تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد - الصفحة 50 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4437 - عددالزوار : 871787 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3969 - عددالزوار : 403886 )           »          تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 309 - عددالزوار : 14142 )           »          ظاهرة التشكيك في الأحاديث الصحيحة!! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 54 )           »          الدعوة إلى الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 50 - عددالزوار : 2924 )           »          تجــديد الخطـــاب الدعــــوي في المرحلـة القادمـة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 158 )           »          أزمــــة النخـــــب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          من شبهات اليهود وأباطيلهم «أن المسلمين بنوا المسجد الأقصى مكان الهيكل الذي بناه الملك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          شبابنا والخروج من التيه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 53 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #491  
قديم 09-05-2024, 10:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,836
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء السابع

سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
الحلقة (491)
صــ 361 إلى صــ 370





[ ص: 361 ] أم حسب الذين اجترحوا السيئات سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للمؤمنين: إنا نعطى في الآخرة مثلما تعطون من الأجر، قاله مقاتل . والاستفهام هاهنا استفهام إنكار . و "اجترحوا" بمعنى اكتسبوا .

سواء محياهم ومماتهم قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وزيد عن يعقوب: "سواء" نصبا; وقرأ الباقون: بالرفع . فمن رفع، فعلى الابتداء; ومن نصب، جعله مفعولا ثانيا، على تقدير: أن نجعل محياهم ومماتهم سواء; والمعنى: إن هؤلاء يحيون مؤمنين ويموتون مؤمنين، وهؤلاء يحيون كافرين ويموتون كافرين; وشتان ماهم في الحال والمآل ساء ما يحكمون أي: بئس ما يقضون .

ثم ذكر بالآية التي تلي هذه أنه خلق السموات والأرض بالحق، أي: للحق والجزاء بالعدل، لئلا يظن الكافر أنه لا يجزى بكفره .

[ ص: 362 ] أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون . وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون . وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين . قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون . وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون . هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين . وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين .

قوله تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه قد شرحناه في [الفرقان: 43] . وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السهمي .

قوله تعالى: وأضله الله على علم أي: على علمه السابق فيه أنه [ ص: 363 ] لا يهتدي وختم على سمعه أي: طبع عليه فلم يسمع الهدى "و" على " قلبه " فلم يعقل الهدى . وقد ذكرنا الغشاوة والختم في [البقرة: 7] .

فمن يهديه من بعد الله؟! أي: من بعد إضلاله إياه أفلا تذكرون فتعرفوا قدرته على ما يشاء؟! . وما بعد [هذا] مفسر في سورة [المؤمنون: 37] إلى قوله: وما يهلكنا إلا الدهر أي: اختلاف الليل والنهار وما لهم بذلك من علم أي: ما قالوه عن علم، إنما قالوه شاكين فيه . ومن أجل هذا قال نبينا عليه الصلاة والسلام: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر"، أي: هو الذي يهلككم، لا ما تتوهمونه من مرور الزمان . وما بعد هذا ظاهر، وقد تقدم بيانه [البقرة: 28، الشورى: 7] إلى قوله: يخسر المبطلون يعني المكذبين الكافرين أصحاب الأباطيل; [ ص: 364 ] والمعنى: يظهر خسرانهم يومئذ . وترى كل أمة قال الفراء: ترى أهل كل دين جاثية قال الزجاج : أي: جالسة على الركب، يقال: قد جثا فلان جثوا: إذا جلس على ركبتيه، ومثله: جذا يجذو . والجذو أشد استيفازا من الجثو، لأن الجذو: أن يجلس صاحبه على أطراف أصابعه . قال ابن قتيبة : والمعنى أنها غير مطمئنة .

قوله تعالى: كل أمة تدعى إلى كتابها فيه ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه كتابها الذي فيه حسناتها وسيئاتها، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

والثاني: أنه حسابها، قاله الشعبي، والفراء، وابن قتيبة .

والثالث: كتابها الذي أنزل على رسوله، حكاه الماوردي .

ويقال لهم: اليوم تجزون ما كنتم تعملون .

هذا كتابنا وفيه ثلاثة أقوال . أحدها: أنه كتاب الأعمال الذي تكتبه الحفظة، قاله ابن السائب . والثاني: اللوح المحفوظ، قاله مقاتل . والثالث: القرآن، والمعنى أنهم يقرؤونه فيدلهم ويذكرهم، فكأنه ينطق عليهم، قاله ابن قتيبة .

[ ص: 365 ] قوله تعالى: إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون أي: نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم، أي: بكتبها وإثباتها . وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ، من اللوح المحفوظ، تستنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقا ما يعملونه . قالوا: والاستنساخ لا يكون إلا من أصل . قال الفراء: يرفع الملكان العمل كله، فيثبت الله منه ما فيه ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللغو . وقال الزجاج : نستنسخ ما تكتبه الحفظة، ويثبت عند الله عز وجل .

قوله تعالى: في رحمته قال مقاتل: في جنته .

قوله تعالى: أفلم تكن آياتي فيه إضمار، تقديره: فيقال لهم ألم تكن آياتي، يعني آيات القرآن تتلى عليكم فاستكبرتم عن الإيمان بها وكنتم قوما مجرمين ؟! قال ابن عباس: كافرين .

وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين . وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين . ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون . فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين . وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .

[ ص: 366 ] قوله تعالى: وإذا قيل إن وعد الله بالبعث حق أي: كائن والساعة قرأ حمزة: "والساعة" بالنصب "لا ريب فيها" أي: كائنة بلا شك قلتم ما ندري ما الساعة أي: أنكرتموها إن نظن إلا ظنا أي: ما نعلم ذلك إلا ظنا وحدسا، ولا نستيقن كونها .

وما بعد هذا قد تقدم [الزمر: 48] إلى قوله: وقيل اليوم ننساكم أي: نترككم في النار كما نسيتم لقاء يومكم هذا أي: كما تركتم الإيمان والعمل للقاء هذا اليوم .

ذلكم الذي فعلنا بكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا أي: مهزوءا بها وغرتكم الحياة الدنيا حتى قلتم: إنه لا بعث ولا حساب فاليوم لا يخرجون وقرأ حمزة، والكسائي: "لا يخرجون" بفتح الياء وضم الراء . وقرأ الباقون: ["لا يخرجون"] بضم الياء وفتح الراء منها أي: من النار ولا هم يستعتبون أي: لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله عز وجل، لأنه ليس بحين توبة ولا اعتذار .

قوله تعالى: وله الكبرياء فيه ثلاثة أقوال . أحدها: السلطان، قاله مجاهد . والثاني: الشرف، قاله ابن زيد . والثالث: العظمة، [ ص: 367 ] قاله يحيى بن سلام، والزجاج .

[ ص: 368 ]
سورة الأحقاف

بسم الله الرحمن الرحيم

حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون . قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين .

فصل في نزولها

روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور . وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: فيها آية مدنية، وهي قوله: قل أرأيتم إن كان من عند الله [الأحقاف: 10] . وقال مقاتل: نزلت بمكة غير آيتين: قوله: قل أرأيتم إن كان من عند الله [الأحقاف: 10] وقوله: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [الأحقاف: 35] نزلتا بالمدينة . وقد تقدم تفسير فاتحتها [المؤمن، الحجر: 85] [ ص: 369 ] إلى قوله: وأجل مسمى وهو أجل فناء السموات والأرض، وهو يوم القيامة .

قوله تعالى: قل أرأيتم مفسر في [فاطر: 40] إلى قوله: ائتوني بكتاب ، وفي الآية اختصار، تقديره: فإن ادعوا أن شيئا من المخلوقات صنعة آلهتهم، فقل لهم: ائتوني بكتاب من قبل هذا أي: من قبل القرآن فيه برهان ما تدعون من أن الأصنام شركاء الله، أو أثارة من علم وفيه ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه الشيء يثيره مستخرجه، قاله الحسن .

والثاني: بقية من علم تؤثر عن الأولين، قاله ابن قتيبة ، وإلى نحوه ذهب الفراء، وأبو عبيدة .

والثالث: علامة من علم، قاله الزجاج .

وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين ، وأيوب السختياني، ويعقوب: "أثرة" بفتح الثاء، مثل شجرة . ثم ذكروا في معناها ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه الخط، قاله ابن عباس; وقال: هو خط كانت العرب تخطه في الأرض، قال أبو بكر بن عياش: الخط هو العيافة .

والثاني: أو علم تأثرونه عن غيركم، قاله مجاهد .

والثالث: خاصة من علم، قاله قتادة .

وقرأ أبي بن كعب ، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة، والضحاك ، وابن يعمر: "أثرة" بسكون الثاء من غير ألف بوزن نظرة .

[ ص: 370 ] وقال الفراء: قرئت "أثارة" و "أثرة"، وهي لغات، ومعنى الكل: بقية من علم، ويقال: أو شيء مأثور من كتب الأولين، فمن قرأ "أثارة" فهو المصدر، مثل قولك: السماحة والشجاعة، ومن قرأ "أثرة" فإنه بناه على الأثر، كما قيل: قترة، ومن قرأ "أثرة" فكأنه أراد مثل قوله: "الخطفة" [الصافات: 10] و "الرجفة" [الأعراف: 78] .

وقال اليزيدي: الأثارة: البقية; والأثرة، مصدر أثره يأثره، أي: يذكره ويرويه، ومنه: حديث مأثور .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #492  
قديم 09-05-2024, 11:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,836
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء السابع

سُورَةُ الأحقاف
الحلقة (492)
صــ 371 إلى صــ 380




ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون . وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين . وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين . أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم .

قوله تعالى: من لا يستجيب له يعني الأصنام وهم عن دعائهم غافلون لأنها جماد لا تسمع، فإذا قامت القيامة صارت الآلهة أعداء لعابديها في الدنيا . ثم ذكر [بما] بعد هذا أنهم يسمون القرآن سحرا وأن محمدا افتراه .

[ ص: 371 ] قوله تعالى: فلا تملكون لي من الله شيئا أي: لا تقدرون على أن تردوا عني عذابه، أي: فكيف أفتري من أجلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عذابه عني؟! هو أعلم بما تفيضون فيه أي: بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب والقول بأنه سحر كفى به شهيدا بيني وبينكم أن القرآن جاء من عند الله وهو الغفور الرحيم في تأخير العذاب عنكم . وقال الزجاج : إنما ذكر هاهنا الغفران والرحمة ليعلمهم أن من أتى ما أتيتم ثم تاب فإن الله تعالى غفور له رحيم به .

قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين . قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .

قوله تعالى: قل ما كنت بدعا من الرسل أي: ما أنا بأول رسول . والبدع والبديع من كل شيء: المبتدأ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة: "ما يفعل" بفتح الياء . ثم فيه قولان .

[ ص: 372 ] أحدهما: أنه أراد بذلك ما يكون في الدنيا . ثم فيه قولان .

أحدهما: [أنه] لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى في المنام أنه هاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء، فقصها على أصحابه، فاستبشروا بذلك لما يلقون من أذى المشركين . ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك، فقالوا: يا رسول الله متى تهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، يعني لا أدري، أخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا؟ ثم قال: "إنما هو شيء رأيته في منامي، وما ( اتبع إلا ما يوحى إلي ) "، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وكذلك قال عطية: ما أدري هل يتركني بمكة أو يخرجني منها .

والثاني: ما أدري هل أخرج كما أخرج الأنبياء قبلي، أو أقتل كما قتلوا، ولا أدري ما يفعل بكم، أتعذبون أم تؤخرون؟ أتصدقون أم تكذبون؟ قاله الحسن

والقول الثاني: أنه أراد ما يكون في الآخرة . روى ابن أبي طلحة عن [ ص: 373 ] ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية، نزل بعدها ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [الفتح: 2] وقال: ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات . . . الآية [الفتح: 5] فأعلم ما يفعل به وبالمؤمنين . وقيل: إن المشركين فرحوا عند نزول هذه الآية وقالوا: ما أمرنا وأمر محمد إلا واحد، ولولا أنه ابتدع ما يقوله لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فنزل قوله: ليغفر لك الله . . . الآية [الفتح: 2]، فقال الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت: ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات . . . الآية [الفتح: 5]; وممن ذهب إلى هذا القول أنس، وعكرمة، وقتادة . وروي عن الحسن ذلك .

قوله تعالى: قل أرأيتم إن كان من عند الله يعني القرآن وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل وفيه قولان .

أحدهما: أنه عبد الله بن سلام، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، والضحاك ، وابن زيد .

والثاني: أنه موسى بن عمران عليه السلام، قاله الشعبي، ومسروق .

فعلى القول الأول يكون ذكر المثل صلة، فيكون المعنى: وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه، أي: على أنه من عند الله، فآمن الشاهد، وهو ابن سلام واستكبرتم يا معشر اليهود .

وعلى الثاني يكون المعنى: وشهد موسى على التوراة التي هي مثل القرآن [ ص: 374 ] أنها من عند الله، كما شهد محمد على القرآن أنه كلام الله، "فآمن" من آمن بموسى والتوراة "واستكبرتم" أنتم يا معشر العرب أن تؤمنوا بمحمد والقرآن .

فإن قيل: أين جواب "إن"؟ قيل: هو مضمر; وفي تقديره ستة أقوال . أحدها: أن جوابه: فمن أضل منكم، قاله الحسن . والثاني: أن تقدير الكلام: وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن، أتؤمنون؟ قاله الزجاج . والثالث: أن تقديره: أتأمنون عقوبة الله؟ قاله أبو علي الفارسي . والرابع: أن تقديره: أفما تهلكون؟ ذكره الماوردي . والخامس: من المحق منا ومنكم ومن المبطل؟ ذكره الثعلبي . والسادس: أن تقديره: أليس قد ظلمتم؟ ويدل على هذا المحذوف قوله: إن الله لا يهدي القوم الظالمين ، ذكره الواحدي .

وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم . ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين . إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون . ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين . أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا [ ص: 375 ] ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون .

قوله تعالى: وقال الذين كفروا للذين آمنوا . . . الآية، في سبب نزولها خمسة أقوال .

أحدها: أن الكفار قالوا: لو كان دين محمد خيرا ما سبقنا إليه اليهود، فنزلت هذه الآية، قاله مسروق .

والثاني: أن امرأة ضعيفة البصر أسلمت، وكان الأشراف من قريش يهزؤون بها ويقولون: والله لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا هذه إليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الزناد .

والثالث: أن أبا ذر الغفاري أسلم واستجاب به قومه إلى الإسلام، فقالت قريش: لو كان خيرا ما سبقونا إليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو المتوكل .

والرابع: أنه لما اهتدت مزينة وجهينة وأسلمت، قالت أسد وغطفان: لو كان خيرا ما سبقنا إليه رعاء الشاء، يعنون مزينة وجهينة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب .

والخامس: أن اليهود قالوا: لو كان دين محمد خيرا ما سبقتمونا إليه، لأنه لا علم لكم بذلك، ولو كان حقا لدخلنا فيه، ذكره أبو سليمان الدمشقي وقال: [هو قول من يقول: إن الآية نزلت بالمدينة; ومن قال: هي مكية، قال]: هو قول المشركين . فقد خرج في "الذين كفروا" قولان . أحدهما: أنهم المشركون . والثاني: اليهود .

وقوله: لو كان خيرا أي: لو كان دين محمد خيرا ما سبقونا إليه .

[ ص: 376 ] فمن قال: هم المشركون، قال: أرادوا: إنا أعز وأفضل; ومن قال: هم اليهود، [قال]: أرادوا: لأنا أعلم .

قوله تعالى: وإذ لم يهتدوا به أي: بالقرآن فسيقولون هذا إفك قديم أي: كذب متقدم، يعنون أساطير الأولين .

ومن قبله كتاب موسى أي: من قبل القرآن التوراة . وفي الكلام محذوف، تقديره: فلم يهتدوا، لأن المشركين لم يهتدوا بالتوارة .

إماما قال الزجاج : هو منصوب على الحال ورحمة عطف عليه وهذا كتاب مصدق المعنى: مصدق للتوراة لسانا عربيا منصوب على الحال; المعنى: مصدق لما بين يديه عربيا; وذكر "لسانا" توكيدا، كما تقول: جاءني زيد رجلا صالحا، تريد: جاءني زيد صالحا .

قوله تعالى: لينذر الذين ظلموا قرأ عاصم، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: "لينذر" بالياء . وقرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب: "لتنذر" بالتاء . وعن ابن كثير كالقراءتين . و "الذين ظلموا" المشركين وبشرى أي: وهو بشرى للمحسنين وهم الموحدون يبشرهم بالجنة .

وما بعد هذا قد تقدم تفسيره [فصلت: 30] إلى قوله: بوالديه حسنا وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: "إحسانا" بألف .

حملته أمه كرها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : "كرها" بفتح الكاف; وقرأ الباقون: بضمها . قال الفراء: والنحويون يستحبون الضم هاهنا، ويكرهون الفتح، للعلة التي بيناها عند قوله: وهو كره لكم [البقرة: 216] . قال الزجاج : والمعنى: حملته على مشقة ووضعته على مشقة . [ ص: 377 ] وفصاله أي: فطامه . وقرأ يعقوب: "وفصله" بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف ثلاثون شهرا . قال ابن عباس: "ووضعته كرها" يريد به شدة الطلق . واعلم أن هذه المدة قدرت لأقل الحمل وأكثر الرضاع; فأما الأشد، ففيه أقوال قد تقدمت; واختار الزجاج أنه بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، لأنه وقت كمال الإنسان في بدنه وقوته واستحكام شأنه وتمييزه . وقال ابن قتيبة : أشد الرجل غير أشد اليتيم، لأن أشد الرجل: الاكتهال والحنكة وأن يشتد رأيه وعقله، وذلك ثلاثون سنة، ويقال: ثمان وثلاثون سنة، وأشد الغلام: أن يشتد خلقه ويتناهى نباته . وقد ذكرنا بيان الأشد في [الأنعام: 153] وفي [يوسف: 22] وهذا تحقيقه . واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال .

أحدها: [أنها] نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة وهم يريدون الشام في تجارة، فنزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال [له]: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، [ ص: 378 ] فقال: هذا والله نبي، وما استظل تحتها أحد بعد عيسى إلا محمد نبي الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضره، فلما نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو ابن أربعين سنة وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة- صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ أربعين سنة قال: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الأكثرون; قالوا: فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة، دعا الله عز وجل بما ذكره في هذه الآية، فأجابه الله، فأسلم والداه وأولاده ذكورهم وإناثهم، ولم يجتمع ذلك لغيره من الصحابة .

والقول الثاني: أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد شرحنا قصته في سورة [العنكبوت: 8]، وهذا مذهب الضحاك، والسدي .

والثالث: أنها نزلت على العموم، قاله الحسن . وقد شرحنا في سورة [النمل: 19] معنى قوله: أوزعني .

قوله تعالى: وأن أعمل صالحا ترضاه قال ابن عباس: أجابه الله -يعني أبا بكر- فأعتق تسعة من المؤمنين كانوا يعذبون في الله عز وجل، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه، واستجاب له في ذريته فآمنوا، إني تبت إليك أي: رجعت إلى كل ما تحب .

[ ص: 379 ] قوله تعالى: أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: "يتقبل" "ويتجاوز" بالياء المضمومة فيهما . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف: "نتقبل" "ونتجاوز" بالنون فيهما . وقرأ أبو المتوكل، وأبو رجاء، وأبو عمران الجوني: "يتقبل" "ويتجاوز" بياء مفتوحة فيهما، يعني أهل هذا القول . والأحسن بمعنى الحسن .

في أصحاب الجنة أي: في جملة من يتجاوز عنهم، وهم أصحاب الجنة . وقيل: "في" بمعنى "مع" .

وعد الصدق قال الزجاج : هو منصوب، لأنه مصدر مؤكد لما قبله، لأن قوله: "أولئك الذين نتقبل عنهم" بمعنى الوعد، لأنه وعدهم القبول بقوله: "وعد الصدق"، يؤكد ذلك قوله: الذي كانوا يوعدون أي: على ألسنة الرسل في الدنيا .

والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين . أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن [ ص: 380 ] والإنس إنهم كانوا خاسرين . ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون . ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون .

قوله تعالى: والذي قال لوالديه أف لكما قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: أف لكما بالخفض من غير تنوين . وقرأ ابن كثير . وابن عامر: بفتح الفاء . وقرأ نافع، وحفص عن عاصم: "أف" بالخفض والتنوين . وقرأ ابن يعمر: "أف" بتشديد الفاء مرفوعة منونة . وقرأ حميد، والجحدري : "أفا" بتشديد الفاء وبالنصب والتنوين . وقرأ عمرو بن دينار: "أف" بتشديد الفاء وبالرفع من غير تنوين . وقرأ أبو المتوكل، [وعكرمة]، وأبو رجاء: "أف لكما" بإسكان الفاء خفيفة . وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: "أفي" بتشديد الفاء وياء ساكنة ممالة . وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام، وهو يأبى، وعلى هذا جمهور المفسرين . وقد روي عن عائشة أنها كانت تنكر أن تكون الآية نزلت في عبد الرحمن، وتحلف على ذلك وتقول: لوشئت لسميت الذي نزلت فيه . قال الزجاج : وقول من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن، باطل بقوله: أولئك الذين حق عليهم القول ، فأعلم الله أن هؤلاء لا يؤمنون، وعبد الرحمن مؤمن; والتفسير الصحيح أنا نزلت في الكافر العاق . وروي [عن] مجاهد أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر، وعن [ ص: 381 ] الحسن [أنها] نزلت في جماعة من كفار قريش قالوا ذلك لآبائهم .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #493  
قديم 09-05-2024, 11:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,836
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء السابع

سُورَةُ الأحقاف
الحلقة (493)
صــ 381 إلى صــ 390



قوله تعالى: وقد خلت القرون من قبلي فيه قولان . أحدهما: مضت القرون فلم يرجع منهم أحد، قاله مقاتل . والثاني: مضت القرون مكذبة بهذا، قاله أبو سليمان الدمشقي .

قوله تعالى: وهما يستغيثان الله أي: يدعوان الله له بالهدى، ويقولان له: ويلك آمن أي: صدق بالبعث، فيقول ما هذا الذي تقولان إلا أساطير الأولين وقد سبق شرحها [الأنعام: 25] .

قوله تعالى: أولئك يعنى الكفار الذين حق عليهم القول أي: وجب عليهم قضاء الله أنهم من أهل النار في أمم أي: مع أمم . فذكر الله تعالى في الآيتين قبل هذه من بر والديه وعمل بوصية الله عز وجل، ثم ذكر من لم يعمل بالوصية ولم يطع ربه ولا والديه، إنهم كانوا خاسرين وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران: "أنهم" بفتح الهمزة .

ثم قال: ولكل درجات مما عملوا أي: منازل ومراتب بحسب ما اكتسبوه من إيمان وكفر، فيتفاضل أهل الجنة في الكرامة، وأهل النار في [ ص: 382 ] العذاب وليوفيهم أعمالهم قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو : "وليوفيهم" بالياء، وقرأ الباقون: بالنون; أي: جزاء أعمالهم .

قوله تعالى: ويوم يعرض المعنى: واذكر لهم يوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم أي: ويقال لهم: أذهبتم، قرأ ابن كثير: ["آذهبتم" بهمزة مطولة . وقرأ] ابن عامر: "أأذهبتم" بهمزتين . وقرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: "أذهبتم" على الخبر، وهو توبيخ لهم . قال الفراء والزجاج: [العرب] توبخ بالألف وبغير الألف، فتقول: أذهبت وفعلت كذا؟! و: ذهبت ففعلت؟! قال المفسرون: والمراد بطيباتهم: ما كانوا فيه من اللذات مشتغلين بها عن الآخرة معرضين عن شكرها . ولما وبخهم الله بذلك، آثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون بعدهم اجتناب نعيم العيش ولذته ليتكامل أجرهم ولئلا يلهيهم عن معادهم . وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على خصفة وبعضه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا، فقال: يا رسول الله أنت نبي الله وصفوته، وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير؟! فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عمر، إن أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم، وهي وشيكة الانقطاع، وإنا أخرت لنا طيباتنا" . وروى جابر بن عبد الله قال: رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي، فقال: ما هذا يا جابر؟ فقلت: اشتهيت لحما فاشتريته، فقال: أو كلما اشتهيت [ ص: 383 ] اشتريت يا جابر؟! أما تخاف هذه الآية: "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا" . وروي عن عمر أنه قيل له: لو أمرت أن نصنع لك طعاما ألين من هذا، فقال: إني سمعت الله عير أقواما فقال: "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا" .

قوله تعالى: تستكبرون في الأرض أي: تتكبرون عن عبادة الله والإيمان به .

واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم . قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون . فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم . تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين .

قوله تعالى: واذكر أخا عاد يعني هودا إذ أنذر قومه بالأحقاف قال الخليل: الأحقاف: الرمال العظام . وقال ابن قتيبة : واحد الأحقاف: حقف، وهو من الرمل: ما أشرف من كثبانه واستطال وانحنى . وقال ابن جرير: هو ما استطال من الرمل ولم يبلغ أن يكون جبلا .

واختلفوا في المكان الذي سمي بهذا الاسم على ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه جبل بالشام، قاله ابن عباس، والضحاك .

[ ص: 384 ] والثاني: أنه واد، ذكره عطية . وقال مجاهد: هي أرض . وحكى ابن جرير: أنه واد بين عمان ومهرة . وقال ابن إسحاق: كانوا ينزلون ما بين عمان وحضرموت، واليمن كله .

والثالث: أن الأحقاف: رمال مشرفة على البحر بأرض يقال لها: الشحر، قاله قتادة .

قوله تعالى: وقد خلت النذر أي: قد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده بإنذار أممها ألا تعبدوا إلا الله ; والمعنى: لم يبعث رسول قبل هود ولا بعده إلا بالأمر بعبادة الله وحده . وهذا كلام اعترض بين إنذار هود وكلامه لقومه . ثم عاد إلى كلام هود فقال: إني أخاف عليكم .

قوله تعالى: لتأفكنا أي: لتصرفنا عن عبادة آلهتنا بالإفك .

قوله تعالى: إنما العلم عند الله أي: هو يعلم متى يأتيكم العذاب .

فلما رأوه يعني ما يوعدون في قوله: "بما تعدنا" عارضا أي: سحاب يعرض من ناحية السماء . قال ابن قتيبة : العارض: السحاب . قال المفسرون: كان المطر قد حبس عن عاد، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فلما رأوها فرحوا و قالوا هذا عارض ممطرنا ، فقال لهم هود: بل هو ما استعجلتم به ، ثم بين ما هو فقال: ريح فيها عذاب أليم ، فنشأت الريح من تلك السحابة، تدمر كل شيء أي: تهلك كل شيء مرت به من الناس والدواب والأموال . قال عمرو بن ميمون: لقد كانت الريح تحتمل الظعينة فترفعها حتى ترى كأنها جرادة، فأصبحوا يعني عادا لا يرى إلا مساكنهم [ ص: 385 ] قرأ عاصم، وحمزة: "لا يرى" برفع الياء "إلا مساكنهم" برفع النون . وقرأ علي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة، والجحدري : "لا ترى" بتاء مضمومة . وقرأ أبو عمران، وابن السميفع: "لا ترى" بتاء مفتوحة . "إلا مسكنهم" على التوحيد . وهذا لأن السكان هلكوا، فقيل: أصبحوا وقد غطتهم الريح بالرمل فلا يرون .

ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون . فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون .

ثم خوف كفار مكة، فقال عز وجل: ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه في "إن" قولان .

أحدهما: أنها بمعنى "لم"، فتقديره: فيما لم نمكنكم فيه، [قاله ابن عباس، وابن قتيبة . وقال الفراء: هي بمنزلة "ما" في الجحد، فتقدير الكلام: في الذي لم نمكنكم فيه] .

والثاني: أنها زائدة; والمعنى: فيما مكناكم فيه، وحكاه ابن قتيبة أيضا .

[ ص: 386 ] ثم أخبر أنه جعل لهم آلات الفهم، فلم يتدبروا بها، ولم يتفكروا فيما يدلهم على التوحيد . قال المفسرون: والمراد بالأفئدة: القلوب; وهذه الآلات لم ترد عنهم عذاب الله .

ثم زاد كفار مكة في التخويف، فقال: ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى كديار عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من الأمم المهلكة وصرفنا الآيات أي: بيناها لعلهم يعني أهل القرى يرجعون عن كفرهم . وهاهنا محذوف، تقديره: فما رجعوا عن كفرهم .

فلولا أي: فهلا نصرهم أي: منعهم من عذاب الله الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة ؟! يعني الأصنام التي تقربوا بعبادتها إلى الله على زعمهم; وهذا استفهام إنكار، معناه: لم ينصروهم بل ضلوا عنهم أي: لم ينفعوهم عند نزول العذاب وذلك يعني دعاءهم الآلهة إفكهم أي: كذبهم . وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن يعمر، وأبو عمران: "وذلك أفكهم" بفتح الهمزة وقصرها وفتح الفاء وتشديدها ونصب الكاف . وقرأ أبي بن كعب ، وابن عباس، وأبو رزين ، والشعبي، وأبو العالية، والجحدري : "أفكهم" بفتح الهمزة وقصرها ونصب الكاف والفاء [وتخفيفها] . قال ابن جرير: أي: أضلهم . وقال الزجاج : معناها: صرفهم عن الحق فجعلهم ضلالا . وقرأ ابن مسعود، [ ص: 387 ] وأبو المتوكل: "آفكهم" بفتح الهمزة ومدها وكسر الفاء وتخفيفها ورفع الكاف، أي: مضلهم .

وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين .

قوله تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن وبخ الله عز وجل بهذه الآية كفار قريش بما آمنت به الجن . وفي سبب صرفهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال .

أحدها: أنهم صرفوا إليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشهب . روى البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث ابن عباس قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر، فمر النفر الذين توجهوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بـ "نخلة" وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا [ ص: 388 ] القرآن تسمعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد [الجن: 1 -2] . فأنزل الله على نبيه قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن [الجن: 1] . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن، ولا رآهم، وإنما أتوه وهو بـ "نخلة" فسمعوا القرآن .

والثاني: أنهم صرفوا إليه لينذرهم، وأمر أن يقرأ عليهم القرآن، هذا مذهب جماعة، منهم قتادة . وفي أفراد مسلم من حديث علقمة قال: قلت لعبد الله: من كان منكم مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال: ما كان منا معه أحد، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة، فقلنا: اغتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استطير، فانطلقنا نطلبه في الشعاب، فلقيناه مقبلا من نحو حراء، فقلنا: يا رسول الله، أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال: "إنه أتاني داعي الجن، فذهبت أقرئهم القرآن"، فذهب بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم . وقال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني أمرت أن أقرأ على الجن، فأيكم يتبعني؟" فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا، فأتبعه عبد الله بن مسعود، فدخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له: "شعب الحجون"، وخط على عبد الله خطا ليثبته به، قال: فسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع قلت: يا نبي الله، ما اللغط [ ص: 389 ] الذي سمعت؟ قال: "اجتمعوا إلي في قتيل كان بينهم، فقضيت بينهم بالحق"

والثالث: أنهم مروا به وهو يقرأ، فسمعوا القرآن . فذكر بعض المفسرين أنه لما يئس من أهل مكة أن يجيبوه، خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام- وقيل: ليلتمس نصرهم- وذلك بعد موت أبي طالب، فلما كان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، فمر به نفر من أشراف جن نصيبين، فاستمعوا القرآن . فعلى هذا القول والقول الأول، لم يعلم بحضورهم حتى أخبره الله تعالى; وعلى القول الثاني، علم بهم حين جاءوا . وفي المكان الذي سمعوا فيه تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم قولان . أحدهما: الحجون، وقد ذكرناه عن ابن مسعود، وبه قال قتادة . والثاني: بطن نخلة، وقد ذكرناه عن ابن عباس، وبه قال مجاهد .

وأما النفر، فقال ابن قتيبة : يقال: إن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة . وللمفسرين في عدد هؤلاء النفر ثلاثة أقوال .

أحدها: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن مسعود، وزر بن حبيش، ومجاهد، ورواه عكرمة عن ابن عباس .

[ ص: 390 ] والثاني: تسعة، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

والثالث: اثني عشر ألفا، روي عن عكرمة، ولا يصح، لأن النفر لا يطلق على الكثير .

قوله تعالى: فلما حضروه أي: حضروا استماعه، و قضي يعني: فرغ من تلاوته ولوا إلى قومهم منذرين أي: محذرين عذاب الله عز وجل إن لم يؤمنوا .

وهل أنذروا قومهم من قبل أنفسهم، أم جعلهم رسول الله رسلا إلى قومهم؟ فيه قولان .

قال عطاء: كان دين أولئك الجن اليهودية، فلذلك قالوا: من بعد موسى .

قوله تعالى: أجيبوا داعي الله يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم . وهذا يدل على أنه أرسل إلى الجن والإنس .

قوله تعالى: يغفر لكم من ذنوبكم "من" هاهنا صلة .

[ ص: 391 ] قوله تعالى: فليس بمعجز في الأرض أي: لا يعجز الله تعالى وليس له من دونه أولياء أي: أنصار يمنعونه من عذاب الله تعالى أولئك الذين لا يجيبون الرسل في ضلال مبين .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #494  
قديم 09-05-2024, 11:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,836
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء السابع

سُورَةُ مُحَمَّدٍ
الحلقة (494)
صــ 391 إلى صــ 400



أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير . ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون .

ثم احتج على إحياء الموتى بقوله: أولم يروا . . . إلى آخر الآية . والرؤية هاهنا بمعنى العلم .

ولم يعي أي: لم يعجز عن ذلك; يقال: عي فلان بأمره، إذا لم يهتد له ولم يقدر عليه . قال الزجاج : يقال: عييت بالأمر، إذا لم تعرف وجهه، وأعييت، إذا تعبت .

[ ص: 392 ] قوله تعالى: بقادر قال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة مؤكدة . وقال الفراء: العرب تدخل الباء مع الجحد، مثل قولك: ما أظنك بقائم، وهذا قول الكسائي، والزجاج . وقرأ يعقوب: "يقدر" بياء مفتوحة مكان الباء وسكون القاف ورفع الراء من غير ألف . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: كما صبر أولو العزم أي: ذوو الحزم والصبر; وفيهم عشرة أقوال .

أحدها: أنهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، صلى الله عليهم وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، وعطاء الخراساني، وابن السائب .

والثاني: نوح، وهود، وإبراهيم، ومحمد، صلى الله عليهم وسلم، قاله أبو العالية الرياحي .

والثالث: أنهم الذين لم تصبهم فتنة من الأنبياء، قاله الحسن .

والرابع: أنهم العرب من الأنبياء، قاله مجاهد، والشعبي .

والخامس: أنهم إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد، صلى الله عليهم وسلم، قاله السدي

والسادس: أن منهم إسماعيل، ويعقوب، وأيوب، وليس منهم آدم، ولا يونس، ولا سليمان، قاله ابن جريج .

والسابع: أنهم الذين أمروا بالجهاد والقتال، قاله ابن السائب، وحكي عن السدي .

والثامن: أنهم جميع الرسل، فإن الله لم يبعث رسولا إلا كان من أولي العزم، قاله ابن زيد، واختاره ابن الأنباري، وقال: "من" دخلت للتجنيس لا للتبعيض، كما تقول: قد رأيت الثياب من الخز والجباب من القز .

[ ص: 393 ] والتاسع: أنهم الأنبياء الثمانية عشر المذكورون في سورة [الأنعام: 83 -86]، قاله الحسين بن الفضل .

والعاشر: أنهم جميع الأنبياء إلا يونس، حكاه الثعلبي .

قوله تعالى: ولا تستعجل لهم يعني العذاب . قال بعض المفسرين: كان النبي صلى الله عليه وسلم ضجر بعض الضجر، وأحب أن ينزل العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر .

قوله تعالى: كأنهم يوم يرون ما يوعدون أي: من العذاب لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار لأن ما مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلا . وقيل: لأن مقدار مكثهم في الدنيا قليل في جنب مكثهم في عذاب الآخرة . وهاهنا تم الكلام . ثم قال: بلاغ أي: هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ عن الله إليكم .

وفي معنى وصف القرآن بالبلاغ قولان .

أحدهما: أن البلاغ بمعنى التبليغ .

والثاني: أن معناه: الكفاية، فيكون المعنى: ما أخبرناهم به لهم فيه كفاية وغنى .

وذكر ابن جرير وجها آخر، وهو أن المعنى: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، ذلك لبث بلاغ، أي: ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى آجالهم، ثم حذفت "ذلك لبث" اكتفاء بدلالة ما ذكر في الكلام عليها .

[ ص: 394 ] وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: "بلغ" بكسر اللام وتشديدها وسكون الغين من غير ألف .

قوله تعالى: فهل يهلك وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكل، وابن محيصن: "يهلك" بفتح الياء وكسر اللام، أي: عند رؤية العذاب إلا القوم الفاسقون الخارجون عن أمر الله عز وجل؟! .

[ ص: 395 ]

سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صلى الله عليه وسلم

وفيها قولان .

أحدهما: [أنها] مدنية، قاله الأكثرون، منهم مجاهد، ومقاتل . وحكي عن ابن عباس وقتادة أنها مدنية، إلا آية منها نزلت عليه بعد حجه حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت، وهي قوله: وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك [محمد: 13] .

والثاني: أنها مكية، قاله الضحاك، والسدي .

بسم الله الرحمن الرحيم

الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم . والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم . ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم . فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم [ ص: 396 ] فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم . ويدخلهم الجنة عرفها لهم

قوله تعالى: الذين كفروا أي: بتوحيد الله وصدوا الناس عن الإيمان به، وهم مشركو قريش، أضل أعمالهم أي: أبطلها، ولم يجعل لها ثوابا، فكأنها لم تكن; وقد كانوا يطعمون الطعام، ويصلون الأرحام، ويتصدقون، ويفعلون ما يعتقدونه قربة .

والذين آمنوا وعملوا الصالحات يعني أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وآمنوا بما نزل على محمد وقرأ ابن مسعود: "نزل" بفتح النون والزاي وتشديدها . وقرأ أبي بن كعب ، ومعاذ القارئ: "أنزل" بهمزة مضمومة مكسورة الزاي . وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء، وأبو عمران: "نزل" بفتح النون والزاي وتخفيفها، كفر عنهم سيئاتهم أي: غفرها لهم وأصلح بالهم أي: حالهم، قاله قتادة ، والمبرد .

قوله تعالى: ذلك قال الزجاج : معناه: الأمر ذلك، وجائز أن يكون: ذلك الإضلال، لاتباعهم الباطل، وتلك الهداية والكفارات باتباع المؤمنين الحق، كذلك يضرب الله للناس أمثالهم أي: كذلك يبين أمثال حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين كهذا البيان .

قوله تعالى: فضرب الرقاب إغراء; والمعنى: فاقتلوهم، لأن الأغلب في موضع القتل ضرب العنق حتى إذا أثخنتموهم أي: أكثرتم فيهم [ ص: 397 ] القتل فشدوا الوثاق يعني في الأسر; وإنما يكون الأسر بعد المبالغة في القتل . و "الوثاق" اسم من الإيثاق; تقول: أوثقته إيثاقا ووثاقا، إذا شددت أسره لئلا يفلت فإما منا بعد قال أبو عبيدة: إما أن تمنوا، وإما أن تفادوا، ومثله: سقيا، ورعيا، وإنما هو سقيت ورعيت . وقال الزجاج : إما مننتم عليهم بعد أن تأسروهم منا، وإما أطلقتموهم بفداء .

فصل

وهذه الآية محكمة عند عامة العلماء . وممن ذهب إلى أن حكم المن والفداء باق لم ينسخ: ابن عمر، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، وأحمد، والشافعي . وذهب قوم إلى نسخ المن والفداء بقوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وممن ذهب إلى هذا ابن جريج، والسدي، وأبو حنيفة . وقد أشرنا إلى القولين في [براءة: 5] .

قوله تعالى: حتى تضع الحرب أوزارها قال ابن عباس: حتى لا يبقى أحد من المشركين . وقال مجاهد: حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام . وقال سعيد بن جبير: حتى يخرج المسيح . وقال الفراء: حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم . وفي معنى الكلام قولان .

أحدهما: حتى يضع أهل الحرب سلاحهم; قال الأعشى:


وأعددت للحرب أوزارها: رماحا طوالا وخيلا ذكورا


[ ص: 398 ] وأصل "الوزر" ما حملته، فسمي السلاح "أوزارا" لأنه يحمل، هذا قول ابن قتيبة .

والثاني: حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا ولا يعبدوا إلا الله، ذكره الواحدي .

قوله تعالى: ذلك أي: الأمر ذلك الذي ذكرنا ولو يشاء الله لانتصر منهم بإهلاكهم أوتعذيبهم بما شاء ولكن أمركم بالحرب ليبلو بعضكم ببعض فيثيب المؤمن ويكرمه بالشهادة، ويخزي الكافر بالقتل والعذاب .

قوله تعالى: والذين قتلوا قرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم: "قتلوا" بضم القاف وكسر التاء; والباقون: "قاتلوا" بألف .

قوله تعالى: سيهديهم فيه أربعة أقوال . أحدها: يهديهم إلى أرشد الأمور، قاله ابن عباس . والثاني: يحقق لهم الهداية، قاله الحسن . والثالث: إلى محاجة منكر ونكير . والرابع: إلى طريق الجنة، حكاهما الماوردي .

وفي قوله: عرفها لهم قولان .

أحدهما: عرفهم منازلهم فيها فلا يستدلون عليها ولا يخطئونها، هذا قول الجمهور، منهم مجاهد، وقتادة، واختاره الفراء، وأبو عبيدة .

والثاني: طيبها لهم، رواه عطاء عن ابن عباس . قال ابن قتيبة : وهو قول أصحاب اللغة، يقال: طعام معرف، أي: مطيب .

وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، وابن محيصن: "عرفها لهم" بتخفيف الراء .

[ ص: 399 ] يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم . ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها . ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم . إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم . وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم . أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم .

قوله تعالى: إن تنصروا الله أي: تنصروا دينه ورسوله ينصركم على عدوكم ويثبت أقدامكم عند القتال . وروى المفضل عن عاصم: "ويثبت" بالتخفيف .

والذين كفروا فتعسا لهم قال الفراء: المعنى: فأتعسهم الله: والدعاء قد يجري مجرى الأمر والنهي . قال ابن قتيبة : هو من قولك: تعست، [ ص: 400 ] أي: عثرت وسقطت . وقال الزجاج : التعس في اللغة: الانحطاط والعثور . وما بعد هذا قد سبق بيانه [الكهف: 105، يوسف: 109] إلى قوله: دمر الله عليهم أي: أهلكهم [الله] وللكافرين أمثالها أي: أمثال تلك العاقبة .

ذلك الذي فعله بالمؤمنين من النصر، وبالكافرين من الدمار بأن الله مولى الذين آمنوا أي: وليهم .

وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: ويأكلون كما تأكل الأنعام أي: أن الأنعام تأكل وتشرب، ولا تدري ما في غد، فكذلك الكفار لا يلتفتون إلى الآخرة . و "المثوى": المنزل .

وكأين مشروح في [آل عمران: 146] . والمراد بقريته: مكة; وأضاف القوة والإخراج إليها، والمراد أهلها، ولذلك قال: أهلكناهم .

قوله تعالى: أفمن كان على بينة من ربه فيه قولان . أحدهما: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أبو العالية . والثاني: أنه المؤمن، قاله الحسن .

وفي "البينة" قولان . أحدهما: القرآن، قاله ابن زيد . والثاني: الدين، قاله ابن السائب .

كمن زين له سوء عمله يعني عبادة الأوثان، وهو الكافر واتبعوا أهواءهم بعبادتها .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #495  
قديم 09-05-2024, 11:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,836
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء السابع

سُورَةُ مُحَمَّدٍ
الحلقة (495)
صــ 401 إلى صــ 410



[ ص: 401 ] مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم .

مثل الجنة التي وعد المتقون أي: صفتها، وقد شرحناه في [الرعد: 35] . و "المتقون" عند المفسرين: الذين يتقون الشرك . و "الآسن" المتغير الريح، قاله أبو عبيدة، والزجاج . وقال ابن قتيبة : هو المتغير الريح والطعم، و "الآجن" نحوه . وقرأ ابن كثير: "غير أسن" بغير مد . وقد شرحنا قوله لذة للشاربين في [الصافات: 46] .

قوله تعالى: من عسل مصفى أي: من عسل ليس فيه عكر ولا كدر كعسل أهل الدنيا .

قوله تعالى: كمن هو خالد في النار قال الفراء: أراد: من كان في هذا النعيم، كمن هو خالد في النار؟! .

قوله تعالى: ماء حميما أي: حارا شديد الحرارة . و "الأمعاء" جميع ما في [ ص: 402 ] البطن من الحوايا .

ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم . والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم . فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم .

قوله تعالى: ومنهم من يستمع إليك يعني المنافقين . وفيما يستمعون قولان . أحدهما: أنه سماع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة . والثاني: سماع قوله على عموم الأوقات . فأما " الذين أوتوا العلم " ، فالمراد: بهم علماء الصحابة .

قوله تعالى: ماذا قال آنفا قال الزجاج : أي: ماذا قال الساعة، وهو من قولك: استأنفت الشيء: إذا ابتدأته، وروضة أنف: لمن ترع، أي: لها أول يرعى; فالمعنى: ماذا قال في أول وقت يقرب منا . وحدثنا عن أبي عمر غلام ثعلب أنه قال: معنى "آنفا" مذ ساعة . وقرأ ابن كثير، في بعض الروايات عنه: "أنفا" بالقصر، وهذه قراءة عكرمة، وحميد، وابن محيصن . قال أبو علي: يجوز أن يكون ابن كثير توهم، مثل حاذر وحذر، وفاكه وفكه .

وفي استفهامهم قولان . أحدهما: لأنهم لم يعقلوا ما يقول، ويدل عليه باقي الآية . والثاني: أنهم قالوه استهزاء .

قوله تعالى: والذين اهتدوا فيهم قولان . أحدهما: أنهم المسلمون، [ ص: 403 ] قاله الجمهور . والثاني: قوم من أهل الكتاب كانوا على الإيمان بأنبيائهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به، قاله عكرمة .

وفي الذي زادهم ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الله عز وجل . والثاني: قول الرسول . والثالث: استهزاء المنافقين زاد المؤمنين هدى، ذكرهن الزجاج . وفي معنى الهدى قولان . أحدهما: أنه العلم . والثاني: البصيرة .

وفي قوله: وآتاهم تقواهم ثلاثة أقوال . أحدها: ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السدي . والثاني: اتقاء المنسوخ والعمل بالناسخ، قاله عطية . والثالث: أعطاهم التقوى مع الهدى، فاتقوا معصيته خوفا من عقوبته، قاله أبو سليمان الدمشقي .

وينظرون بمعنى ينتظرون، أن تأتيهم وقرأ أبي بن كعب ، وأبو الأشهب، وحميد: "إن تأتهم" بكسر الهمزة من غير ياء بعد التاء . والأشراط: العلامات; قال أبو عبيدة: الأشراط: الأعلام، وإنما سمي الشرط -فيما ترى- لأنهم أعلموا أنفسهم . قال المفسرون: ظهور النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وانشقاق القمر والدخان وغير ذلك .

[ ص: 404 ] فأنى لهم أي: فمن أين لهم إذا جاءتهم الساعة ذكراهم ؟! قال قتادة: أنى لهم أن يذكروا ويتوبوا إذا جاءت؟!

فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم . ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم . طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم .

قوله تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله قال بعضهم: اثبت على علمك، وقال قوم: المراد بهذا الخطاب غيره; وقد شرحنا هذا في فاتحة " الأحزاب " . وقيل: إنه كان يضيق صدره بما يقولون، فقيل له: اعلم أنه لا كاشف لما بك إلا الله .

فأما قوله: واستغفر لذنبك فإنه كان يستغفر في اليوم مائة مرة، وأمر أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات إكراما لهم لأنه شفيع مجاب .

[ ص: 405 ] والله يعلم متقلبكم ومثواكم فيه ثلاثة أقوال .

أحدها: متقلبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة، وهو معنى قول ابن عباس .

والثاني: متقلبكم في أصلاب الرجال إلى أرحام النساء، ومقامكم في القبور، قاله عكرمة .

والثالث: "متقلبكم" بالنهار و "مثواكم" أي: مأواكم بالليل، قاله مقاتل .

قوله تعالى: ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة قال المفسرون: سألوا ربهم أن ينزل سورة فيها ثواب القتال في سبيل الله، اشتياقا منهم إلى الوحي وحرصا على الجهاد، فقالوا: "لولا" أي: هلا; وكان أبو مالك الأشجعي يقول: "لا" هاهنا صلة، فالمعنى: لو أنزلت سورة، شوقا منهم إلى الزيادة في العلم، ورغبة في الثواب والأجر بالاستكثار من الفرائض .

وفي معنى "محكمة" ثلاثة أقوال . أحدها: أنها التي يذكر فيها القتال، قاله قتادة . والثاني: أنها التي يذكر فيها الحلال والحرام . والثالث: التي لا منسوخ فيها، حكاهما أبو سليمان الدمشقي .

ومعنى قوله: وذكر فيها القتال أي: فرض فيها الجهاد .

وفي المراد بالمرض قولان . أحدهما: النفاق، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور . والثاني: الشك، قاله مقاتل .

[ ص: 406 ] قوله تعالى: ينظرون إليك أي يشخصون نحوك بأبصارهم ينظرون نظرا شديدا كما ينظر الشاخص ببصره عند الموت، لأنهم يكرهون القتال، ويخافون إن قعدوا أن يتبين نفاقهم .

فأولى لهم قال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد: "أولى لك" أي: وليك وقاربك ما تكره . وقال ابن قتيبة : هذا وعيد وتهديد، تقول للرجل -إذا أردت به سوءا، ففاتك- أولى لك، ثم ابتدأ، فقال: طاعة وقول معروف . . . وقال سيبويه والخليل: المعنى: طاعة وقول معروف أمثل . وقال الفراء: الطاعة معروفة في كلام العرب، إذا قيل لهم: افعلوا كذلك، قالوا: سمع وطاعة، فوصف [الله] قولهم قبل أن تنزل السورة أنهم يقولون: سمع وطاعة، فإذا نزل الأمر كرهوا . وأخبرني حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال الله تعالى: فأولى ، ثم قال: لهم أي: للذين آمنوا منهم طاعة ، فصارت "أولى" وعيدا لمن كرهها، واستأنف الطاعة بـ "لهم"; والأول عندنا كلام العرب، وهذا غير مردود، يعني حديث أبي صالح . وذكر بعض المفسرين أن الكلام متصل بما قبله; والمعنى: فأولى لهم أن يطيعوا وأن يقولوا معروفا بالإجابة .

قوله تعالى: فإذا عزم الأمر قال الحسن: جد الأمر . وقال غيره: جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد، ولزم فرض القتال، وصار الأمر معروفا عليه . وجواب "إذا" محذوف، تقديره: فإذا عزم الأمر نكلوا; يدل على المحذوف فلو صدقوا الله أي: في إيمانهم وجهادهم لكان خيرا لهم من المعصية والكراهة .

[ ص: 407 ] فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم . أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها . إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم . ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم . فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم . ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم

قوله تعالى: فهل عسيتم إن توليتم في المخاطب بهذا أربعة أقوال . أحدها: المنافقون، وهو الظاهر . والثاني: منافقو اليهود، قاله مقاتل . والثالث: الخوارج، قاله بكر بن عبد الله المزني . والرابع: قريش، حكاه جماعة منهم الماوردي .

وفي قوله: توليتم قولان .

أحدهما: أنه بمعنى الإعراض . فالمعنى: إن أعرضتم عن الإسلام أن تفسدوا في الأرض بأن تعودوا إلى الجاهلية يقتل بعضكم بعضا، ويغير بعضكم على بعض، ذكره جماعة من المفسرين .

والثاني: أنه من الولاية لأمور الناس، قاله القرظي . فعلى هذا يكون معنى "أن تفسدوا في الأرض": بالجور والظلم .

وقرأ يعقوب: "وتقطعوا" بفتح التاء والطاء وتخفيفها وسكون القاف . ثم ذم من يريد ذلك بالآية التي بعد هذه .

[ ص: 408 ] وما بعد هذا قد سبق [النساء: 82] إلى قوله: أم على قلوب أقفالها "أم" بمعنى "بل"، وذكر الأقفال استعارة، والمراد أن القلب يكون كالبيت المقفل لا يصل إليه الهدى . [قال مجاهد]: الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد ذلك كله، وقال خالد بن معدان: مامن آدمي إلا وله أربع أعين، عينان في رأسه لدنياه وما يصلحه من معيشته، وعينان في قلبه لدينه وما وعد الله من الغيب، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه، وإذا أراد به غير ذلك طمس عليهما، فذلك قوله: "أم على قلوب أقفالها" .

قوله تعالى: إن الذين ارتدوا على أدبارهم أي: رجعوا كفارا; وفيهم قولان . أحدهما: أنهم المنافقون، قاله ابن عباس، والسدي، وابن زيد . والثاني: أنهم اليهود، قاله قتادة ، ومقاتل . من بعد ما تبين لهم الهدى أي: من بعد ما وضح لهم الحق . ومن قال: هم اليهود، قال: من بعد أن [ ص: 409 ] تبين لهم وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم . و سول بمعنى زين . وأملى لهم قرأ أبو عمرو، وزيد عن يعقوب: "وأملي لهم" بضم الهمزة وكسر اللام وبعدها ياء مفتوحة . وقرأ يعقوب إلا زيدا، وأبان عن عاصم كذلك، إلا أنهما أسكنا الياء . وقرأ الباقون بفتح الهمزة واللام . وقد سبق معنى الإملاء [آل عمران: 178، الأعراف: 183] .

قوله تعالى: ذلك قال الزجاج : المعنى: الأمر ذلك، أي: ذلك الإضلال بقولهم للذين كرهوا ما نزل الله وفي الكارهين قولان .

أحدهما: أنهم المنافقون، فعلى هذا في معنى قوله: سنطيعكم في بعض الأمر ثلاثة أقوال . أحدها: في القعود عن نصرة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي . والثاني: في الميل إليكم والمظاهرة على محمد صلى الله عليه وسلم . والثالث: في الارتداد بعد الإيمان، حكاهما الماوردي .

والثاني: أنهم اليهود، فعلى هذا في الذي أطاعوهم فيه قولان . أحدهما: في أن لا يصدقوا شيئا من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الضحاك . والثاني: في كتم ما علموه من نبوته، قاله ابن جريج .

والله يعلم إسرارهم قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، والوليد عن يعقوب: بكسر الألف على أنه مصدر أسررت; وقرأ الباقون: بفتحها على أنه جمع سر، والمعنى أنه يعلم ما بين اليهود والمنافقين من السر .

[ ص: 410 ] قوله تعالى: فكيف إذا توفتهم الملائكة أي: فكيف يكون حالهم حينئذ؟ وقد بينا في [الأنفال: 50] معنى قوله: يضربون وجوههم وأدبارهم .

قوله تعالى: وكرهوا رضوانه أي: كرهوا ما فيه الرضوان، وهو الإيمان والطاعة .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #496  
قديم 09-05-2024, 11:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,836
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء السابع

سُورَةُ الْفَتْحِ
الحلقة (496)
صــ 411 إلى صــ 420




أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم .

قوله تعالى: أم حسب الذين في قلوبهم مرض أي: نفاق أن لن يخرج الله أضغانهم قال الفراء: أي لن يبدي الله عداوتهم وبغضهم لمحمد صلى الله عليه وسلم . وقال الزجاج : أي: لن يبدي عداوتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم ويظهره على نفاقهم .

[ ص: 411 ] ولو نشاء لأريناكهم أي: لعرفناكهم: تقول: قد أريتك هذا الأمر، أي: قد عرفتك إياه، المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة، وهي السيماء فلعرفتهم بسيماهم أي: بتلك العلامة ولتعرفنهم في لحن القول أي: في فحوى القول، فدل بهذا على أن قول القائل وفعله يدل على نيته . وقول الناس: قد لحن فلان، تأويله: قد أخذ في ناحية عن الصواب، وعدل عن الصواب إليها، وقول الشاعر:


منطق صائب وتلحن أحيا نا، وخير الحديث ما كان لحنا


تأويله: خير الحديث من مثل هذه ما كان لا يعرفه كل أحد، إنما يعرف قولها في أنحاء قولها . قال المفسرون: ولتعرفنهم في فحوى الكلام ومعناه ومقصده، فإنهم يتعرضون بتهجين أمرك والاستهزاء بالمسلمين . قال ابن جرير: ثم عرفه الله إياهم .

قوله تعالى: ولنبلونكم أي: ولنعاملنكم معاملة المختبر بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم العلم الذي هو علم وجود، وبه يقع الجزاء; وقد شرحنا هذا في [العنكبوت: 3] .

قوله تعالى: ونبلو أخباركم أي: نظهرها ونكشفها بإباء من يأبى القتال ولا يصبر على الجهاد . وقرأ أبو بكر عن عاصم: "وليبلونكم" بالياء "حتى يعلم" بالياء "ويبلو" بالياء فيهن . وقرأ معاذ القارئ، [ ص: 412 ] وأيوب السختياني: "أخياركم" بالياء جمع "خير" .

قوله تعالى: إن الذين كفروا . . . [الآية] اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .

أحدها: أنها في المطعمين يوم بدر، قاله ابن عباس .

والثاني: أنها نزلت في الحارث بن سويد، ووحوح الأنصاري، أسلما ثم ارتدا، فتاب الحارث ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى صاحبه أن يرجع حتى مات، قاله السدي .

والثالث: أنها في اليهود، قاله مقاتل .

والرابع: أنها في قريظة [والنضير]، ذكره الواحدي .

قوله تعالى: ولا تبطلوا أعمالكم اختلفوا في مبطلها على أربعة أقوال . أحدها: المعاصي والكبائر، قاله الحسن . والثاني: الشك والنفاق، قاله عطاء . والثالث، الرياء والسمعة، قاله ابن السائب . والرابع: بالمن، وذلك [ ص: 413 ] أن قوما من الأعراب قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتيناك طائعين، فلنا عليك حق، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله: يمنون عليك أن أسلموا [الحجرات: 17]، هذا قول مقاتل . قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدل على أن كل من دخل في قربة لم يجز له الخروج منها قبل إتمامها، وهذا على ظاهره في الحج، فأما في الصلاة والصيام، فهو على سبيل الاستحباب .

فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم .

قوله تعالى: فلا تهنوا أي: فلا تضعفوا وتدعوا إلى السلم قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: "إلى السلم" بفتح السين; وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: بكسر السين، والمعنى: لا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداء . وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز طلب الصلح من المشركين، ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل مكة صلحا، لأنه نهاه عن الصلح .

[ ص: 414 ] قوله تعالى: وأنتم الأعلون أي: أنتم أعز منهم، والحجة لكم، وآخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات والله معكم بالعون والنصرة ولن يتركم قال ابن قتيبة : أي: لن ينقصكم ولن يظلمكم، يقال: وترتني حقي، أي: بخستنيه . قال المفسرون: المعنى: لن ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا .

قوله تعالى: ولا يسألكم أموالكم أي: لن يسألكموها كلها .

قوله تعالى: فيحفكم قال الفراء: يجهدكم . وقال ابن قتيبة : يلح عليكم بما يوجبه في أموالكم تبخلوا ، [يقال: أحفاني بالمسألة وألحف: إذا ألح . وقال السدي: إن يسألكم جميع ما في أيديكم تبخلوا] .

ويخرج أضغانكم وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن يعمر: "ويخرج" بياء مرفوعة وفتح الراء "أضغانكم" بالرفع . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو رزين ، وعكرمة، وابن السميفع، وابن محيصن، والجحدري : "وتخرج" بتاء مفتوحة ورفع الراء "أضغانكم" بالرفع . وقرأ ابن مسعود، والوليد عن [ ص: 415 ] يعقوب: "ونخرج" بنون مرفوعة وكسر الراء "أضغانكم" بنصب النون، أي: يظهر بغضكم وعداوتكم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم; ولكنه فرض عليكم يسيرا .

وفيمن يضاف إليه هذا الإخراج وجهان .

أحدهما: إلى الله عز وجل . والثاني: البخل، حكاهما الفراء . وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، وليس بصحيح، لأنا قد بينا أن معنى الآية: إن يسألكم جميع أموالكم; والزكاة لا تنافي ذلك .

قوله تعالى: ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله يعني ما فرض عليكم في أمولكم فمنكم من يبخل بما فرض عليه من الزكاة ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه أي: على نفسه بما ينفعها في الآخرة والله الغني عنكم وعن أموالكم وأنتم الفقراء إليه وإلى ما عنده من الخير والرحمة وإن تتولوا عن طاعته يستبدل قوما غيركم أطوع له منكم ثم لا يكونوا أمثالكم بل خيرا منكم . وفي هؤلاء القوم ثمانية أقوال .

أحدها: أنهم العجم، قاله الحسن . وفيه حديث يرويه أبو هريرة قال: لما نزلت "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم" كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين إذا تولينا استبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم [يده] على منكب سلمان، فقال: "هذا وقومه، والذي نفسي بيده، لو أن الدين معلق بالثريا لتناوله رجال من فارس" . والثاني: فارس والروم، قاله [ ص: 416 ] عكرمة . والثالث: من يشاء من جميع الناس، قاله مجاهد . والرابع: يأتي بخلق جديد غيركم، وهو معنى قول قتادة . والخامس: كندة والنخع، قاله ابن السائب . والسادس: أهل اليمن، قاله راشد بن سعد، وعبد الرحمن بن جبير، وشريح بن عبيد . والسابع: الأنصار، قاله مقاتل . والثامن: أنهم الملائكة، حكاه الزجاج وقال: فيه بعد [لأنه] لا يقال للملائكة "قوم"، إنما يقال ذلك [ ص: 417 ] للآدميين; قال: وقد قيل: إن تولى أهل مكة استبدل الله بهم أهل المدينة، وهذا [معنى] ما ذكرنا عن مقاتل .

[ ص: 418 ]
سُورَةُ الْفَتْحِ
وهي مدنية كلها بإجماعهم

بسم الله الرحمن الرحيم

إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا .

قوله تعالى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا . . . [الآية] سبب نزولها أنه لما نزل قوله: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم [الأحقاف: 9] قال اليهود: كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به؟! فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس .

وفي المراد بالفتح أربعة أقوال .

أحدها: أنه كان يوم الحديبية، قاله الأكثرون . قال البراء بن عازب: نحن نعد الفتح بيعة الرضوان . وقال الشعبي: هو فتح الحديبية، غفر له [ ص: 419 ] ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس . قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام . قال مجاهد: يعني بالفتح ما قضى الله له من نحر الهدي [ ص: 420 ] بالحديبية وحلق رأسه، وقال ابن قتيبة : "إنا فتحنا لك فتحا مبينا" أي: قضينا لك قضاء عظيما، ويقال للقاضي: الفتاح . قال الفراء: والفتح قد يكون صلحا، ويكون أخذ الشيء عنوة، ويكون بالقتال . وقال غيره: معنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصلح الذي جعل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذرا حتى فتحه الله تعالى .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #497  
قديم 09-05-2024, 11:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,836
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء السابع

سُورَةُ الْفَتْحِ
الحلقة (497)
صــ 421 إلى صــ 430




الإشارة إلى قصة الحديبية

روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في النوم كأن قائلا يقول [له]: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين، فأصبح فحدث الناس برؤياه، وأمرهم بالخروج للعمرة; فذكر أهل العلم بالسير أنه خرج واستنفر أصحابه للعمرة، وذلك في سنة ست، ولم يخرج بسلاح إلا السيوف في القرب . وساق هو وأصحابه البدن . فصلى الظهر بـ "ذي الحليفة"، ثم دعا بالبدن فجللت، ثم أشعرها وقلدها، وفعل ذلك أصحابه، وأحرم ولبى، فبلغ المشركين خروجه، فأجمع رأيهم على صده عن المسجد الحرام، [ ص: 421 ] وخرجوا حتى عسكروا بـ "بلدح"، وقدموا مائتي فارس إلى كراع الغميم، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دنا من الحديبية; قال الزجاج : وهي بئر، فسمي المكان باسم البئر; قالوا: وبينها وبين مكة تسعة أميال، فوقفت يدا راحلته، فقال المسلمون: حل حل يزجرونها، فأبت، فقالوا: خلأت القصواء -والخلاء في الناقة مثل الحران في الفرس- فقال: "ما خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل، أما والله لا يسألوني خطة فيها تعظيم حرمة الله إلا أعطيتهم إياها"، ثم جرها فقامت، فولى راجعا عوده على بدئه حتى نزل على ثمد من أثماد الحديبية قليل الماء، فانتزع سهما من كنانته فغرزه فيها، فجاشت لهم بالرواء، وجاءه بديل بن ورقاء في ركب فسلموا وقالوا: جئناك من [ ص: 422 ] عند قومك وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، يقسمون، لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراءهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم نأت لقتال أحد إنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه"، فرجع [بديل] فأخبر قريشا، فبعثوا عروة بن مسعود، فكلمه بنحو ذلك، فأخبر قريشا، فقالوا: نرده من عامنا هذا، ويرجع من قابل فيدخل مكة ويطوف بالبيت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، قال: "اذهب إلى قريش فأخبرهم أنا لم نأت لقتال أحد، وإنما جئنا زوارا لهذا البيت، معنا الهدي ننحره وننصرف، فأتاهم فأخبرهم، فقالوا: لا كان هذا أبدا، ولا يدخلها العام، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل، فقال: "لا نبرح حتى نناجزهم"، فذاك حين دعا المسلمين إلى بيعة الرضوان، فبايعهم تحت الشجرة .

وفي عددهم يومئذ أربعة أقوال .

أحدها: ألف وأربعمائة، قاله البراء، وسلمة بن الأكوع، وجابر، ومعقل بن يسار .

والثاني: ألف وخمسمائة، روي عن جابر أيضا، وبه قال قتادة .

والثالث: ألف وخمسمائة وخمس وعشرون، رواه العوفي عن ابن عباس .

والرابع: ألف وثلاثمائة، قاله عبد الله بن أبي أوفى، قال: وضرب يومئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله على يمينه لعثمان، وقال: إنه ذهب في حاجة الله ورسوله، [ ص: 423 ] وجعلت الرسل تختلف بينهم، فأجمعوا على الصلح، فبعثوا سهيل بن عمرو في عدة رجال، فصالحه كما ذكرنا في [براءة: 7]، فأقام بالحديبية بضعة عشر يوما، ويقال: عشرين ليلة، ثم انصرف، فلما كان بـ "ضجنان" نزل عليه: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا"، فقال جبريل: يهنيك يا رسول الله، وهنأه المسلمون .

والقول الثاني: أن هذا الفتح فتح مكة، رواه مسروق عن عائشة، وبه قال السدي . وقال بعض من ذهب إلى هذا: إنما وعد بفتح مكة بهذه الآية .

والثالث: أنه فتح خيبر، قاله مجاهد، والعوفي وعن أنس بن مالك كالقولين .

والرابع: أنه القضاء له بالإسلام، قاله مقاتل . وقال غيره: حكمنا لك بإظهار دينك والنصرة على عدوك .

قوله تعالى: ليغفر لك الله قال ثعلب: اللام لام "كي"، والمعنى: لكي يجتمع لك [مع] المغفرة تمام النعمة في الفتح، فلما انضم إلى المغفرة شيء حادث، حسن معنى "كي"، وغلط من قال: ليس الفتح سبب المغفرة .

قوله تعالى: ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال ابن عباس: والمعنى: "ما تقدم" في الجاهلية، و "ما تأخر" ما لم تعلمه، وهذا على سبيل التأكيد، كما تقول: فلان يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه .

قوله تعالى: ويتم نعمته عليك فيه أربعة أقوال .

أحدها: أن ذلك في الجنة . والثاني: أنه بالنبوة والمغفرة، رويا عن ابن عباس . والثالث: بفتح مكة والطائف وخيبر، حكاه الماوردي . والرابع: بإظهار دينك على سائر الأديان، قاله أبو سليمان الدمشقي .

قوله تعالى: ويهديك صراطا مستقيما أي: ويثبتك عليه; وقيل: [ ص: 424 ] ويهدي بك، وينصرك الله على عدوك نصرا عزيزا قال الزجاج : أي: نصرا ذا عز لا يقع معه ذل .

هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما إنا أرسلناك [ ص: 425 ] شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما .

قوله تعالى: هو الذي أنزل السكينة أي: السكون والطمأنينة في قلوب المؤمنين لئلا تنزعج قلوبهم لما يرد عليهم، فسلموا لقضاء الله، وكانوا قد اشتد عليهم صد المشركين لهم عن البيت، حتى قال عمر: علام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني"، ثم أوقع الله الرضى بما جرى في قلوب المسلمين، فسلموا وأطاعوا .

ليزدادوا إيمانا وذلك أنه كلما نزلت فريضة زاد إيمانهم .

ولله جنود السماوات والأرض يريد أن جميع أهل السموات والأرض ملك له، لو أراد نصرة نبيه بغيركم لفعل، ولكنه اختاركم لذلك، فاشكروه .

قوله تعالى: ليدخل المؤمنين . . . [الآية] سبب نزولها أنه لما نزل قوله: "إنا فتحنا لك" قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هنيئا لك يا رسول الله بما أعطاك الله، فما لنا؟ فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن مالك . قال مقاتل: [ ص: 426 ] فلما سمع عبد الله بن أبي بذلك، انطلق في نفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما لنا عند الله؟ فنزلت: ويعذب المنافقين . . . الآية .

قال ابن جرير: كررت اللام في "ليدخل" على اللام في "ليغفر"، فالمعنى: إنا فتحنا لك ليغفر لك الله ليدخل المؤمنين، ولذلك لم يدخل بينهما واو العطف، والمعنى: ليدخل وليعذب .

قوله تعالى: عليهم دائرة السوء قرأ ابن كثير، وأبو عمرو : بضم السين; والباقون: بفتحها .

قوله تعالى: وكان ذلك أي: ذلك الوعد بإدخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم عند الله أي: في حكمه فوزا عظيما لهم; والمعنى: أنه حكم لهم بالفوز، فلذلك وعدهم إدخال الجنة .

قوله تعالى: الظانين بالله ظن السوء فيه خمسة أقوال .

أحدها: أنهم ظنوا أن لله شريكا . والثاني: أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه . والثالث: أنهم ظنوا به حين خرج إلى الحديبية أنه سيقتل أويهزم ولا يعود ظافرا . والرابع: أنهم ظنوا أنهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة واحدة عند الله . والخامس: ظنوا أن الله لا يبعث الموتى . وقد بينا معنى "دائرة السوء" في [براءة: 98] .

وما بعد هذا قد سبق بيانه [الفتح: 4، الأحزاب: 45] إلى قوله: ( ليؤمنوا [ ص: 427 ] بالله ورسوله ) قرأ ابن كثير" وأبو عمرو : "ليؤمنوا" بالياء "ويعزروه ويوقروه ويسبحوه" كلهن بالياء; والباقون: بالتاء; على معنى: قل لهم: إنا أرسلناك، لتؤمنوا وقرأ علي بن أبي طالب، وابن السميفع: "ويعززوه" بزاءين . وقد ذكرنا في [الأعراف: 157] معنى "ويعزروه" عند قوله: وعزروه ونصروه .

قوله تعالى: ( ويوقروه ) أي: يعظموه ويبجلوه . واختار كثير من القراء الوقف هاهنا، لاختلاف الكناية فيه وفيما بعده .

قوله تعالى: ( ويسبحوه ) هذه الهاء ترجع إلى الله عز وجل . والمراد بتسبيحه هاهنا: الصلاة له . قال المفسرون: والمراد بصلاة البكرة: الفجر، وبصلاة الأصيل: باقي الصلوات الخمس .

قوله تعالى: إن الذين يبايعونك يعني بيعة الرضوان بالحديبية . وعلى ماذا بايعوه؟ فيه قولان .

أحدهما: أنهم بايعوه على الموت، قاله عبادة بن الصامت .

والثاني: على أن لا يفروا، قاله جابر بن عبد الله . ومعناهما متقارب، لأنه أراد: على أن لا تفروا ولو متم . وسميت بيعة، لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة، وكان العقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم بايعوا الله عز وجل، لأنه ضمن لهم الجنة بوفائهم .

يد الله فوق أيديهم فيه أربعة أقوال .

أحدها: يد الله في الوفاء فوق أيديهم . والثاني: يد الله في الثواب فوق أيديهم . والثالث: يد الله عليهم في المنة بالهداية فوق أيديهم بالطاعة، ذكر هذه [ ص: 428 ] الأقوال الزجاج . والرابع: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم، ذكره ابن جرير، وابن كيسان .

قوله تعالى: فمن نكث أي: نقض ما عقده من هذه البيعة فإنما ينكث على نفسه أي: يرجع ذلك النقض عليه ومن أوفى بما عاهد عليه الله من البيعة ( فسنؤتيه ) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبان عن عاصم: "فسنؤتيه" بالنون . وقرأ عاصم، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: بالياء أجرا عظيما وهو الجنة . قال ابن السائب: فلم ينكث العهد منهم غير رجل واحد يقال له: الجد بن قيس، وكان منافقا .

سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ولله ملك السماوات [ ص: 429 ] والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما .

قوله تعالى: سيقول لك المخلفون من الأعراب قال ابن إسحاق: لما أراد العمرة استنفر من حول المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه، خوفا من قومه أن يعرضوا له بحرب أو بصد، فتثاقل عنه كثير منهم، فهم الذين عنى الله بقوله: "سيقول لك المخلفون من الأعراب"، قال أبو صالح عن [ابن عباس]: وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع والديل وأسلم . قال يونس النحوي: الديل في عبد القيس ساكن الياء . والدول من حنيفة ساكن الواو، والدئل في كنانة رهط أبي الأسود الدؤلي . فأما المخلفون، فإنهم تخلفوا مخافة القتل . شغلتنا أموالنا وأهلونا أي: خفنا عليهم الضيعة فاستغفر لنا أي: ادع [الله] أن يغفر لنا تخلفنا عنك يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم أي: ما يبالون استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم .

قوله تعالى: فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: "ضرا" بضم الضاد; والباقون: بالفتح . قال أبو علي: "الضر" بالفتح: خلاف النفع، وبالضم: سوء الحال، ويجوز أن يكونا لغتين كالفقر والفقر، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم يدفع عنهم الضر، ويعجل لهم النفع بسلامة أنفسهم وأموالهم، فأخبرهم الله تعالى أنه إن أراد بهم شيئا، لم يقدر أحد على دفعه [عنهم]، بل كان الله بما تعملون خبيرا من تخلفهم وقولهم عن المسلمين أنهم سيهلكون، وذلك قوله: بل ظننتم أي: توهمتم أن [ ص: 430 ] لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أي: لا يرجعون إلى المدينة، لاستئصال العدو إياهم، وزين ذلك في قلوبكم وذلك من تزيين الشيطان .

قوله تعالى: وكنتم قوما بورا قد ذكرناه في [الفرقان: 18] .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #498  
قديم 09-05-2024, 11:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,836
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء السابع

سُورَةُ الْفَتْحِ
الحلقة (498)
صــ 431 إلى صــ 440





سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا .

وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: سيقول المخلفون الذين تخلفوا عن الحديبية إذا انطلقتم إلى مغانم ذلك أنهم لما انصرفوا عن الحديبية بالصلح وعدهم الله فتح خيبر، وخص بها من شهد الحديبية فانطلقوا إليها، فقال هؤلاء المخلفون: ذرونا نتبعكم ، قال الله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: "أن يبدلوا كلم الله" بكسر اللام .

وفي المعنى قولان .

أحدهما: أنه مواعيد الله بغنيمة خيبر لأهل الحديبية خاصة، قاله ابن عباس .

والثاني: أمر الله نبيه أن لا يسير معه منهم أحد، وذلك أن الله وعده وهو بالحديبية أن يفتح عليه خيبر، ونهاه أن يسير معه أحد من المتخلفين، قاله مقاتل .

وعلى القولين: قصدوا أن يجيز لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالف أمر الله، فيكون تبديلا لأمره .

قوله تعالى: كذلكم قال الله من قبل فيه قولان .

[ ص: 431 ] أحدهما: قال: إن غنائم خيبر لمن شهد الحديبية، وهذا على القول الأول .

والثاني: قال: لن تتبعونا، وهذا قول مقاتل .

فسيقولون بل تحسدوننا أي: يمنعكم الحسد من أن نصيب معكم الغنائم .

قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما .

قوله تعالى: ستدعون إلى قوم المعنى: إن كنتم تريدون الغزو والغنيمة فستدعون إلى جهاد قوم أولي بأس شديد .

وفي هؤلاء القوم ستة أقوال .

أحدها: أنهم فارس، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وابن أبي ليلى، وابن جريج في آخرين . والثاني: فارس والروم، قاله الحسن، ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد . والثالث: أنهم أهل الأوثان، رواه ليث عن مجاهد . والرابع: أنهم الروم، قاله كعب . والخامس: أنهم هوازن وغطفان، وذلك يوم حنين، قاله سعيد بن جبير، وقتادة . والسادس: بنو حنيفة يوم اليمامة، وهم أصحاب مسيلمة الكذاب، قاله الزهري، وابن السائب، ومقاتل . قال مقاتل: خلافة أبي بكر في هذه بينة مؤكدة . [ ص: 432 ] وقال رافع بن خديج: كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعي أبو بكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم هم . وقال بعض أهل العلم: لا يجوز أن تكون هذه الآية إلا في العرب، لقوله: تقاتلونهم أو يسلمون ، وفارس والروم إنما يقاتلون حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية . وقد استدل جماعة من العلماء على صحة إمامة أبي بكر وعمر بهذه الآية، لأنه إن أريد بها بنو حنيفة، فأبو بكر دعا إلى قتالهم، وإن أريد بها فارس والروم، فعمر دعا إلى قتالهم، والآية تلزمهم اتباع طاعة من يدعوهم، وتتوعدهم على التخلف بالعقاب . قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدل على صحة إمامتهما إذا كان المتولي عن طاعتهما مستحقا للعقاب .

قوله تعالى: فإن تطيعوا قال ابن جريج: فإن تطيعوا أبا بكر وعمر، وإن تتولوا عن طاعتهما كما توليتم عن طاعة محمد صلى الله عليه وسلم في المسير إلى الحديبية . وقال الزجاج : المعنى: إن تبتم وتركتم نفاقكم وجاهدتم، يؤتكم الله أجرا حسنا، وإن توليتم فأقمتم على نفاقكم، وأعرضتم عن الإيمان والجهاد كما توليتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعذبكم عذابا أليما .

[ ص: 433 ] قوله تعالى: ليس على الأعمى حرج قال المفسرون: عذر الله أهل الزمانة الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية .

قوله تعالى: يدخله جنات قرأ نافع، وابن عامر: "ندخله" و "نعذبه" بالنون فيهما; والباقون: بالياء .

لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا .

[ ص: 434 ] ثم ذكر الذين أخلصوا نيتهم وشهدوا بيعة الرضوان بقوله: لقد رضي الله عن المؤمنين وقد ذكرنا سبب هذه البيعة آنفا . وإنما سميت بيعة الرضوان، لقوله: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة روى إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه، قال: بينما نحن قائلون زمن الحديبية، نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، البيعة، البيعة، نزل روح القدس، قال: فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة، فبايعناه . وقال عبد الله بن مغفل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة يبايع الناس، وإني لأرفع أغصانها عن رأسه . وقال بكير بن الأشج: كانت الشجرة بفج نحو مكة . قال نافع: كان الناس يأتون تلك الشجرة فيصلون عندها، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فأوعدهم فيها، وأمر بها فقطعت .

قوله تعالى: فعلم ما في قلوبهم أي: من الصدق والوفاء، والمعنى: علم أنهم مخلصون فأنزل السكينة عليهم يعني الطمأنينة والرضى حتى [ ص: 435 ] بايعوا على أن يقاتلوا ولا يفروا وأثابهم أي: عوضهم على الرضى بقضائه والصبر على أمره فتحا قريبا وهو خيبر، ومغانم كثيرة يأخذونها أي: من خيبر، لأنها كانت ذات عقار وأموال . فأما قوله بعد هذا: وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فقال المفسرون: هي الفتوح التي تفتح على المسلمين إلى يوم القيامة .

فعجل لكم هذه فيها قولان . أحدهما: أنها غنيمة خيبر، قاله مجاهد، وقتادة، والجمهور . والثاني: أنه الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، رواه العوفي عن ابن عباس .

قوله تعالى: وكف أيدي الناس عنكم فيهم ثلاثة أقوال .

أحدها: أنهم اليهود هموا أن يغتالوا عيال المسلمين الذين خلفوهم في المدينة، فكفهم الله عن ذلك، قاله قتادة .

والثاني: أنهم أسد وغطفان جاؤوا لينصروا أهل خيبر، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فانصرفوا عنهم، قاله مقاتل . وقال الفراء: كانت أسد وغطفان [مع أهل خيبر، فقصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالحوه وخلوا بينه وبين خيبر . وقال غيرهما: بل همت أسد وغطفان] باغتيال [أهل] المدينة، فكفهم الله عن ذلك .

والثالث: أنهم أهل مكة كفهم الله بالصلح، حكاهما الثعلبي وغيره .

[ ص: 436 ] ففي قوله: "عنكم" قولان . أحدهما: أنه على أصله، قاله الأكثرون . والثاني: عن عيالكم، قاله ابن قتيبة ، وهو مقتضى قول قتادة .

ولتكون آية للمؤمنين في المشار إليها قولان .

أحدهما: أنها الفعلة التي فعلها بكم من كف أيديهم عنكم كانت آية للمؤمنين، فعلموا أن الله تعالى متولي حراستهم في مشهدهم ومغيبهم .

والثاني: أنها خيبر كان فتحها علامة للمؤمنين في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وعدهم به .

قوله تعالى: ويهديكم صراطا مستقيما فيه قولان .

أحدهما: طريق التوكل عليه والتفويض إليه، وهذا على القول الأول .

والثاني: يزيدكم هدى بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من وعد الله تعالى بالفتح والغنيمة .

قوله تعالى: وأخرى المعنى: وعدكم الله مغانم أخرى; وفيها أربعة أقوال .

أحدها: أنها ما فتح للمسلمين بعد ذلك . روى سماك الحنفي عن ابن عباس "وأخرى لم تقدروا عليها" قال: ما فتح لكم من هذه الفتوح، وبه قال مجاهد .

والثاني: أنها خيبر، رواه عطية، والضحاك عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد .

والثالث: فارس والروم، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال الحسن، وعبد الرحمن بن أبي ليلى .

والرابع: مكة، ذكره قتادة، وابن قتيبة .

قوله تعالى: قد أحاط الله بها فيه قولان . أحدهما: أحاط بها علما [ ص: 437 ] أنها ستكون من فتوحكم . والثاني: حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى فتحتموها .

قوله تعالى: ولو قاتلكم الذين كفروا هذا خطاب لأهل الحديبية، قاله قتادة ; والذين كفروا مشركو قريش . فعلى هذا يكون المعنى: لو قاتلوكم يوم الحديبية لولوا الأدبار لما في قلوبهم من الرعب ثم لا يجدون وليا لأن الله قد خذلهم . قال الزجاج : المعنى: لو قاتلك من لم يقاتلك لنصرت عليه، لأن سنة الله النصرة لأوليائه . و "سنة الله" منصوبة على المصدر، لأن قوله: لولوا الأدبار معناه: سن الله عز وجل خذلانهم سنة . وقد مر مثل هذا في قوله: كتاب الله عليكم [النساء: 24]، وقوله: صنع الله [النمل: 88] .

قوله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم روى أنس بن مالك أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سلما، فاستحياهم، وأنزل الله [ ص: 438 ] هذه الآية . وروى عبد الله بن مغفل قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة، فبينما نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل جئتم في عهد؟" أو "هل جعل لكم أحد أمانا؟" قالوا: اللهم لا، فخلى سبيلهم، ونزلت هذه الآية . وذكر قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا، فأتوه باثني عشر فارسا من الكفار، فأرسلهم، وقال مقاتل: خرجوا يقاتلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهزمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالطعن والنبل حتى أدخلهم بيوت مكة . قال المفسرون: ومعنى الآية: أن الله تعالى ذكر منته إذ حجز بين الفريقين فلم يقتتلا حتى تم الصلح بينهم .

وفي بطن مكة ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الحديبية، قاله أنس . والثاني: وادي مكة، قاله السدي . والثالث: التنعيم، حكاه أبو سليمان الدمشقي .

فأما "مكة" فقال الزجاج : "مكة" لا تنصرف لأنها مؤنثة، وهي معرفة، ويصلح أن يكون اشتقاقها كاشتقاق "بكة"، والميم تبدل من الباء، يقال: ضربة لازم، ولازب، ويصلح أن يكون اشتقاقها من قولهم: امتك الفصيل ما في ضرع الناقة: إذا مص مصا شديدا حتى لا يبقي فيه شيئا، فيكون سميت [ ص: 439 ] بذلك لشدة الازدحام فيها; قال: والقول الأول أحسن . وقال قطرب: مكة من تمككت المخ: إذا أكلته . وقال ابن فارس: تمككت العظم: إذا أخرجت مخه; والتمكك: الاستقصاء; وفي الحديث:"لا تمككوا على غرمائكم" .

وفي تسمية "مكة" أربعة أقوال .

أحدها: لأنها مثابة يؤمها الخلق من كل فج، وكأنها هي التي تجذبهم إليها، وذلك من قول العرب: امتك الفصيل ما في ضرع الناقة .

والثاني: أنها سميت "مكة" من قولك: بككت الرجل: إذا وضعت منه ورددت نخوته، فكأنها تمك من ظلم فيها، أي: تهلكه وتنقصه، وأنشدوا:


يا مكة، الفاجر مكي مكا ولا تمكي مذحجا وعكا


والثالث:[ أنها] سميت بذلك لجهد أهلها .

والرابع: لقلة الماء بها .

وهل مكة وبكة واحد؟ قد ذكرناه في [آل عمران: 96] .

قوله تعالى: من بعد أن أظفركم عليهم أي: بهم; يقال: ظفرت بفلان، وظفرت عليه .

قوله تعالى: وكان الله بما تعملون بصيرا قرأ أبو عمرو: ["يعملون"] بالياء; والباقون: بالتاء .

[ ص: 440 ] هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما .

قوله تعالى: هم الذين كفروا يعني أهل مكة وصدوكم عن المسجد الحرام أن تطوفوا به وتحلوا من عمرتكم والهدي قال الزجاج : أي: وصدوا الهدي معكوفا أي: محبوسا أن يبلغ أي: عن أن يبلغ محله قال المفسرون: "محله" منحره، وهو حيث يحل نحره ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات وهم المستضعفون بمكة لم تعلموهم أي: لم تعرفوهم أن تطئوهم بالقتل . ومعنى الآية: لولا أن تطؤوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات بالقتل، وتوقعوا بهم ولا تعرفونهم، فتصيبكم منهم معرة وفيها أربعة أقوال .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #499  
قديم 09-05-2024, 11:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,836
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء السابع

سُورَةُ الْفَتْحِ
الحلقة (499)
صــ 441 إلى صــ 450





أحدهما: إثم، قاله ابن زيد . والثاني: غرم الدية، قاله ابن إسحاق . والثالث: كفارة قتل الخطإ، قاله ابن السائب . والرابع: عيب بقتل من هو على دينكم، حكاه جماعة من المفسرين . وفي الآية محذوف، تقديره: لأدخلتكم من عامكم هذا; وإنما حلت بينكم وبينهم ليدخل الله في رحمته أي: في دينه من يشاء من أهل مكة، وهم الذين أسلموا بعد الصلح لو تزيلوا قال ابن عباس: لو تفرقوا . وقال ابن قتيبة ، والزجاج: لو تميزوا . [ ص: 441 ] قال المفسرون: لو انماز المؤمنون من المشركين لعذبنا الذين كفروا بالقتل والسبي بأيديكم . وقال قوم: لو تزيل المؤمنون من أصلاب الكفار لعذبنا الكفار . وقال بعضهم: قوله: "لعذبنا" جواب لكلامين، أحدهما: "لولا رجال"، والثاني: "لو تزيلوا" وقوله: إذ جعل من صلة قوله: لعذبنا . والحمية: الأنفة والجبرية . قال المفسرون: وإنما أخذتهم الحمية حين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول مكة، فقالوا: يدخلون علينا [وقد قتلوا] أبناءنا وإخواننا فتتحدث العرب بذلك! والله لا يكون ذلك، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين فلم يدخلهم ما دخل أولئك فيخالفوا الله في قتالهم . وقيل: الحمية ما تداخل سهيل بن عمرو من الأنفة أن يكتب في كتاب الصلح ذكر "الرحمن الرحيم" وذكر "رسول الله" صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى: وألزمهم كلمة التقوى فيه خمسة أقوال .

أحدهما: "لا إله إلا الله"، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والضحاك ، والسدي، وابن زيد في آخرين، وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم; فعلى هذا يكون معنى: "ألزمهم": حكم لهم بها، وهي التي تنفي الشرك .

[ ص: 442 ] والثاني: "لا إله إلا الله والله أكبر"، قاله ابن عمر . وعن علي بن أبي طالب كالقولين .

والثالث: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، قاله عطاء بن أبي رباح .

والرابع: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، قاله عطاء الخرساني .

والخامس: "بسم الله الرحمن الرحيم"، قاله الزهري .

فعلى هذا يكون المعنى أنه لما أبى المشركون أن يكتبوا هذا في كتاب الصلح، ألزمه الله المؤمنين وكانوا أحق بها من المشركين "و" كانوا أهلها في علم الله تعالى .

لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا .

قوله تعالى: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق قال المفسرون: سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أري في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلا يقول له: لتدخلن المسجد الحرام إلى قوله: لا تخافون ورأى كأنه هو وأصحابه يدخلون مكة وقد حلقوا وقصروا، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، فلما خرجوا إلى الحديبية حسبوا أنهم يدخلون مكة في عامهم ذلك، فلما رجعوا [ ص: 443 ] ولم يدخلوا قال المنافقون: أين رؤياه التي رأى؟! فنزلت هذه الآية، فدخلوا في العام المقبل .

وفي قوله: إن شاء الله ستة أقوال .

أحدها: أن "إن" بمعنى "إذ" قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة .

والثاني: أنه استثناء من الله، وقد علمه، والخلق يستثنون فيما لا يعلمون، قاله ثعلب; فعلى هذا يكون المعنى أنه علم أنهم سيدخلونه، ولكن استثنى على ما أمر الخلق به من الاستثناء .

والثالث: أن المعنى: لتدخلن المسجد الحرام إن أمركم الله به، قاله الزجاج .

والرابع: أن الاستثناء يعود إلى دخول بعضهم أو جميعهم، لأنه علم أن بعضهم يموت، حكاه الماوردي .

والخامس: أنه على وجه الحكاية لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أن قائلا يقول: "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين"، حكاه القاضي أبو يعلى .

[ ص: 444 ] والسادس: أنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول، فلا شك فيه، حكاه الثعلبي .

قوله تعالى: آمنين من العدو محلقين رءوسكم ومقصرين من الشعر لا تخافون عدوا .

فعلم ما لم تعلموا فيه ثلاثة أقوال .

أحدها: علم أن الصلاح في الصلح . والثاني: أن في تأخير الدخول صلاحا . والثالث: فعلم أن يفتح عليكم خيبر قبل ذلك .

قوله تعالى: فجعل من دون ذلك فتحا قريبا فيه قولان .

أحدهما: فتح خيبر، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وابن زيد، ومقاتل .

والثاني: صلح الحديبية، قاله مجاهد، والزهري، وابن إسحاق . وقد بينا كيف كان فتحا في أول السورة .

وما بعد هذا مفسر في [براءة: 33] إلى قوله: وكفى بالله شهيدا وفيه قولان .

[ ص: 445 ] أحدهما: أنه شهد له على نفسه أنه يظهره على الدين كله، قاله الحسن .

والثاني: كفى به شهيدا أن محمدا رسوله، قاله مقاتل .

محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما .

قوله تعالى: محمد رسول الله وقرأ الشعبي، وأبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدري : "محمدا رسول الله" بالنصب فيهما . قال ابن عباس : شهد له بالرسالة .

قوله تعالى: والذين معه يعني أصحابه . والأشداء: جمع شديد . قال الزجاج : والأصل: أشدداء، نحو نصيب وأنصباء، ولكن الدالين تحركتا، فأدغمت الأولى في الثانية، [ومثله] من يرتد منكم [المائدة: 54] .

قوله تعالى: رحماء بينهم الرحماء جمع رحيم، والمعنى أنهم يغلظون على الكفار، ويتوادون بينهم تراهم ركعا سجدا يصف كثرة [ ص: 446 ] صلاتهم يبتغون فضلا من الله وهو الجنة ورضوانا وهو رضى الله عنهم . وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور وروى مبارك بن فضالة عن الحسن البصري أنه قال: "والذين معه" أبو بكر "أشداء على الكفار" عمر "رحماء بينهم" عثمان "تراهم ركعا سجدا" علي بن أبي طالب "يبتغون فضلا من الله ورضوانا" طلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة .

قوله تعالى: سيماهم أي: علامتهم في وجوههم ، وهل هذه العلامة في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه قولان .

أحدهما: في الدنيا . ثم فيه ثلاثة أقوال .

أحدها: أنها السمت الحسن، قاله ابن عباس في رواية ابن أبي طلحة; وقال في رواية مجاهد: أما إنه ليس بالذي ترون، ولكنه سيما الإسلام وسمته وخشوعه، وكذلك قال مجاهد: ليس بندب التراب في الوجه، ولكنه الخشوع والوقار والتواضع .

والثاني: أنه ندى الطهور وثرى الأرض، قاله سعيد بن جبير . وقال أبو العالية: لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب . وقال الأوزاعي: بلغني أنه ما حملت جباههم من الأرض .

[ ص: 447 ] والثالث: أنه السهوم، فإذا سهم وجه الرجل من الليل أصبح مصفارا . قال الحسن البصري: "سيماهم في وجوههم": الصفرة; وقال سعيد بن جبير: أثر السهر; وقال شمر بن عطية: هو تهيج في الوجه من سهر الليل .

والقول الثاني: أنها في الآخرة . ثم فيه قولان .

أحدهما: أن مواضع السجود من وجوههم يكون أشد وجوههم بياضا يوم القيامة، قاله عطية العوفي، وإلى نحو هذا ذهب الحسن، والزهري . وروى العوفي عن ابن عباس قال: صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة .

والثاني: أنهم يبعثون غرا محجلين من أثر الطهور، ذكره الزجاج .

قوله تعالى: ذلك مثلهم أي: صفتهم; والمعنى أن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في التوراة هذا .

فأما قوله: ومثلهم في الإنجيل ففيه ثلاثة أقوال .

[ ص: 448 ] أحدها: أن هذا المثل المذكور أنه في التوراة هو مثلهم في الإنجيل . قال مجاهد: مثلهم في التوراة والإنجيل واحد .

والثاني: أن المتقدم مثلهم في التوراة . فأما مثلهم في الإنجيل فهو قوله: كزرع ، وهذا قول الضحاك، وابن زيد .

والثالث: أن مثلهم في التوراة والإنجيل كزرع، ذكر هذه الأقوال أبو سليمان الدمشقي .

قوله تعالى: أخرج شطأه وقرأ ابن كثير، وابن عامر: ["شطأه" بفتح الطاء والهمزة . وقرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: "شطأه" بسكون الطاء . وكلهم يقرأ بهمزة مفتوحة . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو العالية، وابن أبي عبلة]: "شطاءه" بفتح الطاء [وبالمد] والهمزة وبألف . قال أبو عبيدة: أي: فراخه يقال: أشطأ الزرع فهو مشطئ: إذا أفرخ فآزره أي: ساواه، وصار مثل الأم . وقرأ ابن عامر: "فأزره" مقصورة الهمزة مثل فعله . وقال ابن قتيبة : آزره: أعانه وقواه فاستغلظ أي: غلظ فاستوى على سوقه وهي جمع "ساق"، وهذا مثل ضربه الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم إذ خرج وحده، فأيده بأصحابه، كما قوى الطاقة من الزرع بما نبت منها حتى كبرت وغلظت واستحكمت . وقرأ ابن كثير: "على سؤقه" مهموزة; والباقون: بلا همزة . وقال قتادة: في الإنجيل: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع .

[ ص: 449 ] وفيمن أريد بهذا المثل قولان .

أحدهما: أن أصل الزرع: عبد المطلب "أخرج شطأه": أخرج محمدا صلى الله عليه وسلم فآزره : بأبي بكر، فاستغلظ : بعمر، فاستوى : بعثمان، على سوقه : علي بن أبي طالب، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

والثاني: أن المراد بالزرع: محمد صلى الله عليه وسلم "أخرج شطأه" أبو بكر "فآزره": بعمر "فاستغلظ": بعثمان "فاستوى على سوقه": بعلي . يعجب الزراع : يعني المؤمنين "ليغيظ بهم الكفار" وهو قول عمر لأهل مكة: لا يعبد الله سرا بعد اليوم، رواه الضحاك عن ابن عباس، ومبارك عن الحسن .

قوله تعالى: ليغيظ بهم الكفار أي: إنما كثرهم وقواهم ليغيظ بهم الكفار . وقال مالك بن أنس: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية . وقال ابن إدريس: لا آمن أن يكونوا قد ضارعوا الكفار، يعني الرافضة، لأن الله تعالى يقول: "ليغيظ بهم الكفار" .

[ ص: 450 ] قوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما قال الزجاج : في "من" قولان .

أحدهما: أن يكون تخليصا للجنس من غيره، كقوله: فاجتنبوا الرجس من الأوثان [الحج: 30]، ومثله أن تقول: أنفق من الدراهم، أي: اجعل نفقتك من هذا الجنس . قال ابن الأنباري: معنى الآية: وعد الله الذين آمنوا من هذا الجنس، أي: من جنس الصحابة .

والثاني: أن يكون [هذا] الوعد لمن أقام منهم على الإيمان والعمل الصالح .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #500  
قديم 09-05-2024, 11:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,836
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء السابع

سُورَةُ الْحُجُرَاتِ
الحلقة (500)
صــ 451 إلى صــ 460




[ ص: 451 ]
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ

وهي مدنية بإجماعهم

روى ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله أعطاني السبع الطول مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني مكان الزبور المثاني، وفضلني ربي بالمفصل . أما السبع الطول فقد ذكرناها ["عند قوله"]: [ ص: 452 ] ولقد آتيناك سبعا من المثاني [الحجر: 87] . وأما المئون، فقال ابن قتيبة : هي ما ولي الطول، وإنما سميت بالمئين; لأن كل سورة تزيد على مائة آية أو تقاربها، والمثاني: ما ولي المئين من السور التي دون المائة، كأن المئين مباد، وهذه مثان، وأما المفصل: فهو ما يلي المثاني من قصار السور، وإنما سميت مفصلا لقصرها وكثرة الفصول فيها بسطر: بسم الله الرحمن الرحيم .

وقد ذكر الماوردي في أول تفسيره في المفصل ثلاثة أقوال . أحدها: أنه من أول سورة " محمد " إلى آخر القرآن . قاله الأكثرون . والثاني: من سورة [قاف] إلى آخره، حكاه عيسى بن عمر عن كثير من الصحابة . والثالث: من [الضحى] إلى آخره، قاله ابن عباس .

[ ص: 453 ] بسم الله الرحمن الرحيم

يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر [ ص: 454 ] بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم .

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله في سبب نزولها أربعة أقوال .

أحدها: أن ركبا من بني تميم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله إلى قوله: ولو أنهم صبروا ، فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم [بعد هذه الآية] حتى يستفهمه، رواه عبد الله بن الزبير .

والثاني: أن قوما ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الذبح، فنزلت الآية، قاله الحسن .

[ ص: 455 ] والثالث: أنها نزلت في قوم كانوا يقولون: لو أنزل الله في كذا وكذا! فكره الله ذلك، وقدم فيه، قاله قتادة .

والرابع: [أنها] نزلت في عمرو بن أمية الضمري، وكان قد قتل رجلين من بني سليم قبل أن يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن السائب . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة . وروى العوفي عنه قال: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه . وروي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم . ومعنى الآية على جميع الأقوال . لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل . قال ابن قتيبة : يقال فلان يقدم بين يدي الإمام وبين يدي أبيه، أي: يعجل بالأمر والنهي دونه .

فأما "تقدموا" فقرأ ابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو رزين ، وعائشة، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والضحاك ، وابن سيرين، وقتادة، وابن يعمر، ويعقوب: بفتح التاء والدال . وقرأ الباقون: بضم التاء وكسر الدال . قال الفراء: [ ص: 456 ] كلاهما صواب، يقال: قدمت، وتقدمت; وقال الزجاج : كلاهما واحد; فأما "بين يدي الله ورسوله" فهو عبارة عن الأمام، لأن ما بين يدي الإنسان أمامه; فالمعنى: لا تقدموا قدام الأمير .

قوله تعالى: لا ترفعوا أصواتكم في سبب نزولها قولان .

أحدهما: أن أبا بكر وعمر رفعا أصواتهما فيما ذكرناه آنفا في حديث ابن الزبير، وهذا قول ابن أبي مليكة .

والثاني: [أنها] نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وكان جهوري الصوت، فربما كان إذا تكلم تأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوته، قاله مقاتل .

[ ص: 457 ] قوله تعالى: ولا تجهروا له بالقول فيه قولان .

أحدهما: أنه الجهر بالصوت في المخاطبة، قاله الأكثرون .

والثاني: لا تدعوه باسمه: يا محمد، كما يدعو بعضكم بعضا، ولكن قولوا: يا رسول الله، ويا نبي الله، وهو معنى قول سعيد بن جبير، والضحاك، ومقاتل .

قوله تعالى: أن تحبط قال ابن قتيبة : لئلا تحبط . وقال الأخفش: مخافة أن تحبط . قال أبو سليمان الدمشقي: وقد قيل معنى الإحباط هاهنا: نقص المنزلة، لا إسقاط العمل من أصله كما يسقط بالكفر .

قوله تعالى: إن الذين يغضون أصواتهم قال ابن عباس: لما نزل قوله: "لا ترفعوا أصواتكم" تألى أبو بكر أن لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار، فأنزل الله في أبي بكر: "إن الذين يغضون أصواتهم"، والغض: النقص كما بينا عند قوله: قل للمؤمنين يغضوا [النور: 30] .

[ ص: 458 ] أولئك الذين امتحن الله قلوبهم قال ابن عباس: أخلصها للتقوى من المعصية . وقال الزجاج : اختبر قلوبهم فوجدهم مخلصين، كما تقول: قد امتحنت هذا الذهب والفضة، أي: اختبرتهما بأن أذبتهما حتى خلصا، فعلمت حقيقة كل واحد منهما . وقال ابن جرير: اختبرها بامتحانه إياها، فاصطفاها وأخلصها للتقوى .

إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم .

قوله تعالى: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات في سبب نزولها ثلاثة أقوال .

أحدها: أن بني تميم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب: يا محمد اخرج إلينا، فإن مدحنا زين وإن ذمنا شين، فخرج وهو يقول: "إنما ذلكم الله"، فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال: "ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا"، فقال الزبرقان بن بدر لشاب منهم: قم فاذكر فضلك وفضل قومك، فقام فذكر ذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس، فأجابه، وقام شاعرهم، فأجابه حسان، فقال الأقرع بن حابس: والله ما أدري ما هذا الأمر؟! تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر، ثم دنا فأسلم، فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم، وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، هذا قول جابر بن عبد الله في آخرين . وقال ابن إسحاق: نزلت في جفاة بني تميم، وكان فيهم الأقرع [ ص: 459 ] بن حابس، وعيينة بن حصن، والزبرقان بن بدر، [وقيس بن عاصم المنقري]، وخالد بن مالك، وسويد بن هشام، وهما نهشليان، والقعقاع بن معبد، وعطاء بن حابس، ووكيع بن وكيع .

والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى بني العنبر، وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري، فلما علموا بذلك هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عيينة، فجاء رجالهم يفدون الذراري، فقدموا وقت الظهيرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائل، فجعلوا ينادون يا محمد اخرج إلينا، حتى أيقظوه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس .

والثالث: أن ناسا من العرب قال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيا نكن أسعد الناس به، وإن يكن ملكا نعش في جناحه، فجاؤوا، فجعلوا ينادون يا محمد، يا محمد، فنزلت هذه الآية، [قاله زيد بن أرقم] .

فأما "الحجرات" فقرأ أبي بن كعب ، وعائشة، وأبو عبد الرحمن السلمي، ومجاهد، وأبو العالية، وابن يعمر، [وأبو جعفر، وشيبة]: بفتح الجيم; وأسكنها أبو رزين، وسعيد بن المسيب، وابن أبي عبلة; وضمها الباقون . قال الفراء: وجه [ ص: 460 ] الكلام أن تضم الحاء والجيم، وبعض العرب يقول: الحجرات والركبات، وربما خففوا فقالوا: "الحجرات"، والتخفيف في تميم، والتثقيل في أهل الحجاز . وقال ابن قتيبة : واحد الحجرات حجرة، مثل ظلمة وظلمات . قال المفسرون: وإنما نادوا من وراء الحجرات، لأنهم لم يعلموا في أي الحجر رسول الله .

قوله تعالى: ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم قال الزجاج : أي: لكان الصبر خيرا لهم . وفي وجه كونه خيرا لهم قولان .

أحدهما: لكان خيرا لهم فيما قدموا له من فداء ذراريهم، فلو صبروا خلى سبيلهم بغير فداء، قاله مقاتل .

والثاني: لكان أحسن لآدابهم في طاعة الله ورسوله، ذكره الماوردي .

قوله تعالى: والله غفور رحيم أي: لمن تاب منهم .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 381.62 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 375.73 كيلو بايت... تم توفير 5.90 كيلو بايت...بمعدل (1.55%)]