|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (1) باب: أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ اعداد: الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. 235.عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّل؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى» قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ، فَصَلِّ، فَهُوَ مَسْجِدٌ».وبعد: فهذا تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. الشرح: قال المنذري: باب: أول مسجد وضع في الأرض، وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم ( 1/370 ) في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة. من حديث أبي ذر، وهو جُندب بن جنادة على الأصح، الغفاري، من بني غفار، الصحابي المشهور، مناقبه كثيرة جدا، مات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان. قال: «قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟» يعني: أي المساجد بُني في الأرض أولاً للصلاة فيه، والتعبد لله تعالى فيه، فتغفر لهم ذنوبهم، وترفع درجاتهم، ثم للطواف به، وللتوجه إليه واتخاذه قبلة. فقال صلى الله عليه وسلم : «المسجد الحرام» ومعلوم بالاتفاق أن المسجد الحرام هو الذي بمكة، كما قال الله تبارك وتعالى مخبرا عن شرف البيت وفضله: {إنّ أولَ بيتٍ ُوضع للناس للذي ببكة مباركاً وهُدى للعالمين فيه آياتٌ بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حجُ البيت من استطاعَ إليه سبيلاً ومنْ كفَرَ فإن الله غنيٌ عن العالمين} (آل عمران: 96-97). وبكة من أسماء مكة {مباركا} أي: كثير البركة والمنفعة، الدينية والدنيوية {وهدى للعالمين} أي فيه هداية للناس علماً وعملا، فكم من الناس من اهتدى بزيارة البيت الحرام، بل من رؤيته ومشاهدته. ونبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو باني المسجد الحرام، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام نبيٌ يعظمه اليهود والنصارى ويحترمونه ويحبونه، وله عندهم جميعا قدرٌ ومنزلة في التوراة والإنجيل، ومع ذلك فإنهم لا يحجون البيت الذي بناه؟؟ ولا يتوجهون إليه، ولا يستقبلونه في صلاتهم؟؟!! وهذا من تناقضاتهم الكثيرة!! مع أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض، ليتعبّد فيه لله وللصلاة والذكر، فله السبقُ على جميع بيعهم وكنائسهم التي يعظمونها ويعمرونها. قوله: «قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى» أي المسجد الأقصى الذي هو ببيت المقدس والذي يسمى أيضا: بإلياء، هوالمسجد الثاني الذي بني في الأرض، وسمي بالمسجد الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقد بناه نبي الله يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وجدّد بناءه نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام كما صح في الحديث. قال: «قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة» أي: كم المدة بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى - حرّره الله من أيدي اليهود الغاصبين – قال: بينهما أربعون سنة. قوله «وأينما أدركتك الصلاة فصلّ، فهو مسجد» هذا دليل على جواز الصلاة في جميع بقاع الأرض، إلا ما استثناه الشرع المطهر، من الصلاة في المقابر والمواضع النجسة ونحوها، فقد ورد النهي عن الصلاة في المقابر في قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تَجلسوا على القُبور، ولا تُصلّوا إليها، ولا عليها» رواه الإمام مسلم. وكذلك ورد النهي عن الصلاة في معاطن الإبل، أي في مبارك الإبل، والنهي عن الصلاة في أعطان الإبل وفي الحمام، لأنه موضع تحضره الشياطين، والحمام هو الموضع الذي يغتسل فيه، وليس هو موضع قضاء الحاجة، وكذا النهي عن الصلاة في المواضع النجسة كالمزبلة أو ما شابهها، فهذه مواضع لا يصح الصلاة فيها. وكذلك ما ورد من النهي عن الصلاة فيه أو كراهية الصلاة فيه كالصلاة في الأماكن التي فيها تصاوير أو أصنام أو صلبان، هذا كله يدل على الكراهة. قال عمر لبعض عظماء النصارى: «إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور» رواه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة عند الحديث رقم 434. ووصله عبد الرزاق. وفيه أيضا: وكان ابن عباس رضي الله عنهما يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تمثال. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 1/ 532: وصله البغوي في الجعديات، وزاد فيه: «فإن كان فيها تماثيل خرج فصلى في المطر». قال أهل العلم: لا بأس بالصلاة في الكنيسة، ولا يصلي إلى الصور، هذا إذا لم يجد مكاناً يصلي فيه غيرها. قال الشوكاني: وهذا الحديث يدل على جواز تحويل أماكن الكنائس إلى مساجد، وتدل الآثار على جواز الصلاة في الكنائس، ولا يُصلَّى إلى الصور، ولا في مكان نجس (انظر: نيل الأوطار 1/ 687). وجَعْل الأرض كلها مسجدا وطهورا للأمة أينما كانوا، هو من خصائص أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ومما فضلت به الأمة الإسلامية، خلافا لأهل الكتاب، فإنهم لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم، فلا يصلي أحدهم إلا بالمكان المخصص للصلاة فقط. وأيضا فمن فضل الله تعالى على أمة محمد أن الله عز وجل جعل لهم الأرض كلها طهورا، فإذا فقدت الماء يمكنك أن تستعمل الصعيد الطيب من الأرض، فتتيمم بصعيد الأرض، يعني ما صعد على سطحها من التراب الطاهر ثم تصلي، فحيثما أدركتك الصلاة فعندك مسجدك وعندك طهورك، فلله الحمد حمدا كثيرا طيبا. 41-باب: ابتناء مسجد النبي 238.عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى مَلَأ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِينَ بِسُيُوفِهِمْ، قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلَأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِالْمَسْجِدِ، قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَى مَلَأِ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا، فَقَالَ: «يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا» قَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، قَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ، كَانَ فِيهِ نَخْلٌ وَقُبُورُ الْمُشْرِكِينَ وَخِرَبٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، وَبِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، قَالَ: فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةً، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً، قَالَ: فَكَانُوا يَرْتَجِزُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ، فَانْصُر الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَه ْ». الشرح: قال المنذري: باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم . والإمام مسلم رواه في الباب المتقدم. وهذا الحديث فيه قصة بناء مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة النبوية، يقول أنس رضي الله عنه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم للمدينة» يعني مهاجرا من مكة «فنزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو ابن عوف» وهم من سكان المدينة. «فأقام فيهم صلى الله عليه وسلم أربع عشرة ليلة في بيت أبي أيوب الأنصاري»، لأنه صلى الله عليه وسلم لما جاء على راحلته قال لهم: «دعوها فإنها مأمورة» أي فحيثما تبرك فسأنزل، فبركت الناقة عند بيت أبي أيوب رضي الله عنه فنزل عنده صلى الله عليه وسلم ضيفا، وأقام في غرفة له في علو البيت أربع عشرة ليلة. قوله: «ثم أرسل إلى ملأ بني النجار» والملأ هم الأشراف والسادة من بني النجار، وبنو النجار أخوال النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنّ أم النبي صلى الله عليه وسلم آمنة بن وهب ترجع إلى بني النجار. قوله: «فجاءوا: يعني أشراف بني النجار جاءوا متقلدين سيوفهم» أي جاءوا وقد لبسوا السيوف، وهذا يدل على النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنهم جاءوا مستعدين لكل ما يطلبه منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى ولو طلب منهم أرواحهم والقتال عنه لفعلوا. قوله: «فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب» فيه: جواز الارتداف على الدابة، فإذا كانت الدابة تطيق أن يركبها اثنان جاز ذلك. قوله: «فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم» وهذا دليل على جواز الصلاة في مرابض الغنم، وهي الأماكن التي تبيت بها الغنم وتضع أجسادها عليها تسمى بالمرابض، وفيه دليل لطهارة بولها وروثها، وهو قول عامة أهل العلم، أن ما يؤكل لحمه فبوله وروثه طاهر. وإنما منع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة في معاطن الإبل؛ لأنها تحضرها الشياطين، وليس لأن بولها وروثها نجسان، بل هما طاهران، وإنما كما قال أهل العلم: لأنها تحضرها الشياطين، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل ومباركها. قوله: «ثم إنه أمر بالمسجد» أي إن النبي صلى الله عليه وسلم أول بناء بناه في المدينة وأول مؤسسة أسسها هو مسجده صلى الله عليه وسلم ، فالمسجد هو نواة دولة الإسلام والمسلمين، وهو مكان الصلاة فرضها ونفلها، ومكان اجتماع المسلمين، ومحل تدارسهم وتعلمهم القرآن والسنة النبوية، وفيه الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمور المهمة ويجتمع بهم في المسجد، ويستقبل وفود العرب في المسجد، ويأمر بالصدقات وجمعها في المسجد ويفرقها فيه، وكان فقراء المسلمين يبيتون فيه، وربما بعض شبابهم من العزاب، يبيتون فيه ويصلون ويتهجدون في المسجد، فالمسجد كان مؤسسة عظيمة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن السلف الصالح، وليس مكانا يصلي فيه الناس الفريضة ثم يخرجون ويغلق، وإنما كان كما ذكرنا مؤسسة ومعهدا ومدرسة وجامعة، بل هناك جامعات إسلامية عريقة انبثقت من المساجد، ومن أشهرها الجامع الأزهر، وهو جامعة كذلك، وجامع القرويين وجامع الزيتونة والجامع الأموي في الشام حرّره الله عز وجل من أيدي الظلمة المعتدين، وغيرها من المساجد الكبرى التي كانت في العالم الإسلامي عبارة عن جامعات. قوله: «فأرسل إلى ملأ بني النجار، فجاءوا، فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم» ثامنوني يعني: اطلبوا ثمنا أو بايعوني أرضكم، والحائط هو الأرض المحاطة بحائط. قالوا: «لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله» يعني: لا نطلب ثمنه وإنما هو لله، أو إنما نطلب ثمنه من الله. قال أنس: «فكان فيه ما أقول» كان في هذه الأرض التي طلب النبي صلى الله عليه وسلم من بني النجار أن يبيعوها له، يقول أنس: «كان فيها نخلٌ وقبور المشركين وخَرِب» خرب تُروى بفتح الخاء وبكسرها، وكلاهما جائز، وهي ما تخرّب من البناء، أي كان فيها أبنيةٌ متخربة قديمة، فأزالها وسوّى الأرض. قوله: «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع» وهذا فيه جواز قطع النخل للضرورة والحاجة والمصلحة، إما لاستعمال جذوعها وخشبها، وإما لأجل أن يبنى مكانها شيء، أو أن يغرس مكانها شجر آخر، أو إذا كانت في مكان يخشى سقوطها على الناس، أو لاتحاذ مكانها مسجدا، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هاهنا، أو أن تقطع في بلاد الكفار المحاربين نكاية بهم، وإلحاقا للضرر بهم وإضعافا لهم وهزيمة، إذا كان في ذلك مصلحة، كما قال الله تعالى: {ما قَطعتم من لينةٍ أو تركتموها قائمةً على أُصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} (الحشر:5). وإلا فالأصل أن نترك النخيل وغيرها من الأشجار المفيدة؛ لأن ذلك من عمارة الأرض. قوله: «وأمر بقبور المشركين فنبشت» فيه: جواز نبش القبور للمصلحة، ومعنى «النبش» أن تحفر القبور وتنقل العظام إلى مكان آخر، فالنبي [ أزال قبور المشركين، وما حولها من التراب المختلط بعظامهم، وسوى الأرض حتى تكون منبسطة صالحة للصلاة عليها ولاتخاذها مسجدا، وفي هذا دليل على أن الأرض إذا كانت مقبرة قديمة، واندرست قبورها وانمحت، أنه يجوز نبشها وتنظيفها والانتفاع بها إذا دعت الحاجة الضرورية لذلك. قوله: «فصفوا النخل قبلة» جعلت جذوع النخل صفا في قبلة المسجد «وجعلوا عضادتيه حجارة» العضادتان جانبا باب المسجد، جعلوها من الحجارة. وقوله: «وكانوا يرتجزون» والرجز هو نوع من الشعر، وقيل: الرجز شعر قصير، والرجز قد يكون بغير قصد، وقال بعض أهل العلم: منها قول النبي صلى الله عليه وسلم في حنين: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» وهذا موزون لكنه خرج من غير قصد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول الشعر، فليس هو بشاعر، لكن قد يقول كلاما موزونا، وهذا لا ينافي الآية الكريمة: {وما علّمناه الشَّعرَ وما ينبغي له إنْ هو إلا ذكرٌ وقرآنٌ مبين} (يس: 69). فهم يفرقون بين الرجز والشعر ببعض الفوارق منها هذا، والارتجاز وقول الشعر في حال العمل أو في حال السفر معروف عند العرب، ففيه تنشيط للنفوس، وتسهيل للعمل، ومواصلة المشي والحركة. وكانوا يرتجزون كما في هذه الرواية فيقولون: «اللهم إنه لا خيرَ إلا خير الآخرة، فانصر الأنصار والمهاجرة» وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتجز معهم في شعرهم، هذا أثناء عملهم في بناء المسجد. وكانوا يقولون: اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فانصر الأنصار والمهاجرة. وفي بعض الروايات أنهم كانوا يقولون: اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة. يعني للمهاجرين والأنصار. وما أحسن رجزهم، وما أجمل شعرهم الذي فيه الحث على الخير، والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، خلافا لكثير من الأشعار والأناشيد التي لا فائدة منها ولا خير في كلماتها، سوى الطرب وتضييع الأوقات، والصد عن الذكر والقرآن! وقد جازى الله تبارك وتعالى الأنصار خير الجزاء، وعوضهم خيرا في الدنيا والآخرة مما بذلوه لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم من الأموال والأنفس، فهم قد بذلوا من أموالهم ما بذلوا، ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآووا أصحابه فرفعهم الله عز وجل فوق العالمين درجات. {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}. وصل اللهم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 30-04-2024 الساعة 08:14 PM. |
#2
|
||||
|
||||
رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 2) باب: في المسجد الذي أسس على التقوى اعداد: الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذا تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 237.عن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: مَرَّ بِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: كَيْفَ سَمِعْتَ أَبَاكَ يَذْكُرُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: قَالَ أَبِي: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: «هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا» لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ هَكَذَا يَذْكُرُهُ.الشرح: قال الإمام المنذري: باب المسجد الذي أسس على التقوى. وقد رواه الإمام مسلم في كتاب الحج (2/ 1015) وبوب عليه النووي (9/ 168): باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. وأورد فيه حديث أبي سلمة بن عبدالرحمن وهو ابن عوف الزهري المدني، قيل: اسمه: عبد الله، وقيل: إسماعيل، تابعيٌ ثقة مكثر، مات سنة 94 أو 104 هـ، روى له الستة. وعبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، تابعي أيضا ثقة، مات سنة اثنتي عشرة، روى له مسلم والأربعة. قال: إن أبا سلمة بن عبد الرحمن سأله، فقال: «قلت: كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسس على التقوى؟» يعني الآية من سورة التوبة، حيث يقول الله تبارك وتعالى: {لمسجدٌ أُسّسَ على التَّقوى منْ أول يوم أحقُّ أنْ تقوم فيه، فيه رجالٌ يُحبون أن يتطهروا والله يحبُ المطّهرين} (التوبة: 108). فالمسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، اختلف فيه أهل العلم، فقالت طائفة: هو مسجد قباء. وقال آخرون: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما اختاره أبو سعيد الخدري، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث إن ابنه عبدالرحمن سأله: «أيُّ المسجدين الذي أُسس على التقوى؟ فقال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض» الحصباء هي الحصى الصغار، وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضه من الحصباء، ولم يكن مفروشا بالسجاد، ولا بالحصر ولا غيره، وإنما كان من تراب عليه حصباء. فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ هل هو مسجد قباء أو المسجد النبوي؟ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم كفا من الحصباء، ثم ضرب به الأرض، ثم قال: «هو مسجدكم هذا» يعني مسجد المدينة. أي: هو مسجده الشريف، وذلك أنه إذا كان مسجد قباء هو المقصود بالآية، وأنه المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، وبُنيت قواعده على البر والتقوى، والصلاح والإخلاص، فمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بهذا الفضل والشرف، وهو داخل في الآية من باب أولى؛ لأنه أفضل عند الله عز وجل من جميع المساجد، إلا المسجد الحرام الذي بأم القرى. وفي رواية أخرى: عن أبي سعيد رضي الله عنه أيضا: أنه اختلف رجلان من بني خدرة في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أبو سعيد الخدري: هو مسجد رسول الله، وقال العمري: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك؟ فقال: «هو هذا المسجد» لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: «في ذلك خيرٌ كثير» الحديث عند الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي. وقوله: «في ذلك خيرٌ كثير» يعني: مسجد قباء فيه خير كثير. فثبت أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد الرسول أولا، وما سواه من المساجد في الإسلام تبعٌ له؛ لأنه أشرفها وإن كان المسجد الحرام أعظم منه لكنه بني قبل الإسلام، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل مسجد أسس في الإسلام، وقد أثنى الله تعالى على أهله، فقال {فيه رجالٌ يحبون أن يتطّهروا} (التوبة: 108). وقوله {فيه رجال} هذا وصف لهم بالرجولة، وصفات الرجولة هي الشجاعة ونصرة الحق والكرم والسماحة والحلم وغير ذلك، ووصفهم بأنهم يحبون أن يتطهروا من النجاسات، ومن الذنوب والخطايا والسيئات، ويطهروا قلوبهم مما لا يحب الله تعالى من الكفر والشك والنفاق، والحقد والغل والشقاق {والله يحب المطهرين} الطهارة المعنوية والحسية. 43-باب: فضل الصلاة في مَسْجِدِ المدينة ومكة 240.عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى، فَقَالَتْ: إِنْ شَفَانِي اللَّهُ، لَأَخْرُجَنَّ فَلَأُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَبَرَأَتْ ثُمَّ تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَجَاءَتْ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ تُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَتْهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: اجْلِسِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ، وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «صَلَاةٌ فِيهِ، أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ». الشرح: قال المنذري: باب فضل الصلاة في مسجد المدينة ومكة. وهذا الحديث رواه مسلم في الحج (2/ 1014) وبوب عليه النووي (9/166) باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة. قال ابن عباس: «إن امرأة اشتكت شكوى» أي مرضت مرضا، فنذرت فقالت: «إن شفاني الله، لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس» إنْ شفاها الله عز وجل من مرضها، وبرأت من سقمها، أن تخرج وتصلي في بيت المقدس، أي: المسجد الأقصى، والمقدس هو المطهر والمنزه. قوله «فبرأت» أي: شفاها الله عز وجل من مرضها «ثم تجهزت تريد الخروج» أي: لأجل أن توفي بنذرها «فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها» أي: جاءت من أجل أن تسلّم على ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تسافر، وهذه سنةٌ مستحبة، أن الإنسان إذا أراد أن يسافر، يسلم على أهله وعلى أصحابه قبل السفر، وأما إذا جاء من السفر فإنّ أصحابه يأتون للسلام عليه. فلما أخبرتها بذلك، وأنها تريد السفر لأجل الصلاة في المسجد الأقصى، لأجل أن توفي بنذرها، قالت لها ميمونة رضي الله عنها: «اجلسي فكُلي ما صنعتِ» أي: اجلسي ولا تسافري، وكلي ما صنعت، يعني ما تجهزت به للسفر من الزاد والطعام وصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «صلاةٌ فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا مسجد الكعبة». وهذا من فضل سؤال أهل العلم والاتصال بهم؛ فإنهم يفيدونك بفوائد عظيمة، وينفعونك نفعا كثيرا، ويوفرون عليك الوقت والجهد والمال، والبركة والخير إنما تكون مع أهل العلم والأكابر منهم، فميمونة قالت لها: اجلسي هنا ولا تسافري، فالأمر لا يحتاج منك للسفر إلى المسجد الأقصى، وأنت بقربك المسجد النبوي؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «صلاةٌ فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد» ويدخل فيه المسجد الأقصى، إلا مسجد الكعبة، فإذا صليت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد وفيت بنذرك وزيادة؛ وذلك لفضل المسجد النبوي على غيره من المساجد. وعلى هذا: فمن نذر أن يفعل طاعة أو يتطوع بعبادة، فجاء بأفضل منها، فإنه يكفيه عن نذره، فلو نذر أنْ يذبح شاة، فذبح بقرة أو بعيرا بدلا من الشاة، فإنه يكفيه عن نذره وزيادة؛ فإنّ البعير والبقرة عن سبعة من الغنم، كما هي المسألة هنا، فإن المرأة نذرت أن تصلي في المسجد الأقصى، فإذا صلت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يكفيها عن نذرها، لأن الصلاة فيه أفضل من كل المساجد، إلا مسجد الكعبة، وذلك أن الصلاة بالمسجد النبوي بألف صلاة. ولو نذر رجلٌ أن يصلي في المسجد النبوي، فصلى في مسجد الكعبة، كفاه أيضا عن نذره؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد. وهذا من الفقه والعلم الذي استفادته أم المؤمنين ميمونة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم من زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي هذا الحديث: فضل الصلاة بمسجد المدينة، مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه من المساجد، وهو يعم الصلوات كلها فرضها ونفلها. وفيه: أن المسجد الحرام أفضل عند الله تعالى من جميع المساجد. وفي هذا الحديث: دليل على جواز الفُتيا والقضاء، والنبي صلى الله عليه وسلم حيٌ، إذا وثق الصحابي بعلمه وما عنده من الدليل، وذلك أن ميمونة رضي الله عنها أفتت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي موجود بين أظهرهم، وقد أفتت المرأة بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمت من كلامه. ولو حصل خطأ من الصحابي في الفتيا أو التبليغ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنّ الوحي سيبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، أو إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقره على كلامه، وينكر عليه، كما أفتى بعض الصحابة الصحابي الذي أصابته جنابة وفي رأسه شجةٌ – أي جرح – بوجوب الغسل، ولم يرخصوا له بالتيمم لقدرته على الماء، وأمروه أن يغتسل فاغتسل فمات رضي الله عنه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: «قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذْ لم يَعلمَوا؛ فإنما شفاء العيِّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود (336) من حديث جابر وابن عباس رضي الله عنهما. وفي حديث عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقتُ إنْ اغتسلت أنْ أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: «يا عمرو، صليت بأصحابك وأنتَ جنب؟» فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول {ولا تقتُلوا أنفسَكم إنَّ الله كان بكم رحيما} (النساء: 29). فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقلْ شيئا. رواه أبو داود (334). أي إنه صلى الله عليه وسلم أقره على اجتهاده. وهناك جملة وافرة من فتاوى الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وقد اعتنى بها العلماء قديماً وحديثا لمكانتها من الدين، ولأنها فهم السلف الصالح لهذه الأمة، وهي مصداق قوله صلى الله عليه وسلم : «تَسمعون ويُسمعُ منكم، ويُسمعُ ممن يَسمعُ منكم» رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عباس. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأما أقوال الصحابة؛ فإن انتشرت ولم تنكر في زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء، وإن تنازعوا رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له باتفاق العلماء، وإن قال بعضهم قولا ولم يقل بعضهم بخلافه ولم ينتشر؛ فهذا فيه نزاع، وجمهور العلماء يحتجون به كأبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه، والشافعي في أحد قوليه، وفي كتبه الجديدة الاحتجاج بمثل ذلك في غير موضع، ولكن من الناس من يقول: هذا هو القول القديم». (مجموع الفتاوى / الجزء العشرون: فصل في أقوال الصحابة) وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في «إعلام الموقعين»: «فصل: الأصل الثاني: فتاوى الصحابة: الأصل الثاني من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة، فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها،لم يعدُها إلى غيرها، ولم يقل إن ذلك إجماع، بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئا يدفعه، أو نحو هذا، كما قال في رواية أبي طالب: «لا أعلم شيئا يدفع قول ابن عباس وابن عمر وأحد عشر من التابعين عطاء ومجاهد وأهل المدينة على تسري العبد» وهكذا قال أنس بن مالك: «لا أعلم أحدا رد شهادة العبد» حكاه عنه الإمام أحمد، وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع عن الصحابة، لم يقدم عليه عملا ولا رأيا ولا قياسا». ثم قال: «فصل: الأصل الثالث: الاختيار من أقوال الصحابة إذا اختلفوا. الأصل الثالث من أصوله إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإنْ لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكي الخلاف فيها ولم يجزم بقول». (إعلام الموقعين: فصل الأصول التي بنيت عليها فتاوى ابن حنبل). وقد اعتنى بأقوال الصحابة وفتاواهم الأئمة قديماً وحديثا، كالإمام مالك في الموطأ، وعبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما، والبخاري في كتبه، وابن حزم في المحلى، وابن عبد البر في الاستذكار، والنووي في شرح المهذب، وابن قدامة في المغني، وغيرهم كثير، وفي هذه الكتب من أقوال الصحابة في المسائل الفقهية وغيرها الشيء الكثير الكثير. كما اعتنى الإمام الطبري وابن كثير والقرطبي والسيوطي في تفاسيرهم بذكر أقوال الصحابة في تفسير القرآن ومعانيه.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 3 ) باب: إتيان مسجد قباء والصلاة فيه اعداد: الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذا تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 241.عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. الشرح: قال المنذري: باب إتيان مسجد قباء والصلاة فيه. وقد أخرجه الإمام مسلم في الحج (2/1016) وبوب النووي: باب فضل مسجد قباء، وفضل الصلاة فيه وزيارته. عن نافع هو مولى ابن عمر، أبو عبدالله المدني تابعي ثقة ثبت، فقيه مشهور، مات سنة 117 هـ، روى له الستة. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا» كان للاستمرار، أي من عادة الرسول الله صلى الله عليه وسلم المستمرة أن يأتي مسجد قباء، وقباء المشهور فيه المد والتذكير والصرف، وفي لغة: «قبا» مقصور دون همز، وهو من عوالي المدينة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي هذا المسجد الذي هو أول مسجد أسس في المدينة على التقوى، يليه مسجده صلى الله عليه وسلم ، كان يأتيه راكباً وماشيا. وفي رواية لمسلم (2/1017): عن عبدالله بن دينار أن ابن عمر: كان يأتي قُباء كلَّ سبت. وكان يقول: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبتٍ. قال أهل العلم: كل سبت، يعني: كل أسبوع، ويمكن أن يراد به ظاهره أنه يأتي في كل يوم سبت. وفي هذا الحديث: مشروعية زيارة مسجد قباء، وإتيانه راكبا وماشيا، وأخذ منه أهل العلم جواز تخصيص بعض أيام الأسبوع لزيارة المسجد، وهو قول الجمهور. ومنها: ما تعارف عليه أهل العلم من تخصيص بعض الأيام بالدروس، مثل درسنا هذا في يوم السبت بعد المغرب، أي: لا حرج في هذا العمل، فلا يأتي إنسان فيقول: لا يجوز تخصيص يوم بالدرس، وهذه بدعة؟ نقول: لا، على هذا جرى عمل أهل العلم قديما وحديثا، أنهم يخصصون بعض الأيام أو الساعات للتدريس والتعليم، لحفظ ومدارسة القرآن وقت، ولتعليم الفقه وقت، وللعقيدة والحديث وقت وهكذا. وقال العلامة صديق حسن خان: وهكذا جميع المواضع الفاضلة، تجوز زيارتها راكبا وماشيا. قوله: «فيصلي فيه ركعتين» فيه بيان فضل البقعة، وفضل مسجد قباء والصلاة فيه، وأنه تستحب زيارته الصلاة فيه. وقد جاء في الحديث الصحيح: أن الصلاة فيه تساوي عمرة، فقد قال صلى الله عليه وسلم : «صلاةٌ في مسجد قُباء، تَعدل عمرة». رواه أحمد والترمذي. وهذا يدل على فضل عظيم، وأجر كبير، وثواب وفير، في عمل قليل أن تتوضأ ثم تقصد مسجد قباء فتصلي فيه ركعتين، تكون لك كعمرة. وقد جاء عن الصحابة ما يدل على اهتمامهم بالصلاة فيه والحث عليها، فقد روى عمر بن شبة في (تاريخ المدينة) عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: سمعت أبي يقول: «لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين، أحب إليَّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل». قال الحافظ ابن حجر: وإسناده صحيح. وروى ابن أبي شيبة نحوه في المصنف. وروى عبد الرزاق في المصنف (9163): عن عمر بن الخطاب أنه قال: «لو كان مسجد قباء في أفقٍ من الآفاق، لضربنا إليه أكباد المطي». فعلى المسلم إذا كان في المدينة النبوية ألا يفوت الصلاة في مسجد قباء، فيصلي فيه ركعتين، سواء كان ذلك بالنهار أم بالليل، لا فرق في ذلك. والله تعالى أعلم. 45- باب: فضل من بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا 242.عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَرَادَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَدَعَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ [ يَقُولُ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مثله». الشرح: قال المنذري رحمه الله: باب فضل من بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا. وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم (533) وبوب عليه النووي: باب فضل المساجد والحث عليها. وأخرجه البخاري (450) في كتاب الصلاة، باب: منْ بنى مسجدا. عن محمود بن لبيد وهو ابن عقبة بن رافع الأوسي الأشهلي، من صغار الصحابة، جل روايته عن الصحابة، مات سنة (96) هـ وقيل (97) وله تسع وتسعون سنة، روى له مسلم والأربعة. أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين «أراد بناء المسجد» أي: أراد توسعة المسجد النبوي؛ لأنه كان مبنيا قبل ذلك، وذلك بعد أن كثُر الناس وزاد عددهم، فلم يعد المسجد قادراً على استيعابهم. قوله: «فكره الناس ذلك وأحبوا أن يدعه على هيئته» أي إن الصحابة رضي الله عنهم كرهوا أن يزيد في المسجد النبوي، أو أنْ يغير من بنائه الذي بناه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة سابقا، وأحبوا لو أنه تركه كما هو. وقال البغوي في شرح السنة: لعل الذي كره الصحابة من عثمان، بناؤه بالحجارة المنقوشة، لا مجرد توسيعه. قوله: فقال عثمان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجداً لله، بنى الله له في الجنة مثله» هذه حجة عثمان في تجديده للمسجد النبوي، وبنائه إياه بناء أوسع مما كان عليه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجدا لله ». وعند البخاري: قال عثمان: أكثرتم عليّ، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول.. فذكره. وقوله «لله» يدل على الإخلاص، أنه بنى المسجد يريد الأجر والثواب من الله، وفي بعض روايات مسلم: «منْ بنى مسجداً يبتغي به وجه الله» أي يطلب رضاه، وهذا أيضا فيه تنبيهٌ على الإخلاص، وأنه ليس له غرضٌ ولا قصد في بناء المسجد، إلا أنه يبتغي وجه الله تبارك وتعالى. وقوله: «مسجدا» بالتنكير للشيوع، فيدخل فيه الكبير والصغير. قوله: «بنى الله له في الجنة مثله» مثله يعني بيتاً مثله، إما بصفته وسعته، ومعلوم أن الجنة فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهو وإن كان مسماه مسمى البيت، لكن هو يختلف عن بيوت الدنيا لأنه من بيوت الجنة، وبيوت الجنة كبقية نعيم الجنة وما فيها من الزخرف والذهب والفضة، واللؤلؤ والياقوت والمرجان، والمسك الذي هو تربتها وغير ذلك، فليس في الدنيا شيءٌ مما في الجنة إلا مجرد الأسماء، كما قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. وقيل: معنى «بنى الله له مثله في الجنة» أن بيته في الجنة يكون له فضل كفضل المساجد على بيوت الدنيا، أي له من الشرف والفضل والمكانة، مثل ما للمسجد من الشرف والفضل والمكانة، على بيوت الناس في الدنيا. قال النووي في معنى قوله «مثل»: يحتمل مثله في القدر والمساحة، ولكنه أنفس بزيادات كثيرة، ويحتمل مثله في مسمى البيت، وإنْ كان اكبر مساحة وأشرف. انتهى. وقد أثنى الله سبحانه على من يعمر مساجده وبيوته بكتابه الكريم، فقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة: 18). وعمارة المساجد كما تكون بإقامتها وإنشائها، تكون بترميمها وتعاهدها وصيانتها، وهو كله مما يدخل في الصدقة الجارية، ولو كانت المشاركة بمبلغ قليل، يدل على ذلك ما ورد في الحديث الصحيح: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ أو مسجدًا بَنَاهُ أو بَيتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أو نَهْرًا أَجْرَاهُ، أو صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ في صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بعد مَوته». رواه ابن ماجة وحسنه الألباني. وفضل الإنفاق على المساجد وتعميرها والإسهام في استمرارها وبنائها حاصل ولو بأقل القليل، كما ورد عَنْ النَّبِي صلى اللَّه عليه وسلَم أَنَّه قَالَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، أَوْ أَصْغَرَ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ». رواه ابن ماجة وابن خزيمة. قال السندي في شرحه لابن ماجة: وقَوْله: «كَمَفْحَصِ قَطَاة» هُوَ مَوْضِعهَا الذي تُخَيِّم فِيهِ وَتَبِيض؛ لِأَنَّهَا تَفْحَص عنْه التُّراب، وَهَذا مَذْكُور لِإِفَادَةِ الْمُبَالَغَة فِي الصِّغَر، وَإِلَّا فَأَقَلّ الْمَسْجِد أَنْ يَكُون مَوْضِعًا لِصَلَاةِ وَاحِد.ٍ انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/ 545): وَحَمَلَ أَكْثَر الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي تَفْحَصُ الْقَطَاة عَنْهُ لِتَضَع فِيهِ بَيْضَهَا وَتَرْقُد عَلَيْهِ، لَا يَكْفِي مِقْدَاره لِلصَّلَاةِ فِيهِ، ويؤيده رواية جابر هذه. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَزِيدَ فِي مَسْجِدٍ قَدْرًا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ تَكُونُ تِلْكَ الزِّيَادَة هَذَا الْقَدْر. أَوْ يَشْتَرِكُ جَمَاعَة فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ، فَتَقَعُ حِصَّة كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْقَدْر انتهى. وفي هذا الحديث: فضل عثمان رضي الله عنه وهو ثالث الخلفاء الراشدين، فقد وسع المسجد النبوي توسعة عظيمة، وأنفق فيه نفقات كثيرة، وهذا من فضائله صلى الله عليه وسلم . وفيه: احتجاج الصحابة بالدليل والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند المناظرة، وقبل الإقدام على العمل، فقد احتج بالحديث على من كره توسعة المسجد النبوي. فائدة: قال ابن الجوزي: منْ كَتَب اسمه على المسجد الذي يبنيه، كان بعيدا عن الإخلاص. انتهى. قلت: وهذا إذا كان بمكان يعرفه فيه الناس، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 4 ) باب: فضل المساجد اعداد: الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذا تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 244.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهن : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا». الشرح: قال المنذري: باب فضل المساجد. وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، وبوب عليه النووي باب: فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح وفضل المساجد. عن عبدالرحمن بن مهران مولى أبي هريرة رضي الله عنه ، ويقال: مولى الأزد، أبو محمد المدني، تابعي، قال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبان في الثقات، روى له مسلم والنسائي. والمولى يطلق ويراد به العبد الرقيق، ويطلق ويراد به السيد، ويطلق على ابن العم والناصر وغير ذلك، والمراد هاهنا أنه كان رقيقا لأبي هريرة. قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحبُّ البلاد إلى الله مساجدها» وجاء بلفظ: «أحب البقاع إلى الله المساجد»، وذلك أن المساجد هي محل الصلوات المفروضة والمسنونة، ومحل قراءة القرآن، والدعاء والذكر، وحضور الملائكة واستماع الصالحين، ومحل حلقات العلم والتدريس، وتحفيظ كتاب الله، وغير ذلك من فضائلها، فهي بيوت الطاعات وبيوت العبادات، وهي مؤسسة على البر والتقوى، فهذه هي المساجد قد أسست لأجل العبادة والطاعة، فهنيئا لمن وفقه الله لعمارتها. ويدل على شرف المساجد أدلة كثيرة منها: أن الله تعالى نسبها إلى نفسه، فقال {وأنّ المساجدَ لله فلا تَدعوا مع الله أحداً} (الجن: 18). وأن الله عز وجل أمر ببنائها ورفعها، ومدح من يعمرها بالبناء وبالصلاة والذكر، ووعدهم الأجر الحسن، فقال: {في بُيوتٍ أَذن الله أن تُرفعَ وُيذكر فيها اسمُه يُسبّح له فيها بالغُدو والآصال رجالٌ لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكرِ الله وإقام الصّلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلّب فيه القلوبُ والأبصار ليَجزيهم اللهُ أحسنَ ما عملوا ويزيدهم منْ فضله} (النور: 37 -38). وأيضا فإنّ عمارة المساجد من علامات الإيمان، كما قال الله تعالى: {إنما يَعمرُ مساجدَ الله منْ آمنَ بالله واليوم الآخرِ وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشَ إلا الله فعسى أُولئك أنْ يكونوا من المهتدين} (التوبة: 18). وعمارة المسجد تكون عمارة حسية وعمارة معنوية، أما العمارة الحسية: فهي بناء المساجد وتشييدها وصيانتها، وأما العمارة المعنوية: فهي أن تعمر بيوت الله بالصلاة فيها، وبالاعتكاف فيها، والجلوس فيها بعد الصلاة ولانتظار الصلاة بعد الصلاة، وبقراءة القرآن، بعض الناس يهجر المساجد، فلا يكاد يدخل بيوت الله، ولا يعمر مساجد الله، وهذا ضد الإيمان، فالإيمان أن تعمر مساجد الله. ومن عمارة المساجد: إحياؤها بالدروس العلمية، وحلقات تحفيظ القرآن واجتماع الصالحين، وإقامة الندوات والمحاضرات العلمية، وما أشبه ذلك فكله من تعمير المساجد. وكانت المساجد في عصور الإسلام الأولى، معمورة بالصلوات وبالذكر وقراءة القرآن، والدروس والخطب ونشر العلم، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعقد الاجتماعات في مسجده الشريف، فيشاور المسلمين فيه، ويرسل منه القادة، وتنطلق منه الجيوش، ويعزي الناس في المسجد إذا جاء خبر وفاة بعض أصحابه وقادته، ويهنئ الناس بما يسرهم فيه من النصر والبشارات، وهكذا، فقد كان المسجد هو قاعدة الأمة الذي تنطلق منه، وقلبها النابض، وليس مكاناً لمجرد أن يصلي فيه الإنسان ركعتين أو ثلاثا، ثم يخرج ويغلق ويهجر! وعقوبة تعطيل وهدم المساجد من أشد العقوبات عند الله تعالى، كما قال الله عز وجل: {ومنْ أظلم ممن مَنعَ مساجدَ الله أنْ يُذكر فيها اسمُه وسَعَى في خرابها أولئك ما كان لهم أنْ يَدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزيٌ ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم} (البقرة: 114). فمن يغلق المساجد ويمنع الناس من الصلاة فيها والذكر، وإقامة شعائر الدين، وعقد الدروس العلمية وتعليم الناس ما يجهلون من أمور دينهم، فهذا تخريب معنوي عظيم للمساجد، وفيه عقوبات عظيمة في الدنيا والآخرة، أما التخريب الحسي فهو أن يهدم المسجد ويخرب، كما يفعل أعداء الله عز وجل اليوم من النصيرية الكفرة الملاحدة بالشام، فيضربون المساجد بالمدافع، ويقصفون المآذن بالدبابات وبالطائرات، فلا إيمان لهم يردعهم عن ذلك، ولا تعظيم للرحمن جل جلاله في قلوبهم، ولا دولة إسلامية قوية ترهبهم؛ ولذا تجرأوا على الله عز وجل، وعلى بيوته، وتجرأوا على دماء المؤمنين وأعراضهم، والله سبحانه وتعالى سيخزيهم ويذلهم عاجلا أو آجلا، ويجعلهم عبرة وآية لخلقه وللناس أجمعين {إنَّ ربّكَ لبالمرصاد} (الفجر: 14). وأيضا مما يدل على شرف المساجد: أنّ منْ تعلّق قلبه بالمساجد، أظله الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، كما في الحديث: «ورجلٌ قلبه معلقٌ بالمساجد» أي: كلما خرج منها عاد إليها، حتى لو سافر فإنه أول ما ينزل بالمكان، يسأل: هل هناك مسجد قريب؟ لأن قلبه متعلق ببيوت الرحمن، لا يستطيع مفارقاتها سواء كان في الحل أو الترحال. قوله: «وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا» وأما الأسواق فإنها أبغض البقاع إلى الله تعالى؛ لأن الأسواق محل الغفلة عن ذكر الله وعن الصلاة، ولأن الأسواق فيها الغش والخداع، والأيمان الكاذبة، فيحلف أحدهم بالله وهو كاذبٌ من أجل أن يروّج سلعته، وفي الأسواق أيضا أكل الربا، وإخلاف الوعد، وغير ذلك، وأما في زماننا فالأسواق اليوم صارت محلا لتبرج النساء وتعريهن! وخروجهن بملابس غير ساترة، واختلاطهن بالرجال، وكأنها تعرض نفسها على الناس في الأسواق، والعياذ بالله! وهذا ما زاد بلاء الأسواق بلاء! ومن البلاء الحادث في الأسواق اليوم: وجود البائعات المتبرجات في المحلات التجارية بالأسواق! فيدخل الإنسان إلى المحل التجاري وإذا الباعة كلهم من النساء المتبرجات المائلات، ولا حول ولا قوة إلا بالله!! فهذه الأمكنة حريٌ أن يخسف الله بها وبأهلها؛ لكثرة المعاصي التي تقع فيها، عافانا الله جميعا من كل شرٍ وبلاء. 47- باب: فضل كثرة الخُطى إلى المساجد 245. عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بَيْتُهُ أَقْصَى بَيْتٍ فِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ الصَّلَاةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: فَتَوَجَّعْنَا لَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، لَوْ أَنَّكَ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا يَقِيكَ مِنْ الرَّمْضَاءِ، وَيَقِيكَ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ بَيْتِي مُطَنَّبٌ بِبَيْتِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: فَحَمَلْتُ بِهِ حِمْلًا، حَتَّى أَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ يَرْجُو فِي أَثَرِهِ الْأَجْرَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ لَكَ مَا احْتَسَبْتَ». الشرح: يقول المنذري رحمه الله: باب كثرة الخطى إلى المساجد. وهذا الحديث في كتاب المساجد في صحيح مسلم، وبوب عليه النووي رحمه الله: باب فضل الصلاة المكتوبة في جماعه وفضل انتظار الصلاة وكثرة الخطى إلى المساجد وفضل المشي إليها. عن أبي بن كعب هو ابن قيس بن النجار الأنصاري الخزرجي، أبو المنذر الصحابي المشهور الذي هو من سادة قراء القرآن وحفظة الكتاب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد اختلف في سنة موته اختلافاً كثيرا، فقيل: سنة 19 هـ، وقيل: 32 هـ، وقيل غير ذلك، روى له الستة. يقول: «كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة» أقصى بيت يعني: أبعد بيت في المدينة عن المسجد النبوي، ومع ذلك «كانت لا ُتخطئه الصلاةُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم » سبحان الله! أبعد شخص في المدينة عن المسجد النبوي، مع ذلك كانت لا تفوته ولا تخطئه الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسجده الشريف. قوله: «فتوجعنا له» أي: تألمنا له وتوجعنا؛ لأن المسافة البعيدة ذهابا وإيابا. قوله: «فقلت له: يا فلان، لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء، ويقيك من هوام الأرض» قال له: لو أنك اشتريت حمارا يحملك في ذهابك وفي إيابك، ويخفف عنك المشي، ويعينك على الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . والرمضاء: هي شدة الحر، أو الرمل الحار الذي يكون في شدة الحر في الظهيرة، وهوام الأرض: أي الحيات والثعابين والعقارب. قوله: «أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد صلى الله عليه وسلم » أي قال لهم: ما أُحب أن يكون بيتي مشدودا بالأطناب، والأطناب معروفة واحدها طنب، وهي الأوتاد التي تشدّ بها الخيمة، يقول: أنا ما أحب أن يكون بيتي قريبا من المسجد بجوار بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ، كأن بيتي مشدود بأطناب بيت رسول الله، وبيوت النبي صلى الله عليه وسلم كانت ملاصقة لجدار مسجده، ومقصده أن تكثر خطاه إلى المسجد، فيكثر ثوابه بالمشي. قال: «أبي بن كعب: فحملت به حملاً» أي لما قال هذه الكلمة، لما قال: ما أحب أن أكون بجوار بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ! كأنما ثقلت على أبي بن كعب رضي الله عنه هذه الكلمة، ورآها كبيرة بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب أُبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالكلام الذي سمعه من الرجل. فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال له مثل ذلك، وذكر له أنه يرجو في أثره ومشيه إلى المسجد الأجر والثواب في ذهابه وإيابه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «لك ما احتسبت» يعني أن الله عز وجل أعطاك ما احتسبت، مما رجوت من الأجر الجزيل، والثواب الجميل، إن احتسبت الأجر والثواب في ذهابك وإيابك. وقد وردت أحاديث في فضل المشي إلى المساجد: في حديث لجابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم حثّ بعض الأنصار على عدم الانتقال بقرب المسجد، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: خلت البقاع حول مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم - أي صار هناك أماكن خالية حول المسجد - فأراد بنو سلمة - وهم قبيلة معروفة من الأنصار - أرادوا أن يتحولوا إلى قرب المسجد، أي أرادوا أن يغيروا سكنهم ويسكنوا بقرب المسجد، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا بني سلمة، دياركم ُتكتب آثاركم، دياركم ُتكتب آثاركم» أي: ابقوا في محلكم وسكنكم، لتكتب لكم خطواتكم في ممشاكم إلى المسجد. فقالوا رضي الله عنهم: «ما كان يسرّنا أنا كنا تحولنا» يعني الحمد لله أنا سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ننتقل، وإلا كان فاتنا الأجر والحسنات، لو أنّا تحولنا بقرب المسجد، لفاتنا الأجر والثواب، فيقولون: ما كان يسرنا، أي ما كان يفرحنا، لو أننا فاتنا هذا الأجر والثواب. وقوله: «دياركم تكتب آثاركم» يعني إلزموا دياركم، لتكتب آثاركم، أي آثار خطواتكم للمسجد إذا لزمتوها. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج عامدا إلى الصلاة، فإنه في صلاةٍ ما كان يَعمدُ إلى الصلاة، وإنه يُكتب له بإحدى خطوتيه حَسنةٌ، وُيمحى عنه بالأخرى سيئةٌ، فإذا سمع أحدكم الإقامة فلا يسعَ، فإنّ أعظمكم أجرا، أبعدُكم داراً» قالوا: لم يا أبا هريرة؟ قال: منْ أجلِ كثرةِ الخُطى» متفق عليه. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ أعظمَ الناسِ أجراً في الصلاة، أبعدُهم إليها ممشى فأبعدهم...» متفق عليه. وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «منْ راحَ إلى مسجد الجماعة، فخطوةٌ تمحو سيئة، وخطوةٌ تكتب له حسنة، ذاهباً وراجعا «رواه أحمد وابن حبان. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أدلُّكم على ما يمحو الله به الخَطايا، ويَرفع به الدرجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغُ الوضوء على المكاره، وكُثرةُ الخُطى إلى المساجد، وانتظارُ الصلاةِ بعد الصلاة، فذلكم الرباطُ، فذلكم الرباط» رواه مالك ومسلم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «منْ غَدا إلى المسجد أو راح، أعدّ الله له في الجنة نزلاً، كلما غدا أو راح» متفق عليه. وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بَشّر المشّائين في الظُّلم إلى المساجد، بالنّور التام يوم القيامة» رواه أبو داود والترمذي. وغيرها من الأحاديث النبوية. والله تعالى أعلم.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 5 ) باب: المَشي إِلَى الصلاة تمحى به الخَطايَا وتَرْفَعُ به الدَرَجَات اعداد: الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذا تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 243.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ،كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَة». الشرح: قال المنذري: باب المشي إلى الصلاة ُتمحى به الخطايا، وترفع به الدرجات. وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في الموضع السابق، وهو في الباب نفسه المتقدم الذي بوبه الإمام النووي. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تطهر في بيته» يعني توضأ أو اغتسل. «ثم مشى إلى بيت من بيوت الله» ثم خرج من بيته ومشى إلى مسجد من مساجد الله، أي: ليقضي فريضة من فرائض الله، أي: قصد المسجد لأداء الفريضة أو النافلة أو قراءة القرآن، ولم يقصده لشيء آخر، لم يقصده لأجل الدنيا، أو الصحبة والأنس بالناس، وإنما قصده لأجل العبادة. قوله: «كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة» كل خطوة يخطوها نحو المسجد تحط عنه خطيئة، أي تمحو عنه سيئة، والخطوة الثانية ترفع له عند الله درجة، فالإنسان إذا مشى إلى المسجد وكان بيته قريبا من المسجد كم خطوة يخطوها؟ على أقل الأحوال يمكن أن يخطو مئة خطوة أو خمسين خطوة، يعني خطواتك هذه تمحو خمسين سيئة عنك، وترفع لك خمسين درجة في الجنة. وإذا رجع أيضا فالأجر ثابت له بعدد الخطوات؛ لأن الرجوع مكمّل للعبادة. وفي حديث آخر: أن النبي [ قال: «منْ غَدا إلى المسجد أو رَاح، أعدّ اللهُ له في الجنة نُزلاً، كلما غَدا أو راح» رواه مسلم. وقال أيضا: «ألا أدلُّكم على ما يَمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط» رواه مسلم. وقد ذكرنا جملة من الأحاديث في هذا في الباب السابق. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد. 49- باب: إتيان الصلاة بالسكينة وترك السعي 244 عَن أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَسَمِعَ جَلَبَةً، فَقَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ؟» قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: «فَلَا تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا سَبَقَكُمْ فَأَتِمُّوا». الشرح: قال المنذري في كتاب الصلاة: باب إتيان الصلاة بالسكينة وترك السعي، وأورد فيه حديث أبي عبد الله بن أبي قتادة، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في كتاب المساجد، وبوب عليه النووي: باب استحباب الصلاة بوقار وسكينة، والنهي عن إتيانها سعيا. قال: عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري، شهد أحدا وما بعدها، مات سنة 54 هـ، وقيل: سنة 38 هـ. قال: «بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع جَلَبة» والجلبة هي أصوات الحركة والاستعجال في المشي والكلام، والإنسان إذا هرول أو ركض يصدر له صوت في الأرض، وحركة في الثياب. قوله: «فقال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة» فالنبي [ سألهم بعد الصلاة عن سبب الحركة والصوت، فقالوا: استعجلنا إلى الصلاة، فقال: «فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة» فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الركض والهرولة والاستعجال إلى الصلاة المنافي للسكينة، ولو كان القصد هو الحرص على إدراك الصلاة. وقال لهم: «إذا أتيتم الصّلاة فعليكم السّكينة» والسكينة من السكون والتأني وترك العبث، وجاء في حديث أبي هريرة مرفوعا: «إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، وَأْتُوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة» يعني حتى لو أقيمت الصلاة وسمعتم الإقامة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، أي تركضون، بل ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة. وفي لفظ لمسلم أيضا: «إذا أُقيمت الصلاة فلا يَسعى إليها أَحدُكم، ولكنْ ليمش وعليه السكينة والوقار»، والسكينة والوقار قيل: هما بمعنى واحد، وإنما جمع بينهما تأكيدا، وقيل: إن السكينة تكون في الحركة، والوقار يكون في الهيئة وخفض الصوت، والإقبال على طريقه بغير التفات، مع غض البصر. وفي هذه الأحاديث: الحث على إتيان الصلاة بالسكينة والوقار، والنهي عن إتيانها سعيا أو ركضا أو هرولة، سواء كان ذلك في صلاة الجمعة أو في غيرها من الصلوات، وسواء أُقيمت الصلاة أو لم تقم، وسواء خاف فوات الركعة أو لم يخف، فالجميع سواء في الحكم النبوي. فإذا قال قائل: فما الجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم هنا«فلا تأتوها وأنتم تسعون، واتوها وأنتم تمشون» وقول الله تعالى {فاسْعوا إلى ذكْر الله} (الجمعة)؟ فالجواب: أن السعي في الآية يقصد به: العمل والذهاب، أي إذا نودي للصلاة هو الذهاب والفعل، يعني اشتغلوا بالذهاب إلى الجمعة، ولا تشتغلوا بشيء آخر من البيع والشراء وغيرها من العقود. وكما قال الله تعالى {وأنْ ليسَ للإنسان إلا ما سَعَى} (النجم). أي: ليس له إلا ما عمل، وما قدّم من فعل وقول. قوله صلى الله عليه وسلم : «فما أدركتم فصلوا وما سبقكم فأتموا»، وفي رواية «فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» دليل على أن ما أدركه المسبوق مع الإمام هو أول صلاته، وما يأتي به بعد سلام الإمام هو آخر صلاته وتمامها؛ لأن النبي [ قال: «وما فاتكم فأتموا» وهذا قول الجمهور من أهل العلم. وعكسه الحنفية فقالوا: ما أدركه مع الإمام هو آخر صلاته، يعني إذا أدرك مع الإمام الثالثة والرابعة تكون الثالثة والرابعة في حقه؟! وحجة الجمهور أن أكثر الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم : «وما فاتكم فأتموا» فالإتمام لغة وشرعاً يعني إتمام ما تبقى، وتكميل ما فات، من الصلاة أو غيرها، وما جاء في بعض الروايات بلفظ «واقض ما سبقك»، فالمراد بالقضاء هنا «الفعل» وليس القضاء المصطلح عليه عند الفقهاء المتأخرين، فالفقهاء يسمون ما يدركه الإنسان في وقته أداء، وما يفعله أو يصليه بعد فوات وقته قضاء، وهو اصطلاح متأخر عندهم، لكن ليس هذا هو المراد في الكتاب العزيز والحديث الشريف، بل قد جاء استعمال القضاء بمعنى «الفعل» في آيات كثيرة، كما قال تعالى: {فقضَاهنّ سبعَ سمواتٍ} (فصلت:12)، أي خلقها وقضى فعلها، وقال: {فإذا قضيتُم مَناسككم} (البقرة:200)، يعني: إذا انتهيتم من فعل المناسك، وكذلك قوله: {فإذا قُضيتْ الصلاةُ فانتشروا} (الجمعة:10)، أي فرغتم من صلاة الجمعة، فالقضاء في هذا كله بمعنى الفعل، ومنه قولهم: قضيت حق فلان. وهذا هو القول الراجح الصحيح الذي عليه عامة أهل العلم. وأيضا قال بعض أهل العلم: إن قوله «وما فاتكم فاقضوا» فهذه الرواية فيها وهم وقع من الزهري، لكن لو قدّرنا عدم الوهم، فإن القضاء المراد به هنا: هو الأداء بمعنى الفعل، كقول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة}. والله تعالى أعلم.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 6 ) باب خروج النساء إلى المساجد اعداد: الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذا تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 245 – عن زَينب الثّقَفية رضي الله عنها قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شَهدتْ إحـدَاكُنّ المسجدَ، فلا تَمسَّ طِيبا». الشرح: قال المنذري: باب خروج النساء إلى المساجد. وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب المساجد (1/326) وبوب عليه النووي: باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج متطيبة. والحديث عن زينب الثقفية، وهي بنت معاوية، وهي امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، صحابية، روى لها الستة. قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شَهِدت إحداكن المسجد فلا تمسّ طيبا» إذا شهدت إحداكن المسجد، أي إذا أرادت شهود الصلاة في المسجد، كما قال تعالى {إذا قُمْتم إلى الصّلاة} (المائدة: 6)، يعني: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم. قوله: «فلا تمس طيبا»، وفي رواية (1/328): «فلا تتطيب تلك الليلة»، فالمرأة إذا أرادت شهود الصلاة في الجماعة مع المسلمين في المسجد، يحرم عليها مس الطيب أو البخور، وفي حديث أبي هريرة مرفوعا عند مسلم أيضا (1/328): «أيما امرأةٍ أصابتْ بخوراً، فلا تَشهد معنا العشاءَ الآخرة» يعني: لا تشهد معنا صلاة العشاء، وهذا النهي للتحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد شدّد فيه، قال المناوي في الفيض ( 3/137 ): لأن الليل آفاته كثيرة، والظلمة ساترة، وخص العشاء لأنها وقت انتشار الظلمة، وخلو الطريق عن المارة، والفجار تتمكن حينئذ من قضاء الأوطار، بخلاف الصبح عند إدبار الليل وإقبال النهار، فتنعكس القضية، ذكره الطيبي. وقال ابن دقيق العيد: وفيه حُرمة التطيب على مريدة الخروج إلى المسجد؛ لما فيه من تحريك داعية شهوة الرجال. قال: وألحق به حُسْن الملبس والحُلي الظاهر. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأةٍ تطيّبتْ ثم خرجتْ إلى المسجد، لم تَقبلْ لها صلاةٌ حتى تَغتسل» رواه ابن ماجة. ووردت أحاديث أخرى في التّشديد على النساء في الخروج متطيبات إلى الطريق، أو خارج بيتها، فقد روى أحمد والترمذي في جامعه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأةٍ استعطرتْ ثم خرجت، فمرتْ على قوم ليجدُوا ريحها، فهي زانيةٌ، وكلُ عينٍ زانيةٌ». فهذا يدل على أن هذا الفعل من كبائر الذنوب، وهو أن تخرج المرأة متعطرة لأجل أن يشم الرجال ريحها وطيبها. فإذا كانت هي ممنوعة من مسّ الطيب إذا أرادت المسجد، فكيف يكون حالها إذا أرادت شهود الأسواق ومجامع الرجال؟! وكيف يكون حال المرأة لو أنها فعلت ما هو أشنع من وضع الطيب، كأن تخرج وقد كشفت عن بدنها وزينتها وتبرجت ووضعت المساحيق والألوان، ولبست الضيق من الثياب أو القصير؟! فهذا أشد قُبحا وخُبثا، وبلا شك هي داخلة في الوعيد السابق في قوله [: «فهي زانية، وكل عين - تنظر لها - فهي زانية؟!». أما إذا أرادت أن تمس الطيب بعد رجوعها إلى بيتها وبعد أن تصلي في المسجد فريضة العشاء، فلا تمنع من الطيب حينئذ. 51 - باب: منع النساء من الخروج 246 - عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: «لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ»، قَالَ: فَقُلْتُ لِعَمْرَةَ: أَنِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُنِعْنَ الْمَسْجِد؟ قَالَتْ: «نَعَمْ». الشرح: قال المنذري: باب منع النساء الخروج. وهو في الباب نفسه الذي سبق في صحيح مسلم ( 1/329). والحديث عن عمرة بنت عبدالرحمن وهو ابن سعد بن زرارة، الأنصارية، من المكثرين عن عائشة، ثقة، روى لها الستة. أنها سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: «لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء» أي لو أنه [ رأى ما أحدث النساء من الزينة والطيب ولبس الثياب الحسنة وإظهار التبرج عند الخروج، لمنعهن من إتيان المسجد، فكيف بغيره من البقاع والأماكن؟! قولها: «كما منعت نساء بني إسرائيل، فقالت عمرة: أنساء بني إسرائيل منعن من المسجد؟ قالت: نعم»، وذلك أنه لما حصل في نساء بني إسرائيل التبرج والتطيب وإظهار الزينة، منعن من الخروج إلى العبادة وأماكنها، لأجل منع الفتنة، وحسم مادة الشر، والشرع دائما يسد الذرائع المفضية إلى المحرمات، فكل ذريعة تؤدي إلى الحرام، وكل وسيلة توصل للحرام، جاء الشرع بسدها ومنعها، فمثلاً منع الشرع المرأة من السفر بغير محرم؛ لأن هذا ذريعة للفتنة والشر، ومنع المرأة أن تخلو برجل أجنبي عنها، وهكذا منع المرأة من التبرج والخروج بالزينة، ومنعها من الخروج وهي متطيبة متبخرة، كل هذه أبواب سدها الشرع لأجل منع الفتنة والشر والمعصية، وإن كان الأصل أنه يجوز للمرأة أن تصلي في المساجد. أما إذا كانت المرأة تخرج إلى المسجد وهي مستترة وتاركة للطيب، ففي هذه الحالة لا يجوز أن تمنع؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا استأذنتْ أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها» رواه مسلم (1/328). وفي لفظ عن ابن عمر قال: قال صلى الله عليه وسلم : «لا تمنعوا نساءكم المساجد، إذا اسْتأذنَّكم إليها» فقال بلال بن عبد الله وهو ابن عمر، قال لأبيه: والله لأمنعهن. قال: فأقبل عليه عبد الله فسبّه سباً سيئا، ما سمعته سبّه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهنّ. وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم : «لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل» فقال ابنٌ لعبدالله بن عمر: لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دغلا - يعني طريقا إلى الفساد - فَزَبره ابنُ عمر - يعني نهره - وقال أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول: لا ندعهن؟! وفي رواية ( 1/326): عنه أيضا قال صلى الله عليه وسلم : «ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد» فقال ابنٌ له يقال له واقدٌ: إذنْ يتخذنه دَغَلاً؛ فضرب في صدره، وقال: أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: لا؟! وضربه له في صدره، نوعٌ من التعزير والتأديب للمعترض على السُّنة والمعارض لها برأيه بغير دليل. وفيه أيضا: تعزير الوالد لولده ولو كان كبيرا، فابن عمر عزّر ابنه بلالا وزجره بالقول أولا، وفي رواية أنه دفعه في صدره. فالمرأة في الأصل لا تمنع من الذهاب إلى المسجد، ولكن بالشروط التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر تفصيلها العلماء وهي مأخوذة من الآيات والأحاديث، وهي: ألا تكون متطيبة، ولا متزينة ولا متبرجة، ولا تلبس مثلاً الخلاخل التي يسمع صوتها، ولا الثياب الفاخرة اللافتة للنظر، ولا تختلط بالرجال في الطريق، ولا أن تكون شابة لا يؤمن عليها في خروجها وحدها، وأن يكون الطريق آمنا فلا يكون فيه ما يخاف عليها منه، ولا بد من استئذان وليها للخروج، وإذا كانت المرأة متزوجة فإنها لا تخرج إلا بإذن زوجها، وألا يكون في خروجها للمسجد ما يضر بزوجها أو أبنائها وبيتها من وظائف وواجبات، فالمرأة أحيانا لو خرجت إلى المسجد ربما يتضرر أولادها الصغار، أو أنْ تخرج وتتركهم في البيت وحدهم ويكون في ذلك خطر عليهم، فلابد إذاً من مراعاة هذه الشروط كلها وما شابهها. والله تعالى أعلم.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 7 ) باب : ما يقولُ إذا دخل المسجد اعداد: الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذا تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 247 .عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَوْ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ: «اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ».الشرح: قال المنذري: باب ما يقول إذا دخل المسجد، وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها (1/494) وترجم عليه النووي هذا الباب نفسه: باب ما يقول إذا دخل المسجد. وفيه حديث أبي حميد، أو أبي أسيد، شكٌ من الراوي . أما أبو حميد فهو الساعدي الأنصاري المدني، اختلف في اسمه فقيل: عبدالرحمن، وقيل : المنذر بن سعد، قال الواقدي : توفي في أخر خلافة معاوية وأول خلافة يزيد ، روى له الستة . وأما أبو أسيد فهو مالك بن ربيعة الساعدي ، صحابي شهد بدراً والمشاهد كلها ، روى له الستة . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك « أي : إذا أراد أنْ يدخل المسجد سأل الله تبارك وتعالى أنْ يفتح له أبواب رحمته ، من المغفرة والفضل والرزق والإحسان وغيره. وقوله: «وإذا خرج من المسجد فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك» وعادة أن الإنسان إذا خرج من المسجد، بعد أن يؤدي الصلاة، يبتغي من فضل الله تعالى، إما أن يذهب إلى السوق ليشتري له حاجة، ثم يرجع إلى بيته، وإما أنْ يخرج من المسجد لدكانه أو سوقه، أو لمقر عمله ووظيفته، ولذلك يسأل الله تبارك وتعالى من فضله ورزقه. وجاء أيضا عند أصحاب السنن: أنه[ كان يقول إذا دخل المسجد: بسم الله، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، اللهم إني أسألك من فضلك. وجاء أيضا في الحديث : عن ابن عمرو بن العاص أنه كان يقول صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد: «أعوذُ باللهِ العظيم، وبوجهه الكريم، وسُلطانه القديم من الشيطانِ الرجيم، فإذا قال ذلك قال الشيطان: حُفِظ مني سائرَ اليوم». رواه أبو داود (466). وروى البخاري ومسلم وأبو داود النسائي: عن ابن عباس قَالَ : بِتُّ ذَاتَ لَيْلَةٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجرِ، وَخَرَجَ إِلَى الصَّلاةِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا ، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا ، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، وَاجْعَلْ أَمَامِي نُورًا، وَمِنْ خَلْفِي نُورًا، اللَّهُمَّ وَأَعْظِمْ لِي نُورًا»، قَالَ: فَأَقَامَ بِلالٌ الصَّلاةَ فَصَلَّى . وقال أهل العلم: إنه يدخل المسجد برجله اليمنى، وإذا خرج يخرج برجله اليسرى، فيقدم اليمنى لأعمال البر والطاعة والعبادة، ويقدم اليسرى لدخول الخلاء وغيره . والله تعالى أعلم . 53- إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فليَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ 248 .عَنْ أَبِي قَتَادَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النَّاسِ، قَالَ: فَجَلَسْتُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ؟»، قَالَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُكَ جَالِسًا، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ، قَالَ: «فَإِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ». الشرح : قال المنذري رحمه الله: باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين . والحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها (1/495)، وبوب عليه النووي: باب استحباب تحية المسجد بركعتين، وكراهية الجلوس قبل صلاتهما، وأنها مشروعه في كل الأوقات. ورواه البخاري في الصلاة ( 444 ) باب: إذا دخل المسجد فليركع ركعتين. وأبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي السَّلمي المدني ، أحد الفوارس المشهورين من أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم شهد أُحدا وما بعدها، مات سنة (54) هـ روى له الجماعة. قال: «دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهراني الناس «كان جالسا بينهم إما في حلقة علم، أو في حلقة قراءة للقرآن وما أشبه ذلك، وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنيجلس بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، وكان أصحابه يتحدثون أحيانا معه ويخوضون في أمور الجاهلية ، وما كانوا عليه قبل الإسلام ، وربما تبسم صلى الله عليه وسلم من ذلك . قال: «فجلست» أي قبل أن يصلي شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلم له: «ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس» لما دخل أبو قتادة وجلس قبل أن يصلي، نبّهه النبي صلى الله عليه وسلمإلى الصلاة، فقال له: «ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟». قوله: «فقال: يا رسول الله، رأيتك جالسا والناس جلوس» يعني هذا الذي دعاني إلى عدم الصلاة، هو أني رأيتك جالسا والناس حولك جلوس، فتركت الصلاة من أجل أن أغتنم المجلس وألحق به وبأهله . فلم يعد النبي صلى الله عليه وسلم هذا سببا لترك الركعتين عند دخول المسجد، بل قال له: «فإذا دخل أحدكم المسجد ، فلا يجلس حتى يركع ركعتين»، أي: في أي وقت من الأوقات ، والأصل في الأمر الوجوب، وأيضا لنهيه عن تركها ، بقوله: «فلا يجلس حتى يركع..» والأصل في النهي التحريم، كما هو معلوم من أصول الفقه. ومثله ما جاء عَنْ جَابرِ بْنِ عَبْد الله قال: جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ورَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَجَلَس فقال له: «يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتين، وتَجَوَّزْ فيهما» ثُمَّ قال: «إذا جاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، والإمَامُ يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فيهما»، رواه مسلم في الجمعة (2/ 597). وهذا يدل على أن تحية المسجد لا تترك في أي حالٍ من الأحوال ، حتى ولو في حال خُطبة الإمام يوم الجمعة، فلو كانت التحية تترك في حال من الأحوال لتُركت في حال الخطبة ، لأن سماع الخطبة واجب ، لكنْ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها في هذا الوقت ، ولما كان سليكا يجهل حكم هذه الصلاة، أمره النبي[ أن يقوم فيصليها، وهذا يدل على وجوب تداركها إذا لم يصل . أما إذا دخل وقد أقيمت الصلاة، فإنه لا يجوز له أن يشتغل بغير الصلاة القائمة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أُقيمت الصلاة، فلا صلاةَ إلا المكتوبة» رواه مسلم والأربعة. ولإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من اشتغل بالصلاة الراتبة عند إقامة الصلاة المفروضة كما في الصحيح . ولهذا ذهب داود وابن حزم والظاهرية إلى وجوب تحية المسجد، لهذه الأدلة الواضحة . وقال العلامة الصديق حسن خان: أدلة الوجوب أوضح من الشمس، فقول الإمام النووي وغيره من العلماء باستحباب تحية المسجد، وكراهة الجلوس قبل صلاتهما، لا يتفق مع هذا الحديث، ولا مع غيره كحديث سليك الغطفاني يوم الجمعة؟! وذهب أيضا العلامة الشوكاني في كتابه «الفتح الرباني» إلى أن تحية المسجد واجبة. ثم الجمهور من الفقهاء على أنها مشروعة في جميع الأوقات، حتى في أوقات النهي، أي وقت دخل فيه المصلي إلى المسجد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق في حديثه ، فقال: «إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يركع ركعتين»، ولم يقيد ذلك بوقتٍ دون وقت ، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى كراهيتها في وقت النهي، والحجة عليه أولا أن الحديث الوارد فيها عام غير مخصوص. والثاني: أن التحية لو كانت تترك بحال من الأحوال، لتركت في حال الخطبة التي يمنع فيها المسلم من رد السلام والكلام. فالراجح في هذا أن تحية المسجد تصلى في كل الأوقات. والله تعالى أعلم
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 8 ) باب: النهي أن يخرج من المسجد بعد الأذان اعداد: الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. . عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْمَسْجِدِ يَمْشِي، فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم. الشرح: قال المنذري: باب النهي أن يخرج من المسجد بعد الأذان. والحديث أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1/453)، وبوب عليه النووي (5/157): باب فضل صلاة الجماعة وبيان تشديد التخلف عنها. أبو الشعثاء مشهور بكنيته، واسمه جابر بن زيد الأزدي، ثم الجعفي البصري، ثقة فقيه، قال ابن عباس عنه: لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علماً من كتاب الله. وقال ابن حبان: كان فقيهاً ودفن هو وأنس بن مالك في جمعة واحدة، وكان من أعلم الناس بكتاب الله. روى له الجماعة. قال: «كنا قعودا في المسجد مع أبي هريرة» فيه قعود السلف رحمهم الله في المساجد للتذاكر وقراءة القرآن، وغير ذلك من أنواع القربات، وكان أبو هريرة رضي الله عنه كان له مجالس عظيم، وأصحاب كثيرون يحدث فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما حفظه منه، إذْ كان من أوسع الصحابة حفظا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكثرة ملازمته له، وتفرغه للسماع منه، وببركة دعائه صلى الله عليه وسلم له بألا ينسى شيئا من الحديث، فكان كذلك. قال: «فأذّن المؤذن» أي حان وقت الأذان فأذن المؤذن للصلاة داخل المسجد «فقام رجل من المسجد يمشي» أي قام رجل ممن كان جالسا بالمسجد، بعد سماعه للأذان يمشي متجها للخروج منه. قوله: «فأتبعه أبو هريرة بصره»؛ أي نظر إليه أبو هريرة وتابعه ببصره حتى خرج من المسجد، وإنما تابعه ببصره لينظر ماذا يفعل، فلما خرج من المسجد بعد الأذان وقبل أن يصلي، قال: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم»، وفي هذا الإنكار دليل على أن الخروج من المسجد بعد الأذان، وقبل الصلاة منهي عنه، وأنه معصية لأن أبا هريرة رضي الله عنه قال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم، ويقصد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كنية النبي صلى الله عليه وسلم، والقاسم هو أحد أبنائه صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث وإن كان من قول أبي هريرة رضي الله عنه لكن له حكم الرفع؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه نسبه للرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنه جزم بهذا الحكم الشرعي، وإن هذه معصية للرسول صلى الله عليه وسلم. وقد روى الإمام أحمد رحمه الله في المسند (10946) بسند حسن ما يؤيد ذلك: وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة، فلا يخرج أحدكم حتى يصلي»، وقال الترمذي رحمه الله: وعليه العمل عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني أنهم كانوا يكرهون أن يخرج الرجل من المسجد بعد الأذان قبل أن يصلي، إلا لعذر مثل أن يريد أن يتوضأ، والوضوء خارج المسجد، فيخرج من المسجد لأجل الوضوء، ومثل أن يريد الرجوع إلى بيته لإيقاظ أهله للصلاة بعد أن أذن المؤذن وهو بالمسجد، أو أن يريد الصلاة بمسجد آخر يدرك فيه الجماعة، ويكون خروجه لغرض صحيح مثل أن يكون فيه درس أو طلب علم، أو يريد أن يصل رحمه فيه، أو يزور أصحابه ونحو ذلك من المقاصد الشرعية، أما إذا خرج من المسجد بعد الأذان وقبل أن يصلي، وهو لا يريد الرجوع إلى الصلاة، فقد عصى الرسول صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث الصحيح. 55 - باب: كفّارة الْبُزَاق فِي الْمَسْجِدِ 250. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا». الشرح: قال المنذري: باب كفاره البزاق في المسجد. وقد أخرجه الإمام مسلم في كتاب المساجد (1/390) وبوب عليه النووي (5/41): باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها. ورواه أيضا البخاري (415) فالحديث متفق عليه. والبزاق بالزاي، ويقال البصاق بالصاد، وهما لغتان مشهورتان صحيحتان، وهناك لغة قليلة غير مستعملة: بساق، ويعدها بعض أهل العلم غلطا، والصحيح المشهور أنها إما بالصاد وإما بالزاي. قول النبي صلى الله عليه وسلم: «البزاق في المسجد خطيئة» وفي رواية لمسلم: «التَّفلُ في المسجد خطيئةٌ». وجاء أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى الرجل أن يتنخم في المسجد»، والنخامة ما يخرج من الصدر، والنخاعة ما يخرج من الرأس، يقال: تنخم وتنخع. ففي هذه الأحاديث بيان أن البصاق في المسجد خطيئة، أي إثم وذنب ومعصية، سواء كان في أثناء الصلاة أو كان خارجها، وسواء احتاج إليه أم لا، لكن إذا احتاج إلى البصاق، ولم يكن معه منديل، يبصق في ثوبه كما جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ُنخامة في قبلة المسجد، فأقبل على الناس فقال: «ما بالُ أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه ؟! أيحبُّ أحدكم أنْ يُستقبل فيتنخع في وجهه ؟! فإذا تنخعَ أحدُكم فليتنخعْ عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا» ووصف القاسم – أحد رواة الحديث – فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض. رواه مسلم (1/ 389). وهذا إذا كان يصلي خارج المسجد يبصق عن يساره أو يبصق تحت رجله، أو كان المسجد مفروشا بالتراب حيث يمكنه دفنها في أرضه. وقوله عليه الصلاة والسلام: «وكفارتها دفنها» أي عليه أن يكفر هذه الخطيئة بدفن البصاق، في تراب المسجد، أو يخرجها من المسجد، هذه كفارة هذه الخطيئة والذنب، كما أن للأيمان كفارات ولمحظورات الإحرام كفارات، فهذا كفارة البصاق في المسجد. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، كما في حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بُصاقا في جدار القبلة أو مخاطا أو نُخامة، فَحكّه. رواه مسلم (1/389). وترك البصاق في المسجد لا يجوز، ويدخل في الذّم كل من رآه ولم يدفنه أو يمسحه بمنديل ونحو ذلك، كما في الحديث: عن أبي ذر رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُرضتْ علي أعمالُ أمتي، حسنُها وسيّئها، فوجدتُ في محاسن أعمالها: الأذى يُماطُ عن الطريق، ووجدتُ في مساوئ أعمالها: النّخاعة تكونُ في المسجد لا تدفن» رواه مسلم (1/390). وقال القاضي عياض وبعض أهل العلم: ليس بخطيئة - يعني البصاق في المسجد - إلا في حق منْ لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فليس بخطيئة! فرده النووي- رحمه الله- بما حاصله: أن هذا كلام باطل، وغلط صريح مخالف لنص الحديث. أي: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول صريحا: البصاق في المسجد خطيئة، فكيف يقول القاضي عياض وغيره إنه يجوز البصاق في المسجد لكن يدفنه ؟! فهذا مخالف لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، ومخالف أيضا لما قاله أهل العلم في هذا. أما المراد بدفنها: فأن يدفنها في تراب المسجد ورمله، إذا حصل ذلك وإلا فيخرجها، أي إذا كان المسجد مفروشا بالسجاد فعليه أن يخرجها أو يمسحها بمنديل ونحوه. وأيضا ورد في الحديث تحريم التفل تجاه القبلة إذا كان الإنسان يصلي، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه إذا صلى» رواه مسلم (1/388). فإذا صلى الإنسان فإنّ الله تعالى قبل وجهه، أي تجاه وجهه وأمامه إذا صلى؛ ولذلك يحرم على المصلي أن يبصق أمامه، أو أن يبصق عن يمينه ولكن يبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى، وهذا إذا كان خارج المسجد إذا كان يصلي في صحراء أو في طريق. وأيضا: يحرم التفل تجاه القبلة عموما ولو خارج الصلاة؛ لحديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «منْ تفل تجاه القبلة، جاء يوم القيامة وتفلُه بين عينيه» أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان (332 – موارد) والألباني في الصحيحة (222). ويستفاد من هذا حديث الباب أيضا: أن البصاق والمخاط والنخامة من الطاهرات، مثل عرق الإنسان ودمعه؛ لأنها لو كانت نجاسات لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفنها في المسجد، ولما تفل في ثوبه. وأيضا في الحديث: أنه يجوز للإنسان إذا احتاج للبصاق أن يبصق في أثناء الصلاة؛ لأن هذه حركة للحاجة، فالمصلي إذا احتاج أن يبصق في منديل أثناء صلاته، أو يتمخط أثناء صلاته، جاز للحاجة، ويدفع ذلك قدر الإمكان، يدافع الحركة غير الضرورية قدر الإمكان. وفي الحديث: أن تنحنح أو تنخع المصلي لا تبطل به صلاته، ولو خرج منه حرفان فأكثر، فالإنسان إذا قال: أخ أو قال أح بان منه حرفان، وهذا لا يبطل الصلاة؛ لأنها حركة وصوت للحاجة، وهو مغلوب عليها فلا حرج عليه في ذلك، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 9 ) باب: كراهية أكل الثوم وإتيان المساجد اعداد: الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 251.عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - يَعْنِي الثُّومَ - فَلَا يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِدَ». الشرح: قال المنذري: باب كراهية أكل الثوم وإتيان المساجد. والحديث رواه الإمام مسلم رحمه الله في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1/ 393) وبوب عليه الإمام النووي (5/48): باب نهي من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا، أو نحوها مما له رائحة كريهة، عن حضور المسجد، حتى تذهب تلك الريح، وإخراجه من المساجد. وحديث الباب حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر» وغزوة خيبر كانت سنة ثمان من الهجرة؛ حيث فتح فيها حصن خيبر، وهو حصنٌ حصين من حصون اليهود قريب من المدينة على بعد ثمانين كيلا تقريبا، وذلك عندما أبدى يهود خيبر عداء سافراً للمسلمين، ولا سيما عندما لحق بهم زعماء بني النضير لما أجلوا عن المدينة فنزلوا خيبر: وهم سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، فلما نزلوها نزلوا بأحقادهم ضد المسلمين؛ ولذا كانوا كلما وجدوا فرصة للانتقام من المسلمين انتهزوها، ووجدوا في قريش وبعض قبائل العرب بغيتهم، فألبوهم ضد المسلمين، ثم جروهم إلى غزوة الخندق، وسعوا في إقناع بني قريظة بالانضمام إليهم والغدر بالمسلمين؛ ولذا كانت تلك العقوبة الرادعة التي أنزلها المسلمون بهم بعدما صرف الله عنهم الأحزاب، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية عبد الله بن عتيك للقضاء على رأس من رؤوسهم أفلت من العقاب يوم قريظة، وهو سلام بن أبي الحقيق، فقتلوه. وكانت هدنة الحديبية فرصة أمام المسلمين للقضاء على ما يشكل خطورة على أمن المسلمين، وقد وعد الله المسلمين بمغانم كثيرة يأخذونها إذا هزموا يهود خيبر، وقد كان ذلك، فغنموا الأراضي والأموال والنساء والذراري وغيرها، ولله الحمد والمنة. قوله صلى الله عليه وسلم: «منْ أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم -فلا يأتين المساجد» وفي الرواية الأخرى: «فلا يقربنّ مساجدنا حتى يذهب ريحها». وفي حديث أنس رضي الله عنه عند مسلم: «فلا يقربنا ولا يصلي معنا» وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لا يُؤذينا بريح الثوم». وهذا كله فيه تصريحٌ بالنهي عن أكل الثوم ونحوه ثم دخول المسجد، وهذا مذهب أهل العلم كافة، وقال بعض أهل العلم: إنه خاص بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم! لكن حديث الباب يرده؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «فلا يأتين المساجد» وهذا فيه تعميم، فيشمل عموم المساجد، فالنهي عام لكل لمن أكل بصلا أو ثوما أن يحضر المسجد أي مسجد كان، ويلحق به: من أكل فجلا وكان يتجشأ، قاله عياض. وقال ابن المرابط: ويلحق به من به بَخَر في فيه، أو به جرح أو رائحة. والبخر هو النتن الذي يكون في الفم من علة. وهكذا يلحق بالثوم والبصل والكراث، كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها، أو ظهور رائحة العرق، بجامع الرائحة المنفرة، فالحديث فيه معنى ونص، أما النص فهو النهي عن أكل الثوم، وسيأتي أيضا النهي عن أكل البصل والكراث، وأما المعنى في الحديث: فهو النهي عن أكل أي شيء له رائحة منتنة أو منفره، ثم حضور المساجد؛ لأنها مكان اجتماع الناس للصلاة والذكر، ومحل اجتماع الملائكة وهي تتأذى مما يتأذى منه الناس. وقاس العلماء على المساجد: مجامع المسلمين الأخرى غير المسجد، كمصلى العيد والاستسقاء والجنائز بجامع اجتماع الناس فيها، وكذلك مجامع العلم والذكر، كالحلق العلمية والمحاضرات، وحلق قراءة القرآن وتدارسه وتعلمه وتعليمه ونحوها، ولا ُيلحق بها الأسواق ولا الطرقات وغيرها. وفي الحديث: أن منع أكل الثوم إنما هو عند إتيان المساجد ونحوها فقط، أو الوقت الذي تقام فيه الصلاة؛ لئلا يذهب بعد أن يأكل البصل أو الثوم فيؤذي المسلمين، وليس فيه تحريم الثوم أو البصل مطلقا؛ لأنه مما أباحه الله تعالى. ومن أدلة إباحة البصل والثوم: قول الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابي: «ُكلْ، فإني أناجي من لا تناجي» كما سيأتي في الحديث الذي بعده. ومنها: حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «منْ أكلَ من هذه الشجرة الخبيثة شيئاً، فلا يَقربنا في مسجدنا» فقال الناس: حرّمتْ حرمت، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس، إنه ليس بي تحريمُ ما أحلّ الله لي، ولكنها شَجرةٌ أكرهُ ريحها» رواه مسلم (1/395). وقال أهل الظاهر: إنّ هذه البقلة إذا منعتْ من حضور الجماعة فهي حرامٌ؛ لأن الجماعة واجبة عند الظاهرية، وهو القول الصحيح عند أهل الحديث. 57- باب: اعتزال المسجد منْ أكلَ البّصل والكُراث والثّوم 252. عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ» وَإِنَّهُ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُولِ، فَقَالَ: «قَرِّبُوهَا» إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: «كُلْ، فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي». الشرح: قال المنذري: باب اعتزال المسجد من أكل البصل والكراث والثوم. الحديث أورده الإمام مسلم في الموضع السابق (1/394) وهو في الباب المتقدم فيه. قوله: إن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكل ثوما أو بصلاً فليعتزلنا، أو ليعتزلْ مسجدنا، وليقعدْ في بيته» وهذا دليل على منع من أكل البصل أو الثوم من دخول المساجد، كما سبق ذكره، وكذلك منعه من حضور مجامع المؤمنين التي يجلسون فيها ويجتمعون؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: «فليعتزلنا» يفيد أيضا المنع من حضور مجامع المسلمين كحلق الذكر والعلم ونحوها. قوله: «وليقعد في بيته»، يعني لا يجوز له أن يصلي مع الجماعة إذا أكل بصلاً أو ثوما، وليس هذا برخصة له أن يصلي في بيته، إنما هو منع له من حضور الجماعة؛ لئلا يتضرّر به الناس، وإذا تعمد الأكل من البصل أو الثوم وقت الصلاة ثم ترك الجماعة بسبب ذلك، فهو آثم، وإذا قدر على إزالة الرائحة من فمه بعد أن أكل البصل والثوم، فهذا واجب، كأن يأكل بعض الأعشاب أو بعض الأطعمة المطيبة لرائحة الفم، فإنه يجب من أجل ألا تفوت عليه صلاة الجماعة. قوله: «وانه صلى الله عليه وسلم أُتي بقدر فيه خضرات» والخضرات هي البقول، وفي بعض الروايات: «أتي ببدر» والبدر في اللغة يطلق على الطبق المستدير، الذي يتخذ من الخوص وهو ورق النخل، وسمي بدراً لأنه مستدير كبدر السماء. قوله: «فوجد لها ريحا» ذلك أن رائحة الثوم أو البصل أو الكراث تكون نفاذة وظاهرة في الطعام، «فسأل عما فيه من بقول، فأخبر بما فيها، فلما أخبر بما فيها من البقول، قال: «قربوها»، إلى بعض أصحابه، يعني أعطوها فلانا لرجل من أصحابه فليأكلها، فلما رآه الصحابي كره أكلها ودفعها إليه، كأنه كره أن يأكل منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: «كُلْ؛ فإني أناجي من لا تناجي» أي: هناك فرقٌ بيني وبينك فأنت لست مثلي، ليس من جهة البشرية، وإنما من جهة الوحي ومناجاة الله تعالى، فأنا يوحى إلي، كما قال الله عز وجل: {قلْ إنما أنَا بشرٌ مثلكم يُوحى إليّ}. فقوله: «فإني أناجي من لا تناجي» قال أهل العلم: المقصود به المناجاة مع جبريل عليه الصلاة والسلام، فإن جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي من القرآن والسنة، ومعلوم أن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم من الروائح الكريهة والخبيثة. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أكل البصل والثوم والكراث فلا يَقْربنّ مسجدنا؛ فإنّ الملائكة تتأذّى مما يتأذّى منه بنو آدم» وفي لفظ «مما يتأذى منه الإنس». رواه مسلم (1/ 394-395). أي إن الملائكة تكره الروائح الخبيثة، كما يكره بنو آدم الروائح الكريهة، بخلاف الشياطين فإنها تميل إلى الأماكن الخبيثة والنجسة والروائح الخبيثة، كالخلاء ومواضع قضاء الحاجات، وما أشبه ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا: «إنّ هذه الحُشوش محتَضَرة، فإذا أتى أحدُكم الخلاء فليقل: أعوذُ بالله من الخُبُثِ والخبائث» رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والحشوش جمع حُش، وهو مكان قضاء الحاجة، ومحتضرة يعني تحضرها الشياطين وتكثر فيها، أما الملائكة فإنها تتنزه عن أماكن النجاسات، ومواضع قضاء الحاجة، والمواضع ذوات الروائح الكريهة. وهذا الحديث يدل على إباحة أكل الطعام الذي فيه بصل أو ثوم أو كراث، لأنه صلى الله عليه وسلم قال للصحابي: «كل» وهذا لفظ أمرٍ يفيد الإباحة على أقل الأحوال. بل استنبط منه بعض الأطباء المعاصرين منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حثّ على أكل الثوم والبصل، وقال للصحابي: كل، وهو لفظ أمر، وأقل أحوال الأمر أن يفيد الاستحباب والحث، وأخذ من ذلك أن هذه النبتة فيها فوائد طبية جمّة للبدن، فثبت أن لها فوائد في تخفيض ضغط الدم، وتخفيض نسبة الدهون بالدم، ومكافحة الفطريات والجراثيم والميكروبات، ففيها مادة فعاله قاتلة للجراثيم وغير ذلك. وكذلك البصل، ففيه فوائد ومنافع أيضا، ففيه مادة اليود، وهي مادة قاتلة للجراثيم، وفي الأمثال يقولون: أرض تصلها، كُل بصلها، أي: إذا وصلت أرضا مسافرا، فلأجل ألا تصاب بشيء من الحمى أو المرض، أو تستوخم البلد بسبب اختلاف الهواء، أو بسبب اختلاف الطعام، كل من بصل هذه الأرض، فسيحميك الله به من الأمراض.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (10) باب: إخراج منْ وُجدَ منه ريح البصل والثوم من المسجد اعداد: الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 253. عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَذَكَرَ نَبِيَّ اللَّهِ وَذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ، قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَنِي ثَلَاثَ نَقَرَاتٍ، وَإِنِّي لَا أُرَاهُ إِلَّا حُضُورَ أَجَلِي، وَإِنَّ أَقْوَامًا يَأْمُرُونَنِي أَنْ أَسْتَخْلِفَ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيُضَيِّعَ دِينَهُ وَلَا خِلَافَتَهُ وَلَا الَّذِي بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ عَجِلَ بِي أَمْرٌ فَالْخِلَافَةُ شُورَى بَيْنَ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ، الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، وَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَقْوَامًا يَطْعَنُونَ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَنَا ضَرَبْتُهُمْ بِيَدِي هَذِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَأُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْكَفَرَةُ الضُّلَّالُ، ثُمَّ إِنِّي لَا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا أَهَمَّ عِنْدِي مِنْ الْكَلَالَةِ، مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، أَلَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَإِنِّي إِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ يَقْضِي بِهَا مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ عَلَى أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ، فَإِنِّي إِنَّمَا بَعَثْتُهُمْ عَلَيْهِمْ لِيَعْدِلُوا عَلَيْهِمْ، وَلِيُعَلِّمُوا النَّاسَ دِينَهُمْ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ، وَيَقْسِمُوا فِيهِمْ فَيْئَهُمْ، وَيَرْفَعُوا إِلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ، لَا أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ: هَذَا الْبَصَلَ وَهكذَا الثُّومَ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنْ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ، أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا. الشرح: قال المنذري: باب إخراج من وجد منه ريح البصل والثوم من المسجد. والحديث رواه مسلم في الباب المتقدم. وهو حديث لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه طويل أنه «خطب يوم الجمعة، فذكر نبي الله تعالى، وذكر أبا بكر رضي الله عنه» يعني ذكر ولاية النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة، ثم خلافة أبي بكر رضي الله عنه. ثم قال: «إني رأيت كأن ديكا نقرني ثلاث نقرات، وإني لا أراه إلا حضور أجلي» أي إن عمر رضي الله عنه رأى في المنام رؤيا، وهي كأن ديكا نقره ثلاث نقرات، فعبر ذلك بمن يطعنه أو يقتله بثلاث ضربات؛ ولهذا قال: وإني لا أراه إلا حضور أجلي. قوله: «وإن أقواما يأمرونني أن أستخلف، وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته» يقول: إن بعض الناس يقولون لي: استخلف خليفة، اجعل لك من يلي خلافة المسلمين بعدك إذا مت. ثم قال: «وإن الله عز وجل لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته» أي: إن أستخلف فحسن، وإن تركت الاستخلاف فحسن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدا، وإن الله عز وجل لم يكن ليضيع أمر المسلمين، بل الله سبحانه وتعالى يقيم للمسلمين من يقيم لهم أمر دينهم ودنياهم؛ لأن هذا الدين محفوظ بحفظ الله عز وجل وليس بحفظ الناس، وقد تكفل بأن يتم هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار. ثم قال: «ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم» يعني لم يكن الله تعالى ليضيع دينه ولا خلافته والذي بعث نبيه صلى الله عليه وسلم. قوله: «فإن عجل بي أمر (يعني إن حصل الموت على عجالة أو فجأة) فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض» والستة: هم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، فهؤلاء الستة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وهم أيضا من العشرة المبشرين بالجنة. ولم لِمَ يذكر سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل معهم، وهو أحد العشرة المبشرين ؟ قالوا: لأن سعيدا له قرابة من عمر رضي الله عنه، فتورع عمر أن يدخله في الستة؛ لئلا يتهم بأنه يحابي قرابته رضي الله عنه وأرضاه، كما تورع أن يدخل معهم ابنه عبدالله رضي الله عنهم. قوله: «وإني قد علمتُ أن أقواما يطعنون في هذا الأمر» يعني يطعنون في أمر الخلافة، ويطعنون بفتح العين أصح. قوله: «أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام» يعني هم الآن يطعنون ويعترضون علي، وعلى تولية الأمور لأهلها، وأنا كنتُ أحد من ضربهم بيدي على الإسلام، يعني قاتلتهم على الإسلام حتى أسلموا، ثم هم الآن يعترضون؟! قوله: «فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال» أي: إذا فعلوا ذلك مستحلين له فهم كذلك، وإن لم يستحلوه فالمقصود أن فعلهم فعل الكفرة والضلال، وهذا يدل على خطورة الكلام في مثل هذا الأمر؛ لأنه يفرق جماعة المسلمين، ويشق صفهم. قوله: «ثم إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة، وما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري فقال: يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف، التي في آخر سورة النساء» أي إن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة وأكثر السؤال عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تكفيك آية الصيف» سميت بآية الصيف لأنها نزلت صيفا، وإن بعض الآيات نزلت صيفا وبعضها شتاء، مثال الآيات النازلة في الشتاء آية براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك، فقالت: وإن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشاتي. وهذا أيضا من تميز الصحابة رضي الله عنهم وحفظهم لكتاب الله تعالى ومواضع نزوله، وأوقات ذلك، وأسباب النزول مما يعين على فهم القرآن الكريم. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «التي في آخر سورة النساء» يدل على جواز قول: سورة النساء، وسورة البقرة وسورة آل عمران وهكذا، وهو مذهب انعقد الإجماع عليه، كما قال النووي رحمه الله؛ لأن بعض السلف كان يمنع من ذلك ويقول: السورة التي يذكر فيها النساء، السورة التي يذكر فيها البقرة، لكن الدليل هنا واضح وفي غيره من الأحاديث. والآية هي قوله تعالى: {يَستفتُونك قلْ اللهُ يُفتيكم في الكَلالة إنْ امرؤٌ هلكَ ليس له ولدٌ وله أختٌ فلها نصفُ ما تركَ وهو يرثها إنْ لم يكن لها ولد} (النساء:176)، والكلالة هو من يهلك وليس له ولد ولا والد يرثه، فليس له ولد هو نص الآية، وقولنا: ولا والد، بدليل أن الله قال {وله أخت} فلو كان له والد لذكره الله عز وجل، ولأن الأخت لا ترث مع وجود الأب، كما هو معلوم بل هي محجوبة به، فالكلالة إذاً: من ليس له فرع وارث ولا أصل، فهذا يرثه الحواشي من أهله، وهم إخوانه وأخواته، أي الذكور والإناث. قوله: «وإني إن أعش أقضي فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن» يعني: يستوي في فهمها العالم والجاهل. وقوله «وإني إن أعش» فيه دليل على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة. ثم قال: «اللهم إني أشهدك على أمراء الأنصار وإني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا عليهم وليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، ويقسموا فيهم فيئهم ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم» وهذا غاية التقوى والإخلاص من عمر رضي الله عنه، والتبرؤ من أغلاط الأمراء والعمال والموظفين؛ إذ يقول: ما بعثت الولاة والعمال الذي هم أمراء عمر رضي الله عنهم على الأمصار والبلدان إلا ليعدلوا بين الناس في القضايا، وليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، و«يقسموا فيهم فيئهم» أي غنائمهم، و«يرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم»، فإذا أشكل عليهم من أمرهم يراجعون الخليفة فيه. وإنما قال ذلك رضي الله عنه إشهادا لله عز وجل على عمله الذي يوافق ظاهره باطنه، وأيضا إنما قال ذلك تنبيها ونصحا للأمراء من بعده. ثم قال وهذا موضع الشاهد من الحديث كله: «ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين هذا البصل وهذا الثوم» وفيه وصف عمر رضي الله عنه للبصل والثوم بالشجرتين الخبيثتين، والخبيث في كلام العرب هو المكروه من قول أو فعل أو مال أو طعام أو شراب أو شخص، ولا يدل ذلك على تحريم البصل والثوم؛ لأن الثوم والبصل لو كانا حراما لحرمهما عمر، وإنما قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن وجد منه ريح الثوم والبصل ونحوهما من الروائح المنفرة والخبيثة، فإنه يخرج من المسجد، وهذا لمن بيده سلطة وقدرة من وال ونحوه. وهذا فيه إنكار المنكر باليد، وإنكار المنكر باليد يشترط فيه الاستطاعة، والاستطاعة استطاعة شرعية واستطاعة بدنية، والمقصود هنا الاستطاعة الشرعية أن يخرجه إمام المسجد إن كان له سلطة أو يخرجه من له ولاية إن أمكنه ذلك. ثم قال: «فمن أكلها فليمتهما طبخا» أي يميت ويقطع رائحتها بالطبخ، من أمات الشيء، أي كسر حدته وقوته، هذا معنى إماتة الشيء. وفي هذا أن عمر رضي الله عنه نهى عن أكلهما نيئين لا مطبوخين، لأنهما إذا طبخا ذهبت الرائحة. هذا وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |