نفحة من عطر جدتي - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         كلام جرايد د حسام عقل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 17 - عددالزوار : 18 )           »          تأمل في قوله تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره... } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          بيان معجزة القرآن بعظيم أثره وتنوع أدلته وهداياته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          { ويحذركم الله نفسه } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          رمضان والسباق نحو دار السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          جدول لآحلى الأكلات والوصفات على سفرتك يوميا فى رمضان . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 770 )           »          منيو إفطار 19 رمضان.. طريقة عمل الممبار بطعم شهى ولذيذ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          جددي منزلك قبل العيد.. 8 طرق بسيطة لتجديد غرفة المعيشة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر > من بوح قلمي

من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28-11-2022, 12:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,653
الدولة : Egypt
افتراضي نفحة من عطر جدتي

نفحة من عطر جدتي
نورا عبدالغني عيتاني



كلُّ مشهدٍ نابضٍ مزهرٍ يذكّرُني بها.. كلُّ طيفٍ خفيفٍ لطيفٍ مُفعَمٍ بالصدقِ وبالطهارةِ والجمال، بالنقاءِ وبالجلال!... كبحيرةٍ ساكنةٍ صافية لا انتهاء لها، تترسّخُ صورتُها في عمقِ القلبِ والروحِ والذاكرة، أو قل كبحرٍ لا حدود له ولا نهايةَ، أراها تموجُ بداخلِ نفسيَ الشاردةِ الهادرةِ المشتاقةِ للقياها.. بهدوئها، بحنانِها، بحكمتِها، بطيبتِها، بصبرِها، بسكونِها اللافتِ الباهرِ الذي يطفو على سطح الأماكن!.. لطالما كانت سفينتي التي أبحرُ بها عبر الزمن، وشراع الطمأنينة الآمنِ الذي يردُّ البرد عن دربي كلّما هبّت عليَّ عاصفةٌ هوجاء ثائرة، أو استبدّت بيَ الريحُ العاتيةُ وسطَ أمواجِ الحياة..

كانت مختلفة، متميّزة، بل فريدةً من نوعها! إنسانة لا يمكن أن تتكرّر في العمرِ مرّتين... بصلاتها، وخشوعِها.. بكلامِها وسكوتها.. وبصمتِها البهيِّ الرائق حين تنثرهُ النسماتُ على سطحِ الأماكن.. لا زلتُ أسمعُ وقع خطواتها الخفيفةِ المتراتبة، تقرع بلطفٍ على درجات السلّمِ الحجريِّ المتعرّج، وهيَ تتسلّقهُ صباحًا لتنشر الغسيلَ على السطحِ بنشاطِ صبيّةٍ لا زالت في عمرِ الزهر.. أسمعُ الصوتَ فأعرف أنّها هي، ومن سواها يحفرُ بخطواتهِ ذلك المعنى الرحيبِ على جدرانِ قلبٍ تعلّق بها وأحبَّ تفاصيلَها واجتباها؟...

هكذا هي، حين تفرح وحين تغضب، هادئة باسمةٌ طيّبة، لا شيء يقدرُ أن يردعها عن نشرِ روحها الحلوةِ العذبةِ الرقراقةِ بين قلوبِ الناس، وبينِ أفئدةٍ تعشقُ جلستَها وحديثِها السهلِ الممتنع.. برنّة أساورها الذهبيّة، كانت تغلي القهوةَ صباحًا لأمّي وخالاتي، وتغرسُ عبيرها الزاكي في صميمِ أرواحٍ ألفتها واعتادت عليها..

منذ ذلك الحين عشقتُ رائحة القهوة تفوحُ من بين يديها لتنسابَ وتتسرّب إلى صباحاتٍ تعبقُ بالمسكِ وتتضوّعُ بالعنبر.. وبرغم أنّي لا أحبُّ القهوة ولا أشتهيها؛ إلاّ أنّي ما زلتُ أحبُّ رائحتها لأنّها تذكّرني بها فحسب، وتأخذني لأيّامٍ عتيقةٍ من زمنٍ سحريٍّ أصيلٍ ولّى، ولمّا يولِّ عن خافقي أثره، ويا ليت الزمان يرجعه..

كنتُ أحبُّ البقاءَ في دارِها لأطول مدّةٍ ممكنة.. ومن لا يحبُّ ذلك؟ فكلُّ العائلة، بل الحيّ كلّه، برجالهِ ونسائِه، بصغارِه وكباره، على اختلاف ألوانهم وطوائفهم كانوا يجلّونها ويوقّرونها ويحسبونَ لها ألفَ حساب.. فهذه هي "الحاجّةُ إحسان"، ومن لا يعرفها؟.. وحسبُها أنّ اسمها يدلُّ عليها.. هي الإحسانُ إذا ما الإحسانُ تجسّدَ وتجلّى.. لم تكن ميسورة الحال، لكنّها كانت غنيّة القلب، مفعَمٌ قلبُها بنورِ الإيمان وشمائلِ الخيرِ وورعِ التقوى، فإذا جالستها شعرتَ أنّك بين يدَي شيخٍ جليلٍ زاهد، أو راهبٍ متنسّكٍ لم يمنعه تنّسكهُ وانقطاعهُ إلى الطبيعةِ عن بثّ عبيرهِ بين الناسِ والإحسانِ إليهم بسخاءِ ثمارٍ من جنى يديهِ..

يا لمتعتي حين كانت تأخذني معها إلى السوق، حيث تمرّ أولا على بائع الدجاج، تعطيه بقايا الخبز البائت ليطعم دجاجاته المسكينة كما كانت تراها دومًا بقلبها الشفيق الرحوم، ثم تعرّج على دكّانةِ أبي غازي بائع الخضار، وما يليها، وسط ما يتخلّل سيرها من وابل متدافعٍ من التحايا والسلامات. ولفرطِ براءتي وصغر سنّي، كنتُ أتعجّب في حينها وأتساءل، لماذا الناسُ يحبّون جدّتي إلى هذا الحدّ، وكيف، وهي التي تغايرهم بالطائفةِ وتختلفُ عنهم بالمعتقَد؟ فهمتُ بعدَها أنّ اللهَ قد زرع لها ودًّا في قلوبِ العباد، فصاروا يرونها بتجرّدٍ عن كلّ طائفةٍ أو انتماء، بعد أن صار الإسلامُ لها خلُقًا وطبعًا وحياةً...

حتّى قطط الحيّ كانت تحبُّها وتحبُّ زيارتَها.. تتجمّعُ عند باب الدار، ثمّ تتسلّلُ إليه واحدةً تلو أخرى، لتفترش السلّمَ ليل نهار.. وقد تغفو على العتبةِ حينَ تنعكسُ أشعّة الشمس المرسومة تحتَ الشبّاك، متظلّلةً بفيءٍ من أحواضِ الزرع، لترسمَ جميعها معًا ظلالها الرائعةِ على أرضِ الجنينة الساحرة.. تفتحُ الهرّةُ عينها تارةً، وتارةً أخرى تغمضُها، بسكونٍ لا بدّ أن يصيبكَ بالنعاس، ولا بدّ لك من مصافحتِه كلّ يومٍ عند مرورك بدارِ جدّتي واجتيازِ عتبةِ السكينةِ المستتبّة المتمسّكةِ بجذورِ المكان، حيثُ النعال كلها مصفوفة بترتيب لا يجاوز حده ولا يجرأ على تجاوز العتبة أو مس طرف طهرها.. وقد تغفو هرّة على إحدى دواوين الدار، ولا تردعُها جدّتي رغم هوسِها بالترتيب وبالنظافة..

وكم كانت فرحتي كبيرة حين كانت تطلبُ منّي البقاء عندها، حين أزورها مع أمّي، لأساعدَها في تنظيف غرفتها الرائعةِ الصغيرةِ .. كانت رائحةُ الصابون تفوحُ من كلّ بقعةٍ في الغرفة، وتتشبّثُ بكل ذرّةٍ من ذرّاتِ هوائها.. لطالما عهدتُها تغسل الملابس على يدها بالصابون العربي، ورائحة الصابون ما برحت تلازم راحتيها وروحها.. هي رائحة تشبه السكينة التي كان يتحلى بها كل ركن من أركان دارها القديم.. تلك الروائح العبقة التي كانت تعشّشُ في كلّ قطعة من ملابسها، وتعبق في غرفتها وكل غرف البيت كلما فتحت درفة من درف خزانتها الخشبية، وتفوح كما تفوح زهرة برية قد أدارت وجهها للريح، فتلقفتها على غير هوادة..

لم تكن الرائحة تلك قد صُمِّمت لتعلق في ملابسها وأدراجها وغرف الدار فحسب، بل إنّ الأقدار قد شاءت أن ترتبط هذه الرائحة، عندي وعند أقراني ممن عاشروا جدتي وعرفوها وذاقوا شهد أيامها، بأيّام الماضي وذكرياته الحلوة، وبالزمن الرائع الجميل البديع الذي قلّما يتكرر..

أدخل غرفتها وأبدأُ التنظيف وكلّي أملٌ في أن أجدَ حبّة غبارٍ شريدةٍ واحدة تعتلي رفًّا من رفوفها فائقةِ الترتيب، الخاليةِ من كلِّ اضطرابٍ أو فوضى.. ويا لفرطِ تعاستي حين كانت آمالي تبوءُ بالخسران، وترجعُ كفّتي خاوية، فأكنسُ الأرض ولا أجدُ حبّة رملٍ واحدة لألتقطَها وأرميها!.. وكم كانت أحلامي كبيرة حينها، يومَ كنتُ أحلمُ أن أرى ماءَ الشطف معكّرًا يومًا، يومًا واحدًا فحسب، ولا أقول متسخًا.. لكن عبثًا، حيثُ كانت المياه تبقى ناصعةً براقةً بعد الشطف والمسح وكأنّه الماء الزلال! فيخيب أملي وأكمل العمل بصمتٍ وتعجّبٍ واستغراب..
حتى زوايا السقف كانت لا تسلم من حملاتِ التنظيفِ خاصّتها، فتناولُني عصا طويلةً عليها قطعة من قماش لأمسحَ بها الزوايا العالية بكلّ قوّتي، وأنا التي كانت قامتي في حينِها لا تتجاوزُ الذراعين أو أقلّ.. لكنّي عرفتُ بعدها أنّها كانت تدرّبني فحسب!..

وقد كنتُ أحبُّ تدريبَها هذا لسببين اثنين: الأوّل، أنّني كنتُ أحبُّ البقاءَ قربَها، والثاني: أنّي كنتُ أنالُ الأجرَ في النهاية، حبّاتٍ من الحلوى وبعض النقود التي سرعان ما كانت تستحيلُ حلوى أو ألعابًا هي الأخرى.. وقد تغدقُ عليَ ببعضِ التحف والأواني النحاسيّةِ التي تحفلُ بها غرفتها، فأطيرُ بها فرحًا وأشعرُ بأنّي قد ملكتُ الدنيا، وأسرعُ بالعودةِ إلى البيتِ لأعرضها على رفٍّ من رفوفِ الصالة..

لم نكن نعرف في ذلك الحين من أدوات الترفيه سوى بعض الألعاب الإلكترونيّة، وكانت في حينها لا تبث فيّ السعادة ولا البهجة والسرور الذي كانت تبثّه فيّ ساعة أمضيها في سقيا الأزهار والنباتات في جنينة جدتي التي زرعت فيها أشجارا من الجوافه وورق العريش وشتى أنواع الزهور والشتلات..
تلك الجنينة التي كانت وعلى الرغم من افتقادها في ذلك الوقت للبلاط، مفعمة بالبريق والتجلي لكثرة ما كانت تنجلي بالماء والصابون، وكنا كلما شطفناها تحت تعليمات جدتي، ننال بدورنا درسا في جلي القدمين من العيار الثقيل، حيث كانت جدتي ترهقنا بفركهما الواحدة بالأخرى حتى تصبح القدم بيضاء كالثلج ناصعة بلون النقاء.. حتى وإن أنهينا دورة تنظيف الأقدام تلك بحنفية الماء الباردة في وسط الجنينة، تعود لتطلب منا مجددا أن نصب الماء على الأرض ونشطفها شطفة أخيرة للتأكد من عدم بقاء شيء من الأوساخ المجهريّة غير المرئية التي ربما تكون قد تساقطت من أرجلنا دون أن نلمحها!..

ولم نكن ننزعج من فصول الحكايةِ تلك، على العكس، بل كنا نأمل أن ترانا جدتي متسخين كي نذخر بحمام من حماماتها الدافئة المنعشة المشربة بماء زهر الليمون، ماء الحياة التي مضت وما انقضى أريجها... هي أيام كل شيء فيها كان ينضح بالنقاء وبالنظافة، كل ركن كان ينبض فيها بالبراءة والمحبة والصفاء، بالخير وبالتسامح والرضا..

هناك على السطحِ كانت تجلسُ بسلام، تفترشُ حصيرةً في ظَهرِ الشمسِ، كملكةٍ تتربّعُ على عرشٍ من ذهب، وهي تلمعُ كحبّةِ جوهرٍ ترصّعت بالألماسِ وسطَ دائرةِ الزمن.. تدقُّ الصعترَ بيديها تارة؛ فتنطرحُ البركة، وتغربلهُ تارةً أخرى فيتضاعفُ الخير أضعافًا مضاعفة، على وقعِ بسملاتِها وتسبيحاتها ودعواتها المباركة المستجابة التي لا تنقطع، تماما كما الأنفاس. فيما نساعدُها نحنُ على وقعِ أنغام التسبيح، ونقومُ بتنقيةِ السمّاقِ الأحمرِ المشعّ كما العقيق، حبّةً حبّة، وهي تحثّنا على الإسراعِ وتدفعنا للعملِ الدؤوبِ دفعا...

وقد تدعونا أحيانا لجلسةٍ ننقي فيها أوراق الملوخيّة، أو النعناع، أو حبّات العدس في صوانيها الخشبيّة المستديرةِ. وكانت في كل موسم تنثرُ أوراق زهر الليمون على قماش أبيض كالثلج، وتتركه في الجنينة لتنقل الريح عطرهُ إلى قلبِ الدارِ وتمزجهُ بين الأثاثِ، وبين حيطانِ الغرف.. فقد كانت جدّتي ماهرة، تتقنُ صناعةَ روائح الزمن الأخّاذ! لتقطره بعد ذلك ويغدو ماءً للحياة، ومن ثمّ توزّعه على كلّ دار من ديار جيرانها وأقاربها والأحبّة، فيدعو الجميع لها بالبركة..

وكانت تجلس عصرا إلى ماكينتها اليدوية القديمة واضعة نظارتها، وتطلب مني أن أعبر لها الإبرة، وأنا التي كنت حينها لا أحسن التعبير إلا بهذا الشكل.. فقد كانت ككلّ نساء ذلك الزمن الحقيقي الجميل، تحسن الخياطة والحبك والتطريز والحياكة، وكل صنعة فيها فائدة أو بركة أو جمال .. ‏وكانت جدتي تدرك أنّ لأصابع الزمن حقاً عليها، فحاكت للزمن كفّين من صوف، وخفّين جميلين، لينعم الزمن بالدفء بعد غيابها!... ‎

هكذا كانت، باختصار، منبع الدفء ومستقطب الابتسامات، ومحطّ إعجاب الكبار والصغار؛ لأنّها وبكلِّ بساطة إنسانةٌ ذات قلب لا يعوّض..

رحمها الله.. قد كانت أميّةً ونشأت يتيمة؛ لكنّها كانت تقيّةً وحكيمة! لا زال لكلماتها السحرية صدى يسكن ذاكرتي، وبالأخص جملتها العجيبة التي لطالما سمعتها تتكرّر على لسانها منذ صغري: ((الصبر بالله والأمر لله))

كنت أقرأ يوماً في تفسير ابن كثير، فمرّت عليّ هذه الآية العجيبة مع تفسيرها: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}: تأكيد للأمر بالصبر، وإخبارٌ بأنّ ذلك لا يُنال إلاّ بمشيئةِ اللّه وإعانته، وحوله وقوّته..
علمتُ الآن يا جدّتي أنّ كلماتك الذهبيّة تلك كانت تختصرُ كلّ شيء، كلّ شيءٍ دون أيّ مبالغة!...

أتساءلُ أحيانًا، أيعيدُ الزمانُ تلكَ اللحظاتِ الحلوة، ويرجع لنا أشخاصًا بطيبةِ جدّتي وطهرِ روحها؟ أتراها الأيّام ترجعُ لنا ذاك العبير الرائق الذي افتقدناه؟ أما زال في الكون قلوبٌ كقلب جدّتي، أم أنّ القلوبَ النقيّةَ الصافيةَ قد انقرضت في عصرنا هذا وولّت كما يولّي كلُّ شيءٍ جميل؟

عزائي أنّي لا زلتُ أراها بين الفينةِ والأخرى في أحلامي، تهلُّ عليَّ بطيفِها الحلو البهيّ، كلّما فكّرتُ فيها ليلًا قبل أن أغفو، أو حالما ذكرتُها بدعوةٍ في جنحِ الليل المثقلِ بالوحشةِ والذكرى والحنين...

ما زال لصلاتِها أثرٌ قابعٌ في أرضِ نفسي، ولا زالت سجّادة صلاتها تتخلّل غرف قلبي كلّها على امتدادها الواسعِ الفسيح، إلى أن تخترقَ الحدَّ وتفترش بلاطَ روحي.. لا زال لوقعِ خطواتها عند الفجرِ حينَ تشرعُ بالوضوء دبيبٌ ناعمٌ محبّبٌ إلى القلبِ.. وكذا تسبيحاتِها الرائقةِ النضّاحةِ بالرضى، تقطرِ من فيها العذبِ الذي لا يتكلّمُ إلاّ ليذكرَ الله ويسبّحهُ ويثني عليه..

رأيتُها مرّة في الحلم.. كانت تؤمّنا في صلاةٍ بالمسجدِ القريب من دارِها.. كانَت هيَ هيَ، بملامحها الناعمةِ المريحة، لكنّ شعرها كان أسودَ صافياً كالليلِ، خالياً من خصلِ الشيب، وكانَ وجهُها متلألئًا بالنورِ، يوحي بالشبابِ والخضرةِ، بالنعيمِ وبالسعادةِ والهناء... كانت تأمّنا وهي فرحةً مبتسمة كعادتِها، ثم سلّمت علينا ولا أذكرُ ما حدث بعدها..

جلّ ما أذكرهُ اليوم أنّني أفتقدُها.. لكنّي أواسي نفسي ببعضِ لقاءاتِ الروحِ، ولي رجاءٌ عند الله لا يخيب، بأن يجمعني بها في جنّاتِ عدنٍ عند مليك مقتدر، هناك.. حيث لا فراقَ ولا وداع ولا نهاية...

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 08-04-2023 الساعة 12:14 PM.
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 60.34 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 58.42 كيلو بايت... تم توفير 1.92 كيلو بايت...بمعدل (3.17%)]