّ فيه القول: هو أشهر أطباء العرب الثلاثة، وصِنْوَاه: الرازي وابن سينا)[1].

وإلى جانب هذا التأثير في الطب ثَم تأثير آخر؛ فقد تُرجم الكثير من الكتب الطبية، فترجم (بارافاكي) "Bravaci" كتاب التيسير للزهراوي سنة 1381م، وطُبع طبعات عدة، وفي الوقت الذي كان العرب فيه يمارسون الجراحة للماء الأزرق في العين، كانت مقرِّرات الجراحة ممنوعة في الغرب حتى عام 1163م، وقد دخلت المناهج بعد أن توافرت لديهم تراجم الكتب الطبية العربية، وبعد خبرة عملية في الطب الإسلامي إلى جانب التدريب العملي في المستشفيات، وكانت المدارس العربية في مراكز يقصدها طلبة العلم من كل أنحاء العالم؛ فأوروبا - بطبيعة الأمور - مدينة للعرب في الحقل العلمي.

وقد تخصَّص عدد من المترجمين في ترجمة الكتب الطبية[2]؛ مثل: قسطنطين الإغريقي، وجيرارد الكرموني، وأسطفان البيزاني الأنطاكي الذي ترجم خلاصة كتاب علي عباس، وظهرت أعداد مِن المدارس الطبية؛ مثل مدرسة (مونبلييه) "Montpelier" عام 1137م، وكان فيها عدد من المعلِّمين العرب حتى أوائل القرن الثالث عشر الميلادي، وارتبطَتْ أسماؤهم بالطب العربي وتدريسه في جنوب إسبانيا؛ حيث انتقل عن طريق هذه الدراسة الكثيرُ من الطب العربي إلى أوروبا[3].

وقد ثبت لدَى كثير من المنصِفين - من مستشرقين وعلماء - أن للمسلمين فضلًا كبيرًا في إنقاذ الطب من الضياع، وثبت لديهم أن أوروبا إنما تقدَّمت بالإضافات الكبيرة التي أضافها المسلمون للطب، والتي نُقلت إلى أوروبا، وكان لها دورها في تقدم المدنية الأوروبية، ويؤيِّد هذا (كمستون) "Camesten" في قوله: (إنه لو لم يكن للمسلمين غير هذا الفضل في الإنقاذ لكفاهم خدمة وفخرًا (أي في الإنقاذ من الضياع)، لقد رفع المسلمون شأن الطب، ولهم الفضل في جعل الجراحة قسمًا منفصلًا عنه، وفي إنشاء المستشفيات والتنقُّل فيها، وفي التصريح الشرعي لممارسة الطب والصيدلة.

وكذلك في الصيدلة طوَّروها وخدموا أسسها، وهم أول مَن أنشأ مدارسها، واستنبطوا أنواعًا من العقاقير، وامتازوا في معرفة خصائصها وكيفية استخدامها لمداواة المرضى، كما أعطوا من النبات موادَّ كثيرةً للطب والصيدلة[4].

يقول الدكتور غوستاف لوبون "Gustav Lebon": (إن أهم تقدم للعرب في عالم الطب هو ما كان في الجراحة وعلم الأمراض وأنواع الأدوية والصيدلة...، والطب مَدِين للعرب بعقاقير كثيرة...، والطب مَدِين - كذلك - بطرق طريفة في المداواة، عاد إليها على أنها اكتشافات حديثة، بعد أن نسيت زمنًا طويلًا؛ وعلم الجراحة مَدين للعرب أيضًا بكثير من مبتكراته الأساسية، وظلَّت كتبهم فيه مرجعًا للدراسة في كليات الطب إلى وقت قريب جدًّا)[5].

[1] محمد أمين فرشوخ: موسوعة عباقرة الإسلام (1/ 48 - 50).

[2] غنيمة: ميادين الحضارة الإسلامية (1/ 352).

[3] ينظر في موضوع الطب العربي وأثره في الغرب في الحضارة الإسلامية: عباس محمود العقاد: مرجع سابق ص (33 - 42).

[4] قدري حافظ طوقان: العلوم عند العرب ص (9).

[5] حضارة العرب (ترجمة عادل زعيتر) ص (488)، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #99  
قديم 13-12-2022, 04:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

طريقة معرفة العرب والمسلمين للمواقيت والشهور والأيام والفصول
د. ثامر عبدالمهدي محمود حتاملة


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه اجمعين، وبعد؛
فإنَّ معرفة الأزمان والأوقات مما يطلبه الإنسان، لتعيين ابتداء يومه وانتهائه، ومعرفة أوقات عبادته، ومن نِعمة الله تعالى في زماننا سهولة معرفة الاوقات والشهور والأيام، ولكن قد يسأل سائل: كيف كان العرب يعرفون الاوقات زمن جاهليتهم، وبعد الإسلام؟

أولاً: كان العرب قبل الإسلام لا يهتمون كثيراً بالوقت سوى بمعرفة بداية اليوم ونهايته من خلال شروق الشمس ومن خلال بزوغ الفجر، ثم غروبها، وكانوا يعرفون الأشهر من خلال حركة القمر ومزاولته للشمس، وكانت الأشهر معروفة عندهم، للحج والتجارة والعمرة.

وقد استخدم العرب عبر فترات تاريخهم الطويل قبل الإسلام أسماء للأشهر القمرية التي كانوا يعملون بها وقتئذ، إلى أن تغيرت تلك الأسماء وتوحدت عند العرب لتأخذ صورتها المعروفة عليها منذ أواخر القرن الخامس الميلادي – في عهد كلاب – الجد الخامس للرسول محمد عليه الصلاة والسلام، كما استخدم العرب في جاهليتهم الأشهر الشمسية في بعض فتراتهم ومناطقهم[1].

وكان العرب يعرفون فصول السنة الأربعة وأوقاتها من خلال معرفتهم بعلم الفلك والنجوم ومطالعها، وإلى هذا أشار ابن قتيبة (ت276ه) حيث قال: (والفَلَك): مَدَارُ النجوم الذي يضمها قال الله عز و جل: ﴿ وَكُلٌّ في فَلَك يَسْبَحُون ﴾ سَمَّاه فَلَكاً لاستدارته، وللفَلَكِ قُطْبَانِ: قطبٌ في الشمال وقطبٌ في الجنوب متقابلان.

(ومَجَرَّة النجوم) سميت مجرَّة لأنها كائن الـمَجَرِّ ويقال: هي شَرَج السماء ويقال: باب السماء..
(وبُرُوج السماء) واحدها بُرْج وأصل البروج الحصون والقصور قال الله تبارك وتعالى ﴿ وَلَوْ كْنْتُمْ فيِ بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ وأسماؤها: الْحَمْلُ والثَّوْر والْجَوْزاء والسَّرْطان والأسد والسُّنْبُلة والميزان والعَقْرب والقَوْس والْجَدْي والدَّلْو والْحُوت

(ومنازل القمر) ثمانية وعشرون منزلاً ينزل القمر كلَّ ليلة بمنزل منها قال تعالى: ﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كالْعُرْجَونِ الْقَدِيم ﴾ (يس:39)، والعرب تزعم أن الأنواء لها وتسميها نجوم الأخْذِ لأن القمر يأخذ كل ليلة في منزل منها.

والفصول أربَعَةُ:
1- الرَّبيعُ وهو عند الناس الْخَريف سمَّتْه ربيعاً لأن أول المطر يكون فيه، وسَمَّاه الناس خريفاً لأن الثمار تُخْتَرَف فيه، ودخوله عند حلول الشمس برأس الميزان ونجومه من هذه المنازل: الغَفْر والزُّباني والإكليل والقَلْب والشَّوْلة والنَّعَائم والبَلْدة.
2- ثم الشتاء: ودخوله عند حلول الشمس برأس الْجَدْي ونجومه: سَعْد الذَّابِح وسَعْدُ بُلَعَ وسَعْدُ السعود وسَعْد الأخْبِيةَ وفَرْغ الدّلو المقدَّم وفرغ الدلو المؤخرّ والرشاء.
3- ثم الصيف: ودخوله عند حلول الشمس برأس الْحَمَل - وهو عند الناس الربيع - ونجومه: السرَطان والبُطَين والثُّرَيَّا والدّبَرَان والَهقْعة والهَنْعة والذَّراع.
4- القَيظ: وهو عند الناس الصيف ودخوله عند حلول الشمس برأس السّرَطان ونجومه: النّثْرة والطَّرْف والْجَبْهةُ والزُّبْرَة والصَّرْفة والعَوَّاء والسِّماك الأعزل.

ومعنى: "النّوْء" سقوطُ نجمٍ منها في المغرب مع الفجر وطلوعُ آخر يقابله في المشرق من ساعته وإنما سمى نَوْءا لأنه إذا سقط الغارب ناء الطالع يَنُوء نَوْءا، وذلك النهوض هو النَّوُء وكل ناهض بثِقْلٍ فقد ناء به وبعضهم يجعل النوء السقوط كأنه من الأضداد.

وسقوط كل نجم منها في ثلاثَةَ عشرَ يوماً وانقضاء الثمانية والعشرون مع انقضاء السنة ثم يرجع الأمر إلى النجم الأول في استئناف السنة المُقْبلة وكانوا يقولون - إذا سقط منها نجم وطلع آخر وكان عند ذلك مطر أو ريح أو حَرٌّ أو برد نسبوه إلى الساقط إلى أن يسقط الذي بعده فإن سقط ولم يكن معه مطر قيل: (قد خَوَى نجم كذا) (وقد أخْوَى)[2].

وبعد مجيء الإسلام بدأ الاهتمام بالأوقات أكثر وكانوا يستدلون على الصلوات بالنظر في ظل الأشياء، (كما هو مشهور في كتب الفقه) وبعد مجيء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه أوقات الصلوات حددها النبي صلى الله عليه وسلم وعليها فقد روى الشيخان عن سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (اشْهَدْ مَعَنَا الصَّلاَةَ، فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ بِغَلَسٍ فَصَلَّى الصُّبْحَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالظُّهْرِ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ عَنْ بَطْنِ السَّمَاءِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعَصْرِ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْمَغْرِبِ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعِشَاءِ حِينَ وَقَعَ الشَّفَقُ ثُمَّ أَمَرَهُ الْغَدَ فَنَوَّرَ بِالصُّبْحِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالظُّهْرِ فَأَبْرَدَ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعَصْرِ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ لَمْ تُخَالِطْهَا صُفْرَةٌ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الشَّفَقُ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعِشَاءِ عِنْدَ ذَهَابِ ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ بَعْضِهِ - شَكَّ حَرَمِىٌّ - فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ السَّائِلُ مَا بَيْنَ مَا رَأَيْتَ وَقْتٌ)[3].
[الغَلَس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح/ نوَّر: أسفر من النور وهو الإضاءة/ وَجَبَت: سقطت عند وقت الغروب].

وعلى هذه المواقيت سار المسلمون وتواترت مواقيت الصلوات وكيفية معرفة بدايتها ونهايتها.
وكانت معرفة العرب لبداية الشهر ونهايته من خلال القمر ومراحله السبعة، حيث تنتجُ هذهِ المراحل من خلال دورانِ القمر حولَ الأرض في الأشهر العربية دورة كاملة، وفي هذا قال تعالى: ﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴾ (يس: 39)، وقال تعالى: ﴿ يسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ (البقرة:189)، ومراحل القمر هي: ابتداء من تولده باسم الهلال، ثم التربيع الأول، ثم الأحدب الاول، ثم البدر، ثم الأحدب الثاني، ثم التربيع الثاني، ثم الهلال الثاني، وانتهاء بالـمُحاق.

وبعدها بدأت صناعة الساعات في التاريخ الإسلامي.
فبدأت صناعة الساعات في التاريخ الإسلامي مبكراً، حيث وصل الأمر في عهد هارون الرشيد بصناعة ساعة مشهورة في التاريخ –أي إنَّ صناعة الساعات كانت معروفة في زمنه-، وهي من الساعات المائية المشهورة التي صنعها العرب حيث أهداها الخليفة هارون الرشيد (توفي 193 هجري) إلى الإمبراطور شارلمان ملك فرنسا وكانت بسبب دقتها وحسن زخرفتها إحدى عجائب الصناعة وكانت مصنوعة من البرونز المطعم بالذهب وكان بمينائها اثنا عشر بابا صغيرا يمثل كل منها ساعة من الساعات بحيث ينفتح كل باب إذا حلت الساعة ويصحب كل ذلك مره سقوط كرات من النحاس الأصفر على قرص من النحاس الرقيق بحيث يدل عدد الكرات على الساعة التي حلت بها من النهار أو الليل.[4]

ومن العلماء الذين قاموا بدراسة متعمقة في اختراع الساعات وتطويرها "ثابت بن قرة" (توفي ٢٨٨هجري)[5] ومن أوائل أعماله تأليف كتاب عن المزولة الشمسية التي كانت تستخدم لتعيين مواقيت الصلاة.

كذلك إبراهيم بن سنان بن ثابت بن قرة (المتوفى سنة335هـ) حيث له كتب ومؤلفات كثيرة في معرفة الاوقات والساعات، من مؤلفاته: (رسالة في الاسطرلاب) و (مقالة في رسم القطوع الثلاثة) و (رسالة في وصف المعاني المستخرجة في الهندسة وعلم النجوم) و (مقالة في طريق التحليل والتركيب) في الهندسة، و(كتاب في حركات الشمس) رسالة، و(كتاب في مساحة قطع المخروط المكافي) رسالة، و(كتاب في الدوائر المتماسة) ست ورقات، و(كتاب في أصول الهندسة) خمس أوراق[6].

كما قام "أبناء موسى بن شاكر" الثلاثة المشهورون باسم بني موسى بوضع بحث في الحيل الميكانيكية في الآلات الذاتية الحركة، وأبو يوسف الكندي الذي عاش في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) من أوائل علماء المسلمين الذين تناولوا عمل الساعات في كتاباتهم فله رسالة خطيه من ست صفحات محفوظة في المكتبة البودليه في أكسفورد برقم 663تحت عنوان "رسالة في عمل الساعات على صحيفة تنصب على سطح مواز للأفق بالخطوط خبر من غير برهان".

[1] انظر : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي، ج1 ، 5104 / مروج الذهب، للمسعودي، ج1،ص 249 .

[2] للمزيد ينظر: أدب الكاتب، أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الكوفي المروري الدينوري، المكتبة التجارية، مصر، ط4، ص68-69.

[3] صحيح البخاري، تحقيق مصطفى البغا، كتاب مواقيت الصلاة، باب قوله تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا)، حديث499/ صحيح مسلم، كتاب المساجد، باب مواقيت الصلوات الخمس، حديث1423.

[4] ينظر: قصة الحضارة، وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981م)، ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين، دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1408 هـ - 1988م،ج13، ص94.

[5] قال عنه الذهبي: وَكَانَ يَتَوَقَّدُ ذكَاءً، فَبَرَعَ فِي عِلم الأَوَائِل، وَصَارَ مُنَجِّمَ المُعْتَضِد، فَكَانَ يَجلسُ مَعَ الخَلِيْفَةِ، وَوَزِيْرُه وَاقفٌ، وَنَال مِنَ الرِّئاسَة وَالأَمْوَال فُنوناً، ينظر: سير أعلام النبلاء، ج25، ص491.

[6] ينظر: الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، ط15، ج1، ص42.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #100  
قديم 18-12-2022, 11:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

كتاب "الفلاحة" لابن بصال الأندلسي


فاطمة حافظ

شهدت الأندلس في عصرها الإسلامي نهضة زراعية شاملة عدد جوانبها ابن المقري في كتابه (نفح الطيب)، فذكر أن أهلها برعوا في استنباط المياه، وغرس النباتات، واختيار أجناس الفواكه، وتحسين البساتين بأنواع الخضر والزهر، وغرس الأشجار وتشذيبها “فهم أحكم الناس لأسباب الزراعة” كما وصفهم. وما ذهب إليه المقري ليس محض مبالغة وتعضده الدراسات الحديثة حيث يفترض فيليب حتى أن التقدم الزراعي كان من أمجاد أسبانيا المسلمة الحقيقية، ويشاركه الرأي جوزيف ماكيب الذي يقرر أن العرب لم يتركوا بها فدانا واحدا غير محروث أو مزروع عدا الغابات والجبال. وفي طليطلة ظهر كتاب “الفلاحة” لابن بصال الأندلسي، الذي كرس جهوده على الزراعة، وطبقت شهرته الآفاق وصارت أساسا لمن أتى بعده ممن كتبوا في علوم الزراعة.
بلغت نهضة الأندلس الزراعية أوجها خلال القرنين الخامس والسادس في عهد ملوك الطوائف ثم الموحدين، وتركزت في المدن الكبرى: قرطبة وطليطلة وإشبيلية وغرناطة والمرية، حيث عاش عدد من العلماء الزراعيين الذين طبقت شهرتهم الآفاق؛ ففي قرطبة اشتهر أبو القاسم الزهراوي الطبيب المعروف الذي وضع مختصرا في الفلاحة، وفي غرناطة ظهر محمد بن مالك التغنارى صاحب كتاب “زهرة البستان ونزهة الأذهان”، وفي أشبيلية ذاع صيت يحيى بن محمد العوام صاحب كتاب (الفلاحة الأندلسية) الذي طبع في سبع مجلدات، وأما طليطلة فعاش بها كل من ابن وافد صاحب (المجموع)، وظهر كتاب “الفلاحة” لابن بصال الأندلسي الذي كرس جهوده وقصرها على الزراعة، وطبقت شهرته الآفاق وصارت أساسا لمن أتى بعده ممن كتبوا في علوم الزراعة.
ابن بصال وكتابه الفلاحة

هو محمد بن إبراهيم بن بصال، ولد في طليطلة بالأندلس، ولا يعرف تاريخ ميلاده أو وفاته، لكن المصادر تتفق أنه كان من أهل القرن الخامس، وترجح دائرة المعارف الإسلامية أن وفاته كانت بقرطبة عام 499ه، وقد أدى فريضة الحج فارتحل من وطنه عبر صقلية ومصر وعاد محملا بالكثير من المعلومات عن نباتات الشرق وطرق الزراعة به.
نشأ ابن بصال في الوسط العلمي الزاخر الذي امتازت به طليطلة في عهد ملكها المأمون، ومن معاصريه ابن صاعد صاحب كتاب (طبقات الأمم)، وابن وافد الطبيب الشهير صاحب كتابي: (الأدوية المفردة) و(الفلاحة)، والزرقال العالم الزراعي والفلكي، ودخل في خدمة الخليفة المأمون وأشرف على بستانه الكبير، وكتب لأجله دراسة عن علم الزراعة أسماها “ديوان الفلاحة”، وله مختصر في ستة عشر بابا تحت عنوان (كتاب القصد والبيان)، وبعد استيلاء “الفونسو السادس” ملك قشتالة على طليطلة (٤٧٨ هـ/ ١٠٨٥ م)، انسحب ابن بصال إلى أشبيلية، إلى بلاط المعتمد حيث أقام له حديقة ملكية، واستقر بها لبضع سنوات ثم غادرها إلى قرطبة وكانت وفاته بها.
صدر كتاب “الفلاحة” لابن بصال الأندلسي لأول مرة مطبوعا ومحققا بتطوان المغربية عام 1955 عن معهد مولاي الحسن، حققه وترجمه إلى الإسبانية خوسي مارية بييكروسا الأستاذ بجامعة برشلونة وعاونه في التحقيق الأستاذ محمد عزيمان، وصدر الكتاب والترجمة معا في نحو أربعمائة صفحة، ولم يستطع المحققان تحديد عام تأليفه إذ لم يدون مصنفه تاريخ الانتهاء من تأليفه على عادة المصنفين التراثيين، وإنما اختتمه بحمد الله تعالى والصلاة على نبيه والترضي على آل بيته الأكرمين، ويفتقر الكتاب إلى وجود فهرس للمصطلحات العلمية وأسماء النباتات والبذور الواردة فيه، وهي الطريقة الحديثة المتبعة في التحقيق، ولا ندري لماذا لم يقم المحققان بإعداده تيسيرا على من أراد استخراج مادة أو مصطلح.
انتشر الكتاب انتشارا واسعا ونقلت عنه جميع المصنفات اللاحقة؛ فذكره أبو الخير الإشبيلي في كتابه (عمدة الطبيب)، ويظهر أنه اتصل بالبصال وجرت بينهما لقاءات ومكاتبات، ونقل عنه ابن العوام في كتاب (الفلاحة) وأشاد بالكتاب والتجارب العملية لمؤلفه، واعتمد عليه عثمان التوجيبي في أرجوزته المعنونة (إبداء الملاحة وإنهاء الرجاحة فى أصول صناعة الفلاحة) وأشاد به صاحب (نفح الطيب) واعتبره أبرع الزراعيين الأندلسيين، ولحاجة الأسبان إلى علم الزراعة قاموا بترجمته إلى اللغة القشتالية، وقد استعان الأستاذ بييكروسا بهذه الترجمة القديمة لأجل استكمال الفصول الناقصة من الكتاب في طبعته العربية.
خصائص الكتاب ومنهجه

لا يسع المتتبع لكتاب “الفلاحة” لابن بصال الأندلسي إلى أن يعجب بمصنفه العالم الكبير الذي يمكن أن يوضع في مصاف العلماء الذين أسهموا في تطور العلوم الزراعية، ولعله أول من حرر المعلومات الزراعية من الخرافات والأباطيل إذ كانت الزراعة فيما مضى ترتبط بالسحر والتنجيم، وجعلها ابن بصال ترتبط على البحث والتجربة العملية، وهو يمتاز عن سائر المؤلفات الأندلسية بكونه مستمدا من التجربة الذاتية والمشاهدة العيانية لمؤلفه إلى أقصى حد، وأنه جاء خلوا من النقل عن الأقدمين من يونان ورومان وبابليين أو كتابات المعاصرين له، لكن هذا لا يعني أنه لم يطالع ما كتبوه لكنه بنى كتابه على تجاربه الذاتية.
وحول هذا المعنى قالت دائرة المعارف الإسلامية أن: “الدراسة التي كتبها ابن بصال فريدة في أنها لا تتضمن أية إشارة إلى علماء الزراعة السابقين؛ ويبدو أنها اقتصرت على تجارب المؤلف الشخصية، الذى يعتبر أكثر المتخصصين العرب الأسبان أصالة وموضوعية”.
أما المحققان فيقولان “أن الكتاب يبقى ممتازا بطابعه الخاص ككتاب مدرسي مختصر ثمرة تجربة زراعية مباشرة”، ويضيفان ” لقد تجنب ابن بصال في كتابه جميع المسائل الثانوية البعيدة عن التطبيقات الزراعية العملية على العكس من كثير من الزراعيين العرب الذين لا نجد عندهم حدا واضحا، يفصل بين علم الزراعة الحقيقي وبين الطب والصيدلة والسحر والتنجيم… وهذه التجربة العملية المباشرة تصل في بعض الأحيان إلى عرض وجهات فيها إرهاص بالنظريات الزراعية الحديثة”.
ويتميز منهج ابن بصال بالترتيب الموضوعي، والإحكام فهو يخصص كتابه لدراسة زراعة النباتات والأراضي الملائمة لها والأسمدة والآبار وما يتصل بهما، ولذلك لا يتناول زراعة الحبوب البرية كالقمح والشعير، ولا يتطرق لتربية المواشي وعلاج أمراضها وهي موضوعات تحدث فيها ابن وافد وابن العوام وغيرهما من النباتيين، ويتسم أسلوبه بالاختصار والإيجاز وهذا يتسق مع كون الكتاب مختصرا لكتاب آخر.
موضوعات الكتاب

يقع كتاب (الفلاحة) في ستة عشر بابا تتفاوت في الطول والقصر، وهي على النحو التالي:
الباب الأول، في ذكر المياه وأصنافها وطبائعها وتأثيرها في النبات، وهو يقسمها إلى أربعة أنواع؛ مياه الأمطار، مياه الآبار ومياه العيون، مياه الأنهار، والباب الثاني في الأرض وأنواعها، وهو يقسمها إلى عشرة أصناف، ويبين طبائع كل صنف، وكيفية تمييز الأرض الجيدة والأرض الرديئة، والباب الثالث في ذكر السماد وأنواعه وطريقة استعمال كل نوع منه، ومما يسترعي الانتباه أن ابن بصال يحذر من استعمال روث الخنزير كسماد وربما يكون متأثرا في ذلك بالعقيدة الإسلامية، وفي الباب الرابع يتحدث عن اختيار الأرض وإصلاحها.
أما الفصل الخامس فهو فاتحة الفصول العملية، وهو طويل نسبيا إذ يضم 35 فصلا ويتحدث فيه عن “فن الغراسة” متناولا غرس الأشجار المختلفة والأمراض التي تعتريها، ويتناول الفصل السادس طرائق الغرس فيذكر طريقة ” الغراسة بالتكابيس” و”الغراسة بالملوخ” و”الغراسة بالنوى”، ويدرس الفصل السابع طرق تشذيب الأشجار، وكيفيتها، وتوقيتاتها.
والبابان الثامن والتاسع مخصصان لدراسة التلقيح الشجري، ويقوده هذا إلى دراسة أجناس الأشجار ويحصرها في: الأشجار ذوات الزيوت، والأشجار ذوات الأصماغ، والأشجار ذوات الألبان، والأشجار ذوات المياه، وهو يبين طبيعة كل جنس وأنواع الأشجار التي تندرج تحته، ويتوصل من ذلك إلى أنه لا ينبغي تلقيح شجرة إلا بشجرة من جنسها عدا بعض الاستثناءات المحدودة.
وأما الباب العاشر فهو مخصص لفن الزراعة وهو يتناول زراعة الحبوب والأقطان لكن كما يلاحظ المحققان أنه لا يتناول زراعة القمح والشعير لكنه يقصر حديثه عن الحبوب التي تزرع في البساتين كالأرز والحمص، وفي الباب الحادي عشر يتناول زراعة البذور المتخذة لإصلاح الأطعمة كالتوابل (كمون، كزبرة، ينسون…)، وفي الباب الثاني عشر يتناول زراعة النباتات الجذرية كالقرع والبطاطا والبطيخ والقثاء، وفي الباب الثالث عشر يدرس زراعة البقول ذوات الأصول كاللفت والجزر والفجل، وفي الفصل الرابع عشر يدرس زراعة البقول المختلفة، أما الفصل الخامس عشر فهو مخصص لزراعة الرياحين والأزهار كالورد والنرجس والبنفسج.
ويختتم الكتاب بالباب السادس عشر وهو جامع لأبحاث مختلفة تتعلق بالمعارف الزراعية، من قبيل مكافحة ديدان الأرض، وكيفية تخزين الثمار والأزهار، وكيفية اختيار المكان الملائم للآبار وتخزين المياه، وطرق صنع المصنب وهو نوع من المربى، وما إلى ذلك من أمور يحتاجها الزراع.

تبين هذه الموضوعات جانبا من أهمية الكتاب الذي يبين المحصولات الأندلسية وطرائق الزراعة، أما الجانب الآخر فهو اشتماله على مصطلحات عربية تفيد الاختصاصيين الزراعيين في زمننا الحاضر ويمكن استخدامها في مقابل المصطلحات الأجنبية، كما يعتقد الأستاذ كرد علي، يضاف إلى ما سبق أنه يقدم لنا أسماء عدد كبير من آلات الزراعة الأندلسية ووظائفها، وهي تمثل جانبا خفيا من جوانب النهضة التقنية العربية.
وفي الأخير، يمثل كتاب الفلاحة لابن بصال يمثل مصدرا مهما ومرجعا لا غنى عنه لمن يريد الوقوف على البحوث العلمية الزراعية عند العرب والمسلمين.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 223.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 217.90 كيلو بايت... تم توفير 6.06 كيلو بايت...بمعدل (2.71%)]