المقامة بين النقاد القدامى - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11910 - عددالزوار : 190855 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 554 - عددالزوار : 92681 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 114 - عددالزوار : 56888 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 26179 )           »          شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 33 - عددالزوار : 726 )           »          الدين والحياة الدكتور أحمد النقيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 59 )           »          فبهداهم اقتده الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 57 )           »          يسن لمن شتم قوله: إني صائم وتأخير سحور وتعجيل فطر على رطب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 27 )           »          رمضان مدرسة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          أمور قد تخفى على بعض الناس في الصيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16-08-2022, 06:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي المقامة بين النقاد القدامى

المقامة بين النقاد القدامى


د. إبراهيم عوض






تعريف الشعر بين القدماء والمحدثين (32)




والآن إلى ما خطَّته براعة الحصري القيرواني "390 - 453هـ" في كتابه: "زهر الآداب وثمر الألباب" عن "مقامات" بديع الزمان الهمذاني، وكيف نبتت فكرة المقامات في ذهنه، ثم كيف يراها الحصري نفسه: "ولما رأى (أي الهمذاني) أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثًا، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، وانتخبها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها إلى الأفكار والضمائر، في معارض حوشية، وألفاظ عنجهية، فجاء أكثرها تنبو عن قَبوله الطباع، ولا ترفع له حُجب الأسماع، وتوسَّع فيها؛ إذ صرف ألفاظها ومعانيها في وجوه مختلفة، وضروب منصرفة، عارضه بأربعمائة مقامة في الكدية تذوب ظرفًا، وتقطر حسنًا، لا مناسبة بين المقامتين لفظًا ولا معنى، عطف مساجلتها، ووقف مناقلتها بين رجلين، سمى أحدهما: عيسى بن هشام، والآخر: أبا الفتح الإسكندري، وجعلهما يتهاديان الدر، ويتنافثان السحر، في معان تضحك الحزين، وتحرِّك الرصين، وتطالع منها كل طريفة، وتوقف منها على كل لطيفة، وربما أفرد بعضهما بالحكاية، وخصَّ أحدهما بالرواية"، وكما هو واضح لا يوجد شيء في هذا الحديث الانطباعي عن الجانب الفني القصصي في ذلك العمل الفذ، اللهم إلا الكلام العام عن الشخصيتين الرئيسيتين فيه، وهما عيسى بن هشام وأبو الفتح السكندري، وهذا كل شيء.

أما ابن الأثير، فكان كل همِّه - في النص التالي المأخوذ من كتابه: "المثل السائر" - العمل على إبراز عجز الحريري في مجال الرسائل الديوانية، غير متطرق بكلمة واحدة إلى الجانب الفني فيما أنشأه من مقامات، رغم ما فيها من إبداع رائع لا يقارن في نظره بما تحتاجه الرسائل من موهبة خاصة، قال: "وكثيرًا ما رأينا وسمِعنا من غرائب الطباع في تعلُّم العلوم، حتى إن بعض الناس يكون له نفاذ في تعلُّم علمٍ مشكل المسلك، صعب المأخذ، فإذا كلف تعلم ما هو دونه من سهل العلوم، نكص على عَقِبيه، ولم يكن فيه نفاذ، وأغرب من ذلك أن صاحب الطبع في المنظوم يُجيد في المديح دون الهجاء، أو في الهجاء دون المديح، أو يجيد في المراثي دون التهاني، أو في التهاني دون المراثي، وكذلك صاحب الطبع في المنثور: هذا ابن الحريري صاحب المقامات قد كان - على ما ظهر عنه من تنميق المقامات - واحدًا في فنه، فلما حضر ببغداد ووقف على مقاماته، قيل: هذا يستصلح لكتابة الإنشاء في ديوان الخلافة، ويحسن أثره فيه، فأحضر وكلف كتابة كتاب، فأفحم ولم يجر لسانه في طويلة ولا قصيرة، فقال فيه بعضهم:
شيخٌ لنا من ربيعةِ الفُرسِ
يَنتف عُثنونه من الهَوسِ

أنطَقه الله بالمَشان وقد
ألْجَمه في بغداد بالخَرسِ


وهذا مما يعجب منه، وسُئلت عن ذلك، فقلت: لا عجب؛ لأن المقامات مدارها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص، وأما المكاتبات، فإنها بحر لا ساحل له؛ لأن المعاني تتجدَّد فيها بتجدُّد حوادث الأيام، وهي متجددة على عدد الأنفاس، ألا ترى أنه إذا خطَب الكاتب المفلق عن دولة من الدول الواسعة، التي يكون لسلطانها سيف مشهور، وسعي مذكور، ومكث على ذلك برهةً يسيرةً لا تبلغ عشر سنين، فإنه يُدون عنه من المكاتبات ما يزيد على عشرة أجزاء، كل جزء منها أكبر من مقامات الحريري حجمًا؟ لأنه إذا كتَب في كل يوم كتابًا واحدًا، اجتمَع من كتبه أكثر من هذه العدة المشار إليها، وإذا نخلت وغُرِبلت، واختُير الأجود منها - إذ تكون كلها جيدة - فيخلص منها النصف، وهو خمسة أجزاء، والله يعلم ما اشتمَلت عليه من الغرائب والعجائب، وما حصل في ضمنها من المعاني المبتدعة، على أن الحريري قد كتب في أثناء مقاماته رقاعًا في مواضع عدة، فجاء بها منحطةً عن كلامه في حكاية المقامات، لا، بل جاء بالغث البارد الذي لا نسبة له إلى باقي كلامه فيها، وله أيضًا كتابة أشياء خارجة عن المقامات، وإذا وقف عليها أقسم أن قائل هذه ليس قائلَ هذه؛ لِما بينهما من التفاوت البعيد، وبلَغني عن الشيخ أبي محمد عبدالله بن أحمد بن الخشاب النحوي - رحمه الله - أنه كان يقول: ابن الحريري رجل مقامات؛ أي: إنه لم يُحسن من الكلام المنثور سواها، وإن أتى بغيرها لا يقول شيئًا، فانظر أيها المتأمل إلى هذا التفاوت في الصناعة الواحدة من الكلام المنثور، ومن أجل ذلك قيل: شيئان لا نهاية لهما: البيان والجمال".

وقد وضَع صلاح الدين الصفدي في الرد على ابن الأثير كتابًا سمَّاه: "نصرة الثائر على المثل السائر"، ومن بين ما جاء في ذلك الكتاب مما يهمُّنا هنا، قوله في التعليل لرواج مقامات الحريري، وشدة تعلُّق الناس بها، وإقبالهم عليها، واشتغالهم بأمرها: "وما ذاك إلا أن هذا الكتاب أحد مظاهره تلك الحكايات المضحكة، والوقائع التي إذا شرع الإنسان في الوقوف عليها، تطلَّعت نفسه إلى ما تنتهي إليه، وتشوَّقت نفسه إلى الوقوف على آخر تلك القصة، هذا إلى ما فيها من الحكم والأمثال التي تُشاكل كتاب "كليلة ودمنة"، وإلى ما فيها من أنواع الأدب وفنونه المختلفة وأساليبه المتنوعة، حكى لي الشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس عن والده أبي عمرو عن أبيه أبي بكر، قال: قلنا لابن عميرة كاتب الأندلس: لأي شيء ما تصنع مثل المقامات؟ فقال: أما الألفاظ فما أغلب عنها، وأما تلك الأكاذيب التي تكذبها، فما أحسن أن أضع مثلها، وسمِعت القاضي شهاب الدين محمودًا - رحمه الله تعالى - حين قراءة هذا الكتاب عليه، يحكي أن القاضي الفاضل - رحمه الله تعالى - أراد معارضتها، وصنع ثلاث عشرة مقامةً عارض كل فصل بمثله، حتى جاء إلى قول الحريري في المقامة الرابعة عشرة: اعلموا يا مآل الآمل، وثمال الأرامل، أنني من سروات القبائل، وسريات العقائل، لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر، ويسيرون القلب، ويمطون الظهر، ويولون اليد، فلما أردى الدهر الأعضاد، وفجع بالجوارح الأجساد، وانقلب ظهرًا لبطن، نبا الناظر، وجفا الحاجب، وذهبت العين، وفُقِدت الراحة، وصلَد الزند، ووهت اليمين، وبانَت المرافق، ولم يبق لنا ثنية ولا ناب، فمذ اغبرَّ العيش الأخضر، وازورَّ المحبوب الأصفر، اسودَّ يومي الأبيض، وابيضَّ فودي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر، فقال الفاضل: من أين يأتي الإنسان بفصل يعارض هذا؟ ثم إنه قطع ما كان عمله من المقامات ولم يظهر، أو كما قال، وناهيك بمن يقول مثل القاضي الفاضل في حقه مثل هذا، ويعترف له بالعجز، وأما أنا، فكلما قرأت هذا الفصل وذكرته، أجد له نشوةً كنشوة الراح، وبهجةً ولا بهجة الساري بطلعة الصباح، وفي أي ترسُّل تجد نظير هذا الفصل الذي له هذه الخفة والطلاوة ولم تروجه الأسجاع؟

وقد ظلم المقامات مَن جعَلها من باب الترسُّل، والترسل جزء منها، بل هي كتاب علم في بابه، وبلاغة الرجل تعلم من ذكره لشيء في غالب مقاماته بالمدح والذم، وهذه هي البلاغة: أن تصف الشيء ثم تذمه، أو تذمه ثم تمدحه، كما فعل في مقامة "الدينار"، التي فاضل فيها بين كتابة الإنشاء والحساب، والتي ذكر فيها البكر والثيِّب، والزواج والعزبة وغير ذلك، وفصاحته تعلم من أخذه الأمثال السائرة وضمها إلى سجعة أحسن منها؛ كقوله: أعطيت القوس باريها، وأنزلت الدار بانيها، وقوله: تخلَّصت قائبة من قوب، وبرئ براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وقوله: وهل ضاهت عدتنا عدة عرقوب، أو بقيت حاجة في نفس يعقوب؟ وقوله: فلما دل شعاعه على شمسه، ونَمَّ عنوانه بسر طرسه، وقوله: فبقيت أحير من ضب، وأذهل من صب، وقوله: أنحل من قلم وأقحل من جلم، وقوله: لو كان في عصاي مسير، ولغيمي مطير، وقوله: طويته على غره، وصنت شغاه عن فره، وقوله: إنكما فرقدا سماء، وكزندين في وعاء، وقوله: ليعلم أن ريحه لاقت إعصارًا، وجدوله صادف تيارًا، وقوله: مأرب لا حفاوة، ومشرب لم يبق له عندي طلاوة، وقوله: المكنة زورة طيف، والفرصة مزنة صيف، وقوله: أبعد من رد أمس الدابر، والميت الغابر، وقوله: ما أطول طيلك وأهول حيلك، وقوله: وكان يومًا أطول من ظل القناة، وأحر من دمع المقلاة، وقوله: فأخذ يلدغ ويصئي، ويتقح ولا يستحيي، وقوله: أين مدب صباك؟ ومن أين مهب صباك؟ وقوله: قد وجدت فاغتبط، واستكرمت فارتبط، وقوله: ما ذهب من مالك ما وعظك، ولا أجرم إليك من أيقظك، وقوله: إنك حمت على ركية بكية، وتعرَّضت لخلية خلية، وقوله: ما كل سوداء تمرة، ولا كل صهباء خمرة، وقوله: كمن يبغي بيض الأنوق، ويطلب الطيران من النوق، وقوله: أتعلم أمك البضاع، وظئرك الإرضاع؟ وقوله: فلما رأينا نارهم الحباحب، وخبرهم كسراب السباسب، وقوله: إني لأطوع من حذائك، وأوفق من غذائك، وفيها من هذا النوع كثير أضربت عنه خوف الإطالة.
وما تَناهَيت في بثي مَحاسِنه
إلا وأكثرُ مما قُلت ما أدَعُ


قال: فإذا ركَّب الله في الإنسان طبعًا قابلاً لهذا، فيفتقر إلى ثمانية أنواع من الآلات، ثم سردها، أقول: أما الكاتب، فيحتاج إلى حفظ الكتاب العزيز، وإدمان تلاوته؛ ليكون دائرًا على لسانه، جاريًا على فكرته، ممثلاً بين عيني ذاكرته؛ لينفق من سعته، وإلى معرفة اللغة والنحو، وإدمان الإعراب ليلاً ونهارًا؛ حتى يصير له ذلك مَلكةً جيدةً، والتصريف والمعاني والبيان والبديع، والعروض والقافية، والأحكام السلطانية كما ذكر في كتابه، وشيء من التفسير، وشيء من الأحاديث؛ مثل: كتاب "الشهاب"، أو كتاب "النجم"؛ للأقليشي، والآثار المنقولة عن الصحابة - رضوان الله عليهم - وما دار بين الخلفاء الراشدين وعُمَّالهم، وما دار بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - من المحاورات، وتواقيع الخلفاء والوزراء والكُتاب، وأمثال العرب، وحفظ جانب جيد من شعر العرب والمخضرمين والمحدثين، وفحول المتأخرين، وحفظ جيد الحماسة ومختار المفضليات، وبعض قصائد "منتهى الطلب"؛ جمع ابن ميمون، وما أمكن من التاريخ وأسماء الرجال والحساب، ومراجعات أُمهات كتب الأدب؛ مثل: "الأغاني" و"العقد"، و"البيان والتبيين" و"الذخيرة"، و"زهر الآداب" و"أمالي القالي"، و"الكامل"؛ للمبرد، و"تذكرة ابن حمدون"، وحفظ جانب جيد من المقامات والخطب النباتية، وبعض شعر المتنبي وأبي تمام والبحتري، و"سقط الزند" وغير ذلك.

وقد اخترَت أنا من شعر هؤلاء الشعراء الأربعة في مجلدة لطيفة، والوقوف على ترسُّل الكُتاب، ومراعاة ما قصَدوه في كل فن من التهاني والتعازي والفتوحات، ووصايا تقاليدهم وتواقيعهم، وأوامرهم ونواهيهم فيها، وافتتاحات أدْعيتهم في كل ما يتشعَّب من طرق الكتابة، وكيفية البداءات والمراجعات في الهدايا والشفاعات والأوصاف، وكُتب الإخوان وما يجري هذا المجرى، وهذا باب لا يغلق له مِصراع، ولا ينعقد على حصره إجماع.

وعلى الجملة، فالكاتب يحتاج إلى كل شيء، ولولا أنه لا يلزمه تحقيق كل فنٍّ، لقُلت: إنه الذي يعرف الوجود على ما هو عليه، وهيهات، نعم، الناس متفاوتون في ذلك، وهم على طبقات: فمنهم من تسنَّم الدرجات، ومنهم من لا نهض من الدركات، وما بين ذلك، ولا بد من المشاركة مهما أمكن، ولو أنه معرفة المصطلح لكل صاحب فن، وإذا أكمل مواده أو قارَب الإكمال، فمعرفة مصطلح الديوان في المكاتبات من معرفة الألقاب والنعوت وما يجري هذا المجرى.

فإن هذا معرفته مع المباشرة في أقل من جمعة يتصوره ويدريه، وهو مما لم يتقرَّر قاعدته؛ لأنه يختلف باختلاف كل زمان وأهله، وهذا لا عبرة به، فإنه أسهل ما يعرفه".

وفي موضع آخر من ذات الكتاب يمضي الصفدي منافحًا عن "المقامات"، فيقول: إنها "يتداولها الناس، ويتعاطون كؤوسها، ويتمثلون بأبياتها وأسجاعها، ويكرون عليها من أولها إلى آخرها، ويبحثون عن عوراتها، ويُنقبون عن مساوئها، فلا يجدون فيها مغمزًا، ولا يقعون فيها على مطعن، بل تصفو على السبك، وتجود على الاستعمال.
ويَزيدها مَرُّ الليالي جِدَّةً
وتَقادُمُ الأيام حُسْنَ شَبابِ


على أن ابن الخشاب ردَّ عليه أُلَيْفاظًا يسيرةً، وأجابه المسعودي عنها، وابن الخشاب أصاب في القليل من القليل، وتعنَّت في كثير القليل، وكذلك ابن بري وضع عليها نُكتًا يسيرةً، وناهيك بكتاب اشتَهر وضُرِب به المثل، وأصبح إحدى الأثافي في علم الأدب، وأصبحت ألفاظه ومعانيه حجةً، ونقلت بها النسخ عدد حروفها.


وسارَ مَسير الشمس في كلِّ موضعٍ
وهَبَّ هبوبَ الريح في البر والبحر


وما رأيت ولا سمِعت بمن أخذ جزءًا من ترسُّل، وقرأه على شيخ وحفِظه، وطلب به الرواية وعلَّق عليه حواشيَ لغة وإعراب ومعانٍ، وقد وضَع الناس الشروح المبسوطة على المقامات؛ مثل المسعودي، فإن له عليها شرحين، والمطرز وابن الأنباري، وأبي البقاء وغيرهم، ولقد رأيت بعضهم يزعم أنها رموز في الكيمياء، ويُحكَى أن الفرنج يقرؤونها على ملوكهم بلسانهم، ويصورونها ويتنادمون بحكاياتها، وما ذاك إلا أن هذا الكتاب أحد مظاهره تلك الحكايات المضحكة، والوقائع التي إذا شرع الإنسان في الوقوف عليها، تطلَّعت نفسه إلى ما تنتهي إليه، وتشوَّقت نفسه إلى الوقوف على آخر تلك القصة، هذا إلى ما فيها من الحِكم والأمثال التي تُشاكل كتاب "كليلة ودمنة"، وإلى ما فيها من أنواع الأدب وفنونه المختلفة وأساليبه المتنوعة".

وعلى ذات الوتيرة يُثني الصفدي على المقامات في كتابه الآخر: "أعيان العصر وأعوان النصر"؛ لما فيها من بلاغة اللغة، لا بلاغة الفن القصصي؛ إذ أشار إلى براعة تصرُّفه في القول؛ حتى إنه ليستطيع أن يؤدي المعنى المعتاد الواحد في كل مرة بعبارة جديدة: "وقد استعمل الحريري - رحمه الله - هذا في مقاماته، فهو في كل مرة يجتمع فيها الحارث بن همام بأبي زيد، ويحتاج إلى أن يقول: "فلما أصبح الصبح"، تراه يعبر بعبارة عن هذا المعنى بغير عبارته الأولى: فتارة قال: فلما لاح ابن ذكاء، وألحف الجو الضياء، وتارة قال: إلى أن أطل التنوير، وحسر الصبح المنير، وتارة قال: حتى إذا لألأ الأُفق ذَنب السرحان، وآن انبلاج الفجر وحان، وتارة قال: إلى أن عطس أنف الصباح، ولاح داعي الفلاح، وتارة قال: فلما بلغ الليل غايته، ورفع الصبح رايته، وهذا كثير في مقاماته، وهو من القدرة على الكلام".

وبين أن إعجاب الصفدي بالمقامات هو إعجاب شديد، يلمس القارئ ذلك لمسًا في هذه اللمحات الانطباعية التي أشار فيها مع ذلك إلى كل شيء ما عدا الصنعة القصصية، وهي ما يهمنا هنا، اللهم إلا إشارة عارضة إلى ما فيها من تشويق.

وتحدَّث الصفدي أيضًا في ترجمة أحد مشايخه - وهو محمود بن سليمان بن فهد - عن قراءته "مقامات" الحريري عليه، فقال: "وكنت قد قرأت عليه المقامات الحريرية وانتهيت منها إلى آخر المقامة الخامسة والعشرين في سنة ثلاث وعشرين وسبع مائة، فكتب هو عليها: قرأ علي المولى الصدر فلان الدين، نفعه الله بالعلم ونفع به، من أول كتاب "المقامات" إلى آخر الخامسة والعشرين قراءةً تُطرِب السامع، وتأخذ من أهواء القلوب بالمجامع، وسأل منها عن غوامض تدل على ذكاء خاطره المُتقد، وصفاء ذهنه العارف منه بما ينتقي ويَنتقد، ورويتها له عن الشيخ الإمام مجد الدين أبي عبدالله محمد بن أحمد بن الظهير الإبلي، وساق سنده إلى الحريري، ثم إنه كتب لي على آخرها، وقد كملت قراءتها عليه بدمشق في ثاني عشر شهر الله المحرم سنة أربع وعشرين وسبع مائة: قرأ علي المولى الكبير الرئيس العالم الفاضل المُتقن المجيد نظمًا ونثرًا، المحسن في كل ما يأتي به من الأنواع الأدبية بديهةً وفكرًا، فلان الدين نفعه الله بالعلم ونفع به كتاب "المقامات الحريرية"، قراءةً دلَّت على تمكُّنه من علم البيان، واقتداره على إبراز عقائل المعاني المستكنة في خدور الخواطر، مجلوة لعيان الأعيان، وإنه استشفَّ أشعة مقاصدها بفكره المتقد، وفرق بين قِيم فرائدها بخاطره المنتقد، فما تجاوز مكانًا إلا وأحسن الكلام في حقيقته ومجازه، ولا تعدَّى بيانًا إلا وأجمل المقال في تردُّد البلاغة بين بسط القول فيه وإيجازه، ورويته له عن فلان، وذكر السند على العادة"، وهو تعليق يدل على أن المقامات لم تكن تعني عنده شيئًا آخر سوى لغتها وبيانها، ومن ثم فلا اهتمام بشيء يتعلق بصنعتها القصصية وبنائها الفني، والواقع أن مَن درَس المقامات في تراثنا العربي، لم يتناولها - في حدود ما نعرف - إلا من ناحية اللغة، وشرح غريبها، وتوضيح معانيها، والتعريف بما ورَد ذكره فيها من الأماكن والأشخاص، دون أي تطرُّق إلى ما فيها من عبقرية قصصية، رغم أنه "قد اعتنى بشرح المقامات أفاضل العلماء شروحًا متنوعةً تفوق الحصر والعد"؛ على ما يقول عبدالقادر البغدادي في "خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب".

وفي موضع آخر من "المثل السائر"؛ لابن الأثير، نقرأ ما يلي: "وأمثل لك مثالاً إذا حَذوته، أمِنت الطاعن والعائب، وقيل في كلامك: ليبلغ الشاهد الغائب، والذي أقوله في ذلك هو أن تكون كل واحدة من السجعتين المزدوجتين مشتملةً على معنى غير المعنى الذي اشتملت عليه أختها، فإن كان المعنى فيهما سواءً، فذاك التطويل بعينه؛ لأن التطويل إنما هو الدلالة على المعنى بألفاظ يمكن الدلالة عليه بدونها، وإذا وردت سجعتان تدلان على معنًى واحد، كانت إحداهما كافيةً في الدلالة عليه، وجل كلام الناس المسجوع جارٍ عليه، وإذا تأمَّلت كتابة المفلقين ممن تقدم؛ كالصابي، وابن العميد، وابن عباد، وفلان وفلان، فإنك ترى أكثر المسجوع منه كذلك، والأقل منه على ما أشرت إليه، ولقد تصفَّحت المقامات الحريرية والخُطَب النباتية - على غرام الناس بهما وإكبابهم عليهما - فوجدت الأكثر من السجع فيهما على الأسلوب الذي أنكرته"، وواضح أن ما يهم ابن الأثير في "المقامات" الحريرية، هو السجع ولا شيء سوى السجع، ومما له مغزاه الواضح أنه يقرن بين مقامات الحريري وخطب ابن نُباتة مع أن كلاًّ منهما ينتمي إلى جنس أدبي غير الجنس الذي ينتمي إليه الآخر، لكن لا غرابة في هذا، فالمهم هو السجع، الذي يربط بينهما في نظره.

ومرةً أخرى نقرأ عند ابن الأثير ما قاله في "المقامات"، فإذا به لا يخرج عن السجع وما إليه، حتى لقد ظنَّت طائفة من الأدباء والنُّقاد في عصرنا، أن تلك المقامات لا تخرج عن ذلك، وجهِلوا أنها إبداع قصصي عجيب؛ قال ابن الأثير: "سلك قوم في منثور الكلام ومنظومه طرقًا خارجةً عن موضوع علم البيان، وهي بنجوة عنه؛ لأنها في وادٍ، وعلم البيان في وادٍ، فممن فعل ذلك الحريري صاحب المقامات، فإنه ذكر تلك الرسالة التي هي كلمة معجمة وكلمة مهملة، والرسالة التي حرف من حروف ألفاظها معجم، والآخر غير معجم، ونظم غيره شعرًا آخر كل بيت منه أول للبيت الذي يليه، وكل هذا - وإن تضمَّن مشقةً من الصناعة - فإنه خارج عن باب الفصاحة والبلاغة؛ لأن الفصاحة هي ظهور الألفاظ مع حسنها، على ما أشرت إليه في مقدمة كتابي هذا، وكذلك البلاغة، فإنها الانتهاء في محاسن الألفاظ والمعاني، من قولنا: "بلغت المكان" إذا انتهيت إليه، وهذا الكلام المصوغ بما أتى به الحريري في رسالته وأورده ذلك الشاعر في شعره، لا يتضمن فصاحةً ولا بلاغةً، وإنما يأتي ومعانيه غثَّة باردة، وسبب ذلك أنها تَستكره استكراهًا، وتوضع في غير مواضعها، وكذلك ألفاظه، فإنها تجيء مكرهةً أيضًا غير ملائمة لأخواتها، وعلم البيان إنما هو الفصاحة والبلاغة في الألفاظ والمعاني، فإذا خرَج عنه شيء من هذه الأوضاع المشار إليها، لا يكون معدودًا منه، ولا داخلاً في بابه، ولو كان ذلك مما يوصف بحسن ألفاظه ومعانيه، لورَد في كتاب الله - عز وجل - الذي هو معدن الفصاحة والبلاغة، أو ورد في كلام العرب الفصحاء، ولم نره في شيء من أشعارهم ولا خُطبهم"، ولو كان انتقاد ابن الأثير يقوم مثلاً على أن الحريري يلجأ إلى السجع دائمًا لا يتركه لحظةً، لفهِمنا موقفه من سجع الرجل، لكنه يعلي من شأن السجع، إلا أنه يريده على طريقة معينة يراها أجدر الطرق بالتسجيع، وهذا كل ما هنالك؛ إذ لم يتطرق البتة إلى شيء يتصل بالصنعة القصصية في ذلك العمل.

ونفس الشيء نلاحظه فيما كتَبه عبدالقادر البغدادي في "خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب" عن الحريري وعمله؛ قال: "الحريري هو أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري، صاحب المقامات، كان أحد أئمة عصره، ورُزِق السعادة والحظوة التامة في عمل المقامات، واشتمَلت على شيء كثير من كلام العرب من لغاتها وأمثالها، ورموز أسرار كلامها، ومن عرَفها حقَّ معرفتها، استدل بها على فضله وكثرة اطِّلاعه، وغزارة مادته، رُوِي أن الزمخشري لما وقَف عليها استحسَنها، وكتب على ظهر نسخة منها:
أُقسمُ بالله وآياته
ومَشعَر الحَج ومِيقاته

أنَّ الحريري حَرِيٌّ بأن
نَكتب بالتِّبْر مَقاماته



ثم صنَع الزمخشري المقامات المنسوبة إليه، وهي قليلة بالنسبة إليها، وشرحها أيضًا، وصنَع في إثرها نوابغَ الكَلِم، وقد اعتنى بشرْح المقامات أفاضل العلماء شروحًا متنوعةً، تفوت الحصر والعد، وله أيضًا "درة الغواص"، وله أيضًا شروح كثيرة، قد اجتمَع منها عندي خمسة شروح، وله أيضًا "مُلحة الإعراب" في النحو، وشرحها أيضًا، وهو عند العلماء يُعَد ضعيفًا في النحو، وله ديوان رسائل وشعر كثير، وله قصائد استعمل فيها التجنيس كثيرًا..."، والطريف في ذلك كله أن يتَّهم الحريري بأنه كان ضعيفًا في النحو!

ثم هذا هو ما يقوله ابن الصيقل الجزري (ت 701هـ) عن "المقامات الزينية"، التي حبَّرها بقلمه: "تشتمل على كل رجب من الجد الطريف، وكل ضرب من الهزل الظريف، وكل مرصع من النثر المنيف، وكل مصرع من الشعر اللطيف، وكل زهو من المحض المليح، وكل حلو من الحمض الصريح الفصيح، وأوْدَعتها من لطائف الأجناس، ونفائس الجوهر المنزه عن ثقب الماس، والجمان الناشر رمام الأرماس، والمرجان المطهر عن طمث مجاورة الأمراس، ما يفوق غوارب البحور، ويروق دُرر نحور الحور، وضمَّنتها من الآيات المُحكمات، والأخبار المُسندات، وعرائس المذكرات، وغرائس المناظرات، ومن العظات ما يسيل الدموع، ومن الزاجرات ما يحيل الهجوع، ومن المضحكات ما يضحك الموتور، ومن الملهيات ما يَهتك المستور، ومن المفاكهات ما يشرح الصدور، ومن المنافثات ما يبرئ المصدور، ومن الرسائل ما يستهل السول، ومن المسائل ما يُفحم المسؤول، ومن البدائع ما يَسلب العقول، ومن الغرائب ما يُطرب العقول، ومن الخطب اللطيفة، والنُّخب الوريفة، ومن محاسن الأمثال، ومعادن السحر الحلال، الجلي المنثال، الخلي عن المثال والتمثال، ومن العبارات الحسنة، والحكايات المستحسنة، والمقاصد البالغة الرضية، والقواعد السائغة الفرضية، والأفانين الصادحة الأدبية، والقوانين الواضحة الطبية، ومن النكت الفقهية، والأصول المتداولة النحوية، وحِليتها باللؤلؤ المنثور، وأخليتها من شطر المعمى للحديث المأثور".

ولقد تكلم المؤلف - كما هو واضح - عن كل شيء في عمله من ناحية اللغة والمضمون وأثره في النفوس، وما إلى ذلك، مستعملاً شيئًا قريبًا من النقد الانطباعي، إلا أنه مع هذا لم يقترب من الجانب القصصي فيه.

وقرأت في "عجائب المقدور في أخبار تيمور"؛ لابن عرب شاه - عن أهمية كتابه هذا ما يلي: "وفائدة هذه الحكايات تنبيه أشرف جنس المخلوقات، وألطف طائفة المكونات، وهو نوع الإنسان، الذي اختصَّه الله تعالى بأنواع الإحسان، وأيَّده بالعقل، وأمدَّه بالنقل، على أنه إذا كان هذا الفعل الجليل يصدر في التنظير والتمثيل من أخسِّ الحيوانات، وما لا يعقل من الموجودات، فلأن يصدر من أولي النهى وأُولي الفضل والمكارم والعُلا، أَوْلَى وأحرى، لا سيما مَن رفَع الله في الدنيا مقداره، وأعلى على فم الخلائق مناره، وحكمه في عبيده المستضعفين، واسترعاه على رعية سامعين مُطيعين، وسلَّطه على دمائهم وأموالهم، وبسَط يده ولسانه في رفاهيتهم ونَكالهم، والأصل في هذا كله قول من عم عبيده بفضله، وبقوله اهتدى العالمون: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43]".


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 73.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 71.42 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.56%)]