هل سمعت ببنوك الوقت؟!

[ابوالوليد المسلم]

هل سمعت ببنوك الوقت؟!

اعلم يا بني، أنَّ الأيامَ تُبسط ساعات، والساعات تُبسَطُ أنفاسًا، وكلُّ نفَسٍ خزانة، فاحذر أن يذهب نفس بغير شيء، فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم! وانظر كلَّ ساعةٍ مِن ساعاتك بماذا تذهب، وعَوِّدها أشرَفَ ما يكونُ مِن العمل وأحسنه، وقد اختلفت طرائق الناس وأساليبهم في كيفية استغلال الأوقات، إلاّ أنه من النوازل المعاصرة التي قلَّما يتطرق إليها في ميدان الكتابة الفقهية ما يُعرف بـ(بنوك الوقت) وفي هذه المقالة أحببتُ التطرق إلى التعريف بهذه البنوك ثم بيان التصور الفقهي الذي يمكن أن يُبنى عليه الحكم الفقهي لهذه البنوك.

1 - التعريف ببنوك الوقت

من البنوك الحديثة نسبيًا التي تستهدف الحث على المبادرات الاجتماعية وتبادل المنافع والخدمات بين الأشخاص، ما يعرف بـ(بنوك الوقت) ؛ حيث تمتاز بأنها تجعل من الوقت وحدات تكون بمنزلة العملات؛ فمثلاً: من يبذل من وقته ساعة لخدمة عميل من عملاء البنك، سواء في تمريض أم في تعليم أم في زراعة حديقة أم غير ذلك من الأمثلة - فإنه يكون بذلك قد اكتسب وحدةً زمنية تودع في حسابه، ومن ثم له الحق في أن يشتري خدمةً أخرى في أي وقت.

2 - نشأة بنوك الوقت وتطورها

تعود نشأة هذا النوع من البنوك إلى فكرة أطلقتها ربة بيت يابانية، تدعى (تيروكو ميزوشيما) في الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت تستهدف تعزيز الروابط المجتمعية، بعد أن عاشت حياة صعبة وقاسية جراء الحرب العالمية الثانية، ثم استطاعت في عام 1973م أن تؤسس أول بنك للوقت في العالم في مدينة أوساكا اليابانية باسم «بنك العمل التطوعي»، ثم أصبح يسمى (شبكة العمل التطوعي).
ثم في منتصف الثمانينيات قام أستاذ القانون الأمريكي (إدجار ستيوارت كان) (Edgar S. Cahn) بإعداد أول بنك للوقت وتنفيذه في أمريكا في مدينة ميامي بولاية فلوريدا؛ مما أسهم في إعادة بناء مجموعة من العلاقات الاجتماعية.

نشأة بنوك الوقت في الصين وتطورها

أما في الصين فقد مرت نشأة بنوك الوقت وتطورها على مراحل:
1- المرحلة الأولى بين عامي 1998 - 2003م عندما كان الشكل الرئيسي لتبادل الخدمات يتم من خلال لجان شعبية في (شنغهاي)، ثم تبعتها مناطق أخرى، مثل: (بكين وقوانغتشو) وغيرها، وتستخدم الدفاتر لتسجيل وقت الخدمة التي يبذلها الطرف الأول ومحتواها ثم يكون له الحق لاحقاً أن يتبادل الخدمة المتاحة في المستقبل.
2- المرحلة الثانية بين عامي 2003 - 2008م عندما حدث ركود في تطور عمل اللجان؛ بسبب عدم وجود المعايير المنظمة بطريقة كافية وعدم كفاية أعداد المشاركين.
3- المرحلة الثالثة ما بعد 2008م؛ حيث وقعت أحداث عامة زادت معها الروح التطوعية في المجتمع الصيني، كالبطولات الأولمبية وزلزال ونتشوان- ثم بدأت الحكومة بالمشاركة في تنظيم هذه الأعمال دون أن تخضع لسيطرتها فكان أول بنوك الوقت هو (Jinyang Time Bank).

برنامج يقوم على مفهوم بنك الوقت

وفي عام 2012م أنشأت وزارة الصحة السويسرية برنامجاً يعتمد على مفهوم بنك الوقت (Time Ban) لمساعدة المسنين مع تقسيم الخدمات إلى نوعين:
1- آنية تُبادل بفارق زمني قد يكون أياما أو أسابيع أو شهورا.
2- توفيرية تعتمد على مبادلة الوقت بفارق زمني قد يصل لسنوات.
كما بدأت قرابة 34 دولة، كثير منها تقع في القارة الأوروبية بتطبيق هذا المفهوم.
3 - الجوانب الفقهية التي يمكن بناء فكرة بنوك الوقت عليها
بعد أن تعرفنا على طبيعة بنوك الوقت وتاريخها، نأتي إلى الجانب المقصود من كتابة هذه المقالة، وهو حول حقيقة هذه البنوك وتكييفها الفقهي، والمتأمل في ذلك سيجد أنَّ عمل بنوك الوقت يدور حول مبادلة منفعة أو خدمة مُعَجَّلة، مقابل منفعة أو خدمة أخرى مؤجلة، كما يعد التعاقد فيها من قبيل العقود اللازمة، وهذه الأمور تجعل التكييف الفقهي الأقرب - والله أعلم - لهذه البنوك أنها من باب (إجارة الأشخاص)، وفيما يلي تطرُّقٌ لهذه الجوانب بشيء التفصيل الموجز:
1- هل المنافع أموال؟
يرى جمهور الفقهاء أنَّ المنافع والخدمات التي يقدمها الأشخاص تعد من قبيل الأموال، وأنَّ الأموال لا تقتصر فقط على النقود والعملات ولا على الأعيان كالمنازل والسِّلَع، يقول ابن المُنَجَّى: «منافعُ الحرِّ مالٌ، بدليل صحة مقابلتها بالمال في باب الإجارة». اهـ، ويقول ابن قدامة: «كلُّ ما جازَ ثَمَنًا فى البَيْعِ، أو أجْرَةً فى الإِجَارَةِ، من العَيْنِ والدَّيْنِ، والحالِّ والمُؤَجَّلِ، والقليلِ والكثيرِ، ‌ومنافِعِ ‌الحُرِّ والعَبْدِ وغيرِهِما، جاز أن يكونَ صَدَاقًا». اهـ. ثم ناقشَ ابنُ قدامة قول الحنفية الذين لا يرون منافع الأشخاص وخدماتهم من قبيل الأموال؛ فاستدلَّ أولاً بقول اللَّه -تعالى-: {إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِى ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ثم قال: «ولأنَّها مَنْفَعةٌ يجوزُ العِوَضُ عنها فى الإِجَارةِ...، وتجوزُ المُعاوَضةُ عنها وبها، ثم إن لم تَكُنْ مالًا، فقد أُجْرِيَتْ مُجْرَى المالِ فى هذا». اهـ
2- هل يجوز أن تكون أُجرَة الأجير خدمةً أخرى؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «العقود التي فيها نوعُ معاوضَةٍ...، سواء كانت مالاً بمالٍ كالبيع، أم كانت منفعةً بمالٍ كالإجارة والجعالة، أم كانت ‌منفعةً ‌بمنفعةٍ كالتعاون والتناصر ونحو ذلك، تنقسم أربعة أقسام»، ثم لما شرَع في بيان هذه الأقسام ذكر القسم الأول فقال: «فإنها إما أن تكون مباحة من الجانبين: كالبيع والإجارة والتعاون على البر والتقوى». اهـ. والتعاون على خدمة المسنين أو الزراعة أو التعليم داخل - في الجملة - في معنى البر والتقوى.
3- هل يجوز كون الأُجرة مؤجلة ؟
قال ابن قدامة -رحمه الله-: «وتجب الأجرة بنفس العقد إلا أن ‌يتفقا ‌على ‌تأخيرها». اهـ وقال ابن المنجَّى: «وأمّا كون الأجرة لا تجب بنفس العقد إذا اتفقا على تأخيرها فـ: كما لو اتفقا على تأخير الثمن في البيع». اهـ، وقال المرداوي: «يجوزُ تأجيلُ الأجْرَةِ مُطْلَقًا على الصَّحيحِ مِنَ المذهبِ، وعليه الأصحابُ». اهـ
4- هل تعد الأجرة في هذه الحال أجرةً مجهولة؟
من المعلوم أنَّ الفقهاء متفقون على اشتراط معرفة الأجرة، وأجاز عددٌ أن تكون الأجرة مما يؤول إلى العلم، وعليه فلا يَرِدُ على ما نحن بصدده كون الخدمة الثانية المؤجلة تعد مجهولةً؛ فإنَّ التعامل وفقاً لآليات عمل تلك البنوك هو تعاملٌ محدد بخدمات محددة، وهي وإن لم يحددها المتعاقد ويعيِّنها بعينها وقت العقد مع البنك فإنها مما يَؤُول إلى العلم، والتعامل بما يؤول إلى العلم على وجهٍ لا يؤدِّي إلى المنازعةِ والاختلافِ بين العاقدين قد صرَّح عددٌ من أهل العلم بجوازه من خلال ما ذكروه من أمثلة.



اعداد: محمد أحمد العباد