|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
التفسير الموضوعي للقرآن الكريم: الإنسان في القرآن
التفسير الموضوعي للقرآن الكريم: الإنسان في القرآن د. سمير الخال المقدمة: إن اهتمام القرآن الكريم بقضية الإنسان ليس من باب الفضول المعرفي، ولا الترف العلمي، ولا التُّخَمة الفكرية، ولا نافلة القول؛ وإنما لبعدها الجوهري في النسق الفكري البشري، وتجلياته المنهجية الخطيرة في سلوك الأفراد والجماعات. على أن كافة المقاربات الإصلاحية والعلاجية للمشاكل البشرية تظل عاجزةً عن استيعاب مشاكل الإنسان نفسه؛ لقصور الإنسان ذاته وعجزه عن مقاربة مشاكله من جهة، فضلًا عن اقتراح عدة علاجية مثلى، بالنظر إلى نسبية ومحدودية التدخل البشري من جهة، بالإضافة إلى أن الذي ينظر لقضايا الإنسان وهمومه ومشاكله وطموحاته ورغباته هو الإنسان ذاته. وهذا مربط الفرس، بالنظر إلى أن حكم الإنسان على نفسه وتصرفاته قد بات بعيدًا عن الموضوعية العلمية؛ لأنه هو المتهم والقاضي من جهة، وهو كذلك الدفاع والجَلَّاد من جهة ثانية في الوقت نفسه. وبحثًا عن الموضوعية والحقيقة، فإننا محتاجون إلى زاوية نظر عُلْيا لمقاربة قضايا الإنسان وهمومه ومشاكله، تكون خارجة عن الإنسان ذاته. وهي مقاربة لا يمكن الحصول عليها إلا بالاستعانة بزاوية رؤية فوقية، بالنظر إلى قدرتها على إعطائنا صورة حقيقية عن الإنسان بعيدة عن الذاتية، معانقة للموضوعية إلى أبعد مداها، تلك هي رؤية القرآن للإنسان، وإن شئنا استعضنا عن ذلك بقضية "الإنسان في القرآن". وفي السياق ذاته، فإن حديث القرآن الكريم عن "الإنسان" حديث طويل ومستفيض؛ ولذلك فقد شكَّل هذا الحديث إحدى أهم القضايا الكبرى التي شغلت من الآيات القرآنية حيزًا كبيرًا. ولا غرابة في ذلك؛ فإن الإنسان قد نَصَّبه الله تعالى خليفةً في الأرض، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30] الآية. ومع ذلك، فإن الإنسان هو المسؤول عن تحَمُّل الأمانة الكبرى بعدما خفَّف الله تعالى من شدتها، ورفضتها أعظم مخلوقات الله تعالى، وهي: السماوات والأرض والجبال، فقد قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]. وهو فوق ذلك، المسؤول عن إعمار الأرض بالخير والصلاح، والمكلَّف بتطهيرها من الشر والفساد، قال تعالى: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61] الآية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن اهتمام القرآن بالإنسان راجع إلى أنه هو الداعي والمدعو؛ فهو الرسول والنبي والمؤمن والهادي والداعي والعابد والطائع، وهو أيضًا الكافر والملحد والمشرك والضالُّ والمنافق والعاصي والفاسق، كما أن الإنسان هو الحاكم والمحكوم، وهو الغني والفقير، وهو الظالم والمظلوم، وهو الرجل والمرأة، وهو الكبير والصغير، والوارث والموروث. إضافة إلى أن الإنسان هو المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، والعالم والجاهل، والشاكر والجاحد، والمتكبِّر والمتواضع، وغيرها من الثنائيات التقابلية التي طرفها الأول محبة الخير والصلاح والسعي إليهما، في حين يتمركز طرفها الثاني في محبة الشر والفساد وبذل الجهد لنشرهما. والإنسان كذلك هو المكلف بالتكاليف الشرعية، وهو المفكر، وهو المتفلسف، وهو صاحب الأسئلة الوجودية، والأخرى العدمية، ومثلها العبثية. بالإضافة إلى أن الإنسان هو كذلك باني المدن ومُدمِّرها، وهو الذي يشق الطرق ويدشن المنشآت العظيمة؛ كالمدارس والجامعات والمساجد والمعابد، ويستصلح الأراضي الزراعية، ويشيد السدود، وغير ذلك. وهو كذلك المفسد في الأرض، ومُخرِّب العمران، وهو الظلوم الجهول، وهو الأنانيُّ المتعجرف، وهو الشهواني المجرم، وهو مبدع الحروب، وقاتل الآلاف والملايين الذين ليس لهم ذنب سوى مخالفتهم طموحه المجنون، أو رفضهم الخضوع لجبروته، وهو فوق ذلك جاعل النساء بحمقه أراملَ، والأطفال بجنونه يَتامَى. تبعًا لذلك، جاءت إشكالية هذه الورقة البحثية متجلية أبعادها في التساؤل التالي: إلى أي حد شكلت نظرة القرآن الكريم إلى الإنسان إطارًا توجيهيًّا للفعل البشري يقوده إلى إسعاده في دينه ودنياه؟ وتتفرع عن هذه الإشكالية الأسئلةُ الفرعيةُ التاليةُ: • ما هي ملامح نظرة القرآن إلى الإنسان أسماءً وألقابًا؟ • كيف حدد القرآن الكريم مراحل خلق آدم أولِ إنسان؟ • إذا كانت قضية وجود الإنسان على هذا الكوكب ومراحل خلق آدم أبي البشر، بالإضافة إلى إشكالية موت الإنسان ومصيره بعد فنائه، من أهم القضايا الوجودية التي شغلت البشرية خلال مراحلها الطويلة، فكيف ناقشهما القرآن الكريم؟ • وإذا كان القرآن الكريم يصرح بأن وجود الإنسان على الأرض إنما هو واقع لغاية عظمى في علاقته بعبادة الله والاستخلاف في الأرض، فكيف عالج القرآن الكريم أعداء البشرية الذين يصدونه عن تحقيقه لهذه الغاية العظمى؟ • تقرر العقيدة الإسلامية أن القرآن الكريم كتاب هداية للخلق إلى طريق الحق. فهل كان خطابُ القرآن للإنسان ذا بُعْد انتقائي تجزيئي، أم أنه ذو خاصية عامة وشاملة لكل المخاطبين، ممن تصح مخاطبتهم ويعقل تكليفهم من الجنس البشري؟ • تقرر مسلمات العقيدة الإسلامية أيضًا أن القرآن الكريم أُنزِل إلى البشر لقصد هدايتهم إلى صلاح دينهم ودنياهم. فما هي -إذن- أهم النظرات التوجيهية القرآنية إلى الإنسان خدمةً لهذا المقصد نفسه؟ 1- أسماء الإنسان وألقابه في القرآن الكريم: تعددت أسامي الإنسان وألقابه في القرآن الكريم، ومن أشهرها: 11- الإنسان: وهو مشتق من النسيان على مذهب الكوفيين. وأما البصريون، فيرون بأنه مشتق من الأُنْس[1]؛لأن هذا الجنس البشري يأنس بعضهم ببعض، ويوجد فيه من الأنس وعدم الاستيحاش ما لا يوجد في غيره من سائر الحيوان. وقد ورد لفظ الإنسان في القرآن الكريم نحو أربعًا وستين مرة، منها: • قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]. • قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ [الكهف: 54]. 2.1-الناس: وقد اختلف النحاة في لفظ الناس، فقيل: هو اسم من أسماء الجموع، جمع إنسان وإنسانة، على غير اللفظ. وقيل: أصله من نسي، قال ابن عباس: (نسي آدم عهد الله فسُمِّي إنسانًا). وقال عليه السلام: (نسي آدم فنسيت ذريته). وفي التنزيل: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115]. وقيل: سُمِّي إنسانًا لأُنْسه بحواء. وقيل: لأُنْسه بربِّه. وقيل: الناس من النوس وهو الحركة، يقال: ناس ينوس؛ أي: تحَرَّك[2]. وهذه المعاني كلها مجتمعة في كلمة الناس، فهم كثيرو النسيان، شديدو الحركة، محتاجون إلى الأنس بعضهم ببعض، وأعظم الأنس ما كان حاصلًا بالله سبحانه. وقد وردت كلمة "الناس" في القرآن الكريم نَحْوًا من مائة وتسعة وسبعين مرة. من بينها: • قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8]. • ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]. 3.1- بنو آدم: وهم الجنس البشري المنحدر من ذرية آدم. وقد ورد ذكر "بني آدم" في القرآن نحو ثماني مرات، ومنها: • قال تعالى: ﴿ يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]. • قال تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يس: 60]. 4.1- البشر:وهو الإنسان ذَكَرًا أو أنثى، واحدًا أو جمعًا. وهو مشتق من البَشَرة، وهي ظاهر الجلد من كل حيوان، التي بها يباشر الأجسام، خلافًا للملائكة والجن للطفها؛ ولذلك فإن الإنسان جسم كثيف، لأنه يلاقي غيره من الأجسام والمواد[3]. ومن المواطن التي ورد فيها لفظ البشر في القرآن الكريم: • قوله تعالى حكاية عن مريم: ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 47]. • وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79]. 2. القرآن ومراحل خَلْق آدم أولِ إنسان: تناولت الآيات القرآنية مسألة خلق آدم؛ فتارةً يخبر الله سبحانه بأن خَلْق أبي البشر كان من تراب، وتارةً من طين، وتارةً يصف هذا الطين بكونه لازبًا، وتارةً من حمإ مسنون، وتارةً من صلصال، وتارةً يشبه الصلصال بالفخار، ثم يذكر مرحلة تسوية آدم، ونفخ الروح فيه؛ لذلك سنتناول هذه المراحل حسب تدرُّجها في الخَلْق، بشكل مختصر حتى لا تخرج هذه الورقة عن حدِّ الاعتدال: • فأما خلق آدم من تراب، فلأنه مادة خلق أبي البشر، قال تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]. ومما يستنبط من تعليل خلق آدم من تراب علل متنوعة، من أبرزها: أن يكون آدم متواضِعًا، ستارًا، أشد التصاقًا بالأرض، وبوظيفته الاستخلافية فيها، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30] الآية. بالإضافة إلى إرادته سبحانه إظهار قدرته، فإذا كانت الشياطين قد خلقت من النار، وقد ابتلاهم بظلمات الضلالة، فإنه سبحانه خلق آدم عليه السلام من التراب الذي هو أكثف الأجرام، ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية. كما أن خلق الإنسان من تراب، حتى يكون مطفئًا لنار الشهوة، والغضب، والحرص، فإن هذه النيران لا تطفأ إلا بالتراب[4]، والله أعلم. • وأما الطين، فهو التراب بعد إضافة الماء إليه، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴾ [المؤمنون: 12]. ومما ورد في تعليل مادة خلق آدم، بإضافة الماء الذي صفته الصفاء والنقاء إلى التراب حتى صار طينًا، حتى يكون الجنس البشري صافيًا تتجلَّى فيه صور الأشياء[5]؛ ولذلك فإن الفطرة البشرية إذا صادفت منبعًا صافيًا من منابع الوحي الرباني، فإنها تظهر من الإخلاص وصفاء السريرة ما لا يعلمه إلا الله، واسألْ عن أحوال الأنبياء والرسل، وعن صحابتهم وحوارييهم، وعن علمائهم وزُهَّادهم، وعن خواصِّهم وعوامِّهم، ممن نُقِل عنهم من العلم النافع والعمل الصالح، والأحوال والمقامات والتضحية في سبيل الله ما تعجز عن وصفه الألسنة. وتصديق ذلك، قوله عليه الصلاة والسلام: (كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ) الحديث[6]. • وأما الطين اللازب، فهو الطين المُبلَّل اللاصق بعضه ببعضه أو باليد[7]، قال تعالى: ﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ﴾ [الصافات: 11]. • ثم الحمإ المسنون، وهو الطين الأسود المُتغيِّر، فقد قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 26]، وفي هذا الصدد، يقول الطبري: (وأما قوله: ﴿ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ فإن الحمأ: جمع حَمْأة، وهو الطين المتَغيِّر إلى السواد. وقوله ﴿ مَسْنُونٍ ﴾ يعني: المتغير[8]؛ ولذلك قال ابن عباس: (هو التراب المبتل المنتن)، ومثله قول مجاهد وقتادة: (المنتن المتغير، من قولهم: قد أسن الماء إذا تغير))[9]. • ثم صار آدم صلصالًا، وهو الطين اليابس إذا جفَّ من غير طبخه، بحيث يحدث صلصلة؛ وهو الصوت كصوت الحديد، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 26]، فقد قال الزمخشري: (الصلصال: الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ، وإذا طبخ فهو فخار)[10]. • ثم صار كالفخار، وهو الطين إذا طبخ بالنار، قال تعالى: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ [الرحمن: 14]، وذلك أن الله تعالى خلق آدم أبا البشر من الصلصال (وهو: الطين اليابس الذي يُسمَع له صلصلة)، شبيه بالفخار الذي طبخ[11]. على أن الفخار -الذي هو الطين المطبوخ بالنار- وهو الخزف، مستعمل على أصل الاشتقاق، وهو مبالغة الفاخر؛ كالعَلَّام في العالِم، وذلك أن التراب الذي من شأنه التفَتُّت إذا صار بحيث يجعل ظرف الماء والمائعات ولا يتفَتَّت ولا ينقع فكأنه يفخر على أفراد جنسه[12]. • مرحلة التسوية، قال تعالى: ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 29]. وهذه المرحلة تقتضي تسوية خلق آدم وتشكيله في صورته الإنسانية وخلقته البشرية، ليعقبها محطة نفخ الروح فيه، ليصير إنسانًا كاملًا بعقله، وطبائعه، وأفكاره، ومشاعره، ورغباته، وشهواته.... وإذا كانت قضية مراحل خلق آدم السابقة لا تثير إشكالًا، خاصة بربطها بعلم الله وقدرته وإرادته ومشيئته، فإن مسألة النفخ فيه من روح الله باتت إشكالية معرفية بالنظر إلى بُعْدها الكلامي والعَقَدي؛ لذلك يمكن أن نستدعي من هذه الإشكالية أعدل الأقوال التي تدور في فلكها، بالنظر إلى أن النفخ إجراء الريح في الشيء، كما أن الروح ههنا خلق من مخلوقات الله، عبارة عن جسم لطيف، أجرى الله العادة بأن يربط التصاقه بالجسم من حيث حياته ووفاته وجودًا وعدمًا[13]. ومما يستفاد من الآية السابقة أن خلق آدم إنما كان من طبيعتين مختلفتين: الأولى ترابية تجره دائمًا إلى الأرض شهواتٍ ونزواتٍ وطباعًا، وأخرى روحانية تجذبه نحو المثل والكمال والجلال. وقبل أن نختم عرض التناول القرآني لمراحل خلق آدم أولِ إنسان، يحسن أن نطرح الملاحظات التالية: • لقد بيَّن القرطبي ما سبق من مراحل خلق الإنسان السابقة، من حيث تدرجها في الخلق، مبينًا أن آدم (كان أولًا ترابًا؛ أي: مُتفرِّق الأجزاء، ثم بُلَّ فصار طينًا، ثم ترك حتى أنتن فصار حَمَأً مسنونًا؛ أي: مُتغيِّرًا، ثم يبس فصار صلصالًا، على قول الجمهور)[14]. ثم جاءت مرحلة تسوية آدم في صورته النهائية، ونفخ الروح فيه، والله أعلم. • تبعًا لذلك، ولما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على وفد نصارى نجران قولهم: إن عيسى ابن الله، محتجين بأنه لا يُعرَف إنسان وُلِد بلا أب، أنزل الله تعالى قوله: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، لبيان أن غرابة خلق عيسى أقل ظهورًا من غرابة خلق آدم خارقًا للمألوف والعادة بلا أب ولا أم، ورغم ذلك لم يدعِ أحد أن آدم ابن لله سبحانه[15]. • نسبت الآيات السابقة خلق الإنسان من تراب، وصلصال، وفخار، وحمأ، وغير ذلك. ومن الأمثلة التوضيحية قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾ [الحج: 5] الآية. لكن آيات أخرى نسبت خلق الإنسان إلى الماء، كما في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾ [المرسلات: 20]، وقد تولَّى علماء الإسلام إزالة هذا الإشكال، بالتمثيل بنموذج وحيد -خشية الإطالة- وهو قول الرازي: (فإن قيل: الإنسان إذا خلق من صلصال كيف ورد في القرآن أنه خلق من التراب، وورد أنه خلق من الطين، ومن حمإ، ومن ماء مهين، إلى غير ذلك. نقول: أما قوله: ﴿ مِنْ تُرَابٍ ﴾ [الحج: 5] تارة، و ﴿ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾ [المرسلات: 20] أخرى، فذلك باعتبار شخصين آدم خلق من الصلصال ومن حمإ، وأولاده خلقوا من ماء مهين، ولولا خلق آدم لما خلق أولاده، ويجوز أن يقال: زيد خلق من حمإ، بمعنى أن أصله الذي هو جده خلق منه، وأما قوله: ﴿ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ﴾ [الصافات: 11] و ﴿ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 26] وغير ذلك، فهو إشارة إلى أن آدم عليه السلام خلق أولًا من التراب، ثم صار طينًا ثم حمأ مسنونًا ثم لازبًا، فكأنه خلق من هذا ومن ذاك، ومن ذلك)[16]. 3. وفاة الإنسان ومصيره بعد موته: من الأسئلة الوجودية التي ارتبطت بتاريخ الإنسانية: لماذا أموت؟ وما مصيري بعد موتي؟ بمعنى: أهناك حياة بعد موتي أم لا؟ وإن كانت الإجابة عن السؤال الأخير بالإيجاب، فما طبيعة حياتي بعد موتي، وما هي خصائصها وسماتها؟ ونظرًا لأن القرآن الكريم كتاب إنساني، من حيث انشغاله بقضايا الإنسان وهمومه ومشاكله، فقد خصص حيزًا كبيرًا للحديث عن قضية موت الآدمي من جهة، ومصيره بعد موته من جهة ثانية. 1.3- قضية موت الإنسان في القرآن: لقد ناقش القرآن الكريم هذه القضية من خلال إثبات الله سبحانه بأن مسألة موت الآدمي لا تخرج عن قضاء الله وقدره، قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ﴾ [آل عمران: 145] الآية. فقد دلَّ هنا النص القرآني على أن الإنسان لا يموت إلا بإذن الله (وهو ههنا: قضاؤه وقَدَره، وعلمه الأزلي، وأمره القدري)، وأن الحذر لا يدفع القدر، وأن أحدًا لن يموت قبل أجله الذي أجل له، وأن شهود المناسبات التي تشكل أسبابًا للقتل والموت غالبًا (كالجهاد في سبيل الله)، أو الابتعاد عن تلك الأسباب (كالقعود عن الجهاد مع القاعدين)، لا يقدم موت الإنسان ولا يؤخِّره[17]. وقد تكاثرت الآيات القرآنية التي تقرر هذا الأصل وتأكد على اطِّراده، مؤكدة على أنه سنة من سنن الله ماضية في خلقه، قال تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [يونس: 49]. ونظرًا لأن قضية موت الإنسان باتت حقيقة ضرورية، من حيث إنها تدفع البشر إلى الإذعان والخضوع لها، رغم شدة مرارة من ذاقها أو ذاق مرارتها، فقد هوَّنت الآيات القرآنية على بني البشر من خلال ربط هذه القضية بالركن السادس من أركان الإيمان، ألا وهو الإيمان بالقضاء والقدر، بالنظر إلى اعتبار العقيدة الإسلامية هذا الركن من الإيمان سِرُّ الله في خلقه، وأنه مقتضى علمه وحكمته وعدله وكمال صفاته، قال تعالى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34]. وقريب من ذلك قوله: ﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ﴾ [العنكبوت: 5] الآية. وكذلك قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]. 2.3- قضية مصير الإنسان بعد موته وفناء جسده: لقد حسم القرآن الكريم في مسألة مصير الإنسان بعد الموت، بالنظر إلى إثبات الآيات القرآنية حقيقة انتظار بني البشر لبعث الأموات بعد الممات، قال تعالى: ﴿ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 25]، فقد دلت الآية على شدة التصاق الإنسان بالأرض، بالنظر إلى كونها ظرفًا لحياته ومعاشه، وقبرًا له بعد وفاته، ومنطلقًا لبعثه وإحيائه يوم القيامة. وهي حقيقة تكاثرت النصوص القرآنية تأكيدًا عليها؛ كقوله تعالى: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ [الزلزلة: 1 - 5]. فقد بسطت الآيات ما ينتظر الإنسان من أهوال يوم القيامة، ابتداءً بحركة الأرض واضطرابها الشديد والمتكرر، مؤذنة ببعث الأموات وإحيائهم وإخراجهم من قبورهم للقاء الله ومحاسبته لهم، إذعانًا وخضوعًا لأمر الله ووحيه القدري. وقد أخبر الله تعالى أن لهذا البعث غاية، وهي لقاء الله ومجازاته للبشر، في أقصى مظاهر العدالة الإلهية، بعد أن تخرج الأرض أثقالها من موتى بني آدم، ليقفوا ويروا أعمالهم مكتوبة في صحائفهم، وما يقتضي ذلك من اطِّلاعهم على الجزاء الذي ينتظرهم، إما جنةً وإما نارًا، وإما أشتاتًا متفرقين على قدر أعمالهم، فأهل الإيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة، وكل فريق ومِلَّة ونِحْلة مع شكله، قال تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 6 - 8]. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |