رمضانيات يوميا فى رمضان إن شاء الله - الصفحة 18 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الدين والحياة الدكتور أحمد النقيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 11 )           »          فبهداهم اقتده الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 49 )           »          يسن لمن شتم قوله: إني صائم وتأخير سحور وتعجيل فطر على رطب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 22 )           »          رمضان مدرسة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          أمور قد تخفى على بعض الناس في الصيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          دروس رمضانية السيد مراد سلامة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 15 - عددالزوار : 340 )           »          جدول لآحلى الأكلات والوصفات على سفرتك يوميا فى رمضان . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 17 - عددالزوار : 730 )           »          منيو إفطار 18رمضان.. طريقة عمل كبسة اللحم وسلطة الدقوس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          5 ألوان لخزائن المطبخ عفا عليها الزمان.. بلاش منها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          5 طرق لتنظيف الأرضيات الرخامية بشكل صحيح.. عشان تلمع من تانى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > ملتقى اخبار الشفاء والحدث والموضوعات المميزة > رمضانيات

رمضانيات ملف خاص بشهر رمضان المبارك / كيف نستعد / احكام / مسابقات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #171  
قديم 17-01-2022, 11:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,544
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ



خواطر رمضانية
محمد إبراهيم الحمد
(2)

وكلوا واشربوا ولا تسرفوا


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فإن للصيام آداباً كثيرةً، ومن تلك الآداب: أن يقتصدَ الصائمُ في طعامه وشرابه.

ومما يلحظ على بعض الصائمين -بل على أكثرهم- أنهم يجعلون شهرَ رمضانَ موسماً سنوياً للموائد الزاخرة بألوان الطعام، فتراهم يُسرفون في ذلك أيّما إسرافٍ، وتراهم يتهافتون إلى الأسواق؛ لشراء ما لذّ وطاب من الأطعمة التي لا عهدَ لهم بأكثرها في غير رمضان.

والنتيجة من وراء ذلك:
إضاعةُ المال، وإرهاقُ الأبدان في كثرة الطعام، وثِقَلُ النفوس عن أداء العبادات، وإهدارُ الأوقات الطويلة بالتسوّق، وإعداد الكميّات الهائلة من الأطعمة التي يكون مصيرُها في الغالب صناديقَ الزِّبل.

..



.
إن هذا الاستعدادَ المتناهيَ الذي يقع فيه أكثر المسلمين لرمضان بالتفنن والاستكثار من المطاعم والمشارب - مخالفٌ لأمر الله، منافٍ لحكمة الصوم، مناقضٌ لحفظ الصحة، معاكسٌ لقواعد الاقتصاد.

ولو كان هؤلاء متأدبين بآداب الدين لاقتصروا على المعتاد المعروف من طعامهم وشرابهم، ولأنفقوا الزائد في طرق البر والإحسان التي تناسب رمضان، من إطعام الفقراء واليتامى والأيامى، و تفطير الصّوام المعوَزِين، ونحو ذلك.
والغالب أن يكون لكل غنيٍّ مسرفٍ من هذا النوع جارٌ أو جيران من الفقراء والمساكين، وهم أحق الناس ببر الجار الغني، وإن لم يكن لهؤلاء الأغنياء جيرانٌ من هذا النوع فإنه يحسن صرفها في وجوه الخير.
..


.
ولو فعل الأغنياء المسرفون ذلك لأضافوا إلى قربة الصوم قربةً عظيمة عند الله، ألا وهي الإحسان إلى المعدَمين، وللقيام بهذه الخصلة من الخير مزيّة في المجتمع؛ لأنها تقرب القلوبَ في هذا الشهر المبارك، وتشعر الصائمين كلَّهم بأنهم في شهر إحسان، ورحمة وأخوَّة.

ثم إن الإنسان لو طاوع نفسَه في تعاطي الشهوات، و التهام ما حلا من المطاعم وما مرّ، وما برد منها وما حرّ، وطاوع نفسه باستيفاء اللذة إلى أقصى حد - لكانت عاقبةُ أمره شقاءً ووبالاً، ونقصاً في صحته واختلالاً، ولكانت الحميةُ في بعض الأوقات واجباً مما يأمر به الطبيب الناصح؛ تخفيفاً على الأجهزة البدنية، وادخاراً لبعض القوة إلى الكِبَر وإبقاءً على اعتدال المزاج، وتدبيراً منظماً للصحة.
وإن ذلك لهو الحكمة البارزة في الصوم، فكيف يُقْلَبُ الأمر رأساً على عقب؟! ويجعلَ من شهر الصوم ميداناً للتوسع في الأكل والشرب؟!.
..



.
قال الله - عز وجل - : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ).
قال بعض العلماء : " جمع الله بهذه الآيةِ الطبَّ كلَّه ".
قال النبي " : " ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلثٌ لطعامه وثلث لشرابه، وثلث لنفسه " أخرجه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
أيها الصوام: لا يخفى على عاقل ما للتوسع في المآكل والمشارب من عواقب وخيمة على دين المرء ودنياه زيادةً على ما مضى؛ فهو مما يورث البلادة، ويعوق عن التفكير الصحيح، وهو مدعاةٌ للكسل،وموجبٌ لقسوة القلب، وهو سببٌ لمرض البدن، وتحريك نوازع الشر، وتسلُّط الشيطان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " وقد ثبت عن النبي " أنه قال: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " رواه البخاري.
ولاريب أن الدَّمَ يتولد من الطعام والشراب؛ ولهذا إذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشيطان، ولهذا قيل: " فضيقوا مجاريَه بالجوع " .
وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي تُفْتَحُ بها أبواب الجنة، وإلى ترك المنكرات التي تفتح بها أبواب النار، وصفِّدت الشياطين، فضعفت قوتُهم وعملُهم بتصفيدهم، فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره ولم يقل: " إنهم قتلوا " ، ولا ماتوا، بل قال: "صفِّدوا" والمصفَّد من الشياطين قد يؤذي، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه، فمن كان صومه كاملاً دفع الشيطان دفعاً لا يدفعه الصوم الناقص، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب، والحكم ثابت على وَفْقِهِ " ا-هـ.

قال لقمان - عليه السلام - لابنه: " يا بني! إذا امتلأت المعدة؛ نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقَعَدت الأعضاءُ عن العبادة "
وقال عمر - رضي الله عنه -: " من كثر أكله لم يجد لذكر الله لذة ".
وقال علي - رضي الله عنه -: " إن كنت بَطِناً؛ فعد نفسك زَمِناً ".
وقال بعض الحكماء: " أقلل طعاماً، تحمدْ مناماً ".
وقال بعض الشعراء:
وكم من لقمةٍ منعت أخاها *** بـلذةٍ سـاعةٍ أكلاتِ دهرِ

وكم من طالبٍ يسعى لأمر *** وفيه هلاكُه لو كان يدري


وقال ابن القيم - رحمه الله -: " وأما فضول الطعام: فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر؛ فإنه يحرك الجوارحَ إلى المعاصي، ويثقلُها عن الطاعات، وحسبك بهذين شراً، فكم من معصية جَلَبها الشبعُ، وفضولُ الطعام، وكم من طاعة حال دونها؛ فمن وقي شرَّ بطنه؛ فقد وقي شراً عظيماً، والشيطان أعظم ما يتحكَّم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام " .
إلى أن قال - رحمه الله -: " ولو لم يكن من الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله - عز جل - وإذا غفل القلب عن الذكر ساعةً واحدةً جَثَم عليه الشيطانُ ، ووعده ، ومنَّاه ، وشهَّاه وهام به في كل وادٍ؛ فإن النفس إذا شبعت تحركت، وجالت وطافت على أبواب الشهوات، وإذا جاعت سكنت - وخشعت وذلت " ا-هـ.

بل إن الذين يتوسعون في المآكل لا يجدون لها لذةً كما يجدُها المقتصدون.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " فالذين يقتصدون في المآكل نعيمُهم بها أكثرُ من المسرفين فيها؛ فإن أولئك إذا أدمنوها، وألِفُوها لا يبقى لها عندهم كبير لذة مع أنهم قد لا يصبرون عنها، وتكثر أمراضهم بسببها " ا-هـ.
..


.
أيها الصائمون الكرام:
إذا كان الأمر كذلك؛ فما أحرانا أن نجعل من شهرنا الكريم فرصةً لتوطين نفوسنا على الاعتدال في المآكل والمشارب؛ فالنفوسُ طُلَعةٌ لا ترضى بالقليل من اللذات؛ فإذا جاهدناها؛ انقدعت عن شهواتها، وكفَّت عن الاسترسال مع لذاتها ورغباتها، وإن من أحكم ما قالته العرب قولَ أبي ذؤيب الهذلي:

والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها *** وإذا تُـرَدُّ إلى قليلٍ تقنع

أما إذا استرسلنا معها، وأعطيناها كل ما تريد؛ فإنها ستقودنا إلى الغواية، وتنزع بنا إلى شر غاية.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #172  
قديم 22-01-2022, 04:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,544
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ





خواطر رمضانية
محمد إبراهيم الحمد
(3)

رمضان شهر الفرح

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فإن الفرح مطلب مُلحٌّ، وغاية مبتغاة، وهدفٌ منشود، والناس كل الناس يسعى إلى فرح قلبه، وزوال همِّهِ وغمِّهِ، وتفرق أحزانه وآلامه.
ولكنْ قَلَّ من يصل إلى الفرح الحقيقي، ويحصل على السعادة العظمى، وينجو من الآلام والأتراح.
والحديث ههنا سيدور حول معنى الفرح، وأسبابه، وموانعه.

وبعد ذلك نصل إلى معنى الفرح في الصيام، وكيفيةِ كونِ هذا الشهر الكريم شهرَ فرحٍ.
أيها الصائم الكريم!
الفرحُ لذةٌ تقع في القلب بإدراك المحبوب، ونيل المشتهى، فيتولّدُ من إدراكه حالةٌ تسمى الفرح والسرور.

كما أن الحَزَنَ والغَمَّ مِنْ فقد المحبوب، فإذا فقده تولد مِنْ فقده حالةٌ تسمى الحزَن والغم.

.



.
والفرحُ أعلى نعيمِ القلب ولذتِه وبهجتِه، فالفرحُ والسرورُ نعيمهُ، والهمُّ والغمُّ عذابُه.

والفرحُ بالشيء فوق الرضا به، فإن الرضا طمأنينُةٌ وسكونٌ وانشراحٌ.

والفرح لذةٌ وبهجةٌ وسرورٌ، فكل فَرِحٍ راضٍ، وليس كلُّ راضٍ فَرِحاً.

ولهذا كان الفرحُ ضدَّ الحزن، والرضا ضدَّ السخط، والحزنُ يؤلم صاحبَه، والسُّخط لا يؤلمه إلا إذا كان مع العجز عن الانتقام.
.


.
ولقد جاء الفرح في القرآن على نوعين:

مطلقٍ ومقيدٍ،

فالمطلقُ جاء في الذم كقوله - تعالى -: ( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ )، وقوله إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ).

والفرح المقيَّدُ نوعان - أيضاً - مقيَّدٌ بالدنيايُنْسِي فضل الله ومنته، وهو مذموم كقوله - تعالى - حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ).

والثاني فرحٌ مقيَّدٌ بفضل الله ورحمته:وهو نوعان - أيضاً - فضلٌ ورحمةٌ بالسبب، وفضل بالمسبِّب،

فالأول كقوله - تعالى-: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )،

والثاني كقوله - تعالى -: ( فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ).
.




.
ولقد ذكر الله - سبحانه - الأمر بالفرح بفضله ورحمته عقيب قوله:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

ولا شيءَ أحقُّ أن يَفْرح به العبدُ من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظةَ وشفاءَ الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة: الهدى الذي يتضمَّن ثَلْجَ الصدور باليقين، وطمأنينةَ القلبِ به، وسكونَ النفسِ إليه، وحياةَ الروح به.

والرحمةُ التي تجلب لها كلَّ خيرٍ ولذةٍ، وتدفع عنها كلَّ شرٍّ وألمٍ.

والموعظةُ التي هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.

وشفاءُ الصدورِ المتضمنُ لعافيتها من داء الجهل، والظلمة، والغي، والسفه؛ تلك الأدواءُ التي هي أشدُّ ألماً لها من أدواء البدن.
.


.
فالموعظةُ، والشفاءُ، والهدى، والرحمةُ هي الفرح الحقيقي، وهي أَجَلُّ ما يفرح به؛ إذ هو خيرٌ مما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها؛ فهذا هو الذي ينبغي أن يُفْرح به، ومَنْ فرح به، فقد فرح بأجلّ مفروحٍ به، لا ما يجمع أهل الدنيا فيها؛ فإنه ليس بموضع للفرح؛ لأنه عرضةٌ للآفات، وشيكُ الزوال، وخيمُ العاقبة، وهو طيفُ خيالٍ زار الصبَّ في المنام، ثم انقضى المنامُ، ووَلَّى الطيف، وأعقب مزاره الهجران.

فالدنيا، لا تتخلص أفراحُها من أتراحِها وأحزانِها البتة، بل ما من فرحة إلا ومعها تَرْحةٌ سابقةٌ، أو مقارنة، أو لاحقة.

ولا تتجرد الفرحةُ، بل لا بد من تَرْحة تقارنها؛ ولكن قد تقوى الفرحةُ على الحزن، فينغمر حكمُه وألمهُ مع وجودها وبالعكس.

فالفرحُ بالله وبرسوله، وبالإيمان، وبالقرآن، وبالسنة، وبالعلم يُعَدُّ مِنْ أعلى مقامات العارفين، وأرفع منازل السائرين.
وضدُّ هذا الفرحِ الحزنُ، الذي أعظم أسبابه الجهلُ، وأعظمُه الجهل بالله، وبأمره، ونهيه؛ فالعلمُ يوجب نوراً، وأنساً، وضدُّه يوجب ظلمةً، ويوقع في وحشة.
.




.
ومن أسباب الحزن تَفَرُّقُ الهمِّ عن الله؛ فذلك مادةُ حزنه، كما أن جَمْعِيَّة القلب على الله مادةُ فرحِهِ ونعيمِه؛ ففي القلب شَعَثٌ لا يَلُمُّه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنسُ به في خلوته، وفيه حَزَنٌ لا يذهبه إلا السرورُ بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقٌ لا يسكِّنه إلا الاجتماعُ عليه والفرارُ منه إليه، وفيه نيرانُ حسراتٍ لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلبٌ شديدٌ لا يقف دونَ أن يكون هو وحده مطلوبَهُ، وفيه فاقةٌ لا يسدُّها إلا محبتُه والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تُسدَّ تلك الفاقةُ منه أبداً.
ولقد قرَّر العلماء العالمون بالله وبأمره هذا المعنى، وعلى رأس أولئك العلامةُ ابن القيم - رحمه الله -.
.


.


أيها الصائمون!
هذا هو الفرح الحق، وهذا هو فرح أهل الإيمان، لا فرحُ أهلِ الأشر والبطر والطغيان.

هذا وإن للصائمين من هذا الفرح نصيباً غيرَ منقوص؛ كيف وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: " وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه ".
.


.
قال ابن رجب - رحمه الله -:
" أما فرحة الصائم عند فطره؛ فإن النفوسَ مجبولةٌ على الميل إلى ما يلائمها من مطعم، ومشرب، ومنكح؛ فإذا امتنعت من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أبيح لها في وقت آخر، فرحت بإباحة ما منعت منه، خصوصاً عند اشتداد الحاجة إليه؛ فإن النفوسَ تفرح بذلك طبعاً؛ فإن كان ذلك محبوباً لله كان محبوباً شرعاً.

والصائمُ عند فطره كذلك، فكما أن الله - تعالى - حَرَّم على الصائم في نهار الصيام تناولَ هذه الشهواتِ، فقد أذن له فيها في ليل الصيام، بل أحب منه المبادرةَ إلى تناولها من أول الليل وآخره؛ فأحب عباد الله إليه أعجلهم فطراً، والله وملائكته يصلون على المتسحرين؛ فالصائمُ ترك شهواتِه في النهار تقرباً إلى الله، وطاعةً له، وبادر إليها بالليل تقرباً إلى الله، وطاعة له؛ فما تركها إلا بأمر ربه، ولا عاد إليها إلا بأمر ربه؛ فهو مطيعٌ في الحالين؛ ولهذا نُهِيَ عن الوصال؛ فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقرباً إلى مولاه، وأكل وشرب وحمد الله فإنه ترجى له المغفرةُ، أو بلوغُ الرضوان بذلك ".

إلى أن قال - رحمه الله -: " ثم إنه ربما استجيب دعاؤه عند فطره، وعند ابن ماجة: " إن للصائم عند فطره دعوةً لا تُرد ".

وإن نوى بأكله وشربه تقوية بدنه على القيام والصيام كان مثاباً على ذلك، كما أنه إن نوى بنومه في الليل والنهار التقوّيَ على العمل كان نومُه عبادة.

.



.
ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه، لم يتوقَّف في معنى فرحه عند فطره؛ فإن فطره على الوجه المشار إليه من فضل الله ورحمته، فيدخل في قوله - تعالى -: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ).

وقال ابن رجب - رحمه الله -:

" وأما فرحه عند لقاء ربه، ففيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدَّخراً ؛ فيجده أحوجَ ما كان إليه كما قال - تعالى - : ( وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ).

وقال - تعالى -: ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ).

وقال - تعالى -: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه ) ا.هـ.

اللهم أفرح قلوبنا بالإيمان، والقرآن، والسنة، والعلم، والصيام..

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #173  
قديم 22-01-2022, 05:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,544
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (36)
بخاري أحمد عبده



بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].



هو البَرُّ الرحيم:

﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64].



والبَرِيَّة قاطبة لن تحصي ثناء عليه، وهو كما أثنى على نفسه، ولو ذهبت البريَّة تنظم كَلِم الحمد؛ تعبيرًا عن العرفان، وانفعالاً بالنِّعم التي لا تُحصى، والبِرِّ الذي فاض فغمر الدارين، ووَسِعَ الحياتين ما وُجِدَت كلماتٌ أرحب، وأوجز وأغنَى من كلمتين اثنتين ردَّدَتْهما - في الجنَّة - ألسنةُ المؤمنين، وباركَهما ربُّ العالَمين؛ ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28].



فأقدار العباد المنفَعِلين بفضلِ الله الغامر، وقفَتْ خاشعة عند وُسْعِها، مكتفيةً بهاتين الكلمتين اللتين جاءتا صدًى لإحساس المتَّقين العميق بما اكتنفَهم من نعيم الإيجاب والسَّلب، والتكريم بالمحسوس وبالمعنويِّ، على النَّحو الذي عرض في آيات "الطُّور"، حتَّى كان القارئُ يلمس المشاهد "جمع مَشْهَد"، ويجد المذاقَ، ويشمُّ العبير: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 17 - 28].



كلمتان - كما ترى - ذَواتا سعةٍ، وفيهما كناية؛ لأنَّهما مشمولَتان برِضا المولى، ولأنَّه سبحانه أثنى بهما على نفسه، وارتضى بهما شُكرانًا، برغم أنَّ نعمه لا تحصى، وأنَّ يده سبحانه سحَّاء الليل والنهار.



وهو - تبارك وتعالى - إذا دخل رمضانُ كان أجزلَ مثوبةً، وأبسطَ يدًا، وأوسعَ رحمةً؛ مصداقَ ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل رمضان فُتحت أبواب السماء))، وفي رواية: ((فتحت أبواب الرحمة))؛ متفق عليه.



أو مصداقَ ما رواه الترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان أوَّل ليلة من شهر رمضان صُفِّدت - بالبناء للمجهول - الشياطينُ، ومرَدَةُ الجنِّ، وغلقت أبواب النار، فلم يُفْتَح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرِّ أقصر، ولله عُتَقاء من النار، وذلك كل ليلة)).



كذلك الملأ الأعلى، تلهَجُ - مستجيبةً لفطرتها، منفَعِلة بما حولها - بالدُّعاء لأهل الأرض، وتستغفر للأنام - كلِّ الأنام - مصداق ما ذَكَر القرآنُ: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشورى: 4 - 5].



والملأ الأعلى في شهر الصيام يُرَوْن - بالبناء للمجهول - أكثرَ اهتمامًا، ورأفةً واحتفاءً بالذَّاكرين الصائمين؛ مصداقَ ما روى البيهقي في "الشُّعَب" عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان ليلة القدر نزل جبريلُ في كبكبةٍ من الملائكة، يصلُّون على كلِّ عبد قائم، أو قاعد يذكر الله)).



كذلك رسولنا - صلى الله عليه وسلم - كما رُوِي عن ابن عباس - رضي الله عنه - في الصِّحاح -: "أجود الناس بالخير، وكان أجودَ ما يكون في رمضان".



وكذلك المسلمون؛ تميَّزوا في هذا الشهر بمزيدِ عبادة، وطُهْر، وبِرٍّ، وأُمِروا (بالبناء للمجهول) - وفق ما رُوِي في الصِّحاح عن ابن عباس - بزكاة الفِطْر على العبد والحُرِّ، والذَّكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة؛ متفق عليه.



وأخرج أبو داود بإسناد جيِّد عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - قال: "فرَض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفطر؛ طهرة للصِّيام من الَّلغو، والرفث، وطُعْمة للمساكين".



إذًا فلا عجب إذا أطَلْنا المقام مع نفحات آيات الصِّيام، ولا غرابة إذا ازدحمَت المعاني، وتواردت سخيَّة سحَّاء، محيطة بمجتمع المسلمين، قانصةً من الشَّوارد، نافذةً إلى الأغوار، فيَّاضة بالخيرات كشهر الصيام.



سلفيُّون وأيضًا عصريون:

ولقد أفضنا - وسنُفيض - في الحديث عن فاعليَّة الظُّروف، وقابليَّة الإنسان.



وهذا الإنسان الذي ندعوه إلى أن يتفاعل مع روح هذا الدِّين، وأن يُنسِّق بفطنة بين الدعوة وبين الظُّروف المتجدِّدة المتغيِّرة غير باغٍ، ولا عادٍ، هذا الإنسان - كما تبيَّن - عجيبٌ، تتأثَّرُ "كيميائيَّتُه" بالأعراض التي تنتابُه، أو تعتريه.



يتغيَّر إذا امتلأ، ويتغيَّر إذا علم، وإذا ارتفع أو أمسى وجيهًا، وإذا حقَّق شهرة، أو نَعِمَ بصحة، أو ابتُلِي بقوة... إلخ.



ويتأثر كذلك بكلِّ ضُمورٍ يطرأ عليه؛ في عِلمه، أو جسمه، أو جاهه، أو ماله، أو... أو... والتفاعل الأوَّل خطير؛ لأنَّه إيجابي، وخطورته تَكْمُن في أنه قد يورث عُتوًّا وتطاولاً، أو انحرافًا وتسيبًا، أو ترَفًا وإخلادًا إلى الأرض.



أما الثاني فسلبيٌّ قد يحدُّ من القدرة، وقد يرجعه القَهْقَرى، وينحدر به، ويُسلمُه إلى الفتور والخمول، والعجز شيئًا فشيئًا.



كذلك الأجيال؛ تتقلَّب بين الزيادة والنقص، وتتأثَّر بعوامل التَّعرية.




والإسلام - بحكم عالَمِيَّتِه، وشموله، وخلودِه - ينشد الحياة المهذَّبة، ويحدو نحو الأساليب التي تكفل التفاعل المبارك بين الدِّين وقيمه وهداياته - من جهةٍ - وبين قُوَى الواقع، ومشكلات الحياة بكلِّ عُقَدِها، ومنحنياتها - من جهةٍ أخرى.



فالحقُّ أن الإسلام قديرٌ على أن يفتح الآفاقَ، ويستوعِبَ مشاكل الدُّنيا؛ لأنَّه - برغم مثاليَّتِه - رَحْب، مَرِن، بعيدٌ مدى الرُّؤية.



والداعية الحَصِيف يضع نُصْبَ ناظرَيْه كلَّ هذه الحقائق، ويصل الماضي بالحاضر على هُدًى وبصيرة كلَّما قاد وخطط، أو جال ونفَّذ، أو كرَّ وفر - وإلا اضطربَتْ رؤيته، واختلَّت خُطاه - لا يلهث لهاثَ الكلاب وراء أي جديد، نابذًا كلَّ قديم؛ حتى لا يفقد الأصالة، ويضحي بالمقومات، ولا يرتبط ارتباطًا أعمى بكل قديم، فيفقد الانسجام، وتلفظه الحياة وراءها ظِهْريًّا.



وهذا الفقه الواعي للحياة في كنف الدِّين - أو قُلْ إن شئتَ: للدين في كنف الحياة - هو السِّياسة الشرعيَّة، أو السلفيَّة الحقة؛ لأنَّ السلف كانوا على وعيٍ عالٍ بحياتهم، وبمشاكل عصرهم، وكانوا يطلُّون - من خلال الإسلام - على عالمهم، وما يدور فيه.



ربَّانيون لا رهبانيُّون:

بل ذلك الفقه هو الربَّانية التي أُغْرِينا بها في قول الله سبحانه: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79].



1- والربَّانيُّ قد يكون منسوبًا إلى الربِّ، فالكلمة - حينئذ - توحي بالثَّراء، والعطاء، والاقتداء بالربِّ سبحانه في التيسير، وسداد التدبير[1]، كما تنمُّ عن الحكمةِ والالتزام.



2- وهي تَحْمل في تضاعيفها معانِيَ "التربية"، القائمة على التدرُّج، والتوصُّل إلى المقصود بصغار العلم قبل كباره؛ الأمر الذي يتطلَّب فقهًا، وسياسة[2].



3- وربما كانت الكلمة - كما أُثِرَ عن المبرِّد - جمعًا واحِدُها "ربَّان" من قولهم: رب يربُّ، فهو ربان، إذا دبَّر وأصلح، وبُنِيَ على علمٍ؛ فهي - إذًا - توحي بالإصلاح، وتدبير أمور الناس، الأمر الذي يتطلَّب بصَرًا وحذقًا، ومعرفةً بمشاكل التطبيق، مع العلم بالحلال والحرام، والوقوف على أنباء الأمم، وما كان، وما يكون[3].



4- وجِمَاعُ كلِّ هذا ما قيل من أنَّ الربانيَّ هو الذي يجمع إلى العِلمِ البصرَ بالسياسة، ويربط الحاضرَ بالماضي، مستعينًا بالفَراسة، وحُسْن القياس، والألمعيَّة.



5 - ومراعاة لأبعاد الكلمة قالوا: الربانيُّون فوق الأحبار[4]؛ لأنَّ الحَبْر قد لا يتجاوز العِلم إلى البصر بالسِّياسة، وحُسْن تناول الأمور، ومعرفة المداخل والمخارج.



هذا، ومن النماذج العليا للربانيَّة: حَبْرُ الأمة "عبدالله بن عباس" - رضي الله عنهما - فقد تميَّز بفقه النظريَّة، وسداد التأويل، واستيعاب مشاكل التطبيق، قال "محمد بن الحنفيَّة" يوم مات ابن عباس: "اليوم مات ربانيُّ هذه الأمة".



كلُّ تلك المعاني تستشعرها إذا استرجعْتَ الآيات الكريمة التي وردت فيها الكلمة.

أ- وردَتْ في قول الله: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79].



والآية تَنْزيه للأنبياء من الإسفاف والميل، والإنصاتِ لصوت الطِّين، ونزعاته الدُّنيا التي تغرُّ، وتُغْري بالتعالي، وتَنْزيهٌ كذلك للدُّعاة "ورثة الأنبياء" عن أن يَحِيدوا عن دروب العلم، والحكمة، وأخلاق الأنبياء، وعلَّة ذلك التَّنْزيه أنَّهم أُوتوا أسباب السَّداد والنَّزاهة، وهُدوا إلى الصِّراط: "الكتاب والحكم والنبوَّة"، والأنبياء - بِما عندهم من ذخائر - على قمَّة شامخةٍ، فلا يتهافَتون ولا يسفون، بل يحصرون على إيجاد الصفِّ الثاني، والعروج بهم إلى قمَّة تالية تُتيح لهم وضوح الرُّؤية، والحركة الرَّشيدة السديدة على ضوء الكتاب والحكمة وتُراث النبوَّة، والصفُّ الثاني الذي يسلك درب الأنبياء هم الربانيُّون المُتَحلون بكل معاني هذه الكلمة، إن كلمة ﴿ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾ [آل عمران: 79] تنهض بالدُّعاة كي يرتفعوا إلى الذروة التي تليق بورثة الأنبياء.



ب- ووردَتْ في قول الله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ [المائدة: 44].



والآية رتَّبت العاملين في ساحات الدعوة ترتيبًا تنازليًّا؛ "النبيُّون، الربَّانيون، الأحبار"، وذكرت - كذلك - من أسباب السَّكينة، والطُّمأنينة، والسداد: الحُكم والهُدى والنُّور، وذكرت تمكُّنهم من الكتاب تمكُّنًا يتيح لهم وضوح الرُّؤية وصدق الشهادة، والحفاظَ على الوديعة، والاعتزاز بالمولى اعتزازًا تهون معه المخاطر، وتتضاءل معه الأقدار؛ أقدار المتربصين، ﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [المائدة: 44]، إنَّ الرَّبانيين في الآية هم الصف الثاني.



جـ- ووردَتْ في قول الله: ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [المائدة: 63].



والآية جاءت بين آيات تُعالِج أمراضًا عقديَّة، وأخلاقية اجتماعيَّة، تفشَّت في مجتمعات أهل الكتاب في غيبة الأنبياء، وتستحِثُّ الصفَّ الثاني "الربَّانيين"، والصف الثالث "الأحبار"؛ كي ينهضوا ضدَّ هذه المنكرات، ويحملوا رسالة الأنبياء.



ومواجهة الأمراض الاجتماعيَّة تتطلب احتكاكًا بالمجتمع، وعِلمًا بالنفسيَّات، وإحاطةً بالدَّوافع والظواهر... إلخ، تتطلب خبرة، وبصَرًا، وسياسة، تتطلب ربانيَّة، إن الربَّاني[5] يضيف إلى العلم اليقظة والفطنةَ، والحكمة والحركة، والبصيرةَ التي تملأ أنحاء المجتمع.



والرهبانيَّة؟

الكلمة مأخوذة من "رهب" بمعني خاف، فهي نسبةٌ إلى الرَّهْبان "بفتح الراء المشدَّدة"، وهو الخائف، والخوف إذا طوى في تلافيفه، والتقَمَ بأضراسه وفكَّيْه، وتمكن حتَّى أمسى سِمَة ونسبة، طحن، وأذاب.



والرهبانيَّة - في أحسن معانيها - لا تَعْدو المبالغة في الرِّياضة، والإفراطَ في العبادة والانقطاع - جسميًّا أو فكريًّا - عن الناس؛ إيثارًا للعزلة، وعجزًا عن مُجاراة الحياة، فهي إذًا هروبٌ من الساحة، وانطواءٌ في مفاهيم معتمة ضيِّقة، وإيثارٌ للشلل على الحركة، وحملٌ للنَّفس - على غير سجيَّتِها - على العزوف عن زينة الله التي أخرج لعباده بالامتناع عن المَطْعَم، والمشرَب، والنِّكاح، وبالتعلُّق بالصوامع، والكهوف، وأكنان الجبال، ولا نزاع في أنَّ هذا تزمُّتٌ يأباه الإسلام، وتقوقعٌ يُفْضي إلى الجمود، والتبتُّل المودي[6].



وبقدر ما تجد في الربَّانية من انتشارٍ وتحليق، واتِّزان، وسعَةِ أفُق، تجد في الرَّهبانية انطواءً وإسفافًا، وإخلالاً، وضيقَ أفق، هي إذًا عقديَّة، وفكرية، وحضارية، والإسلام يرفض كلَّ أنواع الرِّدة، ويرى أن الارتداد الحضاريَّ أو السُّلوكي كمن يمشي القهقرى، والصحابة كانوا يتحرَّجون من أن يأتوا عملاً فيه شبهة الارتداد الحضاري؛ مصداقَ ما روي عن سلمة بن الأكوع أنَّه دخل على الحجَّاج، فقال له: "يا ابن الأكوع، ارتددتَ على عقبيك؟ تعرَّبْتَ؟ قال: لا، ولكن رسول الله أذِنَ لي في البدو".



وكانون يرون مَن رجع بعد هجرته أعرابيًّا مرتدًّا؛ أخْذًا من حديث رسول الله: ((لعن الله آكلَ الرِّبا، وموكِلَه، ومن رجع بعد هجرته أعرابيًّا)).



ورهبانيَّة ابتدعوها:

والرهبانيَّة - وإنْ صاحبَها حسْنُ النيَّة - بِدْعة مذمومةٌ، وهروبٌ من معمَّة الحياة المكتوبة على الناس؛ ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2].



والآية الكريمة: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ [الحديد: 27] تقصُّ قصَّة مؤمنين جَبُنوا عن مواجهة الشرِّ، ومقاومة الطُّغيان فآثروا السَّلامة واعتزلوا، نقل الضحَّاك من رواية عن ابن عبَّاس أنَّ ملوكًا من بعد عيسى فجروا وأجرموا، وعصفوا بالآمرين بالمعروف النَّاهين عن المنكر، وداخلَت الرَّهبةُ بقيَّةً باقية من الملتزمين ففرُّوا، واتَّخذوا الصوامع، وتخلَّوْا عن الدعوة، وجَمدوا في قواقعهم، فلم ينتشروا، وكانوا يحسبون أنَّهم يُحْسنون صنعًا، ويبتغون بما ابتدعوا رضوانَ الله، وهؤلاء بصنيعهم هذا ارتكبوا عدَّة جرائر: جريرة التخلِّي عن الموقع والرِّسالة، وجريرة الابتِداع، وجريرة المظهريَّة، والتنازع على الرِّياسة، وليتهم حين عزموا أظهروا رجولةً وصلابة! بل سرعان ما أخَلُّوا وأهمَلوا.



روى أحمد عن أبي أمامة الباهليِّ - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سريَّة من سراياه، فقال: مرَّ رجل بغارٍ فيه شيءٌ من ماء، فحدَّث نفسه بأن يُقِيم في ذلك الغار، فيقتات بما فيه من ماءٍ، ويصيب مِمَّا حوله من البقل، ويتخلَّى عن الُّدنيا، قال: لو أنِّي أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرتُ له ذلك فإن أَذِن لي فعلتُ، وإن لم يأذن لم أفعل، فأتاه فذكر له الأمر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنِّي لم أُبْعَث باليهوديَّة، ولا بالنصرانية، ولكني بُعِثت بالحنيفيَّة السَّمحة، والذي نفس محمَّد بيده، لغدوة أو روحة في سبيل الله خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ولَمُقام أحدكم في الصفِّ الأول خيرٌ من صلاته ستِّين سنَة))، إنَّ المسلم لا ينبغي له أن يتبتَّل بِجِسمه، كيف والإسلام في مَسِيس الحاجة إلى قُوَاه وطاقاته، وغدوه ورواحه؟



ولا يَنبغي له أن يتبتَّل بفِكْره؛ لأنَّ مُعترك الحياة هو الرَّافد الذي يمدُّ، ويَرْوي الأفكار، واحتكاكُ الأفكار بالأفكار يجلوها، ويغذوها، ويكسبها المَضاء، والتفتُّحَ على آيات الآفاق، وصفحاتِ الكون التي تنشر يجدِّد الدم، ويكفل حُسْنَ التجاوب مع عالَمٍ يتطوَّر كل يوم.



والرهبانيَّة لا يوجد سندٌ لها في الكُتُب المقدَّسة الأولى، ولا في سُنة الأنبياء - عليهم السَّلام - بل إنَّ الناظر في سيرة المسيح وأصحابه ليجد ما يضادُّ هذه النَّزعة التبتليَّة، وهذه الرُّوح الانعزاليَّة لم تظهر في الكنائس إلاَّ في أواخر الجيل الثاني، وأوائل الجيل الثالث؛ منتقلةً إليها من الهنود الوثنيِّين[7].



ولا يهمُّني - هنا - أن أتعرَّض لتفاصيل الرهبانيَّة والاعتزال، والتقشُّف، والتبتُّل.. إلخ؛ فكلُّنا يعرف أنه لا رهبانيَّة في الإسلام، وأن قدر المسلمين الجهاد الجهير؛ مصداقَ ما أخرجه أبو داود عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((... والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخِرُ أمَّتِي الدجَّال، لا يبطله جَوْرُ جائرٍ، ولا عَدْلُ عادل…))[8].



ولكن الذي يهمُّني - هنا - أن أحذِّر من تبتُّلٍ جديد، طوى بعض الناس في أَسْمالٍ بالية، فبدَوْا جامدين مشتَمِلين بأسمالهم اشتمالَ الصمَّاء، وفقدوا القدرةَ على المُواءمة بين أسمالِهم وبين مطالب الحياة العصريَّة.



وهذه الرهبانية الجديدة تختلف عن رهبانيَّة الصوامع، وتبتُّلِ الكهنة، ودعاوى المتصوِّفين، ولكنها تتَّفِق معها في النتائج؛ فكلاهما إغماضٌ عن الواقع، وإيغالٌ في الغفلة، وعجْزٌ عن التكيُّف بالأجواء، والانسجامِ مع موكب الحياة الحافل بكلِّ بديع.





[1] نقل هذا عن ابن عبَّاس.




[2] روي معنى هذا عن عبدالله بن مسعود.




[3] روي هذا عن أبي عُبَيدة.




[4] روي هذا عن مجاهد، وحسَّنه النحَّاس.




[5] إذا اتَّفقنا على أن الكلمة نسبة إلى الربِّ، فأصلها: ربِّيٌّ، وزِيدَت الألف والنُّون؛ للمبالغة، كما يقال: روحاني وعلماني، وماداني، ولحياني لعظيم اللِّحية.




[6] التبتُّل: الانقِطاع.




[7] انظر "محاسن التأويل" ص 5698 من الجزء السادس عشر؛ ففيه تناوُلٌ شافٍ لقضية الرهبانيَّة؛ نقلاً عن مؤلفات علماء المسيحيين المتأخرين.




[8] في سنده «يزيد بن أبي نشبة» وهو مجهولٌ، لكن معنى الحديث صحيح.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #174  
قديم 22-01-2022, 05:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,544
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

رمضان والقرآن[1]





عبدالله بن عبده نعمان العواضي






الحمد لله الذي جعل القرآن مناراً للمهتدين، وضياءً للسالكين، ومعجزة باقية إلى يوم الدين؛ لا يعتريه النقص والتبديل، ولا التحريف والتغيير، محفوظ بحفظ الله الذي أنزله ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].






لا يَخلق مع كثرة ترداده، ولا ينضب مَعينُه باستقاء ورّاده، ولا تفنى جواهره بازدياد غائصيه؛ فما زال البحرَ الذي لا ساحل له، والغيثَ الذي لا تحصى قطراته، والنور الذي لا أمَد لهداياته، فمن سأل عن الشفاء فيه وجده، ومن استرشد به أرشده، ومن تدبره وعقلَه فما نسي حلاوته، ولا هجر تلاوته، ﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 16].





وما ذاك إلا لأنه تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على سيد المرسلين؛ ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].





والصلاة والسلام على النعمة المسداة، والقدوة المهداة الذي بعثه الله تعالى على فترة من الرسل، وانقطاع من السبل، فكان فجراً ظهر في الآفاق بعد الليل الدامس، ليكسو البسيطة بضيائه وسنائه، ويتلو على الكون الحائر هدى ربه عز وجل؛ ليتضح للوجود الصراط المستقيم ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9]، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته الأكرمين، وزوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين، وسلم تسليماً.





أما بعد:


أيها الصائمون الأخيار، حديثنا في هذا اليوم المبارك عن خير الحديث، وكلامنا فيه عن خير الكلام الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.





﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23].





إنه الكلام الذي أعيا الفصحاء، وأعجز البلغاء، وأخرس الخطباء، ولم يكن بنظم شاعر، ولا سجع كاهن، ولا بقول إنس ولا جن.





له حلاوة وعليه طلاوة، أسفله مغدق وأعلاه مثمر. إنه القرآن الكريم، كلام رب العالمين، وحبل الله المتين، و النور المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، والشفاء الناجع، والعصمة لمن تمسك به، والنجاة لمن اتبعه.





أيها المسلمون، إن هذا القرآن حياة الأرواح من موت الكفر والعصيان والقسوة، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]. وهو نافع لقارئه في الدنيا والآخرة، شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار.






قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة) [2].





فيه الأجر والثواب، والتجارة التي لا تبور، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ [فاطر: 29].





قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)[3].





عباد الله، إن حفاظ القرآن العاملين به هم أصفياء الله من خلقه، وخيرته من عباده، ومن أعلى الناس درجات في الجنة يوم القيامة.





قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إن لله أهلين من خلقه)، قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قالأهل القرآن هم أهل الله وخاصته)[4].





وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آية تقرأها)[5].





أحبتي الفضلاء، نحن في شهر رمضان في روضة فواحة بالفضائل والعبادات المتنوعة، وعلى رأس هذه العبادات: قراءة القرآن الكريم.





فللقرآن ارتباط وثيق بالصيام عموماً وبرمضان خصوصاً، فكلاهما يصفي الروح ويجلو القلب والعقل، والقيام بهما معاً له شأن من الحلاوة والراحة، وقد جمع رسول الله بين الصيام والقرآن فقال الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان)[6].





وفي رمضان أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].





وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1].





أيها الصائمون، ما أحسن قراءة القرآن للصائم في رمضان، وما ألذ حروفه في اللسان، وألطف وقعها على القلوب. حينما يفرغ البطن ويصفو العقل من كدر المأكولات والشهوات يكون للقرآن طعم آخر؛ فالطعام والشراب والشهوة تكسب القلب قسوة، والنفس غفلة، والجوارح ثقلاً وكسلا، فيأتي الصيام ليقدح الفكر، ويذهب الغفلة، وينقل القارئ الصائم إلى التفهم والتدبر، والمعرفة ورقة القلب. وهذه الحال التي يمكن للقارئ الاستفادة منها.





فالعين ترى في تلك الصفحات المشرقة نوراً يهديها إلى الطريق المستقيم، والأذن تسمع أحلى كلام يصل الأسماع، والقلب يتنعم بتلك المعاني المؤثرة التي تزرع فيه حب هذا الكتاب وحب منزله العظيم، فيعظم رجاؤه لما عند الله من الخير، ويشتد خوفه أن يصل إليه غضبه أو تناله عقوبته، والعقل يتدبر ذلك الكلام البديع الذي لا يدرك من أسراره إلا الشيء اليسير، وكلما زادت قراءته وتأمله انكشفت له حقائق ودقائق لم تكن مرت عليه من قبل.






أيها الأحبة، إن القرآن الكريم لا ينفع قارئه إلا إذا تدبره، والصوم زمان خصب لتحقيق هذه الغاية الحميدة، ومن الخطأ الكبير أن يكون الهم الأكبر للقارئ في رمضان وفي غير رمضان الوصول إلى نهاية السورة أو نهاية المصحف بإسراع القراءة وأكل الحروف والكلمات.





قال بعض السلف: "لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ"إذا زلزلت" " والقارعة"، لا أزيد عليهما أتردد فيهما، وأتفكر أحب إلي من أهذ القرآن ليلتي كلها".





والقرآن إنما أُنزل للتدبر الذي يعقبه العمل به، قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].





معشر المسلمين، تدبر القرآن يفتح لصاحبه آفاقاً رحبة من الخير العاجل والآجل، فهو يُريه طرق الخير وأهلها، وسبل الشر وأصحابها، فيدعوه إلى الطريق الأولى وصحبة سالكيها، ويحذره من الطريق الأخرى والهالكين فيها.





ويريه حكمة المشرع المعبود سبحانه في نهيه وأمره، وعظمتَه في خلقه، وفضلَه في إكرامه، وعدله في عقابه، وقوته في مؤاخذته، ورحمته بعباده، وسعةَ علمه في مخلوقاته، وجبروته في قهر أعدائه، ونصرته لأنبيائه وأوليائه، وعزته ومنعته أن يناله أذى المؤذين، وقدرتَه أن يفوته أحد المخلوقين، وسمعه الواسع في إدراك نطق الناطقين، وبصره النافذ العظيم أن تخفى عليه حركة أو سكون من خلقه أجمعين.





أيها الصائمون، ما ملَّ القرآنَ من تدبر ألفاظه ومعانيه، وما نسي لذة القرآن من تدبر أحكامه وحكمه، وما هجر القرآن من ذاق طعمه وخالطت بشاشته قلبه.





إن القرآن - متدبَراً - ما تلاه لسان إلا طاب وحلا، ولا وصل أثره قلباً إلا صلح وصفا، ولا حل صدراً إلا انبسط وانشرح، ولا تأمل فيه عقل راجح إلا اتسع وانفسح.





وهل هملت الدموع الصادقة عند تلاوته أو سماعه إلا بتدبره، وخشعت القلوب بعد أن كانت قاسية كالحجارة إلا بتعقله، وهل عرفت علوم الشريعة إلا بالنظر فيه، والتفكر فيما يحويه. ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].





ألا إن الصديقين والشهداء والصالحين أوصلهم تدبر القرآن إلى ما هم فيه من المراتب العالية والمناقب السامية، وإن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين.





لقد كان لأهل الإيمان مع تدبر القرآن حديث مؤثر، خشعت له قلوبهم، ودمعت منه عيونهم، وسارعت به إلى الأعمال الصالحة جوارحهم.





عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي القرآن). قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: (إني أشتهي أن أسمعه من غيرى ). فقرأت النساء حتى إذا بلغت: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]،رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل[7].





فما الذي أبكاه عليه الصلاة والسلام إلا التدبر والتفكر فيما سمع.





وكان خليفته أبوبكر الصديق رضي الله عنه رجلاً أسيفاً أي: حزيناً لا يفتتح الصلاة قارئاً إلا هملت عيناه.





وعمر الفاروق رضي الله عنه في ليلة من ليالي عدله وإحساسه بالمسؤولية الملقاة على عاتقه يخرج ليتفقد رعيته، إذ مر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائماً يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ الطور حتى بلغ: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7، 8]، فقال عمر: قسم ورب الكعبة، فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث ملياً ثم رجع إلى بيته فمكث شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه، وما مرضه إلا تأثره بما سمع.





وهذا الصحابي الكريم أبو طلحة رضي الله عنه يقرأ سورة التوبة، فلما بلغ قوله تعالى: ﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 41]. قال: أرى ربنا يستنفرنا شيوخاً وشباباً، جهزوني يا بَني. فركب البحر غازياً في سبيل الله فمات فلم يجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام فنزلوا فدفنوه، ولم يكن قد تغير جسده خلال تلك الأيام التسعة فوق السفينة رضي الله عنه ورحمه.





وجبير بن مطعم صحابي آخر رضي الله عنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور حتى بلغ قوله تعالى: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ [الطور: 35]. قال: فكاد قلبي يطير، فكان ذلك من أسباب إسلامه، نعم لقد تأثر حتى طار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.





والفضيل بن عياض رحمه الله كان قبل توبته من لصوص الليل فبينا هو في ليلة من تلك الليالي المظلمة أشرقت في قلبه آية فبددت تلك الظلمات، إذ رقي تلك الليلة بيتاً فسمع قارئاً يقرأ: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].





فقال: بلى، والله قد آن، فنزل وتاب وصار يضرب بعبادته وصلاحه المثل بعد ذلك، رحمه الله.





أمة الإسلام، هذا كتاب ربنا الذي أنزله إلينا لنقرأه ونتدبره ونعمل بما فيه، فلو تدبرت الأمة هذا الكتاب ورجعت إليه لعزت وسادت، وتخلصت من مشكلاتها وأزماتها، ولكن ما حال أمتنا مع القرآن؟!





أين القراءة، وأين التدبر، وأين التحاكم، وأين العمل بهذا الدستور العظيم.





هناك هجر كبير وإعراض كثير، فهلا من رجعة وأوبة إلى هذا الكتاب تلاوة وتأملاً وتحكيماً واسترشاداً.





فالقرآنَ القرآن يا أمة القرآن، والتدبر التدبر؛ فإنه نعم المحبب والمقرب للأنس بهذا الكتاب الكريم.





بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.





الخطبة الثانية


الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المرسل بالقرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.





أما بعد:


أيها الصائمون، إن قراءة القرآن الكريم عبادة عظيمة، لها آداب حسنة يستحب للقارئ أن يتمسك بها لكي يكمل أجره ويتم انتفاعه. ومن تلك الآداب:


إخلاص النية في القراءة والتمهلُ فيها؛ طلباً لرضوان الله لا طلباً لحظوظ الدنيا. عن جابر بن عبد الله قال: دخل النبي صلى الله عليه و سلم المسجد فإذا فيه قوم يقرؤون القرآن قال: (اقرؤوا القرآن، وابتغوا به الله عز و جل، من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القِدْح يتعجلونه ولا يتأجلونه)[8]. والمعنى: اقرأوا القرآن لله تعالى قبل أن يأتي قوم يسرعون في تلاوته كإسراع السهم إذا خرج من القوس، يطلبون بقراءته عرض الدنيا وأعراضها ولا يريدون به جزاء الآخرة.





ومن الآداب: الخشوع عند قراءته، وذلك أثر التدبر، وقد يؤدي ذلك إلى البكاء، وهذه صفة أهل العلم العاملين به، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: 107 - 109].





ومن الآداب: الطهارة من الحدثين، واستعمال السواك، واستقبال القبلة، وتحسين الصوت ما أمكن من غير تكلف.





ومن الآداب لحفاظ القرآن وقارئيه: أن تظهر آثار القرآن على أخلاق القارئ وسلوكه وأعماله.





قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعهما مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر)[9].





قال ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون". وقال الفضيل بن عياض: "حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو؛ تعظيما لحق القرآن".





فالقرآن القرآن - يا عباد الله - حافظوا على تلاوته وتدبره، وتحكيمه والعمل به، وأكثروا من قراءته هذه الأيام؛ فإنها أيام فاضلة وموسم خير فسيح، فأروا الله من أنفسكم مع كتابه خيرا؛ فالسعيد من كان القرآن حجة له لا عليه.





رزقني الله وإياكم الإقبال على كتابه، والعمل بما فيه، وجعلَه حجة لنا لا علينا.









[1] ألقيت في مسجد ابن تيمية يوم 12/ رمضان/ 1429هـ، 12/9/2008م.




[2] رواه مسلم.




[3] رواه الترمذي، وهو صحيح.




[4] رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وهو صحح.




[5] رواه أحمد وأبو داود وابن حبان، وهو صحيح.




[6] رواه أحمد والطبراني والحاكم، وه حسن صحيح.




[7] متفق عليه.




[8] رواه أحمد وأبو داود والبيهقي، وهو صحيح.




[9] متفق عليه.









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #175  
قديم 22-01-2022, 05:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,544
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (37)
بخاري أحمد عبده


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].

خذوا زينتكم:
تتجاذَبُني - وأنا أستهِلُّ المقالَ - نوازِعُ شتَّى؛ كل نازعة منها تشدُّ لمعنى جديد.

والنازعة التي استأثرَتْ بمبادرتي تتمثَّل في أنَّ مخلصين كرامًا تناولوا معي أمر النفحات، فكان مما أخذوا:
1- فخامة الكلم، ورصانة السَّبك، وأناقة الأسلوب، ورأَوْا أن مِثْل هذه الصياغة قد يَجْعل النَّفحات عزيزةَ المنال، منيعةَ المُسْتَقى.

وعذري:
أ) أنَّ قَدْر الوعاء "التعبير" من قدر الموعيِّ "نفحات القرآن"، والقرآن هو ما علمنا إعجازًا، وبلاغة، وقوَّة سَبْك، وعمقًا وجلالَ معنى، ونحن إنما نُدَندن، ونرفرف حول أضواء القرآن، ونحو عطاياه، ومن الأدب - ونحن في محراب القرآن نتعبَّد - أن نترفَّع خاشعين، عن التَّهافُت، والتفاهة، والإسفاف.

ونفحات القرآن أجَلُّ من أن نعرضها في أَسْمالٍ بالية، مطروحة في الطريق.

ثم لمن تُدخر - بالبناء للمجهول - الكلمةُ المختارة، والسَّبْك الرصين إذا ضُنَّ - بالبناء للمجهول - بهما على القرآن العظيم؟

إن الكلمة العابرة - ولا سيَّما في هذا المجال - من الباقيات الصَّالحات، فهي تحمل أصولاً ثرَّة، وتهدي إلى قواعد طيِّبة، وتنشر من أريج القرآن، فالواجب أن ترسل رصينة، فَضْفاضة بلا افتعال، واحتمال بقائها طويلاً قائم، وربما عبَرَت الأزمنة، والأمكنة، وانتقلت إلى أقدارٍ مُتفاوتة، فما أحسن أن تكون مرنةً في دقَّة، موحِيَة، حَمَّالةَ أوجُه!

ب) وقُرَّاؤنا - أكرمهم الله - علِموا من القرآن، ثم علموا من السُّنة، وقرؤوا، وسمعوا، فمِن المخجل أن نقدِّم لأمثالهم الغثَّ الهزيل، ومثل هذه الصِّياغة حريٌّ أن يؤنس الماضين على الطَّريق، وأن يشجع المتردِّدين، ويحفِّز المقيمين على ما أَلِفوا.

ج) ونحن - في كلِّ مُحاولاتنا - نتعبَّد في محراب القرآن على أضواء السُّنة، فما أحرانا أن نأخذ زينتنا في معبدنا المهيب!

د) ولقد أُثِر عن الإمام البخاريِّ أنه قال: "ما وضعتُ في كتاب الصحيح حديثًا إلاَّ اغتسلتُ وصلَّيتُ ركعتين"، وصنيع البخاريِّ - رحمه الله - يُنْبِئ عن إجلاله الشديدِ لِكَلِم من لا ينطق عن الهوى، وهذا الإجلال صدَى عرفانٍ، وانفعالٍ بالغ بالرسول الكريم، وآثارِه الشريفة، وهذا الإحساس الفيَّاض يحمله على أن يتهيَّأ، ويتجمَّل، ويأخذ في معبده زينتَه، ولِمَ لا، والإسلام الحنيفُ قضَى أن نأخذ زينتنا عند كلِّ مسجد، ونبِيُّ الإسلام سنَّ لنا سنة الاحتفاء بأعياد الإسلام، فدعا - فيما رواه أبو داود بسند جيِّد - دعا إلى أن نغتسل ليوم الجمعة، ونلبس من أحسن ثيابنا، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه أبو داود، وابن ماجه بإسنادٍ صحيح عن عبدالله بن سلام: ((ما على أحَدِكم - إنْ وجَد - أن يتَّخِذ ثوبين ليوم الجمعة، سوى ثوبَيْ مهنته))؟!

وظنِّي أن كل هذه الآثار تستقي من قول الله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ... ﴾ [الأعراف: 31].

والآية تمسُّ - بالدرجة الأولي - من كان يطوف بالبيت عريانًا، غير أنَّها لا تقف عند خصوص السَّبب، بل تعمُّ كل مسجد للصلاة، وربما تجاوَزَت المحلَّ إلى العبادة ذاتِها، بل إلى كلِّ العبادات، تتهيَّأ لكل عبادة بما يناسبها من زينة، ومن هنا استحبَّ بعض العلماء أخذ الزينة لكلِّ عبادة، وقالوا: إن الوقوف عند حدِّ الطواف إغضاءٌ عن مفهوم الكليَّة في عبارة ﴿ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾؛ إذ الطَّواف لا يكون إلا في مسجد واحد فقط، وحول بيت واحدٍ، هو بيت الله المحرم.

أما عطاء كلمة ﴿ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ فهو أرحَبُ وأغنى.

استطراد:
هذا.. ويَحْسن هنا أن نذكر - إتمامًا للفائدة - أن السَّلف أخذوا من الآية، ومن قوله تعالى بعد الآية: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾ [الأعراف: 32] مشروعيَّةَ ارتداء الرَّفيع من الثياب؛ تجمُّلاً، وإظهارًا للنِّعمة، واحتفاءً بالجُمَع، والأعياد، وعند مُزَاورة الإخوان؛ فقد ورد أن المسلمين كانوا إذا تزاوروا تجمَّلوا، ويُروى عن تميمٍ الداريِّ أنه اشترى لصلاته حُلَّة بألف درهم!

والسَّلف - في ترفُّعِهم عن الثياب الدُّون، وتخيُّرِهم الأجود للصلوات وللمناسبات - استرشَدوا بِمِثل ما روي عن مكحولٍ أنَّه روى عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كان نفَرٌ من أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدَّار ركوةٌ فيها ماء، فجعل ينظر في الماء، ويسوِّي لحيته وشعرَه، قالت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: ((نعم، إذا خرج الرجل لإخوانه فليُهَيِّئ من نفسه؛ فإنَّ الله جميل، يحب الجمال)).

ومن هذا ما أخرج مسلم عن ابن مسعود عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقالُ ذرَّة من كِبْر))، فقال رجلٌ: إن الرَّجل يحب ثوبه حَسَنًا، ونعله حسَنة؟ قال: ((إن الله جميل يحبُّ[1] الجمال؛ الكِبْر بطر الحقِّ، وغَمط الناس)).

لا تهويم، ولكن مشاكل تطبيق:
2- وكان مِمَّا أخذوا: أنَّني سرحت، سرحًا كأنه التهويم، وأوغلتُ في الفلسفة بحديثي عن الزَّمان والمكان، والفضاء، والكون، وكيمائيَّة الإنسان... إلخ، ومثل هذا التهويم يحرم كثيرين من المُتابعة والفائدة.

والذي أعرفه أن التَّهويم، ونظائره أمور نسبيَّة؛ فأحلام بعض الناس حقائق واقعةٌ عند آخرين، والمشاركة الوجدانيَّة - وهي مَطْلب إسلام - حساسية تورث الجنون في مذهب الأنويِّين. والنظرة الشموليَّة العميقة التي تبصر الهُوَى - بضم الهاء وفتح الواو؛ جمع هوَّة - وتحيط بالمخاطر، والتي ترصد في الوقت نفسِه آفاقَ الأعداء تعجُّ بالصواريخ، والمراكب، والأقمار، ثُمَّ توازن بعد ذلك بين ثرانا وذراهم؛ تلك النظرة عند المنطوين، المنـزوين في فِتْرٍ[2] صغير من ساحة الإسلام المترامية؛ إفلات زمام، وتهويم، وربما رأَوْها ميوعةً وتسيُّبًا.

والحقُّ أنَّ أبصار بعض الناس لا تتجاوز موضع أقدامهم، والإسلام في نظرهم لا يعدو قواقِعَهم ومحاراتِهم، وهؤلاء وغيرهم من النظريِّين لا يَنْفُذون إلى مشاكل التطبيق، ولا تروعهم العقبات، والنهايات المشؤومة للثَّورات، والثَّروات والصحوات، والسِّياسات، والحركات، والشِّكايات، والاحتجاجات والصرخات التي ترتَفِع من ديار المسلمين كنار الهشيم!

والحقُّ أن سبيلنا هو عين البصر بمشاكل التَّطبيق، وشأن المؤمن أن يتصوَّر أبعاد الميدان، ويخبر طبيعته، وأن يستحضر مشاكل التطبيق؛ لينظر في الحلول، وذلك - كما أسلفتُ - عين الربَّانية التي نُدِبْنا إليها بقوله سبحانه: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾ [آل عمران: 79].

ويهمُّني - كي تتَّضِح خطورة القضيَّة التي نُعالجها - أن أُشِير إلى أنَّ مجلة "الأمة" القطَرِيَّة شغلها ما شغلنا؛ أدركَتْنا في الطريق، ثم مضت معنا تخوض فيما خُضْنا فيه[3]، وتدور حول عناصر، مِن أهَمِّها:
1- أهميَّة فقه المراحل، وحَتْميَّة التخطيط البصير عند الانتقال بالمبادئ إلى أطوار التنفيذ خلال الظروف المحيطة، والمتاحة.

2- ضرورة الإحاطة بطبيعة الموقع، وجغرافيَّة الميدان، مع البصر بأعراف المُجتمع، وظروف معاشهم.

3- إمكان تغيُّر الأحكام "الفرعيَّة" بتغيُّر الأزمنة.

4- رُوَّاد العمل الإسلاميِّ ينبغي أن يتمتَّعوا بحسٍّ مرهف صادق، ووعيٍ ثاقب، وفطنة تحيط بأبعاد المعركة، ومقتضيات الظُّروف، ووسائل الانفتاح على الناس.

5- وَصْل الواقع ذي البيئة الماديَّة، والمجتمع الواقعي بالمثاليَّة الشرعية أمرٌ شاقٌّ يتطلَّب قدرات عالية، وتدرُّجًا وفقهًا بالأوَّليات، والأولويَّات دقيقًا، وبلا استغراقٍ في المثالية، بل نتعامل مع السُّنن، ولا ننتظر المعجزات.

6- اتِّساع قاعدة الإيمان يكفل فُرَص النَّجاح، فلا بد من جمع الشَّمل، والتغاضي السياسي؛ كي نلتقي ولو على حد أدني.

7- التديُّن تحرُّز، والتوحيد خلاصٌ وانبعاث، أما الجمود فصوفيَّةٌ تُغْري بالاستبداد، وتفضي إلى الاستِعْباد.

8- ما أحوجَ السلبيِّين الجامدين إلى هزَّات توقِظُهم، وتحملهم نحو منهجٍ يقوم على الوعي العميق بطبيعة الأمَّة، وروح العصر، وواقع البيئة، وأخاديد السِّياسة، وألاعيب السَّاسة[4]... إلخ.

ألاَ إن كلَّ الدلائل تشير إلى أهمِّية وضع كلِّ القوى الواقعيَّة في الحسبان كي نُوائم بينها وبين مثاليَّات الإسلام، ومعاييره الدقيقة.

ومن مُنطلق الإيمان بهذه الحقيقة، ومن خلال الرُّؤية المروعة للانفصام الشديد بين العقيدة والسُّلوك؛ مضيتُ أنظر إلى المستقبل، وأتساءل: إنَّ الحياة في عصور الإسلام الأولى كانت محدودة، وكانت رقعة البلاد - رغم اتِّساعها - ضيِّقة، وهي بالنسبة لحياتنا، وبلادنا المترامية - الآن - شيءٌ ضئيل.

والدِّين - الذي غطَّى حياة الأوَّلين، واستجاب لمتطلَّباتها - رحْبٌ فضفاض، نزل صالحًا لتغطية حياتنا الممدودة، كما غطَّى تلك الحياة المحدودة، ولكن كيف؟ إذا رُزِقنا البصيرة المرِنة التي تهدينا إلى أنَّ حقائق الدِّين ثابتة، وأصوله راسخة، أمَّا الفرعيَّات والاجتهاديَّات وكل المسائل التي تتعدَّد فيها الرُّؤى، فيُمْكِن التصرُّف فيها على نحوٍ يَرْبطها بالواقع، ولا يُخْرِجها عن نطاق الإسلام.

وأعودُ فأقول: إنَّني مراعاةً لبعض المستويات؛ حرصتُ - برغم وحدة الموضوع - على أن أرصِّع المقالات بآيات، وأحاديث هي - بلا شكٍّ - تخدم الموضوع، ولكنَّها يمكن أن تنفرد بعطايا سخيَّة تتجمع زادًا لكلِّ الراغبين[5].

فأووا إلى الكهف:
هذا، وقد ذكرت - في مقالي السابق - أننا سلَفِيُّون، وأيضًا عصريُّون، ومضيت أحذِّر من تبتُّل جديدٍ طوى بعض الناس في أكفانٍ بالية، وحشرهم في رهبانيَّة حديثة تتَّفق في النتائج مع رهبانيَّة الصوامع، وتبتُّل الرهبان، فكلاهما غفلة عن السنن، ورحلة مع الظَّلام في سراديب الموت.

ولقد قصَّ الله علينا بالحقِّ نبأ أصحاب الكهف والرقيم؛ ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 9 - 10].

قالوا: فالقصَّة صريحة في مشروعيَّة التعامل مع الكهوف[6] والغِيران، واعتزال الأهل والأوطان؛ فرارًا بالدِّين، واستجابةً للأمر الكريم؛ ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ﴾ [الكهف: 16]

وحالة أهل الكهف - بكلِّ ملابساتها - لا تعدو التبتُّل إلى الله الذي جعل لنا من الجبال أكنانًا[7].

والحقُّ:
1- أن الفتية كانوا يدينون بدينٍ محدودِ الجوانب، يتَّفِق مع حجم الإنسانية يومئذٍ[8]، أما الإسلام فدينٌ عامٌّ شامل، خطَّط للدارين، وربَّى للحياتين، وقعَّد القواعد، وقنَّن ونظَّم، ووضع أسس المعاملات، وحَمَّل أهله مسؤوليَّة الدعوة، والدولة، والسِّياسة، والعلاقات؛ فمسؤوليَّة المسلم جسيمة، وحياته موصولةٌ، تبتدئ بالميلاد، وتصبُّ - إن شاء الله - في الجنَّة.

ولعلَّ هذا هو إيحاء الأثر الذي رواه رزين عن ابن مسعودٍ أنه - رضي الله عنه - سُئِل: ما الصراط المستقيم؟ فقال: "تركَنا محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أدناه، وطرَفه في الجنَّة، وعن يمينه جوادّ[9]، وعن يسارِه جوَادّ، وثَمَّ رجال يَدْعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النَّار، ومن أخذ على الصِّراط المستقيم انتهى به إلى الجنَّة، ثم قرأ ابنُ مسعودٍ: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].

والمسلم مبتلًى بهذه الحياة الموصولة، الحافلة بالمتناقضات، وقدَرُه أن يُجاهد، ويتبصَّر الجوادّ، ويواجه المخاطر، ويقاوم قُوَى الشرِّ، فإذا انطوى في كهف، أو انزوى في غارٍ فقد فرَّ من الميدان، وهو في فراره قد ينجو ببعض دينه، مخلِّفًا وراءه جلَّ دينه، ومعظم مسؤولياته، هو إذًا لم يفِرَّ بدينه، بل فرَّ من دينه.

2- وأهل الكهف لم يعتزلوا مؤمنين، وإنَّما اعتزلوا الشِّرك والمشركين؛ فرُّوا حين حاصرَتْهم الفتنة، وتعقَّبَهم الملك الغَشُوم ليحملهم على الشِّرك أو ليقتلهم، فكلمة: ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ﴾ [الكهف: 16]، تعني هجرانَهم لأولئك الضالِّين المتلبِّسين بالشِّرك؛ ابتغاء سلامة النفس، والنفيس[10].

3- فالآية لا تدلُّ على مشروعيَّة الاعتزال أو التبتُّل مطلقًا، بل توحي باستحباب التأسِّي بأهل الكهف حيث تتنمَّر الفِتَن، ويحمل العبد على الشِّرك، وتخلو الساحة فلا إمام، ولا جماعة، ولا قدرةَ على المناوأة والحركة الفعَّالة، حينئذٍ فقط يحقُّ للمسلم أن يعتزل، ويعضَّ بأصل شجرة؛ مصداقَ حديثِ رسول الله الصحيح.

4- وإضافة إلى ما سبق، فإنَّ سياق الآيات يدلُّ على أن الأمر كان أمر اضطهاد، وطلبًا حثيثًا، وفهم شيء غير هذا افتئات وغلو.

ولعلَّ الفتية تحرَّكوا حركة مرحليَّة - كما لجأ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى غار ثور - ولعلَّهم كانوا قد خطَّطوا لانطلاقٍ وشيك، وخطوة أخرى فعَّالة إذا هدأَت الأجواء، وهيَّأ الله لهم المرفق الذي ينشدون؛ ﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ﴾ [الكهف: 16][11]، والإسلام دين المجاهدة، والمثابرة، والمصابرة، ومن تعاليمه أنَّ "المؤمن الذي يُخالط الناس، ويَصْبِر على أذاهم أفضلُ من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم"[12].

6- ولقد علِمْنا مِمَّا روي عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ قدر المسلم أن يظلَّ آخذًا وضع الاستعداد؛ فالجهاد في حقِّ المسلم ماضٍ حتَّى يقاتِلَ آخِرُ الأمة الدجَّالَ، ووَضْع الاستعداد يتطلَّب يقظة، وحركة، واطِّلاعًا على شؤون الناس، ورصدًا لذبذبات الأعداء، ورباطًا إلى يوم القيامة؛ تحقيقًا لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما أخرجه مسلمٌ عن جابر بن سَمُرة: ((لن يَبْرَح هذا الدِّينُ قائمًا يقاتل عليه عصابةٌ من المسلمين حتَّى تقوم الساعة)).

نعم؛ روي البخاريُّ عن أبي سعيدٍ عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((يوشِكُ أن يكون خيْر مال المسلم غنَمٌ يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القَطْر؛ يفِرُّ بدينه من الفِتَن)).

والحديث - كما ترى - يصوِّر مطاردةً قاهرة، وينبئ عن تكالُبِ الأخطار واستشرائها، وتهديدها الأنفس، والأموال، وهذه حالة خطيرة، لا تستحكم إلاَّ إذا أفلت الزِّمام، وانحلت عُرَى الجماعة.

هي الحالة التي صوَّرها حديثُ مسلمٍ عن أبي بكر قال: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّها ستكون فِتَن، ألا ثُمَّ تكون فِتَن، ألاَ ثم تكون فتنة، القاعد فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خير من السَّاعي إليها، ألاَ فإذا وقعت فمن كان له إبِلٌ فلْيَلحق بإبِلِه، ومن كان له غنم، فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه))، فقال رجلٌ: يا رسول الله، أرأيتَ من لم يكن له إبل، ولا غنم ولا أرض؟ قال: ((يَعْمد إلى سيفه، فيدقُّ على حدِّه بحجر، ثم لْيَنجُ إن استطاع النَّجاء، اللهم هل بلَّغتُ؟)) ثلاثًا... إلخ؛ فالحديث يشير إلى الفِتَن التي تموج كموج البحر، ويعلمنا كيف نتَّقي العواصف، ونُطَأطئ للزَّوابع حتَّى تمر، فإذا مرَّت أعَدْنا على ضوئها حساباتِنا، وأصلحنا من وضعنا، وغيَّرنا ما بأنفسنا.

والمتبتِّلون الجدد بعيدون - بُعْد المشرقين - عن مقصود الحديث، وهم لم يتبعوا شعف الجبال، ولا أوَوْا إلى غِيران وكهوفٍ، ولا تجرَّدوا من فضول الأموال، ولكنهم أقحموا أنفُسَهم في نقوب[13] بأذهانهم، وفي مساقط ومنحدَرات في عقولهم، ومن خلالها أبصروا الدِّين، فظنُّوه آسنًا ضيقًا! وهو دين الواسع العليم، رحمته واسعة، وأرضه واسعة، ودينه واسع، يستوعب الأوَّلين والآخرين، ويكفل للبشر خير الدَّارين.

والمسلم حمل أمانة الدِّين، بما في الدين من رحابةٍ وسعة، وثقل، راعت السَّماوات والأرض فأبَيْن، وأشفقن، وهو كي يُعان على هذا العبء غذَّاه المولى بِهدايات ونفحات، وقِيَم تنبته، "راداريَّ" البصيرة، "إلكترونيَّ" الفِكْر، مكرًّا، مفرًّا[14]، وتخلِّي المسلمين عن هذا المقام المحمود أصابهم بالصَّمم، والعمى، وتبلُّد الحواسِّ، وأطاح بهم إلى حيث الضَّعةُ والهوان، وكأنَّهم - لضيق الدُّنيا في وجههم، وتدفُّق الذلِّ من فوقهم، وتفجُّره من تحتهم - أضحوا على النحو الذي ذكره الله: ﴿ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾ [التوبة: 57].


[1] فأين هذا من دين الصُّوفية الذين يحرِّمون زينة الله، مُدَّعين أنَّهم مكتفون بلباس التَّقوى، وهم بصنيعهم هذا يرفضون سُنَّة أتقى العالَمِين.

[2] الفِتْرُ ما بين طرَفَي الإبهام والسبَّابة؛ كناية عن الصِّغر والضِّيق.

[3] أُثيرت هذه القضايا في أعداد: ربيع الأول، وربيع الآخر 1405هـ في حوار المجلة مع الدكتور "حسن الترابي"؛ للوقوف على أصداء التجربة الميدانيَّة التي يخوضها السُّودان، وهو يطبِّق الشريعة، وينتقل بالمبادئ إلى طور التنفيذ.

[4] انظر "الأمة" عدد جمادى الأولى 1405هـ "المَنْهج العصري في سلفيَّة الإمام ابن باديس".
هذا، ويجدر أن أشير هنا إلى أنَّ مقالات "التوحيد" هي السابقة.

[5] وشغل بعضَ الناس طولُ الحلقات، فقالوا مداعبين: متى تُكْمِل العِدَّةَ، وتكبِّر الله؟! وأقول لهؤلاء مداعبًا: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 36].

[6] الكهف: النقب المتَّسِع في الجبل، فإن لم يتَّسع فهو غار.

[7] الأكنان جمع كِنّ: وهي الغِيران في الجبال.

[8] تابعَ الله بين الشرائعِ وفق تطوُّر الإنسانية، ونُموِّها الفكري، فكلُّ شريعة تقدِّم الجرعة التي تتناسب مع العمر الفعلي للبشرية، أما الإسلام فقد جاء لبشريَّةٍ بلغَتْ أشُدَّها، واستوَتْ، وراعى ما سيكون من تطوُّر داخل نطاق بلوغ الأَشُدِّ.

[9] الجوادُّ - بتشديد الدال - جمع جادة، والجادَّة الطريق.

[10] المراد العقيدة.

[11] المرفق ما يرتفق به؛ أي: ما يُستعان به على بلوغ الغاية.

[12] رواه البغويُّ عن ابن عمر.

[13] جمع نقب، والنقب الشقّ.

[14] يجيد الأقدام، ويعرف مواضع الأحجام، ويتقن أساليب الكَرِّ، والفر.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #176  
قديم 22-01-2022, 05:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,544
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

آداب قراءة القرآن




أحمد عبدالرحمن






على الصائم أنْ يتأدَّب بآداب التِّلاوة لكتاب الله - تعالى - ومنها:









أولاً: إخلاص النيَّة لله - تعالى - لأنَّ أيَّ عملٍ من الأعمال لا يقبَلُه الله ما لم يكنْ خالصًا له وحدَه؛ يقول - تعالى -: ﴿ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾[غافر: 14]، ويقول - تعالى -: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5].







ثانيًا: أنْ يقرَأ بقلبٍ حاضر مُنصرِف إلى السَّماع، ويتدبَّر كلَّ ما يقرَؤُه، ويُحاوِل الفهم قدر استِطاعَتِه، وأمَّا أولئك الذين يهذُّون القُرآن هذًّا، ولا يتدبَّرون معانيَه، ولا يخشَعُون عند وعْده ووَعِيده - فقُلوبهم مشغولةٌ بغير القِراءة من مَتاع الدُّنيا وعَرضها الزائل.







ثالثًا: أنْ يقرَأ على طَهارةٍ كاملة؛ لأنَّ هذا من تعظيم كلام الله واحترامه، ولا حرج عليه لو كان مُضطرًّا للقِراءة، ولا يجد وسيلةً لبُلوغ الماء، كمَن يرقُد على السرير أو في سيارة لا يملك إيقافها أو في طائرة أو في سجن وما أشبه ذلك، فهؤلاء قد يكونون مَعذُورين وهم على غير طهارةٍ، شريطة أنْ يتطهَّروا من الحدث الأكبر، والله أعلم.







رابعًا: ألا يقرأ في أماكن مُستَقذَرة؛ كدورات المياه، وأماكن المنكرات والمعاصي، أو في مجتمع لا ينصت له؛ كمجتمع البيع والشراء أو مجتمع الرياضة أو مجتمع لعب الورق، وغير ذلك من المجتمعات المشغولة؛ لأنَّ القِراءة في هذه الأماكن إهانةٌ لكتاب الله.







خامسًا: أنْ يستعيذَ بالله من الشيطان الرجيم عند بدْء القِراءة، سَواء كان من أوَّل السُّورة أو من وسطها؛ لقول الله - تعالى -: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98].







سادسًا: أنْ يُحسِّن صوتَه بالقُرآن ما استَطاع إلى ذلك سبيلاً؛ لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما أَذِنَ اللهُ لشيءٍ (أي: ما استَمَع لشيءٍ) كما أَذِنَ لنبيٍّ حسن الصوت يتغنَّى بالقرآن يجهَر به))؛ (رواه البخاري ومسلم، "صحيح البخاري" ج 6 ص 236، و"صحيح مسلم" ج 2 ص 192).







والجهر بالقِراءة أَوْلَى، إلا إذا كان حولَه مَن يتأذَّى بجهْره في قراءته؛ كالنائم والمصلِّي، فإنَّه حينئذٍ يجهرُ جهرًا خفيفًا يسمَعُه هو ولا يسمعه مَن حوله.







سابعًا: ومن آداب تلاوة القُرآن أنْ يَسجُد عند تِلاوة الآيات التي فيها سُجود، سَواء كان الوقت وقت نهي أو غيره.







موعظة:



يقول ابن رجب:



"يا مَن ضيَّع عُمرَه في غير الطاعة، يا مَن فرَّط في شهرِه بل في دهره وأضاعه، يا مَن بضاعته التسويف والتفريط وبئست البضاعة، يا مَن جعَل خصمَه القُرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممَّن جعلتَه خصمك الشفاعة؟!









وَيْلٌ لِمَنْ شُفَعَاؤُهُ خُصَمَاؤُهُ

وَالصُّورُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ يُنْفَخُ










رُبَّ صائمٍ حظُّه من صِيامه الجوعُ والعطَش، وقائمٍ حظُّه من قيامه السَّهر، كلُّ قيام لا ينهى عن الفحشاء والمنكر لا يزيدُ صاحبَه إلا بُعدًا، وكلُّ صيام لا يُصان عن قول الزُّور والعمل به لا يُورث صاحبه إلا مقتًا وردًّا.







يا قوم، أين آثار الصيام؟ أين أنوار القيام؟









إنْ كنت تنوح يا حمام البان

للبين فأين شاهد الأحزان



أجفانك للدموع أم أجفاني

لا يقبل مدع بلا برهان










هذا يا عباد الله شهرُ رمضان الذي أُنزِلَ فيه القرآن، وفي بقيَّته للعابدين مستمتع، وهذا كتابُ الله يُتلَى فيه بين أظهُركم ويُسمَع، وهو القُرآن الذي لو أُنزِلَ على جبلٍ لرأيته خاشعًا يتصدَّع، ومع هذا فلا قلْب يخشع، ولا عين تدمَع!











__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #177  
قديم 10-02-2022, 07:40 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,544
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

فضل قراءة القرآن














سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين






﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شديداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَ كَذِباً ﴾ [الكهف:1-5].





وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً.



أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأكثروا من قراءة القرآن في هذا الشهر يعظم الله لكم بذلك الأجر؛ لأن في كل حرف من القرآن عشر حسنات، وقد وردت الأحاديث بفضل تلاوة القرآن عموما وبعض السور خصوصاً، ففي صحيح مسلم (أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لم تقرأ حرفاً منها إلا أوتيته) وقال صلى الله عليه وسلم: (البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان) رواه أحمد ومسلم.






وكان أسيد بن حضير رضي الله عنه يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، وله ابن قريب منها، فجالت الفرس، فسكت، فسكنت، فقرأ، فجألت الفرس مرة ثانية، فسكت، فسكنت، ثم قرأ، فجالت الفرس مرة ثالثة، فخاف أن تصيب ابنه، فانصرف، ثم رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فإذا مثل الظلمة فيها أمثال المصابيح، فلما أصبح أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (أتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى فيهم).



وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن سورة البقرة وآل عمران تظللان صاحبهما يوم القيامة. وتحاجان عنه، ونزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ومعها من الملائكة نحو سبعين ألف ملك ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح، والأرض ترتج بهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سبحان الله العظيم).






وقال صلى الله عليه وسلم: (إن سورة من القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك). وقد ورد أنها تنجي من عذاب القبر، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)، وقال له رجل: إني أحبها، فقال: (حبك إياها أدخلك الجنة)، وقال رجل آخر إنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبروه أن الله يحبه)، وقال صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1] فاقرؤوا القرآن بتدبر، وتفهم، وإذا مررتم بآية رحمة، فاسألوا الله من فضله، وإذا مررتم بآية وعيد، فتعوذوا بالله من عقابه، وإذا مررتم بآية سجدة، فاسجدوا في أي وقت كان، فالسجود للتلاوة لا نهي عنه؛ لأنه تابع للتلاوة، وإذا سجدتم، فكبروا، وقولوا: سبحان ربي الأعلى في السجود، وإذا رفعتم من السجود، فلا تكبروا، ولا تسلموا؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا سجد القارئ وهو يصلي، فإنه يكبر للسجود، وللرفع منه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر:29،30].






اللهم بارك لنا في القرآن العظيم واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #178  
قديم 10-02-2022, 07:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,544
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (38)
بخاري أحمد عبده









بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].



ضفادع في ظلماء ليلٍ تجاوبتْ، في حديث عن سراديبَ معنويةٍ طوتْ في أحشائِها مسلمين أذهلهم فرطُ ما بين واقع المسلمين، وبين الصياغة الإسلاميَّة مِن بعد، فظلُّوا من الهول يعودون القَهْقرى حتى تردَّوْا، وانطووا وتبتَّلوا.



تناولنا قِصَّة فتية مهتدين اعتزلوا مجتمعَهم الغشوم الظلوم، ولاذوا بكلِّ ما طووا، وآووا إلى الكهْف ريثما تهدأ الأنفاس، ويسكُن الطلب، ويجود الله برحمتِه، أووا إلى الكهف وما دروا أنَّهم قد غدوا آيةً تتناقلها القرون، وقصة ملهمة تفيض بأرواح الإيمان.



والمتبتِّلون - باعتبارهم كائناتٍ حيةً - فيهم طاقات تبحَث عن متنفَّس.



وهذه الطاقات إذا أخذتْ مسارها الوطني، بلِ الإسلامي الصحيح - حَرِيَّة أن تعصِف بمخطَّطات الأعداء، ومناورات العملاء المضاربين، حرية أن تتكامَل، وتصوغ المجاهِد الرهيب الذي يؤرِّق شبحه ليل الصليبيَّة والإلْحاد، الذي لمحتْه إسرائيل في تضاعيفِ الصحوة الحاضرة ماردًا، بل قوَّة مدرَّعة، طاحِنة فارتاعت، وصرخت محذِّرة تحرض على إجهاض الصحْوة، وإسقاط الجنين، وإلاَّ فالويل للغرْب، وللشرق[1].



وصدَى كل هذا أن ضاعفتِ الجبهات المعادية مِن قواها، ونوَّعت مِن أساليبها، وأحكمت مِن شِباكها حتى يضيقَ الخناق، ويُحتوى (بالبناء للمجهول) المجال، وتختنق الطاقات.



فهم لا يَزالون يضرِبون في رماد المسلمين المحترِق خشيةَ أن يكون تحتَ الرَّماد وميضُ نار يُنذر بضرام.



ولا يزالون يحشرون مصادرَ الطاقات، ومفاعلاتها في مضايقَ وحفر، ويشغلونهم باهتمامات، وتطلُّعات، وقضايا عقيمة تشبع فيهم عاطفةَ اعتبار الذات، وتُذكي فيهم حيويةَ كحيوية الطيور الدواجن[2]، تُشقشق، وتُقرقر، وتنبش الأرض، وتتنافر نافِشة، قافزة.



كذلك كل مُسلِمي الجيل، دواجن تموء، وتثغو، وترغو، وتصهل[3]، وفيهم من ينق[4] نقيقَ الضفادع ولا هدف، ولا عائد، فهم كما قال الشاعر:



تَنِقُّ بِلاَ شَيْءٍ شُيوخُ مُحَارِبٍ

وَمَا خِلْتُهَا كَانَتْ تَرِيشُ[5] وَلاَ تَبْرِي




ضَفَادِعُ فِي ظَلْمَاءِ لَيْلٍ تَجَاوَبَتْ

فَدَلَّ عَلَيْهَا صَوْتُهَا حَيَّةَ الْبَحْرِ








إقصاء عن مواقع التأثير:

وهمُّ القُوى المضادة إشباعُ الرغبات الدفينة، وتأمين العُبوات التي في الصدور؛ حتى لا تنفجر فيهم، وهم يعلمون أنَّ الهِرَّ قد يحكي انتفاخًا صولةَ الأسد، وأنَّ البغاث[6] ربَّما عدا قدره واستنسر، وأنَّ الضفادع قد تتجمَّع، وتشكل بنقيقها جوقة[7] شيطانيَّة تحطِّم الأعصاب، ومِن الطبيعي أن يحسبوا حسابَ هذه الاحتمالات، وأن يُهيِّئوا بين الفينة والفينة أجواءً مصنوعة - في مجالات نائية عن مناطقِ نفوذهم - تمارس فيها عمليات التنفيس، وتخفيف الضغوط التي تنوء بها طاقاتُ المطيقين، وفي هذه المجالات المعدَّة بإحكام، والبعيدة كلَّ البُعد عن مواقع التأثير، نصول ونجول، ونطلب الطعنَ وحْدَنا، والنزال، وفق ما قال الشاعر:



وَإِذَا مَا خَلاَ الضَّعِيفُ بِأَرْضٍ

طَلَبَ الطَّعْنَ وَحْدَهُ وَالنِّزَالاَ








ومِن علوم الأعداء أنَّ الطاقاتِ المُلجَمة (بضم الميم الأولي، وفتح الجيم "اسم مفعول") قوَّة عمياء، يحطِّم بعضها بعضًا، وأنَّها إنْ حِيل بينها وبين المدارات العُليا حيث الأنْسَام، والأضواء، والحريَّة، هوتْ متحجِّرة إلى الحضيض لتلعب - بين أرجل إبليس - دورها المشؤوم؛ لتخون، وتهون، وتسرق وتفسق، وتعدو على الغافلات، الآمنات[8].



أو تضاغطتْ[9] ذليلةً منكمشة يأكُل بعضها بعضًا، وتنفذ - بلا وعي - مخطَّط الأعداء[10]؛ ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ [آل عمران: 139].



والإسلام بكلِّ تعاليمه يُزكِّي الأنفس حتى تعيشَ أبيَّة، ويهذِّب العواطف حتى تسري نقيةً سوية، ويأسو الغرائز حتى لا تجمح بهيميَّة عاصِفة، ثم يطلق عِنان الطاقات كي تجنحَ رشيدةً نحوَ مقام ﴿ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ﴾ [آل عمران: 139]، بلا منَعة ولا انطواء، ولا تبتُّل.



ومقام "وأنتم الأعْلَون" خلص - بنطق إلهي كريم - للأمَّة التي تتوفَّر فيها خصائصُ عقديَّة، ونفسيَّة، وسلوكيَّة، وتتمتَّع بقدرات عالية تُتيح لها أن تنتشر، وتلتف، وأن ترتبط بسُنن الله وتتفاعَل، وأن تنطلق بهمَّة عالية نحوَ غايات غالية رفيعة، ولسان حالها قول الشاعر:



بَلَغْنَا السَّمَاءَ سُؤْدُدًا وَمَكَانَةً

وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا








بل قرآنها المحرِّك دعوة سليمان - عليه السلام - ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [ص: 35] [11].



بل دعاؤها الضارِع كلمة محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( اللهمَّ آثِرْنا، ولا تؤثِر علينا..))[12]، ومسوغات ذلك المقام المرموق تبرُق حولَ الآية التي تحمل - فيما تحمل - قرارَ العُلو[13]؛ ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].



1- فالإيمان محور وأصل، ومِن لوازمه أن تنطلق، وتنظر، وتعي، وتعتبر بسنن الله؛ ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آل عمران: 13].



وهذه الحرَكة البصيرة التي أمرْنا بها هي عونُ الأمة على وطأة الأعباء التي أُلقيتْ على كاهلها، وعلى سطوةِ الأعداء المحدقين بها متصدِّين لها، وعلى التقلُّبات، والتغيُّرات، والمحدَثات، وكل العجائب المرتقبة.



وَاللَّيَالِي مِنَ الزَّمَانِ حُبَالَى

مُثْقَلاَتٌ يَلِدْنَ كُلَّ عَجِيبِ








والبَحْث في السُّنن قدْر مشترَك بيْن الناس بل هو مُستبق البشرية قاطبة، وإشارة إلى هذا أعْلن القرآن أن التعامُل مع السنن أمرٌ يهم كلَّ الناس؛ ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 138]، ولكنَّ المؤمنين بما أُوتوا من جلاء بصري، ومِن نفاذ بصيرة، هم أعلمُ الناس بها، وأفْهم الناس لها، وأرجى الناس لمفاهيمها؛ ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 138].



2- والنفس الإنسانية تنطوي على مولدات الوهَن، والحزن، فالإنسان ﴿ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 19-21].



وهو يتقلَّب بيْن نزعتين تنتقِلان به مِن يأس كافر، إلى زهوٍ ناسف؛ ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ﴾ [هود: 9 -10].



وسبيل المؤمنين المتَّقين أن يكسِروا حواجزَ الوهن، وينبذوا دواعي الحُزن؛ ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].



وهذا المطلَب قد يُرى عسيرًا، ولكن الذي يبصر، ويتدبَّر، ويستهدي قضايا التاريخ، ويَعتبر، سرعان ما يكتشف قُدراته، ويَمضي عملاقًا إلى غايته، وابتغاء إيقاظ قُوى النفْس العليا يضرِب القرآن لنا الأمثال، ويعرِض علينا نماذجَ عالية أسكتوا دواعي الوهَن، ووأدوا رُوح الاستكانة والجزَع، ثم سألوا الله تزكيةَ الوجدان، وإذكاءَ جذوة الإيمان؛ ذلك قول الله: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ[14] كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 146 - 184]، قهْر لنوازع الدُّنيا، وصبر، وطهارة، ورجاء في الله، وإحسان.



3- والمولَى بعد هذه الأشفية الكريمة الغنيَّة بالعناصر الغلاَّبة، يضع للأمَّة قاعدة وُثقَى، جلية المقدِّمات، حتمية النتائج، تُصدِّقها كل السنن التي قد خلَت؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 149 - 152].



آيات كريمة تُجسِّم أمامَ أعيننا المزالق والمهاوي، وتحذِّر الأدواء والمثالِب، ولقدْ تكدَّست كلها في أمَّتنا الحاضرة:

1- قلوب مريضة تُسارِع في الأعداء؛ ﴿ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ﴾ [المائدة: 52].



2- وأنفس تطايرتْ شعاعًا، وحطَّتْ في حجورهم تلتمس الدفْء.



3- وقرابين تقرّب إلى السدنة ولا تتقبّل.



4- وأرقاء[15] يَدينون لهم بالطاعةِ العمياء.



5- وترد - مِن أجلهم - في مهاوي الشِّرْك الجلية، والخفية.



6- وعمًى مطبق عن الأُسس التي ارْتفع بها الأسلافُ الأوَّلون، ثم تمرد، وتمرق، وتنازع، وإخلاد إلى النوازع السُّفْلى، وتعصب مقيت، ورسوب فاضِح في كلِّ امتحان، فلا عجب إذا تناثرتِ الطاقات أشلاءً، ولا غرابة إذا حصَدْنا الوهن، والحزن، والاستكانة، والفشَل الذريع.



إنَّ الله إذْ نهانا نهيًا عن الوهن والحزن، نهانا في الواقِع عن هذه الأدواء، وتلك المثالِب التي لا تجلب غيرَ الوهن، والحزن، والفشَل.



وتبتَّل إليه تبتيلاً[16]:

وإذا وضح ممَّا سُقناه مِن أحاديث، مِن مثل ما أخرجه الشيخان عن سعدِ بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: "أراد عثمانُ بن مظعون أن يتبتَّل، فنهاه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولو أجاز له ذلك لاختصَيْنا"، ومما يُستوحى مما جاء في الصحاح مِن قصَّة أولئك الرَّهْط الذين تقالُّوا عبادةَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبيَّتوا في أنفسهم أن يَصوموا النهارَ ويقوموا الليل، ويعتزلوا النِّساء، وينبذوا الأطايبَ ويرْفضوا الدُّنيا، ويترهَّبوا ... إلخ، فتداركهم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وردهم إلى سُنَّته قائلاً: ((ولكنِّي أُصلِّي، وأنام، وأصوم، وأفطر، وأتزوَّج النِّساء، فمَن رغِب عن سُنتي فليس منِّي))[17].



إذا وضح أنَّ الإسلام يرفض التبتُّل، فما الرأي في آية أمرَتْ بالتبتُّل أمرًا مؤكدًا "بالمفعول المطلَق"؟ ما تأويلُ قولِ الله: ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً [18]﴾ [المزمل: 8]؟



إنَّ الآية تضمَّنت توحيدَ الإيجاب بفِقرتها الأولى؛ ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ﴾ [المزمل: 8]، وتضمنت توحيدَ السَّلْب بفقرتها الثانية.



و﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾، فهي تعْني أنَّ تفرُّده بالعبادة، وأن تتبرَّأ ممَّا عداه، مستحضرًا الأسس التي أودَعها الله آيات الأنعام: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام:161 - 164].



والاعتصام بركائزِ التوحيد المنبثَّة في هذه الآيات يُحتِّم ألا نتجاوزَ دائرةَ الشرع الحنيف.



فآية المزمِّل بمنطوقها الموجِب، ومضمونها السالِب، تدور حولَ كلمة الشهادة "لا إله إلا الله" إثباتًا، ونفيًا، كما تصِل بقول الله سبحانه: ﴿ أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].



وتربط بالآية الكريمة: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 14].



وخلاصةُ القضية قولُ الله تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 36].



إنَّ المولى إذْ يدعو (هنا) إلى التبتُّل إنَّما يأمر بتجريدِ النفس عن غيره، وإخلاص العبادة له - سبحانه - كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5]، فالتبتل المعنيُّ هو الانقطاع إليه بمجامِع الهمَّة، واستغراق العزيمة في مراقبتِه، وتجريد النَّفْس عن العوائق الصادَّة عنه، والذي لا يتبتَّل (بهذا المعني) تتشعَّب به السبل، ويضطرب - مكبًّا على وجهه - بين المشرق والمغرب، غافلاً عن ربِّ المشارق والمغارب.



فإذا أمَر القرآن (هنا) بالتبتُّل، ونهَتِ السُّنة عنه، فإنَّ متعلّق الأمر غير متعلّق النهي، فلا تناقُض؛ لأنَّ المأمور به هو الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة له، والنهي عنه هو سلوكُ مسلَك النصارى في اعتزال الحياة، والترهُّب في الصوامع.



والتبتُّل: بالتجرُّد، والإخلاص والاستغراق في المراقبة إعداد وتربية لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى يتأهَّل للمهمَّة الثقيلة المفهومة مِن قول الله تعالى: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾ [المزمل: 5]، وهذا التبتُّل مع المطالب الأخرى التي ذكرتْ في السورة من: الحرَكة، والتهجُّد، والترتيل، والذِّكْر، والصبر، والهجر[19]... إلخ، تجلو نفسية الدُّعاة وتشحنهم قوَّة، وتَزيدهم بصيرة، وتُتيح لهم البصيرة، والحرَكة، والصمود.



والتبتُّل - بهذا المعنى - ربَّما اقتضى عُزلةً مؤقَّتة كالتي كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُمارسها في غار حِراء، أو كالتي يُباشِرها المعتكِف، أو العاكِف على عِلم، إلا أنَّ مِثل هذا لا يُعدُّ تبتُّلاً عن الناس، بل هو تبتُّل من أجل الناس.



والتبتُّل المشروع مكفولٌ للمسلم في كلِّ سَكناته وحرَكاته، حتى حين يأتي شهوتَه؛ ذلك لأنَّ المسلِم يمكنه أن يَعبُد الله بكلِّ فِعاله، ولأنَّ الإسلام منهج حياة، ينظُر إلى الحياة نظرةً شاملة، ويحوطها بقوانين، وقِيم تذللها، وتهذِّبها، وتسحجها حتى لا تَمضي هوجاء، عمياء عادية، باغية.



إنَّ حياةَ المرء بكلِّ أبعادها نوعٌ مِن العبادة في الإسلام، والمجتمع المسلم لا تشكِّله الأهواء، ولا يُدبِّر أمرَه متسلِّطون، كيف وقدْ نظَّمت الشريعة مساره، وحدَّدت أصول سياسته، وحتمت أن يكون الولاء كله لله؟!



فمراعاة نُظم الإسلام في العبادات والمعاملات، والسلوكيَّات في السياسة، والحرْب والسِّلم، وفي وقتِ الفراغ... إلخ، مراعاة باعِثُها امتثالُ أمر الله، وابتغاء رِضا الله تبتُّل إلى الله.



وهكذا تتَّسع دائرةُ التبتُّل، وتتعدَّد مظاهره.



والتبتُّل قد يُوجد مشوبًا بما ينال مِن ورائه كأنْ يداخلَه رياء، أو يُصاحبه هوًى، أو يُعكِّره ملالةٌ وضيق، أو ضعْف.



وإذا التبَس التبتُّل بشيء مِن هذه الأمور لم يُعطِ الثمرة المرجوة؛ وكي تجرِّدَ تبتُّلك وتحرِص كلَّ الحِرص على أن يكون نقيًّا خالصًا، ذيَّل الفِعل، "وتبتَّل" بمفعول مطلَق يشد العزيمة، ويُفيد التوكيد "تبتيلاً".





[1] هكذا قالت إسرائيل وهي تحذِّر من نموِّ الجماعات الإسلامية، والمدِّ الإسلامي.




[2] الأليفة.




[3] الثغاء صوتُ الغَنم، والرغاء صوتُ البعير، والنعام والصهيل للخيل.




[4] يَنِقّ: بفتح الياء، وكسر النون، وتشديد القاف.




[5] تَبري السهام وتضَع فيها الريش استعدادًا للرمي.




[6] البُغاث: ضِعاف الطير.




[7] الجوقة: الفِرقة الموسيقيَّة.




[8] كظاهرة قطْع الطريق، واختِطاف النِّساء، والعدوان عليهنَّ.




[9] ضغط بعضها بعضًا.




[10] لعلَّ مِن أساليب الأعداء في إجهاضِ الطاقات شغلهم العالَم الإسلامي كله بظاهرة النِّعال التي نقشوا في أسفلها اسمَ الجلالة، ثم غَمروا بها كلَّ الأسواق، وظاهِرة "الألبسة" التي كتَبوا على جوانبَ حسَّاسة فيها عبارات مقدَّسة، والهدف أن نجول ونصول، ونتحاور مع الصَّدَى، فننفس عمَّا نُعاني مِن كبْت، ثم نعود منتفخين ظانِّين أنَّنا قهرنا الإلْحاد والملحدين، واللُّعبة في الواقِع لعبة العدوِّ الذي ما مِن صداقته بُدٌّ.




[11] مثل هذا الطلب لا يُعتبر تعديًا وتطاولاً على المفهوم مَن ﴿ لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾؛ لأنَّ سليمان - عليه السلام - لم يرِد أن يحجر على مَن بعده مِن الناس، وإنَّما مراده: لا يَنبغي لأحد أن يسلبنيه، والمُلْك الذي نسأله غيرَ الملك الذي خلص لسليمان، فلا تعارض، أما ما عرَض لرسولنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن أنَّ عِفريتًا من الجن تفلَّت عليه ليقطع عليه صلاته، وأنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - تمكَّن منه وهمَّ أن يوثقه لولا دعوةُ سليمان ﴿ لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾، وَفقَ ما جاء في الصحيحين، واللفظ لمسلم عن أبي الدرداء: قال: قام رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسمعْناه يقول: ((أعوذ بالله مِنك، ثم قال: ألْعَنك بلعنة الله التامَّة - ثلاثًا)) وبسَط يدَه كأنَّه يتناول شيئًا، فلمَّا فرغ قلنا: يا رسولَ الله، سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعْك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطتَ يدك، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((إنَّ عدوَّ الله إبليس جاء بشهاب مِن نار ليجعلَه في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك - ثلاثًا - ثم قلت: ألعَنك بلعنة الله التامَّة - ثلاثًا - فلم يستأخِرْ، ثم أردت أنْ آخذه وأوثقه إلى ساريةٍ مِن سواري المسجد، واللهِ لولا دعوةُ أخي سليمان لأصبحَ موثقًا، يلعب به صبيانُ أهل المدينة))؛ فهذا لأنَّ إيثاق الجن ومعاقبتهم مِن جملة المُلْك الذي خصَّ به سليمان؛ ﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ﴾ [ص: 36 - 38].




[12] جزء مِن حديث أخْرَجه الترمذي عن ابن الخطَّاب وتمامه: ((اللهمَّ زِدْنا ولا تنقصنا، وأكرمْنا ولا تهنَّا، وأعطِنا ولا تحرِمنا، وآثرنا ولا تؤثِر علينا، وأرضِنا وارْضَ عنَّا)).




[13] راجع آيات آل عمران مِن الآيات [137 - 152].




[14] كأين بمعنى "كم" الخبرية التي تُفيد التكثير، والرِّبيُّون هم الربانيُّون الذين نوهنا بشأنهم في المقال السابِق.




[15] جمَع رقيق.




[16] أردتُ مِن هذا الموضوع، ومِن الذي قبله - فوقَ استكمال البحث، وتقصِّي حذافيره - توفيرَ جرعات مُرْضية (بسكون الراء) لإخواننا الذين قد ترهقهم المتابعةُ فيستعجلون الثمرَة.




[17] جزءٌ مِن حديث خرَّجه مسلم عن أنس، وخرَّج البخاري نحوَه عن أنس أيضًا، قال: جاء ثلاثةُ رهط إلى بيوت أزواج النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسألون عن عبادته، فلمَّا أُخبروا كأنهم تقالُّوها - فقالوا: وأين نحنُ مِن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قد غفَر الله مِن ذنْبه ما تقدَّم، وما تأخَّر، فقال أحدُهم: أمَّا أنا فإنِّي أُصلِّي الليل أبدًا، وقال آخر: أمَّا أنا فأصوم الدَّهْر، ولا أُفطر، وقال آخرُ: أمَّا أنا فأعتزل النِّساءَ ولا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((أنتم الذين قُلتُم كذا، وكذا؟ أمَا واللهِ إني لأخشاكم لله، وأتْقاكم له، لكنِّي أصوم وأُفطر، وأُصلِّي وأرْقد، وأتزوَّج النساء، فمَن رغِب عن سُنتي فليس مني)).




[18] التبتُّل: الانقطاع يُقال: بتلت الشيء؛ أي: قطعته، وسُمِّي الراهب متبتلاً لانقِطاعه عن الناس.




[19] المولى - عزَّ وجلَّ - بأوائل سورة المزمِّل يهيِّئ رسولَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لطور الحرَكة، واليَقظة والعناء، ويضَع على الطريق قواعدَ تذكي الجذوة، وتعدِّل النفسية، وتُعين على النوائب: ﴿ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [المزمل:2]، ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً ﴾ [المزمل:4]، ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ﴾[المزمل: 8 -11].






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #179  
قديم 10-02-2022, 07:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,544
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ



خواطر رمضانية
محمد إبراهيم الحمد

(4)




رمضان شهر الدعوة

نحمدك اللهم أن هديتنا سُبُلَ الفلاح، ونستعين بك على إعلاء كلمة الحق والدعوة إلى الصلاح، ونصلي ونسلم على نبيك محمد الذي أنـزلت إليه قرآناً عربياً، وعلى كل من دعا إلى سبيلك مخلصاً تقياً.

أما من زاغ عن الهدى،واتخذ من المضلين عضداً فإليك إيابه، وعليك حسابه، أما بعد:


فإن الدعوة إلى الله لمن أوجب الواجبات، وأهم المهمات، وأعظم القربات. وإن شهرَ رمضانَ لفرصةٌ سانحةٌ، ومناسبة كريمة، وأرضٌ لنشر الدعوةِ خصبةٌ، ذلكم أن القلوب في رمضان تخشع لذكر الله، وتستعد لقبول المواعظ الحسنة، وتقوى بها إرادة التوبة.
والحديث في هذه الليلة سيدور حول
الدعوة إلى الله من حيث مفهومها، وفضائلها وآدابها، وما يدور في فلكها.
.





.
أيها المسلمون الكرام:
الدعوة إلى الله _عز وجل_ تشمل

كلَّ ما يُقصد به رفعةُ الإسلام، ونشرُه بين الناس، ونفيُ ما علق به من شوائب، وردُّ كلِّ ما يغضُّ من شأنه، ويصرف الناس عنه.

والدعوة إلى الله تشمل

كلَّ قولٍ،أو فعل،أو كتابة،أو حركة،أو سكنة،أو خُلق، أو نشاط، أو بذل للمال، أو الجاه،أو أي عمل يخدم الدين، ولا يخالف الحكمة.
ولا ريب أن العلم هو مرتكز الدعوة، وهو أساسها، ودليلها، وقائدها.

ولكن الدعوة تحتاج مع العلم

إلى كثير من الجهود التي مضى شيء منها؛ فكلٌّ يعمل على شاكلته، وقد علم كل أناس مشربهم.

.




.
أيها الصائمون الكرام:
لقد جاءت نصوص الشرع آمرةً بالدعوة، منوهةً بشأنها، محذرةً من التخاذل في تبليغها، مبينةً فضائلَها، والأجورَ المترتبةَ عليها.

ولقد جاءت النصوص في ذلك الصدد على وجوه شتى، وصيغ متعددة.

فجاءت بصيغة الأمر بالدعوة بصريح لفظها قال_تعالى_:

(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (النحل: 125)

وقال: (إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ) (الرعد: 36).

وجاءت بصيغة الأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر قال تعالى:

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ).

وجاءت بصيغة التبليغ قال الله _تعالى_:

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (المائدة: 67).

وجاءت بصيغة النصح قال_عز وجل_:

(إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) (التوبة: 91).



وجاءت بصيغة التواصي قال الله_تعالى_:

(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 3).



وجاءت بصيغة الوعظ قال_سبحانه_:

(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ) (سبأ: 46).

وجاءت بصيغة التذكير، قال الله_عز وجل_:

(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات: 55).

وجاء بصيغة الإنذار،قال الله_تعالى_:

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214) .

وجاءت بصيغة التبشير قال _تبارك وتعالى_:

( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة: من الآية112)

وجاءت بصيغة الجهاد قال _عز وجل_:

(فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52) .

وجاءت بصيغة التحذير من التولي عن الدعوة، ونصرة الدين قال _عز وجل_:

(فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) (المائدة: من الآية54)

.





.
أما فضائل الدعوة وثمراتها
التي تعود على الأفراد بخاصة، وعلى الأمة بعامة _ فلا تكاد تحصى، وأدلةُ الوحيينِ مليئةٌ بذلك، متضافرةٌ عليه.

فالدعوة إلى الله

طاعة لله، وإرضاءٌ له، وسلامةٌ من وعيده.

والدعوةُ إلى الله

إعزازٌ لدين الله، واقتداءٌ بأنبيائه ورسله، وإغاظةٌ لأعدائه من شياطين الجن والإنس، وإنقاذٌ لضحايا الجهل والتقليد الأعمى.

والدعوةُ إلى الله
سبب في زيادة العلم والإيمان، ونـزول الرحمة ودفع البلاء، ورفعه.

وهي سبب لمضاعفة الأعمال في الحياة وبعد الممات، وسبب للاجتماع والألفة، والتمكين في الأرض.

والدعوةُ إلى الله

أحسنُ القول، فلا شيء أحسن من الدعوة إلى الله

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33).

وهدايةُ رجلٍ واحدٍ خيرٌ من الدنيا وما عليها،

والدعاةُ إلى الله هم أرحمُ الناس، وأزكاهم نفوساً، وأطهرهم قلوباً،

وهم أصحابُ الميمنة، وهم ورثة الأنبياء.
.




.
أيها الصائمون الكرام:

هناك صفات يحسن بالداعي إلى الله أن يتَّصف بها _سواء كانت دعوته فردية أم عامة_ فمن ذلك: العلمُ، والعملُ بالعلم، والإخلاصُ، والصبرُ، والحلمُ، وحسنُ الخلقِ، والكرمُ،والإيثارُ، والتواضعُ، والحكمةُ، والرحمةُ، والحرصُ على جمع الكلمة على الحق.

ومن الصفات التي يجمل بالداعي أن يتَّصف بها:
الصفحُ الجميلُ، ومقابلةُ الإساءةِ بالإحسان، والثقةُ بالله، واليقينُ بنصره، والرضا بالقليل من النتائج، والسعيُ للكثير من الخير.

ومنها تجنبُ الحسدِ، وتجنبٌ استعجالِ النتائج، وتجنبٌ التنافس على الدنيا والانهماك في ملذاتها ومشاغلها.

ومن آداب الداعي إلى الله أن يكون ملازماً للِّينِ والرفق، حريصاً على هداية الخلق، مستشعراً للمسؤولية ، قويَّ الصلة بالله، كثير الذكر والدعاء والإقبال على الله بسائر القربات.

ومن آدابه: الحرصُ على مسألة القدوة، وأن يغتنم كل فرصة للدعوة، وألا يحتقر أي جهد في سبيلها مهما قل.

ومن آدابه: أن ينـزلَ الناسَ منازلَهم، وأن يتحامى قدر المستطاع ما يسوؤهم، وأن يتحمل همَّهم، وألا يحمِّلهم شيئاً من همومه.

ومن آدابه: تحسُّسُ أدواء المدعوين، ومعرفة أحوالهم.

ومنها: البعدُ عن الجدال إلا في أضيق الحدود، وبالتي هي أحسن.

ومنها: تعاهدُ المدعوين، وتشجيعُهم، وربطُهم بالرفقة الصالحة، ومراعاة الحكمة في إنقاذهم من رفقة السوء.

ومنها: البدء بالأهم فالمهم، والبعد عن الانتصار للنفس.

ومنها: تنويع وسائل الدعوة، فتارة بالموعظة، وتارة بالهدية، وتارة بالتوجيه غير المباشر وهكذا. ..

ومنها: إظهار الاهتمام بالمدعو، ومعرفةُ اسمه، وإشعارهُ بأهميته، وإشغاله بما ينفعه.



.





.

أيها الصائمون الكرام:

هذه هي الدعوة إلى الله،وتلك فضائلها،وآداب أهلها؛ فحريّ بنا أن نكون دعاة إلى الله؛ كُلٌ بحسبه، فهذا بعلمه، وهذا بماله، وهذا بجاهه، وهذا بجهده؛ لنحقِّقَ الخيرية ولنسلمَ من الوعيد.

فيا طالب العلم

هذا شهرُ رمضانَ فرصةٌ عظيمة للدعوة إلى الله، فهاهي القلوب ترق، وها هي النفوس تهفو إلى الخير،وتجيب داعي الله؛ فهلا استشعرت مسؤوليتك، وهلا استفرغت في سبيل الدعوة طاقتك وجهدك، وهلا أبلغت وأعذرت، ورفعت عن نفسك التبعة!!.




ويا من آتاه الله بسطةً في المال:

ألا تؤثر الدعوة إلى الله بجانب من مالك، فتساهم في كفالة الدعاة، وإعدادهم، وتشارك في طباعة الكتب النافعة،ونحو ذلك مما يدور في فلك الدعوة، ألا تريد أن تدخل في زمرة الدعاة إلى الله.



ويا من آتاه الله جاهاً:

ألا بذلته في سبيل الله، ألا سعيت في تيسير أمور الدعوة إلى الله؟.



ويا أيها الإعلامي المسلم

أيَّا كان موقِعُك ألا يكون لك نصيب في نشر الخير، والدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة، والطرح البناء، أما علمت أنك ترسل الكلمةَ أو تعين على إرسالها، فتسير بها الركبانُ، وتبلغ ما بلغ الليل والنهار؟ أما علمت أن لك غُنْمَها، وعليك غُرْمَها؟

ويا من حباه الله دراية ومعرفة بشبكة الاتصالات وما يسمى بالإنترنت،

ألا جعلت من ذلك وسيلة لنشر الدعوة إلى الله؟ أليس من اليسير في حقك أن تبث الخير على أوسع نطاق، وبأقل مؤونة، ألست تخاطب العالم، وأنت منزوٍ في قعر بيتك؟ .

ويا أيتها المرأة المسلمة

ألا تسعين جاهدة في نشر الخير في صفوف النساء بما تستطيعين؟.

ويا أيها المسلمون عموماً:

ألا نتعاون جميعاً في سبيل الدعوة إلى الله، ألا نجعل من شهرنا هذا ميداناً لاستباق الخيرات، ألا نتعاون في نصح الغافلين، وتذكير الناسين، وتعليم الجاهلين؟!.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33).



اللهم اجعلنا من أنصار دينك، ومن الدعاة إلى سبيلك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #180  
قديم 12-02-2022, 02:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,544
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ



خواطر رمضانية
محمد إبراهيم الحمد



(5)




الصوم والإخلاص

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن وآلاه، أما بعد:

فإن حديث هذه الليلة سيدور حول فضيلة الإخلاص، وأثرِ الصوم في اكتسابها.

وقبل الدخول في أثر الصوم في اكتساب الإخلاص يحسن الوقوفُ عند الإخلاص من حيث مفهومُه، وأهميتُه.
.


.
معاشر الصائمين:
أصل الإخلاص في اللغة:

مادة خَلُصَ، والخالص: هو مازال عنه شوبُه بعد أن كان فيه.

والإخلاصُ في الشرع:

هو تصفيةُ العمل من كل شائبة تشوبه.

ومدارُ الإخلاصِ على أن يكون الباعثُ على العمل امتثالَ أمرِ الله، وإرادتَه -عز وجل- فلا يمازج العملَ شائبةٌ من شوائب إرادة النفس: إما طلبُ التزيُّن في قلوب الخلق، وإما طلبُ مدحِهم والهربُ من ذمهم،أو طلبُ تعظيمهم، أو طلبُ أموالهم أو خدمتِهم ومحبتِهم،وقضائهم حوائجه، أو غيرُ ذلك من العلل، والشوائب التي يجمعها: إرادةُ ما سوى الله في العمل؛ فهذا هو مدار الإخلاص.

ولا حرج بعد هذا على من يطمح إلى شيء آخر، كالفوز بنعيم الآخرة، أو النجاة من أليم عذابها.

بل لا يذهب بالإخلاص-بعد ابتغاء وجه الله-أن يخطر في بالِ العامل أن للعمل الصالح آثاراً طيبةً في هذه الحياة الدنيا كطمأنينة النفس،وأَمْنِها من المخاوف، وصيانتها عن مواقف الذل والهون، إلى غير ذلك من الخيرات التي تعقب العمل الصالح، ويزداد بها إقبال النفوس على الطاعات قوة إلى قوة.
هذا هو مفهوم الإخلاص.

أما أهميته
فيكفي أنه شرط لقبول العبادة؛ فالعبادة تقوم على شرطين هما: الإخلاص لله، والمتابعة للرسول-صلى الله عليه وسلم-قال الله-تعالى-:(وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله-تعالى-: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملاً، فأشرك فيه غيري -فأنا منه بريء، وهُوَ للذي أشرك"رواه مسلم.



قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- متحدثاً عن الإخلاص وفضله وأهميته:
"بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله سواه، وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وأنزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان،وهو خلاصة الدعوة النبوية، وهو قطب رحى القرآن الذي تدور عليه رحاه".



إلى أن قال-رحمه الله-:

"قال -تعالى- في حق يوسف: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ).

فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور المحرمة، والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله.

ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله، والإخلاص له بحيث تغلبه نفسه على اتباع هواها.

فإذا ذاق طعم الإخلاص، وقوي قلبه-انقهر بلا علاج"ا-هـ.
معاشر الصائمين
هذا هو مفهوم الإخلاص، وذلك شيء من أهميته وفضله.

هذا وإن للصيام أثراً عظيماً في تربية النفوس على فضيلة الإخلاص، وألا يراعى في الأعمال غيرُ وجه الله-جل وعلا-.



ذلكم أن الصائم يصوم إيماناً واحتساباً، ويدع شهوته وطعامه وشرابه من أجل الله -تعالى- وأيُّ درسٍ في الإخلاص أعظمُ من هذا الدرس؟

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".



قال ابن حجر -رحمه الله- قوله:

"إيماناً": أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه، و"احتساباً": أي طلباً للأجر، لا لقصد آخر من رياء ونحوه" ا-هـ.

وفي البخاري-أيضاً-من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده لخُلوف فمِ الصائمِ أطيبُ عند الله من ريح المسك؛ يترك طعامه وشرابه، وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها".



قال ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث:
"قوله:"يترك طعامه وشرابه، وشهوته من أجلي" هكذا وقع هنا، ووقع في الموطأ "وإنما يذر شهوته" الخ... ولم يصرح بنسبته إلى الله، للعلم به، وعدم الإشكال فيه".

وقال -رحمه الله-:

"وقد يفهم من صيغة الحصر في قوله: "إنما يذر"الخ... التنبيه على الجهة التي بها يستحق الصائم ذلك، وهو الإخلاص الخاصُّ به، حتى لو كان ترك المذكورات لغرض آخر كالتُخمة لا يحصل للصائم الفضلُ المذكور" ا-هـ
.
معاشر الصائمين:

هكذا يربينا الصوم على فضيلة الإخلاص؛ فالصومُ عبادةٌ خفيةٌ، وسِرٌّ بين العبد وربه، ولهذا قال بعض العلماء: الصوم لا يدخله الرياء بمجرد فعله، وإنما يدخله الرياء من جهة الإخبار عنه.

بخلاف بقية الأعمال؛ فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها.

ولا ريب أن الإخلاص من أعظم الخصال، وأحمد الخلال إن لم يكن أعظمها وأحمدها.

ثم إن للإخلاص آثارَهُ العظيمةَ على الأفراد بخاصة، وعلى الأمة بعامة، فللإخلاص تأثير عظيم في تيسير الأمور، فمن تعكست عليه أمورُه، وتضايقت عليه مقاصدُه -فليعلم أنه بذنبه أصيب، وبقلة إخلاصه عوقب.

والإخلاص هو الذي يجعل في عزم الرجل متانةً، ويربط على قلبه؛ فيمضي في عمله إلى أن يبلغ الغاية.

وكثيرٌ من العقبات التي تقوم دون بعض المشروعات لا يساعدك على العمل لتذليلها إلا الإخلاص.

ولولا الإخلاص الذي يضعه الله في نفوس زاكيات لَحُرِمَ الناسُ من خيراتٍ كثيرةٍ تقف دونها عقبات.
أيها الصائمون:
قد يُخِلُّ الرجلُ في بعض الأعمال، ويتغلب عليه الهوى في بعضها؛ فيأتي بالعمل صورةً خاليةً من الإخلاص.

والذي يرفع الشخص إلى أقصى درجات الفضل والمجد إنما هو الإخلاص الذي يجعله الإنسانُ حليفَ سيرته؛ فلا يُقْدِم على عمل إلا وهو مستمسك بعروته الوثقى.

ولا تبالغُ إذا قلت:
إن النفسَ التي تتحرر من رق الأهواء، ولا تسير إلا على وفْق ما يمليه عليها الإخلاص هي النفسُ المطمئنةُ بالإيمان، المؤدبة بحكمة الدين، ومواعظه الحسنة.

قال ابن تيمية -رحمه الله-:
"وإذا كان العبد مخلصاً لله اجتباه ربه؛ فأحيا قلبه، واجتذبه إليه، فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء،ويخاف ضد ذلك. بخلاف القلب الذي لم يُخْلِص لله؛ فإن فيه طلباً،وإرادةً،وحباً مطلقاً؛ فيهوى كلَّ ما يسنح له، ويتشبث بما يهواه كالغصن أيُّ نسيمٍ مرَّبِهِ عطفه وأماله" ا-هـ.



معاشر الصائمين:
إذا أخلص المسلمُ صيامه لله، وقام به على الوجه الذي يرضي الله كان ذلك داعياً له لأن يخلص لله في شتى أموره، وكافة أحواله، وسائر أيامه، فَرَبُّ رمضانَ هو ربُّ سائرِ الشهور، والذي فرض الصيام هو الذي فرض غيره من سائر الطاعات والقربات، والذي يُتَقَرَّبُ إليه بالصيام هو الذي يُتَقَرَّبُ إليه بسائر الأعمال.

وهكذا يفيد المسلمُ هذا الدرسَ العظيمَ من شهر الصوم.
ولقد وقف الحديث في الدرس الماضي عند أثر الإخلاص على الأفراد بخاصة، وعلى الأمة بعامة؛ فإليكم جملة من تلكم الآثار التي تعود بالخير على الأفراد والجماعات.
أيها الصائمون:

الإخلاصيرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقيَ للفلاح، فصغير الأعمال -بالإخلاص- يكون كبيراً، وقليلها يكون كثيراً.

والإخلاص هو الذي يحمل الإنسانَ على مواصلة عمل الخير؛ فمن يصلي رياءاً، أو حياءاً من الناس لابد أن تمرَّ عليه أوقاتٌ لا ينهض فيها إلى الصلاة، ومن يحكم بالعدل؛ ابتغاءَ السمعةِ، أو خوفَ العزلِ من المنصب قد تَعْرِضُ له منفعةٌ يراها ألذَّ من السمعة، أو يصادفه أمنُ العزلِ-فلا يبالي أن يدع العدل جانباً.

ومن يدعو إلى الإصلاح ابتغاء الجاه قد ينزل بين قوم لا يحظى بينهم إلا من ينحط في أهوائهم، فينقلب داعياً إلى الأهواء.

ومن يفعل المعروف لأجل أن تُردِّدَ ذِكْرَهُ الألسنةُ في المجالس أو الصحف قد يرى بعينه سبيلاً من سبل الخير في حاجة إلى مؤازرة؛ فيصرف عنه وجهه وهو يستطيع أن يمد إليه يده، ويسدَّ حاجته.
أيها الصائمون:
الإخلاص الذي يقوم على الإيمان الصادق هو الذي يسمو سلطانه على كل سلطان،ويبلغ أن يكون مبدأً راسخاً تصدر عنه الأعمال الصالحة.

وهو الذي يجد له صاحبه حلاوة، فيسهل عليه أن يكون أحد السبعة المشار إليهم بقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح:"سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظلَّ إلا ظله" إلى أن قال: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".

حكى أشعبُ بنُ جبيرأنه كان في بعض سكك المدينة، فلقيه رجل، وقال له: كم عيالك؟ قال: فأخبرته، فقال لي: قد أُمِرتُ أن أجْرِي عليك وعلى عيالك ما كنتَ حيَّاً، فقلت من أمرك؟، قال: لا أخبرك، قلت: إنَّ هذا معروفٌ يشكر، قال: الذي أمرني لم يرد شكرَك.

قال أشعب بن جبير: فكنت آخذ ذلك إلى أن توفي خالد بن عبدالله بن عمر بن عثمان، فحفل له الناس، فشهدته، فلقيني ذلك الرجل، فقال: يا أشعب! هذا

-والله-صاحبك الذي كان يجري عليك ما كنت أعطيك.
فهذا فاعلُ خيرٍ من وراء حجاب.
أيها الصائم:
لعلك لا تجد أحداً يتصدى لعمل إلا وهو يدَّعي الإخلاص فيما يعمل؛ ذلك أن الإخلاصَ موطِنُه القلبُ، والقلوبُ محجوبةٌ عن الأبصار.

وإذا وصفتَ أحداً بالإخلاص أو عدمه فإنما ترجع في وصفك إلى أمارات تبدو لك من أحواله الظاهرة.

ومن هذه الأحوال ما يدلك على سريرته دِلالةً قاطعةً، ومنها ما لا يتجاوز بك حدَّ الظن.

وهذا موضع التثبت والاحتراس؛ ففي وصف المخادعِ بالإخلاص ووصفِ المخلص بالمخادع ضررٌ اجتماعيٌّ كبير؛ فإن وثقت بمجردِ الظن لم تأمن أن تقضيَ على فاسد الضمير بالإخلاص؛ فيتخذه الناسُ موضعَ قدوةٍ؛ فيستدرجهم من فساد صغير، حتى إذا ألِفوه نقلهم إلى فساد كبير.

وربما قضيت على طاهر القلب بعدم الإخلاص، فكنت كمن يسعى لإطفاء سراج، والناس في حاجة إلى سُرِجٍ تنير لهم السبيل.
أيها الصائمون:

الإخلاص فضيلة في نفسه، ولا ينزل في نفس إلا حيث تنزل فضائلُ كثيرةٌ، فالإخلاص يَمُدُّ قلبَ صاحبه بقوة؛ فلا يتباطأُ أن ينهضَ للدفاع عن الحق، ولا يبالي في دفاعه إذا أصابه ما أصابه.

والإخلاصُ يشرحُ صدر صاحبه للإنفاق في بعض وجوه البر؛ فتراه يؤثرها بجانب من ماله وإن كان به خصاصة.

والإخلاص يعلم صاحبَه الزهد في عرض الدنيا؛ فلا يُخشى منه أن يناوئ الحقَّ، أو يُلْبِسَهُ بشيء من الباطل، ولو أمطر عليه أشياع الباطل فضةً أو ذهباً.

والإخلاص يحمل القاضي على تحقيق النظر في القضايا؛ فلا يفصل في قضية إلا بعد أن يتبين له الحق.

والإخلاص يوحي إلى الأستاذ أن يبذلَ جُهْدَه في إيضاح المسائل، وأن لا يبخل على الطلاب بما تسَعُهُ أفهامُهم من المباحث المفيدة،وأن يسلكَ في التدريس الأساليبَ التي تجددُ نشاطَهم للتلقي عنه.

والإخلاص
يصون التاجر عن أن يخون الذي يأتمنه في صنف البضاعة أو قيمتها، ويحمل الصانع على إتقان عمله حسب الطاقة.

والإخلاص يردع قلم الكاتب عن أن يقلب الحقائق، أو يكسوها لوناً غير لونها؛ إرضاءًا لشخص أو طائفة.
.


.
أيها الصائمون:

هذه بعض مآثر الإخلاص الذي ينميه الصوم في نفوسنا؛ ويبعثنا إلى أن نخلص لله في جميع أعمالنا، وشتى أحوالنا.

فحقيق علينا أن نربي أنفسنا ومن تحت أيدينا على فضيلة الإخلاص،وأن نلقن ناشئتنا ماذا يناله المخلص من حمدٍ وكرامة وحسن عاقبة؛ لكي يَخْرُجَ لنا رجال مخلصون يقوم كل منهم بالعمل الذي يتولاه بحزم وإتقان.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

اللهم ارزقنا الإخلاص في ما نأتي وما نذر، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 281.89 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 275.83 كيلو بايت... تم توفير 6.06 كيلو بايت...بمعدل (2.15%)]