|
ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
تأملات !
تأملات ! للأستاذ محمد أحمد الغمراوي ضلَّت الإنسانية عن ربها وعبدت المال والقوة ، ودانت لهما بالطلب والحرص والإكبار ؛ وفي سبيل المال والقوة نُسي كل شيء : من دين أو فضيلة أو مبدأ ، وفعل كل شيء من : ظلم وقطيعة ونَكث . يخدع كلٌّ في السِّلم كما يتخادع أهل الحرب ، كأن أيام الناس في هذه المدنية حرب كلها ولكن بسلاح مختلف . فلحرب السلم سلاحها وفنونها وخططها ، كما لحرب الدبابة والغواصة والطيارة . * * * ففي السِّلم يَتَحارب الناس وتتحارب الأمم بالتجارة وحواجزها الجمركية ، وبالصناعة موادها الخام ، ثم بالدعاية والسياسة ؛ وفي سبيل ذلك يُسَخَّر الأدب بفنونه والعلم بفروعه ، تتنافس في ذلك الأمم ، وتتنافس في ذلك الطوائف والأفراد داخل كل أمة ؛ حتى الفضائل جعلت سلاحًا وسبيلاً إلى الغلَب . فالتاجر إن صدق يصدق لا لأن الكذب يَزرى ، أو لأنه مَنْهِيٌّ عنه في الدين ، ولكن لأن الصدق يجزئ ويريح ، ولو وجد في الكذب ربحًا لكذب . والأمم تتعاهد ، فإن وجدت في الوفاء ربحًا وَفت ، وإن وجدت الربح في النكث نكثت . فالمال هو البنية ، والقوة هي الغاية ، والشهوة هي السائق ، والهوى هو الغالب ، كأن قد غلب على هذه المدنية في معاملاتها روح الأحراج وقانون الأدغال ؛ وما يقول (( دروين )) إنه كان غالبًا على أنواع الحيوان في أحقاب النشوء . * * * وبل للإنسان من نفسه ومن أخيه الإنسان حين يضل كلٌّ عن ربه . فلو لم يكن للدين ضرورة ، لجعله حال الناس اليوم ضرورة ؛ ولو لم يقم على وجوب التدين برهان ، لكان ما آل إليه أمر الناس بعد ترك التدين هو البرهان . إلا أن الإنسان يذكر وينسى ، ويؤمن ويكفر ، ويطيع ويعصى ، حسب الظروف . في الشدة يلجأ إلى الله ، وفي البلاء يُكثر من الدعاء ، ويستغفر ربه وينيب : يفعل ذلك الأفراد ، ويفعل ذلك الأمم ، حتى إذا استجاب الله وفرَّج الكرب وكَشَف البلاء ، نسى الإنسان ونسيت الأمم ما كانوا يدعون الله من أجله ، وجعلوا لله أندادًا ، وانقلبوا له أضدادًا ، وعادوا إلى آلهتهم من الشهوة والقوة والمال ، كأن لم يكن بلاء وكربة ، وكأن لم يكن دعاء وتوبة ؛ وجعلوا يضحكون من خوفهم الذي كان ، وجزموا بأن أسبابه لن تعود ! . لقد كانت الحرب الماضية ، وجاءت الناس بكرب لم يروا مثله من قبل ، فجأر الناس إلى الله وجأرت الأمم ، وجعلت تنذر النذور ، وتبذر الوعود والعهود ، وتقيم الصلوات العامة ، تأمر بها الحكومات ، ويركع فيها الحكام والملوك . ثم جاء النصر وجاء السِّلم ، فذهبت النذور هباء ، ولم تلق الوعود ولا العهود وفاء ؛ وكل ما كان هنالك أن جيء بأسماء جديدة أطلقت على مسميات قديمة ، فذهب الاستعمار وجاء الانتداب ، وذهبت المحالفات وجاءت عُصبة الأمم ، وعاد الناس وعادت الأمم تبتغي الكسب وتبتغي المال والقوة ، حتى كان من الأمم المنتجة من كانت تحرق ما زاد من غلات أرضها لتبيع الباقي من الأمم الأخرى بثمن أعلى ، وانحدر المال إلى خزائن بعض الأمم ، كما ينحدر الماء إلى مهابطه من الأرض ، فجفت بقاع منه وغرقت بقاع ، وجاءت أمم وتخمت أمم ، وانقلبت الأوضاع واشتد النزاع ، وخسرت الإنسانية السلم فخسرت بذلك الحرب قبله ، إذ قامت هذه الحرب . قامت هذه الحرب فماذا كان ، كان الذي يعرف كل إنسان أنه كان في الحرب الماضية : فالنذور تنذر ، والوعود تبدل ، والصلوات العامة تقام ؛ وأصبحت الأمم المتمدينة لا ترى أهنأ من الأمن ، واعتزمت في مستقبلها أن تتناصف في قِسمة المواد الخام لتعيش إلى الأبد في سلام ! * * * إنها مدنية مجنونة هذه التي تنسى الله وتعصاه في الرخاء بعد أن كشف عنها البلاء ، حتى إذا أخذها بنكثها وإثمها جأرت إليه تسأله النجاة ولم يكن لديها ما تتعهد به للناس أو تنذره لله إلا أن تتعايش في سلام ، وتتناصف في المواد الخام . لقد أفلست المدنية الغربية وحقت عليها ما حق على المدنيات الخاطبة قبلها . وها هي تنتسف بقوتها الكامنة التي منَّ الله عليها فلم تطعه فيها . ها هي حين فَسَقت عن أمر الله تنفجر بما اختزنت من علم ومال حولتهما فيما حولت قنابل وطرابيد تلقى من الجو وتنثر في البر والبحر على المحارب وغير المحارب على السواء { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود :102] . إنها مدنية كتلك القرية التي ضربها الله مثلا في القرآن { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } [ النحل : 112 ] . * * * إنها مدنية مسيحية اسمًا لكنها لم تقم قواعدها على نصرانية ولا إسلام . فنصرانية عيسى صلوات الله عليه ليس فيها حرب ولا سلاح ولا استعمار . والحرب في الإسلام لا تكون في سبيل الفرد ولا في سبيل الأمة ولا في سبيل الجنس ، ولكن في سبيل الله ليكون الحكم في الأرض لله . إن الاستعمار الذي ابتدعته مدنية الغرب ليس من الإسلام في شيء ولا من حكم الله في شيء . فاستغلال القوي الضعيف فردا كان أو أمة ينكره الإسلام كل الإنكار وتحكم أمة في أمه في الهوى لا يعرف الإسلام ولم يشرعه الله . وعلو أمة على أمة وشعب على شعب أو جنس على جنس حرمه الله الذي سوى بين الناس وساوى بين الأجناس ولم يجعل لأحد على أحد فضلا إلا بالتقوى : تقوي الله الذي خلق الأحمر والأصفر والأبيض والأسود . ففيما استعلاء فريق على فريق ! { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ الحجرات : 13] . * * * لقد أعز الله الإنسانية أيما إعزاز حين جعلها خاضعة له وحده سبحانه في الحكم ، ليس لأحد على أحد سبيل إلا بحق الله طِبْق دين الله الذي بيَّنة للناس واضح المعالم ظاهر الحدود في كتابه الكريم الذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً في حياته الكريمة التي مثلت حياة الأمم وحياة الأفراد كيف ينبغي أن تكون . لقد علم الله أن هذه المدنية المعقدة ستكون ، وأن الإنسانية ستنقلب في أطوارها التي تقلبت فيها ، وأنها سوف تفتح لها أبواب العلم ، وأن هذا العلم سيَفتح لها فنون من القوة ، وأن هذه القوة ستسلمها إلى صفوف من المشكلات التي لا تحل حلا مرضيا موفقا إلا طبق ما سنَّ الله للفطرة من سنن ، وللنفس البشرية من قوانين ، عرفت الإنسانية بعضها ، وجهلت منها أكثرت ما عرفت . فلو أن الإنسانية وكِلَت إلى نفسها وعلمها وجهدها وحده ما خرجت ، وما كان أن تخرج من ورطتها التي هي لابد واقعة فيها بتعمقها للعلم الطبيعي الذي يفتح لها كنوز الأرض من غير أن يريها طريق العدل في استعمالها . فأراد الله سبحانه أن يتم نعمته على الإنسان بأن يجمع له بين القوة وبين الهدى في استعمال القوة ، فأتاه العلم وقبل أن يؤتيه العلم أنزل عليه الكتاب والحكمة ليريَه كيف يتقى شر العلم وينتقي خيره بالوقوف في استعماله عند الحدود التي حدها الله فاطر الإنسان وفاطر القوة التي سخرها بالعلم للإنسان . فإذا كان من عجيب صنع الله للإنسان أن وهبه العقل الذي استفتح به كنوز العلم ، فإن أعجب من ذلك أن تفضَّل سبحانه فانزل له الدين ليقيه ما لا يمكن العقل ولا العلم أن يكفوه إياه من الشرور والأخطار . * * * أُقسم أن نعمة الله على الناس في الدين أعجب وأكبر من نعمته عليهم بالشمس أو بالقمر أو بما خلق في الأرض من كائنات ينعم بها الإنسان أو لا ينعم ، شكورا أو غير شكور . إن هذه الكائنات خلق من خلق الله ، والإنسان واحد منها يقوى أمام بعض ويضعف إزاء بعض ، ينتفع بها أحيانا ، لكن الدين خير كله ونفع كله وسَعادة صرفة لمن يتقبله مؤمنًا ، ويعمل به مسلمًا . واقسم لو سخرت العلوم في هذه الكائنات كلها للإنسان وكان الإنسان بتسخيرها يتمتع في هذه الحياة المتعة كلها من غير تعب ولا ملل ولا هَمٍْ ولا حزن ولا ضعف ولا مرض حتى إذا مات كان الحساب وكان العقاب إذن لكانت نعمة الله على الإنسان بالدين الذي يَقِيه عذاب الآخرة ويؤتيه نعيمها اكبر من نعمته عليه بالعلم بقدر ما بين الآخرة وبين الدنيا من فرق وفضل في المدة وطولها ، أي بقدر ما بين الباقي وبين الفاني وبين غير المتناهي والمتناهي من فرق وفضل فكيف وهذه العلوم لا تسخر للإنسان إلا جزءًا ضئيلاً مما حوله ، وقد يشقى بما يسخر له منها وقد يسعد ؛ وهو في أحزانه وهمومه ومكارهه وأمراضه ومصائبه ، لا يجد سلوى ولا مخرجًا ولا عزاء إلا بالدين ، وبطاعة الله في الدين . وكيف وهو لن يلقى النعيم الصرف الذي لا يخالطه عذاب ، والسعادة المحضة التي لا يشوبها شقاء ، إلا بعد هذه الحياة في حياة أخرى لا نهاية لها ولا أجل إذا كان قد أطاع الله وعمل في دنياه بالدين . على أن هناك معنى في الدين الإسلامي أكرم الله به الإنسان كرامة لا يقوم بها شكر ولا ينقضي منه عجب المتفكر ، إلا وهو تفضل الله جل جلاله بمخاطبة الإنسان من كتاب من عنده سبحانه على لسان رسول من البشر تقوم الأدلة على صدقه . إن مجرد مخاطبة الخالق للمخلوق كرامة دونها كل كرامة يكبرها ويجلها الإنسان في الدنيا ، فكيف والخطاب في كتاب عظيم كريم مبين . الحق سبحانه هو المتكلم فيه ، فليس لبشر فيه جملة أو كلمة أو حرف ! كتاب من عند فاطر الفطرة ، وصفه جل وعلا بصفة الفطرة بقوله : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 41 ، 42 ] . أليس من أكبر كرامة أن يذكر الله الإنسان ولا ينساه ، وأنه يوجه إليه الخطاب في كتاب يهديه به سبحانه سبل السلام وسبل الهدى والنور ؟ أليس من أكبر النعمة حين علم الخالق سبحانه ضعف الإنسان وجهله وما يتهدده من جرائها من أخطار أن ينزل عليه نظامًا لحياته هو وفق الفطرة التي لم يكن الإنسان ليحيط بها ولا بسنن الله فيها ؟ * * * إن العلم شيء وتطبيقه من غير خطأ أو خلل شيء آخر . فلو أن الإنسان أحاط بالفطرة علمه لما استطاع أن يطبقها على حياته تطبيقًا محكمًا لا خلل فيه ولا عوج فيه . بل إن صعوبة التطبيق وإصابة الحكمة فيه لتزداد بازدياد ما يراد تطبيقه وتفرعه . فالإنسانية بقواها العقلية المحدودة أعجز من أن تحيط بالفطرة علما ، ولو علمت لكانت أعجز من أن تطبق علم الفطرة وتنتزع منه نظامه عمليًا لحياة الإنسانية في عصر واحد بله جميع العصور . فإن الخالق البارئ الحكيم قد جمع للإنسانية بين علم الفطرة وبين إحكام تطبيقه على الحياة حين أكرمها بالإسلام الذي أنزله على محمد نبي الهجرة صلوات الله عليه . فاعجب إذن للإنسانية كيف تتخبط وبين يديها الهدى ، وكيف نشقى وفي متناولها السعادة ، وكيف تموت وعلى مقربة منها الحياة ؟! ثم اعجب عجبًا بعد عجب من قوم يزعمون من بين الإنسانية أنهم مسلمون إلى الله مؤمنون بالكتاب الذي أنزل والرسول الذي أرسل ، ثم هم يعطلونه ولا يقيمونه ويضيعونه ولا يحفظونه ، بل هم يلتمسون الهدى في غيره ، ويتطلبون الحياة ممن ضل عن روحه ونوره ، ويولون قلوبهم ووجوههم لا شطر المدنية الإسلامية التي أقامها الرسول بتطبيق كتاب الله فكانت مثلا عمليا أعلى للإنسانية كلها ، ولكن شطر المدنية الغربية التي ضلت عن ربها وعبدت المال والقوة والجاه فأدها إلى التهلكة التي ترى والتي تحاول التخلص منها فلا تستطيع . فريق من الإنسانية بيدهم النور فلا يستنيرون به ! وفريق في الظلمات يظنون أنفسهم في نور ! أيهما يا ترى أظلم ؟ ولأيهما يا ترى تكون النجاة ؟
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |