فقه الدعوة - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11910 - عددالزوار : 190800 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 554 - عددالزوار : 92644 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 114 - عددالزوار : 56861 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 26158 )           »          شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 33 - عددالزوار : 714 )           »          الدين والحياة الدكتور أحمد النقيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 57 )           »          فبهداهم اقتده الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 55 )           »          يسن لمن شتم قوله: إني صائم وتأخير سحور وتعجيل فطر على رطب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 24 )           »          رمضان مدرسة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          أمور قد تخفى على بعض الناس في الصيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 19-02-2022, 12:09 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فقه الدعوة

فـقه الدعوة (14)

مراعاة مقاصد الشـريعة الكليــة والجزئية


د.وليد خالد الربيع





تحدثنا في الحلقة السابقة عن قاعدة لا واجب بلا اقتدار ولا محرم مع الاضطرار، وقلنا: إن هذه القاعدة تتعلق بجميع التكاليف الدينية ومن جملتها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها من أجل التكاليف الشرعية وأفضل القربات الدينية.

القاعدة الرابعة - مراعاة مقاصد الشريعة الكلية والجزئية:

هذه القاعدة من القواعد الكلية التي يحتاج إليها المجتهد وطالب العلم لضبط مناهج الاستدلال والبعد عن مواطن الزلل في الاجتهاد والنظر, كذلك لا يستغني عنها الدعاة إلى الله عز وجل لضبط سبل الدعوة وفق المقاصد الشرعية وحفظها من الشطط والغلو أو التفريط والتقصير.

وقد ذكر الفقهاء المعاصرون تعريفات كثيرة للمقاصد الشرعية, منها:

تعريف الطاهر بن عاشور للمقاصد العامة: «المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها, بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة, فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها, ويدخل في هذا أيضا معانٍ من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة «.

وأما تعريف المقاصد الخاصة عنده فهي: «الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة, ويدخل في ذلك كل حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس, مثل قصد التوثق في عقد الرهن وإقامة المنزل والعائلة في عقد النكاح».

وعرفها د. نور الدين الخادمي بأنها: «المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية والمترتبة عليها سواء أكانت تلك المعاني حكما جزئيا أو مصالح كلية أو سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين».

وعرفها د. يوسف البدوي بأنها: «الحكم التي أرادها الله من أوامره ونواهيه لتحقيق عبوديته وإصلاح العباد في المعاش والمعاد».

فعلم المقاصد الشرعية يتناول حكم الأحكام وأسرار التشريع وغايات الدين ومقاصد الشرع ومقصود المكلف ونيته.

وقد أولى العلماء المقاصد الشرعية عناية كبيرة؛ لما لها من شأن عظيم في حسن الفهم عن الله عز وجل ورسوله [ ومن ثم حسن الامتثال للتكاليف الشرعية، وإيقاعها على الوجه المطلوب شرعا, فينال العبد ما أمله من الأجر والثواب والقبول عند الله تعالى, ويسلم من مغبة التقصير والتفريط والانحراف في تحقيق العبودية, ويأمن من المخالفات المحظورة والبدع المذمومة.

يقول ابن تيمية: «جماع الخير أن يستعين بالله عز وجل في تلقي العلم المأثور عن النبي [ فإنه هو المستحق أن يسمى علما...، ولتكن همته فهم مقاصد الرسول [ في أمره ونهيه وسائر كلامه, فإذا اطمأن أن هذا هو مراد الرسول فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله تعالى ولا مع الناس إذا أمكنه ذلك».

ويقول أيضا: «العلم بصحيح القياس وفاسده من أجل العلوم, وإنما يعرف ذلك من كان خبيرا بأسرار الشرع ومقاصده وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد..».

ويقول ابن القيم: «وينبغي أن يفهم عن الرسول [ مراده من غير غلو ولا تقصير, فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله, ولا يقصر به مراده وما قصده من الهدى والبيان, وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام, بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع, ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد من التابع فيا محنة الدين وأهله, والله المستعان».

ويقول الشاطبي:» إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:

أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها, والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها».

وقال: «فإذا بلغ الإنسان مبلغا فهم عن الشارع فيه مقصده في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها, فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي[ في التعليم والفتيا والحكم بما أنزل الله».

ويقول: «وأكثر ما تكون - أي زلة العالم - عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه».

وتنقسم المقاصد الشرعية إلى أقسام عديدة وذلك بحسب اعتبارات مختلفة منها:

التقسيم الأول - باعتبار محل صدورها:

القسم الأول - مقاصد الشارع: وهي المقاصد التي قصدها الشارع من أمره ونهيه, وهي الغايات الحميدة والحكم الجليلة التي أرادها الله عز وجل وهي جلب المصالح ودرء المفاسد في الدارين.

وقد قسمها الشاطبي إلى أربعة أنواع وهي:

النوع الأول: قصد الشارع من وضع الشريعة ابتداء, النوع الثاني: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام, النوع الثالث: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها, النوع الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة.

القسم الثاني - مقاصد المكلف: وهي الأهداف التي يقصدها المكلف من تصرفاته, وهي التي تميز القصد الصحيح من الفاسد, والعبادة من العادة.

التقسيم الثاني - باعتبار وقتها:

المقاصد الأخروية: وهي ما يرجع إلى تحصيل مصالح أخروية من دخول الجنة والنجاة من النار ولا يمنع ذلك أن تؤدي إلى مصالح دنيوية كالتعارف في الحج, والانتهاء عن الفحشاء والمنكر في الصلاة والتكافل في الزكاة ونحو ذلك

المقاصد الدنيوية: وهي التي ترجع إلى تحصيل مصالح دنيوية أو دفع مفاسد كذلك.

التقسيم الثالث - باعتبار تعلقها بعموم التشريع وخصوصه:

المقاصد العامة: وهي التي تراعيها الشريعة في كل الأحكام أو أغلبها.

المقاصد الخاصة: وهي التي تهدف الشريعة إلى تحقيقها في باب معين أو أبواب متقاربة مثل مقاصد أحكام الأسرة ومقاصد التصرفات المالية ونحوها.

المقاصد الجزئية: وهي الحكم التي راعاها الشارع عند كل حكم من أحكامه المتعلقة بالجزئيات.

التقسيم الرابع - باعتبار القطع والظن:

المقاصد القطعية: وهي التي قامت الأدلة على إثباتها كالتيسير وإقامة العدل والضروريات الخمس.

المقاصد الظنية: وهي التي تختلف الأنظار فيها, مثل توريث مطلقة مريض مرض الموت, وضرب المتهم للإقرار ونحو ذلك.

المقاصد الموهومة: وهي التي يتوهم أن فيها مصلحة أو دفع مفسدة والواقع بخلافه.

التقسيم الخامس - باعتبار تعلقها بعموم الأمة وأفرادها:

مقاصد كلية: وهي ما يتعلق بالخلق كافة وعموم الأمة، مثل إقامة العدل.

مقاصد أغلبية: وهي التي تتعلق بأغلب الخلق وتدفع الفساد عن معظمهم كالتطبيب.

مقاصد فردية: وهي العائدة على فرد معين وربما في حالات نادرة, مثل مصلحة فسخ نكاح زوجة المفقود, وتوريث المطلقة ثلاثا في مرض الموت.

التقسيم السادس - باعتبار أصليتها وتبعيتها:

مقاصد أصلية: وهي التي يراد تحقيقها ورعايتها أصالة وابتداء.

مقاصد تابعة: وهي التي تكون تابعة للمقاصد الأصلية ووسيلة إليها

التقسيم السابع - باعتبار مدى الحاجة إليها وقوتها وتأثيرها:

القسم الأول - الضروريات: وهي التي لابد منها في قيام مصالح الدارين, وهي الكليات الخمس: «الدين والنفس والعقل والنسل والمال».

القسم الثاني- الحاجيات: وهي التي يحتاج إليها للتوسعة ورفع الضيق والحرج, كالترخص وتناول الطيبات والتوسع في المعاملات المشروعة.

القسم الثالث - التحسينيات: وهي التي تتعلق بمحاسن العادات ومكارم الأخلاق, والتي لا يؤدي تركها غالبا إلى الضيق والمشقة.

ومن خلال هذا العرض الموجز للمقاصد الشرعية يظهر مدى سعة هذا الباب ودقة مباحثه وكثرة مسائله؛ لذا أفرد كثير من الفقهاء المعاصرين هذا النوع من العلم بمصنفات مفيدة وكتب قيمة, فحري بالدعاة إلى الله التفقه في هذا الباب للوقوف على المقاصد الشرعية العامة والخاصة فلا يهملوها أو يتجاوزوها, ومعرفة أقسامها ومراتبها للترجيح بينها عند التعارض وتقديم أولاها وأرجحها؛ فلا يقدم الداعي ما حقه التأخير ولا يؤخر ما حقه التقديم, كما أنه يحرص على أن يكون مقصده من دعوته موافقا للمقاصد العامة والخاصة, فكل مقصد يخالف المقصد الشرعي باطل غير مقبول, يقول الشاطبي في (الموافقات): «قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع...فالمطلوب منه أن يكون قائما مقام من استخلفه, يجري أحكامه ومقاصده مجاريها» اهـ, ثم قال: «كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل; فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل».


فبعض المناهج الدعوية انحرفت وزاغت بسبب جهلها أو إهمالها للمقاصد الشرعية، فأتت بأعمال تهدم أصول الشريعة ومبادئها وتجعلها متناقضة متعارضة أمام غير المسلمين بسبب إهمال هذه القاعدة المهمة; مما يجعل دراستها وتطبيقها من أولى المهمات, والله المستعان.









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 19-02-2022, 12:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فقه الدعوة

فـقه الدعوة (15)

- التـوازن في الدعــوة


د.وليد خالد الربيع


تحدثنا في الحلقة السابقة عن قاعدة مراعاة مقاصد الشريعة الكلية والجزئية وقلنا إن هذه القاعدة يحتاج إليها المجتهد وطالب العلم لضبط مناهج الاستدلال والبعد عن مواطن الزلل في الاجتهاد


القاعدة الخامسة - التوازن في الدعوة:

والتوازن والموازنة في حقيقته هو القصد والاعتدال وهو إعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص.

وهذه القاعدة من القواعد المهمة للمسلم عموما والداعية إلى الله على وجه الخصوص؛ لأن التوازن سمة عامة من سمات الإسلام كما قال الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا}، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: «فجعل الله هذه الأمة وسطا في كل أمور الدين، وسطا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى وبين من جفاهم كاليهود، ووسطا في التشريعات لا تشديدات اليهود وآصارهم ولا تهاون النصارى، وأباح لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح وحرم عليهم الخبائث من ذلك، فلهذه الأمة من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلّها، ومن الأعمال أفضلها، ووهبهم من العلم والحلم والعدل والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا {أمة وسطا} كاملين معتدلين».

وقال الطحاوي: «ودين الله في الأرض والسماء واحد، وهو دين الإسلام؛ قال الله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}، وهو بين الغلو والتقصير وبين التشبيه والتعطيل، وبين الجبر والقدر، وبين الأمن والإياس».

وقال الحسن رحمه الله: «سنتكم - والله الذي لا إله إلا هو - بين الغالي والجافي».

ويقول ابن الجوزي: «اعلم أن شرعنا مضبوط الأصول محروس القواعد لا خلل فيه ولا دخل وكذلك كل الشرائع، إنما الآفة تدخل من المبتدعين في الدين أو الجهال».

وقال شيخ الإسلام: «دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر، إما إفراط فيه وإما تفريط».

ويقول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: «الوسط في الدين ألا يغلو الإنسان فيه فيتجاوز ما حد الله عز وجل، ولا يقصر فيه فينقص عما حد الله عز وجل، الوسط في الدين أن يتمسك بسيرة النبي [، والغلو في الدين أن يتجاوزها والتقصير ألا يبلغها».


فظاهر مما تقدم أن الناس ثلاثة أقسام:

فالقسم الأول: المتمسك بالحق الملازم للصراط المستقيم دون إفراط ولا تفريط.

أما القسم الثاني فهو المفرط الزائغ المضيع لحدود الله، والتفريط هو التقصير في أحكام الدين.

وأما القسم الثالث فهو الغالي المتجاوز لحدود الله الذي يخالف الهدي المستقيم تحت شعار التدين والزهد والورع، فهو مخالف للسنة باسم السنة، ومن هنا تأتي خطورة الغلو والتنطع؛ إذ إنه في ظاهره تمسك بالدين إلى أقصى غاية، والحال أنه مفارق لسنة النبي [ القائمة على القصد والاعتدال في كل الأمور.

فالغلو مبالغة في التمسك بالدين وليس خروجا عنه، فهو نابع من الرغبة في الالتزام به، ولكن هذه الرغبة لم توافق علما صحيحا ولا هديا مستقيما؛ فأورثت سلوكيات وتصرفات تخالف كليات الشريعة في سماحتها ويسرها.

وقد يكون الباعث على الغلو الطمع في الظفر بأعلى درجات الدين بأقصر وقت، فيندفع الشخص دون بصيرة ويقفز دون روية يريد أن يسبق غيره فيضيف من تلقاء نفسه وسائل تقربه بزعمه من مقصوده، في حين أنه مخالف لهدي النبي [.

وقد يكون الباعث على الغلو محاولة استدراك ما فرط فيه الإنسان فيما مضى من عمره، فيفيق بعد زمن من غفلته ويحاول أن يستثمر زمانه ويلحق بركب السابقين فيسرع الخطى بغير هدى فيضل السبيل.

ويعرف شيخ الإسلام ابن تيمية الغلو بأنه: مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك.

وقال ابن حجر والشاطبي: هو المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد.

الأدلة على أهمية التوازن:

قال عز وجل في صفة عباد الرحمن: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}، وقال: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا}. وقال عز وجل مبينا المنهج المعتدل: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك}.

ذكر البخاري عن أبي حجيفة قال: آخى النبي [ بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء - وهي زوجته - متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال له: كل فإني صائم، فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم، فنام، ثم ذهب ليقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا؛ فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي [ فذكر له ذلك فقال النبي [: «صدق سلمان».

عن أنس قال: جاء ثلاثة نفر إلى أبيات أزواج النبي [ يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من رسول الله؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء النبي [ فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني»، متفق عليه.

وحيث إن التوازن هو القصد والاعتدال وضده الإفراط والتفريط فقد جاءت نصوص كثيرة في التحذير من الغلو والتنطع، منها:

1 - قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا}.

2 - قوله تعالى: {يأهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق}.

3 - وعن ابن عباس قال: قال لي رسول الله [: «هلم القط لي الحصى»، فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: «نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»، أخرجه أحمد.

قال شيخ الإسلام: وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال.

4 - وقال [: «هلك المتنطعون» ثلاثا، أخرجه مسلم.

قال النووي: أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.

وقال ابن مسعود: والذي لا إله إلا هو ما رأيت أحدا كان أشد على المتنطعين من رسول الله [، وما رأيت أحدا كان أشد عليهم من أبي بكر، وإني لأرى عمر كان أشد خوفا عليهم أو لهم.

5 - وقال [: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» أخرجه البخاري.

قال ابن حجر: والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب.

6 - وقال [: «عليكم هدياً قاصداً فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه»، أخرجه أحمد.

قال ابن الأثير: يشاد الدين: أي يقاومه ويكلف نفسه من العبادة فوق طاقته.

7 - قالت له عائشة: هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل فقال [: «لا تنام الليل؟! خذوا من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا».


8 - عن أنس قال: دخل رسول الله [ المسجد وحبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا؟ قالوا: حبل لزينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال: «حلوه! ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد».


ولا يفهم من هذه النصوص أن الإكثار من العبادة مذموم مطلقا، كيف وقد جاءت النصوص الشرعية بالحث على المسارعة في الخيرات والإكثار من الطاعات وعمارة الأوقات بالمفيد من العلم النافع والعمل الصالح؟ وإنما المقصود حث المكلف ليتحلى بالوسطية والاعتدال في تدينه وعبادته بحيث يحقق التوازن والتكامل بين الوظائف الدينية والواجبات الأخرى الشرعية والدنيوية.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 23-02-2022, 10:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فقه الدعوة

فـقه الدعوة (16)

مجالات التـوازن


د.وليد خالد الربيع


تحدثنا في الحلقة السابقة عن التوازن في الدعوة وحقيقة التوازن والموازنة في العمل الدعوي وحذرنا من الغلو وأنواعه وخطورته على الدعاة وبينا أسباب الغلو والتطرف، ونستكمل الحديث عن التوازن في الدعوة.

مجالات التوازن:

1 - عند غلبة النوازع:

النوازع هي الأمور التي يشتاقها الداعية ويحنّ إليها، وتحصل المجاذبة بينه وبين نفسه لتحقيقها وتحصيلها، ولا يخفى على اللبيب أن كل إنسان ينزع إلى ما تدفعه همته إليه. (التنازع والتوازن في حياة المسلم ص15).

يقول ابن الجوزي: «نظرت إلى علو همتي فرأيتها عجبا، وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه؛ لأنني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها وأريد استقصاء كل فرد، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه... فلا أرى الرضا بنقصان العلوم إلا حادثا عن نقص الهمة.

ثم إني أروم نهاية العمل بالعلم فأتوق إلى ورع بشر وزهادة معروف، وهذا مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق ومعاشرتهم بعيد.

ثم إني أروم الغنى عن الخلق وأستشرف الإفضال عليهم، والاشتغال بالعلم عن الكسب وقبول المنن مما تأباه الهمة العالية.

ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد كما أتوق إلى تحقيق التصانيف لبقاء الخلفين - أي الكتب والأولاد - نائبين عني بعد التلف، وفي طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد.

ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفي ذلك امتناع من جهة قلة المال، ثم لو حصل فرّق جَمْع الهمة...

وكل ذلك جمع بين أضداد... فواقلقي من طلب قيام الليل وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف... وواأسفي على ما يفوتني من المناجاة بالخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم، ويا كدر الورع مع طلب ما لابد منه لعائلة، غير أني قد استسلمت لتعذيبي، ولعل تهذيبي في تعذيبي، وإن بلغ همي مراده، وإلا فنية المؤمن خير من عمله» اهـ (صيد الخاطر 216).

فالمطلوب من الداعي تقديم الأهم على المهم من العلوم والأعمال كما قال ابن القيم: «إن أفضل العبادات: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل الأعمال وقت الجهاد هو الجهاد وإن أدى الأمر إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل من ترك إتمام الفريضة، وأفضل الأعمال إذا حضر الضيف القيام بحقه ولو اشتغل به عن الورد المستحب وأداء حق الأهل والزوجة، وأفضل الأعمال وقت السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والذكر والاستغفار والدعاء، وأفضل الأعمال إذا جاء سائل يطلب العلم الإقبال على تعليمه والاشتغال به، وأفضل الأعمال وقت الأذان ترك ما هو فيه من ورد والاشتغال بإجابة المؤذن، وأفضل الأعمال وقت الصلوات المفروضة الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت.

وأفضل الأعمال وقت الضرورات المساعدة بالجاه أو البدن أو المال والاشتغال بمساعدة المحتاج، وهكذا فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.

وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف التي قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عما تعلق به من العبادة رأى نفسه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله تعالى على وجه واحد، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره بل غرضه تتبع مرضاة الله أين كانت، فلا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا دأبه حتى ينتهي سيره» اهـ.

كذلك على الداعية أن يحقق التكامل بين المثالية والواقعية:

المثالية:

فالدين يحرص على أن يبلغ الإنسان الكمال المقدر له، بأن تكون تصرفاته كلها وفق المنهج الرباني، وهذا يعتمد على أمرين:

الأول: الاعتدال: وهو عدم الإفراط أو التفريط.

الثاني: الشمول: فالدين يريد من المسلم أن يبلغ الكمال باتزان وتناسق في جميع الشؤون؛ ولهذا كان الصحابة أسوة في كل المجالات دون فرق.

الواقعية:

فالدين يقدر طبيعة البشر؛ ولهذا وضع حدا أدنى للكمال لا يجوز الهبوط عنه؛ لأنه أقل ما يقبل من المسلم وهو فعل الواجبات وترك المحرمات، وأما ما زاد على ذلك فهو مندوب لا واجب مراعاة لأحوال المكلفين، وشرع الرخص عند المشاق والحرج تيسيرا على العباد.

2 - عند تعارض المصالح والمفاسد:

قال شيخ الإسلام: «قاعدة الشريعة تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما»، وقال: «فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين؛ فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا».

وقال: «تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، و إلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات جميعا ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعا، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع من قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع».

دليل هذه القاعدة:

1- قوله عز وجل: {والفتنة أشد من القتل} وقوله: {والفتنة أكبر من القتل}، فقتل النفوس وإن كان فيه شر وفساد، ففي فتنة الكفار وظهورهم على أهل الحق من الشر والفساد ما هو أكبر منه فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما.

2- قصة الخضر مع أصحاب السفينة حين نزع لوحا منها؛ لأن بقاء السفينة معيبة خير من فواتها وهي سليمة.

3- حديث الأعرابي الذي بال في المسجد حيث تركه النبي [ حتى فرغ لئلا يوسع دائرة الفساد.

4- تركه [ قتل المنافقين مع استحقاق بعضهم لذلك؛ دفعا لمفسدة إعراض الناس عن الدين.

ما ينبني على هذه القاعدة:

إذا تزاحمت المصالح ولم يمكن تحصيلها جميعا، أو تزاحمت المفاسد ولم يمكن دفعها جميعا، فعلى المكلف أن يقدم أعلى المصلحتين ويدفع أعظم المفسدتين، قال شيخ الإسلام: «المؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسنة؛ ليقدم ما هو أكثر خيرا وأقل شرا على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما؛ فإن من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح».

1 - إذا كانت إحدى المصلحتين واجبة والأخرى مندوبة قدمت الواجبة:

قال شيخ الإسلام: «سائر ما يتزاحم من الواجبات والمستحبات، فإنها جميعها محبوبة لله، وعند التزاحم يقدم أحبها إلى الله، والتقرب بالفرائض أحب إليه من التقرب إليه بالنوافل، وبعض الواجبات والمستحبات أحب إليه من بعض».

قال ابن الجوزي: «وقد لبّس إبليس على جماعة من المتعبدين، فأكثروا من صلاة الليل وفيهم من يسهره كله ويفرح بقيـام الليـل وصلاة الضحى أكثر مما يفرح بأداء الفرائض، ثم يقع قبيل الفجر فتفوته الفريضة، أو يقوم فيتهيأ لها فتفوته الجماعة أو يصبح كسلان فلا يقدر على الكسب لعائلته».

2 - لو كانت المصلحتان واجبتين قدم أوجبهما:

فتقدم طاعة الله عز وجل على طاعة الوالدين والزوج، وتقدم الفريضة على النذر ونفقة الزوجات على الأقارب، ونفقة الأم على الأب.

3 - لو كانت المصلحتان مستحبتين قدم أفضلهما:

تقدم الراتبة على النفل المطلق، وما فيه نفع متعدٍ على ما نفعه قاصر كالتعليم وعيادة المريض على النافلة والذكر.

4 - لو كانت إحدى المفسدتين حراما والأخرى مكروهة قدم المكروهة على الحرام:

فيقدم الأكل من المشتبه على الحرام المحض.

5 - إن كانت المفسدتان محرمتين قدم أخفهما تحريما:

قال شيخ الإسلام: «إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة، وإن سمي ذلك: ترك واجب، وسمي هذا: فعل محرم - باعتبار الإطلاق - لم يضر، ويقال في هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أحرم».

فلو اضطر إلى أكل طعام ووجد ميتة أو صيد الحرم قدّم صيد الحرم؛ لأن حرمته عارضة وأما الميتة فحرمتها أصلية.

الصبر على جور الأمراء الظلمة على ما فيه من مفسدة إلا أنه مقدم على الخروج عليهم؛ لما في ذلك من المفاسد العظيمة التي تمس كثيرا من المسلمين.


تولي الرجل الصالح الولاية وإن كان فيها ظلم لأجل تخفيف الظلم، مقدم على تركها لغير الصالحين لأن تركها أعظم فسادا وضررا.

وقال شيخ الإسلام: «فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال الكفار الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون».









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 03-03-2022, 01:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فقه الدعوة

فـقه الدعوة (17)

التدرج في الدعوة


د.وليد خالد الربيع



تحدثنا في الحلقة السابقة عن التوازن في الدعوة وحقيقة التوازن والموازنة في العمل الدعوي ونستكمل اليوم عن ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفنون التعامل مع الآخرين ، وعن القاعدة السادسة وهي التدرج في الدعوة وأهمية التدرج وحكمته.

3 - عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

ويدخل الغلو أيضا أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، كما قال شيخ الإسلام: «وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب عليه من الأمر والنهي تأويلا لهذه الآية: {يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، والفريق الثاني من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقا من غير فقه ولا حلم ولا صبر ولا نظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح وما يقدر عليه وما لا يقدر... فيأتي بالأمر والنهي معتقدا أنه مطيع لله ورسوله وهو معتد في حدوده».

وقال أيضا: «فإن كثيرا من الآمرين الناهين قد يعتدي حدود الله إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين».

4 - في التعامل مع الآخرين:

يحرص الدعاة على بذل النصيحة لعامة الناس والسعي في إيصال النفع لهم، فأتباع النبي [ أعلم الناس بالحق وأرحم الناس للخلق؛ وذلك لأنهم يتمسكون بالوحي ويمتثلون أوامره وينتهون عن نواهيه ويقفون عند حدوده ويتخلقون بآدابه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الواسطية) في بيان مكارم الأخلاق التي يتحلى بها أهل السنة والجماعة: ويعتقدون معنى قوله [: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»، ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفسافها، وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة».

5- عند الفتن والمحن:

قال الشيخ صالح آل الشيخ في (الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن ): «إذا ظهرت الفتن أو تغيرت الأحوال فعليك بالرفق والحلم ولا تعجل؛ لأن النبي [ قال: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه»، وإذا برزت الفتن وتغيرت الأحوال فلا تحكم على شيء من تلك الأحوال إلا بعد تصوره؛ لقوله عز وجل: {ولا تقف ما ليس لك به علم}.

وعليك بلزوم الجماعة؛ لقوله [: «عليكم بالجماعة وإياكم والتفرق»، وقال: «الجماعة رحمة والفرقة عذاب». وعليك بالموازين الشرعية لمعرفة الحق من الأقوال والأفعال والأحوال والأشخاص، والرجوع إلى أهل العلم الراسخين.

القاعدة السادسة - التدرج في الدعوة:

من القواعد الدعوية التي تمس حاجة الدعاة إليها (قاعدة التدرج)، فبعض الدعاة يستعجل في قطف الثمار وتحصيل النتائج دون مراعاة لأحوال المدعوين وظروفهم النفسية أو الاجتماعية أو مستواهم العلمي والثقافي، فيريد أن يبرئ ذمته فيقول ما يعلمه أو يفعل ما يظنه الصواب، غافلا أو متجاهلا لغاية الدعوة وهدفها الأسمى وهو هداية الناس بأيسر طريق وأقرب سبيل.

والتدرج هو الأخذ شيئا فشيئا وعدم تناول الأمر دفعة واحدة.

ويوضح د. عبدالرحيم المغذوي المقصود من هذه القاعدة بأنها: «ترفق الداعية في دعوته للناس والانتقال بهم في سلم الدعوة خطوة خطوة، ودرجة درجة وعدم الإكثار عليهم وإعطائهم فوق طاقتهم وأكثر من وسعهم وخاصة غير المسلمين أو من أسلم حديثا ولم يتمكن الإيمان من قلبه، أو من يعيش في بلاد غير إسلامية ولم يعرف الإسلام على حقيقته أو ما شابه تلك الحالات.

ومن أدلة هذه القاعدة ما أوصى به رسول الله [ معاذا حين بعثه إلى اليمن فقال [: «إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»، فهذا الحديث يدل على أهمية التدرج في الدعوة ومراعاة أحوال الناس، وما تنطوي عليه أنفسهم وعقولهم من أشياء تقتضي الترفق والتدرج بهم في الدعوة» اهـ.


ويؤكد د. أبو الفتح البيانوني أن من مظاهر الحكمة في الدعوة (التدرج) ولاسيما عند معالجة الأشخاص والأوضاع العامة، تماما كما فعل القرآن الكريم والرسول العظيم [، ومشى على ذلك الخلفاء الراشدون والعلماء العاملون.

فقد نزل القرآن الكريم متدرجا في ثلاث وعشرين سنة، ولما اعترض على ذلك الكافرون بين الله الحكمة من نزوله متدرجا فقال: {وقال الذين كفروا لولا نزِلّ عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا}، وفي الحديث عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنى أبدا» أخرجه البخاري.

وروى الشاطبي في (الموافقات) أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز قال يوما لأبيه عمر: ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي أن القدور غلت بي وبك في الحق.

قال: عمر لا تعجل يا بني؛ فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة» اهـ.

يقول الشاطبي: «ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة، ووردت الأحكام التكليفية شيئا فشيئا ولم تنزل دفعة واحدة، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة؛ فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت التكاليف على المكلف، فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى الحكم الواحد أو الاثنين، وفي الحديث: «الخير عادة والشر لجاجة، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»، وإذا اعتادت النفس فعلا من أفعال الخير حصل له به نور في قلبه وانشرح له صدره، فلا يأتي فعل ثان إلا وفي النفس له القبول، هذا عادة الله في أهل الطاعة، وعادة أخرى جارية في الناس، أن النفس أقرب انقيادا إلى فعل يكون عندها فعل آخر من نوعه، ومنها كان عليه الصلاة والسلام يكره أضداد هذا ويحب ما يلائمه، فكان يحب الرفق ويكره العنف، وينهى عن التعمق والتكلف والدخول تحت ما لا يطاق حمله؛ لأن هذا كله أقرب إلى الانقياد وأسهل في التشريع للجمهور» اهـ. وللتدرج حِكَم عديدة ذكرها د. محمد الزحيلي منها :

أولا - موافقة الفطرة:

فالإسلام دين الفطرة، وأحكامه عامة تتفق مع الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، وأسلوبه في التشريع خاصة يلتقي مع الفطرة، فيلتقي مع النفوس السليمة والعقول الراجحة في تقبل الأخبار والتكاليف شيئا فشيئا وبناء الأشياء والقرارات درجة درجة، ونقل عن المودودي قوله: «لا ينبغي أن نغفل قاعدة تدرك بالفطرة، وهي أنه لا يحدث تغيير في الحياة الاجتماعية إلا بالتدرج».

ثانياً: التيسير والتخفيف:

إن التدرج الزمني في التشريع يسّر فهم أحكامه على أحسن وجه، ويسّر معرفته حكما حكما، وهذا ما يلمسه المدقق في نزول الأوامر والنواهي في بداية الإسلام على سنة التدرج مراعاة للتيسير على الناس والتخفيف عنهم، ورفع الحرج في أخذهم باليسر من التكاليف والأحكام .

ثالثاً - تغيير العادات:

إن العادة تتحكم في صاحبها، حتى اعتبرت طبيعة ثانية، ولما بعث رسول الله [ كان العرب قد استحكمت بهم عادات فردية وجماعية، فاقتضت الحكمة التشريعية أن يتدرج المشرع الحكيم بإبطال العادات السيئة والضارة شيئا فشيئا لاقتلاع جذورها، ثم بناء الأحكام والقيم الإسلامية مكانها.

رابعاً - بناء الفرد قبل بناء المجتمع:

اتجه التشريع الإسلامي أولا لبناء الفرد السوي بإصلاحه وتغيير ما بنفسه قبل البدء ببناء المجتمع وقبل تغيير الأنظمة والأحكام، وهذا هو التوجه القرآني في ذلك، فقال الله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.

والحكمة في ذلك أن الفرد هو الأساس لبناء الأسرة، والأسرة هي اللبنة الأولى لبناء المجتمع، وعندما تصلح النفوس وتتربى تربية إسلامية كاملة فإنها تتلقى الأحكام الشرعية برحابة صدر وتتجه ذاتيا إلى تنفيذها وتطبيقها، وهذا ما فعل بالمؤمنين في مكة أولا ثم في المدينة.» اهـ.

ويقابل التدرج في الدعوة آفة من الآفات التي يصاب بها بعض الدعاة وهي (الاستعجال)، ومعناه - كما يوضحه د- سيد نوح - رحمه الله - أنه: «إرادة تغيير الواقع الذي يحياه المسلمون في لمحة أو في أقل من طرفة عين دون نظر في العواقب، ودون فهم للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع ودون إعداد جيد للمقدمات أو للأساليب والوسائل، بحيث يغمض الناس عيونهم ثم يفتحونها، أو ينامون ليلة ثم يستيقظون فإذا بهم يرون كل شيء عاد إلى وضعه الطبيعي في حياتهم».

ثم يذكر من مظاهر الاستعجال القيام بتصرفات طائشة صغيرة تضر بالدعوة ولا تفيدها، والارتقاء ببعض الدعاة إلى مستوى رفيع قبل اكتمال نضجهم.

وسرد - رحمه الله - بعض سبل معالجة الاستعجال، فمن ذلك :

1- إمعان النظر في الآثار والعواقب المترتبة على الاستعجال؛ فإن ذلك مما يهدي النفس ويحمل على التريث والتأني.

2- دوام النظر في كتاب الله؛ فإن ذلك يبصرنا بسنن الله في الكون وفي النفس وفي التشريع ومع العصاة والمكذبين قال تعالى: {سأريكم آياتي فلا تستعجلونِ}.

3- دوام المطالعة في السنة والسيرة؛ فإن ذلك مما يوقعنا على مقدار ما لاقى النبي [ من الشدائد والمحن وكيف أنه تحمل وصبر ولم يستعجل حتى كانت العاقبة له وللمنهج الذي جاء به.

4- مطالعة كتب التراجم والتاريخ؛ فإن ذلك يعرفنا بمنهج أصحاب الدعوات والسلف في مواجهة الباطل، وكيف أنهم تأنوا وتريثوا حتى مُكِّن لهم.

5- العمل في أحضان وظل ذوي الخبرة والتجربة ممن سبقوا على الطريق.

6- العمل من خلال منهج واضح الأركان محدد المعالم يستوعب الحياة كلها ويأخذ بيد العامل من طور إلى طور.

7- مجاهدة النفس وتدريبها على التريث والتأني والتروي؛ فإنما الحلم بالتحلم ومن يتصبر يصبره الله.

فعلى الدعاة التدرج في الدعوة إلى الله، وهذا يشمل:

1- التدرج في بيان الأحكام الشرعية، وذلك بالبدء بالأهم فالمهم، دون إثقال أذهان المدعوين بمعلومات كثيرة لا يحتاجون إليها، وقد تكون لبعضهم فتنة أو شبهات لعدم استعدادهم الفطري والعقلي لتلقي مثل تلك المعلومات، كما قال علي -رضي الله عنه- : حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!».


2- التدرج في التطبيق والعمل، بحيث يراعي قدرة المدعوين وظروفهم، مع الانتباه إلى أن العقائد والفرائض والمحرمات لا تدرج فيها ولا تهاون.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 06-03-2022, 11:35 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فقه الدعوة

فـقه الدعوة (18)

المشـقـة تجـلـب التيـســير


د.وليد خالد الربيع



تحدثنا في الحلقة السابقة عن التدرج في الدعوة وأهمية التدرج وحكمته، ونتحدث في هذه الحلقة عن المشقة التي يلاقيها الدعاة في سبيل تحقيق الدعوة والسير على منهج الأنبياء والرسل، ونأخذ بشيء من التفصيل أنواع هذه المشقة التي تجلب التيسير.

القاعدة السابعة - المشقة تجلب التيسير:

هذه القاعدة الفقهية من أهم القواعد التي يحتاج إليها الدعاة عند قيامهم بالدعوة إلى الله، وذلك أن الدين الإسلامي - كما يقول الشيخ ابن سعدي - «ميسر سهل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتروكه.. كل مكلف يرى نفسه قادرا عليها لا تشق عليه ولا تكلفه» اهـ. ومن هذا المنطلق ينبغي أن يبدأ الدعاة مدركين هذا الأصل مستصحبين هذه الحقيقة .

ومعنى القاعدة: أن الصعوبة والعناء تكون سببا للتسهيل، ويلزم التوسيع في وقت المضايقة، فالأحكام التي ينشأ عن تطبيقها حرج على المكلف ومشقة في نفسه أو ماله، فالشريعة تخففها بما يقع تحت قدرة المكلف دون عسر ولا حرج.

وقد أكد الفقهاء أنه ليس كل مشقة تجلب التيسير والتخفيف، فالمشقة في اللغة هي الجهد والعناء والشدّة والثقل، من الفعل: شقّ، تقول: شقّ عليّ الشيء، إذا أتعبك، وقد ذكر الشاطبي أن المشقة أنواع:

الأول: مشقة غير مقدور عليها: كتكليف المقعد بالقيام، والإنسان بالطيران ونحو ذلك، فهذه لا يرد بها التكليف والنصوص دالة على ذلك.

الثاني: مشقة داخلة تحت قدرة المكلف، وهي أقسام:

1- مشقة خفيفة: كأدنى وجع في الأصبع أو الرأس ونحو ذلك، فهذا لا أثر له في التخفيف والترخص؛ لأن تحصيل مصالح العبادات أولى من دفع مثل هذه المفسدة التي لا أثر لها.

2- مشقة عظيمة: وهي الخارجة عن حدود المعتاد: بحيث يؤدي امتثال التكاليف إلى خلل في نفس المكلف أو ماله أو أطرافه، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد وموجبة للتخفيف والترخص؛ لأن حفظ النفوس والأطراف لإقامة مصالح الدين أولى من تعريضها للفوات في عبادة أو عبادات، مثل الاغتسال من الجنابة مع شدة البرد، وصيام المريض والحامل.

3- مشقة في الحدود العادية وداخلة تحت القدرة البشرية: وهي لا تنفك عن العبادة غالبا وهي موجودة في المسائل الدنيوية كمشقة العمل وكسب العيش، فهذه وإن كانت مشقة لكن النفس قادرة عليها، بل لو ترك الإنسان العمل من أجلها لعدّ ذلك سفها وعجزا، وهذه مثل مشقة البرد في الوضوء والصوم في الحر ومشقة السفر للحج والعلم والمشقة في إقامة الحدود ونحو ذلك، فهذه المشقة لا أثر لها في إسقاط العبادة ولا تمنع التكليف وليست سببا للترخص.

وقد دل على هذه القاعدة أدلة شرعية منها:

1- قوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، وقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}، وقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، وقوله: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}.

2- سئل النبي [: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: «الحنيفية السمحة» قال الشاطبي: وسميت بالحنيفية لما فيها من التيسير والتسهيل.

3- وقال [: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة».

4- وقال [: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» وقال: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين».

5- وقالت عائشة رضي الله عنها: «ما خيّر رسول الله [ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما».

6- تشريع الرخص يدل على مراعاة مصالح العباد ورفع الحرج والمشقة عنهم بالتخفيف.

ومن حيث تطبيق هذه القاعدة في مجال الدعوة يقول د. عبدالرحمن المغذوي: «المقصود بهذه القاعدة أن الأمور التي تلحق المشاق والمتاعب أو المخاوف على الداعية أو المدعو في باب الدعوة تفتح لهم باب التيسير عليهم ورفع الحرج والعنت عنهم، والإتيان من الأمور قدر المستطاع، ولكن بشرط عدم مصادمتها للنصوص أو التكليفات الشرعية.

والمتأمل في هذه القاعدة يجد أنها تتضمن محورين مهمين:

الأول: الدعاة وما يكتنف أعمالهم في بعض الأزمان والأماكن من عنت ومشقة، الأمر الذي قد يدخل بعض المشقة التي قد تضر بالدعاة، فهنا التيسير مطلوب على هؤلاء الدعاة وعدم تحميلهم فوق طاقتهم.

الثاني: المدعو وما قد يعترض طريقه من مصاعب ومشاق في تطبيق الشريعة الإسلامية وتنفيذ أحكام الإسلام كاملة، فهنا يدخل التيسير والتخفيف على هؤلاء الناس، وخصوصاً الذين يعيشون تحت ظروف سياسية واجتماعية معينة، ولاسيما في المجتمعات غير الإسلامية، كالأقليات الإسلامية في بلاد الغرب، فاليسر من طبيعة دعوة الإسلام، وليس له هدف في إلحاق المشقة المفضية للضرر على الناس» اهـ. (الأسس العلمية لمنهج الدعوة الإسلامية 1/217).

ومن القواعد ذات الصلة بهذا الأصل قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور)، ومعناها أن الأمر الذي يستطيع المكلف فعله وهو يسير عليه، لا يسقط بما شق فعله عليه أو عسر، ودليل هذه القاعدة قوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقوله [: «إذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم»، وقوله [: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب».

قال د. البيانوني: «ومن هنا وجب على من قدر على أداء الصلاة قاعدا أو على جنب أو بالإيماء أن يصلي كما يستطيع، ولا تسقط عنه الصلاة جميعها بسبب تعذر الإتيان ببعض أركانها.

وإن مثل هذه القاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) يمكن الاستفادة منها في جميع الحياة، ولا تقتصر على أحكام العبادات، فإذا عجز الدعاة عن تحقيق أمر الله في جميع جوانب الحياة لضعفهم أو لظروف خاصة بهم، وأمكنهم تطبيق أحكام الله في بعض الجوانب دون بعض، فلا يجوز لهم أن يتوقفوا عن تطبيق ما أمكنهم نظرا إلى ما عجزوا عنه من إقامة الدين كاملا؛ فما لا يدرك كله لا يترك جله.

وكثيرا ما فهم بعض الدعاة خطأ مقولة مشهورة لبعض الدعاة وهي: «خذوا الإسلام جملة أو دعوه جملة» فذهبوا إلى ترك الممكن والمتيسر منه، وانتظروا تيسر تطبيق الإسلام كاملا، أو وجهوا النقد الشديد اللاذع إلى من استطاع أن يطبق بعض الجوانب دون بعض، غافلين عن مثل هذه القاعدة الفقهية.


فهناك فرق بين من يستطيع أخذ الإسلام جملة ومن لم يستطع ذلك مع اعتقاده بوجوب الأخذ به جميعا، وسعيه إلى الأخذ به من جميع أطرافه، وبين من ظن أن بإمكانه أن يتخير من الإسلام بعض جوانبه ويترك بعضها، فيأخذ بشيء ويترك أشياء، مشوها بذلك وحدة الإسلام وكماله، وهذا هو الذي ينزّل عليه قول: «خذوا الإسلام جملة أو دعوه جملة» اهـ. (القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي ص139).









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 17-10-2023, 12:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فقه الدعوة

فـقه الدعوة (19)


د.وليد خالد الربيع




البشارة قبل الإنذار


تحدثنا فيما سبق عن بعض القواعد الفقهية المتعلقة بفقه الدعوة إلى الله وأشرنا إلى أن الدعاة إلى الله في حاجة ماسة لفهم هذه القواعد حتى يتمكنوا من أداء مهمتهم على أكمل وجه
القاعدة الثامنة: البشارة قبل الإنذار
من وظائف الرسل وأتباعهم البشارة والإنذار، قال عز وجل: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين}، وقال تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، وقال تعالى عن خاتم النبيين وسيد المرسلين: {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا}، وقال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا}.
والقرآن كذلك بشير ونذير كما قال تعالى: {كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون}.
فالبشارة: كل خبر صادق تتغير به بشرة الوجه، فمعنى يبشرك: أي يسرك ويفرحك، بشرت الرجل: إذا أفرحته، وذلك أن بشرة الإنسان تنبسط عند السرور ومنه قولهم: إن فلانا يلقاني ببشر أي بوجه منبسط .
والبشارة تستعمل في الخير مطلقا وفي الشر مقيدة كقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم}، واستعمالها في الخير أغلب .
وجاءت البشارة في القرآن في مواضع كثيرة لأصناف عديدة منها:
بشارة أرباب الإنابة بالهداية في قوله: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله}.
بشارة المخبتين بالحفظ والرعاية {وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}.
بشارة المستقيمين بثبات الولاية: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة}.
بشارة المتقين بالفوز والحماية: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة}.
بشارة المؤمنين بالعطاء الوفير والجزاء الكريم: {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم}.
بشارة الخائفين بالمغفرة والوقاية: {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم}.
بشارة المجاهدين بالرضا والعناية: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم}.
بشارة الطائعين بالجنة والسعادة: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار}.
بشارة الصابرين بالصلوات والرحمة في قوله {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون . أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
بشارة العاصين بالرحمة في قوله {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} .(بصائر ذوي التمييز 2/200)
والإنذار: هو الإعلام بما يحذر، والإخبار الذي فيه تخويف والتهديد، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم: والمؤمنين بالإنذار فقال تعالى: {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب} وقال: {وأنذر عشيرتك الأقربين}، وقال: {يأيها المدثر قم فأنذر} وقال عن المؤمنين:{ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}.
فالإنذار فيه اتباع لرسول الله [، ودليل على شفقة المنذر وخوفه على من ينذره، كما أنه إبراء للذمة، وإقامة الحجة على الكافرين والمنافقين والعاصين وقطع أعذارهم .
فظاهر مما تقدم أن البشارة والإنذار من وسائل الدعوة وأساليبها، إلا أن بعض الدعاة قد يغفل عن جانب مهم في هذه الأساليب، وهو تقديم البشارة على الإنذار وتغليب جانب الترغيب على جانب الترهيب، واستعمال كل منهما في موضعه الصحيح دون إفراط ولا تفريط، فهذا من الفقه الدعوي الدقيق، والفهم العملي العميق، وهذا ما أشار إليه رسول الله [ عندما قال لأبي موسى ومعاذ لما بعثهما إلى اليمن: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا «متفق عليه، قال النووي: «في هذا الحديث الأمر بالتبشير بفضل الله وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف، وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير، وفيه تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ ومن تاب من المعاصي، كلهم يتلطف بهم، ويدرجون في أنواع الطاعة قليلا قليلا، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج، فمتى يسّر على الداخل في الطاعة أو المريد للدخول فيها سهلت عليه، وكانت عاقبته غالبا التزايد، ومتى عسّرت عليه أوشك ألا لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك ألا يدوم أو لا يستحليها»أهـ.
وقال ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث:«الإنذار لا ينفى مطلقا بخلاف التنفير، فكأنه قيل: إن أنذرتم فليكن بغير تنفير كقوله تعالى: {فقولا له قولا لينا} اهـ
يقول الشيخ عبد الرحمن حبنكة: «على حامل رسالة الداعي إلى الله أن يقدم في أكثر أحواله البشارة على الإنذار، وأن يضرب على أوتار الطمع بثواب الله الجزيل قبل أن يضرب على أوتار الخوف من عذاب الله في نفوسهم، حتى إذا يئس من استجابة المدعوين، وظهر له من عنادهم وكفرهم ركز على توجيه الإنذارات والتحذيرات لهم من عذاب الله ونقمته في العاجلة والآجلة، على مقدار ما يرى من عنادهم وإصرارهم على الكفر .
ومهما وجد لديهم ولو قليلا من لين الجانب نحو قبول الحق، فتح لهم أبواب الطمع بغفران الله وعفوه، وقدم لهم البشريات المرتبطة بإيمانهم واتباعهم الحق .
من استقراء معاني النصوص القرآنية التي جاء فيها استعمال مادتي التبشير والإنذار تبين لي - والكلام للشيخ حبنكة - ما يلي:
الأول: جاء في القرآن المجيد (ثلاثة عشر نصا) قدم فيها التبشير على الإنذار، مثل: «بشيرا ونذيرا، مبشرا ونذيرا، مبشرين ومنذرين».
الثاني: جاء في نصين فقط تقديم الإنذار على البشارة؛ إذ روعي فيهما حال أكثر المخاطبين الذين يغلب فيهم الكفرة .
الثالث: جاء في (31 نصا ) ذكر الإنذار دون البشارة، لأن المتحدث عنهم كفرة ماتوا على الكفر، أو عاندوا وأصروا على الكفر وصار إيمانهم ميئوسا منه؛ فلا يلائمهم من الرسالة إلا النذارة.
من هذا الاستقراء مع سبر المعاني يتبين لنا أن من الحكمة في الدعوة إلى الله والنصح والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العمل بهذه القاعدة» اهـ (فقه الدعوة إلى الله 1/396)


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 17-10-2023, 12:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فقه الدعوة

فـقه الدعوة (20)


د.وليد خالد الربيع


الارتباط بالحق وعدم التعلق بالأشخاص


تحدثنا في الحلقة السابقة عن البشارة قبل الإنذار، وقلنا إن البشارة والإنذار من وسائل الدعوة وأساليبها إلا أن بعض الدعاة قد يغفل عن جانب مهم في هذه الأساليب، وهو تقديم البشارة على الإنذار وتغليب جانب الترغيب على جانب الترهيبٍ.
القاعدة التاسعة: الارتباط بالحق وعدم التعلق بالأشخاص:
في طريق الدعوة إلى الله قد يتأثر الداعي بعالم جليل أو داعية كبير، فيعجب به وبأفكاره وأسلوبه، فيحمله ذلك على قبول كل ما يصدر منه بغير استدلال أو نظر فيما وافق الصواب أو خالفه، وقد يحمله الإعجاب على تعليل أخطائه أو التسويغ لانحرافاته، وهذا مزلق خطير قد يقع فيه بعض الدعاة من حيث لا يشعرون.
فالله عز وجل قد أمر المؤمنين الصادقين بالتمسك بهذا الدين الحق والمنهج الواضح في كل أمورهم لتحصل لهم السعادة في الدنيا والآخرة ، وحذرهم من الإعراض عنه أو التمسك بغيره، فقال عز وجل: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} قال المفسرون: هو القرآن العظيم والسنة معه لأنها تبينه وتفسره، وقوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء}، أي تتولونهم وتتبعون أهواءهم وتتركون لأجلها الحق.
وقد تضافرت النصوص الشرعية والآثار عن الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين على الحث بالتمسك بالوحي والهدى الذي جاء به النبي[ وعدم معارضة ذلك بأقوال الرجال ولو علا قدرهم وارتفعت رتبتهم، فضلا عن تقديم أقوالهم وآرائهم على كلام الله ورسوله، وبينوا أن واجب كل مكلف اتباع الحق إذا ظهر له دون توقف في قبوله على قول أحد من الناس، ودلت تلك النصوص على أن سبيل النجاة إنما يكون بالارتباط بالحق دون الأشخاص، فبالحق تقاس الأقوال والآراء ويستبين صوابها من باطلها.
أما التعلق بالأشخاص واتباعهم في أقوالهم وآرائهم واجتهاداتهم وقبولها على الإطلاق دون نظر في مدى موافقتها للحق الذي جاء به النبي [ من ربه فهو مسلك خطير مخالف لهدي سلف الأمة كما قال الشاطبي: «إن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا (ضلال)، وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره ، ثم نقول: إن هذا مذهب أصحاب رسول الله [، ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم علم ذلك علما يقينيا» (الاعتصام 2/355).
وقال أيضا: «ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل» (الاعتصام 2/347)، وقال: «اتباع الرجال شأن أهل الضلال» (الاعتصام 2/350).
فمن النصوص الشرعية الواردة في لزوم التمسك بالحق ونبذ التعلق بالأشخاص:
قال الله عز وجل: {يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم}، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: «هذا متضمن للأدب مع الله تعالى ومع رسول الله[ والتعظيم والاحترام له وإكرامه، فأمر الله عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالله ورسوله من امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين خلف أوامر الله متبعين لسنة رسول الله[ في جميع أمورهم وألا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، فلا يقولوا حتى يقول ولا يأمروا حتى يأمر.
وفي هذا نهي شديد عن تقديم قول غير الرسول[ على قوله؛ فإنه متى استبانت سنة رسول الله [ وجب اتباعها وتقديمها على غيرها كائنا من كان».
وقال عز وجل: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}.
قال الشيخ ابن سعدي: «وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه فقد رئيس ولو عظم، وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة إذا فقد أحدهم قام به غيره، وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله والجهاد عنه بحسب الإمكان، ولا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس؛ فبهذا الحال يستتب لهم أمرهم وتستقيم أمورهم».
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتى النبي[ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه النبي[ - أي قرئ عليه – فغضب وقال: «أمتهوّكون فيها يابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى [ كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» أخرجه أحمد وابن أبي عاصم وقال الألباني :حسن.
والتهوك: هو التحير، وقيل: الوقوع في الشيء بقلة مبالاة.
وعن أنس قال: قال رسول الله [: «لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بما يختم له؛ فإن العامل يعمل زمانا من دهره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملا سيئا، وإن العبد ليعمل زمانا من دهره بعمل لو مات دخل النار ثم يتحول فيعمل عملا صالحا، فإذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته فوفقه لعمل صالح» أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» 1/174 وقال الألباني : إسناده صحيح.
وعنه عن النبي [ أنه قال: «لا عليكم ألا تعجبوا بأحد حتى تعلموا بما يختم له» أخرجه ابن أبي عاصم وقال الألباني: إسناده صحيح.
وعنه قال: ذكر لي أن رسول الله[ قال: «يخرج فيكم أو يكون فيكم قوم يتعبدون ويتدينون حتى يعجبوكم وتعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» أخرجه ابن أبي عاصم وقال الألباني: إسناده صحيح.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: «ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون « أخرجه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «إن فيما أخشى عليكم زلة عالم وجدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق وعلى القرآن منار كأعلام الطريق». المرجع السابق .
وعن ابن عباس: «ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله[ منه فيترك قوله ذلك، ثم تمضي الأتباع».
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:»إياكم والاستنان بالرجال؛ فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء» «الجامع» لابن عبد البر.
وقال ابن مسعود: «ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن، وإن كفر كفر؛ فإنه لا أسوة في البشر».
وقال أيضا: «من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد[ كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم».
وقال عبد الله بن المبارك: «رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار صالحة كانت منه الهفوة والزلة لا يُقتدى به في هفوته وزلته».
وقال الإمام مالك: «ليس كلما قال رجل قولا - وإن كان له فضل - يتبع عليه؛ لقول الله عز وجل: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}.
وقال مجاهد: «ليس من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي[«.
وقال ابن خزيمة: «ليس لأحد قول مع رسول الله[ إذا صح الخبر عنه».
فحريّ بالداعي إلى الله تعالى أن يأخذ نفسه بهذا الأصل البيّن والمسلك الواضح، وهو الاعتصام بالسنة وما كان عليه سلف الأمة من تعظيم النصوص وعدم معارضتها بقول أحد من الناس، فضلا عن تقديم قوله عليها، وألا يغتر بصلاح أحد ولا يعجب بعمله لأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة؛ فإن خير من يقتدى به النبي [ وصحابته الكرام الذين زكاهم الله عز وجل في كتابه وتوفي النبي [ وهو عنهم راضٍ والتابعون لهم بإحسان، الذين قال [ فيهم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» متفق عليه.
فمع التقدير والإفادة من العلماء والدعاة والمفكرين إلا أن الداعي يستصحب دائما هذا الأصل، وهو أنه لا عصمة إلا للقرآن والسنة والإجماع، وكل إنسان عدا رسول الله[ - مهما سما في العلم والإخلاص - فهو عرضة للخطأ ويؤخذ من قوله ويرد عليه، مع الاحترام لشخصه والتقدير لاجتهاده، فهذا الأصل يحفظ الداعي من التحزب والتعصب والتفرق، ويجعله دائما -بإذن الله- مخلصا في دعوته لله عز وجل.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 17-10-2023, 12:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فقه الدعوة

فـقه الدعوة (22)


د.وليد خالد الربيع

- التزام العدل والإنصاف مع الموافق والمخالف


تحدثنا في الحلقة السابقة عن قاعدة الدعوة للاجتماع على الحق ونبذ الفرقة والاختلاف، وقلنا: إن من مقاصد الدعوة إلى الله تعالى الحرص على ائتلاف القلوب واجتماع الكلمة ووحدة الصف والبعد عن التفرق والاختلاف، والتحذير من ذلك ومنع أسباب التنازع والشتات، ونتكلم في هذه الحلقة عن قاعدة التزام العدل والإنصاف مع الموافق والمخالف.
القاعدة الحادية عشرة: التزام العدل والإنصاف مع الموافق والمخالف:
من أصول الإسلام الأصيلة وقواعده المستقرة «مبدأ العدل»، كما قال عز وجل: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}، قال الشيخ ابن سعدي: «فالعدل الذي أمر الله به يشمل العدل في حقه وفي حق عباده، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفورة، بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقه وحق عباده، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى وولاية القضاء ونواب الخليفة ونواب القاضي»اهـ.
والشريعة الإسلامية كلها عدل وقسط ورحمة في أصولها وفروعها وفي كل مجالاتها العامة والخاصة، وتأمر المكلفين بالتزام العدل في كل أمورهم ومع كل الناس الموافق منهم والمخالف، وتحثهم على الإنصاف من غير محاباة للقريب ولا مجافاة للبعيد البغيض.
قال الله عز وجل: {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}.
وقال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}.
قال الشيخ ابن سعدي: «ومن أعظم أنواع القسط، القسط في المقالات والقائلين؛ فلا يحكم لأحد القولين أو أحد المتنازعين لانتسابه أو ميله لأحدهما، بل يجعل وجهته العدل بينهما، ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان حتى على الأحباب بل على النفس.. والقيام بالقسط من أعظم الأمور وأدلها على دين القائم به وورعه».اهـ
وقال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}، قال الشيخ: «أي بمراعاة الصدق فيمن تحبون ومن تكرهون والإنصاف وعدم كتمان ما يلزم بيانه، فإن الميل على من تكره بالكلام فيه أو في مقالته من الظلم المحرم، بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه وأن يبين ما فيها من الحق والباطل ويعتبر قربها من الحق وبعدها منه».
وعن أنس -رضي الله عنه - أن النبي[ قال: «ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وثلاث مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه». قال المناوي: فلا يحمله الغضب على الجور ولا الرضا على الوقوع في المحظور لأجل رضا المخلوق».
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله[: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا».
وقال عمار بن ياسر -رضي الله عنه-: «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار» رواه البخاري تعليقا. قال الشراح: «إنما كان من جمع الثلاثة مستكملا للإيمان، لأن مداره عليها لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقا واجبا عليه إلا أداه، ولم يترك شيئا مما نهاه عنه إلا اجتنبه وهذا يجمع أركان الإيمان.
وبعث رسول الله[ عبد الله بن رواحة إلى خيبر ليخرص لهم الثمار، فأرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله تطعموني السحت ولقد جئت من عند أحب الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على ألا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
قال ابن عبد البر: وفيه أن المؤمن إذا أبغض في الله لا يحمله البغض على ظلم من أبغضه.
ولم تمنع الغيرة أزواج النبي[ أن يشهدن بالفضل لبعضهن، قالت عائشة عن زينب بنت جحش: «وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله[، ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق في الحديث وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشدّ ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدّق به وتقرّب به إلى الله تعالى، ما عدا سَوْرة من حدّة كانت فيها تسرع منها الفيئة». أخرجه مسلم.
ولما سأل رسول الله[ زينب عن عائشة في قصة الإفك فقال: «يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟» فقالت: «يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا»، قالت عائشة: «وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي[ فعصمها الله بالورع». أخرجه الشيخان.
وقال محمد بن سيرين: «ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيت وتكتم خيره».
وقال سفيان الثوري: «عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ، ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات والتعصب والشهوات دون أن يعي بفضائلهم، حُرم التوفيق ودخل في الغيبة وحاد عن الطريق».
وسئل علي بن المديني عن أبيه فقال: اسألوا غيري، فقالوا: سألناك، فأطرق برأسه ثم قال: «هذا هو الدين، أبي ضعيف».
وقال الشافعي: «ما كلمت أحدا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان وتكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما كلمت أحدا قط إلا ولم أبال بينّ الله الحق على لساني أو لسانه».
وقال أيضا: «والله ما ناظرت أحدا إلا على النصيحة، أو قال: فأحببت أن يخطئ».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني؛ فإنه وإن تعدى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبيّة جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل وأجعله مؤتما بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكما فيما اختلفوا فيه..» إلى أن قال: «وذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه».
ويقول ابن القيم: «أما أهل العدل والإنصاف فهم هؤلاء الذين أعطوا كل ذي حق حقه، ولم يحكموا للصحيح بحكم السقيم ولا للسقيم بحكم الصحيح، ولكن قبلوا ما يقبل وردوا ما يرد».
ويقول شيخ الإسلام: «فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله وقصده طاعة الله فيما أمره به، وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب رئاسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطا، ثم إذا ردّ عليه ذلك وأوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار وأتاه الشيطان؛ فكان مبدأ عمله لله ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه وربما اعتدى على ذلك المؤذي.
وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة؛ فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه، ويرضون على من وافقهم وإن كان جاهلا شيئ القصد ليس له علم ولا حسن قصد؛ فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء نفوسهم لا على دين الله ورسوله.
وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمّه؛ فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب بهواه، ويكون مع ذلك له شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وهو الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظّم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض من الدنيا، لم يكن لله ولم يكن مجاهدا في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره، معه حق وباطل، وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة؟!
وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وكفّر بعضهم بعضا وفسّق بعضهم بعضا «اهـ (منهاج السنة 5/254).
فعلى الداعي إلى الله عز وجل والمتمسك بهدي النبي[ أن يحرص على التزام العدل والإنصاف في كل أموره؛ فهما كما قال المناوي: العدل والإنصاف توأمان، نتيجتهما علو الهمة وبراءة الذمة باكتساب الفضائل وتجنب الرذائل.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 17-10-2023, 12:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فقه الدعوة

فـقه الدعوة (23)


د.وليد خالد الربيع



-الدعوة بالأفعال قبل الأقوال


تحدثنا في الحلقة السابقة عن قاعدة التزام العدل والإنصاف مع الموافق والمخالف، وذكرنا أن الشريعة الإسلامية كلها عدل ورحمة وتأمر المكلفين بالتزام العدل في كل أمورهم ومع كل الناس، وقلنا: يجب على الداعية أن يحرص على التزام العدل والإنصاف في أموره جميعها.
القاعدة الثانية عشر: الدعوة بالأفعال قبل الأقوال:
من المعلوم أن النفس البشرية مجبولة على التقليد والمحاكاة والتأسي، ويتأثر الناس بالمواقف العملية أكثر من المواعظ القولية والخطب الكلامية ، وإن كان للبيان بالقول أثر لا ينكر في نشر العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فمن المهم أن يكون الداعية قدوة حسنة وأسوة صالحة، يمتثل بنفسه قبل أن يدعو غيره، ويدعو بأفعاله قبل أقواله، يتحلى بالأخلاق الفاضلة ويتخلى عن الصفات السيئة، كما قال الحسن البصري: «عظ الناس بفعلك، ولا تعظهم بقولك»، وقال: «الواعظ من وعظ الناس بعمله لا بقوله»، وكان إذا أراد أن يأمر بشيء بدأ بنفسه ففعله، وإذا أراد أن ينهى عن شيء انتهى عنه.
ولهذا جعل الله عز وجل أفضل البشر وهم الأنبياء والمرسلون أسوة للناس، فقصّ أخبارهم وحكى أحوالهم ثم أمر بالاقتداء بهم فقال عز وجل: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (الأنعام: 90)، وقال عز وجل: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} (الأحقاف: 35).
ونصب سبحانه وتعالى سيد المرسلين وإمام المتقين قدوة صالحة ومثالا يحتذى في كل شؤون الدين وأعمال الإسلام، فقال عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (الأحزاب: 21)، قال ابن كثير: «هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله [ في أقواله وأفعاله وأحواله».
وقد كان [ القدوة في كل المجالات، ففي مجال العبادة كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وكان يكثر الصيام، ويديم العبادة، فقد سألت عائشة - رضي الله عنها- أكان رسول الله [ يخص شيئا من الأيام بمزيد من العبادة؟ قالت: «لا، كان عمله ديمة - مستمرا- وأيكم يطيق ما كان رسول الله يطيق؟».
وفي مجال الدعوة كاد [ أن يهلك نفسه في سبيل هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النار حتى قال له ربه: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}.
وفي مجال الزهد كان [ ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه الشريف، ويجوع حتى تمر عليه الأيام العديدة كما قالت عائشة - رضي الله عنها-: «ما شبع رسول الله من خبز بر ثلاثة أيام تباعا منذ قدم المدينة حتى مضى لسبيله»، وما كان ذلك عن فقر وضيق يد وإنما كان تقللا من الدنيا كما قال [: «ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت الشجرة ثم راح وتركها».
أما في الشجاعة فكان [ أجود الناس لاسيما في رمضان، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكان [ في كل أبواب الخير في القمة، قال ابن القيم: «هو الأسوة والقدوة، وكان يعود المريض ويشهد الجنازة ويجيب الدعوة ويمشي مع الأرملة والمسكين والضعيف في حوائجهم ، وكان أحسن الناس معاملة» اهـ.
وكان [ يسلك الجانب العملي في التعليم فكان يصلي أمام الصحابة ويقول لهم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وطاف حول الكعبة ووقف على عرفة على دابته وقال لهم: «خذوا عني مناسككم».
وكان أصحاب رسول الله [ القدوة من بعدهم كما قال ابن مسعود: «من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله [؛ فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا، اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم».
وقد جاءت النصوص الشرعية تحذر من مخالفة الأقوال للأفعال، فقال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 2-3).
قال القرطبي: «قَالَ الْمُثَنَّى: ثَلَاث آيَات مَنَعَتْنِي أَنْ أَقُصّ عَلَى النَّاس: {أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسكُمْ} (الْبَقَرَة: 44), {وَمَا أُرِيد أَنْ أُخَالِفكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (هُود: 88), {يَأَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}. وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ مِنْ حَدِيث مَالِك بْن دِينَار عَنْ ثُمَامَة أَنَّ أَنَس بْن مَالِك قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه [: «أَتَيْت لَيْلَة أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْم تُقْرَض شِفَاههمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَار كُلَّمَا قُرِضَتْ وَفَتْ قُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاء أُمَّتك الَّذِينَ يَقُولُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ وَيَقْرأُونَ كِتَاب اللَّه وَلَا يَعْمَلُونَ». وَعَنْ بَعْض السَّلَف أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: حَدِّثْنَا; فَسَكَتَ. ثُمَّ قِيلَ لَهُ: حَدِّثْنَا، فَقَالَ: أَتَرَوْنَنِي أَنْ أَقُول مَا لَا أَفْعَل فَأَسْتَعْجِل مَقْت اللَّه! اهـ.
وفي الحديث: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: يا فلان ما شأنك؟ ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: «كنت آمرك بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وآتيه».
وكان عمر - رضي الله عنه- يجمع أهل بيته فيقول لهم: «أما بعد، فإني سأدعو الناس إلى كذا وكذا وأنهاهم عن كذا وكذا، وإني أقسم بالله العظيم لا أجد واحدا منكم أنه فعل ما نهيت الناس عنه أو ترك ما أمرت الناس به إلا نكلت به نكالا شديدا».
ويبين ابن القيم الأثر الخطير للقدوة السيئة فيقول: «علماء السوء جلسوا على باب الجنة، يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويصدون عنها بأفعالهم، كلما قالت ألسنتهم: هلموا إليها، قالت أعمالهم: لا تصدقوهم ، فلو كان خيرا لكانوا أول عامل به» اهـ.
فالقدوة الحسنة من أعظم أساليب الدعوة إلى الله وأكثرها تأثيرا، وإنما دخل كثير من الناس في دين الله عز وجل؛ لما رأوا من حسن أخلاق المسلمين وطيب معاملتهم وصدق أحوالهم وتطابق ظاهرهم مع باطنهم وتوافق أفعالهم مع أقوالهم، فحري بالداعية إلى الله تعالى أن يتحلى بهذا الخلق القويم، ويستعمل هذا الأسلوب الحكيم في نشر دين الله وهداية الناس إلى منهج الإسلام، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 178.86 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 173.25 كيلو بايت... تم توفير 5.61 كيلو بايت...بمعدل (3.14%)]