قراءة في كتب هوفمان حول رؤيته في الحداثة وأثرها في أفول الغرب - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وما أدراك ما ناشئة الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          كف الأذى عن المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          انشراح الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          فضل آية الكرسي وتفسيرها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          المسارعة في الخيرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          أمة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          الصحبة وآدابها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          البلاغة والفصاحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          مختارات من كتاب " الكامل في التاريخ " لابن الأثير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          ماذا لو حضرت الأخلاق؟ وماذا لو غابت ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > ملتقى اخبار الشفاء والحدث والموضوعات المميزة > فلسطين والأقصى الجريح
التسجيل التعليمـــات التقويم

فلسطين والأقصى الجريح ملتقى يختص بالقضية الفلسطينية واقصانا الجريح ( تابع آخر الأخبار في غزة )

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 26-09-2022, 11:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي قراءة في كتب هوفمان حول رؤيته في الحداثة وأثرها في أفول الغرب

قراءة في كتب هوفمان حول رؤيته في الحداثة وأثرها في أفول الغرب


. د. محمد بن عبدالله السلومي



من خلال قراءتي في كتب المفكر الألماني مراد هوفمان وبعض أبحاثه ومقالاته[1]، أجد أنه لم يكتب عن الحداثة بصورة مستقلة في كُتبه بقدر ما هو تضمين عند نقده للحضارة الغربية ومؤشرات انحرافها أو أفولها (كما يرى). إذ إن رؤية هوفمان للحداثة الغربية جاءت في سياق الوصف والأثر كعوامل لأفول الغرب فقط. ولهذا وردت بعض التعريفات والمفاهيم في هذا الموضوع من غير أقوال هوفمان لمزيدٍ من الإيضاح حول النقص في التعريفات، والموضوع هنا ليس لمناقشة الحداثة ومصطلحاتها وتاريخها أو تفكيكها، أو أنواع الحداثة والتباينات الغربية حولها وسياقاتها المتنوعة وتعريفاتها الجدلية؛ لكنه عن رؤية هوفمان حول انكشاف مخاطرها على حياة الغرب وحضارته عدا عمَّن يأخذ بها من غيره.


وهوفمان في ظل كثير من السياقات الفكرية في كتبه قد ترجَّح لديه أن الغرب قد ضَلَّ الطريق السوي الصحيح في حياته الفكرية والأخلاقية التي تضبط الحياة والسلوك وتضمن له البقاء؛ إذ إن فقدان العقيدة وضعف الأخلاق مؤثران بقوة على بقاء الحضارات وأركان قوَّتها. ومع هذا الواقع الغربي فإن هوفمان يرى أن معظم الغرب المتعصب (حكوماتٍ ورجالِ دين وفكر) يغالط نفسه بغرورٍ واستعلاء حول مخاطر تخبطاته الفكرية المتكررة والمتنوعة التي يعيشها اليوم، إذ تُعدُّ من أسباب بداية انهياره وعوامل أفوله.

والكتابة هنا تُعد من نتائج القراءة والتأمل في كُتُبه وكتاباته، فهو يرى بقوة أن مآلات الحداثة وما بعد الحداثة أدخلت معظم الغرب في انحرافات وصراعات فكرية مدمِّرة لحياته وقاتلة لمستقبله؛ إذ إن موضوع الحداثة وما بعد الحداثة في مآلاتها المشتركة ما يزال يُعمِّق التخبط الفكري ويُضاعف الخواء الروحي والخلل النفسي؛ فحداثة الغرب وما يُسمى بالتنوير وما بعد الحداثة تُعَدُّ من أبرز مراحل تحولات الغرب عن دينه في تاريخه المعاصر، ولهذا فإن فهم ما ترتب على هذه التحولات مما يكشف كثيراً من جوانب القوة أو الضعف لدى الغرب لبقاء حضارته وسيادته على الأمم الأخرى وهيمنته السياسية الـمُهدَّدة بالضعف أو الزوال.

فالقراءة - مثلاً - في كتب المفكر هوفمان العشرة[2] - وهو ممن عاش حضارة الغرب وَسَبرَ أغوَارَه - جعلتني أقتنع كما هي قناعات هوفمان بأن أصل مشكلات الغرب الروحية والفكرية والأخلاقية وأسباب احتضاره وأفوله جاءت من نفسه وبأسباب ترتبط بتحولاته الفكرية؛ فهو يرى أن أساس داء الحضارة الغربيـة الـمُزمِن ناتج عن أخذها بالحداثة هروباً من الدين وضوابطه أو قيوده، وللخلاص من توجيهاته والتحرر من مُحرَّماته كما أرادوا هم. فالديانة النصرانية الـمُحرَّفة أسهمت في نشوء الحياة الإقطاعية التي سادت معظم دول الغرب مع وجود الأنظمـة الـمَلَكية الـمُستبِدَّة المتحاربة في ذلك الوقت، وهو ما أنهك اقتصادياتهم وأرواحهم، ومن ثَمَّ كانت ردود الفعل لدى الغرب تجاه دينهم المحرَّف أن يستبدلوا به ما يسمى بالحداثة!

وأنموذج واحد من أقواله يكشف شيئاً من رؤيته حول فشل حداثة الغرب مع نفسه وذاته في حاضره ومستقبله، وذلك بقوله: «إن مشروع الحداثة قد فشل فشلاً ذريعاً في مسعاه لترويض الغرائز البشرية بالعقل وحده. وبدلاً من حلول جنة العالم الآخر على كوكب الأرض نشبت حربان عالميتان مدمِّرتان واستُخدمت الأسلحة الكيماوية والذرية. وارتُكبت المجازر في محارق الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي وكوارث أخرى لا تُعد ولا تُحصى»[3].

ولأن هوفمان لم يتطرق لتعريفات الحداثة ولا لتاريخها؛ وإنما كانت كتاباته عن أثرها على حياة الغرب بحاضره ومستقبله، فقد تَطلَّب هذا بعض الإضافات العلمية هنا من غير ما كتبه هوفمان؛ لتأكيد مدى ما ذهب إليه في كتاباته وكتبه عن الحداثة أو عن مآلاتها على الغرب ذاته، وما توصَّل إليه من نتائج حول عوامل وأسباب أفول الغرب تحديداً.

وتتعزز النتائج بما يُسندها من بعض الأقوال والرؤى الأخرى مما يكشف عن معرفةٍ أكثر عن أسباب ودوافع ظهور الحداثة في الغرب، وشيء من تشخيصها ومخرجاتها، وذلك من خلال بعض المصادر من أنصار الحداثة وناقديها على السواء.

ومما ورد عن مفاهيمها المكتوبة عند أنصارها قول أحد الباحثين عنها: «يحتل مفهوم الحداثة Modernity Quote في الفكر المعاصر مكاناً بارزاً، فهو يُشير بوجه عام إلى سيرورة [أي مسار] الأشياء بعد أن كان يشير إلى جوهرها، ويفرض صورة جديدة للإنسان والعقل والهوية، تتناقض جذرياً مع ما كان سائداً في القرون الوسطى.

وبالرغم من أهمية هذا المفهوم وشيوعه في الفكر المعاصر، إلا أنه أكثر التباساً وتعقيداً؛ لِـما ينطوي عليه من غموض، وارتباطه بحقول معرفية عديدة واستخدامه في مجالات مختلفة، وتَوازي معناه مع مسيرة الحضارة الغربية الحديثة، التي أفرزت إشكاليات رافقت الحداثة وما بعدها... والحداثة هي نقيض القديم والتقليدي. فهي ليست مذهباً سياسياً أو تربوياً أو نظاماً ثقافياً واجتماعياً فحسب؛ بل هي حركة نهوض وتطوير وإبداع، هدفها تغيير أنماط التفكير والعمل والسلوك، وهي حركة تنويرية عقلانية مستمرة، هدفها تبديل النظرة الجامدة إلى الأشياء والكون والحياة إلى نظرة أكثر تفاؤلاً وحيوية»[4].

ويُعرِّف الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانط) الحداثة في سياق إجابته عن سؤال: ما الأنوار؟ فيقول: «الأنوار أن يخرج الإنسان من حالة الوصاية التي تتمثل في استخدام فكره دون توجيه من غيره». وباعتبار أن (كانط) من آباء الحداثة الغربية فإنه يؤكد «في كل أعماله أن شرط التنوير والحداثة هو الحرية... بمعنى أن العقل يجب أن يتحرر من سلطة الـمُقدَّس ورجال الكهنوت والكنيسة وأصنام العقل». والحداثة عند (تورين) باختصار كما يقول في كتابه نقد الحداثة «تَستَبدلُ فكرة الله بفكرة العلم، وتَقْصِرُ الاعتقادات الدينية على الحياة الخاصة بكل فرد»[5].

ويُعرِّف (رولان بارت) الحداثة بأنها «انفجار معرفي لم يتوصل الإنسان المعاصر إلى السيطرة عليه». ويصف لنا (جوس أورتيكا كاسيت) الحداثة قائلاً: «إن الحداثة هَدْمٌ تقدمي لكل القيم الإنسانية التي كانت سائدة في الأدب الرومانسي والطبيعي، وإنها لا تُعيد صياغة الشكل فقط، بل تأخذ الفن إلى ظُلُمات الفوضى واليأس»[6].

وهـذه التعريفات - وغيرها كثيـر - جاءت من بعض ما ورد علـى ألسنة أهـل الحـداثة من الغربيين أنفسهم أو من أنصـارهم، ومن أتباعهم على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم.

ومما يُعزِّز هذه الأقوال الغربية عن حقيقة الحداثة ويسهم في إيضاحها أكثر أقوالُ بعض الباحثين من المسلمين حول مفاهيمها ودلالاتها ومآلاتها، ومن ذلك:

أن الحداثة فكرة لا تقتصر على الجانب الأدبي فقط كما يتصور بعض الناس؛ إنما هي نظرية وفلسفة وأيديولوجية تعم وتشمل كافة الجوانب الحياتية اجتماعية كانت أم معرفية أم صناعية أم سياسية أم غيرها. ومن ثَمَّ فالحداثيون يُقدِّمون تصوراً هدَّاماً لحياة الناس يتصادم مع الهدف من وجود هذا الإنسان والكون والحياة، وهذا التصور الحداثي الغربي اقتحم جميع مناحي الحياة.

أن الأساس الذي تقوم عليه فكرة الحداثة هو العقل والعقلانية التي تَهدِر معها كلَّ ما لا يدركه العقل. فالعقل المتحرر من كل سلطان هو معيار أهل الحداثة، بل هو السلطان الحاكم على الأشياء.

الحداثة مُعَاكَسَةٌ مع الماضي وانقطاع عنه. فهي انفصال للحديث عن القديم، بل هي ثورة على كل قديم مقدس أو غير مقدس.

أنها الحرية المطلقة التي لا يقف في طريقها ضابط، ولا يحكمها شيء.

أن الحداثة لا تتحقق إلا بحركة الإنسان حراً طليقاً دون وصاية عليه من أي جهة.

أنها فكرة ضد الله والغيب. وفي الوقت نفسه لا تتحقق إلا بعزل الدين عن شؤون الحياة، وقصره على الشؤون الخاصة بكل فرد[7].

وأقول معلقاً على ما سبق: لقد ظللتُ مدةً من الزمن أقرأ محاولاً معرفة سِرِّ إعجاب بعض المثقفين وأشباههم من المسلمين بالحداثة الغربية وتباهيهم بالمصطلح ومحاولة إسقاطه على الدين الإسلامي وتراثه وثقافته، فأدركت بقناعةٍ علمية أن كثيراً منهم يجهل هذا المصطلح وظروف نشوئه ومآلات الأخذ به. وربما أن هؤلاء يُرددون هذا المصطلح دون وعي بحقيقته، بل عجبتُ كثيراً من نسيانهم وجهلهم، أو تناسيهم وتجاهلهم لمصطلحات التجديد والاجتهاد في الدين الإسلامي وما فيهما من غُنية عن كلمة الحداثة، عدا عن مدلولاتها ومفاهيمها الغربية المرتبطة بكل ما يتعارض مع الحقيقة واليقين في الإسلام!

وأرى أنه إذا جاز للمسلمين استخدام هذا المصطلح في جانبه اللغوي المجرد من أيديولوجيته المنحرفة، فإن على هؤلاء أن يعوا حقيقة أن الدين الإسلامي بعقيدته وتشريعاته وقيمه هو في حقيقته - أصلاً - تحديث وتجديد وإصلاح لمسار الديانتين اليهودية والنصرانية اللتين ضلتا الطريق، وكفى بإيضاح القرآن ذلك بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْـمُسْتَقِيمَ 6 صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْـمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: ٦ - ٧].

وربما يكون الاستغناء عن المصطلح بمفاهيمه المستوردة بأن تكون الحداثة والتحديث في الإسلام بإحياء الاجتهاد الشرعي الفقهي للمسائل الشرعية كما يرى بعض أهل الفكر، وقد دعا لهذا هوفمان من خلال جهود علماء يمتلكون أدوات التجديد والاجتهاد. كما يمكن أن تكون هذه الحداثة عند القبول اللفظي للمصطلح منهج تجديد وتحديث صحيح وسليم للمسلم. لكن لا يمكن لحداثة مُستَورَدة متصفة بالصفات سابقة الذكر أن تضاهيَ أو تعلوَ على دين الإسلام، وما فيه من الإيمان واليقين بحقيقة الحياة الدنيا والآخرة، وما في هذا الدين من الثواب والعقاب الأخروي الرادع عن الظلم والعدوان على البشرية، وبما في هذا الإيمان بالثواب والعقاب مما يُصلح حياة البشرية ويهديها إلى مقاصد الحياة وغاياتها بكل وسائل التجديد والتحديث المشروعة.

يقول هوفمان عن جذور أزمة الحداثة ومأساة التنوير وعن البديل المنافس: «إن جذور الأزمة الأخلاقية الحالية في الغرب تعود إلى 250 عاماً مضت. فإن عملية الشفاء منها تبدأ بنقد جذري لعقلانية الحداثة، وما خَلَقَته من دين بديل. فلن يكون هناك أمل في الشفاء إلا إذا نجحنا في تحرير الغرب من وهم الحداثة التي تحكمه؛ لأننا في هذه الحالة فقط ننجح في وقف عملية التسميم الذاتي العقلاني، التي يُمارسها الغرب ليتمكن من إعادة صلته بالغيبيات، وأن يستعيد المقدسُ والإلهي مكانته في دائرة اهتمامه، ويكون هذا أمام عينية. إذاً فالأمر يتطلب إعادة الاعتبار للدين كردِّ فعل عقلاني على حاجة الإنسانية التي لا بد أن تبدأ بوضع العلوم التطبيقية في مكانها، وليس كبديل عن الدين»[8].

ويؤكد هوفمان أن الإسلام بديل حضاري والاجتهاد الشرعي فيه بديل عن أوهام الحداثة، وعن هذا قال: «إنني أثق في قدرة الإسلام على النجاح في أن يَستبدِل بالنموذج القائم نموذجه القادر على تجاوز فشل الحداثة، وذلك بالرغم من القصور بين أتباعه»[9].

ويكرر المفكر هوفمان القول حول الحداثة وأوهامها، والتنوير ومأساته كما هي تعبيراته في كثيرٍ من كُتبه ودراساته: أن التحديث الحقيقي بالنسبة للمسلمين إنما يكون بتعزيز الاجتهاد الشرعي فهو البديل المنافس، حيث الإيمان بالعلم دون تعارض خلافاً للغرب مع دينه المحرَّف، وحيث عدم التناقض بين الإيمان والعلم، كما هي الحالة الغربية مع كنائسها ودينها النصراني. وهي الحالة التي قادت الغرب إلى ما يُسمَّى حركة التنوير والحداثة خروجاً من جمود ديانتهم واستبدال رجال دينهم، وهذه الحالة في الغرب هي التي انتهت به إلى الشك والإلحاد والتنقل باضطراب وقلق بين المذاهب الفكرية والنظريات الفلسفية! وكفى أن الحداثة في الغرب ترتبط بتقديس العقل ونبذ الدين والموروث، وربما السخرية من النصوص أيّاً كانت.

ويرى بعض الباحثين من المسلمين كما يرى هوفمان أن البديل المنافس لمصطلح الحداثة هو الاجتهاد الشرعي في الإسلام. والاجتهاد هو المصطلح الذي يُعبِّر عن احتياج المسلمين في جميع عصورهم. ولهذا فالحداثة ومفهومها من منظور إسلامي واعٍ - عند القبول بهذا المصطلح اللفظي فقط - هي اعتبار الإسلام دين التجديد والاجتهاد الدائم. ومن ثَمَّ فالإسلام في حقيقته ثورة على الجمود والتقليد والخرافات والأساطير في الأديان المحرَّفة والأفكار المنحرفة، بل إنه دين إنقاذ وإصلاح لمسار البشرية من أساطير النصرانية وخرافاتها، ومن تحريف اليهودية وضلالها {غَيْرِ الْـمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: ٧]. وكفى بهذا الإصلاح الديني بالإسلام حداثةً وتطوراً وتقدُّماً. وعن هذا الاجتهاد في تشريعات الإسلام كَتَبَ أحد الباحثين، ومما قال: «الإسلام عن طريق الاجتهاد هو أكبر دين حداثي؛ لأنه يُعطي الفرع شرعية الأصل، ويعترف بالزمان والمكان وبالتطور، وإن إجماع كل عصر غير مُلزِم للعصر القادم... لدينا الاجتهاد وهو اللفظ الذي أُفضِّله، ولا أُفضِّل لفظ الحداثة، فحداثتي من الداخل»[10].

ولهذا فإنني أرى أنه لا يمكن لحداثةٍ تسعى لنفي الغيب والتحرر من الإيمان وَرِقِّه - كما يرون - وتعمل على إطلاق حرية التحقق والاختيار الإنساني مع غياب اليقين، إنها مع هذه الحالة سوف تتعاطى بفهم صحيح مع حقيقة الإنسان وحقيقة الحياة ومآلاتها والكون ووظائفه والهدف من الوجود، وإذا كانت حداثة الغرب وانقلابهم على دينهم بسبب ما طرأ على دينهم من التحريف، وما فيه من تصادمٍ مع العلم والمعرفة والعدالة؛ فإن الأمر مختلف كلَّ الاختلاف مع الإسلام الذي يدعو إلى العلم والمعرفة وتحقيق العدالة.

وأرى كذلك أن التجديد في الإسلام الذي ورد في الأحاديث النبوية من لوازمه الاجتهاد الشرعي، وأن حركات التجديد والمجددين عبر عصور التاريخ الإسلامي وما فيها من إحياء للاجتهاد الفقهي؛ تَفُوقُ مفاهيم الحداثة الغربية في فاعليتها المنضبطة بضوابط الشريعة، بل بمحركاتها القوية من الحث على العلم والمعرفة والاحتساب بمفاهيمه الواسعة، فهو دين يُحدِّث نفسه بنفسه من خلال تشريعاته، ومن ذلك ما ورد من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الله يبعثُ لهذه الأمة عَلَى رَأْسِ كلِّ مائةِ سَنَة مَن يجدد لها دينها»[11]، والتجديد يكون بالأفراد وبالجماعات العلمية والدعوية والحركات الإصلاحية الشرعية.

ولهذه الأدلة والدلالات والمفاهيم يتأكد على دعاة الحداثة والليبرالية الجانحة من العرب والمسلمين أن يتعمقوا في دراسة وفهم الحداثة الغربية. فربما أنهم لم يقرؤوا عنها ما يكفي، أو لم يفهموها كما ينبغي، ليأتي بعد ذلك تحرير المصطلح عن حداثة الغرب. فاستيراد مصطلح الحداثة لدين سماوي حق، ووحي حق يتوافق مع العلم الصحيح والعقل السليم يُعدُّ ضرباً من العبث. ولا يمكن لمؤمنين بالقرآن قبول الحداثة بصورتها وتاريخها وهويتها الغربية، وما في قبولها من إلغاءٍ أو إضعافٍ لأصالة الفكر والثقافة الإسلامية. ولا يمكن قبول الحداثة لتكون سُلَّماً للتغريب الفكـري والثقافي المغلَّف بالتحديث والتنوير. وهي في حقيقتها ظلامية وحقد على الموروث، لا سيما أن الحداثة المستوردَة في غالب أحوالها لدى المتبنين لها من المسلمين أو من المحسوبين على الإسلام تتسم بالتمرد على الدين وضوابطه من أرباب التطرف والغلو الليبرالي، القائم على الانفصام عن ثقافة أمة الإسلام الأساسية وعقيدتها وموروثها العلمي الصحيح.

هوفمان ورؤيته حول أبرز قيم الحضارة الغربية:

الحديث في هذا الموضوع ليس قراءة نقدية لقيم الغرب وحضارته المادية فهذا موضوع آخر كبير؛ لكنه عرض لرؤية المفكر الألماني هوفمان رجل السياسة والفكر حول أبرز القيم التي تحدَّث حولها بعض المزايدات[12] بين الغرب والشرق، وهذه القراءة لا تعدو أن تكون نتائج في قراءة أبرز كُتُبه ومقالاته، بعيداً عن التحليل أو الردود والاستدراك سوى ما ذكره هوفمان نفسه عن منافسة الإسلام بعقيدته وتشريعاته حول هذه القيم بمقارنات تستوجب النظر والتأمل. ومن أبرز هذه القيم ما يتعلق بالحقوق عامة والديمقراطية بصورةٍ خاصة.

وهوفمان بمنهجيته النقدية لحضارة الغرب غالباً ما يضيف بعض المقارنات التي ربما يَعدُّها وسيلة مثلى لمعرفةٍ أكثر عن الحقيقة بين حضارة الغرب المادية المعاصرة وما فيها من الشرك وتقديس العقل، وبين ما يمتلكه الإسلام من عقيدة التوحيد وما فيه من علاقة مُثلى بين المادة والروح وبين الإيمان والعقل.

وليس الموضوع هنا عن هذه الفروقات الكبيرة بقدر ما هو عن قضايا محدَّدة هي موضِع مزايدات الغرب المتعصب بسبب أن الإسلام والغرب حضارتان متنافستان في معركة البقاء والسيادة وتقديم الأفضل للبشرية، بل في أصول وفروع فكرية. فالغرب المتعصب - وليس المتسامح - يتطاول بكبرياء واستعلاء مُشَاهَد على عموم المجتمعات العالمية، وعلى المسلمين خاصة بواقعهم المتخلف الذي لا يمثل حضارة الإسلام وتشريعاته. بل إن الغرب يَضَع عموم المسلمين في موقف دفاعي منهزم حول المواضيع الثلاثة المتكررة بالطرح، وهي: (موضوع حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق المرأة بشكل خاص، وموضوع الديمقراطية). والغرب بهذه المزايدات على شيء كثير من الصواب مقارنةً بواقع معظم دول العرب والمسلمين، لكنه غير مصيب بحق الإسلام وتشريعاته الحقوقية حول هذه القضايا. وقد أَكثَرَ المفكر الألماني مراد هوفمان من طرح هذه الموضوعات في مجموعة من كتبه، بل إنه خصص ورقة علمية حول هذه القيم وما فيها من مزايدات، كما أنه عمل بالمقارنات مع تشريعات الإسلام حسب منهجيته حول هذه القيم الثلاث في الدين الإسلامي[13]:

أولاً: حقوق الإنسان

تنتاب كثيراً من المسلمين الدهشةُ والذهول أثناء أي حوار حول حقوق الإنسان، بأن شركاءهم الغربيين في الحوار يعتقدون بشكل جدي أنهم هم من أَوجَد حقوق الإنسان! أو أن لهم حق الملكية الفكرية الذي لا نزاع فيه! ثم بأن حقوق الإنسان لا تُحتَرم إلا في الغرب، ولا تُحتَرم قط في العالم الإسلامي!

ويرى هوفمان في أكثر من واحد من أبحاثه[14] أن على المعنيين بالحوارات أن يُوجِّهوا للشركاء من الغربيين في أي حوار الأسئلة التالية حول الانتهاكات في هذا العصر تحديداً:

هل ثَمَّة خروقات لحقوق الإنسان كمَّاً ونوعاً أسوأ من الخرق الجماعي الرسمي لحقوق الإنسان في الحربين العالميتين في أوروبا، حيث استُعملَت الأسلحة الكيماوية والذرية، ناهيك عن الإرهاب الستاليني، وعمليات الإبادة الآلية لليهود والمعاقين عقلياً والمثليين والغجر وأصحاب الآراء السياسية الأخرى في الهولوكوست؟ ثم ماذا بعد وجود هيئة الأمم المتحدة وصدور الإعلان العالمي عن ميثاق حقوق الإنسان المعاصر، وتلازم هذا مع حالات التمييز العنصري وعمليات الإبادة العرقية في البوسنة وكوسوفو في عصر الحضارة؟ وهل حدثت أيٌّ من هذه الجرائم والبشاعات خارج إطار المدنية الغربية ودولها وحضارتها؟ أو هل حدثت مثل هذه الانتهاكات الكبرى بهذا الحجم من العدوانية وعدم التسامح في أي بلد في المنطقة الإسلامية؟

بالرغم من أن الإجابة الصادقة عن هذه الأسئلة يجب أن تكون بالنفي، يلاحظ المرء أن الشركاء الغربيين في الحوار يتبجحون تكبُّراً - بل يُعاقِبون في حال تطلَّب الأمر ذلك بقطع مساعدات التنمية - ويُطالِبون العالم بالأخذ بمفهومهم الخاص (الأوروبي الأمريكي) لحقوق الإنسان. وهكذا يجري استغلال مسألة حقوق الإنسان وتسييسها كهراوة للتهديد مرفوعة للضغط على الآخرين أحياناً، وابتزازهم أحياناً أخرى!

ويؤكد هوفمان ويُكرِّر أن الغرب سواء كان الأمر يتعلق بالاتحاد السوفييتي المندثر، أم يتعلق بالولايات المتحدة فإنه بات واضحاً في كل الأحوال أن قائمة حقوق الإنسان لم تكن في غالب الأحيان أكثر من قطعة ورق. وما على المرء سوى سؤال السود في أمريكا أو الهنود الحمر الأمريكيين لمعرفة الأمر. وعلى كل الأحوال فإنه لا جدل في أن البشرية لم تتمكن حتى هذه اللحظة قط من إيجاد (نظام قانون طبيعي) ناتجٍ فقط عن العمل الفكري المجرد صالحٍ للجميع، ومعترَفٍ به من قبل الجميع، والكل يشعر بأنه مُلتزم به[15].

وهوفمان يرى أن الحقيقة الأكثر وضوحاً عن هذه الحقوق في معظم البلدان الغربية أنها غير مَصُونَة بالغرب ذاته بشكل صحيح. فهي في الغالب أوراق على أوراق تتكدس. وكفى بها أنها جهد بشري غائب عنها الوحي الإلهي، ثم كفى بها عيباً وقدحاً أن كل مواثيق حقوق الإنسان لم تتطرق لله الخالق، الذي مَنح هذه الحقوق وشرَّع لها بعدالة سماوية! وكفى بها أن الفهم الصحيح للإسلام عند أي مسلم مؤمن أو منصف غير مسلم يعترف بأن الإسلام قائم في الأساس على أنه نظام متكامل وشامل لكل حقوق الإنسان في الحياة!

وأقول: إن عدم التطبيق عند المسلمين أو دولهم وحكوماتهم في عصورهم المتأخرة لا يعني مطلقاً أن الإسلام مُتَّهم بالقصور، بقدر ما هو قصور المسلمين وإخفاقهم بعدم وضعهم صياغة قانونية للحقوق عامة. ومن أبرزها وأهمها توضيح حقوق الله على عباده التي فيها ضمانات السماحة وعدم العدوانية على الآخرين من البشر. وفيها الضوابط الغيبية للسلوك من تقوى الله وطلب الثواب والخوف من العقاب، وكذلك إبراز ضمانات تحقيق حقوق الإنسان والمرأة، وحقوق أهل الذمة والأقليات، وحقوق الحريات، وحق الحياة والرزق، وحقوق الفقراء، والحقوق الزوجية وذوي الأرحام، وغيرها من الحقوق. والقائمة تطول ولا تنتهي منذ أكثر من 1400 عام حول النصوص الحقوقية في القرآن والسنة!

ولا مجال للمزايدة على الإسلام في ميادين التشريعات وما يمتلكه الإسلام من رصيد حقوقي لا يقارَن بغيره بشموله وكماله وما فيه من جوانب الثواب والعقاب الدنيوي والأخروي. ولهذا فإن الإستراتيجية المثلى للمسلمين تتطلب العمل والبحث الجاد في استنباط وتنظيم قيم حقوق الإنسان، ضمن المنهج الإسلامي كأنظمة وتشريعات تُقدَّم للبشرية، وذلك من القرآن والسنة.

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 130.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 128.80 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (1.35%)]