تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 8 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         عقد مودة ورحمة بين زوجين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          16طريقة تجلب بها البركة لبيتك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          ألا تشعرين بالحر ؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          المرأة عند الإغريق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          القاضي الفارس الفرج بن كنانة وأسد بن الفرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          مجموع الأثبات الحديثية لآل الكزبري الدمشقيين وسيرهم وإجازاتهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          من مواعظ الإمام سفيان الثوري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          أولادنا... هل نستوعبهم؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          الشَّبَابُ وَرَمَضَان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          هل في الشر خير؟ دروس من قصة الإفك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 21 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #71  
قديم 23-09-2021, 12:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,965
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (69)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (24)
صـ 441 إلى صـ 445

فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُمْ لَوْ دَلُّوهُ عَلَيْهِ كَانَ بِمَثَابَةِ مَا لَوْ صَادُوهُ فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ ; وَيُفْهَمُ مِنْ [ ص: 441 ] ذَلِكَ لُزُومُ الْجَزَاءِ ، وَالْقَاعِدَةُ لُزُومُ الضَّمَانِ لِلْمُتَسَبِّبِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَضْمِينُ الْمُبَاشِرِ ، وَالْمُبَاشِرُ هُنَا لَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ الصَّيْدَ ; لِأَنَّهُ حَلَالٌ ، وَالدَّالُّ مُتَسَبِّبٌ ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَظْهَرُ ، وَالَّذِينَ قَالُوا بِهِ مِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الدَّلَالَةَ ، وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ خَفَاءَ الصَّيْدِ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ دُونَ الدَّلَالَةِ ، كَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ : لَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِ .

وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ نَحْوُهُ ، قَالُوا : لِأَنَّ الصَّيْدَ يُضْمَنُ بِقَتْلِهِ ، وَهُوَ لَمْ يَقْتُلْهُ وَإِذَا عَلِمَ الْمُحْرِمُ أَنَّ الْحَلَالَ صَادَهُ مِنْ أَجْلِهِ فَأَكَلَ مِنْهُ ; فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَامِلًا عِنْدَ مَالِكٍ ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي " مُوَطَّئِهِ " ، وَأَمَّا إِذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ مُحْرِمًا آخَرَ عَلَى الصَّيْدِ فَقَتَلَهُ ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : عَلَيْهِمَا جَزَاءٌ وَاحِدٌ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ كَامِلٌ ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ أَيْضًا صَاحِبُ " الْمُغْنِي " .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْجَزَاءُ كُلُّهُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْمُبَاشِرِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ الدَّالِّ شَيْءٌ ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْمُبَاشِرِ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ فِي الضَّمَانِ ، وَالْمُبَاشِرُ هُنَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ ; لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ ، وَعَلَيْهِ : فَعَلَى الدَّالِ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ ، وَبِهَذَا تَعْرِفُ حُكْمَ مَا لَوْ دَلَّ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا ، ثُمَّ دَلَّ هَذَا الثَّانِي مُحْرِمًا ثَالِثًا ، وَهَكَذَا ، فَقَتَلَهُ الْأَخِيرُ ، إِذْ لَا يَخْفَى مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ شُرَكَاءُ فِي جَزَاءٍ وَاحِدٍ .

وَعَلَى الثَّانِي ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ ، وَعَلَى الثَّالِثِ ، لَا شَيْءَ إِلَّا عَلَى مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إِذَا اشْتَرَكَ مُحْرِمُونَ فِي قَتْلِ صَيْدٍ بِأَنْ بَاشَرُوا قَتْلَهُ كُلَّهُمْ ، كَمَا إِذَا حَذَفُوهُ بِالْحِجَارَةِ وَالْعِصِيِّ حَتَّى مَاتَ ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ ، كَمَا لَوْ قَتَلَتْ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا ، فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ بِهِ جَمِيعًا ; لَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَاتِلٌ .

وَكَذَلِكَ هُنَا كُلُّ وَاحِدٍ قَاتِلٌ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ : عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ; لِقَضَاءِ عُمَرَ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، ثُمَّ قَالَ أَيْضًا : وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ : أَنَّ مَوَالِيَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ أَحْرَمُوا فَمَرَّتْ بِهِمْ ضُبُعٌ فَحَذَفُوهَا بِعِصِيِّهِمْ فَأَصَابُوهَا ، [ ص: 442 ] فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ ، فَأَتَوُا ابْنَ عُمَرَ ، فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : عَلَيْكُمْ كُلُّكُمْ كَبْشٌ ، قَالُوا : أَوَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا كَبْشٌ ؟ قَالَ : إِنَّكُمْ لَمُعَزَّزٌ بِكُمْ عَلَيْكُمْ كُلُّكُمْ كَبْشٌ . قَالَ اللُّغَوِيُّونَ : لَمُعَزَّزٌ بِكُمْ أَيْ لَمُشَدَّدٌ عَلَيْكُمْ .

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْمٍ أَصَابُوا ضَبُعًا فَقَالَ : عَلَيْهِمْ كَبْشٌ يَتَخَارَجُونَهُ بَيْنَهُمْ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، وَهَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ قَاتِلٍ . وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاتِلِينَ الصَّيْدَ قَاتِلٌ نَفْسًا عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ ; بِدَلِيلِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِصَّاصُ ، وَقَدْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ إِجْمَاعًا مِنَّا وَمِنْهُمْ ، فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ وَهُمْ مُحِلُّونَ ; فَعَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُ الْمُحْرِمُونَ فِي الْحِلِّ أَوِ الْحَرَمِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ .

وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ ; بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُحْرِمًا بِدُخُولِهِ الْحَرَمَ ، كَمَا يَكُونُ مُحْرِمًا بِتَلْبِيَتِهِ بِالْإِحْرَامِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ قَدْ أَكْسَبَهُ صِفَةً تَعَلَّقَ بِهَا نَهْيٌ ، فَهُوَ هَاتِكٌ لَهَا فِي الْحَالَتَيْنِ .

وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ الدَّبُّوسِيُّ ، قَالَ : السِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْعِبَادَةِ ، وَقَدِ ارْتَكَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَحْظُورَ إِحْرَامِهِ .

وَإِذَا قَتَلَ الْمُحِلُّونَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ ، فَإِنَّمَا أَتْلَفُوا دَابَّةً مُحْتَرَمَةً ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتْلَفَ جَمَاعَةٌ دَابَّةً ; فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ دَابَّةً ، وَيَشْتَرِكُونَ فِي الْقِيمَةِ ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَأَبُو حَنِيفَةَ أَقْوَى مِنَّا ، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَسْتَهِينُ بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَهُوَ عَسِيرُ الِانْفِصَالِ عَلَيْنَا . اهـ . مِنَ الْقُرْطُبِيِّ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : اعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ كَبَقَرَةِ الْوَحْشِ ، وَقِسْمٌ لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ كَالْعَصَافِيرِ .

وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَعْتَبِرُونَ الْمِثْلِيَّةَ بِالْمُمَاثَلَةِ فِي الصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ ، وَخَالَفَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْجُمْهُورَ ، فَقَالَ : إِنَّ الْمُمَاثَلَةَ مَعْنَوِيَّةٌ ، وَهِيَ الْقِيمَةُ ، أَيْ قِيمَةُ الصَّيْدِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَتَلَهُ فِيهِ ، أَوْ أَقْرَبِ مَوْضِعٍ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ لَا يُبَاعُ الصَّيْدُ فِي مَوْضِعِ قَتْلِهِ ، فَيَشْتَرِي بِتِلْكَ الْقِيمَةِ هَدْيًا إِنْ شَاءَ ، أَوْ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا ، وَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ كُلَّ [ ص: 443 ] مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ .

وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ مُعْتَبِرًا فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةً ، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةً ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةً ; لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الِارْتِيَاءِ وَالنَّظَرِ ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْعَدْلَيْنِ وَالنَّظَرِ مَا تَشَكَّلَ الْحَالُ فِيهِ ، وَيَخْتَلِفُ فِيهِ وَجْهُ النَّظَرِ .

وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ : الْمُشَابَهَةُ لِلصَّيْدِ فِي الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ مِنْهَا ، قَوْلُهُ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ الْآيَةَ ، فَالْمِثْلُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ الْمِثْلَ الْخِلْقِيَّ الصُّورِيَّ دُونَ الْمَعْنَوِيِّ ، ثُمَّ قَالَ : مِنَ النَّعَمِ ، فَصَرَّحَ بِبَيَانِ جِنْسِ الْمِثْلِ ، ثُمَّ قَالَ : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، وَضَمِيرُ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِسِوَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ .

ثُمَّ قَالَ : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ، وَالَّذِي يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا مِثْلَ الْمَقْتُولِ مِنَ النَّعَمِ ، فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ هَدْيًا ، وَلَا جَرَى لَهَا ذِكْرٌ فِي نَفْسِ الْآيَةِ ، وَادِّعَاءُ أَنَّ الْمُرَادَ شِرَاءُ الْهَدْيِ بِهَا يُعِيدُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ ، فَاتَّضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ ، وَقَوْلُهُ : لَوْ كَانَ الشَّبَهُ الْخِلْقِيُّ مُعْتَبَرًا لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ ؟ ، أُجِيبَ عَنْهُ : بِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدْلَيْنِ إِنَّمَا وَجَبَ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ الصَّيْدِ مِنْ كِبَرٍ وَصِغَرٍ ، وَمَا لَا جِنْسَ لَهُ مِمَّا لَهُ جِنْسٌ ، وَإِلْحَاقُ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ نَصٌّ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّصُّ ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الْمُرَادُ بِالْمِثْلِيَّةِ فِي الْآيَةِ التَّقْرِيبُ ، وَإِذًا فَنَوْعُ الْمُمَاثَلَةِ قَدْ يَكُونُ خَفِيًّا ، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْفِطْنَةِ التَّامَّةِ ، كَكَوْنِ الشَّاةِ مَثَلًا لِلْحَمَامَةِ ; لِمُشَابَهَتِهَا لَهَا فِي عَبِّ الْمَاءِ وَالْهَدِيرِ .

وَإِذَا عَرَفْتَ التَّحْقِيقَ فِي الْجَزَاءِ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَاتِلَ الصَّيْدِ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ ، وَالصِّيَامِ ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; لِأَنَّ " أَوْ " حَرْفُ تَخْيِيرٍ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ .

فَإِنِ اخْتَارَ جَزَاءً بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ ، وَجَبَ ذَبْحُهُ فِي الْحَرَمِ خَاصَّةً ; لِأَنَّهُ حَقٌّ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ ، وَلَا يُجْزِئُ فِي غَيْرِهِ ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ، وَالْمُرَادُ الْحَرَمُ كُلُّهُ ، كَقَوْلِهِ : ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ 22 \ 33 ] ، مَعَ أَنَّ الْمَنْحَرَ الْأَكْبَرَ مِنًى ، وَإِنِ اخْتَارَ الطَّعَامَ ، فَقَالَ مَالِكٌ : أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيهِ ، أَنَّهُ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ [ ص: 444 ] بِالطَّعَامِ ، فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا ، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا .

وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : إِنْ قَوَّمَ الصَّيْدَ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ قَوَّمَ الدَّرَاهِمَ بِالطَّعَامِ ، أَجْزَأَهُ . وَالصَّوَابُ : الْأَوَّلُ ; فَإِنْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْ مُدٍّ تَصَدَّقَ بِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ، وَتَمَّمَهُ مُدًّا كَامِلًا عِنْدَ بَعْضٍ آخَرَ ، أَمَّا إِذَا صَامَ ، فَإِنَّهُ يُكْمِلُ الْيَوْمَ الْمُنْكَسِرَ بِلَا خِلَافٍ .

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إِذَا اخْتَارَ الْإِطْعَامَ ، أَوِ الصِّيَامَ ، فَلَا يُقَوَّمُ الصَّيْدُ الَّذِي لَهُ مِثْلٌ ، وَإِنَّمَا يُقَوَّمُ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ تُقَوَّمُ الدَّرَاهِمُ بِالطَّعَامِ ، فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا ، أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَيُتَمِّمُ الْمُنْكَسِرَ .

وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْخِيَارَ لِقَاتِلِ الصَّيْدِ الَّذِي هُوَ دَافِعُ الْجَزَاءِ .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْخِيَارُ لِلْعَدْلَيْنِ الْحَكَمَيْنِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْبَغِي لِلْمُحَكِّمَيْنِ إِذَا حَكَمَا بِالْمِثْلِ ، أَنْ يُخَيِّرَا قَاتِلَ الصَّيْدِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِذَا حَكَمَا بِالْمِثْلِ لَزِمَهُ ، وَالْقُرْآنُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْمِثْلُ مِنَ النَّعَمِ ، إِلَّا إِذَا اخْتَارَهُ عَلَى الْإِطْعَامِ وَالصَّوْمِ ، لِلتَّخْيِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِحَرْفِ التَّخْيِيرِ فِي الْآيَةِ .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ ، فَالْوَاجِبُ الْهَدْيُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالْإِطْعَامُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالصَّوْمُ ، وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالنَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمَا ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي هَذَا مُخَالَفَةً لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، بِلَا دَلِيلٍ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا وَاحِدًا اعْتِبَارًا بِفِدْيَةِ الْأَذَى ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ . وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، أَنَّهُ يَصُومُ عَدْلَ الطَّعَامِ الْمَذْكُورِ ، وَلَوْ زَادَ الصِّيَامُ عَنْ شَهْرَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثَةٍ .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا يَتَجَاوَزُ صِيَامَ الْجَزَاءِ شَهْرَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا أَعْلَى الْكَفَّارَاتِ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْآيَةِ يُخَالِفُهُ .

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ : إِنَّمَا يُقَالُ : كَمْ رَجُلًا يَشْبَعُ مِنْ هَذَا الصَّيْدِ ؟ ; فَيَعْرِفُ الْعَدَدَ ، ثُمَّ يُقَالُ : كَمْ مِنَ الطَّعَامِ يُشْبِهُ هَذَا الْعَدَدَ ؟ فَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ ذَلِكَ الطَّعَامَ ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَدَدَ أَمْدَادِهِ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ احْتَاطَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ قِيمَةُ الصَّيْدِ مِنَ الطَّعَامِ قَلِيلَةً ، فَبِهَذَا النَّظَرِ يَكْثُرُ الْإِطْعَامُ .

[ ص: 445 ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ ، وَاحِدٌ مِنْهَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَرَمُ إِجْمَاعًا ، وَهُوَ الْهَدْيُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَوَاحِدٌ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَرَمُ إِجْمَاعًا ، وَهُوَ الصَّوْمُ ، وَوَاحِدٌ اخْتُلِفَ فِيهِ ، وَهُوَ الْإِطْعَامُ ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُطْعِمُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُطْعِمُ فِي مَوْضِعِ إِصَابَةِ الصَّيْدِ ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُطْعِمُ حَيْثُ شَاءَ ، وَأَظْهَرُهَا أَنَّهُ حَقٌّ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الْهَدْيِ ، أَوْ نَظِيرٌ لَهُ ، وَهُوَ حَقٌّ لَهُمْ إِجْمَاعًا ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَهُوَ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالصَّائِمِ لَا حَقَّ فِيهَا لِمَخْلُوقٍ ، فَلَهُ فِعْلُهَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ .

وَأَمَّا إِنْ كَانَ الصَّيْدُ لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ كَالْعَصَافِيرِ ; فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ ، ثُمَّ يُعْرَفُ قَدْرُ قِيمَتِهِ مِنَ الطَّعَامِ ، فَيُخْرِجُهُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ ، أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا .

فَتَحَصَّلَ أَنَّ مَالَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : هِيَ الْهَدْيُ بِمِثْلِهِ ، وَالْإِطْعَامُ ، وَالصِّيَامُ ، وَأَنَّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَقَطْ : وَهُمَا الْإِطْعَامُ ، وَالصِّيَامُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ لَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ :

الْأُولَى : أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ فِيهِ حُكْمٌ مِنْ - النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ فِيهِ حُكْمٌ مِنْ عَدْلَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، أَوِ التَّابِعَيْنِ مَثَلًا .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #72  
قديم 23-09-2021, 12:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,965
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (70)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (25)
صـ 446 إلى صـ 450


الثَّالِثَةُ : أَلَّا يَكُونَ تَقَدَّمَ فِيهِ حُكْمٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مِنْهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَالَّذِي حَكَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْحِكَمُ فِيهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ كَالضَّبُعِ ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِيهَا بِكَبْشٍ ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " مَا نَصُّهُ : حَدِيثُ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ " أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَأَحْمَدُ ، وَالْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ : سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الضَّبُعِ فَقَالَ : " هُوَ صَيْدٌ ، وَيُجْعَلُ فِيهِ كَبْشٌ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ " ، وَلَفْظُ الْحَاكِمِ : " جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الضَّبُعِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ كَبْشًا " ، وَجَعْلَهُ مِنَ الصَّيْدِ ، وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ نَجْدِيًّا ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ : سَأَلْتُ عَنْهُ الْبُخَارِيَّ فَصَحَّحَهُ ، وَكَذَا صَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَقَدْ أَعْلَّ بِالْوَقْفِ ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : هُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَجْلَحِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنْ عُمَرَ قَالَ : " لَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ رَفَعَهُ أَنَّهُ حَكَمَ فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ " . الْحَدِيثَ ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِهِ مَوْقُوفًا ، وَصَحَّحَ وَقْفَهُ مِنْ [ ص: 446 ] هَذَا الْبَابِ الدَّارَقُطْنِيُّ ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الضَّبُعُ صَيْدٌ ، فَإِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَفِيهِ كَبْشٌ مُسِنٌّ وَيُؤْكَلُ " ، وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ ، وَقَدْ أَعَلَّ بِالْإِرْسَالِ .

وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا وَقَالَ : لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ لَوِ انْفَرَدَ ، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ الْمُتَقَدِّمِ ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا أَيْضًا .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : قَضَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشٍ ثَابِتٌ كَمَا رَأَيْتَ تَصْحِيحَ الْبُخَارِيِّ وَعَبْدِ الْحَقِّ لَهُ ، وَكَذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَغَيْرُهُمْ ، وَالْحَدِيثُ إِذَا ثَبَتَ صَحِيحًا مِنْ وَجْهٍ لَا يَقْدَحُ فِيهِ الْإِرْسَالُ وَلَا الْوَقْفُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى ، كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ ; لِأَنَّ الْوَصْلَ وَالرَّفْعَ مِنَ الزِّيَادَاتِ ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزُ ]


وَالرَّفْعُ وَالْوَصْلُ وَزَيْدُ اللَّفْظِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ


... إِلَخْ ...

وَأَمَّا إِنْ تَقَدَّمَ فِيهِ حُكْمٌ مِنْ عَدْلَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، أَوْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : يَتَّبِعُ حُكْمَهُمْ وَلَا حَاجَةَ إِلَى نَظَرِ عَدْلَيْنِ وَحُكْمِهِمَا مِنْ جَدِيدٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [ 5 \ 95 ] ، وَقَدْ حَكَمَا بِأَنَّ هَذَا مِثْلٌ لِهَذَا .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا بُدَّ مِنْ حُكْمِ عَدْلَيْنِ مِنْ جَدِيدٍ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مَالِكٌ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَلَوِ اجْتَزَأَ بِحُكْمِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَكَانَ حَسَنًا .

وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الْحُكْمَ فِي كُلِّ صَيْدٍ مَا عَدَا حَمَامَ مَكَّةَ ، وَحِمَارَ الْوَحْشِ ، وَالظَّبْيَ ، وَالنَّعَامَةَ ; فَيَكْتَفِي فِيهَا بِحُكْمِ مَنْ مَضَى مِنَ السَّلَفِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ : أَنَّهُ حَكَمَ هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي ظَبْيٍ بِعَنْزٍ ، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَسَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي الظَّبْيِ بِتَيْسٍ أَعْفَرَ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَمُعَاوِيَةَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : " فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ " ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : أَنَّ فِي حِمَارِ الْوَحْشِ وَالْبَقَرَةِ بَقَرَةً ، وَأَنَّ فِي الْأَيِّلِ بَقَرَةً .

[ ص: 447 ] وَعَنْ جَابِرٍ : أَنَّ عُمَرَ قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ ، وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ ، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ ، وَالْبَيْهَقِيُّ ، وَرَوَى الْأَجْلَحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هَذَا الْأَثَرَ عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ قَضَى فِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ ، وَقَالَ : " هِيَ تَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ، وَالْعَنَاقُ كَذَلِكَ ، وَهِيَ تَأْكُلُ الشَّجَرَ ، وَالْعَنَاقُ كَذَلِكَ ، وَهِيَ تَجْتَرُّ ، وَالْعَنَاقُ كَذَلِكَ " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ .

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّهُ قَضَى فِي الْيَرْبُوعِ بِحَفْرٍ أَوْ جَفْرَةٍ ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : قَالَ أَبُو زَيْدٍ : الْجَفْرُ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ مَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَفَصَلَ عَنْ أُمِّهِ ، وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ كَانَ مَعِي حَكَمٌ حَكَمْتُ فِي الثَّعْلَبِ بِجَدْيٍ ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ : فِي الثَّعْلَبِ شَاةٌ ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَأَرْبَدَ - رَضِيَ اللَّهُ - عَنْهُمَا : أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي ضَبٍّ قَتَلَهُ أَرْبَدُ الْمَذْكُورُ بِجَدْيٍ قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ .

وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ حَكَمَ فِي أُمِّ حُبَيْنٍ بِجِلَّانَ مِنَ الْغَنَمِ ، وَالْجِلَّانُ الْجَدْيُ ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ .

تَنْبِيهٌ

أَقَلُّ مَا يَكُونُ جَزَاءً مِنَ النَّعَمِ عِنْدَ مَالِكٍ شَاةٌ تُجْزِئُ ضَحِيَّةً ، فَلَا جَزَاءَ عِنْدِهِ بِجَفْرَةٍ ، وَلَا عَنَاقٍ ، مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ كَالدِّيَةِ لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، وَبِأَنَّ اللَّهَ قَالَ : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ يَصِحُّ هَدْيًا ، فَفِي الضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ عِنْدَهُ قِيمَتُهَا طَعَامًا .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي جَزَاءِ الصَّغِيرِ بِالصَّغِيرِ ، وَالْكَبِيرِ بِالْكَبِيرِ ، هُوَ الظَّاهِرُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا ، يَعْنِي مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ الَّذِي هُوَ اعْتِبَارُ الصِّغَرِ ، وَالْكِبْرِ ، وَالْمَرَضِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إِذَا كَانَ مَا أَتْلَفَهُ الْمُحْرِمُ بَيْضًا ، فَقَالَ مَالِكٌ : فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ [ ص: 448 ] عُشْرُ ثَمَنِ الْبَدَنَةِ ، وَفِي بَيْضِ الْحَمَامَةِ الْمَكِّيَّةِ عُشْرُ ثَمَنِ شَاةٍ ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، مَا لَمْ يَسْتَهِلَّ الْفَرْخُ بَعْدَ الْكَسْرِ ، فَإِنِ اسْتَهَلَّ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَامِلًا كَجَزَاءِ الْكَبِيرِ مِنْ ذَلِكَ الطَّيْرِ ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّارِ بِحُكُومَةِ عَدْلَيْنِ ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَرَوْنَ فِي بَيْضِ كُلِّ طَائِرٍ قِيمَتَهُ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَهُوَ الْأَظْهَرُ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : رَوَى عِكْرِمَةُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي بَيْضِ نَعَامٍ أَصَابَهُ مُحْرِمٌ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِي بَيْضَةِ نَعَامٍ صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ " ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَإِنْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ فِيلًا فَقِيلَ : فِيهِ بَدَنَةٌ مِنَ الْهِجَانِ الْعِظَامِ الَّتِي لَهَا سَنَامَانِ ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْإِبِلِ ; فَيُنْظَرُ إِلَى قِيمَتِهِ طَعَامًا ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ ذَلِكَ .

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَالْعَمَلُ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ الْفِيلُ فِي مَرْكَبٍ وَيُنْظَرَ إِلَى مُنْتَهَى مَا يَنْزِلُ الْمَرْكَبُ فِي الْمَاءِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْفِيلُ ، وَيُجْعَلُ فِي الْمَرْكَبُ طَعَامٌ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ وَالْفِيلُ فِيهِ ، وَهَذَا عَدْلُهُ مِنَ الطَّعَامِ وَأَمَّا إِنْ نَظَرَ إِلَى قِيمَتِهِ ، فَهُوَ يَكُونُ لَهُ ثَمَنٌ عَظِيمٌ لِأَجْلِ عِظَامِهِ وَأَنْيَابِهِ ; فَيَكْثُرُ الطَّعَامُ وَذَلِكَ ضَرَرٌ اهـ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي اعْتِبَارِ مِثْلِ الْفِيلِ طَعَامًا فِيهِ أَمْرَانِ :

الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ غَالِبًا ; لِأَنَّ نَقْلَ الْفِيلِ إِلَى الْمَاءِ ، وَتَحْصِيلَ الْمَرْكَبِ ، وَرَفْعَ الْفِيلِ فِيهِ ، وَنَزْعَهُ مِنْهُ ، لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ آحَادُ النَّاسِ غَالِبًا ، وَلَا يَنْبَغِي التَّكْلِيفُ الْعَامُّ إِلَّا بِمَا هُوَ مَقْدُورٌ غَالِبًا لِكُلِّ أَحَدٍ .

وَالثَّانِي : أَنَّ كَثْرَةَ الْقِيمَةِ لَا تُعَدُّ ضَرَرًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ عَلَيْهِ إِلَّا قِيمَةُ مَا أَتْلَفَ فِي الْإِحْرَامِ ، وَمَنْ أَتْلَفَ فِي الْإِحْرَامِ حَيَوَانًا عَظِيمًا ; لَزِمَهُ جَزَاءٌ عَظِيمٌ ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ تَابِعٌ لِعِظَمِ الْجِنَايَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ مَمْنُوعٌ ، وَأَنَّ قَطْعَ شَجَرِهِ ، وَنَبَاتِهِ حَرَامٌ ، إِلَّا الْإِذْخِرَ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : " إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَامٌ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ ، إِلَّا لِمُعَرِّفٍ " . فَقَالَ [ ص: 449 ] الْعَبَّاسُ : إِلَّا الْإِذْخِرَ ; فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ لِلْقُيُونِ وَالْبُيُوتِ ، فَقَالَ : " إِلَّا الْإِذْخِرَ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ قَالَ : " لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا ، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ " ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ : إِلَّا الْإِذْخِرَ ; فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِلَّا الْإِذْخِرَ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَفِي لَفْظٍ " لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا " ، بَدَلَ قَوْلِهِ " لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا " ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ .

وَاعْلَمْ أَنَّ شَجَرَ الْحَرَمِ وَنَبَاتَهُ طَرَفَانِ ، وَوَاسِطَةُ طَرَفٍ ، لَا يَجُوزُ قَطْعُهُ إِجْمَاعًا ، وَهُوَ مَا أَنْبَتَهُ اللَّهُ فِي الْحَرَمِ مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبِ الْآدَمِيِّينَ ، وَطَرَفٌ يَجُوزُ قَطْعُهُ إِجْمَاعًا ، وَهُوَ مَا زَرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ مِنَ الزُّرُوعِ ، وَالْبُقُولِ ، وَالرَّيَاحِينِ وَنَحْوِهَا ، وَطَرَفٌ اخْتُلِفَ فِيهِ ، وَهُوَ مَا غَرَسَهُ الْآدَمِيُّونَ مِنْ غَيْرِ الْمَأْكُولِ ، وَالْمَشْمُومِ ، كَالْأَثْلِ ، وَالْعَوْسَجِ ، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ قَطْعِهِ .

وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ بِالْمَنْعِ ، وَهُوَ أَحْوَطُ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْعُهْدَةِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنْ نَبَتَ أَوَّلًا فِي الْحَلِّ ، ثُمَّ نُزِعَ فَغُرِسَ فِي الْحَرَمِ جَازَ قَطْعُهُ ، وَإِنْ نَبَتَ أَوَّلًا فِي الْحَرَمِ ، فَلَا يَجُوزُ قَطْعُهُ ، وَيَحْرُمُ قَطْعُ الشَّوْكِ وَالْعَوْسَجِ ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " ، وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ : لَا يَحْرِمُ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُ يُؤْذِي بِطَبْعِهِ ، فَأَشْبَهَ السِّبَاعَ مِنَ الْحَيَوَانِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : قِيَاسُ شَوْكِ الْحَرَمِ عَلَى سِبَاعِ الْحَيَوَانِ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :

الْأَوَّلُ : أَنَّ السِّبَاعَ تَتَعَرَّضُ لِأَذَى النَّاسِ ، وَتَقْصِدُهُ ، بِخِلَافِ الشَّوْكِ .

الثَّانِي : أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ " ، وَالْقِيَاسُ الْمُخَالِفُ لِلنَّصِّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ ، قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزُ ]

وَالْخُلْفُ لِلنَّصِّ أَوْ إِجْمَاعٍ دَعَا فَسَادَ الِاعْتِبَارِ كُلُّ مَنْ وَعَى

وَفَسَادُ الِاعْتِبَارِ قَادِحٌ مُبْطِلٌ لِلدَّلِيلِ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ ، وَاخْتُلِفَ فِي قَطْعِ الْيَابِسِ مِنَ الشَّجَرِ ، وَالْحَشِيشِ ، فَأَجَازَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ ; لِأَنَّهُ كَالصَّيْدِ الْمَيِّتِ ، لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ قَدَّهُ نِصْفَيْنِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ " ; لِأَنَّ الْخَلَا هُوَ الرَّطْبُ مِنَ النَّبَاتِ ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِقَطْعِ الْيَابِسِ .
[ ص: 450 ] وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا يَجُوزُ قَطْعُ الْيَابِسِ مِنْهُ ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْإِذْخِرِ إِشَارَةٌ إِلَى تَحْرِيمِ الْيَابِسِ ، وَبِأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : " وَلَا يُحْتَشُّ حَشِيشُهَا " ، وَالْحَشِيشُ فِي اللُّغَةِ : الْيَابِسُ مِنَ الْعُشْبِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرْكَهُ أَحْوَطُ .

وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي جَوَازِ تَرْكِ الْبَهَائِمِ تَرْعَى فِيهِ ، فَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ ، وَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُهُ ، وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَهُ بِأَنَّ مَا حَرُمَ إِتْلَافُهُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِ مَا يُتْلِفُهُ كَالصَّيْدِ ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَهُ بِأَمْرَيْنِ :

الْأَوَّلُ : حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ ، فَوَجَدْتُ - النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ ، فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ ، وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعِ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَمِنًى مِنَ الْحَرَمِ .

الثَّانِي : أَنَّ الْهَدْيَ كَانَ يَدْخُلُ بِكَثْرَةٍ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَمَنِ أَصْحَابِهِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ الْأَمْرُ بِسَدِّ أَفْوَاهِ الْهَدْيِ عَنِ الْأَكْلِ مِنْ نَبَاتِ الْحَرَمِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ عَطَاءٌ ، وَاخْتُلِفَ فِي أَخْذِ الْوَرَقِ ، وَالْمُسَاوِيكِ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ ، إِذَا كَانَ أَخْذُ الْوَرَقِ بِغَيْرِ ضَرْبٍ يَضُرُّ بِالشَّجَرَةِ ، فَمَنَعَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ; لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ ; لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الشَّجَرَةِ ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ : أَنَّهُمَا رَخَّصَا فِي وَرَقِ السَّنَا لِلِاسْتِمْشَاءِ بِدُونِ نَزْعِ أَصْلِهِ ، وَالْأَحْوَطُ تَرْكُ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ أَجَازَهُ اسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقِيَاسِهِ عَلَى الْإِذْخِرِ بِجَامِعِ الْحَاجَةِ .

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " : وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِمَا انْكَسَرَ مِنَ الْأَغْصَانِ ، وَانْقَلَعَ مِنَ الشَّجَرِ بِغَيْرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ ، وَلَا مَا سَقَطَ مِنَ الْوَرَقِ ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ; لِأَنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْقَطْعِ ، وَهَذَا لَمْ يَقْطَعْ ، فَأَمَّا إِنْ قَطَعَهُ آدَمِيٌّ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : لَمْ أَسْمَعْ إِذَا قَطَعَ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَقَالَ فِي الدَّوْحَةِ تُقْطَعُ مِنْ شَبَهِهِ بِالصَّيْدِ لَمْ يُنْتَفَعْ بِحَطَبِهَا ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إِتْلَافِهِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ ، فَإِذَا قَطَعَهُ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَطْعُهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ ، كَالصَّيْدِ يَذْبَحُهُ الْمُحْرِمُ .

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُبَاحَ لِغَيْرِ الْقَاطِعِ الِانْتِفَاعُ بِهِ ; لِأَنَّهُ انْقَطَعَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، فَأُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَهُ حَيَوَانٌ بَهِيمِيٌّ ، وَيُفَارِقُ الصَّيْدَ الَّذِي ذَبَحَهُ ; لَأَنَّ الذَّكَاةَ تُعْتَبَرُ لَهَا الْأَهْلِيَّةُ ، وَلِهَذَا لَا تَحْصُلُ بِفِعْلِ بَهِيَمَةٍ بِخِلَافِ هَذَا . اهـ .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #73  
قديم 30-09-2021, 04:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,965
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (71)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (26)
صـ 451 إلى صـ 455


[ ص: 451 ] وَقَالَ فِي الْمُغْنِي أَيْضًا : وَيُبَاحُ أَخْذُ الْكُمْأَةِ مِنَ الْحَرَمِ ، وَكَذَلِكَ الْفَقْعُ ; لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ ، فَأَشْبَهَ الثَّمَرَةَ ، وَرَوَى حَنْبَلٌ قَالَ : يُؤْكَلُ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ الضَّغَابِيسُ وَالْعِشْرِقُ ، وَمَا سَقَطَ مِنَ الشَّجَرِ ، وَمَا أَنَبْتَ النَّاسُ .

وَاخْتُلِفَ فِي عُشْبِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ ، هَلْ يَجُوزُ أَخْذُهُ لِعَلَفِ الْبَهَائِمِ ؟ وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ .

فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْحَلَالَ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ ، وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ ، وَهُوَ كَجَزَاءِ الْمُحْرِمِ الْمُتَقَدِّمِ ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : لَيْسَ فِيهِ الصَّوْمُ ; لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ مَحْضٌ مِنْ غَيْرِ مُحَرَّمٍ .

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ ، مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، وَلَمْ يَرِدْ فِي جَزَاءِ صَيْدِ الْحَرَمِ نَصٌّ ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، وَقَوْلُهُ هَذَا قَوِيٌّ جِدًّا .

وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ : بِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَضَوْا فِي حَمَامِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ بِشَاةٍ شَاةٍ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُمْ ; فَيَكُونُ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقِيَاسِهِ عَلَى صَيْدِ الْمُحْرِمِ ، بِجَامِعِ أَنَّ الْكُلَّ صَيْدٌ مَمْنُوعٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا يَضْمَنُهُ الْمُحْرِمُ يَضْمَنُهُ مَنْ فِي الْحَرَمِ يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْئَانِ :

الْأَوَّلُ : مِنْهُمَا الْقَمْلُ ، فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي قَتْلِهِ فِي الْإِحْرَامِ ، وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الْحَرَمِ بِلَا خِلَافٍ .

وَالثَّانِي : الصَّيْدُ الْمَائِيُّ مُبَاحٌ فِي الْإِحْرَامِ بِلَا خِلَافٍ ، وَاخْتُلِفَ فِي اصْطِيَادِهِ مِنْ آبَارِ الْحَرَمِ وَعُيُونِهِ ، وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا " ; فَيَثْبُتُ حُرْمَةُ الصَّيْدِ لِحُرْمَةِ الْمَكَانِ ، وَظَاهِرُ النَّصِّ شُمُولُ كُلِّ صَيْدٍ ، وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ غَيْرُ مُؤْذٍ فَأَشْبَهَ الظِّبَاءَ ، وَأَجَازَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ; مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَمْ يُحَرِّمْهُ ، فَكَذَلِكَ الْحَرَمُ ، وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ فِي ذَلِكَ بِالْمَنْعِ وَالْجَوَازِ .

وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي شَجَرِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ وَخَلَاهُ ، هَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ قَطَعَهُمَا ضَمَانٌ ؟ .

[ ص: 452 ] فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَدَاوُدُ : لَا ضَمَانَ فِي شَجَرِهِ وَنَبَاتِهِ ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا أَجِدُ دَلِيلًا أُوجِبُ بِهِ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ فَرْضًا مِنْ كِتَابٍ ، وَلَا سُنَّةٍ ، وَلَا إِجْمَاعٍ ، وَأَقُولُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ : نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى .

وَالَّذِينَ قَالُوا بِضَمَانِهِ ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : يَضْمَنُ كُلَّهُ بِالْقِيمَةِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ : يَضْمَنُ الشَّجَرَةَ الْكَبِيرَةَ بِبَقَرَةٍ ، وَالصَّغِيرَةَ بِشَاةٍ ، وَالْخَلَا بِقِيمَتِهِ ، وَالْغُصْنَ بِمَا نَقَصَ ، فَإِنْ نَبْتَ مَا قَطَعَ مِنْهُ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَسْقُطُ الضَّمَانُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِعَدَمِ سُقُوطِهِ .

وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ : فِي الدَّوْحَةِ بَقَرَةٌ ، وَفِي الشَّجَرَةِ الْجَزْلَةِ شَاةٌ ، بِآثَارٍ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالدَّوْحَةُ : هِيَ الشَّجَرَةُ الْكَبِيرَةُ ، وَالْجَزْلَةُ : الصَّغِيرَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : حَرَمُ الْمَدِينَةِ ، اعْلَمْ أَنَّ جَمَاهِيرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ حَرَمٌ أَيْضًا لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجُمْهُورَ ، فَقَالَ : إِنَّ حَرَمَ الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِحَرَمٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَلَا تَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْحَرَمِ مِنْ تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ ، وَقَطْعِ الشَّجَرِ ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ تَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ ، وَتَقْضِي بِأَنَّ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ حَرَمٌ ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ إِلَّا لِعَلَفٍ ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ " ، الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : " حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ ، وَجَعَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا حَوْلَ الْمَدِينَةِ حِمًى " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ : " لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ تَرْتَعُ فِي الْمَدِينَةِ مَا ذَعَرْتُهَا " ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا فِي الْمَدِينَةِ ، قَالَ : " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَرِّمُ شَجَرَهَا أَنْ يَخْبِطَ أَوْ يُعْضَدَ " ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ . وَعَنْ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا ، لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا ، وَلَا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ ، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ [ ص: 453 ] أَجْمَعِينَ " ، وَلِمُسْلِمٍ ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ : سَأَلْتُ أَنَسًا ، أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ هِيَ حَرَامٌ ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا " ، الْحَدِيثَ .

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ ، حَرَامٌ مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا أَلَّا يُهْرَاقَ فِيهَا دَمٌ ، وَلَا يُحْمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ وَلَا يُخْبَطَ فِيهَا شَجَرٌ إِلَّا لِعَلَفٍ " ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا ، لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهُا ، وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا " ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا .

وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ " ، الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ " لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمَنْ أَشَادَ بِهَا ، وَلَا يَصْلُحُ لِرَجُلٍ أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا السِّلَاحَ لِقِتَالٍ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تُقْطَعَ فِيهَا شَجَرَةٌ ، إِلَّا أَنْ يَعْلِفَ رَجُلٌ بَعِيرَهُ " ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهُا ، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا " .

وَقَالَ : " الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ، لَا يَخْرُجُ عَنْهَا أَحَدٌ رَغْبَةً إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ، وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَجَهْدِهَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا ، أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا " رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا .

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : أَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ : " إِنَّهَا حَرَمٌ آمِنٌ " ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا .

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " إِنِّي حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ ، كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ " .

قَالَ : وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَجِدُ فِي يَدِ أَحَدِنَا الطَّيْرَ ، فَيَأْخُذُهُ فَيَفُكُّهُ مِنْ يَدِهِ ، ثُمَّ [ ص: 454 ] يُرْسِلُهُ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ أَيْضًا " ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَادَةَ الزُّرَقِيِّ : أَنَّهُ كَانَ يَصِيدُ الْعَصَافِيرَ فِي بِئْرِ إِهَابٍ ، وَكَانَتْ لَهُمْ ، قَالَ : فَرَآنِي عُبَادَةُ ، وَقَدْ أَخَذْتُ عُصْفُورًا ، فَانْتَزَعَهُ مِنِّي فَأَرْسَلَهُ ، وَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " حَرَّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَكَّةَ " ، وَكَانَ عُبَادَةُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ .

وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : اصْطَدْتُ طَيْرًا بِالْقُنْبُلَةِ ، فَخَرَجْتُ بِهِ فِي يَدِي ، فَلَقِيَنِي أَبِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، فَقَالَ : مَا هَذَا فِي يَدِكَ ؟ ، فَقُلْتُ : طَيْرٌ اصْطَدْتُهُ بِالْقُنْبُلَةِ ، فَعَرَكَ أُذُنِي عَرْكًا شَدِيدًا ، وَانْتَزَعَهُ مِنْ يَدِي ، فَأَرْسَلَهُ ، فَقَالَ : " حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَيْدَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا " ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا ، وَالْقُنْبُلَةُ : آلَةٌ يُصَادُ بِهَا النُّهَسُ وَهُوَ طَائِرٌ .

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ وَجَدَ غِلْمَانًا قَدْ أَلْجَؤُوا ثَعْلَبًا إِلَى زَاوِيَةٍ فَطَرَدَهُمْ عَنْهُ ، قَالَ مَالِكٌ : وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : " أَفِي حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْنَعُ هَذَا " ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا .

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا بِالْأَسْوَافِ - وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ - وَقَدِ اصْطَادَ نُهَسًا ، فَأَخَذَهُ زَيْدٌ مِنْ يَدِهِ فَأَرْسَلَهُ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ صَيْدَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا " ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَالرَّجُلُ الَّذِي اصْطَادَ النُّهَسَ هُوَ شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ ، وَالنُّهَسُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْهَاءِ بَعْدَهُمَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ ، طَيْرٌ صَغِيرٌ فَوْقَ الْعُصْفُورِ شَبِيهٌ بِالْقُنْبُرَةِ .

وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ الَّتِي أَوْرَدْنَا فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لَا شَكَّ مَعَهَا ، وَلَا لَبْسَ فِي أَنَّهَا حَرَامٌ ، لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا إِلَّا لِعَلَفٍ ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ حَرَامٍ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ يَا أَبَا عُمَيْرٍ ؟ " ، لَا دَلِيلَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ لِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ ، وَمُحْتَمَلٌ لِأَنْ يَكُونَ صِيدَ فِي الْحِلِّ ، ثُمَّ أُدْخِلَ الْمَدِينَةَ .

وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ إِمْسَاكِ الصَّيْدِ الَّذِي صِيدَ فِي الْحِلِّ وَإِدْخَالِهِ الْمَدِينَةَ ، وَمَا كَانَ مُحْتَمَلًا لِهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ لَا تُعَارَضُ بِهِ النُّصُوصُ الصَّرِيحَةُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا وَلَا احْتِمَالَ ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الْقَائِلِينَ بِحُرْمَةِ الْمَدِينَةِ ، وَهُمْ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ اخْتَلَفُوا فِي صَيْدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ ، هَلْ يَضْمَنُهُ قَاتِلُهُ أَوْ لَا ؟ [ ص: 455 ] وَكَذَلِكَ شَجَرُهَا ، فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ ، وَأَصْحَابُهُمَا ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ مَوْضِعٌ يَجُوزُ دُخُولُهُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ جَزَاءٌ كَصَيْدِ وَجٍّ .

وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ وَثَوْرٍ ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا ، أَوْ آوَى فِيهَا مُحْدِثًا ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا " ، فَذِكْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي الْآخِرَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً فِي الدُّنْيَا ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ تَجِبُ فِيهِ فِي الدُّنْيَا ، وَهُوَ ظَاهِرٌ .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يَجِبُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ الْجَزَاءُ الْوَاجِبُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ، وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّهُ حَرَّمَ الْمَدِينَةَ مِثْلَ تَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ لِمَكَّةَ ، وَمُمَاثَلَةُ تَحْرِيمِهَا تَقْتَضِي اسْتِوَاءَهُمَا فِي جَزَاءِ مَنِ انْتَهَكَ الْحُرْمَةَ فِيهِمَا .

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ : وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْيَسُ عِنْدِي عَلَى أُصُولِنَا ; لَاسِيَّمَا أَنَّ الْمَدِينَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . اهـ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فِي تَفْضِيلِ مَكَّةَ ، وَكَثْرَةِ مُضَاعَفَةِ الصَّلَاةِ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى الْمَدِينَةِ بِمِائَةِ ضِعْفٍ أَظْهَرُ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ فِيهِ هُوَ أَخْذُ سَلَبِ قَاتِلِ الصَّيْدِ ، أَوْ قَاطِعِ الشَّجَرِ فِيهِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ دَلِيلًا ; لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَنَّهُ رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا ، أَوْ يَخْبِطُهُ ، فَسَلَبَهُ ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ ، فَقَالَ : مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ " ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " ، وَأَحْمَدُ .

وَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ خَاصٌّ بِسَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ قَوْلَهُ : " نَفَّلَنِيهِ " أَيْ أَعْطَانِيهِ ، ظَاهِرٌ فِي الْخُصُوصِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، فِيهِ عِنْدِي أَمْرَانِ :


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #74  
قديم 30-09-2021, 04:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,965
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (72)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (27)
صـ 456 إلى صـ 460


الأول : أن هذا لا يكفي في الدلالة على الخصوص ; لأن الأصل استواء الناس في الأحكام الشرعية إلا بدليل ، وقوله " نفلنيه " ليس بدليل ; لاحتمال أنه نفل كل من وجد قاطع شجر ، أو قاتل صيد بالمدينة ثيابه ، كما نفل سعدا ، وهذا هو الظاهر .

الثاني : أن سعدا نفسه روي عنه تعميم الحكم ، وشموله لغيره ، فقد روى الإمام أحمد ، وأبو داود عن سليمان بن أبي عبد الله قال : " رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلبه ثيابه ، فجاء مواليه ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم هذا الحرم ، وقال : " من رأيتموه يصيد فيه شيئا فلكم سلبه " ; فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن إن شئتم أن أعطيكم ثمنه أعطيتكم " ، وفي لفظ : " من أخذ أحدا يصيد فيه فليسلبه ثيابه " ، وروى هذا الحديث أيضا الحاكم وصححه ، وهو صريح في العموم وعدم الخصوص بسعد كما ترى ، وفيه تفسير المراد بقوله : " نفلنيه " وأنه عام لكل من وجد أحدا يفعل فيها ذلك .

وتضعيف بعضهم لهذا الحديث بأن في إسناده سليمان بن أبي عبد الله غير مقبول ; لأن سليمان بن أبي عبد الله مقبول ، قال فيه الذهبي : تابعي موثق ، وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : مقبول .

والمقبول عنده كما بينه في مقدمة تقريبه : هو من ليس له من الحديث إلا القليل ، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله ، فهو مقبول حيث يتابع ، وإلا فلين الحديث ، وقال فيه ابن أبي حاتم : ليس بمشهور ، ولكن يعتبر بحديثه . اهـ .

وقد تابع سليمان بن أبي عبد الله في هذا الحديث عامر بن سعد عند مسلم ، وأحمد ، ومولى لسعد ، عند أبي داود ، كلهم عن سعد - رضي الله عنه - فاتضح رد تضعيفه مع ما قدمنا من أن الحاكم صححه ، وأن الذهبي قال فيه : تابعي موثق .

والمراد بسلب قاطع الشجر أو قاتل الصيد في المدينة أخذ ثيابه ، قال بعض العلماء : حتى سراويله .

والظاهر ما ذكره بعض أهل العلم من وجوب ترك ما يستر العورة المغلظة ، والله تعالى أعلم .

وقال بعض العلماء : السلب هنا سلب القاتل ، وفي مصرف هذا السلب ثلاثة أقوال :

[ ص: 457 ] أصحها : أنه للسالب كالقتيل ، ودليله حديث سعد المذكور .

والثاني : أنه لفقراء المدينة .

والثالث : أنه لبيت المال ، والحق الأول .

وجمهور العلماء على أن حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي تقدم في حديث أبي هريرة المتفق عليه ، أن قدره اثنا عشر ميلا من جهات المدينة لا يجوز قطع شجره ، ولا خلاه ، كما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن يهش هشا رفيقا " أخرجه أبو داود والبيهقي ، ولم يضعفه أبو داود ، والمعروف عن أبي داود - رحمه الله - أنه إن سكت عن الكلام في حديث فأقل درجاته عنده الحسن .

وقال النووي في " شرح المهذب " بعد أن ساق حديث جابر المذكور : رواه أبو داود بإسناد غير قوي لكنه لم يضعفه . اهـ ، ويعتضد هذا الحديث بما رواه البيهقي بإسناده عن محمد بن زياد قال : " كان جدي مولى لعثمان بن مظعون ، وكان يلي أرضا لعثمان فيها بقل وقثاء ، قال : فربما أتاني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نصف النهار ، واضعا ثوبه على رأسه يتعاهد الحمى ، ألا يعضد شجره ، ولا يخبط ، قال : فيجلس إلي فيحدثني ، وأطعمه من القثاء والبقل ، فقال له يوما : أراك لا تخرج من هاهنا ، قال : قلت : أجل ، قال : إني أستعملك على ما هاهنا فمن رأيت يعضد شجرا أو يخبط فخذ فأسه وحبله ، قال : قلت : آخذ رداءه ، قال : لا " وعامة العلماء على أن صيد الحمى المذكور غير حرام ; لأنه ليس بحرم ، وإنما هو حمى حماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للخيل وإبل الصدقة والجزية ، ونحو ذلك .

واختلف في شجر الحمى ؛ هل يضمنه قاطعه ؟ والأكثرون على أنه لا ضمان فيه ، وأصح القولين عند الشافعية وجوب الضمان فيه بالقيمة ، ولا يسلب قاطعه ، وتصرف القيمة في مصرف نعم الزكاة والجزية .
المسألة الثالثة عشرة : اعلم أن جماهير العلماء على إباحة صيد وج ، وقطع شجره ، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى : أكره صيد وج ، وحمله المحققون من أصحابه على كراهة التحريم .

[ ص: 458 ] واختلفوا فيه على القول بحرمته ، هل فيه جزاء كحرم المدينة أو لا شيء فيه ؟ ولكن يؤدب قاتله ، وعليه أكثر الشافعية .

وحجة من قال بحرمة صيد وج ما رواه أبو داود ، وأحمد ، والبخاري في " تاريخه " ، عن الزبير بن العوام - رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " صيد وج محرم " الحديث .

قال ابن حجر في " التلخيص " : سكت عليه أبو داود ، وحسنه المنذري ، وسكت عليه عبد الحق ، فتعقبه ابن القطان بما نقل عن البخاري ، أنه لم يصح ، وكذا قال الأزدي .

وذكر الذهبي ، أن الشافعي صححه ، وذكر الخلال أن أحمد ضعفه ، وقال ابن حبان في رواية المنفرد به ، وهو محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي ، كان يخطئ ، ومقتضاه تضعيف الحديث فإنه ليس له غيره ، فإن كان أخطأ فيه فهو ضعيف ، وقال العقيلي : لا يتابع إلا من جهة تقاربه في الضعف ، وقال النووي في " شرح المهذب " : إسناده ضعيف .

وذكر البخاري في " تاريخه " في ترجمة عبد الله بن إنسان : أنه لا يصح .

وقال ابن حجر في " التقريب " في محمد بن عبد الله بن إنسان الثقفي الطائفي المذكور : لين الحديث ، وكذلك أبوه عبد الله الذي هو شيخه في هذا الحديث قال فيه أيضا : لين الحديث ، وقال ابن قدامة في " المغني " في هذا الحديث في صيد وج : ضعفه أحمد ، ذكره الخلال في كتاب " العلل " ، فإذا عرفت هذا ظهر لك أن حجة الجمهور في إباحة صيد وج وشجره ، كون الحديث لم يثبت ، والأصل براءة الذمة ، ووج : بفتح الواو وتشديد الجيم ، أرض بالطائف ، وقال بعض العلماء : هو واد بصحراء الطائف ، وليس المراد به نفس بلدة الطائف ، وقيل : هو كل أرض الطائف ، وقيل : هو اسم لحصون الطائف ، وقيل : لواحد منها ، وربما التبس وج المذكور بوح بالحاء المهملة وهي ناحية نعمان .

فإذا عرفت حكم صيد المحرم ، وحكم صيد مكة والمدينة ووج مما ذكرنا ، فاعلم أن الصيد المحرم ، إذا كان بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم ، أو كان على غصن ممتد في الحل ، وأصل شجرته في الحرم ، فاصطياده حرام على التحقيق تغليبا [ ص: 459 ] لجانب حرمة الحرم فيهما .

أما إذا كان أصل الشجرة في الحل ، وأغصانها ممتدة في الحرم ، فاصطاد طيرا واقعا على الأغصان الممتدة في الحرم ، فلا إشكال في أنه مصطاد في الحرم ; لكون الطير في هواء الحرم .

واعلم أن ما ادعاه بعض الحنفية ، من أن أحاديث تحديد حرم المدينة مضطربة ; لأنه وقع في بعض الروايات باللابتين ، وفي بعضها بالحرتين ، وفي بعضها بالجبلين ، وفي بعضها بالمأزمين ، وفي بعضها بعير وثور ، غير صحيح لظهور الجمع بكل وضوح ; لأن اللابتين هما الحرتان المعروفتان ، وهما حجارة سود على جوانب المدينة ، والجبلان هما المأزمان ، وهما عير وثور والمدينة بين الحرتين ، كما أنها أيضا بين ثور وعير ، كما يشاهده من نظرها ، وثور جبيل صغير يميل إلى الحمرة بتدوير خلف أحد من جهة الشمال .

فمن ادعى من العلماء أنه ليس في المدينة جبل يسمى ثورا ، فغلط منه ; لأنه معروف عند الناس إلى اليوم ، مع أنه ثبت في الحديث الصحيح .

واعلم أنه على قراءة الكوفيين : فجزاء مثل الآية ، بتنوين " جزاء " ورفع مثل فالأمر واضح ، وعلى قراءة الجمهور فجزاء مثل بالإضافة ، فأظهر الأقوال أن الإضافة بيانية ، أي جزاء هو مثل ما قتل من النعم ، فيرجع معناه إلى الأول ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور ، وذلك في قوله : إذا اهتديتم [ 5 \ 105 ] ; لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد ، وممن قال بهذا حذيفة ، وسعيد بن المسيب ، كما نقله عنهما الألوسي في " تفسيره " ، وابن جرير ، ونقله القرطبي عن سعيد بن المسيب ، وأبي عبيد القاسم بن سلام ، ونقل نحوه ابن جرير عن جماعة من الصحابة ، منهم ابن عمر ، وابن مسعود .

فمن العلماء من قال : إذا اهتديتم ، أي : أمرتم فلم يسمع منكم ، ومنهم من قال : يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء في الآية ، وهو ظاهر جدا ولا ينبغي [ ص: 460 ] العدول عنه لمنصف .

ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد ، أن الله تعالى أقسم أنه في خسر في قوله تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [ 103 \ 1 ، 2 ، 3 ] ، فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل ، وقد دلت الآيات كقوله تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [ 8 \ 25 ] ، والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف ، ولم ينهوا عن المنكر ، عمهم الله بعذاب من عنده .

فمن ذلك ما خرجه الشيخان في " صحيحيهما " عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش - رضي الله عنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فزعا مرعوبا يقول : " لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها ، فقلت : يا رسول الله ! أنهلك وفينا الصالحون ؟ ، قال : نعم إذا كثر الخبث " .

وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " مثل القائم في حدود الله ، والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة ، فصار بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا ، وهلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ، ونجوا جميعا " ، أخرجه البخاري والترمذي .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #75  
قديم 30-09-2021, 04:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,965
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (73)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (28)
صـ 461 إلى صـ 465


وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال : يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يده ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه " ، رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي بأسانيد صحيحة ، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل ، أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ، ودع ما تصنع ، فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله ، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا [ ص: 461 ] ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض " ، ثم قال : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون [ 5 \ 79 ، 80 ، 81 ] ، ثم قال : " كلا والله لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا ، ولتقصرنه على الحق قصرا ، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ، ثم ليلعننكم كما لعنهم " .

رواه أبو داود ، والترمذي وقال : حسن ، وهذا لفظ أبي داود ، ولفظ الترمذي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي ، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم وواكلوهم ، وشاربوهم ; فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ; ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان متكئا ، فقال : " لا والذي نفسي بيده ، حتى يأطروهم على الحق أطرا " .

ومعنى تأطروهم أي : تعطفوهم ، ومعنى تقصرونه : تحبسونه ، والأحاديث في الباب كثيرة جدا ، وفيها الدلالة الواضحة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في قوله : إذا اهتديتم ، ويؤيده كثرة الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقوله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون [ 3 \ 104 ] ، وقوله : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر [ 3 \ 110 ] . وقوله : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ، وقوله : وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ 18 \ 29 ] ، وقوله : فاصدع بما تؤمر [ 15 \ 94 ] ، وقوله : أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون [ 7 \ 165 ] ، وقوله : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [ 8 \ 25 ] .

والتحقيق في معناها : أن المراد بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره هي أن الناس [ ص: 462 ] إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بالعذاب ، صالحهم وطالحهم ، وبه فسرها جماعة من أهل العلم ، والأحاديث الصحيحة شاهدة لذلك ، كما قدمنا طرفا منها .
مسائل تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

المسألة الأولى : اعلم أن كلا من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق المأمور به ، وقد دلت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله ، وينهى عن المنكر ويفعله ، أنه حمار من حمر جهنم يجر أمعاءه فيها .

وقد دل القرآن العظيم على أن المأمور المعرض عن التذكرة حمار أيضا ، أما السنة المذكورة فقوله - صلى الله عليه وسلم : " يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق أقتابه ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه ، فيطيف به أهل النار فيقولون : أي فلان ؛ ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ ، فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه " ، أخرجه الشيخان في " صحيحيهما " من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما .

ومعنى تندلق أقتابه : تتدلى أمعاؤه ، أعاذنا الله والمسلمين من كل سوء ، وعن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت رجعت ، فقلت لجبريل : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء خطباء من أمتك ، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ، وهم يتلون الكتاب ، أفلا يعقلون " ، أخرجه الإمام أحمد ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن حيان ، وابن مردويه ، والبيهقي ، كما نقله عنهم الشوكاني وغيره . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما : " أنه جاءه رجل فقال له : يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، فقال ابن عباس : أوبلغت ذلك ؟ فقال : أرجو ، قال : فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل ، قال : وما هي ؟ قال : قوله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ 2 \ 44 ] ، وقوله تعالى : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ 3 ] ، وقوله تعالى عن العبد الصالح شعيب - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه الآية [ ص: 463 ] [ 11 \ 88 ] ، أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، كما نقله عنهم أيضا الشوكاني وغيره .

واعلم أن التحقيق أن هذا الوعيد الشديد الذي ذكرنا من اندلاق الأمعاء في النار ، وقرض الشفاه بمقاريض النار ، ليس على الأمر بالمعروف ، وإنما هو على ارتكابه المنكر عالما بذلك ، ينصح الناس عنه ، فالحق أن الأمر بالمعروف غير ساقط عن صالح ولا طالح ، والوعيد على المعصية لا على الأمر بالمعروف ; لأنه في حد ذاته ليس فيه إلا الخير ، ولقد أجاد من قال : [ الكامل ]


لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم


وقال الآخر : [ الطويل ]


وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو مريض


وقال الآخر : [ الطويل ]


فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر به تلف من إياه تأمر آتيا


وأما الآية الدالة على أن المعرض عن التذكير كالحمار أيضا ، فهي قوله تعالى : فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة [ 74 \ 49 ، 50 ، 51 ] ، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، فيجب على المذكر بالكسر ، والمذكر بالفتح أن يعملا بمقتضى التذكرة ، وأن يتحفظا من عدم المبالاة بها ، لئلا يكونا حمارين من حمر جهنم .
المسألة الثانية : يشترط في الآمر بالمعروف أن يكون له علم ، يعلم به أن ما يأمر به معروف ، وأن ما ينهى عنه منكر ; لأنه إن كان جاهلا بذلك فقد يأمر بما ليس بمعروف ، وينهى عما ليس بمنكر ، ولاسيما في هذا الزمن الذي عم فيه الجهل وصار فيه الحق منكرا ، والمنكر معروفا ، والله تعالى يقول : قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني الآية [ 12 \ 108 ] ، فدل على أن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على بصيرة ، وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه ، وينبغي أن تكون دعوته إلى الله بالحكمة ، وحسن الأسلوب ، واللطافة مع إيضاح الحق ; لقوله تعالى : [ ص: 464 ] ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة الآية [ 16 \ 125 ] ، فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف وخرق ، فإنها تضر أكثر مما تنفع ، فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسنادا مطلقا ، إلا لمن جمع بين العلم ، والحكمة ، والصبر على أذى الناس ; لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل ، وأتباعهم ، وهو مستلزم للأذى من الناس ; لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة ، وأغراضهم الباطلة ، ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده ، فيما قص الله عنه : وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك الآية [ 31 \ 17 ] ، ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لورقة بن نوفل : " أومخرجي هم ؟ " ، يعني قريشا ، أخبره ورقة : أن هذا الدين الذي جاء به لم يأت به أحد إلا عودي ، وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : " ما ترك الحق لعمر صديقا " ، واعلم أنه لا يحكم على الأمر بأنه منكر ، إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى ، أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع المسلمين .

وأما إن كان من مسائل الاجتهاد فيما لا نص ، فلا يحكم على أحد المجتهدين المختلفين بأنه مرتكب منكرا ، فالمصيب منهم مأجور بإصابته ، والمخطئ منهم معذور كما هو معروف في محله .

واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين : طريق لين ، وطريق قسوة ، أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه ، فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت ، وهو المطلوب ، وإن لم تنجح تعينت طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده ، وتقام حدوده ، وتمتثل أوامره ، وتجتنب نواهيه ، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد الآية [ 57 \ 25 ] .

ففيه الإشارة إلى أعمال السيف بعد إقامة الحجة ، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب ، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .
المسألة الثالثة : يشترط في جواز الأمر بالمعروف ألا يؤدي إلى مفسدة أعظم من ذلك المنكر ; لإجماع المسلمين على ارتكاب أخف الضررين ، قال في " مراقي السعود " : [ الرجز ]

[ ص: 465 ] وارتكب الأخف من ضرين وخيرن لدى استوا هذين

ويشترط في وجوبه مظنة النفع به ، فإن جزم بعدم الفائدة فيه لم يجب عليه ، كما يدل له ظاهر قوله تعالى : فذكر إن نفعت الذكرى [ 87 \ 9 ] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم : " بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائكم أياما ، الصابر فيهن كالقابض على الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم " ، وفي لفظ : " قيل : يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا ، أو منهم ؟ قال : بل أجر خمسين منكم " ، أخرجه الترمذي ، والحاكم ، وصححاه ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وابن جرير ، والبغوي في " معجمه " ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في " الشعب " من حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - وقال الراوي : هذا الحديث عنه أبو أمية الشعباني ، وقد سأله عن قوله تعالى : عليكم أنفسكم ، والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " بل ائتمر " إلى آخر الحديث .

وهذه الصفات المذكورة في الحديث من الشح المطاع ، والهوى المتبع . . . إلخ ، مظنة لعدم نفع الأمر بالمعروف ; فدل الحديث على أنه إن عدمت فائدته سقط وجوبه .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #76  
قديم 30-09-2021, 04:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,965
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (74)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (29)
صـ 466 إلى صـ 470

تنبيه

الأمر بالمعروف له ثلاث حكم :

الأولى : إقامة حجة الله على خلقه ، كما قال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] .

الثانية : خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف ، كما قال تعالى في صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت : قالوا معذرة إلى ربكم الآية [ 7 \ 164 ] ، وقال تعالى : فتول عنهم فما أنت بملوم [ 51 \ 54 ] ; فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة ، لكان ملوما .

الثالثة : رجاء النفع للمأمور ، كما قال تعالى : معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون [ ص: 466 ] وقال تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 \ 55 ] ، وقد أوضحنا هذا البحث في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة الأعلى في الكلام على قوله تعالى : فذكر إن نفعت الذكرى [ 87 \ 9 ] ، ويجب على الإنسان أن يأمر أهله بالمعروف كزوجته ، وأولاده ، ونحوهم ، وينهاهم عن المنكر ; لقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا الآية [ 66 \ 6 ] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " ، الحديث .
المسألة الرابعة : اعلم أن من أعظم أنواع الأمر بالمعروف كلمة حق عند سلطان جائر ، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " ، أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن .

وعن طارق بن شهاب - رضي الله عنه : " أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وضع رجله في الغرز : أي الجهاد أفضل ؟ قال : كلمة حق عند سلطان جائر " ، رواه النسائي بإسناد صحيح .

كما قاله النووي - رحمه الله : واعلم أن الحديث الصحيح قد بين أن أحوال الرعية مع ارتكاب السلطان ما لا ينبغي ثلاث :

الأولى : أن يقدر على نصحه وأمره بالمعروف ، ونهيه عن المنكر ، من غير أن يحصل منه ضرر أكبر من الأول ، فآمره في هذه الحالة مجاهد سالم من الإثم ولو لم ينفع نصحه ، ويجب أن يكون نصحه له بالموعظة الحسنة مع اللطف ; لأن ذلك هو مظنة الفائدة .

الثانية : ألا يقدر على نصحه لبطشه بمن يأمره ، وتأدية نصحه لمنكر أعظم ، وفي هذه الحالة يكون الإنكار عليه بالقلوب ، وكراهة منكره ، والسخط عليه ، وهذه الحالة هي أضعف الإيمان .

الثالثة : أن يكون راضيا بالمنكر الذي يعمله السلطان ، متابعا له عليه ، فهذا شريكه في الإثم ، والحديث المذكور هو ما قدمنا في سورة البقرة عن أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية - رضي الله عنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن كره فقد برئ ، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع " ، قالوا : [ ص: 467 ] يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال : " لا ما أقاموا فيكم الصلاة " ، أخرجه مسلم في " صحيحه " .

فقوله - صلى الله عليه وسلم : " فمن كره " يعني بقلبه ، ولم يستطع إنكارا بيد ولا لسان " فقد برئ " من الإثم ، وأدى وظيفته ، " ومن أنكر " بحسب طاقته " فقد سلم " من هذه المعصية ، " ومن رضي " بها " وتابع " عليها ، فهو عاص كفاعلها .

ونظيره حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عند مسلم : قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " وقوله في هذه الآية الكريمة : عليكم أنفسكم ، صيغة إغراء ، يعني : الزموا حفظها ، كما أشار له في " الخلاصة " بقوله : [ الرجز ]

والفعل من أسمائه عليكا وهكذا دونك مع إليكا
قوله تعالى : ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن كاتم الشهادة آثم ، وبين في موضع آخر أن هذا الإثم من الآثام القلبية ، وهو قوله : ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [ 2 \ 283 ] ، ومعلوم أن منشأ الآثام والطاعات جميعا من القلب ; لأنه إذا صلح صلح الجسد كله ، وإذا فسد الجسد كله .
قوله تعالى : وإذ تخرج الموتى بإذني ، معناه إخراجهم من قبورهم أحياء بمشيئة الله وقدرته ، كما أوضحه بقوله : وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله [ 3 \ 49 ] .
قوله تعالى : وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات الآية ، لم يذكر هنا كيفية كفه إياهم عنه ، ولكنه بينه في مواضع أخر ، كقوله : وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ، وقوله : وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [ 4 \ 158 ] ، وقوله : ومطهرك من الذين كفروا [ 3 \ 55 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإذ أوحيت إلى الحواريين الآية ، قال بعض أهل العلم : المراد بالإيحاء إلى الحواريين الإلهام ، ويدل له ورود الإيحاء في القرآن بمعنى الإلهام ، كقوله : وأوحى ربك إلى النحل الآية [ 16 \ 68 ] ، يعني ألهمها ، قال بعض العلماء : [ ص: 468 ] ومنه وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه [ 28 \ 7 ] ، وقال بعض العلماء معناه : أوحيت إلى الحواريين إيحاء حقيقيا بواسطة عيسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنعام

قوله تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، في قوله تعالى : يعدلون [ 6 \ 1 ] ، وجهان للعلماء :

أحدهما : أنه من العدول عن الشيء بمعنى الانحراف ، والميل عنه ، وعلى هذا فقوله : بربهم متعلق بقوله : كفروا ، وعليه فالمعنى : إن الذين كفروا بربهم يميلون وينحرفون عن طريق الحق إلى الكفر والضلال ، وقيل على هذا الوجه : إن " الباء " بمعنى " عن " أي : يعدلون عن ربهم ، فلا يتوجهون إليه بطاعة ، ولا إيمان .

والثاني : أن " الباء " متعلقة بيعدلون ، ومعنى يعدلون يجعلون له نظيرا في العبادة ، من قول العرب : عدلت فلانا بفلان إذا جعلته له نظيرا وعديلا ، ومنه قول جرير : [ الوافر ]


أثعلبة الفوارس أم رياحا عدلت بهم طهية والخشابا

يعني أجعلت طهية والخشاب نظراء وأمثالا لبني ثعلبة وبني رياح ، وهذا الوجه الأخير يدل له القرآن ، كقوله تعالى ، عن الكفار الذين عدلوا به غيره : تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [ 26 \ 97 ، 98 ] ، وقوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله [ 2 \ 165 ] ، وأشار تعالى في آيات كثيرة إلى أن الكفار ساووا بين المخلوق والخالق ، قبحهم الله تعالى ، كقوله : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] ، وقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] ، وقوله : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء الآية [ 30 \ 28 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وعدل الشيء في اللغة مثله ونظيره ، قال بعض علماء العربية : إذا كان من جنسه ، فهو عدل بكسر العين ، وإذا كان من غير جنسه ، فهو عدل بفتح العين ، ومن الأول قول مهلهل : [ الوافر ]

[ ص: 470 ]
على أن ليس عدلا من كليب إذا برزت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب إذا اضطرب العضاه من الدبور
على أن ليس عدلا من كليب غداة بلابل الأمر الكبير


يعني أن القتلى الذين قتلهم من بكر بن وائل بأخيه كليب الذي قتله جساس بن مرة البكري لا يكافئونه ، ولا يعادلونه في الشرف .

ومن الثاني قوله تعالى : أو عدل ذلك صياما [ 5 \ 95 ] ; لأن المراد نظير الإطعام من الصيام ، وليس من جنسه ، وقوله : وإن تعدل كل عدل [ 6 \ 70 ] ، وقوله : ولا يقبل منها عدل [ 2 \ 123 ] ، والعدل : الفداء ، لأنه كأنه قيمة معادلة للفدى تؤخذ بدله ، قوله تعالى : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم الآية [ 6 \ 3 ] ، في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه للعلماء من التفسير ، وكل واحد منها له مصداق في كتاب الله تعالى :

الأول : أن المعنى وهو الله في السماوات وفي الأرض ، أي : وهو الإله المعبود في السماوات والأرض ; لأنه جل وعلا هو المعبود وحده بحق في الأرض والسماء ، وعلى هذا فجملة يعلم حال ، أو خبر ، وهذا المعنى يبينه ويشهد له قوله تعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [ 43 \ 84 ] ، أي : وهو المعبود في السماء والأرض بحق ، ولا عبرة بعبادة الكافرين غيره ; لأنها وبال عليهم يخلدون بها في النار الخلود الأبدي ، ومعبوداتهم ليست شركاء لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [ 53 \ 23 ] ، وقوله تعالى : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [ 10 \ 66 ] .

وهذا القول في الآية أظهر الأقوال ، واختاره القرطبي .

الوجه الثاني : أن قوله : في السماوات وفي الأرض [ 6 \ 3 ] ، يتعلق بقوله : يعلم سركم ، أي : وهو الله يعلم سركم في السماوات وفي الأرض ; ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية [ 25 \ 6 ] .

قال النحاس : وهذا القول من أحسن ما قيل في الآية ، نقله عنه القرطبي .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #77  
قديم 30-09-2021, 04:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,965
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (75)

سُورَةُ الْأَنْعَامِ (1)
صـ 471 إلى صـ 475


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنعام


قوله تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، في قوله تعالى : يعدلون [ 6 \ 1 ] ، وجهان للعلماء :

أحدهما : أنه من العدول عن الشيء بمعنى الانحراف ، والميل عنه ، وعلى هذا فقوله : بربهم متعلق بقوله : كفروا ، وعليه فالمعنى : إن الذين كفروا بربهم يميلون وينحرفون عن طريق الحق إلى الكفر والضلال ، وقيل على هذا الوجه : إن " الباء " بمعنى " عن " أي : يعدلون عن ربهم ، فلا يتوجهون إليه بطاعة ، ولا إيمان .

والثاني : أن " الباء " متعلقة بيعدلون ، ومعنى يعدلون يجعلون له نظيرا في العبادة ، من قول العرب : عدلت فلانا بفلان إذا جعلته له نظيرا وعديلا ، ومنه قول جرير : [ الوافر ]


أثعلبة الفوارس أم رياحا عدلت بهم طهية والخشابا

يعني أجعلت طهية والخشاب نظراء وأمثالا لبني ثعلبة وبني رياح ، وهذا الوجه الأخير يدل له القرآن ، كقوله تعالى ، عن الكفار الذين عدلوا به غيره : تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [ 26 \ 97 ، 98 ] ، وقوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله [ 2 \ 165 ] ، وأشار تعالى في آيات كثيرة إلى أن الكفار ساووا بين المخلوق والخالق ، قبحهم الله تعالى ، كقوله : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] ، وقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] ، وقوله : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء الآية [ 30 \ 28 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وعدل الشيء في اللغة مثله ونظيره ، قال بعض علماء العربية : إذا كان من جنسه ، فهو عدل بكسر العين ، وإذا كان من غير جنسه ، فهو عدل بفتح العين ، ومن الأول قول مهلهل : [ الوافر ]

[ ص: 470 ]
على أن ليس عدلا من كليب إذا برزت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب إذا اضطرب العضاه من الدبور
على أن ليس عدلا من كليب غداة بلابل الأمر الكبير


يعني أن القتلى الذين قتلهم من بكر بن وائل بأخيه كليب الذي قتله جساس بن مرة البكري لا يكافئونه ، ولا يعادلونه في الشرف .

ومن الثاني قوله تعالى : أو عدل ذلك صياما [ 5 \ 95 ] ; لأن المراد نظير الإطعام من الصيام ، وليس من جنسه ، وقوله : وإن تعدل كل عدل [ 6 \ 70 ] ، وقوله : ولا يقبل منها عدل [ 2 \ 123 ] ، والعدل : الفداء ، لأنه كأنه قيمة معادلة للفدى تؤخذ بدله ، قوله تعالى : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم الآية [ 6 \ 3 ] ، في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه للعلماء من التفسير ، وكل واحد منها له مصداق في كتاب الله تعالى :

الأول : أن المعنى وهو الله في السماوات وفي الأرض ، أي : وهو الإله المعبود في السماوات والأرض ; لأنه جل وعلا هو المعبود وحده بحق في الأرض والسماء ، وعلى هذا فجملة يعلم حال ، أو خبر ، وهذا المعنى يبينه ويشهد له قوله تعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [ 43 \ 84 ] ، أي : وهو المعبود في السماء والأرض بحق ، ولا عبرة بعبادة الكافرين غيره ; لأنها وبال عليهم يخلدون بها في النار الخلود الأبدي ، ومعبوداتهم ليست شركاء لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [ 53 \ 23 ] ، وقوله تعالى : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [ 10 \ 66 ] .

وهذا القول في الآية أظهر الأقوال ، واختاره القرطبي .

الوجه الثاني : أن قوله : في السماوات وفي الأرض [ 6 \ 3 ] ، يتعلق بقوله : يعلم سركم ، أي : وهو الله يعلم سركم في السماوات وفي الأرض ; ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية [ 25 \ 6 ] .

قال النحاس : وهذا القول من أحسن ما قيل في الآية ، نقله عنه القرطبي .

[ ص: 471 ] الوجه الثالث : وهو اختيار ابن جرير ، أن الوقف تام على قوله في : السماوات ، وقوله : وفي الأرض يتعلق بما بعده ، أي يعلم سركم وجهركم في الأرض ، ومعنى هذا القول : أنه جل وعلا مستو على عرشه فوق جميع خلقه ، مع أنه يعلم سر أهل الأرض وجهرهم ، لا يخفى عليه شيء من ذلك .

ويبين هذا القول ، ويشهد له قوله تعالى : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا الآية [ 67 \ 16 ، 17 ] ، وقوله : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، مع قوله : وهو معكم أين ما كنتم [ 57 \ 4 ] ، وقوله : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ 7 \ 7 ] ، وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المقام بإيضاح في سورة " الأعراف " ، واعلم أن ما يزعمه الجهمية من أن الله تعالى في كل مكان ، مستدلين بهذه الآية على أنه في الأرض ، ضلال مبين ، وجهل بالله تعالى ; لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأصغر من أن يحل في شيء منها رب السماوات والأرض ، الذي هو أعظم من كل شيء ، وأعلى من كل شيء ، محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء ، فالسماوات والأرض في يده - جل وعلا - أصغر من حبة خردل في يد أحدنا ، وله المثل الأعلى ، فلو كانت حبة خردل في يد رجل فهل يمكن أن يقال : إنه حال فيها ، أو في كل جزء من أجزائها ، لا وكلا ، هي أصغر وأحقر من ذلك ، فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن رب السماوات والأرض أكبر من كل شيء ، وأعظم من كل شيء ، محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء ، ولا يكون فوقه شيء :لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 34 \ 3 ] ، سبحانه وتعالى علوا كبيرا لا نحصي ثناء عليه ، هو كما أثنى على نفسه : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 \ 110 ] .
قوله تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ، ذكر في هذه الآية الكريمة : أن الكفار لو نزل الله عليهم كتابا مكتوبا في قرطاس ، أي صحيفة ، إجابة لما اقترحوه ، كما قال تعالى عنهم : ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه الآية [ 17 \ 93 ] ، فعاينوا ذلك الكتاب المنزل ، ولمسته أيديهم ، لعاندوا ، وادعوا أن ذلك من أجل أنه سحرهم ، وهذا العناد واللجاج العظيم والمكابرة الذي هو شأن الكفار بينه تعالى في آيات كثيرة كقوله : [ ص: 472 ] ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون [ 15 \ 14 ، 15 ] .

وقوله : وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم [ 52 \ 44 ] ، وقوله : ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله [ 6 \ 111 ] ، وقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية الآية [ 10 \ 96 ، 97 ] ، وقوله : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] ، وقوله : وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها [ 7 \ 146 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وذكر تعالى نحو هذا العناد واللجاج عن فرعون وقومه في قوله : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [ 7 \ 132 ] .

قوله تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ، لم يبين هنا ماذا يريدون بإنزال الملك المقترح ، ولكنه بين في موضع آخر أنهم يريدون بإنزال الملك أن يكون نذيرا آخر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك في قوله : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا الآية [ 25 \ 7 ] .

قوله تعالى : ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ، يعني : أنه لو نزل عليهم الملائكة وهم على ما هم عليه من الكفر والمعاصي ، لجاءهم من الله العذاب ، من غير إمهال ولا إنظار ، لأنه حكم بأن الملائكة لا تنزل عليهم إلا بذلك ، كما بينه تعالى بقوله : ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين [ 15 \ 8 ] ، وقوله : يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين الآية [ 25 \ 22 ] .
قوله تعالى : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ، أي : لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيا ، لكان على هيئة الرجل ; لتمكنهم مخاطبته ، والانتفاع بالأخذ عنه ; لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من شدة النور ، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة الرسول البشري .

وهذه الآية الكريمة تدل على أن الرسول ينبغي أن يكون من نوع المرسل إليهم ، كما أشار تعالى إلى ذلك أيضا بقوله : قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ 17 \ 95 ] .
قوله تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون [ ص: 473 ] ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن الكفار استهزءوا برسل قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأنهم حاق بهم العذاب بسبب ذلك ، ولم يفصل هنا كيفية استهزائهم ، ولا كيفية العذاب الذي أهلكوا به ، ولكنه فصل كثيرا من ذلك من مواضع متعددة ، في ذكر نوح وقومه ، وهود وقومه ، وصالح وقومه ، ولوط وقومه ، وشعيب وقومه ، إلى غير ذلك .

فمن استهزائهم بنوح قولهم له : " بعد أن كنت نبيا صرت نجارا " ، وقد قال الله تعالى عن نوح : إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون [ 11 \ 38 ] ، وذكر ما حاق بهم بقوله : فأخذهم الطوفان وهم ظالمون [ 49 \ 14 ] ، وأمثالها من الآيات .

ومن استهزائهم بهود ما ذكره الله عنهم من قولهم : إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء [ 11 \ 54 ] ، وقوله عنهم أيضا : قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك الآية [ 11 \ 53 ] ، وذكر ما حاق بهم من العذاب في قوله : أرسلنا عليهم الريح العقيم الآية [ 51 \ 41 ] ، وأمثالها من الآيات .

ومن استهزائهم بصالح قولهم فيما ذكر الله عنهم : ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين [ 7 \ 77 ] ، وقولهم : ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا الآية [ 11 \ 62 ] ، وذكر ما حاق بهم بقوله : وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين [ 11 \ 94 ] ، ونحوها من الآيات .

ومن استهزائهم بلوط قولهم فيما حكى الله عنهم : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم الآية [ 27 \ 56 ] ، وقولهم له أيضا : لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين [ 26 \ 167 ] ، وذكر ما حاق بهم بقوله : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل [ 15 \ 74 ] ، ونحوها من الآيات .

ومن استهزائهم بشعيب قولهم فيما حكى الله عنهم : قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز [ 11 \ 91 ] ، وذكر ما حاق بهم بقوله : فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم [ 26 \ 189 ] ونحوها من الآيات .
قوله تعالى : وهو يطعم ولا يطعم ، يعني : أنه تعالى هو الذي يرزق الخلائق ، وهو الغني المطلق فليس بمحتاج إلى رزق ، وقد بين تعالى هذا بقوله : [ ص: 474 ] وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [ 51 \ 56 ، 57 ، 58 ] ، وقراءة الجمهور على أن الفعلين من الإطعام ، والأول مبني للفاعل ، والثاني مبني للمفعول ، كما بيناه ، وأوضحته الآية الأخرى ، وقرأ سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والأعمش الفعل الأول كقراءة الجمهور ، والثاني بفتح الياء والعين ، مضارع طعم الثلاثي بكسر العين في الماضي ، أي أنه يرزق عباده ويطعمهم ، وهو جل وعلا لا يأكل ; لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه المخلوق من الغداء ; لأنه جل وعلا الغني لذاته ، الغني المطلق ، سبحانه وتعالى علوا كبيرا ، ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] .

والقراءة التي ذكرنا عن سعيد ، ومجاهد ، والأعمش موافقة لأحد الأقوال في تفسير قوله تعالى : الله الصمد [ 112 \ 2 ] ، قال بعض العلماء : الصمد السيد ، الذي يلجأ إليه عند الشدائد والحوائج ، وقال بعضهم : هو السيد الذي تكامل سؤدده ، وشرفه ، وعظمته ، وعلمه ، وحكمته ، وقال بعضهم : الصمد هو الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ; وعليه ، فما بعده تفسير له ، وقال بعضهم : هو الباقي بعد فناء خلقه ، وقال بعضهم : الصمد هو الذي لا جوف له ، ولا يأكل الطعام ، وهو محل الشاهد ، وممن قال بهذا القول ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وعبد الله بن بريدة ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، وعطية العوفي ، والضحاك ، والسدي ، كما نقله عنهم ابن كثير ، وابن جرير وغيرهما .

قال مقيده - عفا الله عنه : من المعروف في كلام العرب إطلاق الصمد على السيد العظيم ، وعلى الشيء المصمت الذي لا جوف له ، فمن الأول قول الزبرقان : [ البسيط ]


سيروا جميعا بنصف الليل واعتمدوا ولا رهينة إلا سيد صمد


وقول الآخر : [ البسيط ]


علوته بحسام ثم قلت له خذها حذيف فأنت السيد الصمد


وقول الآخر : [ الطويل ]


ألا بكر الناعي بخير بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد


ومن الثاني قول الشاعر : [ الطويل ]

[ ص: 475 ]
شهاب حروب لا تزال جياده عوابس يعلكن الشكيم المصمدا


فإذا علمت ذلك ، فالله تعالى هو السيد الذي هو وحده الملجأ عند الشدائد والحاجات ، وهو الذي تنزه وتقدس وتعالى عن صفات المخلوقين ، كأكل الطعام ونحوه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

قوله تعالى : قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم الآية ، يعني أول من أسلم من هذه الأمة التي أرسلت إليها ، وليس المراد أول من أسلم من جميع الناس ، كما بينه تعالى بآيات كثيرة تدل على وجود المسلمين قبل وجوده - صلى الله عليه وسلم - ووجود أمته ، كقوله عن إبراهيم : إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين [ 2 \ 131 ] ، وقوله عن يوسف : توفني مسلما وألحقني بالصالحين [ 12 \ 101 ] ، وقوله : يحكم بها النبيون الذين أسلموا [ 5 \ 44 ] ، وقوله عن لوط وأهله : فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ، أشار تعالى بقوله هنا : فهو على كل شيء قدير [ 6 \ 17 ] ، بعد قوله : وإن يمسسك بخير ، إلى أن فضله وعطاءه الجزيل لا يقدر أحد على رده ، عمن أراده له تعالى ، كما صرح بذلك في قوله : وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء الآية [ 10 \ 107 ] .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #78  
قديم 30-09-2021, 04:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,965
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (76)

سُورَةُ الْأَنْعَامِ (2)
صـ 476 إلى صـ 480


قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ، صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذِرٌ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ كَائِنًا مَنْ كَانَ ، وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ .

أَمَّا عُمُومُ إِنْذَارِهِ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ أَيْضًا كَقَوْلِهِ : قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ 7 \ 158 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [ 34 \ 28 ] ، وَقَوْلِهِ : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [ 25 \ 1 ] .

وَأَمَّا دُخُولُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ النَّارَ ، فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [ 11 \ 17 ] .

[ ص: 476 ] وَأَمَّا مِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَهُ حُكْمُ أَهْلِ الْفَتْرَةِ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - الَّذِي أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ ، يَعْلَمُ الْمَعْدُومَ الَّذِي سَبَقَ فِي الْأَزَلِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَوْ وُجِدَ كَيْفَ يَكُونُ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ رَدَّ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى لَا يَكُونُ ، وَيَعْلَمُ هَذَا الرَّدَّ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [ 6 \ 28 ] ، وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ .

فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، لَا يَخْرُجُونَ إِلَيْهَا مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهُ ثَبَّطَهُمْ عَنْهَا لِحِكْمَةٍ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ الْآيَةَ [ 9 \ 46 ] ، وَهُوَ يَعْلَمُ هَذَا الْخُرُوجَ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا الْآيَةَ [ 9 \ 47 ] ، وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ 23 \ 75 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ الْآيَةَ ، صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : بِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْزُنُهُ مَا يَقُولُهُ الْكُفَّارُ مِنْ تَكْذِيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ نَهَاهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْحُزْنِ الْمُفْرِطِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ : فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ الْآيَةَ [ 35 \ 8 ] ، وَقَوْلِهِ : فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [ 5 \ 68 ] ، وَقَوْلِهِ : فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [ 18 \ 6 ] ، وَقَوْلِهِ : لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [ 26 \ 3 ] ، وَالْبَاخِعُ : هُوَ الْمُهْلِكُ نَفْسَهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ غَيْلَانَ بْنِ عُقْبَةَ : [ الطَّوِيلُ ]


أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ


وَقَوْلُهُ : لَعَلَّكَ بَاخِعٌ ، فِي الْآيَتَيْنِ يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ ، وَنَظِيرُهُ : فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ [ 11 \ 12 ] ، أَيْ لَا تُهْلِكْ نَفْسَكَ حَزَنًا عَلَيْهِمْ فِي الْأَوَّلِ ، وَلَا تَتْرُكْ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ فِي الثَّانِي .
[ ص: 477 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ الْآيَةَ .

قَالَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ : الْمُرَادُ بِالْمَوْتَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ : الْكُفَّارُ ، وَتَدُلُّ لِذَلِكَ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ الْآيَةَ [ 6 \ 122 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [ 35 \ 22 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [ 35 \ 22 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قوله تعالى : قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ، ذكر في هذه الآية الكريمة : أنه قادر على تنزيل الآية التي اقترحها الكفار على رسوله ، وأشار لحكمة عدم إنزالها بقوله : ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 6 \ 37 ] ، وبين في موضع آخر أن حكمة عدم إنزالها : أنها لو أنزلت ولم يؤمنوا بها لنزل بهم العذاب العاجل ، كما وقع بقوم صالح لما اقترحوا عليه إخراج ناقة عشراء ، وبراء ، جوفاء ، من صخرة صماء ، فأخرجها الله لهم منها بقدرته ومشيئته ، فعقروها وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا [ 7 \ 77 ] ، فأهلكهم الله دفعة واحدة بعذاب استئصال ، وذلك في قوله : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا [ 17 \ 59 ] ، وبين في مواضع أخر أنه لا داعي إلى ما اقترحوا من الآيات ; لأنه أنزل عليهم آية أعظم من جميع الآيات التي اقترحوها وغيرها ، وتلك الآية هي هذا القرآن العظيم ; وذلك في قوله : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم [ 29 \ 51 ] ، فإنكاره جل وعلا عليهم عدم الاكتفاء بهذا الكتاب عن الآيات المقترحة يدل على أنه أعظم وأفخم من كل آية ، وهو كذلك ; ألا ترى أنه آية واضحة ، ومعجزة باهرة ، أعجزت جميع أهل الأرض ، وهي باقية تتردد في آذان الخلق غضة طرية حتى يأتي أمر الله ، بخلاف غيره من معجزات الرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - فإنها كلها مضت وانقضت .
قوله تعالى : قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن المشركين إذا أتاهم عذاب من الله ، أو أتتهم الساعة أخلصوا الدعاء الذي هو مخ العبادة لله وحده ، ونسوا ما كانوا يشركون به ; لعلمهم أنه لا يكشف الكروب إلا الله وحده جل وعلا .

ولم يبين هنا نوع العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص لله ، ولم يبين هنا أيضا إذا كشف عنهم العذاب هل يستمرون على إخلاصهم ، أو يرجعون إلى كفرهم [ ص: 478 ] وشركهم ، ولكنه بين كل ذلك في مواضع أخر .

فبين أن العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص ، هو نزول الكروب التي يخاف من نزلت به الهلاك ، كأن يهيج البحر عليهم وتلتطم أمواجه ، ويغلب على ظنهم أنهم سيغرقون فيه إن لم يخلصوا الدعاء لله وحده ، كقوله تعالى : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق الآية [ 10 \ 22 ، 23 ] ، وقوله : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه [ 17 \ 67 ] ، وقوله : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين [ 29 \ 65 ] ، وقوله : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين [ 31 \ 32 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وبين أنهم إذا كشف الله عنهم ذلك الكرب ، رجعوا إلى ما كانوا عليه من الشرك في مواضع كثيرة ، كقوله : فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ، وقوله : فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ، وقوله : قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون [ 6 \ 64 ] ، وقوله : فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ، إلى غير ذلك من الآيات .

وبين تعالى أن رجوعهم للشرك ، بعد أن نجاهم الله من الغرق ، من شدة جهلهم وعماهم ; لأنه قادر على أن يهلكهم في البر ، كقدرته على إهلاكهم في البحر ، وقادر على أن يعيدهم في البحر مرة أخرى ، ويهلكهم فيه بالغرق ، فجرأتهم عليه إذا وصلوا البر لا وجه لها ; لأنها من جهلهم وضلالهم ، وذلك في قوله : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا [ 17 \ 68 ، 69 ] .
قوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن طرد ضعفاء المسلمين وفقرائهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، وأمره في آية أخرى أن يصبر نفسه معهم ، وأن لا تعدو عيناه عنهم إلى أهل الجاه والمنزلة في الدنيا ، ونهاه عن إطاعة الكفرة في ذلك وهي قوله :

[ ص: 479 ] واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [ 18 \ 28 ] ، كما أمره هنا بالسلام عليهم ، وبشارتهم برحمة ربهم جل وعلا في قوله :

وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة الآية [ 6 \ 54 ] ، وبين في آيات أخر أن طرد ضعفاء المسلمين الذي طلبه كفار العرب من نبينا - صلى الله عليه وسلم - فنهاه الله عنه ، طلبه أيضا قوم نوح من نوح ، فأبى كقوله تعالى عنه : وما أنا بطارد الذين آمنوا الآية [ 11 \ 29 ] ، وقوله : ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم الآية [ 11 \ 30 ] ، وقوله : وما أنا بطارد المؤمنين [ 26 \ 114 ] ، وهذا من تشابه قلوب الكفار المذكور في قوله تعالى : تشابهت قلوبهم الآية [ 2 \ 118 ] .
قوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ، أجرى الله تعالى الحكمة بأن أكثر أتباع الرسل ضعفاء الناس ، ولذلك لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن نبينا - صلى الله عليه وسلم : " أأشراف الناس يتبعونه ، أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم ، قال : هم أتباع الرسل " .

فإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنه تعالى أشار إلى أن من حكمة ذلك فتنة بعض الناس ببعض ، فإن أهل المكانة والشرف والجاه يقولون : لو كان في هذا الدين خير لما سبقنا إليه هؤلاء ; لأنا أحق منهم بكل خير كما قال هنا : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا الآية [ 6 \ 53 ] ، إنكارا منهم أن يمن الله على هؤلاء الضعفاء دونهم ، زعما منهم أنهم أحق بالخير منهم ، وقد رد الله قولهم هنا بقوله : أليس الله بأعلم بالشاكرين .

وقد أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه الآية [ 46 \ 11 ] ، وقوله : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا [ 19 \ 73 ] .

والمعنى : أنهم لما رأوا أنفسهم أحسن منازل ومتاعا من ضعفاء المسلمين اعتقدوا أنهم أولى منهم بكل خير ، وأن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لو كان خيرا ما سبقوهم إليه ، ورد الله افتراءهم هذا بقوله : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا [ ص: 480 ] [ 19 \ 74 ] ، وقوله : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 ، 56 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ما عندي ما تستعجلون به الآية ، أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة أن يخبر الكفار ، أن تعجيل العذاب عليهم الذي يطلبونه منه - صلى الله عليه وسلم - ليس عنده ، وإنما هو عند الله ، إن شاء عجله ، وإن شاء أخره عنهم ، ثم أمره أن يخبرهم بأنه لو كان عنده لعجله عليهم بقوله : قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم الآية [ 6 \ 58 ] .

وبين في مواضع أخر أنهم ما حملهم على استعجال العذاب إلا الكفر والتكذيب ، وأنهم إن عاينوا ذلك العذاب علموا أنه عظيم هائل ، لا يستعجل به إلا جاهل مثلهم ، كقوله : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون [ 11 \ 8 ] ، وقوله : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها الآية [ 42 \ 54 ] ، وقوله : يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين [ 29 \ 54 ] ، وقوله : قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون [ 10 \ 50 ] .

وبين في موضع آخر أنه لولا أن الله حدد لهم أجلا لا يأتيهم العذاب قبله لعجله عليهم ، وهو قوله :ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم الآية [ 29 \ 53 ] .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #79  
قديم 30-09-2021, 04:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,965
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (77)

سُورَةُ الْأَنْعَامِ (3)
صـ 481 إلى صـ 485


تنبيه

قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر الآية ، صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - لو كان بيده تعجيل العذاب عليهم لعجله عليهم ، مع أنه ثبت في " الصحيحين " من حديث عائشة - رضي الله عنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل الله إليه ملك الجبال ، وقال له : إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين ، وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها ، فقال - صلى الله عليه وسلم : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا " .

والظاهر في الجواب : هو ما أجاب به ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية ، [ ص: 481 ] وهو : أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبون تعجيله في وقت طلبهم ، لعجله عليهم ، وأما الحديث فليس فيه أنهم طلبوا تعجيل العذاب في ذلك الوقت ، بل عرض عليه الملك إهلاكهم فاختار عدم إهلاكهم ، ولا يخفى الفرق بين المتعنت الطالب تعجيل العذاب وبين غيره .
قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الآية ، بين تعالى المراد بمفاتح الغيب بقوله : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير [ 31 \ 34 ] ، فقد أخرج البخاري ، وأحمد ، وغيرهما عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : أن المراد بمفاتح الغيب الخمس المذكورة في الآية المذكورة ، والمفاتح الخزائن ، جمع مفتح بفتح الميم بمعنى المخزن ، وقيل : هي المفاتيح ، جمع مفتح بكسر الميم ، وهو المفتاح ، وتدل له قراءة ابن السميقع .

" مفاتيح " بياء بعد التاء جمع مفتاح ، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله ، وهو كذلك ; لأن الخلق لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا .

وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " من زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر بما يكون في غد ، فقد أعظم على الله الفرية " ، والله يقول : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] ، أخرجه مسلم ، والله تعالى في هذه السورة الكريمة أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن للناس أنه لا يعلم الغيب ، وذلك في قوله تعالى : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي [ 6 \ 50 ] .

ولذا لما رميت عائشة - رضي الله عنها - بالإفك ، لم يعلم ، أهي بريئة أم لا ، حتى أخبره الله تعالى بقوله : أولئك مبرءون مما يقولون [ 24 \ 26 ] .

وقد ذبح إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - عجله للملائكة ، ولا علم له بأنهم ملائكة حتى أخبروه ، وقالوا له : إنا أرسلنا إلى قوم لوط [ 11 \ 70 ] ، ولما جاءوا لوطا لم يعلم أيضا أنهم ملائكة ، ولذا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب [ 11 \ 77 ] ، يخاف عليهم من أن يفعل بهم قومه فاحشتهم المعروفة ، حتى قال : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد [ 11 \ 80 ] ، ولم يعلم خبرهم حتى قالوا له : إنا رسل ربك لن يصلوا إليك الآيات [ 11 \ 81 ] .

[ ص: 482 ] ويعقوب - عليه السلام - ابيضت عيناه من الحزن على يوسف ، وهو في مصر لا يدري خبره حتى أظهر الله خبر يوسف .

وسليمان - عليه السلام - مع أن الله سخر له الشياطين والريح ، ما كان يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس حتى جاءه الهدهد ، وقال له : أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين الآيات [ 27 \ 22 ] .

ونوح - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ما كان يدري أن ابنه الذي غرق ليس من أهله الموعود بنجاتهم ، حتى قال : رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق الآية [ 11 \ 45 ] ، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أخبره الله بقوله : قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين [ 11 \ 46 ] .

وقد قال تعالى عن نوح في سورة هود : ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب الآية [ 6 \ 50 ] ، والملائكة - عليهم الصلاة والسلام - لما قال لهم : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا [ 2 \ 31 ، 32 ] .

فقد ظهر أن أعلم المخلوقات وهم الرسل ، والملائكة لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى ، وهو تعالى يعلم رسله من غيبه ما شاء ، كما أشار له بقوله : وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء [ 3 \ 179 ] ، وقوله : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول الآية [ 72 \ 26 ، 27 ] .

تنبيه

لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله ، كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين ، وبعض منها يكون كفرا .

ولذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما " ، ولا خلاف بين العلماء في منع العيافة ، والكهانة ، والعرافة ، والطرق ، والزجر ، والنجوم ، وكل ذلك يدخل في الكهانة ; لأنها تشمل جميع أنواع ادعاء الاطلاع على علم الغيب .

وقد سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان ، فقال : " ليسوا بشيء " .

[ ص: 483 ] وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه : فمن قال إنه ينزل الغيث غدا وجزم به ، فهو كافر ، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا ، وكذلك من قال إنه يعلم ما في الرحم فإنه كافر ، فإن لم يجزم ، وقال : إن النوء ينزل به الماء عادة ، وإنه سبب الماء عادة ، وإنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه ، لم يكفر ، إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به ، فإن فيه تشبيها بكلمة أهل الكفر ، وجهلا بلطيف حكمته ; لأنه ينزل متى شاء مرة بنوء كذا ، ومرة دون النوء .

قال الله تعالى : " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكواكب " ، على ما يأتي بيانه في الواقعة إن شاء الله تعالى .

قال ابن العربي : وكذلك قول الطبيب إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة ، فهو ذكر ، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى ، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى ، وادعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم يكفر ، ولم يفسق .

وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر ، أو أخبر عن الكوائن المجملة ، أو المفصلة ، في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضا ، فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر ، فقد قال علماؤنا : يؤدب ولا يسجن ، أما عدم كفره فلأن جماعة قالوا : إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل ، حسبما أخبر الله عنه من قوله : والقمر قدرناه منازل [ 36 \ 39 ] .

وأما أدبهم ، فلأنهم يدخلون الشك على العامة ، إذ لا يدرون الفرق بين هذا وغيره ، فيشوشون عقائدهم ، ويتركون قواعدهم في اليقين ، فأدبوا حتى يستروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به .

قلت : ومن هذا الباب ما جاء في " صحيح مسلم " عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أتى عرافا فسأله عن شيء ، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " ، والعراف : هو الحازي والمنجم الذي يدعي علم الغيب ، وهي العرافة ، وصاحبها عراف ، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها ، وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر ، والطرق ، والنجوم ، وأسباب معتادة في ذلك ، وهذا الفن هو العيافة بالياء ، وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة ، قاله القاضي عياض .

والكهانة : ادعاء علم الغيب .

قال أبو عمر بن عبد البر في " الكافي " : من المكاسب المجتمع على تحريمها [ ص: 484 ] الربا ، ومهور البغايا ، والسحت ، والرشا ، وأخذ الأجرة على النياحة والغناء ، وعلى الكهانة ، وادعاء الغيب ، وأخبار السماء ، وعلى الزمر واللعب ، والباطل كله . اهـ من القرطبي بلفظه ، وقد رأيت تعريفه للعراف والكاهن .

وقال البغوي : العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ، ومكان الضالة ونحو ذلك ، وقال أبو العباس بن تيمية : العراف : اسم للكاهن والمنجم والرمال ، ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق .

والمراد بالطرق : قيل الخط الذي يدعي به الاطلاع على الغيب ، وقيل إنه الضرب بالحصى الذي يفعله النساء ، والزجر هو العيافة ، وهي التشاؤم والتيامن بالطير ، وادعاء معرفة الأمور من كيفية طيرانها ، ومواقعها ، وأسمائها ، وألوانها ، وجهاتها التي تطير إليها .

ومنه قول علقمة بن عبدة التميمي : [ البسيط ]


ومن تعرض للغربان يزجرها على سلامته لا بد مشئوم


وكان أشد العرب عيافة بنو لهب ، حتى قال فيهم الشاعر : [ الطويل ]


خبير بنو لهب فلا تك ملغيا مقالة لهبي إذا الطير مرت


وإليه الإشارة بقول ناظم عمود النسب : [ الرجز ]

في مدلج بن بكر القيافة كما للهب كانت العيافة

ولقد صدق من قال : [ الطويل ]


لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع


ووجه تكفير بعض أهل العلم لمن يدعي الاطلاع على الغيب ، أنه ادعى لنفسه ما استأثر الله تعالى به دون خلقه ، وكذب القرآن الوارد بذلك كقوله : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] ، وقوله هنا : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] ، ونحو ذلك .

وعن الشيخ أبي عمران من علماء المالكية : أن حلوان الكاهن لا يحل له ، ولا يرد لمن أعطاه له ، بل يكون للمسلمين في نظائر نظمها بعض علماء المالكية بقوله : [ الرجز ]


وأي مال حرموا أن ينتفع موهوبه به ورده منع


[ ص: 485 ] حلوان كاهن وأجرة الغنا ونائح ورشوة مهر الزنا


هكذا قيل ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن النوم وفاة ، وأشار في موضع آخر إلى أنه وفاة صغرى ، وأن صاحبها لم يمت حقيقة ، وأنه تعالى يرسل روحه إلى بدنه حتى ينقضي أجله ، وأن وفاة الموت التي هي الكبرى قد مات صاحبها ، ولذا يمسك روحه عنده ، وذلك في قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [ 39 \ 42 ] .
قوله تعالى : ويرسل عليكم حفظة الآية ، لم يبين هنا ماذا يحفظون ، وبينه في مواضع أخر ، فذكر أن مما يحفظونه بدن الإنسان ، بقوله : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [ 13 \ 11 ] ، وذكر أن مما يحفظونه جميع أعماله من خير وشر ، بقوله : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 ، 11 ، 12 ] ، وقوله : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 17 ، 18 ] ، وقوله : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون .
قوله تعالى : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، نهى الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة عن مجالسة الخائضين في آياته ، ولم يبين كيفية خوضهم فيها ، التي هي سبب منع مجالستهم ، ولم يذكر حكم مجالستهم هنا ، وبين ذلك كله في موضع آخر ، فبين أن خوضهم فيها بالكفر والاستهزاء بقوله : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم الآية [ 4 \ 140 ] .

وبين أن من جالسهم في وقت خوضهم فيها مثلهم في الإثم ، بقوله : إنكم إذا مثلهم ، وبين حكم من جالسهم ناسيا ، ثم تذكر بقوله هنا : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] ، كما تقدم في سورة النساء .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #80  
قديم 30-09-2021, 04:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,965
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (78)

سُورَةُ الْأَنْعَامِ (4)
صـ 486 إلى صـ 490


قوله تعالى : فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ، الآيات ، قوله : هذا ربي [ 6 \ 76 ] ، في المواضع الثلاثة محتمل لأنه كان يظن ذلك ، كما روي عن ابن عباس وغيره ، [ ص: 486 ] ومحتمل ، لأنه جازم بعدم ربوبية غير الله ، ومراده هذا ربي في زعمكم الباطل ، أو أنه حذف أداة استفهام الإنكار ، والقرآن يبين بطلان الأول ، وصحة الثاني .

أما بطلان الأول : فالله تعالى نفى كون الشرك الماضي عن إبراهيم في قوله : وما كان من المشركين [ 3 \ 67 ] ، في عدة آيات ، ونفي الكون الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي ، فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يوما ما .

وأما كونه جازما موقنا بعدم ربوبية غير الله ، فقد دل عليه ترتيب قوله تعالى : فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ، إلى آخره ، " بالفاء " على قوله تعالى : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين [ 6 \ 75 ] ; فدل على أنه قال ذلك موقنا مناظرا ومحاجا لهم ، كما دل عليه قوله تعالى : وحاجه قومه [ 6 \ 80 ] ، وقوله : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه الآية [ 6 \ 83 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية ، المراد بالظلم هنا الشرك ، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في " صحيح البخاري " من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وقد بينه قوله تعالى : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] ، وقوله : والكافرون هم الظالمون [ 12 \ 254 ] ، وقوله : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] .
قوله تعالى : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم الآية ، قال مجاهد وغيره هي قوله تعالى : وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن الآية [ 6 \ 81 ] ، وقد صدقه الله ، وحكم له بالأمن والهداية ، فقال : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [ 6 \ 82 ] .

والظاهر شمولها لجميع احتجاجاته عليهم ، كما في قوله : لا أحب الآفلين الآية [ 6 \ 76 ] ; لأن الأفول الواقع في الكوكب ، والشمس ، والقمر ، أكبر دليل وأوضح حجة على انتفاء الربوبية عنها ، وقد استدل إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - بالأفول على انتفاء الربوبية في قوله : لا أحب الآفلين ، فعدم إدخال هذه الحجة في قوله : وتلك حجتنا ، غير ظاهر ، وبما ذكرنا من شمول الحجة لجميع احتجاجاته المذكورة صدر [ ص: 487 ] القرطبي ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ، ذكر تعالى أن هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه السورة الكريمة لو أشركوا بالله لحبط جميع أعمالهم .

وصرح في موضع آخر بأنه أوحي هذا إلى نبينا والأنبياء قبله - عليهم كلهم صلوات الله وسلامه - وهو قوله : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك الآية [ 39 \ 65 ] ، وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع ، كقوله : قل إن كان للرحمن ولد الآية [ 43 \ 81 ] ، على القول بأن " إن " شرطية ، وقوله : لو أردنا أن نتخذ لهوا الآية [ 21 \ 17 ] ، وقوله : لو أراد الله أن يتخذ ولدا الآية [ 39 \ 41 ] .
قوله تعالى : ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ، أي : لا أحد أظلم ممن قال : أنزل مثل ما أنزل الله ، ونظيرها قوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا [ 8 \ 31 ] ، وقد بين الله تعالى كذبهم في افترائهم هذا حيث تحدى جميع العرب بسورة واحدة منه ، كما ذكره تعالى في البقرة بقوله : فأتوا بسورة من مثله [ 2 \ 23 ] ، وفي يونس بقوله : قل فأتوا بسورة مثله [ 2 \ 38 ] ، وتحداهم في هود بعشر سور مثله في قوله : قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، وتحداهم به كله في الطور بقوله : فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين .

ثم صرح في سورة بني إسرائيل بعجز جميع الخلائق عن الإتيان بمثله في قوله : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ 17 \ 88 ] ، فاتضح بطلان دعواهم الكاذبة .
قوله تعالى : والملائكة باسطو أيديهم الآية ، لم يصرح هنا بالشيء الذي بسطوا إليه الأيدي ، ولكنه أشار إلى أنه التعذيب بقوله : أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون الآية [ 6 \ 93 ] ، وصرح بذلك في قوله : ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم [ 8 \ 50 ] ، وبين في مواضع أخر أنه يراد ببسط اليد التناول بالسوء كقوله : ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء [ 60 \ 2 ] ، وقوله : لئن بسطت إلي يدك لتقتلني الآية [ 5 \ 28 ] .
قوله تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ، [ ص: 488 ] ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار يأتون يوم القيامة كل واحد منهم بمفرده ليس معهم شركاؤهم ، وصرح تعالى بأن كل واحد يأتي فردا في قوله : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [ 19 \ 95 ] ، وقوله في هذه الآية : كما خلقناكم أول مرة [ 6 \ 94 ] ، أي منفردين لا مال ، ولا أثاث ، ولا رقيق ، ولا خول عندكم ، حفاة ، عراة ، غرلا ، أي : غير مختونين : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 4 ] ، وقد عرفت من الآية أن واحد الفرادى فرد ، ويقال فيه أيضا : فرد بالتحريك ، ومنه قول نابغة ذبيان : [ البسيط ]



من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد




قوله تعالى : لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن الأنداد التي كانوا يعبدونها في الدنيا تضل عنهم يوم القيامة ، وينقطع ما كان بينهم وبينها من الصلات في الدنيا ، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة جدا ، كقوله : وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 6 ] ، وقوله : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 82 ] ، وقوله : إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 29 \ 25 ] ، وقوله : أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون [ 26 \ 92 ، 93 ] ، وقوله هنا : وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم [ 6 \ 94 ] .
قوله تعالى : وجعل الليل سكنا ، أي : مظلما ساجيا ليسكن فيه الخلق ; فيستريحوا من تعب الكد بالنهار ، كما بينه قوله تعالى : هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا [ 10 \ 67 ] ، وقوله : قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله [ 28 \ 71 ، 72 ، 73 ] ، وقوله : لتسكنوا فيه يعني : الليل ، ولتبتغوا من فضله يعني : بالنهار ، ومن آياته الليل والنهار الآية [ 41 \ 37 ] .
قوله تعالى : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ، ظاهر هذه [ ص: 489 ] الآية الكريمة أن حكمة خلق النجوم هي الاهتداء بها فقط ، كقوله : وبالنجم هم يهتدون [ 16 \ 16 ] ، ولكنه تعالى بين في غير هذا الموضع أن لها حكمتين أخريين غير الاهتداء بها ؛ وهما تزيين السماء الدنيا ، ورجم الشياطين بها ، كقوله : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين الآية [ 67 \ 5 ] ، وقوله : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب [ 37 \ 6 ، 7 ، 8 ، 9 ، 10 ] ، وقوله : وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم [ 41 \ 12 ] .
قوله تعالى : وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر الآية ، لم يبين هنا كيفية إنشائهم من نفس واحدة ، ولكنه بين في مواضع أخر أن كيفيته أنه خلق من تلك الواحدة التي هي آدم زوجها حواء ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء كقوله : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] ، وقوله : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها الآية [ 7 \ 189 ] .
قوله تعالى : لا تدركه الأبصار الآية ، أشار في مواضع أخر إلى أن نفي الإدراك المذكور هنا لا يقتضي نفي مطلق الرؤية ، كقوله : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ 75 \ 22 ، 23 ] ، وقوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] ، والحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم ، وقوله : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [ 83 \ 15 ] ، يفهم منه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عنه ، وهو كذلك .
قوله تعالى : وليقولوا درست الآية ، يعني ليزعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما تعلم هذا القرآن بالدرس والتعليم من غيره من أهل الكتاب ، كما زعم كفار مكة أنه - صلى الله عليه وسلم - تعلم هذا القرآن من جبر ويسار ، وكانا غلامين نصرانيين بمكة ، وقد أوضح الله تعالى بطلان افترائهم هذا في آيات كثيرة ، كقوله : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] ، وقوله : فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر [ 74 \ 24 ، 25 ، 26 ] ، ومعنى يؤثر : يرويه محمد - صلى الله عليه وسلم - عن غيره في زعمهم الباطل ، وقوله : [ ص: 490 ] وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية [ 25 \ 4 ، 5 ، 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وفي قوله : درست [ 6 \ 105 ] ، ثلاث قراءات سبعيات :

قرأه ابن كثير ، وأبو عمر دارست بألف بعد الدال مع إسكان السين وفتح التاء من المفاعلة بمعنى : دارست أهل الكتاب ودارسوك حتى حصلت هذا العلم .

وقرأه بقية السبعة غير ابن عامر : درست بإسقاط الألف ، مع إسكان السين وفتح التاء أيضا ، بمعنى درست هذا على أهل الكتاب حتى تعلمته منهم .

وقرأه ابن عامر : درست بفتح الدال والراء والسين وإسكان التاء على أنها تاء التأنيث ، والفاعل ضمير عائد إلى الآيات المذكورة في قوله : وكذلك نصرف الآيات [ 6 \ 105 ] .

قال القرطبي : وأحسن ما قيل في قراءة ابن عامر أن المعنى : ولئلا يقولوا انقطعت وانمحت ، وليس يأتي محمد - صلى الله عليه وسلم - بغيرها . اهـ .

وقال القرطبي : وليقولوا درست ، الواو للعطف على مضمر ، أي : نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست ، وقيل : وليقولوا درست صرفناها .

قال مقيده - عفا الله عنه : ومعناهما آيل إلى شيء واحد ، ويشهد له القرآن في آيات كثيرة دالة على أنه يبين الحق واضحا في هذه الكتاب ، ليهدي به قوما ، ويجعله حجة على آخرين ، كقوله : لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] ، وقوله : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى [ 41 \ 44 ] ، وقوله : ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء [ 74 \ 31 ] ، كما قال هنا : وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون ، فالأشقياء يقولون : تعلمته من البشر بالدراسة ، وأهل العلم والسعداء يعلمون أنه الحق الذي لا شك فيه .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 290.12 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 284.06 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (2.09%)]