|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#291
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ المائدة المجلد الثامن الحلقة( 291) من صــ 61 الى صـ 75 ويؤيد هذا الوجه السابع: وهو أنهم في أمانتهم أثبتوا من المعاني ولفظ الأقانيم وغير ذلك ما لا تدل عليه الكتب التي بأيديهم البتة، بل فهموا منها معنى باطلا، وضموا إليه معاني باطلة من عند أنفسهم، فكانوا محرفين لكتب الله في ذلك، مفترين على الله الكذب، وهذا مبسوط في موضع آخر. الوجه الثامن: أن قولهم بالأقانيم مع بطلانه في العقل والشرع لم ينطق به عندهم كتاب، ولم يوجد هذا اللفظ في شيء من كتب الأنبياء التي بأيديهم ولا في كلام الحواريين، بل هي لفظة ابتدعوها، ويقال: إنها رومية، وقد قيل: الأقنوم في لغتهم معناه الأصل، ولهذا يضطربون في تفسير الأقانيم تارة يقولون: أشخاص، وتارة خواص وتارة صفات وتارة جواهر وتارة يجعلون الأقنوم اسما للذات والصفة معا، وهذا تفسير حذاقهم. الوجه التاسع: قولهم في المسيح - عليه السلام - إنه خالق، قول مع بطلانه في الشرع والعقل، قول لم ينطق به شيء من النبوات التي عندهم، ولكن يستدلون على ذلك بما لا يدل عليه كما سنبينه إن شاء الله - تعالى -. الوجه العاشر: قولهم في تجسد اللاهوت - أيضا - هو قول مع بطلانه في العقل والشرع قول لا يدل عليه شيء من كلام المعصوم من النبيين والمرسلين الوجه الحادي عشر: إنا نقول: لا ريب أن الله حي عالم قادر متكلم، وللمسلمين على ذلك من الدلائل العقلية التي دل الرسول عليها وأرشد إليها فصارت معروفة بالعقل مدلولا عليها بالشرع ما هو مبسوط في موضعه، وأنتم مع دعواكم أنكم تثبتون ذلك بالعقل، لم تذكروا على ذلك دليلا عقليا. فقولكم لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها إذ لا يمكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب، كلام قاصر من وجوه: أحدها: أنكم لم تروا حدوث جميع المخلوقات، وإنما رأيتم حدوث ما يشهد حدوثه كالسحاب والمطر والحيوان والنبات ونحو ذلك، فأين دليلكم على حدوث سائر الأشياء؟ الثاني: أنه كان ينبغي أن تقولوا لما علم حدوث المحدثات، أو حدوث المخلوقات أو حدوث ما سوى الله ونحو ذلك مما يبين أن المحدث ما سوى الله، فأما إطلاق حدوث جميع الأشياء فباطل، فإن الله يسمى عندكم وعند جمهور المسلمين شيئا من الأشياء، وهذا بخلاف قوله - تعالى -: {قل الله خالق كل شيء} [الرعد: 16]. فإن هذا التركيب يبين أن الخالق غير المخلوق خلاف قول القائل حدوث الأشياء. الثالث: أن العلم بأن المحدث لابد له من محدث، علم فطري ضروري، ولهذا قال الله - تعالى -: في القرآن: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [الطور: 35]. «قال جبير بن مطعم: لما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في صلاة المغرب أحسست بفؤادي قد انصدع»، يقول - تعالى -: أخلقوا من غير خالق خلقهم أم هم الخالقون لأنفسهم. ومعلوم بالفطرة التي فطر الله عليها عباده بصريح العقل أن الحادث لا يحدث إلا بمحدث أحدثه. وإن حدوث الحادث بلا محدث أحدثه معلوم البطلان بضرورة العقل وهذا أمر مركوز في بني آدم حتى الصبيان، لو ضرب الصبي ضربة فقال: من ضربني؟ فقيل: ما ضربك أحد، لم يصدق عقله أن الضربة حدثت من غير فاعل. ولهذا لو جوز مجوز أن يحدث كتابة أو بناء أو غراس ونحو ذلك من غير محدث لذلك، لكان عند العقلاء إما مجنونا وإما مسفسطا كالمنكر للعلوم البديهية والمعارف الضرورية، وكذلك معلوم أنه لم يحدث نفسه، فإن كان معدوما قبل حدوثه لم يكن شيئا فيمتنع أن يحدث غيره فضلا عن أن يحدث نفسه. فقولكم لم يكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب، تعليل باطل فإن علمنا بأن حدوثها لم يكن من ذواتها ليس لأجل ما فيها من التضاد والتقلب، بل سواء كانت متماثلة أو مختلفة أو متضادة، نحن نعلم بصريح العقل أن المحدث لا يحدث نفسه، وهذا من أظهر المعارف وأبينها للعقل، كما يعلم أن العدم لا يخلق موجودا، وأن المحدث للحوادث الموجودة لا يكون معدوما. الوجه الرابع: أنكم ذكرتم حجة على أنها لم تحدث نفسها، وهي حجة ضعيفة ولم تذكروا حجة على أنها حدثت، بلا محدث، لا أنفسها ولا غيرها، فإن كان امتناع كونها أحدثت نفسها محتاجا إلى دليل، فكذلك امتناع حدوثها، بلا محدث، وإن كان معلوما ببديهة العقل، وهو من العلوم الضرورية، فكذلك الآخر، فذكر الدليل على أحدهما دون الآخر خطأ لو كنتم ذكرتم دليلا صحيحا، فكيف إذا كان الدليل باطلا؟ ومن يكون مبلغهم من العلم بالأدلة العقلية التي يثبتون بها العلم بالصانع وصفاته هذا المبلغ؟ ثم يريدون مع ذلك أن يثبتوا معاني عقلية ويزعمون أنها موافقة لفهمهم الباطل من الكتب الإلهية، فهم ممن قال الله فيهم: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [النور: 39] (39) {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور: 40]. الوجه الثاني عشر: قولكم: فقلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة، إذ هو الخالق لكل شيء، لننفي عنه العدم. فيقال لهم: لا ريب أن الله كما وصف نفسه بقوله - تعالى -: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]. وقوله: {فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا} [مريم: 65] أي مثلا يستحق أن يسمى بأسمائه، وقوله - تعالى -: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] (1) {الله الصمد} [الإخلاص: 2] (2) {لم يلد ولم يولد} [الإخلاص: 3] (3) {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4]. . وقد دل على ذلك العقل، فإن المثلين اللذين يسد أحدهما مسد الآخر يجب لأحدهما ما يجب للآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجوز عليه ما يجوز عليه، فلو كان للخالق مثل للزم أن يشتركا فيما يجب، ويجوز ويمتنع. والخالق يجب له الوجود والقدم، ويمتنع عليه العدم، فيلزم أن يكون المخلوق واجب الوجود قديما أزليا لم يعدم قط، وكونه محدثا مخلوقا يستلزم أن يكون كان معدوما، فيلزم أن يكون موجودا معدوما قديما محدثا، وهو جمع بين النقيضين يمتنع في بداية العقول، وأيضا فالمخلوق يمتنع عليه القدم، ويجب له سابقة العدم، فلو وجب للخالق القديم ما يجب له، لوجب كون الواجب للقدم واجب الحدوث بعد العدم وهذا جمع بين النقيضين، فالعقل الصريح يجزم بأن الله ليس كمثله شيء، والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر لكن أنتم لم تذكروا على ذلك حجة، (بل قلتم إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة، إذ هو الخالق لكل شيء فلم تذكروا حجة) على أنه خالق كل شيء، إذ كان عمدتكم على ما شهدتم حدوثه وليس ذلك كل شيء، ولم تذكروا حجة مع كونه خالق كل شيء على أنه ليس كمثله شيء، بل قلتم لأننا معشر النصارى لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها لما فيها من التضاد والتقلب فقلنا: إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء، وذلك لننفي العدم عنه، ودليلكم لو دل على العلم بالصانع لم يدل إلا على أنه خالق فكيف إذا لم يدل؟ ولا ريب أن الخالق سبحانه يجب أن يكون موجودا لا معدوما، وهذا معلوم بالضرورة لا يحتاج إلى دليل عند جمهور العقلاء والنظار وإن كان بعضهم أثبت وجوده بالدليل النظري، لكن ليس في دليلكم ما يدل على أنه ليس كالأشياء المخلوقة، وقولكم: إذ هو الخالق لكل شيء يتضمن أنه خالق لكل ما سواه، ليس فيه بيان نفي للمماثلة عنه، ولكن بينتم بهذا الكلام جهلكم بالدلائل العقلية كجهلكم بالكتب المنزلة، وكذلك أخبر - تعالى - عن أهل النار بأنهم يقولون: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10]. [فصل: دلائل وجود الله وحياته] وأما قولكم: ورأينا الأشياء المخلوقة تنقسم قسمين: شيء حي، وشيء غير حي، فوصفناه بأجل القسمين فقلنا إنه حي لننفي الموت عنه. فيقال: لا ريب أن الله حي كما نطقت بذلك كتبه المنزلة التي هي آياته القولية، ودلت على ذلك آياته كمخلوقاته، التي هي آياته الفعلية، قال - تعالى -: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53]. أي القرآن حق، وقد تقدم ذكر القرآن في قوله: {قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد} [فصلت: 52]. فالله - تعالى - يري عباده من آياته المشاهدة المعاينة الفعلية، ما يبين صدق آياته المنزلة المسموعة القولية. قال - تعالى -: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [آل عمران: 2] وقال - تعالى -: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58]. والدلائل على حياته كثيرة: منها: أنه قد ثبت أنه عالم، والعلم لا يقوم إلا بحي، وثبت أنه قادر مختار يفعل بمشيئته، والقادر المختار لا يكون إلا حيا. ومنها: أنه خالق الأحياء وغيرهم، والخالق أكمل من المخلوق، فكل كمال ثبت للمخلوق فهو من الخالق، فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من خالقه، وكماله أكمل منه. والمتفلسفة القائلون بالموجب بالذات يسلمون هذا، ويقولون: كمال المعلول مستفاد من علته فإذا كان خالقا للأحياء كان حيا بطريق الأولى والأحرى. ومنها: أن الحي أكمل من غير الحي، كما قال - تعالى -: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} [فاطر: 22]. فلو كان الخالق غير حي لزم أن يكون الممكن المحدث المخلوق أكمل من الواجب القديم الخالق، فيكون أنقص الموجودين أكمل من أكملها، وهذا الوجه يتناول ما ذكروه من الدليل، وإن كانوا لم يبينوه بيانا تاما، لكن قولهم قلنا إنه حي لننفي الموت عنه. كلام مستدرك فإن الله موصوف بصفات الكمال الثبوتية كالحياة والعلم والقدرة، فيلزم من ثبوتها سلب صفات النقص، وهو سبحانه لا يمدح بالصفات السلبية إلا لتضمنها المعاني الثبوتية، فإن العدم المحض والسلب الصرف لا مدح فيه ولا كمال، إذ كان المعدوم يوصف بالعدم المحض، والعدم نفي محض لا كمال فيه، إنما الكمال في الوجود. ولهذا جاء كتاب الله - تعالى - على هذا الوجه فيصف سبحانه نفسه بالصفات الثبوتية صفات الكمال وبصفات السلب المتضمنة للثبوت كقوله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255]. فنفي أخذ السنة والنوم يتضمن كمال حياته وقيوميته، إذ النوم أخو الموت ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون مع كمال الراحة، كما لا يموتون. والقيوم: القائم المقيم لما سواه، فلو جعلت له سنة أو نوم لنقصت حياته وقيوميته، فلم يكن قائما ولا قيوما، كما ضرب الله المثل لبني إسرائيل، لما سألوا موسى: هل ينام ربك؟ فأرقه ثلاثا، ثم أعطاه قوارير فأخذه النوم فتكسرت. بين بهذا المثل أن خالق العالم لو نام لنفد العالم، ثم قال - تعالى -: {له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255]. فإنكاره ونفيه أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه يتضمن كمال ملكه لما في السماوات وما في الأرض، وأنه ليس له شريك، فإن من شفع عنده غيره بغير إذنه وقبل شفاعته كان مشاركا له إذ صارت شفاعته سببا لتحريك المشفوع إليه، بخلاف من لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فإنه منفرد بالملك ليس له شريك بوجه من الوجوه. ثم قال - تعالى -: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة: 255]. فنفى أن يعلم أحد شيئا من علمه إلا بمشيئته ليس إلا أنه منفرد بالتعليم، فهو العالم بالمعلومات، ولا يعلم أحد شيئا إلا بتعليمه، كما قالت الملائكة: {لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} [البقرة: 32] ثم قال - تعالى -: {وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما} [البقرة: 255] أي لا يكرثه ولا يثقل عليه، فبين بذلك كمال قدرته، وأنه لا يلحقه أدنى مشقة، ولا أيسر كلفة في حفظ المخلوقات، كما قال - تعالى - في الآية الأخرى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38]. بين بذلك كمال قدرته وأنه لا يلحقه اللغوب في الأعمال العظيمة مثل خلقه السماوات والأرض، كما يلحق المخلوق اللغوب إذا عمل عملا عظيما، واللغوب: الانقطاع والإعياء، وهذا باب واسع مبسوط في موضع آخر. والمقصود هنا أنه موصوف بصفات الكمال التي يستحقها بذاته ويمتنع اتصافه بنقائضها، وإذا وصف بالسلوب، فالمقصود هو إثبات الكمال، وهؤلاء قالوا: قد وصفناه بالحياة لننفي عنه الموت، كما قالوا: هو شيء لننفي العدم عنه، والحياة صفة كمال يستحقها بذاته، والموت مناقض لها، فلم يوصف بالحياة لأجل نفي الموت، بل وصفه بالحياة يستلزم نفي الموت، فينفي عنه الموت لأنه حي، لا يثبت له الحياة لنفي الموت، وكذلك لتثبت له أنه شيء موجود، وذلك يستلزم نفي العدم عنه، لا أن إثبات وجوده لأجل نفي العدم، بل نفي العدم عنه لأجل وجوده، كما أن نفي الموت عنه لأجل حياته، وكذلك قولهم: قلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة وذلك لننفي العدم عنه، لكن كان مرادهم والله أعلم - وإن كانت عبارتهم قاصرة - إثبات الوجود، ونفي العدم، وإثبات الحياة ونفي الموت. [فصل: طرق معرفة صفات الرب] ثم قالوا: ورأينا الحي ينقسم قسمين: حيا ناطقا، وحيا غير ناطق فوصفناه بأفضل الوصفين، فقلنا: إنه ناطق لننفي الجهل عنه. فيقال لهم: لا ريب أن الرب سبحانه موصوف بأنه حي عليم قدير متكلم مختار، لكن قولهم: فقلنا إنه ناطق لننفي الجهل عنه يقتضي أنكم أردتم النطق المناقض للجهل، وهذا هو العلم، فإن العلم يناقض الجهل لم تريدوا بذلك النطق الذي هو العبارة والبيان، ولم تريدوا بذلك ما جعله بعض النظار كلاما، وهي معاني قائمة بالنفس ليست من جنس العلوم، ولا من جنس الإرادات، وحينئذ فيقال لكم: ليس في الأحياء إلا ما هو شاعر، فكل حي فله شعور بحسبه. وكلما قويت الحياة قوي شعورها، وشعور الحيوان قد يعبر عنه بلفظ العلم، كما يقول الناس: علم الفهد والبازي والكلب، ويقال: كلب معلم وغير معلم وبازي معلم. وقال - تعالى -: {وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله} [المائدة: 4]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله فقتل فكل» ولا ريب أن العلم صفة كمال، فالعالم أكمل من الجاهل، والدلائل الدالة على علم الله كثيرة، مثل أنه سبحانه خالق كل شيء بإرادته. والإرادة تستلزم تصور المراد فلابد أن يعلم المخلوقات قبل أن يخلقها.
__________________
|
#292
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ المائدة المجلد الثامن الحلقة( 292) من صــ 76 الى صـ 90 وكل ما وجد في الخارج فهو موجود وجودا معينا يمتاز به عن غيره، فإذا خلقها كذلك فلابد أن يعلمها علما مفصلا يمتاز به كل معلوم عما سواه، ولو قدر أنه علمها على وجه كلي فقط لم يكن علم منها شيئا،لأن الكلي إنما يكون كليا في الأذهان، وأما ما هو موجود في الخارج فهو معين مختص بعينه ليس بكلي. وكل واحد من الأفلاك معين، فلو لم يعلم إلا الكليات لم يكن عالما بشيء من الموجودات، وقد بسط في غير هذا الموضع تمام الكلام على هذا وبين فساد شبه نفاة ذلك بما ادعوه من لزوم التغيير أو التكثر، وبين أنه لا يلزم من ثبوت علم الله بالأشياء كلها على وجه التفصيل محذور ينفيه دليل صحيح. فإن التكثر فيما يقوم به من المعاني هو مدلول الأدلة العقلية والسمعية فإنه عالم قادر حي، وليس العلم هو القدرة، ولا القدرة هي الحياة ولا الصفة هي الموصوف، ومن جعل كل صفة هي الأخرى، وجعل الصفات هي الموصوف، فهو قول في غاية السفسطة. وأيضا فإنه خالق العالمين من الملائكة والجن والإنس، وجاعلهم علماء، فيمتنع أن يجعل غيره عالما من ليس هو في نفسه بعالم، فإن العلم صفة كمال، ومن يعلم أكمل ممن لا يعلم، وكل كمال للمخلوق فهو من الخالق، فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق، وأيضا فإن في الممكنات المحدثة المخلوقة ما هو عالم، والواجب القديم الخالق أكمل من الممكن المحدث، فيمتنع أن يتصف بالكمال الموجود الناقص الخسيس دون الموجود الكامل الشريف، وهذا يتناول معنى حجتهم. وأيضا فإنه حي، والحياة مستلزمة لجنس العلم، وإذا كانت حياته أكمل من كل حياة فعلمه أكمل من كل علم، لكن يقال لكم: كما أنه حي عالم فهو أيضا قادر، فما ذكرتم بأن الموجودات أو الأحياء تنقسم إلى قادر وغير قادر، فيجب أن يوصف بأجل القسمين، وهو القدرة. لا سيما ودلائل كونه قادرا أظهر من دلائل كونه عالما، فإن نفس كونه خالقا فاعلا يستلزم كونه قادرا، فإن الفعل بدون القدرة ممتنع حتى إذا قيل: إن الجماد يفعل فإنما يفعل بقوة فيه كالقوى الطبيعية التي في الأجسام الطبيعية، فيمتنع في خالق العالم أن لا يكون له قوة، ولا قدرة، قال - تعالى -: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات: 58]. وقال - تعالى -: {أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت: 15]. وفي صحيح البخاري حديث الاستخارة: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب» وكثير من نظار المسلمين المصنفين في أصول الدين الذين يقيمون الدليل على كونه قادرا قبل كونه عالما وحيا، ويقولون: العلم بذلك أسبق في السلوك الاستدلالي النظري لدلالة الأحداث والفعل على قدرة المحدث الفاعل فيجب أن يثبتوا له صفة القدرة مع العلم. وكذلك يقولون: إن الحي لما كان ينقسم إلى سميع، وغير سميع، وبصير، وغير بصير، وصفناه بأشرف القسمين، وهو السميع والبصير. وكذلك في النطق إذا أريد به البيان والعبارة، ولم يرد به مجرد العلم، أو معنى من جنس العلم فإن الحي ينقسم إلى متكلم، ومبين معبر عما في نفسه، وإلى ما ليس كذلك، فيجب أن تصفوه بأشرف القسمين، وهو الكلام المبين المعبر عنه عما في النفس من المعاني. ومما يستدل به على ثبوت جميع صفات الكمال أنه لو لم يوصف بكونه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما لوصف بضد ذلك، كالموت والجهل والعجز والصمم والبكم والخرس، ومعلوم وجوب تقدسه عن هذه النقائص، بل هذا معلوم بالضرورة العقلية، فإنه أكمل الموجودات، وأجلها وأعظمها، ورب كل ما سواه وخالقه ومالكه، وجاعل كل ما سواه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما، فيمتنع أن يكون هو شيئا عاجزا جاهلا أصم أبكم أخرس، بل من المعلوم بضرورة العقل أن المتصف بهذه النقائص يمتنع أن يكون فاعلا، فضلا عن أن يكون خالقا لكل شيء. ولبعض الملاحدة من المتفلسفة ومن اتبعهم هنا سؤال مشهور وهو: أنه إنما يلزم إذا لم يتصف بصفات الكمال أن يوصف بأضدادها إذا كان قابلا لها، فأما إذا لم يكن قابلا لها لم يلزم. قالوا: هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة، وهو عدم الشيء عما من شأنه أن يكون قابلا له كعدم الحياة والسمع والبصر. والكلام عن الحيوان الذي هو القابل له، فإذا لم يكن قابلا له كالجماد، فلا يسمى مع عدم الحياة والسمع والبصر والكلام ميتا ولا أصم ولا أعمى ولا أخرس. وجواب ذلك من أوجه: أحدها: أنه إما أن يكون قابلا للاتصاف بصفات الكمال، وإما أن لا يكون. فإن لم يكن قابلا لزم أن يكون أنقص ممن قبلها، ولم يتصف بها، فالجماد أنقص من الحيوان الذي لم يتصف بعد بصفات كماله، وإن كان قابلا لها لزم إذا عدمها أن يتصف بأضدادها. وهؤلاء قد يقولون: في إثباتها تشبيه له بالحيوان، فيقال لهم: وفي نفيها تشبيه له بالجماد الذي هو أنقص من الحيوان، فإذا لم يكن في نفيها تشبيه له بالجماد، فكذلك لا يكون في إثباتها تشبيه له بالحيوان، وإن كان في ذلك تشبيه بالحيوان فهو محذور، فالمحذور في تشبيهه بالجماد أعظم وإن لم يكن مثل هذا التشبيه محذورا في ذلك، فأن لا يكون محذورا في هذا بطريق الأولى. الوجه الثاني: أن جعلهم سلب الموت والصمم والبكم عن الجماد لزعمهم أنه غير قابل لها اصطلاح محض، فإنه موجود في كلام الله تسمية الجماد ميتا، كما قال - تعالى - في الأصنام: {أموات غير أحياء} [النحل: 21]. الوجه الثالث: أنه يكفي عدم هذه الصفات، فإن مجرد عدم الحياة والعلم والقدرة صفة نقص سواء قدر الموصوف قابلا لها أو غير قابل، بل إذا قدر أنه غير قابل لها كان ذلك أبلغ في النقص. فعلم أن نفي هذه الصفات عنه، ونفي قبولها يوجب أن يكون أنقص من الحيوان الأعمى الأصم الذي يقبلها، وإن لم يتصف بها. الوجه الرابع: أن الكمال في الوجود، والنقص في العدم، فنفس ثبوت هذه الصفات كمال، ونفس نفيها نقص، وإن لم يتصف بها لزم نقصه، وأن يكون المفعول أكمل من الفاعل، وأن يكون المحدث الممكن المخلوق أكمل من القديم الأزلي الواجب الوجود الخالق، وهذا ممتنع في بداية العقول، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن نبهنا عليها هنا لبيان بعض الطرق التي بها تعرف صفات الرب، وبيان أن هؤلاء القوم من أجهل أهل الملل بالرب. والطرق التي يعرف بها كماله فيها العقلية والسمعية، وأن القوم عندهم من ألفاظ الأنبياء ما لم يفهموا كثيرا منه وما حرفوا كثيرا منه، وعندهم من المعقول في ذلك ما يفضلهم اليهود فيه، لكن اليهود، وإن كانوا أعلم منهم، فهم أعظم عنادا وكبرا وجحدا للحق، والنصارى أجهل وأضل من اليهود لكن هم أعبد وأزهد وأحسن أخلاقا، ولهذا كانوا أقرب مودة للذين آمنوا من اليهود والمشركين. [فصل: بيان أسماء الله تعالى] قالوا: والثلاثة أسماء فهي إله واحد ورب واحد، وخالق واحد، مسمى واحد لم يزل ولا يزال شيئا حيا ناطقا، أي الذات، والنطق، والحياة. فالذات عندنا: الأب الذي هو ابتداء الاثنين. والنطق: الابن الذي هو مولود منه كولادة النطق من العقل. والحياة: هي الروح القدس. والجواب عن هذا من وجوه: الأول أن أسماء الله تبارك و - تعالى - متعددة كثيرة، فإنه: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} [الحشر: 22] (22) {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون} [الحشر: 23] (23) {هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} [الحشر: 24] وقال - تعالى -: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} [الأعراف: 180]. وقال - تعالى -: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110]. وقال - تعالى -: {طه} [طه: 1] (1) {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} [طه: 2] (2) {إلا تذكرة لمن يخشى} [طه: 3] (3) {تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا} [طه: 4] (4) {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] (5) {له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى} [طه: 6] (6) {وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى} [طه: 7] (7) {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} [طه: 8]. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة» وهذا معناه في أشهر قولي العلماء وأصحهما أن من أسمائه - تعالى - تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة، وإلا فأسماؤه تبارك و - تعالى -: أكثر من ذلك، كما في الحديث الآخر الذي رواه أحمد في مسنده، وأبو حاتم في صحيحه، عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن وقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدل مكانه فرحا، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن، قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن». وإذا كانت أسماء الله كثيرة، كالعزيز والقدير وغيرها، فالاقتصار على ثلاثة أسماء دون غيرها باطل، وأي شيء زعم الزاعم في اختصاص هذه الأسماء به دون غيرها فهو باطل، كما قد بسط في موضع آخر. الوجه الثاني: قولهم الأب الذي هو ابتداء الاثنين، والابن: النطق الذي هو مولود منه، كولادة النطق من العقل، كلام باطل، فإن صفات الكمال لازمة لذات الرب عز وجل أولا وآخرا، ولم يزل ولا يزال حيا عالما قادرا، لم يصر حيا بعد أن لم يكن حيا، ولا عالما بعد أن لم يكن عالما. فإذا قالوا: إن الأب الذي هو الذات، هو ابتداء الحياة والنطق اقتضى ذلك أن يكون الأب قبل الحياة والنطق، وأن يكون فاعلا للحياة والنطق، فإن ما كان ابتداء لغيره يكون متقدما عليه أو فاعلا له. وهذا في حق الله باطل. وكذلك قولهم: إن النطق مولود منه كولادة النطق من العقل، فإن المولود من غيره متولد منه، فيحدث بعد أن لم يكن، كما يحدث النطق شيئا فشيئا، سواء أريد بالنطق العلم أو البيان فكلاهما لم يكن لازما للنفس الناطقة، بل حدث فيها واتصفت به بعد أن لم يكن، وإن كانت قابلة له ناطقة بالقوة، فإذا مثلوا تولد النطق من الرب كتولده عن العقل لزم أن يكون الرب كان ناطقا بالقوة، ثم صار ناطقا بالفعل فيلزم أنه صار عالما بعد أن لم يكن عالما، وهذا من أعظم الكفر وأشده استحالة، فإنه لا شيء غيره يجعله متصفا بصفات الكمال بعد أن لم يكن متصفا بها، إذ كل ما سواه فهو مخلوق له وكماله منه، فيمتنع أن يكون هو جاعل الرب سبحانه و - تعالى - كاملا. وذلك دور ممتنع في صريح العقل، إذ كان الشيء لا يجعل غيره متصفا بصفات الكمال، حتى يكون هو متصفا بها، فإذا لم يتصف بها حتى جعله غيره متصفا بها لزم الدور الممتنع، مثل كون كل من الشيئين فاعلا للآخر وعلة له أو لبعض صفاته المشروطة في الفعل فتبين بطلان كون نطقه متولدا منه، كتولد النطق من العقل، كما بطل أن يكون لصفاته اللازمة له ما هو مبدأ لها متقدم عليها أو فاعل لها. الوجه الثالث: أن قولهم في الابن أنه مولود من الله إن أرادوا به أنه صفة لازمة له، فكذلك الحياة صفة لازمة لله، فيكون روح القدس أيضا ابنا ثانيا، وإن أرادوا به أنه حصل منه بعد أن لم يكن، صار عالما بعد أن لم يكن عالما، وهذا مع كونه باطلا وكفرا فيلزم مثله في الحياة، وهو أنه صار حيا بعد أن لم يكن حيا. الوجه الرابع: أن تسمية حياة الله روح القدس أمر لم ينطق به شيء من كتب الله المنزلة، فإطلاق روح القدس على حياة الله من تبديلهم وتحريفهم. الوجه الخامس: أنهم يدعون أن المتحد بالمسيح هو الكلمة الذي هو العلم، وهذا إن أرادوا به نفس الذات العالمة الناطقة، كان المسيح هو الأب، وكان المسيح نفسه هو الأب، وهو الابن، وهو روح القدس، وهذا عندهم وعند جميع الناس باطل وكفر. وإن قالوا المتحد به هو العلم، فالعلم صفة لا تفارق العالم، ولا تفارق الصفة الأخرى التي هي حياة، فيمتنع أن يتحد به العلم دون الذات، ودون الحياة. الوجه السادس: أن العلم أيضا صفة، والصفة لا تخلق ولا ترزق، والمسيح نفسه ليس هو صفة قائمة بغيرها باتفاق العقلاء، وأيضا فهو عندهم خالق السماوات والأرض، فامتنع أن يكون المتحد به صفة، فإن الإله المعبود هو الإله الحي العالم القادر، وليس هو نفس الحياة، ولا نفس العلم والكلام. فلو قال قائل: يا حياة الله، أو يا علم الله، أو يا كلام الله، اغفر لي، وارحمني واهدني، كان هذا باطلا في صريح العقل، ولهذا لم يجوز أحد من أهل الملل أن يقال للتوراة أو الإنجيل وغير ذلك من كلام الله اغفر لي وارحمني، وإنما يقال للإله المتكلم بهذا الكلام: اغفر لي وارحمني. والمسيح - عليه السلام - عندكم هو الإله الخالق الذي يقال له اغفر لنا وارحمنا، فلو كان هو نفس علم الله وكلامه لم يجز أن يكون إلها معبودا فكيف إذا لم يكن هو نفس علم الله وكلامه، بل هو مخلوق بكلامه حيث قال له: كن فيكون؟ فتبين من ذلك أن كلمات الله كثيرة لا نهاية لها، وفي الكتب الإلهية كالتوراة أنه خلق الأشياء بكلامه، وكان في أول التوراة أنه قال: ليكن كذا ليكن كذا. ومعلوم أن المسيح ليس هو كلمات كثيرة، بل غايته أن يكون كلمة واحدة، إذ هو مخلوق بكلمة من كلمات الله عز وجل. الوجه السابع: أن أمانتكم التي وضعها أكابركم بحضرة قسطنطين، وهي عقيدة إيمانكم التي جعلتموها أصل دينكم تناقض ما تدعونه من أن الإله واحد، وتبين أنكم تقولون لمن يناظركم خلاف ما تعتقدونه. وهذان أمران معروفان في دينكم تناقضكم وإظهاركم في المناظرة بخلاف ما تقولونه من أصل دينكم، فإن الأمانة التي اتفق عليها جماهير النصارى يقولون فيها: أومن بإله واحد، أب ضابط الكل، خالق السماوات والأرض، كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء وتأنس وصلب وتألم وقبر، وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب المقدسة، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب، وأيضا سيأتي بمجده ليدين الأحياء والأموات الذي لا فناء لملكه، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب والابن المسجود له، وممجد ناطق في الأنبياء، كنيسة واحدة جامعة رسولية، وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وابن جاء لقيامة الموتى، وحياة الدهر العتيد كونه أمينا. ففي هذه الأمانة التي جعلتموها أصل دينكم ذكر الإيمان بثلاثة أشياء بإله واحد خالق السماوات والأرض، خالق ما يرى وما لا يرى، فهذا هو رب العالمين الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، وهو إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسائر الأنبياء والمرسلين، وهو الذي دعت جميع الرسل إلى عبادته وحده لا شريك له ونهوا أن يعبد غيره، كما قال الله - تعالى -: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25].
__________________
|
#293
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ المائدة المجلد الثامن الحلقة( 293) من صــ 91 الى صـ 105 وقال - تعالى -: {وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45]. ثم قلتم: وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو الأب في الجوهر، فصرحتم بالإيمان مع خالق السماوات والأرض برب واحد مخلوق، مساو الأب ابن الله الوحيد، وقلتم: هو إله حق من إله حق من جوهر أبيه. وهذا تصريح بالإيمان بإلهين، أحدهما من الآخر، وعلم الله القائم به، أو كلامه أو حكمته القائمة به الذي سميتموه ابنا، ولم يسم أحد من الرسل صفة الله ابنا ليس هو إله حق من إله حق، بل إله واحد وهذا صفة الإله، وصفة الإله ليست بإله، كما أن قدرته وسمعه وبصره وسائر صفاته ليس بآلهة، ولأن الإله واحد، وصفاته متعددة، والإله ذات متصفة بالصفات قائمة بنفسها، والصفة قائمة بالموصوف، ولأنكم سميتم الإله جوهرا، وقلتم: هو القائم بنفسه، والصفة ليست جوهرا قائما بنفسه. وهم في هذه الأمانة قد جعلوا الله والدا وهو الأب، ومولودا وهو الابن، وجعلوه مساويا له في الجوهر، وقد نزه الله نفسه عن الأنواع الثلاثة، فقالوا: مولود غير مخلوق مساو الأب في الجوهر، فصرحوا بأنه مساو له في الجوهر، والمساوي ليس هو المساوى. ولا يساوي الأب في الجوهر إلا جوهر، فوجب أن يكون الابن جوهرا ثانيا، وروح القدس جوهرا ثالثا كما سيأتي. وهذا تصريح بإثبات ثلاثة جواهر، وثلاثة آلهة، ويقولون مع ذلك: إنما نثبت جوهرا واحدا وإلها واحدا، وهذا جمع بين النقيضين،فهو حقيقة قولهم يجمعون بين جعل الآلهة واحدا، وإثبات ثلاثة آلهة، وبين إثبات جوهر واحد، وبين إثباته ثلاثة جواهر، وقد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] (1) {الله الصمد} [الإخلاص: 2] (2) {لم يلد ولم يولد} [الإخلاص: 3] (3) {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4]. فنزه نفسه أن يلد كما يقولون: هو الأب، وأن يولد كما يقولون: هو الابن، وأن يكون له كفوا أحد، كما يقولون: إن له من يساويه في الجوهر. وإذا قلتم نحن نقول أحدي الذات ثلاثي الصفات، قيل لكم: قد صرحتم بإثبات إله حق من إله حق وبأنه مساو للأب في الجوهر، وهذا تصريح بإثبات جوهر ثاني لا بصفة، فجمعتم بين القولين بين إثبات ثلاثة جواهر، وبين دعوى إثبات جوهر واحد، ولا ينجيكم من هذا اعتذار من اعتذر منكم كيحيى بن عدي ونحوه حيث قالوا: هذا بمنزلة قولك: زيد الطبيب الحاسب الكاتب، ثم تقول: زيد الطبيب وزيد الحاسب وزيد الكاتب. فهو مع كل صفة له حكم خلاف حكمه مع الصفة الأخرى، وقد يفسرون الأقنوم بهذا، فيقولون: الأقنوم هو الذات مع الصفة، فالذات مع كل صفة أقنوم، فصارت الأقانيم ثلاثة، لأن هذا المثال لا يطابق قولكم، فإن زيدا هنا هو جوهر واحد له ثلاث صفات: الطب والحساب والكتابة، وليس هنا ثلاثة جواهر، ولكن لكل صفة حكم ليس للأخرى. ولا يقول عاقل: إن الصفة مساوية للموصوف في الجوهر، ولا أن الذات مع هذه الصفة تساوي الذات مع الصفة الأخرى في الجوهر، لأن الذات واحدة والمساوي ليس هو المساوى، ولأن الذات مع الصفة هي الأب فإن كان هذا هو الذي اتحد بالمسيح فالمتحد به هو الأب، ولأنكم قلتم عن هذا الذي قلتم: (إنه إله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي هو مساو الأب في الجوهر وأنه نزل، وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء، وتأنس وصلب وتألم) فاقتضى ذلك أن يكون الإله الحق المساوي للأب في الجوهر صلب وتألم، فيكون اللاهوت مصلوبا متألما، وهذا تقر به طوائف منكم، وطوائف تنكره، لكن مقتضى أمانتكم هو الأول. وأيضا فإذا كان تجسد من روح القدس ومريم، فإن كان روح القدس هو حياة الله، كما زعمتم فيكون المسيح كلمة الله وحياته، فيكون لاهوته أقنومين من الأقانيم الثلاثة، وعندهم إنما هو أقنوم الكلمة فقط وإن كان روح القدس ليس هو حياة الله بطل تفسيركم لروح القدس بأنه حياة الله. وقيل لكم: لا يجب أن يكون روح القدس صفة لله ولا أقنوما. ثم ذكرتم في عقيدة أمانتكم أنكم تؤمنون بروح القدس الرب المحيي، فأثبتم ربا ثالثا، قلتم المنبثق من الأب والانبثاق: الانفجار، كالاندفاق والانصباب، ونحو ذلك، يقال: بثق السيل موضع كذا يبثقه بثقا أي خرقه وشقه فانبثق أي انفجر، فاقتضى ذلك أن يكون هذا الرب المحيي انفجر من الأب واندفق منه. ثم قلتم: هو مع الأب مسجود له وممجد ناطق في الأنبياء فجعلتموه مع الأب مسجودا له فأثبتم إلها ثالثا يسجد له. ومعلوم أن حياة الله التي هي صفته ليست منبثقة منه، بل هي قائمة به لا تخرج عنه البتة، وهي صفة لازمة له لا تتعلق بغيره، فإن العلم يتعلق بالمعلومات، والقدرة بالمقدورات والتكليم بالمخاطبين بخلاف التكلم فإنه صفة لازمة، يقال: علم الله كذا، وقدر الله على كل شيء، وكلم الله موسى. وأما الحياة: فاللفظ الدال عليها لازم لا يتعلق بغير الحي، يقال حيا يحيا حياة، ولا يقال حيا كذا ولا بكذا، وإنما يقال: أحيا كذا، والإحياء فعل غير كونه حيا، كما أن التعليم غير العلم، والإقدار غير القدرة، والتكليم غير التكلم، ثم جعلتم روح القدس هذا ناطقا في الأنبياء - عليهم السلام -، وحياة الله صفة قائمة به لا تحل في غيره، وروح القدس الذي تكون في الأنبياء والصالحين ليس هو حياة الله القائمة به، ولو كان روح القدس الذي في الأنبياء هو أحد الأقانيم الثلاثة لكان كل من الأنبياء إلها معبودا قد اتحد ناسوته باللاهوت كالمسيح عندكم، فإن المسيح لما اتحد به أحد الأقانيم صار ناسوتا ولاهوتا، فإذا كان روح القدس الذي هو أحد الأقانيم الثلاثة ناطقا في الأنبياء كان كل منهم فيه لاهوت وناسوت كالمسيح وأنتم لا تقرون بالحلول والاتحاد إلا للمسيح وحده مع إثباتكم لغيره ما ثبت له. وهم تارة يشبهون الأقنومين - العلم والحياة التي يسمونها الكلمة وروح القدس - بالضياء والحرارة التي للشمس، مع الشمس ويشبهون ذلك بالحياة والنطق الذي للنفس مع النفس، وهذا تشبيه فاسد، فإنهم إن أرادوا بالضياء والحرارة ما يقوم بذات الشمس، فذلك صفة للشمس قائمة بها لم تحل بغيرها ولم تتحد بغيرها، كما أن صفة النفس كذلك هذا إن قيل إن الشمس تقوم به حرارة، وإلا فهذا ممنوع. والمقصود هنا: بيان فساد كلامهم وقياسهم. وإن أرادوا ما هو بائن عن الشمس قائم بغيرها. كالشعاع القائم بالهواء والأرض، والحرارة القائمة بذلك كان هذا دليلا على فساد قولهم من وجوه: منها: أن هذه أعراض منفصلة بائنة عن الشمس قائمة بغيرها لا بها، ونظير هذا ما يقوم بقلوب الأنبياء من العلم والحكمة والوحي الذي أنذروا به، وعلى هذا التقدير فليس في الناسوت شيئا من اللاهوت وإنما فيه آثار حكمته وقدرته. ومنها: أن الحرارة والضوء القائم بالهواء والجدران أعراض قائمة بغير الشمس، والكلمة وروح القدس عندهم هما جوهران. ومنها: أن هذا ليس هو الشمس، ولا صفة من صفات الشمس، وإنما هو أثر حاصل في غير الشمس بسبب الشمس، ومثل هذا لا ينكر قيامه بالأنبياء والصالحين، ولكن ليس للمسيح - عليه السلام - بذلك اختصاص، فما حل بالمسيح حل بغيره من المرسلين، وما لم يحل بغيره لم يحل به فلا اختصاص له بأمر يوجب أن يكون إلها دون غيره من الرسل، ولا هنا اتحاد بين اللاهوت والناسوت، كما لم تتحد الشمس ولا صفاتها القائمة بها بالهواء، والأرض التي حصل بها الشعاع والحرارة. [فصل: رد دعواهم أن الله قد سمى نفسه أبا وابنا وروح قدس] قالوا: وهذه الأسماء لم نسمه نحن معشر النصارى بها من ذات أنفسنا، بل الله سمى لاهوته بها، وذلك أنه قال على لسان موسى النبي في التوراة مخاطبا بني إسرائيل قائلا: أليس هذا الأب الذي صنعك وبراك واقتناك؟ وعلى لسانه أيضا قائلا: وكان روح الله ترف على الماء وقوله على لسان داود النبي: روحك القدس لا تنزع مني، وأيضا على لسانه بكلمة الله تشددت السماوات والأرض وبروح فاه جميع قواتهن. وقوله: على لسان أشعيا: (ييبس القتاد ويجف العشب، وكلمة الله باقية إلى الأبد، وعلى لسان أيوب الصديق، روح الله خلقني وهو يعلمني). وقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس للتلاميذ الأطهار: (اذهبوا إلى جميع العالم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به)، وقد قال في هذا الكتاب: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} [الصافات: 171]. وقال أيضا: {ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس} [المائدة: 110]. وقال أيضا: {وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 164] وقال في سورة التحريم: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12]. وسائر المسلمين يقولون: إن الكتاب كلام الله ولا يكون كلام إلا لحي ناطق، وهذه صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء، وكل صفة منها غير الأخرى والإله واحد لا يتبعض ولا يتجزأ. والجواب من وجوه: أحدها: أن تقول: إن كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يكون إلا حقا وصدقا، ولا يكون فيه شيء يعلم بطلانه بصريح العقل، وإن كان فيه ما يعجز العقل عن معرفته بدون إخبار الأنبياء، ولا يكون كلام النبي الذي يخبر به مناقضا لكلامه في موضع آخر، ولا لكلام سائر الأنبياء، بل كل ما أخبرت به الأنبياء فهو حق وصدق، يصدق بعضه بعضا. وقد أوجب الله علينا أن نؤمن بكل ما أخبروا به، وحكم بكفر من آمن ببعض ذلك، وكفر ببعضه، فما علم بصريح العقل لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن الأنبياء وما علم بالنقل الصحيح عن بعضهم لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن غيره، ولكن قد يختلف بعض الشرع والمناهج في الأمر والنهي. فأما ما يخبرون به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر،وغير ذلك، فلا يجوز أن يناقض بعضه بعضا. وإذا كان كذلك فما ينقلونه عن الأنبياء إنما تتم الحجة به إذ علم إسناده ومتنه، فيعلم أنه منقول عنهم نقلا صحيحا، ونعلم أن ترجمته من العبرية إلى اللسان الآخر، كالرومية والعربية والسريانية ترجمة صحيحة ويعلم بعد ذلك أنهم أرادوا به ذلك المعنى. وليس مع النصارى حجة عن الأنبياء تثبت فيها هذه المقدمات الثلاث ونحن في هذا المقام يكفينا المنع، والمطالبة لهم بتصحيح هذه المقدمات فإنهم ادعوا أن التثليث أخذوه عن الأنبياء، فنحن نطالبهم بتصحيح هذه المقدمات. والجواب الثاني: أنا نبين تفسير ما ذكروه من الكلمات، أما قوله على لسان موسى - عليه السلام - مخاطبا بني إسرائيل قائلا: (أليس الأب الذي صنعك وبراك واقتناك)؟ فهذا فيه أنه سماه أبا لغير المسيح - عليه السلام -، وهذا نظير قوله لإسرائيل: (أنت ابني بكري)، وداود (ابني حبيبي)، وقول المسيح (أبي وأبيكم) وهم يسلمون أن المراد بهذا في حق غير المسيح بمعنى الرب لا معنى التولد الذي يخصون به المسيح. الثالث: أن هذا حجة عليهم، فإذا كان في الكتب المتقدمة تسميته أبا لغير المسيح وليس المراد بذلك إلا معنى الرب، علم أن هذا اللفظ في لغة الكتب يراد به الرب، فيجب حمله في حق المسيح على هذا المعنى، لأن الأصل عدم الاشتراك في الكلام. الرابع: أن استعماله في المعنى الذي خصوا به المسيح، إنما يثبت إذا علم أنه أريد المعنى الذي ادعوه في المسيح فلو أثبت ذلك المعنى بمجرد إطلاق لفظ الأب لزم الدور، فإنه لا يعلم أنه أريد به ذلك المعنى من حيث يثبت أنه كان يراد به في حق الله هذا المعنى ولا يثبت ذلك، حتى يعلم أنه أريد به ذلك المعنى في حق المسيح، فإذا توقف العلم بكل منهما على الآخر لم يعلم واحد منهما، فتبين أنه لا علم عندهم بأنه أريد في حق المسيح، بلفظ الأب ما خصوه به في محل النزاع. الوجه الخامس: أنه يوجد في كتب الأنبياء وكلامهم إطلاق اسم الأب، والمراد به أب اللاهوت، ولا إطلاق اسم الابن والمراد به شيء من اللاهوت لا كلمته ولا حياته، بل لا يوجد لفظ الابن إلا والمراد به المخلوق، فلا يكون لفظ الابن إلا لابن مخلوق. وحينئذ فيلزم من ذلك أن يكون مسمى الابن في حق المسيح هو الناسوت، وهذا يبطل قولهم: إن الابن وروح القدس أنهما صفتان لله وأن المسيح اسم للاهوت والناسوت، فتبين أن نصوص كتب الأنبياء تبطل مذهب النصارى، وتناقض أمانتهم، فهم بين أمرين: بين الإيمان بكلام الأنبياء (وبطلان دينهم. وبين تصحيح دينهم وتكذيب الأنبياء)، وهذا هو المطلوب. [فصل: إبطال تمثيلهم الصفات بشعاع الشمس] وأما قولهم: كل صفة منها غير الأخرى: فهذا إن أرادوا به أن صفات الرب سبحانه وتعالى قد تباينه وتنفصل عنه، وهو حقيقة قولهم. ويقولون مع ذلك: إنها متصلة به، فهو جمع بين النقيضين، وتمثيلهم بشعاع الشمس تمثيل باطل، وهو حجة عليهم لا لهم. فإن الشعاع القائم بالهواء والأرض والجبال والشجر والحيطان، ليس هو قائما بذات الشمس. والقائم بذات الشمس، ليس هو قائما بالهواء والأرض. فإن قالوا: بل ما يقوم به من العلم يفيض منه على قلوب الأنبياء علوم، كما يفيض الشعاع من الشمس. قيل لهم: لا اختصاص للمسيح بهذا، بل هذا قدر مشترك بينه وبين غيره من الأنبياء، وليس في هذا حلول ذات الرب ولا صفته القائمة به بشيء من مخلوقاته، ولا أن العبد بما حل فيه من العلم والإيمان يصير إلها معبودا. وإن أرادوا أنها قائمة به، وتسمى كل واحدة غير الأخرى، فهنا نزاع لفظي، هل تسمى غيرا أو لا تسمى غيرا؟ فإن من الناس من يقول: كل صفة للرب عز وجل فهي غير الأخرى، ويقول: الغيران ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر، أو ما جاز العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر. ومنهم من يقول ليست هي الأخرى، ولا هي هي؛ لأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر، أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود. والذي عليه سلف الأمة وأئمتها إذا قيل لهم: علم الله وكلام الله، هل هو غير الله أم لا؟ لم يطلقوا النفي ولا الإثبات، فإنه إذا قال: غيره؛ أوهم أنه مباين له. وإذا قال: ليس غيره؛ أوهم أنه هو، بل يستفصل السائل، فإن أراد بقوله: غيره؛ أنه مباين له منفصل عنه - فصفات الموصوف لا تكون مباينة له منفصلة عنه، وإن كان مخلوقا، فكيف بصفات الخالق؟ وإن أراد بالغير أنها ليست هي هو، فليست الصفة هي الموصوف، فهي غيره بهذا الاعتبار، واسم الرب تعالى إذا أطلق يتناول الذات المقدسة بما يستحقه من صفات الكمال، فيمتنع وجود الذات عرية عن صفات الكمال. فاسم الله يتناول الذات الموصوفة بصفات الكمال، وهذه الصفات ليست زائدة على هذا المسمى،، بل هي داخلة في المسمى، ولكنها زائدة على الذات المجردة التي تثبتها نفاة الصفات، فأولئك لما زعموا أنه ذات مجردة قال هؤلاء: بل الصفات زائدة على ما أثبتموه من الذات. وأما في نفس الأمر، فليس هناك ذات مجردة تكون الصفات زائدة عليها، بل الرب تعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال، وصفاته داخلة في مسمى أسمائه سبحانه وتعالى. [فصل: بيان تناقض قول النصارى في عقيدة إيمانهم] وقولهم: فالإله واحد، خالق واحد، رب واحد. هو حق في نفسه، لكن قد نقضوه بقولهم في عقيدة إيمانهم: (نؤمن برب واحد، يسوع المسيح ابن الله الوحيد، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مساو الأب في الجوهر) فأثبتوا هنا إلهين، ثم أثبتوا روح القدس إلها ثالثا، وقالوا إنه مسجود له، فصاروا يثبتون ثلاثة آلهة، ويقولون: إنما نثبت إلها واحدا، وهو تناقض ظاهر، وجمع بين النقيضين، بين الإثبات والنفي. ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى، وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين، ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولا، وقال آخر: لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولا، وامرأته قولا آخر، وابنه قولا ثالثا.
__________________
|
#294
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ المائدة المجلد الثامن الحلقة( 294) من صــ 106 الى صـ 120 [فصل: تناقض قولهم لا يتبعض ولا يتجزأ] وقولهم: (لا يتبعض ولا يتجزأ) مناقض لما ذكروه في أمانتهم، ولما يمثلونه به. فإنهم يمثلونه بشعاع الشمس، والشعاع يتبعض ويتجزأ، فإن ما يقوم منه بهذا الموضع بعض وجزء منه، ويمكن زوال بعضه مع بقاء بعض، فإنه إذا وضع على مطرح الشعاع شيء فصل ما بين جانبيه، وصار الشعاع الذي كان بينهما على ذلك الفوقاني فاصلا بين الشعاعين السافلين. يبين ذلك أن الشعاع قائم بالأرض والهواء، وكل منهما متجزئ متبعض، وما قام بالمتبعض فهو متبعض، فإن الحال يتبع المحل، وذلك يستلزم التبعض والتجزيء فيما قام به. ويقولون أيضا: إنه اتحد بالمسيح وأنه صعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب، وعندهم أن اللاهوت منذ اتحد بالناسوت لم يفارقه،، بل لما صعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب كان الصاعد عندهم هو المسيح الذي هو ناسوت ولاهوت إله تام، وإنسان تام، فهم لا يقولون: إن الجالس عن يمين الأب هو الناسوت فقط، بل اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا؟ وليس هذا من كلام الأنبياء حتى يقال: إن له معنى لا نفهمه، بل هو من كلام أكابرهم الذي وضعوه وجعلوه عقيدة إيمانهم، فإن كانوا تكلموا بما لا يعقلونه، فهم جهال لا يجوز أن يتبعوا، وإن كانوا يعقلون ما قالوه، فلا يعقل أحد من كون اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت المجرد عن الاتحاد، إلا أن هذا اللاهوت المجرد منفصل مباين للاهوت المتحد، وليس هو متصلا به، بل غايته أن يكون مماسا له، بل يجب أن يكون الذي يماس اللاهوت المجرد هو الناسوت مع اللاهوت المتحد به، فهذا حقيقة التبعيض والتجزئة مع انفصال أحد البعضين عن الآخر. وأيضا فيقال لهم: المتحد بالمسيح أهو ذات رب العالمين، أم صفة من صفاته؟ فإن كان هو الذات، فهو الأب نفسه، ويكون المسيح هو الأب نفسه، وهذا مما اتفق النصارى على بطلانه؛ فإنهم يقولون: هو الله، وهو ابن الله، كما حكى الله عنهم، ولا يقولون هو الأب والابن، والأب عندهم هو الله، وهذا من تناقضهم. وإن قالوا: المتحد بالمسيح صفة الرب فصفة الرب لا تفارقه، ولا يمكن اتحادها ولا حلولها في شيء دون الذات. وأيضا فالصفة نفسها ليست هي الإله الخالق رب العالمين، بل هي صفته، ولا يقول عاقل: إن كلام الله أو علم الله أو حياة الله، هي رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض، فلو قدر أن المسيح هو صفة الله نفسها لم يكن هو الله، ولم يكن هو رب العالمين، ولا خالق السماوات والأرض. والنصارى يقولون: إن المسيح رب العالمين خالق كل شيء، وهو خالق آدم ومريم، وإن كان ابن آدم ومريم، فإنه خالق ذلك بلاهوته، وهو ابن آدم ومريم بناسوته. فلو قدر أن المسيح هو صفة الرب لم تكن الصفة هي الخالق، فكيف والمسيح ليس هو صفة الله نفسها، بل هو مخلوق بكلمة الله، وسمي كلمة الله، لأن الله كونه (بكن)؟ وقال تعالى: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون} [مريم: 34] (34) {ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [مريم: 35]. وسماه روحه، لأنه خلقه من نفخ روح القدس في أمه، لم يخلقه كما خلق غيره من أب آدمي. قال الله تعالى: {إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} [آل عمران: 45] (45) {ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين} [آل عمران: 46] (46) {قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47] وإن قالوا: المتحد به بعض ذلك دون بعض، فقد قالوا بالتبعيض والتجزئة، فهم بين أمرين: إما بطلان مذهبهم، وإما اعترافهم بالتبعيض والتجزئة مع بطلانه. وأيضا فقولهم: (إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر، ابن الله الوحيد، المولود قبل كل الدهور). يقال لهم: هذا الابن المولود المساوي للأب في الجوهر، الذي هو إله حق من إله حق، هل هو صفة قائمة بغيرها؟ أو عين قائمة بنفسها؟ فإن كان الأول، فالصفة ليست إلها ولا هي خالقة، ولا يقال لها: مولودة من الله، ولا إنها مساوية لله في الجوهر، ولم يسم قط أحد من الأنبياء، ولا أتباع الأنبياء صفات الله لا ابنا له ولا ولدا، ولا قال: إن صفة الله تولدت منه، ولا قال عاقل: إن الصفة القديمة تولدت من الذات القديمة. وهم يقولون: إن المسيح إله خلق السماوات والأرض لاتحاد ناسوته بهذا الابن المولود قبل كل الدهور، المساوي الأب في الجوهر. وهذا كله نعت عين قائمة بنفسها، كالجواهر القائمة بنفسها، لا نعت صفات قائمة بغيرها، وإذا كان كذلك كان التبعيض والتجزئة لازمة لقولهم، فإن القول بالولادة الطبيعية مستلزم لأن يكون خرج منه جزء، قال تعالى: {وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين} [الزخرف: 15] (15) {أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين} [الزخرف: 16] (16) {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم} [الزخرف: 17] (17) {أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} [الزخرف: 18] (18) {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون} [الزخرف: 19]. وأما هذا المعنى الذي يثبته من يثبته من علماء النصارى ويسمونه ولادة وبنوة فيسمونه الصفة القديمة الأزلية القائمة بالموصوف ابنا، ويسمونها تارة النطق، وتارة الكلمة، وتارة العلم، وتارة الحكمة، ويقولون: هذا مولود من الله، وابن الله. فهذا لم يقله أحد من الأنبياء وأتباعهم، ولا من سائر العقلاء غير هؤلاء المبتدعة من النصارى، ولا يفهم أحد من العقلاء من اسم الولادة والبنوة هذا المعنى. والأنبياء لم يطلقوا لفظ الابن إلا على مخلوق، وهم يقولون: هو أب للمسيح بالطبع، ولغيره بالوضع، فلا يعقل جمهور العقلاء وغيرهم من هذا المعنى إلا البنوة المعقولة بانفصال جزء من الوالد، وهذا ينكره من ينكره من علمائهم. لكنهم لم يتبعوا الأنبياء، ولم يقولوا ما تعقله العقلاء، فضلوا فيما نقلوه عن الأنبياء، وأضلوا أتباعهم فيما قالوه، وعوامهم، وإن كانوا لا يقولون: إن ولادة الله مثل ولادة الحيوان بانفصال شيء يوجد، فيقولون: ولادة لاهوتية بانفصال جزء من اللاهوت حل في الناسوت، لا يعقل من الولادة غير هذا. وأيضا فقولهم: (ونؤمن بروح القدس الرب المحي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له، وممجد ناطق في الأنبياء، فقولهم: المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له وممجد، يمتنع أن يقال هذا في حياة الرب القائمة به، فإنها ليست منبثقة منه كسائر الصفات، إذ لو كان القائم بنفسه منبثقا لكان علمه وقدرته، وسائر صفاته منبثقة منه، بل الانبثاق في الكلام أظهر منه في الحياة، فإن الكلام يخرج من المتكلم، وأما الحياة فلا تخرج من الحي، فلو كان في الصفات ما هو منبثق لكان الصفة التي يسمونها الابن، ويقولون: هي العلم والكلام أو النطق والحكمة - أولى بأن تكون منبثقة من الحياة التي هي أبعد عن ذلك من الكلام. وقد قالوا أيضا: إنه مع الأب مسجود له وممجد، والصفة القائمة بالرب ليست معه مسجود لها، وقالوا: هو ناطق في الأنبياء، وصفة الرب القائمة به لا تنطق في الأنبياء،، بل هذا كله صفة روح القدس الذي يجعله الله في قلوب الأنبياء، أو صفة ملك من الملائكة كجبريل، فإذا كان هذا منبثقا من الأب، والانبثاق الخروج، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا. وإذا شبهوه بانبثاق الشعاع من الشمس كان هذا باطلا من وجوه: منها: أن الشعاع عرض قائم بالهواء والأرض، وليس جوهرا قائما بنفسه، وهذا عندهم حي مسجود له، وهو جوهر. ومنها: أن ذلك الشعاع القائم بالهواء والأرض ليس صفة للشمس، ولا قائما بها، وحياة الرب صفة قائمة به. ومنها: أن الانبثاق خصوا به روح القدس، ولم يقولوا في الكلمة: إنها منبثقة. والانبثاق لو كان حقا لكان بالكلمة أشبه منه بالحياة، وكلما تدبر العاقل كلامهم في الأمانة وغيرها وجد فيه من التناقض والفساد ما لا يخفى إلا على أجهل العباد، ووجد فيه من مناقضته التوراة والإنجيل، وسائر كتب الله - ما لا يخفى من تدبر هذا وهذا. ووجد فيه من مناقضة صريح المعقول ما لا يخفى إلا على معاند أو جهول، فقولهم متناقض في نفسه، مخالف لصريح المعقول، وصحيح المنقول عن جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين. [فصل: رد زعمهم أنه لا يلزمهم عبادة ثلاثة آلهة وأنه لا لوم عليهم في التثليث لما سبق لهم من شهادات الأنبياء] قالوا: وقد علمنا أنه لا يلزمنا إذا قلنا هذا عبادة ثلاثة آلهة، بل إله واحد، كما لا يلزمنا إذا قلنا: الإنسان ونطقه وروحه ثلاثة أناسي، بل إنسان واحد، ولا إذا قلنا: لهيب النار وضوء النار وحرارة النار ثلاثة نيران، ولا إذا قلنا: قرص الشمس، وضوء الشمس وشعاع الشمس ثلاثة شموس، وإذا كان هذا رأينا في الله تقدست أسماؤه، وجلت آلاؤه فلا لوم علينا، ولا ذنب لنا إذ لم نهمل ما تسلمناه ولا نرفض ما تقلدناه ونتبع ما سواه، (ولا سيما أن لنا هذه الشهادات البينات والدلائل الواضحات من الكتاب الذي أتى به هذا الرجل). والجواب من وجوه: أحدها أنكم صرحتم بتعدد الآلهة والأرباب في عقيدة إيمانكم وفي استدلالكم وغير ذلك من كلامكم، فليس ذلك شيئا ألزمكم الناس به، بل أنتم تصرحون بذلك، كما تقدم من قولكم: نؤمن بإله واحد، أب، ضابط الكل، خالق ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور إله حق من إله حق، من جوهر أبيه يولد، غير مخلوق، مساو الأب في الجوهر، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب الذي مع الأب، مسجود له وممجد. فهذا تصريح بالثلاثة أرباب، وأن الابن إله حق من إله حق، ومع تصريحكم بثلاثة أرباب وتصريحكم بأن هذا إله حق من إله حق، تقولون: إن ذلك إله واحد، وهذا تصريح بتعدد الآلهة مع القول بإله واحد. ولو لم تذكروا ما يقتضي أنه جوهر آخر، لأمكن أن يحمل كلامكم على عطف الصفة، لكن يكون كلامكم أعظم كفرا، فتكونون قد جعلتم المسيح هو نفس الإله الواحد الأب، خالق ما يرى وما لا يرى، وهذا أعظم من كفركم مع أن هذا حقيقة قولكم، فإنكم تقولون: المسيح هو الله، وتقولون: هو ابن الله (كما ذكر الله القولين عنكم في كلامه، وكفركم بذلك، وليس هذا قول طائفة وهذا قول طائفة) كما يقوله بعض الناس، بل القولان جميعا يقولهما فرق النصارى كالنسطورية واليعقوبية والملكية ونحوهم، وهذا أيضا من تناقضكم فإنه إن كان هو الله لم يكن هو ابن الله، سواء عبر بالابن عن الصفة أو غيرها فإن الأب هو الذات، والذات ليست هي الصفة، وإن عنى بالابن الذات مع صفة الكلام، كما تفسرون الأقنوم بذلك - فهذه الذات متصفة مع ذلك بالحياة، والكلام - سواء عنوا به العلم أو البيان مع العلم - هو مع الحياة قائم بالأب، والصفة ليست عين الموصوف، بل ولا يعبر عنها بأنها ابن الموصوف، ولا عبر بذلك أحد من الأنبياء عليهم السلام. والمقصود أنهم لم يريدوا بقولهم: وبرب واحد يسوع المسيح - عطف الصفة، وأن هذا هو الأب كما قال: إله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب فهذا إله واحد، والعطف لتغاير الصفة، فلو كان المراد بالابن نفس الأب لكان هذا خلاف مذهبهم، ويكونون قد جعلوه إلها من نفسه فقالوا: إلهان، بل ثلاثة، وهو واحد. فهذا لو أرادوه لكان أعظم في الكفر، بل قالوا: وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق. فصرحوا بأنه رب، وأنه إله حق من إله حق، وصرحوا بإله ثان مع الإله الأول. وقالوا مع ذلك: إنه مولود من الأب قبل كل الدهور، وإنه مولود غير مخلوق، فامتنع أن يريدوا بذلك الناسوت، فإن الناسوت مخلوق. وهم يقولون: إن الكلمة هي المتولدة من الأب. والكلمة صفة المتكلم وقائمة به، والكلام ليس برب ولا بإله، بل هو كلام الرب الإله، كما أن سائر كلام الله كالتوراة والإنجيل والقرآن ليس هو الرب والإله، ثم قلتم: مساو الأب في الجوهر فاقتضى هذا أن يكون المولود الذي هو الكلمة جوهرا، وأنه مساو الأب في الجوهر، والمساوى ليس هو المساوي. وهذا يقتضي إثبات جوهر ثان مساو الجوهر الأول، وهو صريح بإثبات إلهين، ويقولون مع ذلك: إنه إله واحد جوهر واحد، ولا يقال الجوهر مع العلم الذي يعبرون عنه بالأقنوم مساو الجوهر الذي هو الذات؛ فإن الجوهر هو الذات، وليس هنا جوهران، أحدهما مجرد عن العلم، والآخر متصف به، حتى يقال: إن أحدهما مساو للآخر، بل الرب تعالى هو الذات المتصفة بالعلم، فإن كان الأب هو الذات المجردة، فالابن أكمل من الأب، وهو الذات مع العلم، والأب بعض الابن. وكذلك يلزمهم أن يكون الابن هو بعض روح القدس؛ فإنهم في أمانتهم جعلوا روح القدس هو الرب المحيي، والرب المحيي هو الذات المتصفة بالحياة، والذات المجردة بعض ذلك، فإن كان الأب هو الذات المجردة فالابن بعض روح القدس. ثم قلتم في أقنوم روح القدس الذي جعلتموه الرب المحيي -: إنه منبثق من الأب مسجود له ممجد، ناطق في الأنبياء، فإن كان المنبثق ربا حيا، فهذا إثبات إله ثالث، وقد جعلتم الذات الحية منبثقة من الذات المجردة، وفي كل منهما من الكفر والتناقض ما لا يخفى. ثم جعلتم هذا الثالث مسجودا له، والمسجود له هو الإله المعبود، وهذا تصريح بالسجود لإله ثالث مع ما فيه من التناقض، ثم جعلتموه ناطقا بالأنبياء، وهذا تصريح بحلول هذا الأقنوم الثالث بجميع الأنبياء، فيلزمكم أن تجعلوا كل نبي مركبا من لاهوت وناسوت، وأنه إله تام وإنسان تام، كما قلتم في المسيح إذ لا فرق بين حلول الكلمة وحلول روح القدس، كلاهما أقنوم. وأيضا فيمتنع حلول إحدى الصفتين دون الأخرى، وحلول الصفة دون الذات، فيلزم أن يكون الإله الحي الناطق بأقانيمه الثلاثة حالا في كل نبي، ويكون كل نبي هو رب العالمين، ويقال مع ذلك: هو ابنه، وفي هذا من الكفر الكبير والتناقض العظيم ما لا يخفى، وهذا لازم للنصارى لزوما لا محيد عنه، فإن ما ثبت للشيء ثبت لنظيره، ولا يجوز التفريق بين المتماثلين، وليس لهم أن يقولوا: الحلول أو الاتحاد في المسيح ثبت بالنص، ولا نص في غيره، لوجوه: أحدها: أن النصوص لم تدل على شيء من ذلك، كما قد تبين. الثاني: أن في غير المسيح من النصوص ما شابه النصوص الواردة فيه، كلفظ الابن، ولفظ حلول روح القدس فيه، ونحو ذلك. الثالث: أن الدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول، وليس كل ما علمه الله وأكرم به أنبياءه أعلم به الخلق بنص صريح، بل من جملة الدلالات دلالة الالتزام. وإذا ثبت الحلول والاتحاد في أحد النبيين بمعنى مشترك بينه وبين النبي الآخر - وجب التسوية بين المتماثلين، كما إذا ثبت أن النبي يجب تصديقه لأنه نبي. ويكفر من كذبه لأنه نبي، فيلزم من ذلك أنه يجب تصديق كل نبي وتكفير من كذبه. الرابع: هب أنه لا دليل على ثبوت ذلك في الغير، فيلزم تجويز ذلك في الغير؛ إذ لا دليل على انتفائه، كما يقولون: إن ذلك كان ثابتا في المسيح قبل إظهاره الآيات على قولهم، وحينئذ فيلزمهم أن يجوزوا في كل نبي أن يكون الله قد جعله إلها تاما وإنسانا تاما كالمسيح وإن لم يعلم ذلك. الخامس: أنه لو لم يقع ذلك، لكنه جائز عندهم، إذ لا فرق في قدرة الله بين اتحاده بالمسيح واتحاده بسائر الآدميين، فيلزمهم تجويز أن يجعل الله كل إنسان إلها تاما وإنسانا تاما، ويكون كل إنسان مركبا من لاهوت وناسوت، وقد تقرب إلى هذا اللازم الباطل من قال بأن أرواح بني آدم من ذات الله، وأنها لاهوت قديم أزلي، فيجعلون نصف كل آدمي لاهوتا، ونصفه ناسوتا، وهؤلاء يلزمهم من المحالات أكثر مما يلزم النصارى من بعض الوجوه، والمحالات التي تلزم النصارى أكثر، من بعض الوجوه.
__________________
|
#295
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ المائدة المجلد الثامن الحلقة( 295) من صــ 121 الى صـ 135 الوجه الثاني: قولهم: ولا يلزمنا إذا قلنا هذا عبادة ثلاثة آلهة بل إله واحد، كما لا يلزمنا إذا قلنا: الإنسان وروحه ونطقه ثلاثة أناسي، ولا إذا قلنا: النار وحرها وضوءها ثلاث نيران، ولا إذا قلنا: الشمس وضوءها وشعاعها ثلاث شموس. فيقال: هذا تمثيل باطل لوجوه: أحدها: أن حر النار وضوءها القائم بها ليس نارا من نار، ولا جوهرا من جوهر، ولا هو مساوي النار والشمس في الجوهر، وكذلك نطق الإنسان، ليس هو إنسانا من إنسان، ولا هو مساو الإنسان في الجوهر، وكذلك الشمس وضوءها القائم بها وشعاعها القائم بها - ليس شمسا ولا جوهرا قائما بنفسه، وأنتم قلتم: إله حق من إله حق، فقلتم في الأمانة: (نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مساوي الأب في الجوهر)، وقلتم في روح القدس: (إنه رب ممجد مسجود له) فأثبتم ثلاثة أرباب. والثاني: أن الضوء في الشمس والنار يراد به نفس الضوء القائم بها، ويراد به الشعاع القائم بالأرض والجدران، وهذا مباين لها ليس قائما بها، ولفظ النور يعبر به عن هذا وهذا، وكلاهما صفة قائمة بغيرها وعرض، وقد يراد بلفظ النور نفس النار ونفس الشمس والقمر،فيكون النور جوهرا قائما بنفسه، وإذا كان كذلك فهم جعلوا الأب ربا جوهرا قائما بنفسه، والابن أيضا ربا جوهرا قائما بنفسه، وروح القدس ربا جوهرا قائما بنفسه. ومعلوم أن ضوء النار والشمس وحرارتها ليس كل منهما شمسا ونارا قائما بنفسها، ولا جوهرا قائما بنفسه، فلو أثبتوا حياة الله وعلمه أو كلامه صفتين قائمتين به، ولم يجعلوا هذا ربا جوهرا قائما بنفسه، وهذا ربا جوهرا قائما بنفسه - لكان قولهم حقا وتمثيلهم مطابقا، ولكنهم لم يقتصروا على مجرد جعلهما صفتين لله حتى جعلوا كلا منهما ربا وجوهرا وخالقا، بل صرحوا بأن المسيح الذي يزعمون اتحاد أحدهما به إلها واحدا وخالقا، فلو كان نفس كلمة الله وعلمه لم يكن إلها خالقا، فإن كلام الله وعلمه ليس إلها خالقا، فكيف والمسيح مخلوق بكلمة الله، ليس هو نفس كلمة الله؟ الوجه الثالث: أن قولهم: الشمس وشعاعها وضوءها، إن أرادوا بالضوء ما يقوم بها، وبالشعاع ما ينفصل عنها - فليس هذا مثال النار وحرها ولهبها؛ إذ كلاهما يقوم بها، وعلى هذا فالشمس لم تقم بها إلا صفة واحدة لا صفتين، فلا يكون التمثيل بها مطابقا، وإن أرادوا بالضوء والشعاع كلاهما؛ ما يقوم بها، أو كلاهما؛ ما ينفصل عنها - فكلاهما صفة واحدة ليس هما صفتان كالحياة والعلم، فعلم أن تمثيلهم بالشمس خطأ، وبعضهم يقول: الشمس وحرها وضوءها، كما يقولون مثل ذلك في النار. وهذا التمثيل أصح لو ثبت أن في جرم الشمس حرارة تقوم بها، فإن هذا لم يقم عليه دليل، وكثير من العقلاء ينكره، ويزعم أن جرم الشمس والقمر والكواكب لا توصف بحرارة ولا برودة، وهو قول أرسطو وأتباعه. وأما تمثيلهم بروح الإنسان ونطقه، فإن أرادوا بالروح حياته، فليس هذا هو مفهوم الروح، وإن أرادوا بالروح التي تفارق بدنه بالموت وتسمى النفس الناطقة - فهذه جوهر قائم بنفسه ليس عرضا من أعراضه، وحينئذ فيلزم أن تكون روح الله جوهرا قائما بنفسه مع جوهر آخر نظير بدن الإنسان، ويكون الرب سبحانه وتعالى مركبا من بدن وروح كالإنسان، وليس هذا قول أهل الملل، لا المسلمين ولا اليهود ولا النصارى، بل هو كفر عندهم، فتبين أن تمثيلهم بالثلاثة باطل. والوجه الرابع: أن التمثيل إما أن يقع بصفات الشمس والنار والإنسان، أو النفس القائمة بهذه الجواهر، أو بما هو مباين لذلك، كالضوء الذي يقع على الأرض والحيطان والهواء، وغير ذلك من الأجسام إذا قابلت الشمس أو النار أو الإنسان أو النفس القائمة بهذه الجواهر، فإن أريد هذا فهذا شعاع منعكس، وضوء منقلب، وليس صفة قائمة بالشمس والنار. وإذا أريد بما حل في المسيح هذا، وهذا يسمى نورا وروحا ويسمى نور الله كما قال تعالى: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء} [النور: 35]. وقال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52]. فأخبرنا أنه جعل الروح الذي أوحاه نورا يهدي به من يشاء. وقال تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22]. وقال تعالى: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه} [الأعراف: 157]. وقال تعالى: {ويجعل لكم نورا تمشون به} [الحديد: 28]. وقال تعالى: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور: 40]. ، فإذا أريد ما حل في المسيح من الروح والكلمة بهذا المعنى فلا اختصاص للمسيح بذلك، فإن هذا يحل في جميع الأنبياء والمؤمنين، وإن كانوا متفاضلين فيه بحسب درجاتهم، وليس هذا الحال فيهم نفس صفة الله القائمة به، وإن كان ذلك حاصلا عنها ومسببا عنها، لكن ليس هو نفس صفة الله، وإن كان من الناس من يقول: بل صفة الله التي اتصف بها حلت في العبد، فهذا القول خطأ، فإن صفة الموصوف القائمة به يمتنع قيامها بعينها بغيره، ولكن الإنسان إذا تعلم علم غيره، وبلغ كلام غيره يقال: هذا علم فلان وكلامه؛ لأن هذا الثاني بلغه عنه، والمقصود هو علم الأول وكلامه، مع العلم بأن نفس ما قام بذات الأول ليس هو عين ما قام بذات الثاني، وإن كان قد يكون مثله، وقد يكون الأول هو المقصود بالثاني، مثل من بلغ كلام غيره، فكلام المبلغ هو المقصود بالتبليغ. وصفات المبلغ - كحركته وصوته - التي بها يحصل التبليغ؛ ليس هو نفس المقصود، وإذا قيل هذا كلام المبلغ عنه، فالإشارة إلى حقيقة الكلام المقصود بالتبليغ، لا إلى ما يختص به المبلغ من أفعاله وصفاته، ولهذا شبه الناس من قال بحلول صفة الرب في عبده بالنصارى القائلين بالحلول وهو شبيه بهم من بعض الوجوه. لكن النصارى لا يقولون بحلول صفة مجردة، بل بحلول الأقنوم الذي هو ذات متصفة بالصفة، ويقولون: إن المسيح خالق ورازق، وهو خالق آدم ومريم، وهو ولد آدم ومريم، وهو خالق لهما بلاهوته ابن لهما بناسوته. ويقولون: هو ابن الله، وهو الله بلاهوته، ويقولون أيضا باللاهوت والناسوت لأجل الاتحاد، والله كفرهم بقولهم: {إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17] ونحو ذلك. وإن أرادوا بتمثيلهم بصفات الشمس والنار والنفس التمثيل بنفس ما يقوم بالشمس والنار والنفس من الضوء والحياة والنطق، وجعلوا ما يثبتونه من الأب والابن وروح القدس - صفات الله، كما أن هذه صفات لهذه المخلوقات. قيل لهم أولا: لم يعبر أحد من الأنبياء عليهم السلام عن صفات الله باسم الأب والابن وروح القدس، فليس لكم إذا وجدتم في كلام المسيح عليه السلام، أو غيره من الأنبياء ذكر الإيمان بالأب والابن وروح القدس - أن تقولوا: مرادهم بذلك صفة الله التي هي الكلمة والعلم، ولا حياة الله، إذ كانوا لم يريدوا هذا المعنى بهذا اللفظ، وإنما أرادوا باسم الابن وروح القدس ما هو بائن عن الله عز وجل. والبائن عن الله ليس صفة لله، فضلا عن أن يكون هو الخالق، فضلا عن أن يكون البشر المتحد به خالقا، فقد ضللتم ضلالا بعد ضلال، ضلالا حيث جعلتم مراد المسيح وغيره بالابن وروح القدس - صفة الرب، ثم ضلالا ثانيا حيث جعلتم الصفة خالقا وربا، ثم ضلالا ثالثا حيث جعلتم الصفة تتحد ببشر هو عيسى، ويسمى المسيح ويكون هو الخالق رب العالمين فضللتم في الحلول ضلالا مثلثا بعد ضلالكم في التثليث أيضا ضلالات أخر، حيث أثبتم ثلاث صفات دون غيرها، وجعلتموها جواهر أربابا، ثم قلتم: إله واحد، فضللتم ضلالا مثلثا في التثليث، وضلالا مثلثا في الاتحاد. وقيل لكم ثانيا: إذا جعلتم ذلك صفات لله، كما أن الضوء والنطق والحرارة صفات لما تقوم بها - امتنع أن تحل بغيرها، وامتنع مع الحلول أن تكون فاعلة فعل النار والشمس والنفس، وأنتم جعلتم الكلمة والحياة حالة بغير الله، وجعلتم ما يحل به إلها خالقا، بل هو الإله الخالق، ومعلوم أن أحدا من العقلاء لا يجعل ما يحصل فيه ضوء النار - نارا، ولا ما يحصل فيه شعاع الشمس - شمسا، ولا ما يحصل فيه نطق زيد وعلمه - هو نفس زيد، فكان جعلكم المسيح هو الخالق للعالم - مخالفا لتمثيلكم. وتبين بذلك أن ما ذكرتموه لا يطابقه شيء من الأمثلة، إذ كان كاملا باطلا متناقضا يمتنع تحققه، فلا تمثيل بشيء من الموجودات الثابتة المعلومة، إلا إذا كان تمثيلا غير مطابق. ولهذا يشبهون الحلول والاتحاد تارة بحلول الماء في الظرف، وتارة بحلول النار في الحديد، وتارة بالنفس والبدن، وتارة يقولون بأنهما جوهر واحد اختلطا كاختلاط الماء واللبن، وكل هذه الأمثال التي ضربوها لله أمثال باطلة، فإن الماء في الظرف وغيره من الأوعية محتاج إلى وعائه، لو انخرق وعاؤه لتبدد، وهو محيط به، ولا يتصف الظرف بشيء من صفات الماء، والرب تعالى يمتنع أن يحتاج إلى شيء من مخلوقاته لا إلى العرش، ولا إلى غيره، أو يحيط به شيء من الموجودات؛ إذ هو الظاهر، فليس فوقه شيء. كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: («أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء،وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء»، فهو غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، ولهذا لم يكن ما وصف الله به نفسه مماثلا لصفات المخلوقين، كما لم تكن ذاته كذوات المخلوقين، فهو مستو على عرشه، كما أخبرنا عن نفسه مع غناه عن العرش. والمخلوق المستوي على السرير أو الفلك أو الدابة لو ذهب ما تحته لسقط؛ لحاجته إليه، والله غني عن كل ما سواه، وهو الحامل بقدرته للعرش ولحملة العرش. وفرق النصارى الثلاثة يقولون بالاتحاد، فلا ينفعهم التمثيل بحلول الماء في الظرف، ولو قدر أنهم قالوا بالحلول المجرد مع أن الرب لا يحتاج إلى الناسوت لا يحويه ولا يمسه، بل كما خاطب موسى من الشجرة، فهذا يوجب أن الناسوت لا يتصف بشيء من الإلهية كالشجرة،ثم إنه معلوم بالضرورة أن الصوت الذي كان يسمع هو صوت الناسوت، فالتمثيل بالشجرة أيضا باطل، كما بسط في موضعه. وأما الحديد والخشب وغيرهما إذا ألقي في النار فإنه يستحيل نارا لاتصاله بالنار، لا أن النار الذي استحال إليها كانت موجودة فحلت به، فهذا استحالة بلا حلول، والنار الذي صارت في الحديد حادثة عن تلك النار ليست إياها، ثم تلك الحديدة إذا طرقت وقع التطريق على النار، وكذلك إذا ألقيت في الماء، فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لكان الضرب والصلب والإهانة وقع على اللاهوت، وكان اللاهوت هو الذي يغتسل بالماء، وهو الذي يأكل ويشرب، وهذا من أعظم الكفر. ويحكى عن بعض طائفة منهم كاليعقوبية أنه يقول بهذا الكفر، وإن كان كثير منهم كالملكية والنسطورية ينكره، فهو لازم لهم، وكذلك إذا شبهوه بالنفس والبدن، فإن النفس تتألم تألم البدن، وتستحيل صفاتها بكونها في البدن، وتكتسب عن البدن أخلاقا وصفات، فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لزم تألم اللاهوت بآلام البدن، وأن يكون متألما بجوع البدن وعطشه وضربه وصلبه، وأن يكون مستحيلا لما اكتسبه من صفات الناسوت الذي هو عندهم بمنزلة البدن للنفس، وأما قولهم: إذ لم نهمل ما تسلمناه، ولم نرفض ما تقلدناه، فقولهم في ذلك بمنزلة قول اليهود للمسيح: إنا لا نهمل ما تسلمناه، ولا نرفض ما تقلدناه من موسى عليه السلام. وجواب الطائفتين من وجهين: أحدهما: أنكم بدلتم وحرفتم الكتاب الذي أنزل إليكم، والشرع الذي شرع لكم، وتبديل المعاني والأحكام لا ريب فيه عند جميع عقلاء الأنام، وما كان عليه اليهود بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه موسى عليه السلام، وما كان عليه النصارى بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه المسيح عليه السلام. والثاني: أنكم كذبتم بالكتاب الآخر، والرسول الآخر الذي أرسل إليكم، ومن كذب ما أنزل إليه من ربه، والرسول الذي أرسل إليه - كان كافرا مستحقا لعذاب الدنيا والآخرة، وإن كان قبل ذلك متبعا لشرع رسول، وكتاب غير مبدل، فكيف إذا كان قد بدل ما بدل من أحكامه ومعانيه؟ (قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77) وقال شيخ الإسلام: فصل: ومما يتعلق بالثلاث المهلكات والمنجيات التي ذكر أنه عند المهلكات عليك بخويصة نفسك. أنه قال: {شح مطاع وهوى متبع} فجعل هذا مطاعا وهذا متبعا وهذا - والله أعلم - لأن الهوى هوى النفس وهو محبتها للشيء وشهوتها له سواء أريد به المصدر أو المفعول. فصاحب الهوى يأمره هواه ويدعوه فيتبعه كما تتبع حركات الجوارح إرادة القلب ولهذا قال الله تعالى: {ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا} وقال: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} وهذا يعم الهوى في الدين كالنصارى وأهل البدع في المقال والقدر. كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء: من الرافضة والخوارج وهذا الهوى موجود في كثير من الفقراء والفقهاء إلا من عصمه الله. وقد اختلف أصحابنا هل يدخل الفقهاء المختلفون في اسم أهل الأهواء. على وجهين أدخلهم في التقسيم القاضي أبو يعلى وكذلك قبله الشيخ أبو حامد الإسفراييني فيما أظن وأنكره ابن عقيل. وأما " الشح المطاع " فقد ذكرنا أن مفسدته عائدة إلى منع الخير وهذا في الأصل ليس هو محبوبا وإنما يحمل عليه الحرص على المشحوح به فإنه من باب النفرة والبغض فهو يأمر صاحبه فيطيعه وليس كل مطاع متبعا وإن كان كل متبع مطاعا فإن الإنسان يطيع الطبيب والأمير وغيرهما في أمور خاصة وليس متبعا لهم أما التابع لغيره فهو مطيع وزيادة فإنه يذهب معه حيثما ذهب. وفرق ثان أن المتبع الذي يطلب في نفسه فغاية المتبع إدراكه ونيله وهذا شأن الهوى. وأما المطاع فغاية لغيره وهذا شأن الشح. (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون (80) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (81) فذكر " جملة شرطية " تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف " لو " التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط فقال: {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء}. فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب. ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء؛ ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه. (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84) (فصل) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: والنصارى نذمهم على الغلو والشرك الذي ابتدعوه وعلى تكذيب الرسول والرهبانية التي ابتدعوها ولا نحمدهم عليها إذ كانوا قد ابتدعوها وكل بدعة ضلالة لكن إذا كان صاحبها قاصدا للحق فقد يعفى عنه فيبقى عمله ضائعا لا فائدة فيه وهذا هو الضلال الذي يعذر صاحبه فلا يعاقب ولا يثاب؛ ولهذا قال: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فإن المغضوب عليه يعاقب بنفس الغضب والضال فاته المقصود وهو الرحمة والثواب ولكن قد لا يعاقب كما عوقب ذلك بل يكون ملعونا مطرودا ولهذا جاء في حديث زيد بن عمرو بن نفيل: أن اليهود قالوا له: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله. وقال له النصارى: حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله.
__________________
|
#296
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ المائدة المجلد الثامن الحلقة( 296) من صــ 136 الى صـ 150 وقال الضحاك وطائفة: إن جهنم طبقات فالعليا لعصاة هذه الأمة والتي تليها للنصارى والتي تليها لليهود. فجعلوا اليهود تحت النصارى والقرآن قد شهد بأن المشركين واليهود يوجدون أشد عداوة للذين آمنوا من الذين قالوا: إنا نصارى وشدة العداوة زيادة في الكفر فاليهود أقوى كفرا من النصارى وإن كان النصارى أجهل وأضل لكن أولئك يعاقبون على عملهم إذ كانوا عرفوا الحق وتركوه عنادا فكانوا مغضوبا عليهم وهؤلاء بالضلال حرموا أجر المهتدين ولعنوا وطردوا عما يستحقه المهتدون ثم إذا قامت عليهم الحجة فلم يؤمنوا استحقوا العقاب إذ كان اسم الضلال عاما. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح {في خطبة يوم الجمعة: خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة} ولم يقل: وكل ضلالة في النار بل يضل عن الحق من قصد الحق وقد اجتهد في طلبه فعجز عنه فلا يعاقب وقد يفعل بعض ما أمر به فيكون له أجر على اجتهاده وخطؤه الذي ضل فيه عن حقيقة الأمر مغفور له. وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم. وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وفي الصحيح أن الله قال: " قد فعلت " وبسط هذا له موضع آخر. [فصل: رد دعوى النصارى أن القرآن نفى عنهم الشرك] ثم قالوا: وكذلك جاء في هذا الكتاب يقول: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} [المائدة: 82]. فذكر القسيسين والرهبان، لئلا يقال: إن هذا قيل عن غيرنا، ودل بهذا على أفعالنا وحسن نياتنا، ونفى عنا اسم الشرك بقوله اليهود والذين أشركوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا، والذين قالوا إنا نصارى أقربهم مودة. والجواب أن يقال: تمام الكلام: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين} [المائدة: 83] فهو سبحانه لم يعد بالثواب في الآخرة إلا لهؤلاء الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - الذين قال فيهم: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} [المائدة: 83]. والشاهدون هم الذين شهدوا له بالرسالة فشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الشهداء الذين قال فيهم: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} [البقرة: 143]. ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله:{فاكتبنا مع الشاهدين} [آل عمران: 53]. قال مع محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته. وكل من شهد للرسل بالتصديق فهو من الشاهدين كما قال الحواريون: {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} [آل عمران: 53]. وقال - تعالى -: {ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} [الحج: 77] (77) {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس} [الحج: 78]. وأما قوله في أول الآية: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} [المائدة: 82]. فهو كما أخبر - سبحانه وتعالى - فإن عداوة المشركين واليهود للمؤمنين أشد من عداوة النصارى، والنصارى أقرب مودة لهم، وهذا معروف من أخلاق اليهود، فإن اليهود فيهم من البغض والحسد والعداوة ما ليس في النصارى. وفي النصارى من الرحمة والمودة ما ليس في اليهود، والعداوة أصلها البغض فاليهود كانوا يبغضون أنبياءهم، فكيف ببغضهم للمؤمنين. وأما النصارى فليس في الدين الذي يدينون به عداوة ولا بغض لأعداء الله الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا، فكيف بعداوتهم وبغضهم للمؤمنين المعتدلين أهل ملة إبراهيم، المؤمنين بجميع الكتب والرسل؟ وليس في هذا مدح للنصارى بالإيمان بالله، ولا وعد لهم بالنجاة من العذاب، واستحقاق الثواب وإنما فيه أنهم أقرب مودة، وقوله - تعالى -: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} [المائدة: 82]. أي بسبب هؤلاء، وسبب ترك الاستكبار يصير فيهم من المودة ما يصيرهم بذلك خيرا من المشركين وأقرب مودة من اليهود والمشركين. ثم قال - تعالى -: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} [المائدة: 83]. فهؤلاء الذين مدحهم بالإيمان ووعدهم بثواب الآخرة، والضمير وإن عاد إلى المتقدمين، فالمراد جنس المتقدمين لا كل واحد منهم، كقوله - تعالى -:{الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173]. وكأن جنس الناس، قالوا لهم: إن جنس الناس، قد جمعوا ويمتنع العموم، فإن القائل من الناس، والمقول له من الناس، والمقول عنه من الناس، ويمتنع أن يكون جميع الناس قال لجميع الناس: إنه قد جمع لكم جميع الناس. ومثل ذلك قوله - تعالى -: {وقالت اليهود عزير ابن الله} [التوبة: 30]. أي جنس اليهود قال هذا، لم يقل هذا كل يهودي، ومن هذا أن في النصارى من رقة القلوب التي توجب لهم الإيمان ما ليس في اليهود، وهذا حق، وأما قولهم: ونفى عنا اسم الشرك، فلا ريب أن الله فرق بين المشركين، وأهل الكتاب في عدة مواضع، ووصف من أشرك منهم في بعض المواضع، بل قد ميز بين الصابئين والمجوس وبين المشركين في بعض المواضع وكلا الأمرين حق، فالأول كقوله - تعالى -: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 1]. وقوله - تعالى -: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} [الحج: 17]. وقال - تعالى -: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} [المائدة: 82]. وأما وصفهم بالشرك ففي قوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31]. فنزه نفسه عن شركهم، وذلك أن أصل دينهم ليس فيه شرك، فإن الله إنما بعث رسله بالتوحيد، والنهي عن الشرك، كما قال - تعالى -: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45]. وقال - تعالى -: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36]. وقال - تعالى -: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]. فالمسيح صلوات الله عليه وسلامه ومن قبله من الرسل إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي التوراة من ذلك ما يعظم وصفه، لم يأمر أحد الأنبياء بأن يعبد ملك ولا نبي ولا كوكب ولا وثن، ولا أن تسأل ولا تطلب الشفاعة إلى الله من ميت ولا غائب، لا نبي ولا ملك، فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعو الملائكة، ويقول: اشفعوا لنا إلى الله ولا يدعو الأنبياء والصالحين الموتى والغائبين، ويقول: اشفعوا لنا إلى الله ولا تصور تماثيلهم لا مجسدة ذات ظل، ولا مصورة في الحيطان، ولا بجعل دعاء تماثيلهم وتعظيمها قربة وطاعة، سواء قصدوا دعاء أصحاب التماثيل، وتعظيمهم والاستشفاع بهم، وطلبوا منهم أن يسألوا الله - تعالى -، وجعلوا تلك التماثيل تذكرة بأصحابها، أو قصدوا دعاء التماثيل ولم يستشعروا أن المقصود دعاء أصحابها، كما فعله جهال المشركين، وإن كان في هذا جميعه إنما يعبدون الشيطان وإن كانوا لا يقصدون عبادته، فإنه قد يتصور لهم في صورة ما يظنون أنها صورة الذي يعظمونه، ويقول: أنا الخضر، أنا المسيح، أنا جرجس، أنا الشيخ فلان. كما قد وقع هذا لغير واحد من المنتسبين إلى المسلمين والنصارى، وقد يدخل الشيطان في بعض التماثيل فيخاطبهم، وقد يقضي بعض حاجاتهم، فبهذا السبب وأمثاله ظهر الشرك قديما وحديثا، وفعل النصارى وأشباههم ما فعلوه من الشرك. وأما الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - فنهوا عن هذا كله ولم يشرع أحد منهم شيئا من ذلك، والنصارى لا يأمرون بتعظيم الأوثان المجسدة، ولكن بتعظيم التماثيل المصورة، فليسوا على التوحيد المحض، وليسوا كالمشركين الذين يعبدون الأوثان ويكذبون الرسل، فلهذا جعلهم الله نوعا من غير المشركين تارة، وذمهم على ما أحدثوه من الشرك تارة. وإذا أطلق لفظ الشرك فطائفة من المسلمين تدخل فيه جميع الكفار من أهل الكتاب، وغيرهم كقوله - تعالى -: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة: 221]. فمن الناس من يجعل اللفظ عاما لجميع الكفار، ولا سيما النصارى ثم من هؤلاء من ينهى عن نكاح هؤلاء، كما كان عبد الله بن عمر، ينهى عن نكاح النصرانية، ويقول: لا أعلم شركا أعظم من أن تقول: إن عيسى ربها. وهذا قول طائفة من الشيعة وغيرهم. وأما جمهور السلف والخلف، فيجوزون نكاح الكتابيات ويبيحون ذبائحهم لكن إذا قالوا لفظ المشركين عام قالوا: هذه الآية مخصوصة أو منسوخة بآية المائدة وهو قوله - تعالى -: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} [المائدة: 5]. وطائفة أخرى تجعل لفظ المشركين إذا أطلق لا يدخل فيه أهل الكتاب. وأما كون النصارى فيهم شرك كما ذكره الله فهذا متفق عليه بين المسلمين، كما نطق به القرآن كما أن المسلمين متفقون على أن قوله: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} [المائدة: 82]. أن النصارى لم يدخلوا في لفظ الذين أشركوا كما لم يدخلوا في لفظ اليهود. وكذلك قوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 1]. ونحو ذلك، وهذا لأن اللفظ الواحد تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران فيدخل فيه مع الإفراد والتجريد ما لا يدخل فيه عند الاقتران بغيره، كلفظ المعروف والمنكر في قوله - تعالى -: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} [الأعراف: 157]. فإنه هنا يتناول جميع ما أمر الله به فإنه معروف، وجميع ما نهى عنه فإنه منكر. وفي قوله: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} [النساء: 114]. فهنا قرن الصدقة بالمعروف والإصلاح بين الناس. وكذلك المنكر في قوله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]. قرن الفحشاء بالمنكر، وقوله: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 90]. قرن الفحشاء بالمنكر والبغي. وكذلك لفظ البر والإيمان، إذا أفرده أدخل فيه الأعمال الصالحة والتقوى، كقوله:{ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177]. وقال: {إن الأبرار لفي نعيم} [الانفطار: 13]. وقوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} [الأنفال: 2]. وقد يقرنه بغيره كقوله: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2]. وقوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [البقرة: 277]. وكذلك لفظ الفقير، والمسكين إذا أفرد أحدهما دخل فيه معنى الآخر. وقد يجمع بينهما في قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة: 60]. فيكونان هنا صنفين، وفي تلك المواضع صنف واحد، فكذلك لفظ الشرك في مثل قوله: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]. يدخل فيه جميع الكفار، أهل الكتاب وغيرهم عند عامة العلماء لأنه أفرده وجرده، وإن كانوا إذا قرن بأهل الكتاب كانا صنفين. وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كان إذا أرسل أميرا على سرية، أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وأوصاه بمن معه من المسلمين خيرا، وقال لهم: اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث - فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم - ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك إلى ذلك، فاقبل منهم، وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين وليس لهم في الغنيمة والفيء نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم». وهذا الحديث كان بعد نزول آية الجزية، وهي إنما نزلت عام تبوك لما قاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - النصارى بالشام، واليهود باليمن. وهذا الحكم ثابت في أهل الكتاب باتفاق المسلمين، كما دل عليه الكتاب والسنة، ولكن تنازعوا في الجزية: هل تؤخذ من غير أهل الكتاب؟ وهذا مبسوط في موضعه.
__________________
|
#297
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ المائدة المجلد الثامن الحلقة( 297) من صــ 151 الى صـ 165 (ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (87) وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (88) وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: فصل: قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} {وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا} الآية. ومن المشهور في التفسير: أنها نزلت بسبب جماعة من الصحابة كانوا قد عزموا على الترهب وفي الصحيحين عن أنس: {أن رجالا سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادته في السر فتقالوا ذلك} وذكر الحديث. وفي الصحيحين عن سعد قال: {رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا}. وعن عكرمة أن علي بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد وسالما مولى أبي حذيفة في أصحاب لهم تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا الطيبات من الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل وهموا بالاختصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار فنزلت هذه الآية. وكذلك ذكر سائر المفسرين ما يشبه هذا المعنى. وقد ذم الله الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وذم الذين يتبعون الشهوات والذين يريدون أن تميلوا ميلا عظيما ويريدون ميل المؤمنين ميلا عظيما. وذم الذين اتبعوا ما أترفوا فيه والذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام. وأكثر الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات شربة الخمر كما قال تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} فجمعوا بين الشهوة المحرمة وترك ذكر الله وإضاعة الصلاة وكذلك غيرهم من أهل الشهوات. ثم نهى سبحانه عن تحريم ما أحل من الطيبات وعن الاعتداء في تناولها وهو مجاوزة الحد وقد فسر الاعتداء في الزهد والعبادة بأن يحرموا الحلال ويفعلوا من العبادة ما يضرهم فيكونوا قد تجاوزوا الحد وأسرفوا. وقيل: لا يحملنكم أكل الطيبات على الإسراف وتناول الحرام من أموال الناس فإن آكل الطيبات والشهوات المعتدي فيها لا بد أن يقع في الحرام لأجل الإسراف في ذلك. والمقصود بالزهد ترك ما يضر العبد في الآخرة وبالعبادة فعل ما ينفع في الآخرة فإذا ترك الإنسان ما ينفعه في دينه وينفعه في آخرته وفعل من العبادة ما يضر فقد اعتدى وأسرف وإن ظن ذلك زهدا نافعا وعبادة نافعة. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والنخعي: {ولا تعتدوا} أي لا تجبوا أنفسكم وقال عكرمة لا تسيروا بغير سيرة المسلمين: من ترك النساء ودوام الصيام والقيام. وقال مقاتل: لا تحرموا الحلال وعن الحسن لا تأتوا ما نهى الله عنه وهذا ما أريد به لا تحرموا الحلال ولا تفعلوا الحرام؛ فيكون قد نهى عن النوعين؛ لكن سبب نزول الآية وسياقها يدل على قول الجمهور وقد يقال هذا مثل قوله: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} وقوله في تمام الآية: {وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا} الآية. وكذلك الأحاديث الصحيحة كقول أحدهم: لا أتزوج النساء وقول الآخر لا آكل اللحم. كما في حديث أنس المتقدم وهذا مما يدل على أن صوم الدهر مكروه وكذلك مداومة قيام الليل. فصل: وهذا الذي جاءت به شريعة الإسلام هو الصراط المستقيم وهو الذي يصلح به دين الإنسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {أعدل الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما} وفي رواية صحيحة: " أفضل " والأفضل هو الأعدل الأقوم. وهذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وهي وسط بين هذين الصنفين: أصحاب البدع وأصحاب الفجور أهل الإسراف والتقشف الزائد. ولهذا كان السلف يحذرون من هذين الصنفين. قال الحسن: هو المبتدع في دينه والفاجر في دنياه وكانوا يقولون: احذروا صاحب الدنيا أغوته دنياه وصاحب هوى متبع لهواه وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور. فـ " القسم الأول " أهل الفجور وهم المترفون المنعمون أوقعهم في الفجور ما هم فيه. و " القسم الثاني " المترهبون أوقعهم في البدع غلوهم وتشديدهم هؤلاء استمتعوا بخلاقهم وهؤلاء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم وذلك أن الذين يتبعون الشهوات المنهي عنها أو يسرفون في المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم الله والدار الآخرة ويفسد حالهم كما هو مشاهد كثيرا منهم. والذين يحرمون ما أحل الله من الطيبات - وإن كانوا يقولون: إن الله لم يحرم هذا؛ بل يلتزمون ألا يفعلوه إما بالنذر وإما باليمين كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء - يقول أحدهم: لله علي ألا آكل طعاما بالنهار أبدا ويعاهد أحدهم ألا يأكل الشهوة الملائمة ويلتزم ذلك بقصده وعزمه وإن لم يحلف ولم ينذر. فهذا يلتزم أن لا يشرب الماء وهذا يلتزم ألا يأكل الخبز وهذا يلتزم ألا يشرب الفقاع وهذا يلتزم ألا يتكلم قط وهذا يجب نفسه وهذا يلتزم ألا ينكح ولا يذبح. وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التي ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس وقهر الهوى والشهوة. ولا ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها وكذلك قهر الهوى والشهوة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله} لكن المسلم المتبع لشريعة الإسلام هو المحرم ما حرمه الله ورسوله فلا يحرم الحلال ولا يسرف في تناوله؛ بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح ويقتصد في ذلك ويقتصد في العبادة؛ فلا يحمل نفسه ما لا تطيق. فهذا تجده يحصل له من مجاهدات النفس وقهر الهوى ما هو أنفع له من تلك الطريق المبتدعة الوعرة القليلة المنفعة التي غالب من سلكها ارتد على حافره ونقض عهده ولم يرعها حق رعايتها. وهذا يثاب على ذلك ما لا يثاب على سلوك تلك الطريق وتزكو به نفسه وتسير به إلى ربه ويجد بذلك من المزيد في إيمانه ما لا يجده أصحاب تلك الطريق فإنهم لا بد أن تدعوهم أنفسهم إلى الشهوات المحرمة؛ فإنه ما من بني آدم إلا من أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا وقد قال تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفا}. قال طاوس في أمر النساء وقلة صبره عنهن كما تقدم فميل النفس إلى النساء عام في طبع جميع بني آدم وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران كما هو المذكور عنهم؛ فيبتلى بالميل إلى المردان وإن لم يفعل الفاحشة الكبرى ابتلي بما هو دون ذلك من المباشرة والمشاهدة ولا يكاد أن يسلم أحدهم من الفاحشة إما في سره وإما بينه وبين الأمرد ويحصل للنفس من ذلك ما هو معروف عند الناس. وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه فإذا ابتلي المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه في الله وهو مأمور بهذا الجهاد ليس أمرا أوجبه وحرمه هو على نفسه فيكون في طاعة نفسه وهواه؛ بل هو أمر حرمه الله ورسوله ولا حيلة فيه؛ فيصير بالمجاهدة في طاعة الله ورسوله. وفي حديث رواه أبو يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا: {من عشق فعف وكتم وصبر ثم مات فهو شهيد} وأبو يحيى في حديثه نظر؛ لكن المعنى الذي ذكره دل عليه الكتاب والسنة؛ فإن الله أمر بالتقوى والصبر فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرمه الله من نظر بعين ومن لفظ بلسان ومن حركة بيد ورجل ومن الصبر أن يصبر عن شكوى ما به إلى غير الله عز وجل. فإن هذا هو الصبر الجميل. وأما الكتمان فيراد به شيئان: " أحدهما " أن يكتم بثه وألمه فلا يشكو إلى غير الله فمتى شكا إلى غير الله نقص صبره وهذا أعلى الكتمانين؛ لكن هذا لا يقدر عليه كل أحد؛ بل كثير من الناس يشكو ما به وهذا على وجهين: فإن شكا ذلك إلى طبيب يعرف طب الأديان ومضرات النفوس ومنافعها؛ ليعالج نفسه بعلاج الإيمان؛ فهذا بمنزلة المستفتي وهذا حسن. وإن شكا إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام وإن شكا إلى غيره لما في الشكوى من الراحة كما يشكو المصاب مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد تعلم ما ينفعه ولا الاستعانة على مصيبته فهذا ينقص صبره؛ ولكن لا يأثم مطلقا إلا إذا اقترن به ما يحرم كالمصاب الذي يتسخط. و " الثاني " أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما في ذلك من إظهار السوء والفاحشة فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت وتشهت وتمنت وتتيمت والإنسان متى رأى أو سمع أو تخيل من يفعل ما يشتهيه كان ذلك داعيا له إلى الفعل والتشبه به والنساء متى رأين البهائم تنزو الذكور منها على الإناث ملن إلى الباءة والمجامعة والرجل إذا سمع من يفعل مع المردان والنساء ورأى ذلك أو تخيله في نفسه دعاه ذلك إلى الفعل وإذا ذكر للإنسان طعام اشتهاه ومال إليه وإن وصف له ما يشتهيه من لباس أو امرأة أو مسكن أو غيره مالت نفسه إليه والغريب عن وطنه متى ذكر بالوطن حن إليه وكل ما في نفس الإنسان محبته إذا تصوره تحركت المحبة والطلب إلى ذلك المحبوب المطلوب؛ إما إلى وصفه وإما إلى مشاهدته وكلاهما يحصل به تخيل في النفس وقد يحصل التخيل بالسماع أو الرؤية أو الفكر في بعض الأمور المتعلقة به فإذا تخيلت النفس تلك الأمور المتعلقة انقلبت إلى ما تخيلته فتحركت داعية المحبة سواء كانت محبة محمودة أو مذمومة. ولهذا تتحرك النفوس إلى الحج إذا ذكر الحجاز أو كان أوان الحج أو رأى من يذهب إلى الحج من أهله وأقاربه أو أصحابه أو غيرهم ولو لم يسمع ذلك ويراه لما تحرك ولا حدث منه داعية قوته إلى ذلك فتتحرك بذكر الأبرق والأجرع والعلي ونحو ذلك؛ لأنه رأى تلك المنازل لما كان ذاهبا إلى محبوبه فصار ذكرها يذكره بالمحبوب. وكذلك أصحاب المتاجر والأموال إذا سمع أحدهم بالمكاسب تحركت داعيته إلى ذلك وكذلك أهل الفرج والتنزه إذا رأوا من يقصد ذلك تحركوا إليه وهذه الدواعي كلها مركوزة في نفوس بني آدم والإنسان ظلوم جهول. وكذلك ذكر آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكر به وتحرك محبته فالمبتلى بالفاحشة والعشق إذا ذكر ما به لغيره تحركت نفس ذلك الغير إلى جنس ذلك؛ لأن النفوس مجبولة على حب الصور الجميلة فإذا تصورت جنسا تحرك إليها المحبوب. ولهذا نهى الله تعالى عن إشاعة الفاحشة. وكذلك أمر بستر الفواحش كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله} وقال: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله فيصبح يتحدث به} فما دام الذنب مستورا فعقوبته على صاحبه خاصة وإذا ظهر ولم ينكر كان ضرره عاما فكيف إذا كان في ظهوره تحريك لغيره إليه. ولهذا كره الإمام أحمد وغيره إنشاد الأشعار: الغزل الرقيق؛ لأنه يحرك النفوس إلى الفواحش؛ فلهذا أمر من يبتلى بالعشق أن يعف ويكتم ويصبر فيكون حينئذ ممن قال الله فيه: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}. والمقصود أنه يثاب على هذه المجاهدة والمجاهد من جاهد نفسه في الله. وأما المبتدعون في الزهد والعبادة السالكون طريق الرهبان فإنهم قد يزهدون في النكاح وفضول الطعام والمال ونحو ذلك. وهذا محمود؛ لكن عامة هؤلاء لا بد أن يقعوا في ذنوب من هذا الجنس كما نجد كثيرا منهم يبتلى بصحبة الأحداث وإرفاق النساء؛ فيبتلون بالميل إلى الصور المحرمة من النساء والصبيان ما لا يبتلى به أهل السنة المتبعون للشريعة المحمدية. وحكاياتهم في هذا أكثر من أن يحكى بسطها في كتاب وعندهم من الفواحش الباطنة والظاهرة ما لا يوجد عند غيرهم وخيار من فيهم يميل إلى الأحداث والغناء والسماع؛ لما يجدون في ذلك من راحة النفوس ولو اتبعوا السنة لاستراحوا من ذلك. قال أبو سعيد الخراز لما قال له الشيطان في المنام: لي فيكم لطيفتان السماع وصحبة الأحداث قال أبو سعيد: قل من ينجو منهما من أصحابنا حتى إنهم لقوة محبة نفوسهم له صار ذلك ممتزجا بطريقهم إلى الله فإن أحدهم يجد في نفسه عند مشاهدة الشاهد من الرغبة فيما اعتاده من العبادة والزهادة ما لا يجدها بدون ذلك وعنده في نفسه عند سماع القصائد من الشوق والرغبة والنشاط ما لا يجده عند سماع القرآن فصاروا في شبهة وشهوة لم يكتف الشيطان منهم بوقوعهم في الأمور المحرمة التي تفتنهم حتى جعلهم يعتبرون ذلك عبادة كالذين قال الله فيهم: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} الآية. وهؤلاء هم الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات. وإذا وقعوا في السماع وقعوا فيه بشوق ورغبة قوية ومحبة تامة وبذلوا فيه أنفسهم وأموالهم. فقد يبذلون فيه نساءهم وأبناءهم ويدخلون في الدياثة لأغراضهم فيأتي أحدهم بولده فيهبه للشيخ يفعل ما أراد هو ومن يلوذ به ويسمونه حوارا وإن كان حسن الصورة استأثر به الشيخ دونهم ويعد أهله ذلك بركة حصلت له من الشيخ ويرتفع الحياء بين أم الصبي وأبيه وبين الفقراء. وإذا صلوا صلوا صلاة المنافقين يقومون إليها وهم كسالى {يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا}. فقد أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ومع هذا فهم قد يزهدون في بعض الطيبات التي أحلها الله لهم ويجتهدون في عبادات وأذكار لكن مع بدعة وأفعال لا تجوز مما تقدم ذكره فتلك البدعة هي التي أوقعتهم في اتباع الشهوات وإضاعة الصلوات؛ لأن الشريعة مثالها مثال سفينة نوح؛ من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. وهؤلاء تخلفوا عنها فغرقوا بحبهم ويتوب الله على من تاب. والسالكون للشريعة المحمدية إذا ابتلوا بالذنوب لم تكن التوبة عليهم من الآصار والأغلال؛ بل من الحنيفية السمحة وأما أهل البدع فقد تكون التوبة عليهم آصارا وأغلالا كما كانت على من قبلنا من الرهبان فإنهم إذا وقع أحدهم في الذنب لم يخلص من شره إلا ببلاء شديد من أجل خروجه عن السنة. وهؤلاء قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه السلوك إلى الله تعالى إلا ببدعة. وكذلك أهل الفجور المترفين قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه فعل الواجبات إلا بما يفعله من الذنوب ولا يمكنه ترك المحرمات إلا بذلك وهذا يقع لبشر كثير من الناس. منهم من يقول: إنه لا يمكن أداء الصلوات واجتناب الكلام المحرم - من الغيبة وغيرها - إلا بأكل الحشيشة. ويقول الآخر: إن أكلها يعينه على استنباط العلوم وتصفية الذهن حتى يسميها بعضهم معدن الفكر والذكر ومحركة العزم الساكن وكل هذا من خدع النفس ومكر الشيطان بهؤلاء وغيرهم وإنها لعمى الذهن ويصير آكلها أبكم مجنونا لا يعي ما يقول. وكذلك في هؤلاء من يقول: إن محبته لله ورغبته في العبادة وحركته ووجده وشوقه وغير ذلك لا يتم إلا بسماع القصائد ومعاشرة الشاهد من الصبيان وغيرهم وسماع الأصوات والنغمات ويزعمون أنهم بسماع هذه الأصوات ورؤية الصور المحركات تتحرك عندهم من دواعي الزهد والعبادة ما لا تتحرك بدون ذلك وأنهم بدون ذلك قد يتركون الصلوات ويفعلون المحرمات الكبار كقطع الطريق وقتل النفوس ويظنون أنهم بهذا ترتاض نفوسهم وتلتذ بذلك لذة تصدها عن ارتكاب المحارم والكبائر وتحملها على الصلاة والصوم والحج. وهذا مستند كثير من الشيوخ الذين يدعون الناس إلى طريقهم بالسماع المبتدع على اختلاف ألوانه وأنواعه. منهم من يدعو إليه بالدف والرقص ومنهم من يضيف إلى ذلك الشبابات ومنهم من يعمله بالنساء والصبيان ومنهم من يعمله بالدف والكف ومنهم من يعمله بأذكار واجتماع وتسبيحات وقيام وإنشاد أشعار وغير ذلك من سائر أنواعه وألوانه. وربما ضموا إليه من معاشرة النساء والمردان ونحو ذلك. ويقولون هؤلاء الذين توبناهم وقد كانوا لا يصلون ولا يحجون ولا يصومون بل كانوا يقطعون الطريق ويقتلون النفس ويزنون؛ فتوبناهم عن ذلك بهذا السماع. وما أمكن أحدهم استتابتهم بغير هذا. وقد يعترفون أن ما فعلوه بدعة منهي عنها أو محرمة؛ ولكن يقولون ما أمكننا إلا هذا وإن لم نفعل هذا القليل من المحرم حصل الوقوع فيما هو أشد منه تحريما وفي ترك الواجبات ما يزيد إثمه على إثم هذا المحرم القليل في جنب ما كانوا فيه من المحرم الكثير. ويقولون: إن الإنسان يجد في نفسه نشاطا وقوة في كثير من الطاعات إذا حصل له ما يحبه وإن كان مكروها حراما. وأما بدون ذلك فلا يجد شيئا ولا يفعله. وهو أيضا يمتنع عن المحرمات إذا عوض بما يحبه وإن كان مكروها وإلا لم يمتنع وهذه الشبهة واقعة لكثير من الناس وجوابها مبني على ثلاث مقامات: " أحدها " أن المحرمات قسمان: " أحدهما " ما يقطع بأن الشرع لم يبح منه شيئا لا لضرورة ولا لغير ضرورة: كالشرك والفواحش والقول على الله بغير علم. والظلم المحض وهي الأربعة المذكورة في قوله تعالى {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}. فهذه الأشياء محرمة في جميع الشرائع وبتحريمها بعث الله جميع الرسل ولم يبح منها شيئا قط ولا في حال من الأحوال ولهذا أنزلت في هذه السورة المكية ونفي التحريم عما سواها؛ فإنما حرمه بعدها كالدم والميتة ولحم الخنزير حرمه في حال دون حال وليس تحريمه مطلقا.
__________________
|
#298
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ المائدة المجلد الثامن الحلقة( 298) من صــ 166 الى صـ 180 وكذلك " الخمر " يباح لدفع الغصة بالاتفاق ويباح لدفع العطش في أحد قولي العلماء ومن لم يبحها قال: إنها لا تدفع العطش وهذا مأخذ أحمد. فحينئذ فالأمر موقوف على دفع العطش بها فإن علم أنها تدفعه أبيحت بلا ريب كما يباح لحم الخنزير لدفع المجاعة وضرورة العطش الذي يرى أنه يهلكه أعظم من ضرورة الجوع؛ ولهذا يباح شرب النجاسات عند العطش بلا نزاع فإن اندفع العطش وإلا فلا إباحة في شيء من ذلك. وكذلك " الميسر " فإن الشارع أباح السبق فيه بمعنى الميسر للحاجة في مصلحة الجهاد. وقد قيل إنه ليس منه وهو قول من لم يبح العوض من الجانبين مطلقا إلا المحلل ولا ريب أن الميسر أخف من أمر الخمر وإذا أبيحت الخمر للحاجة فالميسر أولى. والميسر لم يحرم لذاته إلا لأنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء. فإذا كان فيه تعاون على الرمي الذي هو من جنس الصلاة وعلى الجهاد الذي فيه تعاون وتتألف به القلوب على الجهاد زالت هذه المفسدة. وكذلك بيع الغرر هو من جنس الميسر ويباح منه أنواع عند الحاجة ورجحان المصلحة. وكذلك " الربا " حرم لما فيه من الظلم وأوجب ألا يباع الشيء إلا بمثله ثم أبيح بيعه بجنسه خرصا عند الحاجة بخلاف غيرها من المحرمات فإنها تحرم في حال دون حال. ولهذا - والله أعلم - نفى التحريم عما سواها وهو التحريم المطلق العام فإن المنفي من جنس المثبت فلما أثبت فيها التحريم العام المطلق نفاه عما سواها. و " المقام الثاني " أن يفرق بين ما يفعل في الإنسان ويأمر به ويبيحه وبين ما يسكت عن نهي غيره عنه وتحريمه عليه فإذا كان من المحرمات ما لو نهى عنه حصل ما هو أشد تحريما منه لم ينه عنه ولم يبحه أيضا. ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف؛ لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك واجب أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب وإذا كان قوم على بدعة أو فجور ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك ولم يمكن منعهم منه ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه. بخلاف ما أمر الله به الأنبياء وأتباعهم من دعوة الخلق؛ فإن دعوتهم يحصل بها مصلحة راجحة على مفسدتها كدعوة موسى لفرعون ونوح لقومه فإنه حصل لموسى من الجهاد وطاعة الله وحصل لقومه من الصبر والاستعانة بالله ما كانت عاقبتهم به حميدة وحصل أيضا من تغريق فرعون وقومه ما كانت مصلحته عظيمة. وكذلك نوح حصل له ما أوجب أن يكون ذريته هم الباقين وأهلك الله قومه أجمعين فكان هلاكهم مصلحة. فالمنهي عنه إذا زاد شره بالنهي وكان النهي مصلحة راجحة كان حسنا وأما إذا زاد شره وعظم وليس في مقابلته خير يفوته لم يشرع إلا أن يكون في مقابلته مصلحة زائدة فإن أدى ذلك إلى شر أعظم منه لم يشرع مثل أن يكون الآمر لا صبر له فيؤذى فيجزع جزعا شديدا يصير به مذنبا وينتقص به إيمانه ودينه. فهذا لم يحصل به خير لا له ولا لأولئك؛ بخلاف ما إذا صبر واتقى الله وجاهد ولم يتعد حدود الله بل استعمل التقوى والصبر؛ فإن هذا تكون عاقبته حميدة. وأولئك قد يتوبون فيتوب الله عليهم ببركته وقد يهلكهم ببغيهم ويكون ذلك مصلحة كما قال تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} وأما الإنسان في نفسه فلا يحل له أن يفعل الذي يعلم أنه محرم لظنه أنه يعينه على طاعة الله فإن هذا لا يكون إلا مفسدة أو مفسدته راجحة على مصلحته وقد تنقلب تلك الطاعة مفسدة؛ فإن الشارع حكيم فلو علم أن في ذلك مصلحة لم يحرمه لكن قد يفعل الإنسان المحرم ثم يتوب وتكون مصلحته أنه يتوب منه ويحصل له بالتوبة خشوع ورقة وإنابة إلى الله تعالى؛ فإن الذنوب قد يكون فيها مصلحة مع التوبة منها فإن الإنسان قد يحصل له بعدم الذنوب كبر وعجب وقسوة فإذا وقع في ذنب أذله ذلك وكسر قلبه ولين قلبه بما يحصل له من التوبة. ولهذا قال سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار ويفعل السيئة فيدخل بها الجنة وهذا هو الحكمة في ابتلاء من ابتلي بالذنوب من الأنبياء والصالحين وأما بدون التوبة فلا يكون المحرم إلا مفسدته راجحة فليس للإنسان أن يعتقد حل ما يعلم أن الله حرمه قطعا وليس له أن يفعله قطعا فإن غلبته نفسه وشيطانه فوقع فيه تاب منه فإن تاب فصار بالتوبة خيرا مما كان قبله فهذا من رحمة الله به حين تاب عليه وإلا فلو لم يتب لفسد حاله بالذنب وليس له أن يقول أنا أفعل ثم أتوب ولا يبيح الشارع له ذلك لأنه بمنزلة من يقول أنا أطعم نفسي ما يمرضني ثم أتداوى أو آكل السم ثم أشرب الترياق. والشارع حكيم فإنه لا يدري هل يتمكن من التوبة أم لا؟ وهل يحصل الدواء بالترياق وغيره أم لا؟ وهل يتمكن من الشرب أم لا؟ لكن لو وقع هذا وكانت آخرته إلى التوبة النصوح كان الله قد أحسن إليه بالتوبة وبالعفو عما سلف من ذنوبه وقد يكون مثل هذا ليس صلاحه إلا في أن يذنب ويتوب ولو لم يفعل ذلك كان شرا منه لو لم يذنب ويتب؛ لكن هذا أمر يتعلق بخلق الله وقدره وحكمته لا يمكن أحد أن يأمر به الإنسان؛ لأنه لا يدري أن ذلك خير له وليس ما يفعله خلقا - لعلمه وحكمته - يجوز للرسل وللعباد أن يفعلوه ويأمروا به. وقصة الخضر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع الله وأمره ولا فعل الخضر ما فعله لكونه مقدرا كما يظنه بعض الناس؛ بل ما فعله الخضر هو مأمور به في الشرع بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر؛ فإنه لم يفعل محرما مطلقا؛ ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار فإن إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما. وكذلك قتل الإنسان الصائل لحفظ دين غيره أمر مشروع وصبر الإنسان على الجوع مع إحسانه إلى غيره أمر مشروع. فهذه القضية تدل على أنه يكون من الأمور ما ظاهره فساد فيحرمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل وهو مباح في الشرع باطنا وظاهرا لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته. وهذا لا يجيء في الأنواع الأربعة فإن الشرك والقول على الله بلا علم والفواحش ما ظهر منها وما بطن والظلم: لا يكون فيها شيء من المصلحة وقتل النفس أبيح في حال دون حال؛ فليس من الأربعة. وكذلك إتلاف المال يباح في حال دون حال وكذلك الصبر على المجاعة؛ ولذلك قال: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} فإخلاص الدين له والعدل واجب مطلقا في كل حال وفي كل شرع؛ فعلى العبد أن يعبد الله مخلصا له الدين ويدعوه مخلصا له لا يسقط هذا عنه بحال ولا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد وهم أهل " لا إله إلا الله ". فهذا حق الله على كل عبد من عباده كما في الصحيحين من حديث {معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا} الحديث. فلا ينجون من عذاب الله إلا من أخلص لله دينه وعبادته ودعاه مخلصا له الدين ومن لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره: كفرعون وأمثاله فهو أسوأ حالا من المشرك؛ فلا بد من عبادة الله وحده وهذا واجب على كل أحد فلا يسقط عن أحد ألبتة وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله دينا غيره. ولكن لا يعذب الله أحدا حتى يبعث إليه رسولا وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان فمن لا ذنب له لا يدخل النار ولا يعذب الله بالنار أحدا إلا بعد أن يبعث إليه رسولا فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه كالصغير والمجنون والميت في الفترة المحضة فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بذلك الآثار. فيجب الفرق في الواجبات والمحرمات - والتمييز بينهما هو اللازم لكل أحد على كل حال وهو العدل في حق الله وحق عباده بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين ولا يظلم الناس شيئا وما هو محرم على كل أحد في كل حال لا يباح منه شيء وهو الفواحش والظلم والشرك والقول على الله بلا علم - وبين ما سوى ذلك. قال تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا} فهذا محرم مطلقا لا يجوز منه شيء {وبالوالدين إحسانا} فهذا فيه تقييد. فإن الوالد إذا دعا الولد إلى الشرك ليس له أن يطيعه بل له أن يأمره وينهاه وهذا الأمر والنهي للوالد هو من الإحسان إليه. وإذا كان مشركا جاز للولد قتله وفي كراهته نزاع بين العلماء. قوله: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} فهذا تحريم خاص {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} هذا مطلق {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} هذا مقيد فإن يتامى المشركين أهل الحرب يجوز غنيمة أموالهم؛ لكن قد يقال: هذا أخذ وقربان بالتي هي أحسن إذا فسر الأحسن بأمر الله ورسوله {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} هذا مقيد بمن يستحق ذلك {وإذا قلتم فاعدلوا} هذا مطلق. {وبعهد الله أوفوا} فالوفاء واجب؛ لكن يميز بين عهد الله وغيره ويفرق بين ما يسكت عنه الإنسان وبين ما يلفظ به ويفعله ويأمر به ويفرق بين ما قدره الله فحصل بسببه خير وبين ما يؤمر به العبد فيحصل بسببه خير. (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون (89) فصل: وأما أنواع الأيمان الثلاثة " فالأول ". أن يعقد اليمين بالله. و " الثاني " أن يعقدها لله. " والثالث " أن يعقدها بغير الله أو لغير الله. فأما " الأول " فهو الحلف بالله. فهذه يمين منعقدة مكفرة بالكتاب والسنة والإجماع. وأما " الثالث " وهو أن يعقدها بمخلوق أو لمخلوق مثل: أن يحلف بالطواغيت؛ أو بأبيه. أو الكعبة: أو غير ذلك من المخلوقات: فهذه يمين غير محترمة لا تنعقد ولا كفارة بالحنث فيها باتفاق العلماء؛ لكن نفس الحلف بها منهي عنه فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى. فليقل لا إله إلا الله} وسواء في ذلك الحلف بالملائكة والأنبياء وغيرهم باتفاق العلماء؛ إلا أن في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم " قولين " في مذهب أحمد وقول الجمهور أنها يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها. وأما عقدها لغير الله فمثل أن ينذر للأوثان والكنائس أو يحلف بذلك فيقول: إن فعلت كذا فعلي للكنيسة كذا أو لقبر فلان كذا ونحو ذلك. فهذا إن كان نذرا فهو شرك وإن كان يمينا: فهو شرك إذا كان يقول ذلك على وجه التعظيم كما يقول المسلم: إن فعلت كذا فعلي هدي وأما إذا قاله على وجه البغض لذلك كما يقول المسلم: إن فعلت كذا فأنا يهودي. أو نصراني فهذا ليس مشركا وفي لزوم الكفارة له قولان معروفان للعلماء. وما كان من نذر شرك أو يمين شرك فعليه أن يتوب إلى الله من عقدها؛ ليس فيها وفاء ولا كفارة إنما ذلك فيما كان لله أو بالله. وأما المعقود لله فعلى وجهين. " أحدهما " أن يكون قصده التقرب إلى الله؛ لا مجرد أن يحض أو يمنع. وهذا هو النذر فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:{كفارة النذر كفارة يمين} وثبت عنه أن قال: {من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه}. فإذا كان قصد الإنسان أن ينذر لله طاعة فعليه الوفاء به وإن نذر ما ليس بطاعة لم يكن عليه الوفاء به. وما كان محرما لا يجوز الوفاء به؛ لكن إذا لم يوف بالنذر لله فعليه كفارة يمين عند أكثر السلف وهو قول أحمد وهو قول أبي حنيفة. قيل: مطلقا. وقيل: إذا كان في معنى اليمين. " والثاني " أن يكون مقصوده الحض أو المنع أو التصديق أو التكذيب فهذا هو الحلف بالنذر والطلاق والعتاق والظهار والحرام كقوله: إن فعلت كذا فعلي الحج وصوم سنة ومالي صدقة وعبيدي أحرار ونسائي طوالق. فهذا الصنف يدخل في مسائل " الأيمان " ويدخل في مسائل " الطلاق والعتاق والنذر والظهار ". وللعلماء فيه ثلاثة أقوال. " أحدها " أنه يلزمه ما حلف به إذا حنث؛ لأنه التزم الجزاء عند وجود الشرط وقد وجد الشرط فيلزمه: كنذر التبرر المعلق بالشرط. " والقول الثاني ": هذه يمين غير منعقدة فلا شيء فيها إذا حنث؛ لا كفارة ولا وقوع؛ لأن هذا حلف بغير الله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {من كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت} وفي رواية في الصحيح {: لا تحلفوا إلا بالله} " والقول الثالث " أن هذه أيمان مكفرة إذا حنث فيها كغيرها من الأيمان. ومن العلماء من فرق بين ما عقده لله من الوجوب - وهو الحلف بالنذر - وما عقده لله من تحريم - وهو الحلف بالطلاق والعتاق - فقالوا في الأول: عليه كفارة يمين إذا حنث. وقالوا في الثاني: يلزمه ما علقه وهو الذي حلف به إذا حنث؛ لأن الملتزم في الأول فعل واجب فلا يبرأ إلا بفعله فيمكنه التكفير قبل ذلك والملتزم في الثاني وقوع حرمة. وهذا يحصل بالشرط فلا يرتفع بالكفارة. و " القول الثالث " هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار وعليه تدل أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة كما قد بسط في موضعه. وذلك أن الله قال في كتابه: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين} إلى قوله: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} وقال تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه} وهذا يتناول جميع أيمان المسلمين لفظا ومعنى. أما اللفظ فلقوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وقوله: {ذلك كفارة أيمانكم} وهذا خطاب للمؤمنين فكل ما كان من أيمانهم فهو داخل في هذا والحلف بالمخلوقات شرك ليس من أيمانهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم {من حلف بغير الله فقد أشرك} رواه أهل السنن أبو داود وغيره فلا تدخل هذه في أيمان المسلمين. وأما ما عقده بالله أو لله فهو من أيمان المسلمين فيدخل في ذلك؛ ولهذا لو قال: أيمان المسلمين أو أيمان البيعة تلزمني ونوى دخول الطلاق والعتاق: دخل في ذلك كما ذكر ذلك الفقهاء ولا أعلم فيه نزاعا ولا يدخل في ذلك الحلف بالكعبة وغيرها من المخلوقات وإذا كانت من أيمان المسلمين تناولها الخطاب. وأما من جهة المعنى فهو أن الله فرض الكفارة في أيمان المسلمين؛ لئلا تكون اليمين موجبة عليهم أو محرمة عليهم لا مخرج لهم كما كانوا عليه في أول الإسلام قبل أن تشرع الكفارة؛ لم يكن للحالف مخرج إلا الوفاء باليمين فلو كان من الأيمان ما لا كفارة فيه كانت هذه المفسدة موجودة. وأيضا فقد قال الله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس} نهاهم الله أن يجعلوا الحلف بالله مانعا لهم من فعل ما أمر به؛ لئلا يمتنعوا عن طاعته باليمين التي حلفوها فلو كان في الأيمان ما ينعقد ولا كفارة فيه لكان ذلك مانعا لهم من طاعة الله إذا حلفوا به. وأيضا فقد قال تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم}، " والإيلاء " هو الحلف والقسم والمراد بالإيلاء هنا أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته وهو إذا حلف بما عقده بالله كان موليا وإن حلف بما عقده لله كالحلف بالنذر والظهار والطلاق والعتاق كان موليا عند جماهير العلماء: كأبي حنيفة ومالك والشافعي في قوله الجديد وأحمد. ومن العلماء من لم يذكر في هذه المسألة نزاعا كابن المنذر وغيره وذكر عن ابن عباس أنه قال: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء والله سبحانه وتعالى قد جعل المولي بين خيرتين: إما أن يفيء وإما أن يطلق. والفيئة هي الوطء: خير بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان. فإن فاء فوطئها حصل مقصودها وقد أمسك بمعروف وقد قال تعالى: {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} ومغفرته ورحمته للمولي توجب رفع الإثم عنه وبقاء امرأته. ولا تسقط الكفارة كما في قوله: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} فبين أنه غفور رحيم بما فرضه من تحلة الأيمان حيث رحم عباده بما فرضه لهم من الكفارة وغفر لهم بذلك نقضهم لليمين التي عقدوها؛ فإن موجب العقد الوفاء لولا ما فرضه من التحلة التي جعلها تحل عقدة اليمين. وإن كان المولي لا يفيء؛ بل قد عزم على الطلاق؛ فإن الله سميع عليم. فحكم المولي في كتاب الله: أنه إما أن يفيء وإما أن يعزم الطلاق. فإن فاء فإن الله غفور رحيم لا يقع به طلاق وهذا متفق عليه في اليمين بالله تعالى. وسئل - رحمه الله تعالى -: عن الفرق بين الطلاق والحلف " وإيضاح الحكم في ذلك؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. الصيغ التي يتكلم بها الناس في الطلاق والعتاق والنذر والظهار والحرام " ثلاثة أنواع ". " النوع الأول " صيغة التنجيز مثل أن يقول: امرأتي طالق. أو: أنت طالق. أو: فلانة طالق. أو هي مطلقة. ونحو ذلك: فهذا يقع به الطلاق ولا تنفع فيه الكفارة بإجماع المسلمين. ومن قال: إن هذا فيه كفارة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وكذلك إذا قال: عبدي حر. أو علي صيام شهر. أو: عتق رقبة. أو: الحل علي حرام. أو: أنت علي كظهر أمي: فهذه كلها إيقاعات لهذه العقود بصيغ التنجيز والإطلاق. " والنوع الثاني " أن يحلف بذلك فيقول: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا. أو لا أفعل كذا. أو يحلف على غيره - كعبده وصديقه الذي يرى أنه يبر قسمه - ليفعلن كذا. أو لا يفعل كذا. أو يقول: الحل علي حرام لأفعلن كذا. أو لا أفعله. أو يقول: علي الحج لأفعلن كذا. أو لا أفعله ونحو ذلك: فهذه صيغ قسم وهو حالف بهذه الأمور؛ لا موقع لها. وللعلماء في هذه الأيمان ثلاثة أقوال.
__________________
|
#299
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ المائدة المجلد الثامن الحلقة( 299) من صــ 181 الى صـ 195 " أحدها " أنه إذا حنث لزمه ما حلف به. " والثاني " لا يلزمه شيء. و " الثالث " يلزمه كفارة يمين. ومن العلماء من فرق بين الحلف والطلاق والعتاق وغيرها. والقول الثالث أظهر الأقوال؛ لأن الله تعالى قال: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وقال: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة وعدي بن حاتم وأبي موسى أنه قال: {ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه} وجاء هذا المعنى في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي موسى وعبد الرحمن بن سمرة وهذا يعم جميع أيمان المسلمين فمن حلف بيمين من أيمان المسلمين وحنث أجزأته كفارة يمين. ومن حلف بإيمان الشرك: مثل أن يحلف بتربة أبيه؛ أو الكعبة أو نعمة السلطان أو حياة الشيخ أو غير ذلك من المخلوقات: فهذه اليمين غير منعقدة ولا كفارة فيها إذا حنث باتفاق أهل العلم. " والنوع الثالث " من الصيغ: أن يعلق الطلاق أو العتاق أو النذر بشرط؛ فيقول: إن كان كذا فعلي الطلاق. أو الحج. أو فعبيدي أحرار. ونحو ذلك: فهذا ينظر إلى مقصوده فإن كان مقصوده أن يحلف بذلك ليس غرضه وقوع هذه الأمور - كمن ليس غرضه وقوع الطلاق إذا وقع الشرط - فحكمه حكم الحالف؛ وهو من " باب اليمين ". وأما إن كان مقصوده وقوع هذه الأمور: كمن غرضه وقوع الطلاق عند وقوع الشرط: مثل أن يقول لامرأته: إن أبرأتيني من طلاقك أنت طالق. فتبرئه. أو يكون عرضه أنها إذا فعلت فاحشة أن يطلقها فيقول: إذا فعلت كذا فأنت طالق؛ بخلاف من كان غرضه أن يحلف عليها ليمنعها؛ ولو فعلته لم يكن له غرض في طلاقها فإنها تارة يكون طلاقها أكره إليه من الشرط فيكون حالفا. وتارة يكون الشرط المكروه أكره إليه من طلاقها؛ فيكون موقعا للطلاق إذا وجد ذلك الشرط فهذا يقع به الطلاق وكذلك إن قال: إن شفى الله مريضي فعلي صوم شهر فشفي فإنه يلزمه الصوم. فالأصل في هذا: أن ينظر إلى مراد المتكلم ومقصوده فإن كان غرضه أن تقع هذه الأمور وقعت منجزة أو معلقة إذا قصد وقوعها عند وقوع الشرط. وإن كان مقصوده أن يحلف بها؛ وهو يكره وقوعها إذا حنث وإن وقع الشرط فهذا حالف بها؛ لا موقع لها فيكون قوله من " باب اليمين "؛ لا من " باب التطليق والنذر " فالحالف هو الذي يلتزم ما يكره وقوعه عند المخالفة كقوله: إن فعلت كذا فأنا يهودي؛ أو نصراني ونسائي طوالق وعبيدي أحرار وعلي المشي إلى بيت الله. فهذا ونحوه يمين؛ بخلاف من يقصد وقوع الجزاء من ناذر ومطلق ومعلق فإن ذلك يقصد ويختار لزوم ما التزمه وكلاهما ملتزم؛ لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم وإن وجد الشرط الملزوم كما إذا قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني فإن هذا يكره الكفر ولو وقع الشرط: فهذا حالف. والموقع يقصد وقوع الجزاء اللازم عند وقوع الشرط الملزوم؛ سواء كان الشرط مرادا له أو مكروها أو غير مراد له. فهذا موقع ليس بحالف. وكلاهما ملتزم معلق؛ لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم. والفرق بين هذا وهذا ثابت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكابر التابعين وعليه دل الكتاب والسنة وهو مذهب جمهور العلماء. كالشافعي وأحمد وغيرها: في تعليق النذر. قالوا: إذا كان مقصوده النذر فقال: لئن شفى الله مريضي فعلي الحج. فهو ناذر إذا شفى الله مريضه لزمه الحج فهذا حالف تجزئه كفارة يمين ولا حج عليه. وكذلك قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ابن عمر وابن عباس وعائشة وأم سلمة. وزينب ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم وغير واحد من الصحابة في من قال إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر. قالوا: يكفر عن يمينه. ولا يلزمه العتق. هذا مع أن العتق طاعة وقربة؛ فالطلاق لا يلزمه بطريق الأولى كما قال ابن عباس رضي الله عنه الطلاق عن وطر والعتق ما ابتغي به وجه الله. ذكره البخاري في صحيحه. بين ابن عباس أن الطلاق إنما يقع بمن غرضه أن يوقعه؛ لا لمن يكره وقوعه كالحالف به والمكره عليه وعن عائشة أنها قالت: كل يمين وإن عظمت فكفارتها كفارة اليمين بالله. وهذا يتناول جميع الأيمان: من الحلف بالطلاق والعتاق والنذر. وغير ذلك. والقول بأن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق مذهب خلق كثير من السلف والخلف؛ لكن فيهم من لا يلزمه الكفارة: كداود وأصحابه ومنهم من يلزمه كفارة يمين: كطاووس وغيره من السلف والخلف. والأيمان التي يحلف بها الخلق ثلاثة أنواع. " أحدها " يمين محترمة منعقدة: كالحلف باسم الله تعالى: فهذه فيها الكفارة بالكتاب والسنة والإجماع. " الثاني " الحلف بالمخلوقات: كالحالف بالكعبة. فهذه لا كفارة فيها باتفاق المسلمين. " والثالث " أن يعقد اليمين لله فيقول: إن فعلت كذا فعلي الحج. أو مالي صدقة. أو فنسائي طوالق. أو فعبيدي أحرار؛ ونحو ذلك فهذه فيها الأقوال الثلاثة المتقدمة: إما لزوم المحلوف به وإما الكفارة وإما لا هذا ولا هذا. وليس في حكم الله ورسوله إلا يمينان: يمين من أيمان المسلمين ففيها الكفارة. أو يمين ليست من أيمان المسلمين: فهذه لا شيء فيها إذا حنث. فهذه الأيمان إن كانت من أيمان المسلمين ففيها كفارة؛ وإن لم تكن من أيمان المسلمين لم يلزم بها شيء. فأما إثبات يمين يلزم الحالف بها ما التزمه ولا تجزئه فيها كفارة: فهذا ليس في دين المسلمين؛ بل هو مخالف للكتاب والسنة. والله تعالى ذكر في سورة التحريم حكم أيمان المسلمين وذكر في السورة التي قبلها حكم طلاق المسلمين فقال في سورة التحريم: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم} وقال في سورة الطلاق: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا} {ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} فهو سبحانه بين في هذه السورة حكم الطلاق وبين في تلك حكم أيمان المسلمين. وعلى المسلمين أن يعرفوا حدود ما أنزل الله على رسوله فيعرفوا ما يدخل في الطلاق وما يدخل في أيمان المسلمين ويحكموا في هذا بما حكم الله ورسوله ولا يتعدوا حدود الله فيجعلوا حكم أيمان المسلمين وحكم طلاقهم حكم أيمانهم؛ فإن هذا مخالف لكتاب الله وسنة رسوله. وإن كان قد اشتبه بعض ذلك على كثير من علماء المسلمين فقد عرف ذلك غيرهم من علماء المسلمين والذين ميزوا بين هذا وهذا من الصحابة والتابعين هم أجل قدرا عند المسلمين ممن اشتبه عليه هذا وهذا وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فما تنازع فيه المسلمين وجب رده إلى الكتاب والسنة. والاعتبار - الذي هو أصح القياس وأجلاه - إنما يدل على قول من فرق بين هذا وهذا مع ما في ذلك من صلاح المسلمين في دينهم ودنياهم إذا فرقوا بين ما فرق الله ورسوله بينه فإن الذين لم يفرقوا بين هذا وهذا أوقعهم هذا الاشتباه: إما في آصار وأغلال وإما في مكر واحتيال: كالاحتيال في ألفاظ الأيمان والاحتيال بطلب إفساد النكاح والاحتيال بدور الطلاق والاحتيال بخلع اليمين والاحتيال بالتحليل. والله أغنى المسلمين بنبيهم الذي قال الله فيه: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} أي يخلصهم من الآصار والأغلال؛ ومن الدخول في منكرات أهل الحيل. والله تعالى أعلم. وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: إذا حلف الرجل يمينا من الأيمان، فالأيمان ثلاثة أقسام: " أحدها " ما ليس من أيمان المسلمين وهو الحلف بالمخلوقات. كالكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء؛ وتربتهم ونحو ذلك: فهذه يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء؛ بل هي منهي عنها باتفاق أهل العلم والنهي نهي تحريم في أصح قوليهم. ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت} وقال {إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم} وفي السنن عنه أنه قال: {من حلف بغير الله فقد أشرك}. " والثاني " اليمين بالله تعالى كقوله: والله لأفعلن. فهذه يمين منعقدة فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين. وأيمان المسلمين التي هي في معنى الحلف بالله مقصود الحالف بها تعظيم الخالق - لا الحلف بالمخلوقات - كالحلف بالنذر والحرام والطلاق والعتاق كقوله: إن فعلت كذا فعلي صيام شهر أو الحج إلى بيت الله. أو الحل علي حرام لا أفعل كذا. أو إن فعلت كذا فكل ما أملكه حرام. أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا. أو لا أفعله. أو إن فعلته فنسائي طوالق وعبيدي أحرار وكل ما أملكه صدقة. ونحو ذلك فهذه الأيمان للعلماء فيها ثلاثة أقوال. قيل إذا حنث لزمه ما علقه وحلف به. وقيل لا يلزمه شيء. وقيل: يلزمه كفارة يمين. ومنهم من قال: الحلف بالنذر يجزيه فيه الكفارة والحلف بالطلاق والعتاق يلزمه ما حلف به. وأظهر الأقوال وهو القول الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار: أنه يجزئه كفارة يمين في جميع أيمان المسلمين كما قال الله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} وقال تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه} فإذا قال: الحل علي حرام لا أفعل كذا. أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا. أو إن فعلت كذا فعلي الحج. أو مالي صدقة: أجزأه في ذلك كفارة يمين فإن كفر كفارة الظهار فهو أحسن. وكفارة اليمين يخير فيها بين العتق أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم وإذا أطعمهم أطعم كل واحد جراية من الجرايات المعروفة في بلده: مثل أن يطعم ثمان أواق أو تسع أواق بالشامي ويطعم مع ذلك إدامها؛ كما جرت عادة أهل الشام في إعطاء الجرايات خبزا وإداما. وإذا كفر يمينه لم يقع به الطلاق. وأما إذا قصد إيقاع الطلاق على الوجه الشرعي: مثل أن ينجز الطلاق فيطلقها واحدة في طهر لم يصبها فيه: فهذا يقع به الطلاق باتفاق العلماء وكذلك إذا علق الطلاق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها: مثل أن يكون مريدا للطلاق إذا فعلت أمرا من الأمور. فيقول لها: إن فعلته فأنت طالق. قصده أن يطلقها إذا فعلته: فهذا مطلق يقع به الطلاق عند السلف وجماهير الخلف؛ بخلاف من قصده أن ينهاها ويزجرها باليمين؛ ولو فعلت ذلك الذي يكرهه لم يجز أن يطلقها؛ بل هو مريد لها وإن فعلته؛ لكنه قصد اليمين لمنعها عن الفعل؛ لا مريدا أن يقع الطلاق وإن فعلته: فهذا حلف لا يقع به الطلاق في أظهر قولي العلماء من السلف والخلف؛ بل يجزئه كفارة يمين كما تقدم. (ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: لكن الشارع قرن بين الخمر والميسر في التحريم؛ فقال تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون}؟ فوصف الأربعة بأنها رجس من عمل الشيطان؛ وأمر باجتنابها ثم خص الخمر والميسر بأنه يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة. ويهدد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} كما علق الفلاح بالاجتناب في قوله: {فاجتنبوه لعلكم تفلحون} ولهذا يقال: إن هذه الآية دلت على تحريم الخمر والميسر من عدة أوجه. ومعلوم أن " الخمر " لما أمر باجتنابها حرم مقاربتها بوجه فلا يجوز اقتناؤها ولا شرب قليلها بل كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإراقتها وشق ظروفها وكسر دنانها ونهى عن تخليلها وإن كانت ليتامى. مع أنها اشتريت لهم قبل التحريم؛ ولهذا كان الصواب الذي هو المنصوص عن أحمد وابن المبارك وغيرهما: أنه ليس في الخمر شيء محترم؛ لا خمرة الخلال ولا غيرها وأنه من اتخذ خلا فعليه أن يفسده قبل أن يتخمر: بأن يصب في العصير خلا وغير ذلك مما يمنع تخميره؛ بل كان النبي صلى الله عليه وسلم {نهى عن الخليطين} لئلا يقوى أحدهما على صاحبه فيفضي إلى أن يشرب الخمر المسكر من لا يدري. ونهى عن الانتباذ في الأوعية التي يدب السكر فيها ولا يدري ما به كالدباء والحنتم والظرف المزفت والمنقور من الخشب. وأمر بالانتباذ في السقاء الموكى لأن السكر ينظر: إذا كان في الشراب انشق الظرف؛ وإن كان في نسخ ذلك أو بعضه نزاع ليس هذا موضع ذكره. فالمقصود سد الذرائع المفضية إلى ذلك بوجه من الوجوه. وقال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: " الميسر " اشتمل على " مفسدتين ": مفسدة في المال. وهي أكله بالباطل. ومفسدة في العمل وهي ما فيه من مفسدة المال وفساد القلب والعقل وفساد ذات البين. وكل من المفسدتين مستقلة بالنهي فينهى عن أكل المال بالباطل مطلقا ولو كان بغير ميسر كالربا وينهى عما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء ولو كان بغير أكل مال. فإذا اجتمعا عظم التحريم: فيكون الميسر المشتمل عليهما أعظم من الربا. ولهذا حرم ذلك قبل تحريم الربا ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر حرمها ولو كان الشارب يتداوى بها كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح. وحرم بيعها لأهل الكتاب وغيرهم وإن كان أكل ثمنها لا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ولا يوقع العداوة والبغضاء؛ لأن الله تعالى إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه كل ذلك مبالغة في الاجتناب. فهكذا الميسر منهي عن هذا وعن هذا. والمعين على الميسر كالمعين على الخمر؛ فإن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان. وكما أن الخمر تحرم الإعانة عليها ببيع أو عصر أو سقي أو غير ذلك: فكذلك الإعانة على الميسر: كبائع آلاته والمؤجر لها والمذبذب الذي يعين أحدهما: بل مجرد الحضور عند أهل الميسر كالحضور عند أهل شرب الخمر. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم. {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر} وقد رفع إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قوم يشربون الخمر فأمر بضربهم فقيل له: إن فيهم صائما. فقال ابدءوا به ثم قال: أما سمعت قوله تعالى {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم} فاستدل عمر بالآية؛ لأن الله تعالى جعل حاضر المنكر مثل فاعله؛ بل إذا كان من دعا إلى دعوة العرس لا تجاب دعوته إذا اشتملت على منكر حتى يدعه مع أن إجابة الدعوة حق: فكيف بشهود المنكر من غير حق يقتضي ذلك. (ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون (105) قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: فصل: قوله - تعالى علوا كبيرا: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} لا يقتضي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا نهيا ولا إذنا كما في الحديث المشهور في السنن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه}. وكذلك في حديث أبي ثعلبة الخشني مرفوعا في تأويلها {إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك} وهذا يفسره حديث أبي سعيد في مسلم: {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} فإذا قوي أهل الفجور حتى لا يبقى لهم إصغاء إلى البر؛ بل يؤذون الناهي لغلبة الشح والهوى والعجب سقط التغيير باللسان في هذه الحال وبقي بالقلب و " الشح " هو شدة الحرص التي توجب البخل والظلم وهو منع الخير وكراهته و " الهوى المتبع " في إرادة الشر ومحبته و " الإعجاب بالرأي " في العقل والعلم فذكر فساد القوى الثلاث التي هي العلم والحب والبغض. كما في الحديث الآخر: {ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وبإزائها الثلاث المنجيات: خشية الله في السر والعلانية والقصد في الفقر والغنى وكلمة الحق في الغضب والرضا} وهي التي سألها في الحديث الآخر: {اللهم إني أسألك خشيتك في السر والعلانية وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنى}. فخشية الله بإزاء اتباع الهوى فإن الخشية تمنع ذلك كما قال: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} والقصد في الفقر والغنى بإزاء الشح المطاع وكلمة الحق في الغضب والرضا بإزاء إعجاب المرء بنفسه وما ذكره الصديق ظاهر؛ فإن الله قال: {عليكم أنفسكم} أي الزموها وأقبلوا عليها ومن مصالح النفس فعل ما أمرت به من الأمر والنهي. وقال: {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإنما يتم الاهتداء إذا أطيع الله وأدي الواجب من الأمر والنهي وغيرهما؛ ولكن في الآية فوائد عظيمة:" أحدها " ألا يخاف المؤمن من الكفار والمنافقين فإنهم لن يضروه إذا كان مهتديا. " الثاني " ألا يحزن عليهم ولا يجزع عليهم فإن معاصيهم لا تضره إذا اهتدى والحزن على ما لا يضر عبث وهذان المعنيان مذكوران في قوله: {واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون}. " الثالث " ألا يركن إليهم ولا يمد عينه إلى ما أوتوه من السلطان والمال والشهوات كقوله: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم} فنهاه عن الحزن عليهم والرغبة فيما عندهم في آية ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم في آية فإن الإنسان قد يتألم عليهم ومنهم إما راغبا وإما راهبا. " الرابع " ألا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم أو نهيهم أو هجرهم أو عقوبتهم؛ بل يقال لمن اعتدى عليهم عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت كما قال: {ولا يجرمنكم شنآن قوم} الآية. وقال: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} وقال: {فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} فإن كثيرا من الآمرين الناهين قد يتعدى حدود الله إما بجهل وإما بظلم وهذا باب يجب التثبت فيه وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين.
__________________
|
#300
|
||||
|
||||
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ المائدة المجلد الثامن الحلقة( 300) من صــ 196 الى صـ 210 " الخامس " أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع من العلم والرفق والصبر وحسن القصد وسلوك السبيل القصد فإن ذلك داخل في قوله: {عليكم أنفسكم} وفي قوله: {إذا اهتديتم}. فهذه خمسة أوجه تستفاد من الآية لمن هو مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفيها المعنى الآخر. وهو إقبال المرء على مصلحة نفسه علما وعملا وإعراضه عما لا يعنيه كما قال صاحب الشريعة: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} ولا سيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه لا سيما إن كان التكلم لحسد أو رئاسة. وكذلك العمل فصاحبه إما معتد ظالم وإما سفيه عابث وما أكثر ما يصور الشيطان ذلك بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ويكون من باب الظلم والعدوان. فتأمل الآية في هذه الأمور من أنفع الأشياء للمرء وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل كما بغت الجهمية على المستنة في محنة الصفات والقرآن؛ محنة أحمد وغيره وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة وكما بغت الناصبة على علي وأهل بيته وكما قد تبغي المشبهة على المنزهة وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به وهو الإسراف المذكور في قولهم: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا}. وبإزاء هذا العدوان تقصير آخرين فيما أمروا به من الحق أو فيما أمروا به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الأمور كلها فما أحسن ما قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين - لا يبالي بأيهما ظفر - غلو أو تقصير. فالمعين على الإثم والعدوان بإزائه تارك الإعانة على البر والتقوى وفاعل المأمور به وزيادة منهي عنها بإزائه تارك المنهي عنه وبعض المأمور به والله يهدينا الصراط المستقيم ولا حول ولا قوة إلا بالله. (تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين (106) قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: فصل: الذي يدل عليه القرآن في سورة المائدة في آية الشهادة في قوله {فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا} أي بقولنا ولو كان ذا قربى حذف ضمير كان لظهوره أي ولو كان المشهود له كما في قوله: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} وكما في قوله: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} إلى قوله: {إن يكن غنيا أو فقيرا} أي المشهود عليه ونحو ذلك؛ لأن العادة أن الشهادة المزورة يعتاض عليها وإلا فليس أحد يشهد شهادة مزورة بلا عوض - ولو مدح - أو اتخاذ يد. وآفة الشهادة: إما اللي وإما الإعراض: الكذب والكتمان فيحلفان لا نشتري بقولنا ثمنا: أي لا نكذب ولا نكتم شهادة الله أو لا نشتري بعهد الله ثمنا؛ لأنهما كانا مؤتمنين فعليهما عهد بتسليم المال إلى مستحقه؛ فإن الوصية عهد من العهود. وقوله بعد ذلك {فإن عثر على أنهما استحقا إثما} أعم من أن يكون في الشهادة أو الأمانة. وسبب نزول الآية يقتضي أنه كان في الأمانة فإنهما استشهدا وائتمنا لكن ائتمانهما ليس خارجا عن القياس؛ بل حكمه ظاهر فلم يحتج فيه إلى تنزيل بخلاف استشهادهما والمعثور على استحقاق الإثم ظهور بعض الوصية عند من اشتراها منهما بعد أن وجد ذكرها في الوصية وسئلا عنها فأنكراها. وقوله: {من الذين استحق عليهم} يحتمل أن يكون مضمنا معنى بغى عليهم وعدى (عليهم كما يقال في الغصب: غصبت علي مالي. ولهذا قيل: {لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا} أي كما اعتدوا. ثم قوله: {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} وحديث ابن عباس في البخاري صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بمعنى ما في القرآن فرد اليمين على المدعيين بعد أن استحلف المدعى عليهم لما عثر على أنهما استحقا إثما وهو إخبار المشترين أنهم اشتروا " الجام " منهما بعد قولهما ما رأيناه فحلف النبي صلى الله عليه وسلم اثنين من المدعين الأوليان وأخذ " الجام " من المشتري وسلم إلى المدعي وبطل البيع وهذا لا يكون مع إقرارهما بأنهما باعا الجام؛ فإنه لم يكن يحتاج إلى يمين المدعيين لو اعترفا بأنه جام الموصي وأنهما غصباه وباعاه بل بقوا على إنكار قبضه مع بيعه أو ادعوا مع ذلك أنه أوصى لهما به وهذا بعيد. فظاهر الآية أن المدعى عليه المتهم بخيانة ونحوها - كما اتهم هؤلاء - إذا ظهر كذبه وخيانته كان ذلك لوثا يوجب رجحان جانب المدعي؛ فيحلف ويأخذ كما قلنا في الدماء سواء والحكمة فيهما واحدة وذلك أنه لما كانت العادة أن القتل لا يفعل علانية بل سرا فيتعذر إقامة البينة ولا يمكن أن يؤخذ بقول المدعي مطلقا أخذ بقول من يترجح جانبه فمع عدم اللوث جانب المنكر راجح أما إذا كان قتل ولوث قوي جانب المدعي فيحلف. وكذلك الخيانة والسرقة يتعذر إقامة البينة عليهما في العادة ومن يستحل أن يسرق فقد لا يتورع عن الكذب فإذا لم يكن لوث فالأصل براءة الذمة أما إذا ظهر لوث بأن يوجد بعض المسروق عنده فيحلف المدعي ويأخذ وكذلك لو حلف المدعى عليه ابتداء ثم ظهر بعض المسروق عند من اشتراه أو اتهبه أو أخذه منه فإن هذا اللوث في تغليب الظن أقوى؛ لكن في الدم قد يتيقن القتل ويشك في عين القاتل فالدعوى إنما هي بالتعيين. وأما في الأموال: فتارة يتيقن ذهاب المال وقدره مثل أن يكون معلوما في مكان معروف، وتارة يتيقن ذهاب مال لا قدره بأن يعلم أنه كان هناك مال وذهب. وتارة يتيقن هتك الحرز ولا يدري أذهب بشيء أم لا؟ هذا في دعوى السرقة وأما في دعوى الخيانة فلا تعلم الخيانة فإذا ظهر بعض المال المتهم به عند المدعى عليه أو من قبضه منه ظهر اللوث بترجيح جانب المدعي فإن تحليف المدعى عليه حينئذ بعيد. وقول النبي صلى الله عليه وسلم {لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم. ولكن اليمين على المدعى عليه} جمع فيه الدماء والأموال فكما أن الدماء إذا كان مع المدعي لوث حلف فكذلك الأموال كما حلفناه مع شاهده فكل ما يغلب على الظن صدقه فهو بمنزلة شاهده كما جعلنا في الدماء الشهادة المزورة لنقص نصابها أو صفاتها لوثا وكذلك في الأموال جعل الشاهد مع اليمين فالشاهد المزور مع لوث وهو. . . (1) لكن ينبغي أن تعتبر في هذا حال المدعي والمدعى عليه في الصدق والكذب فإن باب السرقة والخيانة لا يفعله إلا فاسق فإن كان من أهل ذلك لم يكن. . . (2) إذا لم يكن إلا عدلا. وكذلك المدعي قد يكذب فاعتبار العدالة والفسق في هذا يدل عليه قول الأنصاري: كيف نرضى بأيمان قوم كفار؟ فعلم أن المتهم إذا كان فاجرا فللمدعي أن لا يرضى بيمينه لأنه من يستحل أن يسرق يستحل أن يحلف. (إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (110) [فصل: بيان معنى تأييد المسيح بروح القدس] قالوا: وقال أيضا: {ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس} [المائدة: 110]. فيقال: هذا مما لا ريب فيه، ولا حجة لكم فيه، بل هو حجة عليكم، فإن الله أيد المسيح عليه السلام بروح القدس كما ذكر ذلك في هذه الآية وقال تعالى: في البقرة: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} [البقرة: 87]. وقال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} [البقرة: 253]. وهذا ليس مختصا بالمسيح، بل قد أيد غيره بذلك، وقد ذكروا هم أنه قال لداود: روحك القدس لا تنزع مني، وقد «قال نبينا صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: اللهم أيده بروح القدس»، وفي لفظ: «روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه» وكلا اللفظين في الصحيح. وعند النصارى أن الحواريين حلت فيهم روح القدس، وكذلك عندهم روح القدس حلت في جميع الأنبياء. وقد قال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} [النحل: 99] {إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} [النحل: 100] {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون} [النحل: 101] {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين} [النحل: 102]. وقد قال تعالى في موضع آخر: {نزل به الروح الأمين - على قلبك} [الشعراء: 193 - 194]. وقال: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة: 97]. فقد تبين أن روح القدس هنا جبريل، وقال تعالى:{لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22]. وقال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52]. وقال تعالى: {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} [النحل: 2]. وقال: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق} [غافر: 15]. فهذه الروح التي أوحاها والتي تنزل بها الملائكة على من يشاء من عباده - غير الروح الأمين التي تنزل بالكتاب، وكلاهما يسمى روحا، وهما متلازمان؛ فالروح التي ينزل بها الملك مع الروح الأمين التي ينزل بها روح القدس يراد بها هذا وهذا. وبكلا القولين فسر المفسرون قوله في المسيح وأيدناه بروح القدس، ولم يقل أحد إن المراد بذلك حياة الله، ولا اللفظ يدل على ذلك ولا استعمل فيه. وهم إما أن يسلموا أن روح القدس في حق غيره ليس المراد بها حياة الله، فإذا ثبت أن لها معنى غير الحياة، فلو استعمل في حياة الله أيضا لم يتعين أن يراد بها ذلك في حق المسيح، فكيف ولم يستعمل في حياة الله في حق المسيح. وإما أن يدعوا أن المراد بها حياة الله في حق الأنبياء والحواريين، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يكون اللاهوت حالا في جميع الأنبياء والحواريين، وحينئذ فلا فرق بين هؤلاء وبين المسيح. ويلزمهم أيضا أن يكون في المسيح لاهوتان: لاهوت الكلمة، ولاهوت الروح، فيكون قد اتحد به أقنومان. ثم في قوله تعالى: {وأيدناه بروح القدس} [البقرة: 87]، يمتنع أن يراد بها حياة الله، فإن حياة الله صفة قائمة بذاته لا تقوم بغيره، ولا تختص ببعض الموجودات غيره، وأما عندهم فالمسيح، هو الله الخالق، فكيف يؤيد بغيره، وأيضا فالمتحد بالمسيح هو الكلمة دون الحياة، فلا يصح تأييده بها. فتبين أنهم يريدون أن يحرفوا القرآن كما حرفوا غيره من الكتب المتقدمة، وأن كلامهم في تفسير المتشابه من الكتب الإلهية - من جنس واحد. [فصل: نقض دعواهم بورود تسمية المسيح خالقا في القرآن] قالوا: وقد سماه الله أيضا في هذا الكتاب خالقا حيث قال: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني} [المائدة: 110] فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة بالناسوت المأخوذ من مريم لأنه كذا قال على لسان داود النبي: " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض، ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه. وهذا مما يوافق رأينا واعتقادنا في السيد المسيح لذكره، لأنه حيث قال: {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله} [آل عمران: 49] أي بإذن لاهوت الكلمة المتحدة في الناسوت. والجواب: أن جميع ما يحتجون به من هذه الآيات وغيرها، فهو حجة عليهم لا لهم، وهكذا شأن جميع أهل الضلال إذا احتجوا بشيء من كتب الله وكلام أنبيائه كان في نفس ما احتجوا به ما يدل على فساد قولهم، وذلك لعظمة كتب الله المنزلة وما أنطق به أنبياءه، فإنه جعل ذلك هدى وبيانا للخلق وشفاء لما في الصدور، فلا بد أن يكون في كلام الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين من الهدى والبيان ما يفرق الله به بين الحق والباطل والصدق والكذب، لكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم لا من قبل أنبياء الله - تعالى. إما من كونهم لم يتدبروا القول الذي قالته الأنبياء حق التدبر حتى يفقهوه ويفهموه، وإما من جهة أخذهم ببعض الحق دون بعض، مثل أن يؤمنوا ببعض ما أنزله الله دون بعض، فيضلون من جهة ما لم يؤمنوا به، كما قال تعالى عن النصارى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} [المائدة: 14] وإما من جهة نسبتهم إلى الأنبياء ما لم يقولوه من أقوال كذبت عليهم ومن جهة ترجمة أقوالهم بغير ما تستحقه من الترجمة، وتفسيرها بغير ما تستحقه من التفسير الذي دل عليه كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فإنه يجب أن يفسر كلام المتكلم بعضه ببعض، ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا، وتعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به، وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه، كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده. وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ بجعل كلامه متناقضا، وترك حمله على ما يناسب سائر كلامه، كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه، وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه. فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم، فإذا عرف هذا، فنقول: الجواب عما ذكروه هنا من وجوه: أحدها: أن الله لم يذكر عن المسيح خلقا مطلقا، ولا خلقا عاما، كما ذكر عن نفسه تبارك وتعالى فأول ما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {اقرأ باسم ربك الذي خلق - خلق الإنسان من علق - اقرأ وربك الأكرم - الذي علم بالقلم - علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1 - 5] وقال تعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم - هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون - هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى} [الحشر: 22 - 24] . فذكر نفسه بأنه الخالق البارئ المصور، ولم يصف قط شيئا من المخلوقات بهذا لا ملكا ولا نبيا، وكذلك قال تعالى: {الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل - له مقاليد السماوات والأرض} [الزمر: 62 - 63] . وقال تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون - بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 100 - 101] . ووصف نفسه بأنه رب العالمين، وبأنه مالك يوم الدين، وأنه له الملك وله الحمد، وأنه الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، ونحو ذلك من خصائص الربوبية، ولم يصف شيئا من مخلوقاته لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا بشيء من الخصائص التي يختص بها، التي وصف بها نفسه سبحانه وتعالى وأما المسيح عليه السلام فقال فيه: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني} [المائدة: 110] وقال المسيح عن نفسه: {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله} [آل عمران: 49] فلم يذكر إلا خلق شيء معين خاص بإذن الله، فكيف يكون هذا الخالق هو ذاك؟ الوجه الثاني: أنه خلق من الطين كهيئة الطير، والمراد به تصويره بصورة الطير، وهذا الخلق يقدر عليه عامة الناس، فإنه يمكن أحدهم أن يصور من الطين كهيئة الطير، وغير الطير من الحيوانات، ولكن هذا التصوير محرم، بخلاف تصوير المسيح، فإن الله أذن له فيه. __________ Q (1، 2) بياض بالأصل
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |