فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 31 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الصدقات تقيك حر النار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          ٩ أدوات لإدارة الوقت ..! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          شرح دعاء العطاس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4677 - عددالزوار : 1449586 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4229 - عددالزوار : 952011 )           »          رَفَوْنِي وقالُوا لا تُرَعْ يا ابْنَ صامِتٍ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 329 - عددالزوار : 116310 )           »          حقوق الطفل في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 79 )           »          الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 83 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #301  
قديم 07-10-2024, 05:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 301)

من صــ 211 الى صـ 225



والمعجزة أنه ينفخ فيه الروح فيصير طيرا بإذن الله عز وجل ليس المعجزة مجرد خلقه من الطين، فإن هذا مشترك، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المصورين، وقال: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون»
. الوجه الثالث: أن الله أخبر المسيح أنه إنما فعل التصوير والنفخ بإذنه تعالى وأخبر المسيح عليه السلام أنه فعله بإذن الله، وأخبر الله أن هذا من نعمه التي أنعم بها على المسيح عليه السلام كما قال تعالى: إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل
. وقال تعالى:

{ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات} [المائدة: 110].
وهذا كله صريح في أنه ليس هو الله، وإنما هو عبد الله فعل ذلك بإذن الله، كما فعل مثل ذلك غيره من الأنبياء، وصريح بأن الآذن غير المأذون له، والمعلم ليس هو المعلم، والمنعم عليه وعلى والدته ليس هو إياه، كما ليس هو والدته.

الوجه الرابع: أنهم قالوا: أشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت، ثم قالوا في قوله: بإذن الله أي بإذن الكلمة المتحدة في الناسوت، وهذا يبين تناقضهم وافتراءهم على القرآن، لأن الله أخبر في القرآن أن المسيح خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله، ففرق بين المسيح وبين الله، وبين أن الله هو الآذن للمسيح، وهؤلاء زعموا أن مراده بذلك أن اللاهوت المتحد بناسوت المسيح هو الخالق وهو الآذن فجعلوا الخالق هو الآذن، وهو تفسير للقرآن بما يخالف صريح القرآن.
الوجه الخامس: أن اللاهوت إذا كان هو الخالق لم يحتج إلى أن يأذن لنفسه، فإنهم يقولون: هو إله واحد، وهو الخالق فكيف يحتاج أن يأذن لنفسه وينعم على نفسه؟
الوجه السادس: أن الخالق إما أن يكون هو الذات الموصوفة بالكلام أو الكلام الذي هو صفة للذات، فإن كان هو الكلام، فالكلام صفة لا تكون ذاتا قائمة بنفسها خالقة، ولو لم تتحد بالناسوت، واتحادها بالناسوت دون الموصوف ممتنع لو كان الاتحاد ممكنا، فكيف وهو ممتنع؟
فقد تبين امتناع كون الكلمة تكون خالقة من وجوه.

وإن كان الخالق هو الذات المتصفة بالكلام، فذاك هو الله الخالق لكل شيء رب العالمين، وعندهم هو الأب، والمسيح عندهم ليس هو الأب، فلا يكون هو الخالق لكل شيء، والقرآن يبين أن الله هو الذي أذن للمسيح حتى خلق من الطين كهيئة الطير، فتبين أن الذي خلق من الطين كهيئة الطير ليس هو الله ولا صفة من صفاته، فليس المسيح هو الله ولا ابن قديم أزلي لله ولكن عبده فعل بإذنه.

الوجه السابع: قولهم: فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذ من مريم، لأنه كذا قال على لسان داود النبي: " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض ". يقال لهم: هذا النص عن داود حجة عليكم، كما أن التوراة والقرآن وسائر ما ثبت عن الأنبياء حجة عليكم، فإن داود عليه السلام قال: " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض " ولم يقل: إن كلمة الله هي الخالقة، كما قلتم أنتم أنه أشار بالخالق إلى كلمة الله.
والفرق بين الخالق للسماوات والأرض وبين الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض، أمر ظاهر معروف، كالفرق بين القادر والقدرة، فإن القادر هو الخالق وقد خلق الأشياء بقدرته، وليست القدرة هي الخالقة، وكذلك الفرق بين المريد والإرادة، فإن الله خلق الأشياء بمشيئته، وليست مشيئته هي الخالقة.
وكذلك الدعاء والعبادة هو للإله الخالق لا لشيء من صفاته، فالناس كلهم يقولون: يا الله يا ربنا يا خالقنا، ارحمنا واغفر لنا، ولا يقول أحد: يا كلام الله اغفر لنا وارحمنا، ولا يا قدرة الله ويا مشيئة الله ويا علم الله اغفر لنا وارحمنا، والله تعالى يخلق بقدرته ومشيئته وكلامه، وليست صفاته هي الخالقة.
الوجه الثامن: أن قول داود عليه السلام: " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض " يوافق ما جاء في القرآن والتوراة وغير ذلك من كتب الأنبياء: أن الله يقول للشيء: كن فيكون، وهذا في القرآن في غير موضع، وفي التوراة قال الله: " ليكن كذا ليكن كذا "

الوجه التاسع: قولهم: لأنه ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه، إن أرادوا بكلمته كلامه، وبروحه حياته، فهذه من صفات الله كعلمه وقدرته، فلم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة الله بأنها روح الله، فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة الله فقد كذب عليه. ثم يقال: هذا كلامه وحياته من صفات الله كعلمه وقدرته، وحينئذ فالخالق هو الله وحده، وصفاته داخلة في مسمى اسمه لا يحتاج أن تجعل معطوفة على اسمه بواو التشريك التي تؤذن أن لله شريكا في خلقه، فإن الله لا شريك له.

ولهذا لما قال الله تعالى: " الله خالق كل شيء " دخل كل ما سواه في مخلوقاته، ولم تدخل صفاته كعلمه وقدرته ومشيئته وكلامه، لأن هذه داخلة في مسمى اسمه ليست أشياء مباينة له، بل أسماؤه الحسنى متناولة لذاته المقدسة المتصفة بهذه الصفات لا يجوز أن يراد بأسمائه ذاتا مجردة عن صفات الكمال، فإن تلك لا حقيقة لها، ويمتنع وجود ذات مجردة عن صفة فضلا عن وجود ذاته تعالى مجردة عن صفات كماله التي هي لازمة لذاته، فيمتنع تحقق ذاته دونها، ولهذا لا يقال: الله وعلمه خلق، والله وقدرته خلق.
وإن أرادوا بكلمته وروحه المسيح أو شيئا اتحد بناسوت المسيح، فالمسيح عليه السلام كله مخلوق كسائر الرسل، والله وحده هو الخالق، وإن شئت قلت: إن أريد بالروح والكلمة ما هو صفة الله، فتلك داخلة في مسمى اسمه، وإن أريد ما ليس بصفة فذلك مخلوق له كالناسوت.
الوجه العاشر: أن داود عليه السلام لا يجوز أن يريد بكلمة الله المسيح ; لأن المسيح عند جميع الناس هو اسم للناسوت،وهو عندهم اسم للاهوت والناسوت لما اتحدا، والاتحاد فعل حادث عندهم، فقبل الاتحاد لم يكن هناك ناسوت ولا ما يسمى مسيحا، فعلم أن داود لم يرد بكلمة الله المسيح، ولكن غايتهم أن يقولوا: أراد الكلمة التي اتحدت فيما بعد بالمسيح، لكن الذي خلق بإذن الله هو المسيح كما نطق به القرآن بقوله:
{يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} [آل عمران: 45]
فالكلمة التي ذكرها وأنها هي التي خلقت السماوات والأرض ليست هي المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله، فاحتجاجهم بهذا على هذا احتجاج باطل، بل تلك الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض لم يكن معها ناسوت حين خلقت باتفاق الأمم، والمسيح لا بد أن يدخل فيه الناسوت، فعلم أنه لم يرد بالكلمة المسيح.

(إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين (112) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين (113) قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين (114) قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين (115)
[فصل: رد دعواهم أنه لا يليق بهم أن يتركوا كلمة الله عندهم التي عظمها القرآن]

قالوا: ثم مدح قرابيننا وتوعدنا إن أهملنا ما معنا وكفرنا بما أنزل إلينا أن يعذبنا عذابا أليما لم يعذبه أحدا من العالمين بقوله ذلك في سورة المائدة:
{إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} [المائدة: 112] (112) {قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} [المائدة: 113] (113) {قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين} [المائدة: 114] (114) {قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين} [المائدة: 115].
فالمائدة هي القربان المقدس الذي يتقرب به في كل قداس.
والجواب أن يقال:
هذا كذب ظاهر على القرآن في هذا الموضع، كما كذبتم عليه في غير هذا الموضع، فإنه ليس في الآيات ذكر قرابينكم البتة، وإنما فيه ذكر المائدة التي أنزلها الله - تعالى - في عهد المسيح - عليه السلام -، وقولهم: المائدة هي القربان الذي يتقرب به في كل قداس، هو أولا: قول لا دليل عليه، وثانيا: هو قول معلوم الفساد بالاضطرار من دين المسلمين الذين نقلوا هذا القرآن عن محمد صلى الله عليه وسلم لفظه ومعناه، فإنهم متفقون على أن المائدة مائدة أنزلها الله من السماء على عهد المسيح - عليه السلام -، وقصتها مشهورة في عامة الكتب تعرفها العامة والخاصة، ولم يقل أحد إنها قرابين النصارى، وليس في لفظ الآية ما يدل على ذلك، بل يدل على خلاف ذلك، فإن الآية تبين أن المائدة منزلة من السماء وقرابينهم هي عندهم في الأرض لم تنزل من السماء.
وفي الآية أن عيسى قال:
{اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين} [المائدة: 114] (114) {قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين} [المائدة: 115].
وفي أول الكلام:
{إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} [المائدة: 112] (112) {قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} [المائدة: 113].
فأين هذا من قرابينهم الموجودة اليوم؟
سورة الأنعام
(الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1)
وهو سبحانه يفتتح خطابه بالحمد ويختم الأمور بالحمد وأول ما خلق آدم كان أول شيء أنطقه به الحمد فإنه عطس فأنطقه بقوله الحمد لله فقال له: يرحمك ربك يا آدم وكان أول ما تكلم به الحمد وأول ما سمعه الرحمة. وهو يختم الأمور بالحمد كقوله: {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} وهو سبحانه {له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون}.
(هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (2)
سئل - رضي الله عنه -:

عن قوله تعالى {ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده} وقوله تعالى {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} وقوله تعالى {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} هل المحو والإثبات في اللوح المحفوظ والكتاب الذي جاء في الصحيح {أن الله تعالى كتب كتابا فهو عنده على عرشه} الحديث. وقد جاء: {جف القلم} فما معنى ذلك في المحو والإثبات؟. وهل شرع في الدعاء أن يقول: " اللهم إن كنت كتبتني كذا فامحني واكتبني كذا فإنك قلت: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت} وهل صح أن عمر كان يدعو بمثل هذا؟ وهل الصحيح عندكم أن العمر يزيد بصلة الرحم كما جاء في الحديث؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب - رضي الله عنه -:
الحمد لله رب العالمين،أما قوله سبحانه: {ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده} فالأجل الأول هو أجل كل عبد؛ الذي ينقضي به عمره والأجل المسمى عنده هو: أجل القيامة العامة. ولهذا قال: {مسمى عنده} فإن وقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل كما قال: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو}. بخلاف ما إذا قال: (مسمى كقوله: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى} إذ لم يقيد بأنه مسمى عنده فقد يعرفه العباد. وأما أجل الموت فهذا تعرفه الملائكة الذين يكتبون رزق العبد وأجله وعمله وشقي أو سعيد.
كما قال في الصحيحين عن ابن مسعود قال: {حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق -: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح} فهذا الأجل الذي هو أجل الموت قد يعلمه الله لمن شاء من عباده. وأما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا هو.
وأما قوله: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره} فقد قيل إن المراد الجنس أي ما يعمر من عمر إنسان ولا ينقص من عمر إنسان ثم التعمير والتقصير يراد به شيئان: " أحدهما " أن هذا يطول عمره وهذا يقصر عمره فيكون تقصيره نقصا له بالنسبة إلى غيره كما أن المعمر يطول عمره وهذا يقصر عمره فيكون تقصيره نقصا له بالنسبة إلى غيره كما أن التعمير زيادة بالنسبة إلى آخر. وقد يراد بالنقص النقص من العمر المكتوب كما يراد بالزيادة الزيادة في العمر المكتوب.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه} وقد قال بعض الناس: إن المراد به البركة في العمر بأن يعمل في الزمن القصير ما لا يعمله غيره إلا في الكثير قالوا: لأن الرزق والأجل مقدران مكتوبان.
فيقال لهؤلاء تلك البركة. وهي الزيادة في العمل والنفع. هي أيضا مقدرة مكتوبة وتتناول لجميع الأشياء. والجواب المحقق: أن الله يكتب للعبد أجلا في صحف الملائكة فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب. وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب. ونظير هذا ما في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم {أن آدم لما طلب من الله أن يريه صورة الأنبياء من ذريته فأراه إياهم فرأى فيهم رجلا له بصيص فقال من هذا يا رب؟ فقال ابنك داود.

قال: فكم عمره؟ قال أربعون سنة. قال: وكم عمري؟ قال: ألف سنة. قال فقد وهبت له من عمري ستين سنة. فكتب عليه كتاب وشهدت عليه الملائكة فلما حضرته الوفاة قال قد بقي من عمري ستون سنة. قالوا: وهبتها لابنك داود. فأنكر ذلك فأخرجوا الكتاب. قال النبي صلى الله عليه وسلم فنسي آدم فنسيت ذريته وجحد آدم فجحدت ذريته} وروي أنه كمل لآدم عمره ولداود عمره. فهذا داود كان عمره المكتوب أربعين سنة ثم جعله ستين وهذا معنى ما روي عن عمر أنه قال: اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #302  
قديم 07-10-2024, 05:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 302)

من صــ 226 الى صـ 240


والله سبحانه عالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون؛ فهو يعلم ما كتبه له وما يزيده إياه بعد ذلك والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم الله والله يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها؛فلهذا قال العلماء: إن المحو والإثبات في صحف الملائكة وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالما به فلا محو فيه ولا إثبات. وأما اللوح المحفوظ فهل فيه محو وإثبات على قولين. والله سبحانه وتعالى أعلم؟.
(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33)
[فصل: الدلائل القاطعة عند أهل مكة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم]
وقد ذكرنا أن قومه المعادين له غاية العداوة ما زالوا معترفين بصدقه صلى الله عليه وسلم، وأنهم لم يجربوا عليه كذبا، بل ومعترفين بأن ما يقوله ليس بشعر ولا كهانة، وأنه ليس بساحر، وكانوا في أول أمره يرسلون إلى البلاد التي فيها علماء أهل الكتاب يسألونهم عنه؛ لأن مكة لم يكن بها ذلك.

ففي الصحيحين عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب حدثه، قال: " انطلقت إلى الشام في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبينما أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، قال: وكان دحية الكلبي جاء به، فدفعه إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل، فقال هرقل:: هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم، قال: فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه، فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، قال أبو سفيان: فقلت أنا. فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي. فدعا بترجمانه، فقال: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه.
قال: فقال: وايم الله! لولا مخافة أن يؤثر علي كذب لكذبت عليه. ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان في آبائه من ملك، قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا "، وذكر باقي الحديث:
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، حديث سعد بن معاذ، لما قال لأمية: إنهم قاتلوك (يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه)، وفزع منه لذلك، وقال لامرأته ذلك، فقالت: والله ما يكذب محمد، وقال هو - في رواية أخرى -: والله ما يكذب محمد، وعزم أن لا يخرج خوفا من هذا، وقال: والله لا أخرج من مكة. وأراد التخلف عن بدر، حتى قال له أبو جهل: إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد هذا الوادي تخلفوا معك. فقال: أما إذ غلبتني فلأشترين أجود بعير بمكة، وذكرته امرأته بقول سعد، فقال: ما أريد أن
أكون معهم إلا قريبا.
وكذلك ما ذكره أهل المغازي وغيرهم "أن أبي بن خلف لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا أقتله، ثم طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخدشه، وجعل أصحابه يجزعونه ويقولون: إنما هو خدش وليس بشيء، فقال: والله لو كان بمضر لقتلهم، أليس قال: " لأقتلنك". وعن مجاهد: قال مولاي السائب بن أبي السائب: كنت فيمن بنى البيت، وأن قريشا اختلفوا في الحجر حين أرادوا أن يضعوه، حتى كادوا يقع بينهم قتال بالسيوف، فقال: اجعلوا بينكم أول رجل يدخل من الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين.
فقالوا: يا محمد، قد رضينا بك.

وعن عقيل بن أبي طالب قال: " "جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا له: إن ابن أخيك يأتينا في كعبتنا ونادينا ويسمعنا ما يؤذينا، فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل. قال: فقال لي: يا عقيل التمس ابن عمك. قال: فأخرجته من كبس من أكباس شعب أبي طالب، فأقبل يمشي حتى انتهى إلى أبي طالب، فقال له: يا ابن أخي، والله ما علمت إن كنت لي مطيعا، وقد جاءني قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وناديهم فتسمعهم ما يؤذيهم، فإن رأيت أن تكف عنهم؟ قال: فحلق ببصره إلى السماء، فقال: والله ما أنا بأقدر على أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من النار فقال أبو طالب: إنه - والله - ما كذب قط فارجعوا راشدين".

رواه البخاري في تاريخه، وأبو زرعة في الدلائل، ورواه ابن إسحاق قريبا من هذا اللفظ، وقال: " فأخرجته من حفش - وهو بيت صغير - وقال فيه: فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لعمه، وأنه خاذله ومسلمه، وضعف عن القيام معه، فقال: "يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه".
وفي الصحيحين عن عبد الله بن الصامت قال: " قال أبو ذر:خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فنزلنا على خال لنا فأكرمنا، وأحسن إلينا فحسدنا قومه، فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس. فجاء خالنا فثنا علينا الذي قيل له، فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لك فيما بعد. فقربنا صرمتنا، فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا بثوبه يبكي، وانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة.

فنافر أنيس رجلا عن صرمتنا وعن مثلها فأتينا الكاهن فخير أنيسا فأتى بصرمتنا ومثلها معها. قال: وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، قلت: لمن؟ قال: لله، قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي، أصلي عشاء، حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء، حتى تعلوني الشمس، فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني. فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي، ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء، قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعراء فما يلتئم على لسان أحد يقري بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون. قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر، قال: فأتيت مكة فضعفت رجلا منهم، فقلت: أين هذا الذي

تدعونه الصابئ؟ فأشار إلي فقال: الصابئ، فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي. . . "، وذكر الحديث وصفة إسلامه رضي الله عنه بلفظ مسلم.
وفي حديث البخاري عن ابن عباس: " أن أبا ذر أرسل أخاه، وقال: اعلم لي علم هذا الرجل، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله، ثم ائتني، فانطلق الآخر حتى قدم مكة، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر.
فقال: ما شفيتني فيما أردت، فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد. . . " وذكر تمام الحديث.
وعن جابر بن عبد الله " قال الملأ وأبو جهل: لقد غلبنا أمر
محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر، فأتاه فكلمه، وأتانا ببيان من أمره.
قال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر، وعلمت من ذلك علما، فما يخفى علي إن كان كذلك. فأتاه، فلما خرج إليه قال: أنت - يا محمد - خير أم هاشم؟ وأنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فيم تشتم آلهتنا، وتضلل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا لك الرياسة، فكنت رأسنا ما بقيت، وإن كان بك الباه زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت، وإن كان بك المال، جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم، فلما
فرغ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(بسم الله الرحمن الرحيم {حم - تنزيل من الرحمن الرحيم - كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} [فصلت: 1 - 3].
إلى قوله:
{فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} [فصلت: 13].
فأمسك عتبة على فيه، وناشد بالرحم أن يكف، ورجع إلى أهله، فلم يخرج إلى قريش، فاحتبس عنهم عتبة، فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فأتاه أبو جهل فقال: يا عتبة، ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد، وأعجبك أمره، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم أن لا يكلم محمدا اأبدا، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة، فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر:
{حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} [فصلت: 1].

إلى قوله:
{فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} [فصلت: 13].
فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب ". رواه أبو بكر أحمد بن مردويه، في كتاب التفسير عن محمد بن فضيل عن الأجلح عن الذيال بن حرملة عنه،ورواه يحيى بن معين عن محمد بن فضيل، ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده، ورواه عبد بن حميد عن شيخ أبي يعلى ابن أبي شيبة.
وفي بعض الطرق: " إن كنت تزعم أن هؤلاء خيرا منك فقد عبدوا الآلهة، وإن كنت تزعم أنك خيرا منهم فتكلم حتى نسمع "، ورواه ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن زياد مولى لبني هاشم عن
محمد بن كعب، قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا حليما. . وذكر الحديث إلى أن قال: " لما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد، قال: ورائي أني - والله - قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصيبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، فقالوا: سحرك - والله - يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم،. ثم ذكر شعر أبي طالب يمدح عتبة فيما قال.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: "قدم ضماد مكة وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل، لعل الله أن يشفيه على يدي، قال: فلقيت محمدا، فقلت: إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهلم، فقال محمد: " إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد " قال: فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء. فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت بمثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر.
فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " وعلى قومك "، فقال: وعلى قومي". الحديث.

وعن ابن عباس: "أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي، فقرأ عليه من القرآن:
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 90].
قال: أعد، فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله.
لمغدق، وما يقول هذا البشر ".

وفي لفظ: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: ولم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعوض مما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وأنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم
ما تحته. قال: لا ترضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فيه. فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره. فنزلت:
{ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر: 11] ".
رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة عنه.
وفي رواية أخرى: " أن الوليد بن المغيرة اجتمع، ونفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضا، ويرد بعضكم قول بعض، فقالوا:
فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيا نقوم به. فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع، فقالوا: نقول كاهن، فقال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكهان. فقالوا: نقول مجنون، فقال: ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر، فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريظه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر، قال: فما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده. فقالوا: ما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله حلاوة، وإن أصله لغدق، وإن فرعه لجنى، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن تقولوا: ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وبين أخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه، فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا له أمره ; فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة، وذلك من
قوله:
{ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر: 11].
إلى قوله:
{سأصليه سقر} [المدثر: 26].
وأنزل في النفر الذين كانوا معه:
{الذين جعلوا القرآن عضين} [الحجر: 91].
أي أصنافا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #303  
قديم 07-10-2024, 07:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 303)

من صــ 241 الى صـ 255



وروى ابن إسحاق، عن شيخ من أهل مصر، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: قام النضر بن الحارث فقال: " يا معشر قريش، والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا - والله - ما هو بسحر، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن، لا - والله - ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا - والله - ما هو بشاعر، لقد روينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها؛ هزجه ورجزه وقريظه، وقلتم: مجنون، ولا - والله - ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون فما هو بخنقه، ولا تخليطه، يا معشر قريش انظروا في
شأنكم فإنه - والله - لقد نزل بكم أمر عظيم ". وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العداوة.
قال: وحدثني الزهري قال: " حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان، والأخنس بن شريق، خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا، وطلع الفجر تفرقوا، فجمعتهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في - نفسه شيئا، ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة، ثم انصرفوا، فلما كانت الليلة الثالثة، فعلوا كذلك، ثم جمعتهم الطريق فتعاهدوا أن لا يعودوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال:

يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، فقال الأخنس: وأنا، والذي حلفت به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، ثم إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به ولا نصدقه أبدا ".
وكذلك روي عن المغيرة بن شعبة، أن أبا جهل قال له مثل ذلك، وقال: إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بني قصي قالوا: فينا الندوة.

فقلنا: نعم، فينا الحجابة، فقلنا: نعم، فينا السقاية، فقلنا: نعم. وذكر نحوه.
وقد كانوا يرسلون إلى أهل الكتاب ليسألوهم عن أمره صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن إسحاق حدثني شيخ من أهل مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: " بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: اسألوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله
وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبار يهود: " سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح، ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فإنه نبي فاتبعوه، وإن هو لم يخبركم فهو رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة، حتى قدما مكة على قريش، فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، خبرنا فسألوه عما أمروهم به. فقال: لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبركم، وجاءه جبريل من الله بسورة الكهف، فيها خبر ما سألوه عنه، من أمر الفتية، والرجل الطواف، وقول الله:
{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85].
قال ابن إسحاق: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح السورة فقال:
{الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} [الكهف: 1].
يعني محمدا، إنك رسولي في تحقيق ما سألوه عنه من نبوته.
{ولم يجعل له عوجا قيما} [الكهف: 1].

أي أنزله قيما؛ أي معتدلا لا اختلاف فيه، وذكر تفسير السورة إلى قوله:
{أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا} [الكهف: 9].
أي وما قدروا من قدري، وفيما صنعت من أمر الخلائق، وما وضعت على العباد من حجتي، ما هو أعظم من ذلك.
قال مجاهد: " ليس بأعجب من آياتنا من هو أعجب من ذلك ".
وفي تفسير العوفي عن ابن عباس: " الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب، أفضل من شأن أصحاب الكهف ".
قلت: والأمر على ما ذكره السلف، فإن قصة أصحاب الكهف هي من آيات الله، فإن مكثهم نياما لا يموتون ثلاثمائة سنة، آية دالة على قدرة الله ومشيئته، وأنه يخلق ما يشاء، ليس كما يقوله أهل الإلحاد. وهي آية على معاد الأبدان كما قال تعالى:
{وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها} [الكهف: 21].
وكان الناس قد تنازعوا في زمانهم: هل تعاد الأرواح دون الأبدان.
وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقصتهم من غير أن يعلمه بشر آية على نبوته، فكانت قصتهم آية على أصول الإيمان الثلاثة ; الإيمان بالله، واليوم الآخر، والإيمان برسوله. ومع هذا فليسوا من آيات الله بعجب، بل من آيات الله ما هو أعجب من ذلك.
وقد ذكر الله تعالى سؤالهم عن الآيات التي كانوا يسألونه عنها ليعلموا: هل هو نبي صادق أم كاذب؟ فقال تعالى:
{ويسألونك عن ذي القرنين} [الكهف: 83].
وقال:
{لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين} [يوسف: 7].
إلى قوله:{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} [يوسف: 102].
إلى قوله:
{وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 105].
إلى قوله:

{أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} [يوسف: 109].
وقال تعالى لما ذكر قصة أهل الكهف التي سألوه عنها:
{ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا} [الكهف: 83].
أي يسألونك عن ذاك، ويسألونك عن هذا.

والقرآن مملوء من إخباره عن الغيب الماضي، الذي لا يعلمه أحد من البشر، إلا من جهة الأنبياء الذين أخبرهم الله بذلك، ليس هو الشيء الذي تزعمه ملاحدة المتفلسفة، فإن هذه الأمور الغيبية المعينة المفصلة لا يؤخذ خبرها قط إلا عن نبي، كموسى، ومحمد، وليس أحد ممن يدعي المكاشفات؛ لا من أولياء الله، ولا من غير أولياء الله يخبر بشيء من ذلك ; ولهذا كان هذا من أعلام الأنبياء وخصائصهم التي لا يشركهم فيها غيرهم.
وأهل الملل متفقون على ما دل عليه العقل الصريح من أن هذا
لا يعلم إلا بخبر نبي. فإذا كان محمد قد أخبر من ذلك بما أخبر به موسى وغيره من الأنبياء، وأخبر بما يعلمونه مما لا يعلمه أحد إلا بالتعلم منهم، وقد عرف أن محمدا لم يتعلم هذا من بشر، كان هذا آية وبرهانا قاطعا على نبوته،. ثم العلم بأن محمدا لم يتعلم هذا من بشر يحصل في حياته، أما قومه المباشرون له، الخبيرون بحاله، فكانوا يعلمون أنه لم يتعلم هذا من بشر، فقامت عليهم الحجة بذلك، وأما من لم يعرف حاله إلا بالسماع فيعلم ذلك بطرق:منها: تواتر أخباره، وكيف كان؟ من حين ولد إلى أن مات كما هي مستفيضة مشهورة متواترة، يعلمها من كان له خبرة بذلك، أعظم مما يعلم به حال موسى وعيسى، فإن محمدا ظهر أمره، وانتشرت أخباره، وتواترت أحواله، أعظم من جميع بني آدم. فما بقي ما دون هذا من أحواله يخفى على الناس فكيف مثل هذا؟!
ومنها: أنه أخبر في القرآن بما لا يوجد عند أهل الكتاب، مثل:
قصة هود وصالح وشعيب، وبعض التفاصيل في قصة إبراهيم وموسى وعيسى؛ مثل تكليم المسيح في المهد، ومثل نزول المائدة، فإن هذا لا يعرفه أهل الكتاب، ومثل إيمان امرأة فرعون، وغير ذلك. فيمتنع أن يقال: إن هذا تعلمه من أهل الكتاب، وقومه لم يكونوا يعلمون ذلك، بل قد أراهم وغيرهم آثار المنذرين الذين عاقبهم الله لما كذبوا الرسل، كقوم عاد وثمود، وغيرهم.
فيستدل الناس بالآثار الموجودة على صدق الرسل، وعقوبة الله لمن يكذبهم. ويستدل قومه وغيرهم على صدقه فيما أخبر به من هذه الأمور التي لم يتعلمها من أهل الكتاب بتصديق أهل الكتاب له فيما وافقهم فيه، مع علمهم أنه لم يتعلم ذلك منهم، ويكون هذا مما يدل على أنه لم يتعلم من أهل الكتاب شيئا كما قد يظنه بعضهم، وذلك من الوجهين كما تقدم.
ومنها: أن أكثر قومه كانوا من أعظم الناس عداوة له، وحرصا على تكذيبه والطعن فيه، وبحثا عما به يقدحون فيه. فلو كان قد تعلم هذه الأخبار من بشر لكانوا يعلمون ذلك، ويقدحون به فيه ويظهرونه، ولكان هذا مما يظهر أعظم مما ظهر غيره. فلما لم يقع ذلك دل على أنهم لم يكونوا يعلمون ذلك، ولم يتمكنوا من القدح به فيه مع
علمهم بحاله، ورغبتهم في القدح به. ومع كمال الداعي والقدرة، يجب وجود المقدور، فلما كان داعيهم تاما، ولم يقدحوا، علم أن ذلك لعجزهم. وعجزهم عن القدح مع علمهم بحاله دليل على أنهم علموا أنه لم يتعلمه من بشر.
ومنها: أن يقال: مثل هذا لو وقع لكان من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل كان المتبعون له المؤمنون به إذا اطلعوا على ذلك فلا بد أن يشيعوه ويعلنوه، فكيف المخالفون له، المكذبون له؟ فإن القوم المتفرقين الذين لم يتواطئوا، كما لا يجتمعون على تعمد الكذب، فلا يجتمعون على كتمان مثل ذلك، بل يجتهد الملوك والرؤساء في إخفاء ما يبطنونه من أمر ملكهم الذي بنوه عليه، ويحلفون أولياءهم على كتمان ذلك، ويبذلون لهم الرغبة والرهبة في ذلك، ثم يظهر ذلك كما فعل القرامطة الباطنية، من أهل
البحرين بني عبيد الله بن ميمون القداح، وكما عرف الناس أن النصيرية لهم خطاب يسرونه إلى أوليائهم، وإن لم يعلم أكثر الناس ما ذلك الخطاب الذي يسرونه.
لا سيما والذين آمنوا بحمده واتبعوه - أولا - من المهاجرين كانوا مؤمنين به باطنا وظاهرا، هجروا لأجله الأوطان والأهل والمال، وصبروا على أنواع المكاره والأذى: طائفة كبيرة ذهبت إلى الحبشة،مهاجرة بدينها لما عذبها المخالفون له حتى يرجعوا عن دينه، وطائفة كانوا بمكة يعذبون ; هذا يقتل، وهذا يخرج به إلى بطحاء مكة في الحر وتوضع الصخرة على بطنه حتى يكفر، وهذا يمنع رزقه ويترك جائعا عريانا.

ثم إنهم هجروا أحب البلاد إليهم، وأفضلها عندهم: مكة - أم القرى - إلى مدينة كانوا فيها محتاجين إلى أهلها، وتركوا أموالهم بمكة، قال تعالى:
{للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} [الحشر: 8].
وقال تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} [الحج: 39].
وقال تعالى: {فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب} [آل عمران: 195].
وقوله:

{يخرجون الرسول وإياكم} [الممتحنة: 1].
وجميع المهاجرين والأنصار آمنوا به طوعا واختيارا، قبل أن يؤمر أحد بقتال.
فإنه مكث بمكة بضع عشرة سنة لا يقاتل أحدا، ولم يؤمر بقتال، بل كان لا يكره أحدا على الدين كما قال تعالى:
{لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} [البقرة: 256].
وكانوا خلقا كثيرا، ومعلوم أن الخلق الكثير الذين اتبعوا شخصا قد جاء بدين لا يوافقه عليه أحد، وطلب منهم أن يؤمنوا به ويتبعوه، ويفارقوا دين آبائهم، ويصبروا على عداوة الناس وأذاهم، ويهجروا لأجله ما ترغب النفوس فيه من الأهل والمال والوطن، وهو - مع
ذلك - لم يعط أحدا منهم مالا، ولا كان له مال يعطيهم إياه، ولا ولى أحدا ولاية، ولم يكن عنده ولاية يوليهم إياها، ولا أكره أحدا، ولا بقرصة في جلده، فضلا عن سوط أو عصا أو سيف، وهو - مع ذلك - يقول عما يخبرهم به من الغيب: " "الله أخبرني به، لم يخبرني بذلك بشر" ".
فلو كانوا - مع ذلك - يعلمون أن تعلمه من بشر لكان هذا مما يقوله بعضهم لبعض. ويمتنع في جبلة بني آدم وفطرهم أن يعلموا أنه كاذب وأنه قد تعلم هذا من بشر، وليس فيهم من يخبر بذلك، مع أنهم كانوا كثيرين لا يمكن تواطؤهم على الكذب والكتمان، بل ولا داعي لهم يدعوهم إلى ذلك. ويمتنع أن لا يعلموا ذلك، وهم بطانته المطلعون على أحواله، وهم يسمعون كلام أعدائه المطلعين على حاله.
والقرآن كان ينزل شيئا فشيئا، لم ينزل جملة، بل كانوا يسألونه عن الشيء بعد الشيء من الغيب بين الذين آمنوا به وباطنوه واطلعوا على أسراره، وهو لا يعلم شيئا من ذلك، ثم يخبرهم به، وهم مطلعون على أمره خبرا بعد خبر، وسؤالا بعد سؤال، وهذا كان بمكة، وليس بها أحد من علماء أهل الكتاب، لا اليهود ولا النصارى، ثم هاجر إلى المدينة، وبها خلق كثير من اليهود ; قينقاع والنضير وقريظة، ولعلهم كانوا بقدر نصف أهلها، أو أقل أو أكثر، وهم - أيضا - يسألونه عن الغيوب التي لا يعلمها إلا نبي فيخبرهم بها، ويتلو عليهم ما سأله عنه المشركون من الغيب، وما أخبرهم به، ويتلو عليهم هذا الغيب الذي أوحاه الله إليه، ويبين أن الله أعلمه ذلك، لم يعلمه إياه بشر، فآمن به طائفة من أهل الكتاب وكفرت به طائفة أخرى، والطائفتان ليس فيهم من يقول: إن هذا تعلمه منا أو من إخواننا أو نظرائنا، ولا إنك قرأته في كتبنا.

مع أنه لو كان قد تعلم ذلك منهم لكان شيوخه منهم، وشيوخهم إذا علموا أنه كاذب تعلمه منهم، يمتنع أن يصدقوه باطنا وظاهرا، بل تصديقهم الكتاب الأول، وعلمهم بكذب من ادعى نزول كتاب ثان وقد تعلم منهم يدعوهم إلى أن يبينوا أمره، ويظهروا كذبه، ويقولوا للناس تعلم منا، نحن أخبرناه بذلك، لا سيما مع ما فعله باليهود من القتل والحصار والجلاء والسبي، وغير ذلك.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #304  
قديم 07-10-2024, 07:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 304)

من صــ 256 الى صـ 270



وهذا لو وقع، لكان من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، ينقله الموافق والمخالف، فلما لم يقل ذلك أحد، ولم ينقله أحد مع ما أظهره من الأخبار المتواترة التي علمها الخاص والعام،
بأن هذا مما أنبأني الله، لم يخبرني به بشر، كان هذا دليلا قاطعا بينا في أن هذه الأخبار الغيبية التي لا يعلمها إلا نبي أعلمه الله بها، أو من تعلمها من نبي: هي مما أنبأه الله به، ولم يعلمه ذلك بشر، وهذا من الغيب الذي قال الله فيه - في السورة التي فيها استماع الجن للقرآن، وإنذار قومهم به حيث قال -:

{قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا} [الجن: 1].
إلى قوله:{وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} [الجن: 19].

فقوله تعالى:
{فلا يظهر على غيبه} [الجن: 26].
يبين أنه غيب يضاف إليه يختص به، لا يعلمه أحد إلا من جهته، بخلاف ما يغيب عن بعض الناس ويعلمه بعضهم، فإن هذا قد يتعلمه بعضهم من بعض.
فمما سأله عنه أهل الكتاب في المدينة مسائل، وهي غير المسائل التي كان يسأل عنها وهو بمكة، كما كان مشركو قريش يرسلون إلى اليهود بالمدينة، يسألونهم عن محمد، فيرسل اليهود بمسائل يمتحنون بها نبوته، وذلك مثل ما في صحيح البخاري عن أنس قال: " "جاء عبد الله بن سلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، والولد ينزع إلى أمه تارة، وإلى أبيه ".

قال: " أخبرني جبريل آنفا ". قال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة. " أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الولد، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه "، فقال: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله "، قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أي رجل عبد الله فيكم، قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وعالمنا وابن عالمنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد
أن محمدا رسول الله "، فقالوا: " شرنا وابن شرنا "، وتنقصوه. قال: فهذا ما كنت أخاف وأحذر".

وروى مسلم - في صحيحه - عن ثوبان قال: " "كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود، وقال: " السلام عليك يا محمد "، فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ قال: قلت: ألا تقول يا رسول الله؟ قال: إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اسمي الذي سماني به أهلي محمد، فقال: اليهودي جئت أسألك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينفعك شيء إن حدثتك. قال: أسمع بأذني، فنكت بعود معه، فقال له: سل، فقال اليهودي: " أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ " فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الظلمة دون الجسر، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين، فقال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون؟ قال: زيادة كبد نون، قال: وما غذاؤهم على أثره؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها قال:

فما شرابهم عليه؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلا قال: صدقت. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان، قال: ينفعك إذا حدثتك قال: أسمع بأذني، قال: جئت أسألك عن الولد، قال: ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله فقال: اليهودي صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف. فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: إنه سألني هذا الذي سألني عنه، وما أعلم شيئا منه حتى أتاني به الله تعالى".

وروى أبو داود الطيالسي حدثنا عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، قال: "حضرت عصابة من اليهود يوما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمها إلا نبي، فقال: سلوني عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب على بنيه إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه صدقا لتتابعوني على الإسلام قالوا: لك ذلك، قال: فسلوني عما شئتم، قالوا: أخبرنا عن أربع خلال ; أخبرنا عن الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه حتى يكون ذكرا، وكيف يكون الأنثى حتى يكون أنثى، وأخبرنا كيف هذا النبي في النوم، ومن وليك من الملائكة؟ قال: فعليكم عهد الله وميثاقه لئن أنا حدثتكم لتتابعوني، فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق، قال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ; هل تعلمون أن إسرائيل - يعقوب - مرض مرضا شديدا طال سقمه فيه فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه، وكان أحب الشراب إليه ألبان الإبل، وأحب الطعام إليه لحوم الإبل قالوا:

اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد عليهم، قال: فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى ; هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض، وأن ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان الولد، والشبه له بإذن الله، قالوا: اللهم نعم، فقال: اللهم اشهد، قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، وأنزل التوراة على موسى ; هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه، ولا ينام قلبه، قالوا: اللهم نعم، قال: اللهم اشهد، قالوا: أنت الآن حدثنا من وليك من الملائكة، فعندها نجامعك أو نفارقك، قال: وليي جبريل عليه السلام، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه، قالوا: فعندها نفارقك، لو كان غيره لاتبعناك وصدقناك، قال: فما يمنعكم أن تصدقوا قالوا: إنه عدونا من الملائكة. فأنزل الله عز وجل:
{من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا} [البقرة: 97].

إلى قوله:
{فإن الله عدو للكافرين} [البقرة: 98] ".
ففي هذه الأحاديث أن علماء اليهود كعبد الله بن سلام، وغيره كانوا يسألونه عن مسائل، يقولون فيها: لا يعلمها إلا نبي: أي ومن تعلمها من الأنبياء، فإن السائلين كانوا يعلمونها، كما جاء - أيضا -: " لا يعلمها إلا نبي أو رجل أو رجلان ". فكانوا يمتحنونه بهذه المسائل ليتبين هل يعلمها، وإذا كان يعلم ما لا يعلمه إلا نبي، كان نبيا، ومعلوم أن مقصودهم بذلك إنما يتم إذا علموا أنه لم يعلم هذه المسائل من أهل الكتاب، ومن تعلم منهم، وإلا فمعلوم أن هذه المسائل كان تعلمها بعض الناس، لكن تعلمها هؤلاء من الأنبياء.
وهذا يبين أن هؤلاء السائلين له من أهل الكتاب كانوا يعلمون أن أحدا من البشر لم يعلمه ما عند أهل الكتاب من العلم ; إذ لو جوزوا ذلك عليه لم يحصل مقصودهم من امتحانه ; هل هو نبي أم لا؟ فإنهم إذا جوزوا أن يكون تعلم ما لا يعلمه إلا نبي من أهل الكتاب، كان من جنسهم، فلم يكن في علمه بها وإجابتهم عنها دليل على نبوته.
فلا بد أن يكون هؤلاء السائلون يقطعون بأنه لم يتعلم من أهل الكتاب. وهذا كان بالمدينة بعد أن أقام بمكة بضعة عشرة سنة، وانتشر أمره، وكذبه قومه، وحرصوا على إبطال دعوته بكل طريق يقدرون عليه، فلو كان بمكة أو بالمدينة أحد من أهل الكتاب يتعلم منه، أو لقي أحدا من أهل الكتاب في طريق فتعلم منه، لكان ذلك يقدح في مقصود هؤلاء السائلين.
فتبين أنه كان معلوما عند أهل الكتاب أنه لم يتعلم شيئا من الغيب من بشر، لا سيما ولو كان قد تعلمه من أهل الكتاب وقد كذبهم وحاربهم، لأظهروا ذلك، ولشاع في أهل الكتاب، فكان إذا أجابهم قالوا: هذا تعلمته من فلان، وفلان منا، أو هذا علمكه بعض أهل ديننا. وهذا كما كانوا يرسلون إلى قومه من قريش ليسألوه عن مسائل، ويقولون: إن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فهو متقول، ويقولون: سلوه عن مسائل لا يعلمها إلا نبي.
فهذا من أهل المدينة ومن قريش قومه، يبين أن قومه المشركين وأهل الكتاب كانوا متفقين على أنه لم يتعلم شيئا من ذلك البشر، إذ لو جوزوا ذلك لم يحصل مقصودهم بذلك، ولم يجز أن يقولوا لا يعلمها إلا نبي، فإنهم كانوا جميعا يعلمون أن من أهل الكتاب من يعلم هذه المسائل، وبذلك يعرف هل يجيب فيها بما قالته الأنبياء، أو بخلاف ذلك، ويعلمون أن من كان تعلمها من أهل الكتاب، ومن تعلم منهم لا يدل جوابه عنها على نبوته كما لو أجاب عن تلك
المسائل بعض أهل الكتاب، وكما لو سأل في زماننا بعض الناس لبعض المسلمين عن تلك المسائل أو غيرها من أنباء الغيب، التي لا يعلمها إلا نبي، فإن ذلك لا يدل على نبوته؛ لأنه قد تعلم ذلك من الأنبياء.

فدل على أن مرادهم بقولهم: لا يعلمها إلا نبي: أي لا يعلمها ابتداء بدون تعليم من بشر إلا نبي، ويدل على أن المشركين وأهل الكتاب كانوا جميعا متفقين على أنه لم يتعلم من بشر مع انتشار أخباره، ومع اطلاع قومه على أسراره، ومع ظهور ذلك - لو وجد - ومع أنهم لو جوزوا تجويزا أن يكون قد تعلمها من بشر في الباطن، لم يجز أن يستدل بها على نبوته، فدل على أنهم كانوا قاطعين بأنه لم يتعلم ذلك من بشر؛ لا في الباطن، ولا في الظاهر، وهذا طريق بين يدل على أنه لم يتعلم ذلك من بشر سوى الطرق المذكورة هنا.
(قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (65)
(فصل: في قول السائل: ولا يقال علم الله ما يختار فالمختار مسطور)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فصل:
وأما قوله:
ولا يقال علم الله ما يختار ... فالمختار مسطور
فهو يتضمن إيراد سؤال من القدرية. وجوابه منهم: فإنهم قد يقولون: نحن نقول: إنه يعلم وإذا قلنا ذلك لم نكن قد نفينا القدر بل أثبتنا القدر بمعنى العلم مع نفي كون الرب تعالى شائيا جميع الحوادث خالقا لأفعال العباد قال الناظم فإن الذي يختاره العبد مسطور قبل ذلك فلا يمكن بغيره فيلزم الجبر. وقد يعترض على هذا الجواب بأن يقال: اللازم هنا بمنزلة الملزوم، فإن علمه بأنه يختاره موافق لما كتبه من أنه يختاره وتغيير العلم أعظم من تغيير المسطور.
وقد يقال: إنه أراد جعل السطر من تمام القول أي لا يقال علم ما يختاره وسطر ذلك. أي فتقدم العلم والكتاب كاف في الإيمان بالقدر فإن مجرد ذلك لا يكفي في الإيمان بالقدر وهذا من حجة القائلين بالجبر. قالوا: خلاف المعلوم ممتنع؛ فالأمر به أمر بممتنع؛ لأنه لو وقع المأمور للزم انقلاب العلم جهلا. وجوابهم أن الممتنع لفظ مجمل فإن أرادوا أن خلاف المعلوم لا يقع ولا يكون فهذا صحيح ولكن التكليف بما لا يكون لا يكون تكليفا بما يعجز عنه الفاعل فإن ما لا يفعله الفاعل قد لا يفعله لعجزه عنه وقد لا يفعله لعدم إرادته فإنما كلف بما يطيقه مع علم الرب أنه لا يكون كما يعلم أن ما لا يشاؤه هو لا يكون مع أنه لو شاء لفعله.
وقول المحتج: لو وقع لانقلب العلم جهلا. قيل: هذا صحيح وهو يدل على أنه لا يقع لكن لا يدل على أن المكلف عاجز عنه لو أراده لم يقدر على فعله فإنه لا يقع لعدم إرادته له لا لعدم قدرته عليه؛ كالذي لا يقع من مقدورات الرب التي لو شاء لفعلها وهو يعلم أنه لا يفعلها. ولا يجوز أن يقال إنه غير قادر عليها كما قاله بعض غلاة أهل البدع؛ بل قد قال سبحانه: {أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه} {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} وقال تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا} مع أنه قد ثبت في الصحيحين عن جابر {أنه لما نزل قوله: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك {أو من تحت أرجلكم} قال: أعوذ بوجهك {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: هاتان أهون}.
فهذا الذي أخبر أنه قادر عليه منه ما لا يكون وهو إرسال عذاب من فوق الأمة أو من تحت أرجلهم. ومنه ما يكون وهو لبسهم شيعا وإذاقة بعضهم بأس بعض، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة؛ سألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها؛ وسألته أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها؛ وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها}.

وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما لا يكون أنه لو شاء لفعله كقوله: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} وقوله: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} وقوله: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} وأمثال هذه الآيات تبين أنه لو شاء أن يفعل أمورا لم تكن لفعلها؛ وهذا يدل على أنه قادر على ما علم أنه لا يكون؛ فإنه لولا قدرته عليه لكان إذا شاء لا يفعله؛ فإنه لا يمكن فعله إلا بالقدرة عليه فلما أخبر وهو الصادق في خبره أنه لو شاء لفعله علم أنه قادر عليه وإن علم سبحانه أنه لا يكون؛ وعلم أيضا أن خلاف المعلوم قد يكون مقدورا.
وإذا قيل هو ممتنع فهو من باب الممتنع لعدم مشيئة الرب له لا لكونه ممتنعا في نفسه ولا لكونه معجوزا عنه. ولفظ " الممتنع " فيه إجمال كما تقدم وما سمي ممتنعا بمعنى أنه لا يكون مع أنه لو شاء العبد لفعله لقدرته عليه فهذا يجوز تكليفه بلا نزاع؛ وإن سماه بعضهم بما لا يطاق فهذا نزاع لفظي؛ ونزاع في أن القدرة هل يجوز أن تتقدم الفعل أم لا؟

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #305  
قديم 07-10-2024, 07:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 305)

من صــ 271 الى صـ 285





(وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون (61)
سئل شيخ الإسلام:
هل الملائكة الموكلون بالعبد هم الموكلون دائما أم كل يوم ينزل الله إليه ملكين غير أولئك؟ وهل هو موكل بالعبد ملائكة بالليل وملائكة بالنهار؟ وقوله عز وجل: {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} فما معنى الآية
فأجاب:
الحمد لله، الملائكة أصناف؛ منهم من هو موكل بالعبد دائما. ومنهم ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر؛ فيسألهم - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون ومنهم ملائكة فضل عن كتاب الناس يتبعون مجالس الذكر. (وأعمال العباد تجمع جملة وتفصيلا فترفع أعمال الليل قبل أعمال النهار وأعمال النهار قبل أعمال الليل تعرض الأعمال على الله في كل يوم اثنين وخميس فهذا كله مما جاءت به الأحاديث الصحيحة وأما إنه كل يوم تبدل عليه الملكان: فهذا لم يبلغنا فيه شيء. والله أعلم.
(وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (68)
وسئل - رحمه الله -:

عمن يجب أو يجوز بغضه أو هجره أو كلاهما لله تعالى؟ وماذا يشترط على الذي يبغضه أو يهجره لله تعالى من الشروط؟ وهل يدخل ترك السلام في الهجران أم لا؟ وإذا بدأ المهجور الهاجر بالسلام هل يجب الرد عليه أم لا؟ وهل يستمر البغض والهجران لله عز وجل حتى يتحقق زوال الصفة المذكورة التي أبغضه وهجره عليها؟ أم يكون لذلك مدة معلومة؟ فإن كان لها مدة معلومة فما حدها؟ أفتونا مأجورين.
الجواب

فأجاب: الهجر الشرعي نوعان: أحدهما بمعنى الترك للمنكرات. والثاني بمعنى العقوبة عليها.
فالأول: هو المذكور في قوله تعالى {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}. وقوله تعالى {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم}.
فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم. وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم وأمثال ذلك. بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم أو حضر بغير اختياره. ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله. وفي الحديث: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر}. وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات. كما قال صلى الله عليه وسلم {المهاجر من هجر ما نهى الله عنه}. ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان. فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به ومن هذا قوله تعالى {والرجز فاهجر}.
النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها كما {هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون: الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم} حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقا فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير. والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع.
وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم ولا يصلى خلفهم ولا يؤخذ عنهم العلم ولا يناكحون. فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا؛ ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شرا من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم.
ولهذا جاء في الحديث: {أن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة} وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه}. فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها؛ بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة. وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله. فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا. وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر. والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر آخرين.

كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح. وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كذلك ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه. وإذا عرف هذا فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله. فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله وأن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صوابا. فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجرا غير مأمور به: كان خارجا عن هذا. وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله.

والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث؛ يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} فلم يرخص في هذا الهجر أكثر من ثلاث كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث. وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {تفتح أبواب الجنة كل اثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا؛ إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا} فهذا الهجر لحق الإنسان حرام وإنما رخص في بعضه كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت. وكما رخص في هجر الثلاث. فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه.
فالأول مأمور به والثاني منهي عنه؛ لأن المؤمنين إخوة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم} وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن: {ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين}. وقال في الحديث الصحيح: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذ اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر}.
وهذا لأن الهجر من " باب العقوبات الشرعية " فهو من جنس الجهاد في سبيل الله. وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله. والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه؛ فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} إنما المؤمنون إخوة فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم. فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه، والإهانة لأعدائه والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه.

وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعادات والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقا للثواب فقط ولا مستحقا للعقاب فقط. وأهل السنة يقولون: إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته كما استفاضت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى أعلم وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ... (93)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
لما ذكر الله سبحانه قول الذين ما قدروا الله حق قدره حيث أنكروا الإنزال على البشر ذكر المتشبهين به المدعين لمماثلته من الأقسام الثلاثة. فإن المماثل له: إما أن يقول: إن الله أوحى إلي أو يقول: أوحي إلي وألقي إلي وقيل لي ولا يسمي القائل. أو يضيف ذلك إلى نفسه ويذكر أنه هو المنشئ له.
ووجه الحصر: أنه إما أن يحذف الفاعل أو يذكره وإذا ذكره فإما أن يجعله من قول الله أو من قول نفسه. فإنه إذا جعله من كلام الشياطين لم يقبل منه وما جعله من كلام الملائكة فهو داخل فيما يضيفه إلى الله وفيما حذف فاعله فقال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله}. وتدبر كيف جعل الأولين في حيز الذي جعله وحيا من الله ولم يسم الموحي؟ فإنهما من جنس واحد في ادعاء جنس الإنباء وجعل الآخر في حيز الذي ادعى أن يأتي بمثله ولهذا قال: {ممن افترى على الله كذبا} ثم قال: {ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} فالمفتري للكذب والقائل: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء: من جملة الاسم الأول وقد قرن به الاسم الآخر فهؤلاء الثلاثة المدعون لشبه النبوة. وقد تقدم قبلهم المكذب للنبوة.

فهذا يعم جميع أصول الكفر التي هي تكذيب الرسل أو مضاهاتهم كمسيلمة الكذاب وأمثاله. وهذه هي " أصول البدع " التي نردها نحن في هذا المقام لأن المخالف للسنة يرد بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو يعارض قول الرسول بما يجعله نظيرا له: من رأي أو كشف أو نحو ذلك.
(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76)
(فصل في بطلان استدلال الجهمية ومن اتبعهم بقول الله: " لا أحب الآفلين " على أن الحركة من لوازم الإله)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

ويقول كثير منهم: إن هذه طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام المذكورة في قوله {لا أحب الآفلين} قالوا: فإن إبراهيم استدل بالأفول - وهو الحركة والانتقال - على أن المتحرك لا يكون إلها. قالوا: ولهذا يجب تأويل ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفا لذلك من وصف الرب بالإتيان والمجيء والنزول وغير ذلك؛ فإن كونه نبيا لم يعرف إلا بهذا الدليل العقلي فلو قدح في ذلك لزم القدح في دليل نبوته فلم يعرف أنه رسول الله وهذا ونحوه هو الدليل العقلي الذي يقولون إنه عارض السمع والعقل. ونقول إذا تعارض السمع والعقل امتنع تصديقهما وتكذيبهما وتصديق السمع دون العقل؛ لأن العقل هو أصل السمع فلو جرح أصل الشرع كان جرحا له. ولأجل هذه الطريق أنكرت الجهمية والمعتزلة الصفات والرؤية وقالوا: القرآن مخلوق؛ ولأجلها قالت الجهمية بفناء الجنة والنار؛ ولأجلها قال العلاف بفناء حركاتهم؛ ولأجلها فرع كثير من أهل الكلام؛ كما قد بسط في غير هذا الموضع.
ودعواهم أن هذه طريقة إبراهيم الخليل في قوله: {لا أحب الآفلين} كذب ظاهر على إبراهيم؛ فإن الأفول هو التغيب والاحتجاب باتفاق أهل اللغة والتفسير وهو من الأمور الظاهرة في اللغة وسواء أريد بالأفول ذهاب ضوء
القمر والكواكب بطلوع الشمس أو أريد به سقوطه من جانب المغرب؛ فإنه إذا طلعت الشمس يقال: إنها غابت الكواكب واحتجبت وإن كانت موجودة في السماء ولكن طمس ضوء الشمس نورها. وهذا مما ينحل به الإشكال الوارد على الآية في طلوع الشمس بعد أفول القمر وإبراهيم عليه السلام لم يقل: {لا أحب الآفلين} لما رأى الكوكب يتحرك؛ والقمر والشمس بل إنما قال ذلك حين غاب واحتجب.
فإن كان إبراهيم قصد بقوله الاحتجاج بالأفول على نفي كون الآفل رب العالمين - كما ادعوه - كانت قصة إبراهيم حجة عليهم؛ فإنه لم يجعل بزوغه وحركته في السماء إلى حين المغيب دليلا على نفي ذلك؛ بل إنما جعل الدليل مغيبه. فإن كان ما ادعوه من مقصوده من الاستدلال صحيحا فإنه حجة على نقيض مطلوبهم وعلى بطلان كون الحركة دليل الحدوث.
لكن الحق أن إبراهيم لم يقصد هذا ولا كان قوله: {هذا ربي} أنه رب العالمين ولا اعتقد أحد من بني آدم أن كوكبا من الكواكب خلق السموات والأرض وكذلك الشمس والقمر ولا كان المشركون قوم إبراهيم يعتقدون ذلك؛ بل كانوا مشركين بالله يعبدون الكواكب ويدعونها ويبنون لها الهياكل ويعبدون فيها أصنامهم وهو دين الكلدانيين والكشدانيين والصابئين المشركين؛ لا الصابئين الحنفاء وهم الذين صنف صاحب " السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم " كتابه على دينهم.

وهذا دين كان كثير من أهل الأرض عليه بالشام والجزيرة والعراق وغير ذلك وكانوا قبل ظهور دين المسيح عليه السلام وكان جامع دمشق وجامع حران وغيرهما موضع بعض هياكلهم: هذا هيكل المشتري وهذا هيكل الزهرة. وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي؛ وبدمشق محاريب قديمة إلى الشمال. والفلاسفة اليونانيون كانوا من جنس هؤلاء المشركين يعبدون الكواكب والأصنام ويصنعون السحر وكذلك أهل مصر وغيرهم. وجمهور المشركين كانوا مقرين برب العالمين والمنكر له قليل مثل فرعون ونحوه.

وقوم إبراهيم كانوا مقرين بالصانع ولهذا قال لهم إبراهيم الخليل: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} {أنتم وآباؤكم الأقدمون} {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} فعادى كل ما يعبدونه إلا رب العالمين وقال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء} وقال الخليل عليه السلام {أتعبدون ما تنحتون} {والله خلقكم وما تعملون} وقال تعالى في سورة الأنعام؛ {فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون} {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون} {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} قال الله تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم}.
ولما فسر هؤلاء " الأفول " بالحركة وفتحوا باب تحريف الكلم عن مواضعه دخلت الملاحدة من هذا الباب ففسر ابن سينا وأمثاله من الملاحدة الأفول بالإمكان الذي ادعوه حيث قالوا: إن الأفلاك قديمة أزلية وهي مع ذلك ممكنة وكذلك ما فيها من الكواكب والنيرين. قالوا: فقول إبراهيم {لا أحب الآفلين} أي لا أحب الممكن المعلول وإن كان قديما أزليا. وأين في لفظ الأفول ما يدل على هذا المعنى؟ ولكن هذا شأن المحرفين للكلم عن مواضعه.
وجاء بعدهم من جنس من زاد في التحريف فقال: المراد " بالكواكب والشمس والقمر " هو النفس والعقل الفعال والعقل الأول وقد ذكر ذلك أبو حامد الغزالي في بعض كتبه وحكاه عن غيره في بعضها. وقال هؤلاء الكواكب والشمس والقمر لا يخفى على عاقل أنها ليست رب العالمين بخلاف النفس والعقل.
ودلالة لفظ الكوكب والشمس والقمر على هذه المعاني لو كانت موجودة من عجائب تحريفات الملاحدة الباطنية كما يتأولون العلميات مع العمليات ويقولون: الصلوات الخمس معرفة أسرارنا وصيام رمضان كتمان أسرارنا والحج هو الزيارة لشيوخنا المقدسين. وفتح لهم هذا الباب " الجهمية والرافضة " حيث صار بعضهم يقول: الإمام المبين علي بن أبي طالب والشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية والبقرة المأمور بذبحها عائشة واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين. وقد شاركهم في نحو هذه التحريفات طائفة من الصوفية وبعض المفسرين كالذين يقولون: {والتين والزيتون} {وطور سينين} {وهذا البلد الأمين} أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وكذلك قوله: {كزرع أخرج شطأه} أبو بكر {فآزره} عمر {فاستغلظ} هو عثمان {فاستوى على سوقه} هو علي. وقول بعض الصوفية: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} هو القلب {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} هي النفس.
وأمثال هذه التحريفات. لكن منها ما يكون معناه صحيحا وإن لم يكن هو المراد باللفظ وهو الأكثر في إشارات الصوفية. وبعض ذلك لا يجعل تفسيرا؛ بل يجعل من باب الاعتبار والقياس وهذه طريقة صحيحة علمية كما في قوله تعالى {لا يمسه إلا المطهرون} وقول النبي صلى الله عليه وسلم {لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب}. فإذا كان ورقه {لا يمسه إلا المطهرون} فمعانيه لا يهتدي بها إلا القلوب الطاهرة وإذا كان الملك لا يدخل بيتا فيه كلب فالمعاني التي تحبها الملائكة لا تدخل قلبا فيه أخلاق الكلاب المذمومة ولا تنزل الملائكة على هؤلاء وهذا لبسطه موضع آخر.

والمقصود أن أولئك المبتدعة من أهل الكلام لما فتحوا " باب القياس الفاسد في العقليات والتأويل الفاسد في السمعيات "؛ صار ذلك دهليزا للزنادقة الملحدين إلى ما هو أعظم من ذلك من السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات وصار كل من زاد في ذلك شيئا دعاه إلى ما هو شر منه؛ حتى انتهى الأمر بالقرامطة إلى إبطال الشرائع المعلومة كلها كما قال لهم رئيسهم بالشام: قد أسقطنا عنكم العبادات فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة. ولهذا قال من قال من السلف: البدع بريد الكفر والمعاصي بريد النفاق.
ولما اعتقد أئمة الكلام المبتدع أن معنى كون الله خالقا لكل شيء هو ما تقدم: أنه لم يزل غير فاعل لشيء ولا متكلم بشيء حتى أحدث العالم؛ لزمهم أن يقولوا: إن القرآن أو غيره من كلام الله مخلوق منفصل بائن عنه. فإنه لو كان له كلام قديم أو كلام غير مخلوق؛ لزم قدم العالم على الأصل الذي أصلوه لأن الكلام قد عرف العقلاء أنه إنما يكون بقدرة المتكلم ومشيئته.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #306  
قديم 07-10-2024, 08:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 306)

من صــ 286 الى صـ 300





وأما كلام يقوم بذات المتكلم بلا قدرة ولا مشيئة؛ فهذا لم يكن يتصوره أحد من العقلاء ولا نعرف أن أحدا قاله بل ولا يخطر ببال جماهير الناس حتى أحدث القول به ابن كلاب. وإنما ألجأه إلى هذا: أن أولئك المتكلمين لما أظهروا موجب أصلهم وهو القول بأن القرآن مخلوق أظهروا ذلك في أوائل المائة الثانية فلما سمع ذلك علماء الأمة أنكروا ذلك ثم صار كلما ظهر قولهم أنكره العلماء - وكلام السلف والأئمة في إنكار ذلك مشهور متواتر - إلى أن صار لهؤلاء المتكلمين الكلام المحدث في دولة المأمون عز وأدخلوه في ذلك وألقوا إليه الحجج التي لهم. وقالوا إما أن يكون العالم مخلوقا أو قديما. وهذا الثاني كفر ظاهر معلوم فساده بالعقل والشرع. وإذا كان العالم مخلوقا محدثا بعد أن لم يكن؛ لم يبق قديم إلا الله وحده.
فلو كان العالم قديما؛ لزم أن يكون مع الله قديم آخر. وكذلك الكلام إن كان قائما بذاته؛ لزم دوام الحوادث وقيامها بالرب وهذا يبطل الدليل الذي اشتهر بينهم على حدوث العالم. وإن كان منفصلا عنه لزم وجود المخلوق في الأزل؛ وهذا قول بقدم العالم. فلما امتحن الناس بذلك واشتهرت هذه المحنة وثبت الله من ثبته من أئمة السنة؛ وكان الإمام - الذي ثبته الله وجعله إماما للسنة حتى صار أهل العلم بعد ظهور المحنة يمتحنون الناس به فمن وافقه كان سنيا وإلا كان بدعيا - هو الإمام أحمد بن حنبل فثبت على أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
فصل:
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
قال الرازي: " الحجة الثالثة " قصة الخليل: {لا أحب الآفلين} والأفول عبارة عن التغير. وهذا يدل على أن المتغير لا يكون إلها أصلا. والجواب من وجوه:
أحدها: أنا لا نسلم أن الأفول هو التغير ولم يذكر على ذلك حجة؛ بل لم يذكر إلا مجرد الدعوى.

الثاني: أن هذا خلاف إجماع أهل اللغة والتفسير؛ بل هو خلاف ما علم بالاضطرار من الدين؛ والنقل المتواتر للغة والتفسير. فإن " الأفول " هو المغيب. يقال: أفلت الشمس تأفل وتأفل أفولا إذا غابت ولم يقل أحد قط إنه هو التغير ولا إن الشمس إذا تغير لونها يقال إنها أفلت ولا إذا كانت متحركة في السماء يقال إنها أفلت ولا أن الريح إذا هبت يقال إنها أفلت ولا أن الماء إذا جرى يقال إنه أفل ولا أن الشجر إذا تحرك يقال إنه أفل ولا أن الآدميين إذا تكلموا أو مشوا وعملوا أعمالهم يقال إنهم أفلوا؛ بل ولا قال أحد قط إن من مرض أو اصفر وجهه أو احمر يقال إنه أفل. فهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على الله وعلى خليل الله وعلى كلام الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله وعلى أمة محمد جميعا وعلى جميع أهل اللغة وعلى جميع من يعرف معاني القرآن.

الثالث: أن قصة الخليل عليه السلام حجة عليكم فإنه لما رأى كوكبا وتحرك إلى الغروب فقد تحرك؛ ولم يجعله آفلا ولما رأى القمر بازغا رآه متحركا؛ ولم يجعله آفلا؛ فلما رأى الشمس بازغة علم أنها متحركة؛ ولم يجعلها آفلة ولما تحركت إلى أن غابت والقمر إلى أن غاب لم يجعله آفلا.
الرابع: قوله: إن الأفول عبارة عن التغير؛ إن أراد بالتغير الاستحالة: فالشمس والقمر والكواكب لم تستحل بالمغيب؛ وإن أراد به التحرك: فهو لا يزال متحركا. وقوله: {فلما أفل} دل على أنه يأفل تارة ولا يأفل أخرى.
فإن (لما ظرف يقيد هذا الفعل بزمان هذا الفعل والمعنى أنه حين أفل {قال لا أحب الآفلين} فإنما قال ذلك حين أفوله. وقوله: {فلما أفل} دل على حدوث الأفول وتجدده؛ والحركة لازمة له؛ فليس الأفول هو الحركة ولفظ التغير والتحرك مجمل. إن أريد به التحرك أو حلول الحوادث: فليس هو معنى التغير في اللغة وليس الأفول هو التحرك ولا التحرك هو التغير؛ بل الأفول أخص من التحرك والتغير أخص من التحرك. وبين التغير والأفول عموم وخصوص. فقد يكون الشيء متغيرا غير آفل وقد يكون آفلا غير متغير وقد يكون متحركا غير متغير ومتحركا غير آفل. وإن كان التغير أخص من التحرك على أحد الاصطلاحين: فإن لفظ الحركة قد يراد بها الحركة المكانية وهذه لا تستلزم التغير. وقد يراد به أعم من ذلك كالحركة في الكيف والكم؛ مثل حركة النبات بالنمو وحركة نفس الإنسان بالمحبة والرضا والغضب والذكر. فهذه الحركة قد يعبر عنها بالتغير وقد يراد بالتغير في بعض المواضع الاستحالة.
ففي الجملة: الاحتجاج بلفظ التغير إن كان سمعيا فالأفول ليس هو التغير؛ وإن كان عقليا. فإن أريد بالتغير - الذي يمتنع على الرب - محل النزاع: لم يحتج به وإن أريد به مواقع الإجماع فلا منازعة فيه. وأفسد من هذا: قول من يقول: الأفول هو الإمكان كما قاله " ابن سينا " إن الهوي في حضيرة الإمكان أفول بوجه ما؛ فإنه يلزم على هذا أن يكون كل ما سوى الله آفلا ولا يزال آفلا فإن كل ما سواه ممكن ولا يزال ممكنا. ويكون الأفول وصفا لازما لكل ما سوى الله؛ كما أن كونه ممكنا وفقيرا إلى الله وصف لازم له.
وحينئذ: فتكون الشمس والقمر والكواكب: لم تزل ولا تزال آفلة وجميع ما في السموات والأرض لا يزال آفلا. فكيف يصح قوله مع ذلك: {فلما أفل قال لا أحب الآفلين}؟ وعلى كلام هؤلاء المحرفين لكلام الله تعالى وكلام خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم عن مواضعه: هو آفل قبل أن يبزغ ومن حين بزغ وإلى أن غاب. وكذلك جميع ما يرى وما لا يرى في العالم آفل والقرآن بين أنه لما رآها بازغة قال: {هذا ربي} فلما أفلت بعد ذلك. قال: {لا أحب الآفلين} والله أعلم.
(وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (81) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)

وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل: ذكر الله عن إمامنا إبراهيم خليل الله أنه قال لمناظريه من المشركين الظالمين {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}. وفي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أن {النبي صلى الله عليه وسلم فسر الظلم بالشرك وقال ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح {إن الشرك لظلم عظيم} فأنكر أن نخاف ما أشركوهم بالله من جميع المخلوقات العلويات والسفليات وعدم خوفهم من إشراكهم بالله شريكا لم ينزل الله به سلطانا وبين أن القسم الذي لم يشرك هو الآمن المهتدي.

وهذه آية عظيمة تنفع المؤمن الحنيف في مواضع فإن الإشراك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل دع جليله وهو شرك في العبادة والتأله وشرك في الطاعة والانقياد وشرك في الإيمان والقبول. فالغالية من النصارى والرافضة وضلال الصوفية والفقراء والعامة يشركون بدعاء غير الله تارة وبنوع من عبادته أخرى وبهما جميعا تارة ومن أشرك هذا الشرك أشرك في الطاعة.
وكثير من المتفقهة وأجناد الملوك وأتباع القضاة والعامة المتبعة لهؤلاء يشركون شرك الطاعة وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما قرأ {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم} فقال يا رسول الله ما عبدوهم فقال ما عبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم}. فتجد أحد المنحرفين يجعل الواجب ما أوجبه متبوعه والحرام ما حرمه والحلال ما حلله والدين ما شرعه إما دينا وإما دنيا وإما دنيا ودينا. ثم يخوف من امتنع من هذا الشرك وهو لا يخاف أنه أشرك به شيئا في طاعته بغير سلطان من الله وبهذا يخرج من أوجب الله طاعته من رسول وأمير وعالم ووالد وشيخ وغير ذلك. وأما الشرك الثالث فكثير من أتباع المتكلمة والمتفلسفة بل وبعض المتفقهة والمتصوفة بل وبعض أتباع الملوك والقضاة يقبل قول متبوعه فيما يخبر به من الاعتقادات الخبرية ومن تصحيح بعض المقالات وإفساد بعضها ومدح بعضها وبعض القائلين وذم بعض بلا سلطان من الله. ويخاف ما أشركه في الإيمان والقبول ولا يخاف إشراكه بالله شخصا في الإيمان به وقبول قوله بغير سلطان من الله.
وبهذا يخرج من شرع الله تصديقه من المرسلين والعلماء المبلغين والشهداء الصادقين وغير ذلك. فباب الطاعة والتصديق ينقسم إلى مشروع في حق البشر وغير مشروع. وأما العبادة والاستعانة والتأله فلا حق فيها للبشر بحال فإنه كما قال القائل ما وضعت يدي في قصعة أحد إلا ذللت له. ولا ريب أن من نصرك ورزقك كان له سلطان عليك فالمؤمن يريد أن لا يكون عليه سلطان إلا لله ولرسوله ولمن أطاع الله ورسوله.

وقبول مال الناس فيه سلطان لهم عليه فإذا قصد دفع هذا السلطان وهذا القهر عن نفسه كان حسنا محمودا يصح له دينه بذلك وإن قصد الترفع عليهم والترؤس والمراءاة بالحال الأولى كان مذموما وقد يقصد بترك الأخذ غنى نفسه عنهم في ترك أموالهم لهم. فهذه أربع مقاصد صالحة: غنى نفسه، وعزتها حتى لا تفتقر إلى الخلق ولا تذل لهم، وسلامة مالهم ودينهم عليهم حتى لا تنقص عليهم أموالهم فلا يذهبها عنهم ولا يوقعهم بأخذها منهم فيما يكره لهم من الاستيلاء عليه ففي ذلك منفعة له ألا يذل ولا يفتقر إليهم ومنفعة لهم أن يبقى لهم مالهم ودينهم وقد يكون في ذلك منفعة بتأليف قلوبهم بإبقاء أموالهم لهم حتى يقبلوا منه ويتألفون بالعطاء لهم فكذلك في إبقاء أموالهم لهم وقد يكون في ذلك أيضا حفظ دينهم فإنهم إذا قبل منهم المال قد يطمعون هم أيضا في أنواع من المعاصي ويتركون أنواعا من الطاعات فلا يقبلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي ذلك منافع ومقاصد أخر صالحة.

وأما إذا كان الأخذ يفضي إلى طمع فيه حتى يستعان به في معصية أو يمنع من طاعة فتلك مفاسد أخر وهي كثيرة ترجع إلى ذله وفقره لهم فإنهم لا يتمكنون من منعه من طاعة إلا إذا كان ذليلا أو فقيرا إليهم ولا يتمكنون هم من استعماله في المعصية إلا مع ذله أو فقره فإن العطاء يحتاج إلى جزاء ومقابلة فإذا لم تحصل مكافأة دنيوية من مال أو نفع لم يبق إلا ما ينتظر من المنفعة الصادرة منه إليهم.
وللرد وجوه مكروهة مذمومة منها: الرد مراءاة بالتشبه بمن يريد غنى وعزة ورحمة للناس في دينهم ودنياهم. ومنها التكبر عليهم والاستعلاء حتى يستعبدهم ويستعلي عليهم بذلك فهذا مذموم أيضا. ومنها البخل عليهم فإنه إذا أخذ منهم احتاج أن ينفعهم ويقضي حوائجهم فقد يترك الأخذ بخلا عليهم بالمنافع. ومنها الكسل عن الإحسان إليهم فهذه أربع مقاصد فاسدة في الرد للعطاء: الكبر والرياء والبخل والكسل.

فالحاصل أنه قد يترك قبول المال لجلب المنفعة لنفسه أو لدفع المضرة عنها أو لجلب المنفعة للناس أو دفع المضرة عنهم فإن في ترك أخذه غنى نفسه وعزها وهو منفعة لها وسلامة دينه ودنياه مما يترتب على القبول من أنواع المفاسد وفيه نفع الناس بإبقاء أموالهم ودينهم لهم ودفع الضرر المتولد عليهم إذا بذلوا بذلا قد يضرهم وقد يتركه لمضرة الناس أو لترك منفعتهم فهذا مذموم كما تقدم وقد يكون في الترك أيضا مضرة نفسه أو ترك منفعتها إما بأن يكون محتاجا إليه فيضره تركه أو يكون في أخذه وصرفه منفعة له في الدين والدنيا فيتركها من غير معارض مقاوم.

فلهذا فصلنا هذه المسألة فإنها مسألة عظيمة وبإزائها مسألة القبول أيضا وفيها التفصيل لكن الأغلب أن ترك الأخذ كان أجود من القبول ولهذا يعظم الناس هذا الجنس أكثر وإذا صح الأخذ كان أفضل أعني الأخذ والصرف إلى الناس.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
فمن كان في قلبه رياسة لمخلوق ففيه من عبوديته بحسب ذلك. فلما خوفوا خليله بما يعبدونه ويشركون به - الشرك الأكبر كالعبادة - قال الخليل: {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} يقول: إن تطيعوا غير الله وتعبدوا غيره وتكلمون في دينه ما لم ينزل به سلطانا: فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ أي تشركون بالله ولا تخافونه وتخوفوني أنا بغير الله فمن ذا الذي يستحق الأمن إلى قوله: {أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} أي: هؤلاء الموحدون المخلصون؛ ولهذا قال الإمام أحمد لبعض الناس: لو صححت لم تخف أحدا.
(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)
[عن ابن مسعود قال]: {لما نزلت: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بذلك. ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إن الشرك لظلم عظيم} إنما هو الشرك}.
حدثنا محمد بن يحيى حدثنا الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه فدخل ذات يوم فقرأ فأتى على هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} إلى آخر الآية فانتعل وأخذ رداءه ثم أتى إلى أبي بن كعب فقال: يا أبا المنذر أتيت قبل على هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} وقد نرى أنا نظلم ونفعل. فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا ليس بذلك يقول الله: {إن الشرك لظلم عظيم} إنما ذلك الشرك.
(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83)
وقال أيضا:
فصل:
ذكر الله أنه يرفع درجات من يشاء في قصة مناظرة إبراهيم وفي قصة احتيال يوسف ولهذا قال السلف: بالعلم؛ فإن سياق الآيات يدل عليه فقصة إبراهيم في العلم بالحجة والمناظرة لدفع ضرر الخصم عن الدين وقصة يوسف في العلم بالسياسة والتدبير لتحصل منفعة المطلوب فالأول علم بما يدفع المضار في الدين والثاني علم بما يجلب المنافع أو يقال: الأول هو العلم الذي يدفع المضرة عن الدين ويجلب منفعته والثاني علم بما يدفع المضرة عن الدنيا ويجلب منفعتها أو يقال قصة إبراهيم في علم الأقوال النافعة عند الحاجة إليها وقصة يوسف في علم الأفعال النافعة عند الحاجة إليها فالحاجة في جلب المنفعة ودفع المضرة قد تكون إلى القول وقد تكون. . . (1).
ولهذا كان المقصرون عن علم الحجج والدلالات، وعلم السياسة والإمارات مقهورين مع هذين الصنفين تارة بالاحتياج إليهم إذا هجم عدو يفسد الدين بالجدل أو الدنيا بالظلم وتارة بالاحتياج إليهم إذا هجم على أنفسهم من أنفسهم ذلك وتارة بالاحتياج إليهم لتخليص بعضهم من شر بعض في الدين والدنيا وتارة يعيشون في ظلهم في مكان ليس فيه مبتدع يستطيل عليهم ولا وال يظلمهم وما ذاك إلا لوجود علماء الحجج الدامغة لأهل البدع والسياسة الدافعة للظلم.

ولهذا قيل: صنفان إذا صلحوا صلح الناس: العلماء والأمراء وكما أن المنفعة فيهما فالمضرة منهما فإن البدع والظلم لا تكون إلا فيهما: أهل الرياسة العلمية وأهل الرياسة القدرية ولهذا قال طائفة من السلف كالثوري وابن عيينة وغيرهما ما معناه: أن من نجا من فتنة البدع وفتنة السلطان فقد نجا من الشر كله وقد بسطت القول في هذا في الصراط المستقيم عند قوله: {فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا}.
(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين (90)

فصل:
والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين قد أمرنا أن نؤمن بما أوتوه وأن نقتدي بهم وبهداهم. قال تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} وقال تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده وقد نسخ بشرعه ما نسخه من شرع غيره فلم يبق طريق إلى الله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم فما أمر به من العبادات أمر إيجاب أو استحباب فهو مشروع وكذلك ما رغب فيه وذكر ثوابه وفضله.
ولا يجوز أن يقال إن هذا مستحب أو مشروع إلا بدليل شرعي، ولا يجوز أن يثبت شريعة بحديث ضعيف لكن إذا ثبت أن العمل مستحب بدليل شرعي وروي له فضائل بأسانيد ضعيفة جاز أن تروى إذا لم يعلم أنها كذب، وذلك أن مقادير الثواب غير معلومة فإذا روي في مقدار الثواب حديث لا يعرف أنه كذب لم يجز أن يكذب به وهذا هو الذي كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره يرخصون فيه وفي روايات أحاديث الفضائل. وأما أن يثبتوا أن هذا عمل مستحب مشروع بحديث ضعيف فحاشا لله كما أنهم إذا عرفوا أن الحديث كذب فإنهم لم يكونوا يستحلون روايته إلا أن يبينوا أنه كذب لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من روى عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين}.
[فصل في أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه]
فصل فإن قيل: ما ذكرتموه من الأدلة معارض بما يدل على خلافه، وذلك: أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقوله تعالى: {فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] وقوله: {اتبع ملة إبراهيم} [النحل: 123] وقوله: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا} [المائدة: 44] وغير ذلك من الدلائل المذكورة في غير هذا الموضع، مع أنكم مسلمون لهذه القاعدة، وهي قول عامة السلف وجمهور الفقهاء.
ومعارض بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: " ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ " قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا لله فنحن نصومه تعظيما له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فنحن أحق وأولى بموسى منكم " فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه" متفق عليه.

وعن أبي موسى رضي الله عنه، قال: "كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فصوموه أنتم" متفق عليه، وهذا اللفظ للبخاري، ولفظ مسلم "تعظمه اليهود وتتخذه عيدا" وفي لفظ له: " كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء ويتخذونه عيدا، ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشاراتهم ".
وعن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته، ثم فرق بعد"، متفق عليه.

__________
Q (1) خرم بالأصل
وفي نسخة شركة حرف الإلكترونية: " قد تكون إلى القول وقد تكون إلى الفعل "

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #307  
قديم 07-10-2024, 08:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 307)

من صــ 301 الى صـ 315






قيل: أما المعارضة بكون شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، فذاك مبني على مقدمتين، كلتاهما منفية في مسألة التشبه بهم:
إحداهما: أن يثبت أن ذلك شرع لهم، بنقل موثوق به، مثل أن يخبرنا الله في كتابه، أو على لسان رسوله، أو ينقل بالتواتر، ونحو ذلك، فأما مجرد الرجوع إلى قولهم، أو إلى ما في كتبهم، فلا يجوز بالاتفاق، والنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد استخبرهم فأخبروه، ووقف على ما في التوراة؛ فإنما ذلك لأنه لا يروج عليه باطلهم، بل الله سبحانه يعرفه ما يكذبون مما يصدقون، كما قد أخبره بكذبهم غير مرة. وأما نحن فلا نأمن أن يحدثونا بالكذب، فيكون فاسق، بل كافر قد جاءنا بنبأ فاتبعناه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم".
المقدمة الثانية: أن لا يكون في شرعنا بيان خاص لذلك، فأما إذا كان فيه بيان خاص: إما بالموافقة، أو بالمخالفة، استغني عن ذلك فيما ينهى عنه من موافقته، ولم يثبت أنه شرع لمن كان قبلنا، وإن ثبت فقد كان هدي نبينا صلى الله عليه وسلم بخلافه، وبهم أمرنا نحن أن نتبع ونقتدي، وقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم: أن يكون هدينا مخالفا لهدي اليهود والنصارى، وإنما تجيء الموافقة في بعض الأحكام العارضة، لا في الهدي الراتب، والشعار الدائم.
ثم ذلك بشرط: أن لا يكون قد جاء عن نبينا وأصحابه خلافه، أو ثبت أصل شرعه في ديننا، وقد ثبت عن نبي من الأنبياء
أصله، أو وصفه مثل: فداء من نذر أو يذبح ولده بشاة، ومثل: الختان المأمور به في ملة إبراهيم عليه السلام، ونحو ذلك. وليس الكلام فيه.
وأما حديث عاشوراء: فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه قبل استخباره لليهود وكانت قريش تصومه، ففي الصحيحين، من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت قريش تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه فلما هاجر إلى المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض شهر رمضان قال: " من شاء صامه، ومن شاء تركه" وفي رواية: " وكان يوما تستر فيه الكعبة ".
وأخرجاه من حديث هشام عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك
يوم عاشوراء " فمن شاء صامه، ومن شاء تركه".
وفيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه".
فإذا كان أصل صومه لم يكن موافقا لأهل الكتاب، فيكون قوله: "فنحن أحق بموسى منكم" توكيدا لصومه، وبيانا لليهود: أن الذي يفعلونه من موافقة موسى نحن أيضا نفعله، فنكون أولى بموسى منكم.
ثم الجواب عن هذا، وعن قوله: "كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء" من وجوه:أحدها: أن هذا كان متقدما، ثم نسخ الله ذلك، وشرع له مخالفة أهل الكتاب، وأمره بذلك، وفي متن الحديث: " أنه سدل شعره موافقة لهم، ثم فرق شعره بعد " ولهذا صار الفرق شعار المسلمين، وكان من الشروط على أهل الذمة " أن لا يفرقوا شعورهم " وهذا كما أن الله شرع له في أول الأمر استقبال بيت المقدس موافقة لأهل الكتاب، ثم نسخ ذلك، وأمر باستقبال الكعبة، وأخبر عن اليهود وغيرهم من السفهاء أنهم سيقولون: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142].
وأخبر أنهم لا يرضون عنه حتى يتبع قبلتهم، وأخبره أنه: إن اتبع أهواءهم من بعد ما جاءه من العلم ما له من الله من ولي، ولا نصير، وأخبره أن: {ولكل وجهة هو موليها} [البقرة: 148] وكذلك أخبره في موضع آخر أنه جعل لكل شرعة ومنهاجا فالشعار من جملة الشرعة.

والذي يوضح ذلك: أن هذا اليوم - عاشوراء - الذي صامه وقال: "نحن أحق بموسى منكم" قد شرع - قبيل موته - مخالفة اليهود في صومه، وأمر صلى الله عليه وسلم بذلك ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنهما، وهو الذي يقول: "وكان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء"، وهو الذي روى قوله: "نحن أحق بموسى منكم" أشد الصحابة رضي الله عنهم أمرا بمخالفة اليهود في صوم يوم عاشوراء، وقد ذكرنا أنه هو الذي روى شرع المخالفة.
وروى - أيضا - مسلم في صحيحه عن الحكم بن الأعرج قال: "انتهيت إلى ابن عباس، وهو متوسد رداءه في زمزم، فقلت له: أخبرني عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: " إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، وأصبح يوم التاسع

صائما. قلت: هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم".
وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع"، يعني يوم عاشوراء.
ومعنى قول ابن عباس: " صم التاسع "، يعني: والعاشر. هكذا ثبت عنه، وعلله بمخالفة اليهود، قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان بن عمرو بن دينار أنه سمع عطاء، سمع ابن عباس رضي الله عنهما، يقول: " صوموا التاسع والعاشر، خالفوا اليهود ".
وروينا في فوائد داود بن عمرو عن إسماعيل بن علية قال: ذكروا عند ابن أبي نجيح، أن ابن عباس كان يقول " يوم عاشوراء يوم التاسع "، فقال ابن
أبي نجيح: إنما قال ابن عباس: " أكره أن أصوم فاردا، ولكن صوموا قبله يوما، أو بعده يوما ". 50 ويحقق ذلك: ما رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء العاشر من المحرم"، قال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح ".
وروى سعيد في سننه عن هشيم، عن ابن أبي ليلى عن داود بن علي، عن أبيه، عن جده ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، صوموا يوما قبله، أو يوما بعده". ورواه أحمد، ولفظه: "صوموا قبله يوما، أو بعده يوما".

ولهذا نص أحمد على مثل ما رواه ابن عباس وأفتى به، فقال في رواية الأثرم " أنا أذهب في عاشوراء: إلى أن يصام يوم التاسع والعاشر؛ لحديث ابن عباس: "صوموا التاسع والعاشر".
وقال حرب: سألت أحمد عن صوم يوم عاشوراء، فقال: " يصوم التاسع والعاشر ".
وقال في رواية الميموني وأبي الحارث " من أراد أن يصوم عاشوراء صام التاسع والعاشر، إلا أن تشكل الشهور فيصوم ثلاثة أيام؛ ابن سيرين يقول ذلك ".
وقد قال بعض أصحابنا: إن الأفضل: صوم التاسع والعاشر، وإن اقتصر على العاشر لم يكره.
ومقتضى كلام أحمد: أنه يكره الاقتصار على العاشر؛ لأنه سئل عنه فأفتى بصوم اليومين، وأمر بذلك، وجعل هذا هو السنة لمن أراد صوم عاشوراء،

واتبع في ذلك حديث ابن عباس، وابن عباس كان يكره إفراد العاشر على ما هو مشهور عنه.
ومما يوضح ذلك: أن كل ما جاء من التشبه بهم، إنما كان في صدر الهجرة، ثم نسخ؛ ذلك أن اليهود إذ ذاك، كانوا لا يتميزون عن المسلمين لا في شعور، ولا في لباس، لا بعلامة، ولا غيرها.
ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع، الذي كمل ظهوره في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ما شرعه الله من مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدي.
وسبب ذلك: أن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه كالجهاد، وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء؛ لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا؛ شرع بذلك.
ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب؛ لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه، أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة.
فأما في دار الإسلام والهجرة، التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية، ففيها شرعت المخالفة. وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة تختلف لهم باختلاف الزمان والمكان؛ ظهرت حقيقية الأحاديث في هذا.
الوجه الثاني: لو فرضنا أن ذلك لم ينسخ، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان له أن يوافقهم؛ لأنه يعلم حقهم من باطلهم؛ بما يعلمه الله إياه، ونحن نتبعه، فأما نحن فلا يجوز لنا أن نأخذ شيئا من الدين عنهم: لا من أقوالهم، ولا من أفعالهم، بإجماع المسلمين المعلوم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو قال رجل: يستحب لنا موافقة أهل الكتاب، الموجودين في زماننا؛ لكان قد خرج عن دين الأمة.

الثالث أن نقول بموجبه: كان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم إنه أمر بمخالفتهم، وأمرنا نحن أن نتبع هديه وهدي أصحابه السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار.
والكلام إنما هو في أنا منهيون عن التشبه بهم فيما لم يكن سلف الأمة عليه، فأما ما كان سلف الأمة عليه، فلا ريب فيه؛ سواء فعلوه، أو تركوه؛ فإنا لا نترك ما أمر الله به لأجل أن الكفار تفعله مع أن الله لم يأمرنا بشيء يوافقونا عليه إلا ولا بد فيه من نوع مغايرة يتميز بها دين الله المحكم مما قد نسخ، أو بدل.
[فصل في أقسام أعمال الكفار]

فصل قد ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار، ما دل على أن التشبه بهم في الجملة منهي عنه، وأن مخالفتهم في هديهم مشروع، إما إيجابا، وإما استحبابا بحسب المواضع.
وقد تقدم بيان: أن ما أمر به من مخالفتهم: مشروع، سواء كان ذلك الفعل مما قصد فاعله التشبه بهم، أو لم يقصد، وكذلك ما نهي عنه من مشابهتهم: يعم ما إذا قصدت مشابهتهم، أو لم تقصد؛ فإن عامة هذه الأعمال لم يكن المسلمون يقصدون المشابهة فيها، وفيها ما لا يتصور قصد المشابهة فيه، كبياض الشعر، وطول الشارب، ونحو ذلك.
ثم اعلم أن أعمالهم ثلاثة أقسام:
- قسم مشروع في ديننا، مع كونه كان مشروعا لهم، أو لا يعلم أنه كان مشروعا لهم لكنهم يفعلونه الآن.
- وقسم كان مشروعا ثم نسخه شرع القرآن.
- وقسم لم يكن مشروعا بحال، وإنما هم أحدثوه.
وهذه الأقسام الثلاثة: إما أن تكون في العبادات المحضة، وإما أن تكون في العادات المحضة، وهي الآداب، وإما أن تجمع العبادات والعادات، فهذه تسعة أقسام -.
فأما القسم الأول: وهو ما كان مشروعا في الشريعتين، أو ما كان مشروعا لنا وهم يفعلونه، فهذا كصوم عاشوراء، أو كأصل الصلاة والصيام، فهنا تقع - المخالفة في صفة ذلك العمل، كما سن لنا صوم تاسوعاء وعاشوراء، كما أمرنا بتعجيل الفطور والمغرب مخالفة لأهل الكتاب، وبتأخير السحور مخالفة لأهل الكتاب.
وكما أمرنا بالصلاة في النعلين مخالفة لليهود، وهذا كثير في العبادات،
وكذلك في العادات، قال صلى الله عليه وسلم: "اللحد لنا والشق لغيرنا" وسن توجيه قبور المسلمين إلى الكعبة؛ تمييزا لها عن مقابر الكافرين، فإن أصل الدفن من الأمور المشروعة، في الأمور العادية، ثم قد اختلفت الشرائع في صفته، وهو أيضا فيه عبادات، ولباس النعل في الصلاة فيه عبادة وعادة، ونزع النعل في الصلاة شريعة كانت لموسى عليه السلام، وكذلك اعتزال الحيض ونحو ذلك من الشرائع التي جامعناهم في أصلها، وخالفناهم في وصفها.
القسم الثاني: ما كان مشروعا ثم نسخ بالكلية: كالسبت أو إيجاب صلاة، أو صوم، ولا يخفى النهي عن موافقتهم في هذا، سواء كان واجبا عليهم فيكون عبادة، أو محرما عليهم فيتعلق بالعادات، فليس للرجل أن يمتنع من أكل الشحوم وكل ذي ظفر على وجه التدين بذلك، وكذلك ما كان مركبا منهما، وهي الأعياد التي كانت مشروعة لهم، فإن العيد المشروع يجمع عبادة. وهو ما فيه من صلاة، أو ذكر، أو صدقة، أو نسك، ويجمع عادة، وهو ما يفعل فيه
من التوسع في الطعام واللباس، أو ما يتبع ذلك من ترك الأعمال الواضبة واللعب المأذون فيه في الأعياد لمن ينتفع باللعب، ونحو ذلك.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم - لما زجر أبو بكر رضي الله عنه الجويريتين عن الغناء في بيته -: "دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا، وإن هذا عيدنا" وكان الحبشة يلعبون بالحراب يوم العيد، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم.

فالأعياد المشروعة يشرع فيها - وجوبا، أو استحبابا -: من العبادات ما لا يشرع في غيرها، ويباح فيها، أو يستحب، أو يجب من العادات التي للنفوس فيها حظ، ما لا يكون في غيرها كذلك. ولهذا وجب فطر العيدين، وقرن بالصلاة في أحدهما الصدقة، وقرن بها في الآخر الذبح. وكلاهما من أسباب الطعام.
فموافقتهم في هذا القسم المنسوخ من العبادات، أو العادات، أو كلاهما: أقبح من موافقتهم فيما هو مشروع الأصل، ولهذا كانت الموافقة في هذا محرمة، كما سنذكره، وفي الأول قد لا تكون إلا مكروهة.

وأما القسم الثالث: وهو ما أحدثوه من العبادات، أو العادات،
أو كليهما فهو أقبح وأقبح؛ فإنه لو أحدثه المسلمون لقد كان يكون قبيحا، فكيف إذا كان مما لم يشرعه نبي قط؟ بل أحدثه الكافرون، فالموافقة فيه ظاهرة القبح، فهذا أصل.
وأصل آخر وهو: أن كل ما يشابهون فيه: من عبادة، أو عادة، أو كليهما هو: من المحدثات في هذه الأمة، ومن البدع، إذ الكلام في ما كان من خصائصهم، وأما ما كان مشروعا لنا، وقد فعله سلفنا السابقون: فلا كلام فيه.
فجميع الأدلة الدالة من الكتاب والسنة والإجماع على قبح البدع، وكراهتها تحريما أو تنزيها، تندرج هذه المشابهات فيها، فيجتمع فيها أنها بدع محدثة، وأنها مشابهة للكافرين، وكل واحد من الوصفين موجب للنهي؛ إذ المشابهة منهي عنها في الجملة ولو كانت في السلف! والبدع منهي عنها في الجملة، ولو لم يفعلها الكفار، فإذا اجتمع الوصفان صارا علتين مستقلتين في القبح والنهي.
(وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ... (91)
(فصل في المقدمات البرهانية التي تدل على المطلوب وأنها من أحسن جدل بالبرهان)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
الجدل إنما يشترط فيه أن يسلم الخصم المقدمات وإن لم تكن بينة معروفة فإذا كانت بينة معروفة كانت برهانية. والقرآن لا يحتج في مجادلته بمقدمة لمجرد تسليم الخصم بها كما هي الطريقة الجدلية عند أهل المنطق وغيرهم بل بالقضايا والمقدمات التي تسلمها الناس وهي برهانية وإن كان بعضهم يسلمها وبعضهم ينازع فيها ذكر الدليل على صحتها كقوله: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} فإن الخطاب لما كان مع من يقر بنبوة موسى من أهل الكتاب ومع من ينكرها من المشركين ذكر ذلك بقوله: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} وقد بين البراهين الدالة على صدق موسى في غير موضع. وعلى قراءة من قرأ يبدونها كابن كثير وأبي عمرو جعلوا الخطاب مع المشركين وجعلوا قوله: {وعلمتم ما لم تعلموا} احتجاجا على المشركين بما جاء به محمد؛ فالحجة على أولئك نبوة موسى وعلى هؤلاء نبوة محمد ولكل منهما من البراهين ما قد بين بعضه في غير موضع.
وعلى قراءة الأكثرين بالتاء هو خطاب لأهل الكتاب وقوله: {وعلمتم ما لم تعلموا} بيان لما جاءت به الأنبياء مما أنكروه فعلمهم الأنبياء ما لم يقبلوه ولم يعلموه فاستدل بما عرفوه من أخبار الأنبياء وما لم يعرفوه. وقد قص سبحانه قصة موسى وأظهر براهين موسى وآياته التي هي من أظهر البراهين والأدلة حتى اعترف بها السحرة الذين جمعهم فرعون وناهيك بذلك فلما أظهر الله حق موسى؛ وأتى بالآيات التي علم بالاضطرار أنها من الله؛ وابتلعت عصاه الحبال والعصي التي أتى

بها السحرة بعد أن جاءوا بسحر عظيم وسحروا أعين الناس واسترهبوا الناس ثم لما ظهر الحق وانقلبوا صاغرين قالوا: {آمنا برب العالمين} {رب موسى وهارون} فقال لهم فرعون: {آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى} {قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات} من الدلائل البينات اليقينية القطعية وعلى الذي فطرنا؛ وهو خالقنا وربنا الذي لا بد لنا منه لن نؤثرك على هذه الدلائل اليقينية وعلى خالق البرية {فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى}.

وقد ذكر الله هذه القصة في عدة مواضع من القرآن يبين في كل موضع منها من الاعتبار والاستدلال نوعا غير النوع الآخر كما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء متعددة كل اسم يدل على معنى لم يدل عليه الاسم الآخر وليس في هذا تكرار بل فيه تنويع الآيات مثل: أسماء النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل: محمد وأحمد؛ والحاشر والعاقب؛ والمقفى؛ ونبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة في كل اسم دلالة على معنى ليس في الاسم الآخر وإن كانت الذات واحدة فالصفات متنوعة.
وكذلك القرآن إذا قيل فيه؛ قرآن؛ وفرقان وبيان؛ وهدى وبصائر وشفاء ونور ورحمة وروح فكل اسم يدل على معنى ليس هو المعنى الآخر. وكذلك أسماء الرب تعالى إذا قيل: الملك؛ القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز؛ الجبار المتكبر الخالق البارئ؛ المصور فكل اسم يدل على معنى ليس هو المعنى الذي في الاسم الآخر فالذات واحدة والصفات متعددة فهذا في الأسماء المفردة. وكذلك في الجمل التامة يعبر عن القصة بجمل تدل على معان فيها ثم يعبر عنها بجمل أخرى تدل على معان أخر وإن كانت القصة المذكورة ذاتها واحدة فصفاتها متعددة ففي كل جملة من الجمل معنى ليس في الجمل الأخر.
وليس في القرآن تكرار أصلا وأما ما ذكره بعض الناس من أنه كرر القصص مع إمكان الاكتفاء بالواحدة وكان الحكمة فيه: أن وفود العرب كانت ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقرئهم المسلمون شيئا من القرآن فيكون ذلك كافيا وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة فلو لم يكن الآيات والقصص مثناة متكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى قوم وقصة نوح إلى قوم فأراد الله أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض وأن يلقيها إلى كل سمع. فهذا كلام من لم يقدر القرآن قدره. وأبو الفرج اقتصر على هذا الجواب في قوله: (مثاني لما قيل: لم ثنيت؟ وبسط هذا له موضع آخر فإن التثنية هي التنويع والتجنيس وهي استيفاء الأقسام ولهذا يقول من يقول من السلف: الأقسام والأمثال.
(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون (93)
وقال محمد بن إسحاق في رواية ابن بكير عنه: قال أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي بكر بن حزم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة وفرق جيوشه أمرهم أن لا يقتلوا أحدا إلا من قاتلهم إلا نفرا قد سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة " عبد الله بن خطل وعبد الله بابن أبي سرح وإنما أمر بابن أبي سرح لأنه كان قد أسلم فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فرجع مشركا ولحق بمكة فكان يقول: لهم إني لأصرفه كيف شئت أنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له: أو كذا أو كذا فيقول: نعم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "عليم حليم" فيقول له: أو أكتب "عزيز حكيم" فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلاهما سواء.

قال ابن إسحاق: حدثني شرحبيل بن سعد أن فيه نزلت: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فر إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة فغيبه عنده حتى اطمأن هل مكة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمن له فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا وهو واقف عليه ثم قال: " نعم" فانصرف به فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما صمت إلا رجاء أن يقوم إليه بعضكم فيقتله" فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله ألا أومأت إلي فأقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن النبي لا يقتل بالإشارة ".
وقال ابن إسحاق في رواية إبراهيم بن سعد عنه: حدثني بعض علمائنا أن ابن أبي سرح رجع إلى قريش فقال: والله لو أشاء لقلت كما يقول محمد وجئت بمثل ما يأتي به إنه ليقول الشيء وأصرفه إلى شيء فيقول: أصبت ففيه أنزل الله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #308  
قديم 07-10-2024, 08:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 308)

من صــ 316 الى صـ 330





قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألا يقاتلوا إلا أحدا قاتلهم إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان أسلم وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فارتد مشركا راجعا إلى قريش فقال: والله إني لأصرفه حيث أريد إنه ليملي علي فأقول أو كذا أو كذا فيقول: نعم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يملي عليه فيقول: "عزيز حكيم" أو "حكيم حليم" فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول: "كل صواب".
وروينا في مغازي معمر عن الزهري في قصة الفتح قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أصحابه بالكف وقال: "كفوا السلاح" إلا خزاعة من بكر ساعة ثم أمرهم فكفوا فآمن الناس كلهم إلا أربعة: ابن أبي سرح وابن خطل ومقيس الكناني وامرأة أخرى ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لم أحرم مكة ولكن الله حرمها وإنها لم تحل لأحد من قبلي ولا تحل لأحد بعدي إلى يوم القيامة وإنما أحلها الله لي ساعة من نهار" قال ثم جاء عثمان بن عفان بابن أبي سرح فقال: بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاءه من ناحية أخرى فقال: بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاءه أيضا فقال: بايعه يا رسول الله فمد يده فبايعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أعرضت عنه واني لأظن بعضكم سيقتله" فقال رجل من الأنصار: فهلا أومضت إلي يا رسول الله فقال: "إن النبي لا يومض" فكأنه رآه غدرا.
وفي مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم وأمرهم بقتل أربعة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح والحويرث بن نقيد وابن خطل ومقيس بن حبابة أحد بني ليث وأمر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ويقال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل النفر وأن يقتل عبد الله بن أبي سرح وكان ارتد بعد الهجرة كافرا فاختبأ حتى اطمأن الناس ثم أقبل يريد أن يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ليقوم رجل من أصحابه فيقتله فلم يقم إليه أحد ولم يشعروا بالذي في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم: لو أشرت إلي يا رسول الله ضربت عنقه فقال "إن النبي لا يفعل ذلك" ويقال: أجاره عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة وقتلت إحدى القينتين وكمنت الأخرى حتى استؤمن لها.
وذكر محمد بن عائد في مغازيه هذه القصة مثل ذلك.
وذكر الواقدي عن أشياخه قالوا: وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فربما أملى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "سميع عليم" فيكتب "عليم حكيم" فيقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:
كذاك قال الله ويقرأه فافتتن وقال: ما يدري محمد ما يقوله إني لأكتب له ما شئت هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد وخرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح فلما كان يومئذ جاء ابن أبي سرح إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة فقال: يا أخي إني والله أستجير بك فاحبسني ها هنا واذهب إلى محمد فكلمه في فإن محمدا إن رآني ضرب الذي فيه عيناي إن جرمي أعظم الجرم وقد جئت تائبا فقال عثمان: بل اذهب معي قال عبد الله: والله لئن رآني ليضربن عنقي ولا ينظرني قد أهدر دمي وأصحابه يطلبونني في كل موضع فقال عثمان:

انطلق معي فلا يقتلك إن شاء الله فلم يرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عثمان آخذا بيد عبد الله بن سعد ابن أبي سرح واقفين بين يديه فأقبل عثمان على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أمه كانت تحملني وتمشيه وترضعني وتفطمه وكانت تلطفني وتتركه فهبه لي فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل عثمان كلما أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه استقبله فيعيد عليه هذا الكلام وإنما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم إرادة أن يقوم رجل فيضرب عنقه لأنه لم يؤمنه فلما رأى أن لا يقوم أحد وعثمان قد أكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه وهو يقول:

يا رسول الله بايعه فداك أبي وأمي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم ثم التفت إلى أصحابه فقال: ما منعكم أن يقوم رجل منكم إلى هذا الكلب فيقتله أو قال الفاسق فقال عباد بن بشر: ألا أومأت إلي يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلي فأضرب عنقه ويقال: قال هذا أبو اليسر ويقال: عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني لا أقتل بالإشارة ".
وقائل يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: " إن النبي لا تكون له خائنة الأعين ".
فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما رآه فقال عثمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: بأبي وأمي لو ترى ابن أم عبد الله يفر منك كلما رآك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألم أبايعه وأومنه؟ " قال: بلى يا رسول الله ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما كان قبله" فرجع عثمان إلى ابن أبي سرح فأخبره فكان يأتي فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس.
فوجه الدلالة أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتمم له الوحي ويكتب له ما يريد فيوافقه عليه وأنه يصرفه حيث شاء ويغير ما أمره به من الوحي فيقره على ذلك وزعم أنه سينزل مثل ما أنزل الله إذ كان قد أوحي إليه في زعمه كما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كتابه والافتراء عليه بما يوجب الريب في نبوته قدر زائد على مجرد الكفر به والردة في الدين وهو من أنواع السب.
وكذلك ما افترى عليه كاتب آخر مثل هذه الفرية قصمه الله وعاقبه عقوبة خارجة عن العادة ليتبين لكل أحد افتراؤه إذ كان مثل هذا يوجب في القلوب المريضة ريبا بأن يقول القائل: كاتبه أعلم الناس بباطنه وبحقيقة أمره وقد أخبر عنه بما أخبر فمن نصر الله لرسوله أن أظهر فيه آية يبين بها أنه مفتر.
روى البخاري في صحيحه عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: "كان رجلا نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد نصرانيا فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له واعمقوا في الأرض ما استطاعوا فأصبح وقد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه".
ورواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: "كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب قال: فرفعوه قالوا: هذا قد كان يكتب لمحمد فأعجبوا به فما لبث أن قصم الله عنقه فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذا".
فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يدري إلا ما كتب له قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مرارا وهذا أمر خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله وأنه كان كاذبا إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه ومظهر لدينه ولكذب الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد.
ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه حتى إذ تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة في عرضه فعجلنا فتحة وتيسر ولم يكد يتأخر إلا يوما أو يومين أو نحو ذلك ثم يفتح المكان عنوة ويكون فيهم ملحمة عظيمة قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوا فيه.
وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده وتارة بأيدي عباده المؤمنين.
وكذلك لما تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من ابن أبي سرح أهدر دمه لما طعن في النبوة وافترى عليه الكذب مع أنه قد آمن جميع أهل مكة الذين قاتلوه وحاربوه أشد المحاربة ومع أن السنة في المرتد أنه لا يقتل حتى يستتاب إما وجوبا أو استحبابا.
وسنذكر إن شاء الله أن جماعة ارتدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعوا إلى التوبة وعرضت عليهم حتى تابوا وقبلت توبتهم.
وفي ذلك دليل على أن جرم الطاعن على الرسول صلى الله عليه وسلم الساب له أعظم من جرم المرتد ثم إن إباحة النبي صلى الله عليه وسلم دمه بعد مجيئه تائبا مسلما وقوله: "هلا قتلتموه" ثم عفوه عنه بعد ذلك دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتله وأن يعفو عنه ويعصم دمه وهو دليل على أن له صلى الله عليه وسلم أن يقتل من سبه وإن تاب وعاد إلى الإسلام.
يوضح ذلك أشياء:

منها: أنه قد روي عن عكرمة أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة وكذلك ذكر آخرون أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم بها وقد تقدم عنه أنه قال لعثمان قبل أن يقدم به على النبي صلى الله عليه وسلم: إن جرمي أعظم الجرم وقد جئت تائبا وتوبة المرتد إسلامه.
ثم إنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح وهدوء الناس وبعد ما تاب فأراد النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين أن يقتلوه حينئذ وتربص زمانا ينتظر فيه قتله ويظن أن بعضهم سيقتله وهذا دليل واضح على جواز قتله بعد إسلامه.

وكذلك لما قال له عثمان: إنه يفر منك كلما رآك قال: "ألم أبايعه وأومنه" قال: بلى ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام فقال: "الإسلام يجب ما قبله" فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن خوف القتل سقط بالبيعة والأمان وأن الإثم زال بالإسلام فعلم أن الساب إذا عاد إلى الإسلام جب الإسلام إثم السب وبقي قتله جائزا حتى يوجد إسقاط القتل ممن يملكه إن كان ممكنا.
وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر هذا في موضعه فإن غرضنا هنا أن نبين أن مجرد الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة فيه يوجب القتل في الحال التي لا يقتل فيه لمجرد الردة وإذا كان ذلك موجبا للقتل استوى فيه المسلم والذمي ولأن كل ما يوجب القتل سوى الردة يستوي فيه المسلم والذمي.
وفي كتمان الصحابة لابن أبي سرح ولإحدى القينتين دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب قتلهم وإنما أباحه مع جواز عفوه عنهم وفي ذلك دليل على أنه كان مخيرا بين القتل والعفو وهذا يؤيد أن القتل كان لحق النبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن افتراء ابن أبي سرح والكاتب الآخر النصراني على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كان يتعلم منهما افتراء ظاهر.
وكذلك قوله: "إني لأصرفه كيف شئت إنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له أو كذا أو كذا فيقول نعم" فرية ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يكتبه إلا ما أنزله الله ولا يأمره أن يكتب قرآنا إلا ما أوحاه الله إليه ولا ينصرف له كيف شاء بل ينصرف كما يشاء الله.
وكذلك قوله: "إني لأكتب له ماشئت هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد وإن محمدا إذا كان يتعلم مني فإني سأنزل مثل ما أنزل الله" فرية ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتبه ما شاء ولا كان يوحى إليه شيء.
وكذلك قول النصراني: "ما يدري محمد إلا ما كتبت له" من هذا القبيل وعلى هذا الافتراء حاق به العذاب واستوجب العقاب.
ثم اختلف أهل العلم: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أقره على أن يكتب شيئا غير ما ابتدأه النبي صلى الله عليه وسلم بإكتابه؟ وهل قال له شيئا؟ على قولين:
أحدهما: أن النصراني وابن أبي سرح افتريا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كله وأنه لم يصدر منه قول فيه إقرار على كتابة غير ما قاله أصلا وإنما لما زين لهما الشيطان الردة افتريا عليه لينفرا عنه الناس ويكون قبول ذلك منهما متوجها لأنهما فارقاه بعد خبرة وذلك أنه لم يخبر أحد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: هذا الذي قلته أو كتبته صواب وإنما هو حال الردة أخبر أنه قال له ذلك وهو إذ ذاك كافر عدو يفتري على الله ما هو أعظم من ذلك.

يبين ذلك أن الذي في الصحيح أن النصراني كان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له نعم ربما كان هو يكتب غير ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ويغيره ويزيده وينقصه فظن أن عمدة النبي صلى الله عليه وسلم على كتابته مع ما فيه من التبديل ولم يدر أن كتاب الله آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وأنه لا يغسله الماء وأن الله حافظ له وأن الله يقرئ نبيه فلا ينسى إلا ما شاء الله مما يريد رفعه ونسخ تلاوته وأن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن كل عام وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه آية أقرأها لعدد من المسلمين يتواتر نقل الآية بهم وأكثر من نقل هذه القصة من المفسرين ذكر أنه كان يملي عليه {سميعا عليما} فيكتب هو {عليما حكيما} وإذا قال:

{عليما حكيما} كتب {غفورا رحيما} وأشباه ذلك ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له شيئا.
قالوا: وإذا كان الرجل قد علم أنه من أهل الفرية والكذب حتى أظهر الله كذبه آية بينة والروايات الصحيحة المشهورة لم تتضمن إلا أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال أو أنه كتب ما شاء فقط علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له شيئا.
قالوا: وما روي في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فهو منقطع أو معلل ولعل قائله قاله بناء على أن الكاتب هو الذي قال ذلك ومثل هذا قد يلتبس الأمر فيه حتى يشتبه ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وما قيل إنه قاله رد على هذا القول فلا سؤال.
القول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له شيئا فروى الإمام أحمد وغيره من حديث حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن أنس أن رجلا كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أملى عليه {سميعا عليما} يقول: كتبت {سميعا بصيرا} قال: دعه وإذا أملى عليه "عليما حكيما" كتب "عليما حليما" قال حماد نحو ذا.
قال: وكان قد قرأ البقرة وآل عمران وكان من قرأهما فقد قرأ قرآنا كثيرا فذهب فتنصر وقال: لقد كنت أكتب لمحمد ما شئت فيقول: "دعه" فمات فدفن فنبذته الأرض مرتين أو ثلاثا قال أبو طلحة: فلقد رأيته منبوذا فوق الأرض رواه الإمام أحمد.
حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن أنس أن رجلا كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرأ البقرة وآل عمران وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا يعني عظم فكان النبي صلى الله عليه وسلم يملي عليه {غفورا رحيما} فيكتب {عليما حكيما} فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب كذا وكذا اكتب كيف شئت ويملي عليه {عليما حكيما} فيكتب {سميعا بصيرا} فيقول: اكتب كيف شئت فارتد ذلك الرجل عن الإسلام فلحق بالمشركين وقال: أنا أعلمكم بمحمد إن كنت لأكتب ما شئت فمات ذلك الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأرض لا تقبله" قال أنس: فحدثني أبو طلحة "أنه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرجل فوجده منبوذا قال أبو طلحة: ما شأن هذا الرجل؟ قالوا: قد دفناه مرارا فلم تقبله الأرض" فهذا إسناد صحيح.

وقد قال من ذهب إلى القول الأول: أعل البزار حديث ثابت عن أنس قال: رواه عنه ولم يتابع عليه ورواه حميد عن أنس قال وأظن حميدا إنما سمعه من ثابت قالوا: ثم إن أنسا لم يذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم أو شهده يقول ذلك ولعله حكى ما سمع.
وفي هذا الكلام تكلف ظاهر والذي ذكرناه في حديث ابن إسحاق والواقدي وغيرهما موافق لظاهر هذه الرواية وكذلك ذكر طائفة من أهل التفسير وقد جاءت آثار فيها بيان صفة الحال على هذا القول ففي حديث ابن إسحاق: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: {عليم حكيم} فيقول: "أو أكتب عزيز حكيم" فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم كلاهما سواء" وفي الرواية الأخرى: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يملي عليه فيقول "عزيز حكيم أو حكيم عليم" فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول: "كل صواب".

ففي هذا بيان لأن كلا الحرفين كان قد نزل وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأهما ويقول له: "اكتب كيف شئت من هذين الحرفين فكل صواب" وقد جاء مصرحا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف إن قلت عزيز حكيم أو غفور رحيم فهو كذلك ما لم يختم آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة " وفي حرف جماعة من الصحابة: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم} والأحاديث في ذلك منتشرة تدل على أن من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن أن تختم الآية الواحدة بعدة أسماء من أسماء الله على سبيل البدل يخير القارئ في القراءة بأيها شاء وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخيره أن يكتب ما شاء من تلك الحروف وربما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم بحرف من الحروف فيقول له: "أو أكتب كذا وكذا" لكثرة ما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخير بين الحرفين فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم كلاهما سواء" لأن الآية نزلت بالحرفين وربما كتب هو أحد الحرفين ثم قرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فأقره عليه لأنه قد نزل كذلك أيضا وختم الآي بمثل {سميع عليم} و {عليم حكيم} و {غفور رحيم} أو بمثل {سميع بصير} أو {عليم حكيم} أو {عليم حليم} كثير في القرآن وكان نزول الآية على عدة من هذه الحروف أمرا معتادا ثم إن الله نسخ بعض تلك الحروف لما كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرأن في كل رمضان وكانت العرضة الأخيرة هي حرف زيد بن ثابت الذي يقرأ الناس به اليوم وهو الذي جمع عثمان والصحابة رضي الله عنهم أجمعين عليه الناس ولهذا ذكر ابن عباس هذه القصة في الناسخ والمنسوخ وكذلك ذكرها الإمام أحمد في كتابه الناسخ والمنسوخ لتضمنها نسخ بعض الحروف.
وروى فيها وجه آخر رواه الإمام أحمد في الناسخ والمنسوخ: حدثنا مسكين ابن بكير ثنا معان قال: وسمعت أبا خلف يقول: كان ابن أبي سرح كتب للنبي صلى الله عليه وسلم القرآن فكان ربما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن خواتم الآي {يعملون} و {يفعلون} ونحو ذا فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب أي ذلك شئت" قال: فيوفقه الله للصواب من ذلك فأتى أهل مكة مرتدا فقالوا: يا ابن أبي سرح كيف كنت تكتب لابن أبي كبشة القرآن؟ قال: أكتبه كيف شئت قال: فأنزل الله في ذلك {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} الآية كلها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "من أخذ ابن أبي سرح فليضرب عنقه حيثما وجده وإن كان متعلقا بأستار الكعبة ".
ففي هذا الأثر أنه كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حرفين جائزين فيقول له: "اكتب أي ذلك شئت" فيوفقه الله للصواب فيكتب أحب الحرفين إلى الله وكان كلاهما منزلا أو يكتب ما أنزله الله فقط إن لم يكن الآخر منزلا وكان هذا التخيير من النبي صلى الله عليه وسلم إما توسعة إن كان الله قد أنزلهما أو ثقة بحفظ الله وعلما منه بأنه لا يكتب إلا ما أنزل وليس هذا ينكر في كتاب تولى الله حفظه وضمن أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وذكر بعضهم وجها ثالثا وهو أنه ربما كان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يمله الآية حتى لم يبق منها إلا كلمة أو كلمتان فيستدل بما قرأ منها على باقيها كما يفعله الفطن الذكي فيكتبه ثم يقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "كذلك أنزلت" كما اتفق مثل ذلك لعمر في قوله: {فتبارك الله أحسن الخالقين}.

وقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثل هذا في هذه القصة وإن كان هذا الإسناد ليس بثقة قال: عن ابن أبي سرح أنه كان تكلم بالإسلام وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحايين فإذا أملى عليه {عزيز حكيم} كتب {غفور رحيم} فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أو ذاك سواء" فلما نزلت {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله: {خلقا آخر} عجب عبد الله بن سعد فقال: {فتبارك الله أحسن الخالقين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذا أنزلت علي فاكتبها" فشك حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال فنزلت هذه الآية.
ومما ضعفت به هذه الرواية أن المشهور أن الذي تكلم بهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ومن الناس من قال قولا آخر قال: الذي ثبت في رواية أنس أنه كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم ما كتبه بعدما كتبه فيملي عليه {سميعا عليما} فيقول: كتبت {سميعا بصيرا} فيقول: "دعه" أو "اكتب كيف شئت" وكذلك في حديث الواقدي أنه كان يقول: "كذاك أنزل الله" ويقره.
قالوا: وكان النبي صلى الله عليه وسلم به حاجة إلى من يكتب لقلة الكتاب في الصحابة وعدم حضور الكتاب منهم في وقت الحاجة إليهم فإن العرب كان الغالب عليهم الأمية حتى إن كان الجو العظيم يطلب فيه كاتب فلا يوجد وكان أحدهم إذا أراد كتابة أو شقة وجد مشقة حتى يحصل له كاتب فإذا اتفق للنبي صلى الله عليه وسلم من يكتب له انتهز الفرصة في كتابته فإذا زاد كاتب أو نقص تركه لحرصه على كتابة ما يمليه ولا يأمره بتغيير ذلك خوفا من ضجره وأن يقطع الكتابة قبل إتمامها ثقة منه صلى الله عليه وسلم بأن تلك الكلمة أو الكلمتين تستدرك فيما بعد بالإلقاء إلى من يتلقنها منه أو بكتابتها تعويلا على المحفوظ عنده وفي قلبه كما قال الله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى}.
والأشبه والله أعلم هو الوجه الأول وأن هذا كان فيما أنزل القرآن فيه على حروف عدة فإن القول المرضي عند علماء السلف الذي يدل عليه عامة الأحاديث وقراءات الصحابة أن المصحف الذي جمع عثمان الناس عليه هو أحد الحروف السبعة وهو العرضة الأخيرة وأن الحروف الستة خارجة عن هذا المصحف وأن الحروف السبعة كانت تختلف الكلمة مع أن المعنى غير مختلف ولا متضاد.
الحديث العاشر: حديث القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومولاة بني هاشم وذلك مشهور مستفيض عند أهل السير وقد تقدم في حديث سعيد بن المسيب أنه صلى الله عليه وسلم "أمر بقتل فرتني".
وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري: وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم وأمر بقتل أربعة نفر قال: وأمر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: وقتلت إحدى القينتين وكمنت الأخرى حتى استؤمن لها.
وكذلك ذكر محمد بن عائد القرشي في مغازيه.

وقال ابن إسحاق في رواية ابن بكير عنه قال أبو عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي بكر بن حزم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة وفرق جيوشه أمرهم أن لا يقتلوا أحدا إلا من قاتلهم إلا نفرا قد سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة: عبد الله بن خطل" ثم قال: وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلما فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى له يخدمه وكان مسلما فنزل منزلا وأمر المولى يذبح له تيسا ويصنع له طعاما فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا وكانت له قينة صاحبتها قينة كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقتلهما معه قال: ومقيس بن حبابة بقتله الأنصاري الذي قتل أخاه وسارت مولاة لبني عبد المطلب وكانت ممن يؤذيه بمكة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #309  
قديم 07-10-2024, 08:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 309)

من صــ 331 الى صـ 345






(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103)
[فصل كلام الرافضي على إثبات الأشاعرة لرؤية الله تعالى والرد عليه]
فصل
قال الرافضي: وذهبت الأشاعرة إلى أن الله يرى بالعين، مع أنه مجرد من الجهات. وقد قال الله تعالى: {لا تدركه الأبصار} [سورة الأنعام: 103] وخالفوا الضرورة من أن المدرك بالعين يكون مقابلا أو في حكمه، وخالفوا جميع العقلاء في ذلك، وذهبوا إلى تجويز أن يكون بين أيدينا جبال شاهقة من الأرض إلى السماء مختلفة الألوان لا نشاهدها، وأصوات هائلة لا نسمعها، وعساكر مختلفة متحاربة بأنواع الأسلحة، بحيث تماس أجسامنا أجسامهم، لا نشاهد صورهم ولا حركاتهم، ولا نسمع أصواتهم الهائلة، وأن نشاهد جسما أصغر الأجسام كالذرة في المشرق ونحن في المغرب، مع كثرة الحائل بيننا وبينها، وهذا هو السفسطة.
فيقال له: الكلام على هذا من وجوه:

أحدها: أن يقال: أما إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة فهو قول سلف الأمة وأئمتها، وجماهير المسلمين من أهل المذاهب الأربعة وغيرها. وقد تواترت فيه الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند علماء الحديث، وجمهور القائلين بالرؤية يقولون: يرى عيانا مواجهة، كما هو المعروف بالعقل.
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «إنكم سترون ربكم - عز وجل - يوم القيامة كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته.» " وفي لفظ: " «كما ترون الشمس والقمر صحوا» "، وفي لفظ: " «هل تضارون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فهل تضارون في رؤية القمر صحوا ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر».

وإذا كان كذلك فتقدير أن يكون بعض أهل السنة المثبتين للرؤية أخطأوا في بعض أحكامها، لم يكن ذلك قدحا في مذهب أهل السنة والجماعة، فإنا لا ندعي العصمة لكل صنف منهم، وإنما ندعي أنهم لا يتفقون على ضلالة، وأن كل مسألة اختلف فيها أهل السنة والجماعة والرافضة فالصواب فيها مع أهل السنة، وحيث تصيب الرافضة فلا بد أن يوافقهم على الصواب بعض أهل السنة، وللروافض خطأ لا يوافقهم أحد عليه من أهل السنة، وليس للرافضة مسألة واحدة لا يوافقهم فيها أحد انفردوا بها عن جميع أهل السنة والجماعة إلا وهم مخطئون فيها كإمامة الإثني عشر وعصمتهم.
والجواب الثاني أن الذين قالوا: إن الله يرى بلا مقابلة هم الذين قالوا: إن الله ليس فوق العالم، فلما كانوا مثبتين للرؤية نافين للعلو احتاجوا إلى الجمع بين هاتين المسألتين. وهذا قول طائفة من الكلابية والأشعرية، وليس هو قولهم كلهم بل ولا قول أئمتهم، بل أئمة القوم يقولون: إن الله بذاته فوق العرش، ومن نفى ذلك منهم فإنما نفاه لموافقته المعتزلة في نفي ذلك ونفي ملزوماته، فإنهم لما وافقوهم على صحة الدليل الذي استدلت به المعتزلة على حدوث العالم، وهو أن الجسم لا يخلو عن (* الحركة والسكون، وما لا يخلو عنهما فهو حادث، لامتناع حوادث لا أول لها.
قالوا: فيلزم حدوث كل جسم، فيمتنع أن يكون *) البارئ جسما ; لأنه قديم، ويمتنع أن يكون في جهة ; لأنه لا يكون في الجهة إلا جسم، فيمتنع أن يكون مقابلا للرائي ; لأن المقابلة لا تكون إلا بين جسمين.
ولا ريب أن جمهور العقلاء من مثبتي الرؤية ونفاتها يقولون: إن هذا القول معلوم الفساد بالضرورة؛ ولهذا يذكر الرازي أن جميع فرق الأمة تخالفهم في ذلك.
لكن هم يقولون لهذا المشنع عليهم: نحن أثبتنا الرؤية ونفينا الجهة، فلا يلزم ما ذكرته، فإن أمكن رؤية المرئي لا في جهة من الرائي صح قولنا، وإن لم يكن لزم خطؤنا في إحدى المسألتين: إما في نفي الرؤية وإما في نفي مباينة الله لخلقه وعلوه عليهم.
وإذا لزم الخطأ في إحداهما، لم يتعين الخطأ في نفي الرؤية، بل يجوز أن يكون الخطأ في نفي العلو والمباينة، وليست موافقتنا لك حجة لك، فليس تناقضنا دليلا على صواب قولك في نفي علو الله على خلقه، بل الرؤية ثابتة بالنصوص المستفيضة وإجماع السلف، مع دلالة العقل عليها.

وحينئذ فلازم الحق حق. ونحن إذا أثبتنا هذا الحق ونفينا بعض لوازمه، كان هذا التناقض أهون من نفي الحق ولوازمه. وأنتم نفيتم الرؤية ونفيتم العلو والمباينة، فكان قولكم أبعد عن المعقول والمنقول من قولنا، وقولنا أقرب من قولكم، وإن كان في قولنا تناقض فالتناقض في قولكم أكثر ومخالفتكم لنصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة (8 أظهر، وهذا بين؛ فإن ما في النصوص الإلهية ونصوص سلف الأمة 8) من إثبات الصفات والرؤية وعلو الله متواتر مستفيض.
والنفاة لا يستندون لا إلى كتاب ولا إلى سنة ولا إلى إجماع بل عارضوا برأيهم الفاسد ما تواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.

وأما التناقض فإن هؤلاء النفاة للرؤية يقولون: إنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له، ولا يقرب من شيء، ولا يقرب منه شيء، ولا يراه أحد، ولا يحجب عن رؤيته شيء دون شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل من عنده شيء، إلى أمثال ذلك.
وإذا قيل لهم: هذا مخالف للعقل، وهذا صفة المعلوم المعدوم الممتنع وجوده.
قالوا: هذا النفي من حكم الوهم.
فيقال لهم: إذا عرض على العقل موجود ليس بجسم قائم بنفسه يمكن رؤيته كان العقل قابلا لهذا لا ينكره. فإذا قيل مع ذلك: إنه يرى بلا مواجهة، فإن قيل: هذا ممكن، بطل قولهم. وإن قيل: هذا مما يمنعه العقل. قيل: منع العقل لما جعلتموه موجودا واجبا أعظم.
فإن قلتم: إنكار ذلك من حكم الوهم.
قيل لكم: وإنكار هذا حينئذ أولى أن يكون من حكم الوهم.
وإن قلتم: بل هذا الإنكار من حكم العقل.
قيل لكم: وذلك الإنكار من حكم العقل بطريق الأولى.
فإنكم تقولون: حكم الوهم الباطل أن يحكم فيما ليس بمحسوس بحكم المحسوس، وحينئذ إذا قلتم: إن البارئ تعالى غير محسوس يمكن أن تقبلوا فيه الحكم الذي يمتنع في المحسوس وهو امتناع الرؤية بدون المقابلة.

وإن قلتم: إنه محسوس أي يمكن الإحساس به لم يبطل فيه حكم الوهم، فامتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه، وحينئذ فيجوز رؤيته.
وإن قلتم: إذا كان غير محسوس فهو غير مرئي.
قيل: إن أردتم بالمحسوس الحس المعتاد فالرؤية التي يثبتها مثبتة الرؤية بلا مقابلة ليست هي الرؤية المعتادة، بل هي رؤية لا نعلم صفتها، كما أثبتم وجود موجود لا نعلم صفته، فكل ما تلزمونهم به من الشناعات والمناقضات يلزمكم أكثر منه.
الجواب الثالث: أن يقال: أهل الحديث والسنة المحضة متفقون على إثبات العلو والمباينة وإثبات الرؤية، وحينئذ فمن أثبت أحدهما ونفى الآخر أقرب إلى الشرع والعقل (* ممن نفاهما جميعا.
فالأشعرية الذين أثبتوا الرؤية ونفوا الجهة أقرب إلى الشرع والعقل *) من المعتزلة والشيعة الذين نفوهما. أما كونهم أقرب إلى الشرع فلأن الآيات والأحاديث والآثار المنقولة عن الصحابة في دلالتها على العلو وعلى الرؤية أعظم من أن تحصر، وليس مع نفاة الرؤية والعلو ما يصلح أن يذكر من الأدلة الشرعية، وإنما يزعمون أن عمدتهم العقل.
فنقول: قول الأشعرية المتناقضين خير من قول هؤلاء، وذلك أنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود لا يشار إليه ولا يقرب منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا ترفع إليه الأيدي، ونحو ذلك - كانت الفطرة منكرة لذلك. والعقلاء جميعهم الذين لم تتغير فطرتهم ينكرون ذلك، ولا يقر بذلك إلا من لقن أقوال النفاة وحجتهم وإلا فالفطر السليمة متفقة على إنكار ذلك أعظم من إنكار خرق العادات ; لأن العادات يجوز انخراقها باتفاق أهل الملل وموافقة عقلاء الفلاسفة لهم على ذلك.

فنقول: إن كان قول النفاة حقا مقبولا في العقل فإثبات وجود الرب على العرش من غير أن يكون جسما أقرب إلى العقل وأولى بالقبول. وإذا ثبت أنه فوق العرش، فرؤية ما هو فوق الإنسان وإن لم يكن جسما أقرب إلى العقل وأولى بالقبول. من إثبات قول النفاة. فتبين أن الرؤية على قول هؤلاء أقرب إلى العقل من قول النفاة، وإذا قدر أن هذا خلاف المعتاد، فتجويز انخراق العادة أولى من قول النفاة، فإن قول النفاة ممتنع في فطر العقلاء لا يمكن جوازه، وأما انخراق العادة فجائز.
الجواب الرابع: أن الأشعرية تقول: إن الله قادر على أن يخلق بحضرتنا ما لا نراه ولا نسمعه من الأجسام والأصوات، وأن يرينا ما بعد منا، لا يقولون: إن هذا واقع، بل يقولون: إن الله قادر عليه وليس كل ما كان قادرا عليه يشكون في وقوعه، بل يعلمون أن هذا ليس واقعا الآن، وتجويز الوقوع غير الشك في الوقوع.

وعبارة هذا الناقل تقتضي أنهم يجوزون أن يكون هذا الآن موجودا ونحن لا نراه، وهذا لا يقوله عاقل، ولكن هذا قيل لهم بطريق الإلزام. قيل [لهم]: إذا جوزتم الرؤية في غير جهة، فجوزوا هذا. فقالوا: نعم نجوز. كما أنهم يقولون: رؤية الله جائزة في الدنيا، أي: هو قادر على أن يرنا نفسه، وهم يعلمون مع هذا أن أحدا من الناس لا يرى الله في الدنيا إلا ما تنوزع فيه من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه، ومن شك منهم في وقوع الرؤية في الدنيا فلجهله بالأدلة النافية لذلك.
وقد ذكر الأشعري في وقوع الرؤية بالأبصار في الدنيا لغير النبي - صلى تعالى عليه وسلم - قولين؛ لكن الذي عليه أهل السنة قاطبة أن الله لم يره أحد بعينيه في الدنيا.
وقد ذكر الإمام أحمد وغيره اتفاق السلف على هذا [النفي] وأنهم لم يتنازعوا إلا في النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة. وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت» ". مضى هذا الحديث من قبل في هذا الكتاب 2 - 516، 612.
وقد سأل موسى - عليه السلام - الرؤية فمنعها، فلا يكون آحاد الناس أفضل من موسى. وفي الجملة ليس كل ما قال قائل: " إنه ممكن مقدور " يشك في وقوعه.
فالأشعرية ومن وافقهم من أتباع الشافعي ومالك وأحمد - وإن كانوا يقولون بجواز أمور ممتنعة في العادة في الرؤية - فيقولون: إنه لا حجاب بين الله وبين العبد إلا عدم خلق الرؤية في العين، وكذلك يقولون في سائر المرئيات.
فكانوا ينفون أن يكون في العين قوة امتازت بها فحصلت بها الرؤية، ويمنعون أن يكون بين الأسباب ومسبباتها ملازمة، وأن يكون بين الموانع وممنوعاتها ممانعة، ويجعلون ذلك كله عادة محضة استندت إلى محض المشيئة، ويجوزون خرقها بمحض المشيئة.

فهم يقولون: إنا نعلم انتفاء كثير مما يعلم إمكانه كما نعلم أن البحر لم ينقلب دما، ولا الجبال ياقوتا، ولا الحيوانات أشجارا، بل يجعلون العلم بمثل هذا من العقل الذي يتميز به العاقل عن المجنون، وهم وإن كانوا يتناقضون وفي قولهم ما هو باطل عقلا ونقلا فأقوالهم في القدر والصفات والرؤية خير من أقوال المعتزلة وموافقيهم من الشيعة وإن كان الصواب هو ما عليه السلف وأئمة السنة وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور كبار أصحابهم والنصوص المأثورة في ذلك عن الأئمة المذكورين في غير هذا الموضع.
والبيان التام هو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أعلم الخلق بالحق وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق في بيان الحق، فما بينه من أسماء الله وصفاته وعلوه ورؤيته هو الغاية في هذا الباب، والله الموفق للصواب.

(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون (108)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" وقوله فيما يروي عن ربه عز وجل: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" فإن من سب الدهر من الخلق لم يقصد سب الله سبحانه وإنما يقصد أن يسب من فعل به ذلك الفعل مضيفا له إلى الدهر فيقع السب على الله لأنه هو الفاعل في الحقيقة وسواء قلنا أنه الدهر اسم من أسماء الله تعالى كما قال نعيم بن حماد أو قلنا إنه ليس باسم وإنما قوله:
"أنا الدهر" أي أنا الذي أفعل ما ينسبونه إلى الدهر ويوقعون السب عليه كما قاله أبو عبيدة والأكثرون ولهذا لا يكفر من سب الدهر ولا يقتل لكن يؤدب ويعزر لسوء منطقه والسب المذكور في قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} قد قيل: إن المسلمين كانوا إذا سبوا آلهة الكفار سب الكفار من يأمرهم بذلك وإلههم الذين يعبدونه معرضين عن كونه ربهم وإلههم فيقع سبهم على الله لأنه إلهنا ومعبودنا فيكونوا سابين لموصوف وهو الله سبحانه ولهذا قال سبحانه: {عدوا بغير علم} وهو شبيه بسب الدهر من بعض الوجوه وقيل: كانوا يصرحون بسب الله عدوا وغلوا وفي الكفر قال قتادة: "كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسب الكفار الله بغير علم فانزل الله: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} " وقال أيضا: "كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوما جهلة لا علم لهم بالله" وذلك أنه في اللجاجة أن يسب الجاهل من يعظمه مراغمة لعدوه إذا كان يعظمه أيضا كما قال بعض الحمقى:
سبوا عليا كما سبوا عتيقكم ... كفرا بكفر وإيمانا بإيمان
وكما يقول بعض الجهال: مقابلة الفاسد بمثله وكما قد تحمل بعض جهال المسلمين الحمية على أن يسب عيسى إذا جاهره المحاربون بسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من الموجبات للقتل.
(قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون (109)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ.
منها قوله: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} والآية بعدها. أشكلت قراءة الفتح على كثير بسبب أنهم ظنوا أن الآية بعدها جملة مبتدأة وليس كذلك؛ لكنها داخلة في خبر أن. والمعنى: إذا كنتم لا تشعرون أنها إذا جاءت لا يؤمنون وأنا أفعل بهم هذا: لم يكن قسمهم صدقا؛ بل قد يكون كذبا وهو ظاهر الكلام المعروف أنها " أن " المصدرية ولو كان (ونقلب) إلخ. كلاما مبتدأ لزم أن كل من جاءته آية قلب فؤاده وليس كذلك بل قد يؤمن كثير منهم.
(وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

وأخبر في غير موضع أن الرسالة عمت جميع بني آدم؛ فهذه الأصول الثلاثة: توحيد الله والإيمان برسله وباليوم الآخر أمور متلازمة؛ ولهذا قال - سبحانه -: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن} إلى قوله: {وليقترفوا ما هم مقترفون} فأخبر أن جميع الأنبياء لهم أعداء وهم شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف وهو: المزين المحسن يغرون به والغرور: التلبيس والتمويه وهذا شأن كل كلام وكل عمل يخالف ما جاءت به الرسل من أمر المتكلمة وغيرهم من الأولين والآخرين ثم قال: {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة} فعلم أن مخالفة الرسل وترك الإيمان بالآخرة متلازمان فمن لم يؤمن بالآخرة أصغى إلى زخرف أعدائهم فخالف الرسل كما هو موجود في أصناف الكفار والمنافقين في هذه الأمة وغيرها.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #310  
قديم 07-10-2024, 08:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 310)

من صــ 346 الى صـ 360






(أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين (114)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
و " المقصود هنا " أن قوله {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا} يتناول نزول القرآن العربي على كل قول. وقد أخبر: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} إخبار مستشهد بهم لا مكذب لهم. وقال إنهم يعلمون ذلك ولم يقل إنهم يظنونه أو يقولونه والعلم لا يكون إلا حقا مطابقا للمعلوم بخلاف القول والظن الذي ينقسم إلى حق وباطل؛ فعلم أن القرآن العربي منزل من الله لا من الهواء ولا من اللوح ولا من جسم آخر ولا من جبريل ولا من محمد ولا غيرهما وإذا كان أهل الكتاب يعلمون ذلك فمن لم يقر بذلك من هذه الأمة كان أهل الكتاب المقرون بذلك خيرا منه من هذا الوجه. وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره من السلف في تفسير قوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} أنه أنزله إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزله بعد ذلك منجما مفرقا بحسب الحوادث ولا ينافي أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزوله كما قال تعالى: {بل هو قرآن مجيد} {في لوح محفوظ} وقال تعالى: {إنه لقرآن كريم} {في كتاب مكنون} {لا يمسه إلا المطهرون}. وقال تعالى: {كلا إنها تذكرة} {فمن شاء ذكره} {في صحف مكرمة} {مرفوعة مطهرة} {بأيدي سفرة} {كرام بررة} وقال تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}
فإن كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ. وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله. والله تعالى يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون وهو سبحانه قد قدر مقادير الخلائق وكتب أعمال العباد قبل أن يعملوها كما ثبت ذلك في صريح الكتاب والسنة وآثار السلف ثم إنه يأمر الملائكة بكتابتها بعد ما يعملونها؛ فيقابل به الكتابة المتقدمة على الوجود والكتابة المتأخرة عنه فلا يكون بينهما تفاوت هكذا قال ابن عباس وغيره من السلف - وهو حق - فإذا كان ما يخلقه بائنا منه قد كتبه قبل أن يخلقه فكيف يستبعد أن يكتب كلامه الذي يرسل به ملائكته قبل أن يرسلهم به.
(وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم (115)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:

قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} ذكر هذا بعد قوله: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} {أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين} ثم قال: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} وقال تعالى: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا}. فأخبر في هاتين الآيتين أنه لا مبدل لكلمات الله وأخبر في الأولى أنها تمت صدقا وعدلا. وقد تواتر {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ ويأمر بالاستعاذة بكلمات الله التامات وفي بعض الأحاديث التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر}. وقال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} {الذين آمنوا وكانوا يتقون} {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم}.

وقال تعالى: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين} فأخبر في هذه الآية أيضا أنه لا مبدل لكلمات الله؛ عقب قوله: {فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا} وذلك بيان أن وعد الله الذي وعده رسله من كلماته التي لا مبدل لها لما قال في أوليائه: {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله} فإنه ذكر أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة. فوعدهم بنفي المخافة والحزن وبالبشرى في الدارين. وقال بعد ذلك: {ولا مبدل لكلمات الله} فكان في هذا تحقيق كلام الله الذي هو وعده.
كما قال: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله}. وقال: {وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. وقال المؤمنون: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد}. فإخلاف ميعاده تبديل لكلماته - وهو سبحانه لا مبدل لكلماته. يبين ذلك قوله تعالى {لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد} {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} فأخبر سبحانه أنه قدم إليهم بالوعيد وقال: {ما يبدل القول لدي} وهذا يقتضي أنه صادق في وعيده أيضا وأن وعيده لا يبدل.
وهذا مما احتج به القائلون بأن فساق الملة لا يخرجون من النار. وقد تكلمنا عليهم في غير هذا الموضع؛ لكن هذه الآية تضعف جواب من يقول: إن إخلاف الوعيد جائز. فإن قوله: {ما يبدل القول لدي} بعد قوله: {وقد قدمت إليكم بالوعيد} دليل على أن وعيده لا يبدل كما لا يبدل وعده. لكن التحقيق الجمع بين نصوص الوعد والوعيد وتفسير بعضها ببعض من غير تبديل شيء منها كما يجمع بين نصوص الأمر والنهي من غير تبديل شيء منها. وقد قال تعالى: {سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله} والله أعلم.
(ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (121)
وقال شيخ الإسلام - قدس الله روحه -:
فصل:
و " التسمية على الذبيحة " مشروعة؛ لكن قيل: هي مستحبة كقول الشافعي. وقيل: واجبة مع العمد وتسقط مع السهو كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه. وقيل: تجب مطلقا؛ فلا تؤكل الذبيحة بدونها سواء تركها عمدا أو سهوا كالرواية الأخرى عن أحمد اختارها أبو الخطاب وغيره وهو قول غير واحد من السلف. وهذا أظهر الأقوال؛ فإن الكتاب والسنة قد علق الحل بذكر اسم الله في غير موضع كقوله: {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} وقوله {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} وفي الصحيحين أنه قال: " {ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا} وفي الصحيح أنه قال لعدي: " {إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فقتل فكل وإن خالط كلبك كلاب آخر فلا تأكل؛ فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره}.

وثبت في الصحيح أن الجن سألوه الزاد لهم ولدوابهم فقال: " {لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علفا لدوابكم} قال النبي صلى الله عليه وسلم " {فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما زاد إخوانكم من الجن} فهو صلى الله عليه وسلم لم يبح للجن المؤمنين إلا ما ذكر اسم الله عليه؛ فكيف بالإنس؛ ولكن إذا وجد الإنسان لحما قد ذبحه غيره جاز له أن يأكل منه ويذكر اسم الله عليه؛ لحمل أمر الناس على الصحة والسلامة كما ثبت في الصحيح {أن قوما قالوا يا رسول الله إن ناسا حديثي عهد بالإسلام يأتون باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا؟ فقال: سموا أنتم وكلوا}
وسئل - رحمه الله تعالى -:

عن " الذبيحة " التي يتيقن أنه ما سمي عليها: هل يجوز أكلها؟ وهل تنجس الأواني؟
فأجاب:
الحمد لله، " التسمية " عليها واجبة بالكتاب والسنة وهو قول جمهور العلماء؛ لكن إذا لم يعلم الإنسان هل سمى الذابح أم لم يسم أكل منها وإن تيقن أنه لم يسم لم يأكل وكذلك الأضحية.
(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (125)
فصل:
وقد ذكر الله في كتابه الفرق بين " الإرادة " و " الأمر " و " القضاء " و " الإذن " و " التحريم " و " البعث " و " الإرسال " و " الكلام " و " الجعل ": بين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه؛ وإن كان لم يأمر به ولا يحبه ولا يثيب أصحابه ولا يجعلهم من أوليائه المتقين وبين الديني الذي أمر به وشرعه وأثاب عليه وأكرمهم وجعلهم من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين؛ وهذا من أعظم الفروق التي يفرق بها بين أولياء الله وأعدائه فمن استعمله الرب سبحانه وتعالى فيما يحبه ويرضاه ومات على ذلك كان من أوليائه ومن كان عمله فيما يبغضه الرب ويكرهه ومات على ذلك كان من أعدائه. فـ " الإرادة الكونية " هي مشيئته لما خلقه وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته وإرادته الكونية والإرادة الدينية هي المتضمنة لمحبته ورضاه المتناولة لما أمر به وجعله شرعا ودينا.
وهذه مختصة بالإيمان والعمل الصالح قال الله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} وقال نوح عليه السلام لقومه: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} وقال تعالى: {وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} وقال تعالى في الثانية: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقال في آية الطهارة: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} ولما ذكر ما أحله وما حرمه من النكاح قال: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم} {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما}
{يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} وقال لما ذكر ما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نهاهم عنه: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}

والمعنى أنه أمركم بما يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا فمن أطاع أمره كان مطهرا قد أذهب عنه الرجس بخلاف من عصاه. وأما " الأمر " فقال في الأمر الكوني: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} وقال تعالى: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} وقال تعالى: {أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس}
وأما: الأمر الديني: فقال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} وقال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا} وأما " الإذن " فقال في الكوني لما ذكر السحر: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} أي بمشيئته وقدرته؛ وإلا فالسحر لم يبحه الله عز وجل. وقال في " الإذن الديني ":

{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وقال تعالى: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} {وداعيا إلى الله بإذنه} وقال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} وقال تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله}.
وأما " القضاء " فقال في الكوني: {فقضاهن سبع سماوات في يومين} وقال سبحانه: {إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} وقال في الديني:
{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} أي أمر وليس المراد به قدر ذلك فإنه قد عبد غيره كما أخبر في غير موضع كقوله تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} وقول الخليل عليه السلام لقومه: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} {أنتم وآباؤكم الأقدمون} {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} وقال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء} وقال تعالى: {قل يا أيها الكافرون} {لا أعبد ما تعبدون} {ولا أنتم عابدون ما أعبد} {ولا أنا عابد ما عبدتم} {ولا أنتم عابدون ما أعبد} {لكم دينكم ولي دين} وهذه كلمة تقتضي براءته من دينهم ولا تقتضي رضاه بذلك؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون}.
ومن ظن من الملاحدة أن هذا رضا منه بدين الكفار فهو من أكذب الناس وأكفرهم كمن ظن أن قوله {وقضى ربك} بمعنى قدر وأن الله سبحانه ما قضى بشيء إلا وقع وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله؛ فإن هذا من أعظم الناس كفرا بالكتب.
وأما لفظ " البعث " فقال تعالى في البعث الكوني: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا} وقال في البعث الديني: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}. وأما لفظ " الإرسال " فقال في الإرسال الكوني: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا} وقال تعالى: {وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} وقال في الديني {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} وقال تعالى: {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه} وقال تعالى: {إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا} وقال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس}.
وأما لفظ " الجعل " فقال في الكوني: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} وقال في الديني: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} وقال تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام}.
وأما لفظ " التحريم " فقال في الكوني: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} وقال تعالى: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض} وقال في الديني {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به} وقال تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت} الآية.
وأما لفظ " الكلمات " فقال في الكلمات الكونية {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " {أعوذ بكلمات الله التامة كلها من شر ما خلق ومن غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون} " وقال صلى الله عليه وسلم " {من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك} " وكان يقول: " {أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن} ".
و " {كلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر} " هي التي كون بها الكائنات فلا يخرج بر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته وقدرته.
وأما " كلماته الدينية " وهي كتبه المنزلة وما فيها من أمره ونهيه فأطاعها الأبرار وعصاها الفجار. وأولياء الله المتقون هم المطيعون لكلماته الدينية وجعله الديني وإذنه الديني وإرادته الدينية. وأما كلماته الكونية التي لا يجاوزها بر ولا فاجر؛ فإنه يدخل تحتها جميع الخلق حتى إبليس وجنوده وجميع الكفار وسائر من يدخل النار فالخلق وإن اجتمعوا في شمول الخلق والمشيئة والقدرة والقدر لهم فقد افترقوا في الأمر والنهي والمحبة والرضا والغضب. وأولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور وتركوا المحظور وصبروا على المقدور فأحبهم وأحبوه ورضي عنهم ورضوا عنه. وأعداؤه أولياء الشياطين وإن كانوا تحت قدرته فهو يبغضهم ويغضب عليهم ويلعنهم ويعاديهم. وبسط هذه الجمل له موضع آخر وإنما كتبت هنا تنبيها على مجامع " الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان "

وجمع الفرق بينهما اعتبارهم بموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي فرق الله تعالى به بين أوليائه السعداء وأعدائه الأشقياء وبين أوليائه أهل الجنة وأعدائه أهل النار وبين أوليائه أهل الهدى والرشاد وبين أعدائه أهل الغي والضلال والفساد وأعدائه حزب الشيطان وأوليائه الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.
سؤال عن القدر
أورده أحد علماء الذميين فقال:

أيا علماء الدين ذمي دينكم ... تحير دلوه بأوضح حجة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
دعاني وسد الباب عني، فهل إلى ... دخولي سبيل بينوا لي قضيتي
قضى بضلالي ثم قال ارض بالقضا ... فما أنا راض بالذي فيه شقوتي
فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا ... فربي لا يرضى بشؤم بليتي
فهل لي رضا ما ليس يرضاه سيدي ... فقد حرت دلوني على كشف حيرتي
إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة ... فهل أنا عاص في اتباع المشيئة
وهل لي اختيار أن أخالف حكمه ... فبالله فاشفوا بالبراهين علتي
فأجاب شيخ الإسلام الشيخ الإمام العالم العلامة أحمد ابن تيمية مرتجلا:
الحمد لله رب العالمين.
سؤالك يا هذا سؤال معاند ... مخاصم رب العرش باري البرية
فهذا سؤال خاصم الملأ العلا ... قديما به إبليس أصل البلية
ومن يك خصما للمهيمن يرجعن ... على أم رأس هاويا في الحفيرة
ويدعى خصوم الله يوم معادهم ... إلى النار طرا معشر القدرية
سواء نفوه، أو سعوا ليخاصموا ... به الله أو ماروا به للشريعة
وأصل ضلال الخلق من كل فرقة ... هو الخوض في فعل الإله بعلة
فإنهمو لم يفهموا حكمة له ... فصاروا على نوع من الجاهلية
فإن جميع الكون أوجب فعله ... مشيئة رب الخلق باري الخليقة
وذات إله الخلق واجبة بما ... لها من صفات واجبات قديمة
مشيئته مع علمه ثم قدرة ... لوازم ذات الله قاضي القضية
وإبداعه ما شاء من مبدعاته ... بها حكمة فيه وأنواع رحمة
ولسنا إذا قلنا جرت بمشيئة ... من المنكري آياته المستقيمة
بل الحق أن الحكم لله وحده ... له الخلق والأمر الذي في الشريعة
هو الملك المحمود في كل حالة ... له الملك من غير انتقاص بشركة
فما شاء مولانا الإله فإنه ... يكون وما لا لا يكون بحيلة
وقدرته لا نقص فيها وحكمه ... يعم فلا تخصيص في ذي القضية

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 284.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 278.37 كيلو بايت... تم توفير 5.80 كيلو بايت...بمعدل (2.04%)]